القسم الأول: مقالات الغربيين والإسلاميين في الفلسفة الإسلامية
1 - مقالات المؤلفين الغربيين
2 - مقالات المؤلفين الإسلاميين
3 - تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين
4 - الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين
القسم الثاني: منهجنا في درس تاريخ الفلسفة الإسلامية
1 - بداية التفكير الفلسفي الإسلامي
2 - النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه
3 - الرأي وأطواره
ضميمة في علم الكلام وتاريخه
علم الكلام وتاريخه
القسم الأول: مقالات الغربيين والإسلاميين في الفلسفة الإسلامية
1 - مقالات المؤلفين الغربيين
2 - مقالات المؤلفين الإسلاميين
3 - تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين
4 - الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين
القسم الثاني: منهجنا في درس تاريخ الفلسفة الإسلامية
1 - بداية التفكير الفلسفي الإسلامي
2 - النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه
3 - الرأي وأطواره
ضميمة في علم الكلام وتاريخه
علم الكلام وتاريخه
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
تأليف
مصطفى عبد الرازق
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين، ومناهجهم في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.
والباحثون من الغربيين كأنما يقصدون إلى استخلاص عناصر أجنبية في هذه الفلسفة؛ ليردوها إلى مصدر غير عربي ولا إسلامي، وليكشفوا عن أثرها في توجيه الفكر الإسلامي.
أما الباحثون الإسلاميون فكأنما يزنون الفلسفة بميزان الدين.
ويتلو هذا البيان شرح لمنهج في درس تاريخ الفلسفة الإسلامية مغاير لهذه المناهج؛ فهو يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى وتتبع مدارجه في ثنايا العصور وأسرار تطوره.
ويلي بيان هذا المنهج، تطبيق له وتوضيح بما هو أشبه بالنموذج والمثال.
ثم لهذا التمهيد ضميمة في علم الكلام وتاريخه، ليست مقطوعة الصلة به؛ إذ هي لا تعدو أن تكون نموذجا أيضا من نماذج المنهج الجديد.
هذا، وقد كنت أيام اشتغالي بتدريس الفلسفة الإسلامية وتاريخها في الجامعة المصرية، معنيا بدرس هذه الموضوعات واستكمال بحثها، ودونت فيها صحفا، طويتها على غرها منذ تركت الجامعة في صدر سنة 1939 وصرفتني الشواغل عنها.
واليوم، أعود إلى هذه الصحف؛ لأنشرها كما هي بصورتها يوم كتبت من غير تنقيح ولا تعديل، وفي صياغتها التعليمية، التي تراعي حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة، وحسن التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة، وإن لم يخف ذلك على ذوق المطالعين جميعا.
وأرجو أن يكون في هذه الصفحات عون لباحث، أو فائدة لقارئ.
شوال 1363 / أكتوبر 1944
مصطفى عبد الرازق
القسم الأول
مقالات الغربيين والإسلاميين في الفلسفة
الإسلامية
الفصل الأول
مقالات المؤلفين الغربيين
لا بد للباحث في الفلسفة الإسلامية وتاريخها من الإلمام بمقالات من سبقوه في هذا الشأن، ليكون على بصيرة فيما يتخيره من وجهة النظر، وفيما يتحرى اجتنابه من أسباب الزلل.
والسابقون إلى النظر في الفلسفة الإسلامية فريقان: (أ)
فريق الغربيين من مستشرقين ومشتغلين بتاريخ الفلسفة. (ب)
فريق المؤلفين الإسلاميين.
وسنتناولهما على هذا الترتيب.
ليس من همنا أن نتقصى ما قاله علماء الغرب في الفلسفة الإسلامية منذ العصور البعيدة، فإن ذلك على ما فيه من عسر قليل الغناء.
لكنا نريد أن نتتبع جملة نظر الغربيين إلى الفلسفة الإسلامية وحكمهم عليها منذ استقرت معالم النهضة الحديثة لتاريخ الفلسفة إلى أيامنا هذه؛ أي منذ صدر القرن التاسع عشر، كما يؤيد ذلك قول الأستاذ برهيه:
1 «ولئن كان مفكرو القرن الثامن عشر قد حاولوا أن يدخلوا في تاريخ الفلسفة وحدة واطرادا، فإن كل الشطر الأول من القرن التاسع عشر قد شهد مجهودا في تشييد هذا الذي لم يكن إلا تخطيطا.»
2
ولنا أن نعتبر ما يقوله «تنمان».
3
في كتابه «المختصر في تاريخ الفلسفة»،
4
معبرا عن رأي مؤرخي الفلسفة في الفلسفة الإسلامية في بداية القرن التاسع عشر، ذلك بأن «بروكر».
5
الألماني المتوفى سنة 1770م هو أبو تاريخ الفلسفة، وتنمان هو الخليفة الحق لبروكر كما يقول كوزان.
6
ثم نتتبع بعد ذلك نماذج من تطور هذا الرأي حتى نصل إلى عهدنا الحاضر. (1) قول تنمان
يقول تنمان بعنوان «عرب»: «العرب شعب مجبول على استعدادات قوية وثابة، ولقد كان أولا صابئيا، ثم استمد حماسة دينية وحربية من دين محمد المتوفى سنة 632م، وهو دين شهواني وعقلي معا، ومن آثار خلفائه وتفاسيرهم لما يزعمونه وحيا أوحاه الله إلى هذا النبي. وفي قليل من الزمن تغلب العرب على قسم عظيم من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأخضعوه للإسلام، وكان اختلاطهم بالأمم المغلوبة، خصوصا السوريين واليهود واليونان، وتقدمهم في ألوان الترف وكل ما يستتبعه الترف، وحاجتهم إلى الاستعانة بصناعة الأجانب من الأطباء ومن المنجمين، وتأثير هؤلاء فيهم، كل أولئك ولد فيهم شهوة متأججة إلى تحصيل المعارف، وقد عاون هذه النزعات خلفاء العباسيين؛ المنصور الذي ولي الخلافة من سنة 753م إلى سنة 775م، والمهدي الذي توفي سنة 784م، وهارون الرشيد المعاصر لشرلمان، وكان خليفة ما بين سنتي 786، 808م، والمأمون الخليفة من سنة 813 إلى سنة 833م، والمعتصم المتوفى سنة 841م. هؤلاء الخلفاء أمروا بنقل كتب اليونانيين إلى العربية وأنشئوا المدارس ودور الكتب الحافلة.»
7
ثم يقول في الفصل نفسه: «يكاد يكون أرسطو مع شراحه إلى فيلوبنوس،
8
من بين سائر الفلاسفة، هو الذي استرعى أنظار العرب، وقد تلقوا جملة ما ألفه أرسطو، ولكنهم تلقوها على الحقيقة عن تراجم ناقصة جدا بوساطة خادعة هي وساطة المذهب الأفلاطوني الجديد، وأضافوا إلى هذا دراسة العلوم الرياضية والتاريخ الطبيعي والطب، لكن عدة عقبات ثبطت تقدمهم في الفلسفة، وهذه العقبات هي: (1)
كتابهم المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر. (2)
حزب أهل السنة، وهو حزب مستمسك بالنصوص. (3)
أنهم لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطانا مستبدا على عقولهم، ذلك إلى ما يقوم دون حسن تفهمهم لمذهبه من الصعوبات. (4)
ما في طبيعتهم القومية من ميل إلى التأثر بالأوهام.
من أجل ذلك لم يستطيعوا أن يصنعوا أكثر من شرحهم لمذهب أرسطو، وتطبيقه على قواعد دينهم الذي يتطلب إيمانا أعمى، وكثيرا ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوهوه؛ وبذلك نشأت بينهم فلسفة تشبه فلسفة الأمم المسيحية في القرون الوسطى، تعنى بالبراهين الجدلية المتعسفة وتقوم على أساس من النصوص الدينية.
ثم جاء التصوف
9
فعرض لهذا العلم المؤلف من اصطلاحات خاوية، وانضم إليه، خصوصا عند فرقة القائلين بوحدة الوجود من أهل التصوف الذي وضعه قبل القرن الثاني أو في ثناياه أبو سعيد أبو الخير
10
ولا تزال الفرقة منتشرة في فارس والهند.
على أن الآثار الفلسفية العربية لما تدرس إلا دراسة ضئيلة جدا لا تجعل علمنا بها مستكملا.»
11
ثم قال المؤلف نفسه في فصل عنوانه: «فرق الفلاسفة عند العرب»: «كان يوجد غالبا عند العرب طائفتان من الفلاسفة عظيمتان:
إحداهما:
طائفة الفلاسفة على الحقيقة، وهم من القائلين بالوجود المثالي،
12
يعتقدون تبعا للمذهب الأفلاطوني الإسكندري أن العالم قديم، ويبحثون عن سبيل لوضع هذه الفكرة بالدين المنصوص، ويدخل في هذا القسم الزهاد الذين هم الصوفية.
والثانية:
طائفة فلاسفة جدليين أهل نظر عقلي، هم المتكلمون أو المشاءون الذين تقوم عقائدهم على الأصول الدينية الواردة في القرآن، ثم يحاولون أن يبينوا مبدأ العالم على وجه فلسفي، وهم يقاومون الأولين، وعلمنا بأمر الفريقين لا يزال علما ناقصا.
ثم يعدون طائفة ثالثة: هي طائفة الأشعرية المؤلفة من جبريين لا يرون للأشياء عللا إلا إرادة الله.»
13
والذي يعنينا أن نلاحظه هو: (أ)
أن تنمان ينسب الفلسفة التي نحن بصددها إلى الشعب العربي. (ب)
ويعتبر هذه الفلسفة شاملة لما يسمى فلسفة على الحقيقة مع ما اتصل به عرضا في بعض الأطوار من منازع الإشراقيين
14
وشاملة لمذاهب المتكلمين. (ج)
ثم هو يجعل هذه الفلسفة ليست في الغالب إلا شرحا مضعفا لمذهب أرسطو ومفسريه، وإلا تطبيقا لهذا المذهب على قواعد الدين العربي. (د)
ويعدد العقبات التي عاقت سير الفلسفة عند العرب فيردها إلى دينية: وهي القرآن، وحزب أهل السنة؛ وقومية: وهي استعداد العرب للتأثر بالأوهام، وخضوع عقولهم لسلطان أرسطو. (ه)
ثم ينتهي إلى الاعتراف المكرر بأن مصنفات الفلاسفة من العرب لم تدرس حق دراستها. (2) روح العصر الدينية عند مؤلفي القرن التاسع عشر
وقد لا يخلو حديث تنمان عن العوامل المثبطة لرقي الفلسفة عند العرب من نفحة العاطفة الدينية، وتلك كانت يومئذ روح العصر، حتى عند الفلاسفة المشتغلين بتاريخ الفلسفة من أمثال «فكتور كوزان» الفيلسوف الفرنسي المتوفى سنة 1847م، الذي يقول في محاضراته في تاريخ الفلسفة بجامعة باريس:
15
قول كوزان
أيها السادة: «المسيحية التي هي آخر ما ظهر على الأرض من الأديان، هي أيضا أكملها، والمسيحية تمام كل دين سابق، وغاية الثمرات التي تمخضت عنها الحركات الدينية في العالم، وبها ختم الدين المسيحي ناسخ لجميع الأديان ... كذلك كان الدين المسيحي إنسانيا واجتماعيا إلى أقصى الغايات، ومن أراد دليلا فلينظر ماذا أخرجت المسيحية وجماعة المسيحيين للناس؛ أخرجت الحرية الحديثة والحكومات النيابية، ثم لينظر من دون المسيحية ماذا أخرجت منذ عشرين قرنا سائر الأديان.
ماذا أنتج الدين البرهمي والدين الإسلامي، وسائر الأديان التي لا تزال قائمة فوق ظهر الأرض؟
أنتج بعضها انحلالا موغلا، وبعضها أثمر استبدادا ليس له مدى.
أما أوروبا المسيحية فهي لا سواها مهد الحرية، ولو أن المقام والوقت يسعدان، لأثبت لكم أن المسيحية التي كانت الحكومات النيابية ثمرة لها هي التي تستطيع وحدها أن تقوم هذه الصورة العجيبة من صور الحكم التي تؤلف بين النظام والحرية، والمسيحية أيضا هي التي بعد أن صانت ذخائر الفنون والآداب والعلوم بعثتها بعثا قويا، المسيحية هي أصل الفلسفة الحديثة.» (3) روح العصر من ناحية التعصب للجنس
أما التعصب الجنسي على العرب الذي تبدو له بوادر في كلام تنمان فقد كان أيضا في روح العصر، ولم يلبث «إرنست رنان».
16
الفيلسوف الفرنسي المتوفى سنة 1892م أن زخرف له لباسا علميا من أبحاثه في تاريخ اللغات السامية، ثم جعله حملة شعواء تصوب كتبه سهامها إلى الجنس السامي كله، وشاركه في حملته المستشرق الألماني «كرستيان لاسن».
17
المتوفى سنة 1876م. (3-1) ساميون وآريون
وتقسيم الناس إلى ساميين وآرييين هو من صنع علماء تاريخ اللغات في القرن التاسع عشر.
والسامي نسبة إلى سام، على ما جاء في التوراة من أنه كان لنوح أبناء ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو الإسرائيليين وإخوانهم، وحام أبو الزنوج، ويافث أبو بقية البشر.
أما الآري فمنسوب إلى آريا، وآريا اسم شعب كان مهده النجد الفارسي من بلاد الأفغان وما إليها، ثم انحدر فيما حوالي 2000 عام قبل المسيح إلى الشمال الغربي من الهند، ومعه دين جديد من أديان الشرك هو دين الفيديين، له كتاب مقدس هو مجموع مزامير موجهة إلى الآلهة تسمى: فيدا، وهو اليوم دين البراهمة ودين الهندوسيين لم يدخله إلا تغير يسير.
وقد كان لمزامير هذا الدين المقدسة وما ألهمته من فلسفة أثر كبير في حياة آسيا العقلية، ووصل صدى ذلك إلى أوروبا منذ القدم.
لذلك لم يكد يستقر الاستعمار الأوروبي في بعض أنحاء الهند حتى أقبل علماء أوروبا على دراسة الفيدا، وقد راعهم ما لاحظوا من التشابه بين اللغة السنسكريتية التي هي لغة الفيدا وبين اللغات الأوروبية.
وهكذا نشأ علم مقارنة اللغات،
18
فصنفت اللغات أصنافا، وردت كل مجموعة منها إلى أصل واحد، ثم جعل العلماء هذه الأنساب اللغوية أنسابا للأمم التي تتكلم بها.
ونبتت في القرن التاسع عشر نظرية شعب آرى هو أصل للأمم الأوروبية ولبعض الأمم الآسيوية، ممن ترجع لغاتهم إلى أصل واحد هو اللغة السنسكريتية أو غيرها. (3-2) رأي رنان في الساميين والآريين من الناحية الفلسفية
ويصرح رنان في كتاب «تاريخ اللغات السامية»
19
بأنه أول من قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري، وتأثر برنان بعض معاصريه، ومن جاء بعده؛ لوثوقهم بمعرفته في هذا الشأن؛ إذ هو قد عرف لغات سامية، وزار الساميين في بلادهم.
ومما ورد في كتاب رنان: «ابن رشد ومذهبه»: «ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسا فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتهم لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلا اقتباسا صرفا جديبا وتقليدا للفلسفة اليونانية.»
20
وبذلك أدخل رنان في المباحث المتعلقة بتاريخ الفلسفة عند العرب دعوى الطبيعة السامية وجعلها أساسا للحكم على تلك الفلسفة.
وعنده كما ورد مفصلا في كتاب «تاريخ اللغات السامية» أن خواص النفس السامية تتجلى في انسياق فطرتها إلى التوحيد من جهة الدين، وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية.
أما النفس الآرية فيميزها ميل فطري إلى التعدد وانسجام التأليف (ص165). (3-3) نقد رأى رنان
ورأي رنان في الفلسفة عند العرب لا يخلو من اضطراب؛ فهو يقول في مؤلفه «تاريخ اللغات السامية»:
21 «ومن الخطأ وسوء الدلالة بالألفاظ على المعاني أن نطلق على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية لفظ «فلسفة عربية»، مع أنه لم يظهر لهذه الفلسفة في شبه جزيرة العرب مبادئ ولا مقدمات، فكل ما في الأمر أنها مكتوبة بلغة عربية، ثم هي لم تزدهر إلا في النواحي النائية عن بلاد العرب مثل إسبانيا ومراكش وسمرقند، وكان معظم أهلها من غير الساميين.»
وهو يقول في كتابه «ابن رشد ومذهبه» مرة، هذا القول: «لا يزال حكمي بأن مباحث العقائد الدينية لم يكن لها كبير شأن في نشأة هذه الفلسفة العربية حكما جازما، وما صنع العرب شيئا إلا أنهم تلقوا جملة المعارف اليونانية في صورتها التي كان العالم كله مسلما بها في القرنين السابع والثامن.»
22
ثم نجده يقول مرة أخرى: «اتخذ العرب من تفسير آراء أرسطو وسيلة لإنشاء فلسفة ملأى بالعناصر الخاصة، المخالفة جد المخالفة لما كان يدرس عند اليونان، وكذلك فعل فلاسفة القرون الوسطى.»
23
ويقول غير ذلك: «إن الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام ينبغي أن تلتمس في مذاهب المتكلمين.»
24
ويستخلص من أقوال رنان المختلفة بعد تجريدها من زينة البلاغة، وخيال الشعر، وثبات الحماسة، والهوى، والتناقض أن هناك فلسفة عربية هي تعريب الفلسفة اليونانية، وهناك فلسفة إسلامية هي علم الكلام. ويصرح رنان في كتبه بأن في هذه الفلسفة الإسلامية موضعا للطرافة.
ولعل رنان أول من استعمل في الغرب كلمة «الفلسفة الإسلامية». ثم إن رنان لا يرى رأي من سبقه في أن العرب آثروا أرسطو على من عداه من فلاسفة اليونان وخصوه بالتقدير؛ فهو يذكر في كتاب «ابن رشد ومذهبه»: «إن الأسباب التي يعللون بها في العادة إيثار العرب لأرسطو هي أقرب إلى التمويه منها إلى الحق، فإن العرب لم يؤثروا، إذا لم يكن ثمت اختيار عن روية، إنما تقبل العرب معارف يونان كما وصلت إليهم.»
25
وجملة القول: أن رنان الذي هو خصيم الجنس السامي والدين الإسلامي جميعا، كان فيما يتعلق بالفلسفة شديد الشكيمة على ما سماه «فلسفة عربية»، لكنه ألين جانبا لما دعاه «فلسفة إسلامية». (3-4) نقد معاصري رنان لحكمه
على أنا نجد من معاصري رنان الفرنسيين من يرميه بالحيف في حكمه على الفلسفة عند العرب.
ففي كتاب دوجا
26 «تاريخ الفلاسفة المتكلمين من المسلمين» المطبوع بباريس سنة 1889م نجد رواية ما يورده شمويلدرز
27
الألماني في رسالة له في المذاهب الفلسفية عند العرب نشرت عام 1842 من نحو قوله: «لا نستطيع أن نذكر قط فلسفة عربية على الوجه الدقيق لما يفهم من هذه العبارة كما نذكر فلسفة يونانية وفلسفة ألمانية ... إلخ، ومهما ذكرنا هذه العبارة، فإنا لا نريد شيئا غير الفلسفة اليونانية كما فهمها العرب.»
28
ثم نجد رواية ما قاله رنان في مثل هذا المعنى،
29
ثم يعقب المؤلف على ذلك بقوله: «فعند هذين العالمين ليست الفلسفة العربية إلا تقليدا للفلسفة اليونانية، ولم يكن لها أي نتاج خاص.
وهذه أحكام تذهب في البت إلى حد الشطط، ومصدرها سوء التحديد للفلسفة وجهلنا بما للعرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو.
وما أسوق إلا شاهدا واحدا:
فهل يظن ظان أن عقلا كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئا طريفا، وأنه لم يكن إلا مقلدا لليونان؟
وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثمارا بديعة أنتجها الجنس العربي؟
وعندي أن طريقة العالم «منك»
30
في التعريف بهذه الفلسفة أدنى إلى السداد.»
31
وقول منك، على ما ذكره دوجا، هو: «يمكننا أن نقول في الجملة إن الفلسفة لدى العرب لم تتقيد بمذهب المشائين صرفا، بل هي توشك أن تكون تقلبت في كل الأطوار التي مر بها العالم المسيحي؛ ففيها مذهب أهل السنة الواقفين عند النصوص، ومذهب الشك، ومذهب التولد، بل فيها مذاهب شبيهة بمقال اسبينوزا
32
ومذهب وحدة الوجود الحديث.»
33
وبعدما بين دوجا اختلاف الأقاويل في الفلسفة والغرض منها اختار أن غرض الفلسفة هو تكوين عقائد جديدة، ثم قال: «من أراد أن يحكم في خصائص الفلسفة العربية حكما سديدا فعليه أن ينظر إليها من ناحية إصلاحها للعقائد، وتلك كما بينا آنفا حقيقة الغرض الذي ترمي إليه الفلسفة.
وعندي أن النظر العقلي العربي كان على الحقيقة محاولة لإصلاح القرآن، وتكميل الإسلام؛ حاول ذلك المعتزلة قادة الحركة الفلسفية لدى المسلمين ... وقد أنكروا عقيدة أن القرآن غير مخلوق؛ لكي لا يمسوا وحدانية الله ، وقرروا: عقيدة أن القرآن مخلوق ... وهم يقولون إنه كان من المستطاع أن يؤتى بخير
34
منه، وهذا التعرض لكتاب المسلمين المقدس بالبحث يكاد يكون من نوع ما فعل فلاسفة الأوروبيين في تمحيص التوراة والإنجيل كما تمحص سائر الكتب.
وكذلك صنع داود اشتروس
35
ورنان في مؤلفاتهما.»
36
ومنك إذ يقول: «إن الفلسفة العربية تقلبت في جميع الأدوار التي مرت بها الفلسفة المسيحية» يخالف قول تنمان: «إن كتاب الإسلام المقدس يعوق النظر العقلي الحر»، ويثبت أن الإسلام ليس دون المسيحية اتساعا لنمو الفلسفة وتطورها، وهو أيضا بقوله هذا لا يؤيد دعوى انحطاط الجنس السامي عن الجنس الآري فيما يتعلق بالبحث الفلسفي.
ولمنك رأي مخالف لرأي رنان في اختيار المسلمين لأرسطو يبينه كما يلي: «اختير أرسطو من بين الفلاسفة؛ لأن منهجه التجريبي أدنى إلى موافقة ميل العرب العلمي الوضعي من منهج أفلاطون المثالي، ولأن منطق أرسطو كان يعتبر سلاحا مجديا في المنازعات المستمرة بين أهل المذاهب الكلامية.»
37
ومقال منك هذا يناقض رأي رنان في سبب إيثار العرب لأرسطو، ويناقضه أيضا في دعوى الطبيعة السامية المجدبة في الفلسفة، فإن الطبيعة العلمية الوضعية التي تلائم طبيعة أرسطو لا تكون جدبة من الناحية الفلسفية إلا إذا كانت طبيعية أرسطو المعلم الأول جدبة من الناحية الفلسفية. (4) تلخيص اختلاف الرأي ما بين بداية القرن التاسع عشر ونهايته
كان الرأي العلمي عند الغربيين في الفلسفة العربية مستهل القرن التاسع عشر مبنيا في جملته على القضايا الخمس التي استخلصناها من مقال تنمان، والتي كانت يومئذ تكاد تكون من المسلمات فيما يظهر. وفي أواخر ذلك القرن اختلف النظر في تلك الأحكام، ولم تعد مسلمة ما عدا قضية واحدة لعلها لا تزال إلى اليوم غير مكذبة: وهي أن مصنفات الفلاسفة الإسلاميين لما تدرس حق دراستها؛ فلا اتفاق على التعبير بالفلسفة العربية نسبة إلى الجنس العربي، ولا على بيان ما تشتمل عليه هذه الفلسفة، ولا على أن الفلسفة العربية بأقسامها شرح مضعف مشوه لمذهب أرسطو ومفسريه، وتطبيق لهذا المذهب على نصوص الدين الإسلامي، ولا اتفاق على ما دعوه عقبات ثبطت رقي الفلسفة الإسلامية.
دخلت كل هذه النظريات في دور تمحيص علمي، وهدأت رويدا سورة العصبية والهوى. (5) آراء الغربيين في الفلسفة الإسلامية في القرن الحاضر
وجاء القرن الحاضر، فماذا كان شأن الفلسفة الإسلامية عند الغربيين في القرن الحاضر؟ (5-1) الخلاف في التسمية: إسلامية أو عربية؟
لا يزالون مختلفين في الوصف الذي يصفون به هذه الفلسفة؛ فمنهم من يقول: «فلسفة عربية»؛ لأن رجالها كانوا يكتبون آثارهم بالعربية، كما فعل موريس دي ولف
38
الأستاذ بجامعة لوفان في كتابه «تاريخ فلسفة القرون الوسطى»
39
الذي نعتمد على طبعته الخامسة سنة 1925، وكما فعل الأستاذ برهيه الأستاذ بالسربون في كتابه الكبير في «تاريخ الفلسفة» الذي ظهر أول أجزائه عام 1926.
ويقتفي الأستاذ لطفي باشا السيد أثر هؤلاء في تصديره لتعريب كتاب أرسطو «الأخلاق إلى نيقوماخوس»؛ فهو يعبر بالفلسفة العربية.
ومنهم من يقول: «فلسفة إسلامية»، مثل هورتن
40
الألماني العالم بالإسلاميات ومحرر الفصل الذي عنوانه «فلسفة» في دائرة المعارف الإسلامية، ومثل دي بور
41
في كتابه في تاريخ الفلسفة الإسلامية، ومثل جوتييه،
42
والبارون كارا دي فو،
43
وغيرهم.
ويظهر أن هؤلاء يرون أن هذه الفلسفة ليست عربية؛ لأن جمهرة أهلها لم يكونوا من أصل سامي، ويرون أنها أحق أن تضاف إلى الإسلام لأن له فيها أثرا ظاهرا، ولأنها نشأت في بلاد إسلامية وعاشت تحت راية الإسلام.
وقد رأيت للدكتور جميل صليبا الدكتور في الفلسفة من جامعة باريس، كتابا عنوانه: «بحث في الفلسفة الإلهية لابن سينا»،
44
طبع بالفرنسية في باريس سنة 1926، ناضل فيه نضالا قويا عن الفلسفة العربية، وهذا الكتاب هو رسالته التي نال بها الدكتوراه من السربون.
ومن أمثلة نضاله فيما نحن بصدده قوله: «إن الذين يجحدون وجود فلسفة عربية يثبتون وجود فلسفة إسلامية، بيد أن الإسلام، برغم كل ما نفذ إليه من العناصر الأجنبية، ظل أثرا من آثار العبقرية العربية.
أما أن أكثر الفلاسفة من أصل غير عربي؛ فلا نكران له، لكن الذي لا نجد له مستساغا هو القول بأن الفلسفة التي يسميها العامة فلسفة إسلامية ليست تستند إلى الجنس العربي، نحن نتكلم عن فلسفة عربية كما نتكلم عن دين عربي.»
45
وقد يصدق هذا القول على رنان الذي جعل فلسفة عربية وفلسفة إسلامية.
أما أهل هذا العصر الذين يعبرون بالفلسفة العربية مرة وبالفلسفة الإسلامية أخرى لمعنى واحد، فما أحسبهم يرمون بذلك إلى الغرض الذي ينكره المؤلف.
ومثلهم كمثل الجامعة المصرية نفسها، التي كانت إلى عهد قريب تستعمل في قوانينها ومناهجها ومكاتباتها العبارتين على أنهما مترادفتان.
وللأستاذ كارلو نلينو
46
رأي يمس هذا الموضوع، بسطه في محاضراته في «علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى» بما نصه: «قد قلت في الدرس الماضي: إن محاضراتي ستدور على تاريخ علم الهيئة عند العرب في القرون الوسطى؛ أي لغاية سنة تسعمائة للهجرة النبوية تقريبا، فينبغي الآن تعريف من يطلق عليه لفظ «العرب»، كلما يكون الكلام عن زمان الجاهلية أو أوائل الإسلام. لا شك أن كلمة «العرب» مستعملة بمعناها الحقيقي الطبيعي، المشير إلى الأمة القاطنة في شبه الجزيرة المعروفة بجزيرة العرب، ولكن إذا كان الكلام عن العصور التالية للقرن الأول من الهجرة، اتخذنا ذلك اللفظ بمعنى اصطلاحي وأطلقناه على جميع الأمم والشعوب الساكنين في الممالك الإسلامية، المستخدمين اللغة العربية في أكثر تآليفهم العلمية، فتدخل في تسمية (العرب) الفرس والهند والترك والسوريون والمصريون والبربر والأندلسيون وهلم جرا، المتشاركون في لغة كتب العلم وفي كونهم تبعة الدول الإسلامية، ولو لم نطلق عليهم لفظ «العرب» كدنا ما نقدر نتحدث عن علم الهيئة عند «العرب» لقلة البارعين فيه من أولاد قحطان وعدنان.»
قال ابن خلدون المتوفى سنة 808ه/1406م في مقدمته: «من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة العربية وصاحب شريعتها عربي.»
فإن اعترض أحد على هذا الاصطلاح، وقال: إن استعمال لفظ «المسلمين» أصح وأصلح من استعمال لفظ «العرب»، قلت: إن هذا أيضا غير مصيب لسببين:
الأول :
أن لفظ المسلمين يخرج النصارى والإسرائيليين والصابئة وأصحاب ديانات أخرى، الذين لهم نصيب غير يسير في العلوم والتصانيف العربية، وخصوصا فيما يتعلق بالرياضيات والهيئة والطب والفلسفة.
والثاني:
أن لفظ المسلمين يستلزم البحث أيضا عما صنفته أهل الإسلام بلغات غير العربية كالفارسية والتركية، وهذا خارج عن موضوعنا، فالأرجح أن نتفق فيما كثر استعماله عند الكتبة الحديثين ونتخذ لفظ «العرب» بالاصطلاح المذكور، أي نسبا إلى لغة الكتب لا إلى الأمة (ج1، ص16-18). (5-2) الرأي المختار في التسمية
وعندي أن هذه الفلسفة قد وضع لها أهلها اسما اصطلحوا عليه؛ فلا يصح العدول عنه، ولا تجوز المشاحة فيه.
فإنا نجد مثلا في كتابي «الشفاء» و«النجاة» لابن سينا المتوفى سنة 428ه/1037م التعبير بالمتفلسفة الإسلامية، ونجد في كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني استعمال كلمة «فلاسفة الإسلام» في مواضع متعددة، منها:
المتأخرون من فلاسفة الإسلام مثل يعقوب بن إسحاق الكندي، وحنين بن إسحاق ... إلخ.
47
فهؤلاء المشتغلون بالفلسفة في ظل الإسلام من مسلمين وغير مسلمين يسمون فلاسفة الإسلام، وتسمى فلسفتهم «فلسفة إسلامية» بالمعنى الاصطلاحي، وهذا يرفع اعتراض الأستاذ نلينو على التعبير «بالمسلمين» بدل «العرب»، ويدخل في هذه التسمية ما كتبه الإسلاميون من الفلاسفة بلغات غير العربية كالفارسية والهندية والتركية، وإن أصبح درس هذه الآثار عسيرا على غير أهل تلك اللغات أنفسهم أو من أحاط بلغاتهم وهم قليل.
ووردت عبارة «فلاسفة الإسلام» و«حكماء الإسلام» في كتاب «أخبار الحكماء» و«مقدمة ابن خلدون».
ولظهير الدين أبي الحسن البيهقي كتاب يسمى «تاريخ حكماء الإسلام»، توجد منه نسخة فوتوغرافية بدار الكتب المصرية.
48
وجاء في كتاب «نزهة الأرواح وروضة الأفراح» في تواريخ حكماء المتقدمين والمتأخرين، لشمس الحق والدين الشهرزوري (نسخة فوتوغرافية بمكتبة الجامعة): «نريد أن نضم إلى تواريخ القدماء تواريخ الحكماء المتأخرين من الإسلاميين.»
من أجل ذلك كله نرى أن نسمي الفلسفة التي نحن بصددها كما سماها أهلها «فلسفة إسلامية»، بمعنى أنها نشأت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، من غير نظر لدين أصحابها ولا لغتهم، ولا نرى في هذه التسمية موضع نقد يدعو للتفكير في تبديلها. (6) الخلاف في الحكم على الفلسفة الإسلامية في القرن الحاضر
وإذا كان بين المعاصرين من الغربيين خلاف في التعبير عن هذه الفلسفة يقسمهم قسمين؛ فإنهم فريقان أيضا في الحكم على هذه الفلسفة: ففريق يمكن أن يعتبر من نماذجه المستشرق جفوتييه، الذي كان أستاذا لتاريخ الفلسفة الإسلامية في الجزائر، وهو الفريق الأقل عددا، يقرر الحدود الفاصلة بين العقل السامي والعقل الآري حتى لا تتلاقى منازعها، ثم يبين أن الإسلام دين قوي في ساميته جدا، فلا يمكن تصور نظام أشد منه معارضة للفلسفة اليونانية القوية في آريتها جدا، وأنه كان أول واجب على الفلاسفة المسلمين أن يوقفوا بين هذين التيارين بحكم أنهم مسلمون متمسكون بدينهم، وبحكم أنهم فلاسفة همهم أن ينشروا مذاهب الفلسفة اليونانية.
ويقول جوتييه: «إن الفلاسفة الإسلاميين لم يألوا جهدا في القيام بواجبهم من هذه الناحية، وقد أبدوا في ممارسته على ما فيه من دقة وعناء خصالا منقطعة النظير؛ من مهارة ونفاذ وبعد نظر، ورأيهم فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال هو معقد الطرافة في هذه الفلسفة اليونانية الإسلامية.»
49
ويبين الأستاذ بعد ذلك أن الفلسفة اليونانية هي التي ساقت فلاسفة الإسلام إلى هذا الاتجاه، وهي كانت مستمد عناصره، ذلك بأن فكرة التوفيق بين الفلسفة والدين هي فكرة مزج واتصال، وليس غير التفكير الآري لمحاولة الاتصال بوسائط متدرجة في سلسلة متتابعة بين ضدين هما: الإسلام دين الفصل، وفلسفة الوصل اليونانية.
ولقد ذكرنا آنفا مذهب رنان في خصائص الجنسين السامي والآري.
واختلفت المذاهب بعد رنان في تبيين هذه الخصائص؛ يقول مؤلف معاصر اسمه لابي
50
في كتاب له عنوان «المدنيات التونسية»: «النفس اليهودية منساقة بفطرتها إلى المستقبل، والنفس العربية منساقة بفطرتها إلى الماضي، فهما متنافرتان، والنفس الأوروبية تختلف عنهما.»
51
ويريد جوتييه أن يميز بين الجنس السامي والجنس الآري بخصائص أخرى يبينها في كتابه «المدخل إلى دروس الفلسفة الإسلامية» كما يأتي: «في كل مظاهر النشاط الإنساني، من أدناها كمسائل الطعام واللباس إلى أعلاها كالنظم السياسية والاجتماعية، تتجلى في الجنس الآري من ناحية، والجنس السامي معتبرا في أخلص أنواعه أي النوع العربي نزعات أصلية متقابلة. العقل السامي يجمع بين الأشياء متناسبة وغير متناسبة، مع تركها منفصلة بلا رباط يصلها، متنقلا بينها بوثبات مباغتة لا تدرج فيها.
أما العقل الآري فعلى عكس ذلك، يؤلف بين الأشياء بوسائط تدريجية لا يتخطى واحدا منها إلى غيره إلا على سلم متداني الدرج لا يكاد يحس التنقل فيه.»
52
هذا وقد كادت تتلاشى في القرن العشرين فكرة إقحام السامية والآرية في الحكم على الفلسفة الإسلامية، وذلك بحكم تضاؤل نظرية السامية والآرية نفسها وضعف سنادها العلمي.
على أننا لا ننكر أنه قد بقي أنصار لهذه النظرية من أمثال الأستاذ جوتييه.
وفي دائرة المعارف البريطانية عند الكلام على كلمة «عرب»:
إنه ليس من صواب الرأي ما فعله رنان ولسن بإضافتهما صفات خاصة إلى الجنس السامي؛ هي في الواقع ناشئة عن عوامل خارجية، فهي نتيجة البيئة التي عاشوا فيها والأحوال التي اكتنفتهم، ولو أنهم عاشوا في بيئة أخرى وفي أحوال مغايرة لكانت لهم صفات جديدة.
أما الأستاذ برهيه، أستاذ تاريخ الفلسفة في السربون؛ فهو من حزب السامية والآرية، وإن لم يغرق في ذلك إغراق مواطنه جوتييه، يقول الأستاذ في كتابه في «تاريخ الفلسفة»: «كان فلاسفة العرب ممن اعتنقوا الإسلام، وكانوا يكتبون آثارهم بالعربية، لكن جمهرتهم لم تكن من أصل سامي بل من أصل آري؛ لذلك التمسوا موضوعات تفكيرهم في الكتب اليونانية، التي أخذ في ترجمتها إلى السريانية والعربية منذ القرن السادس المسيحيون النسطوريون، والتمسوها أيضا في الآثار المزدكية الباقية في فارس المختلطة أشد الاختلاط بالآراء الهندية.»
53
والأستاذ في كلامه هذا يصرح بأصل من أصول الفلسفة الإسلامية أو عنصر من عناصرها الأجنبية، لم يكن واضحا للباحثين في القرن التاسع عشر، مصرحا به تصريحا، وهو الأثر الهندي الفارسي.
أما الفريق الثاني من العلماء المعاصرين الغربيين الذين تصدوا لدرس تاريخ الفلسفة الإسلامية من غير ذكر للآرية والسامية في حكمهم على هذه الفلسفة، فمن ممثليهم الأستاذ هورتن، الذي يقول في الفصل الذي كتبه في «دائرة المعارف الإسلامية» بعنوان «فلسفة»: «يراد بهذه الكلمة النزعة اليونانية في الحكمة الإسلامية، ويجب أن يعتبر أيضا إلى جانب ذلك ما بذله المفكرون من جهود عقلية مبنية على ما كان معروفا في عصورهم من معاني البحث العلمي عن أحوال الوجود على ما هو عليه، أو على الأقل البحث عن مسائل متصلة بإدراك شامل للعالم، فهي بهذا الاعتبار ينبغي أن تعد من الفلسفة، ذلك ينطبق أولا على علم الكلام النظري الذي يرمي إلى رفع مستوى العقائد الإسلامية المحتوية على تصور للوجود بالغ من السذاجة حد الطفولة، حتى تلتئم مع مطالب العلم في ذلك الزمان.»
وبعد أن بين الأستاذ ما في مذاهب المتكلمين من آثار يونانية وفارسية وهندية، بل ومسيحية ويهودية، وبعد أن ألم بأدوار علم الكلام، عاد إلى الفلسفة يبين ما لها من شأن: «ولتقدير ما للفلسفة الإسلامية من الشأن يجب البدء ببيان ما في مذهب أرسطو من النقص، ولا نظير لأرسطو في ضبط المعاني الجزئية، لكنه لم يفلح في تقدير نسق شامل للعالم كله معتبرا في ثنايا صورة ذهنية واحدة؛ فهو لم يرد جملة العالم إلى مبدأ واحد، إنما هي اثنينية تتقابل فيها الهيولى القديمة والله.
وفي هذا المذهب الأرسططاليسي عناصر علمية نظرية ممحصة، لكن النزوع القوي إلى الاعتماد على ما في الوجود الخارجي وحده يشوبها ويعطلها، أنى جاءت الصور إذا كان الله عقلا صرفا ليس له إرادة، وهو يحيي العالم باعتباره معشوقا لا أنه العلة الفاعلة، ثم هو يجهل الجزئيات، ذلك مذهب في الألوهية ليس بفلسفي، ثم جاءت الفلسفة الإسلامية مستمدة من المذهب الأفلاطوني الجديد، فجاءت معها فكرة قوية هي فكرة الإمكان التي تحيط بجملة الموجودات وتجمعها في وحدة، فكانت هذه الفكرة نورا أضاء مسائل الموجودات الجزئية وأظهرها في أسمى مظاهرها.
كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود، وهما أمران ممتازان في جوهرهما، وليس هذان الأمران بمتلازمين تلازما ضروريا، فالذي يهب الوجود للأشياء ابتداء ويحفظه عليها في البقاء لا بد أن يكون موجودا واجب الوجود، فالعالم سيل من الوجود يفيض من معين لا ينضب، ويغمر كل ما عدا الله.
هذا الرأي يتخلل تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى عهدنا الحاضر، ولا يزال يتجدد شرحه وإبرازه في الصور الواضحة، وابن رشد وحده هو الذي لم يفهمه حق الفهم.
وناحية أخرى من نواحي الفلسفة الإسلامية آيتها إيمان أهل هذه الفلسفة بالدين، يعتقد هؤلاء الفلاسفة اعتقادا جازما بأن الإسلام هو أكمل وحي إلهي، النبي يرى في حالات إشراق وكشف خارق للعادة، الحقائق الإلهية التي لا ينفذ إليها العقل البشري (أي: الغيب) ثم يبلغها للناس، أما الفيلسوف فيكشف بعقله الضعيف بعض هذه الحقائق غير مخالف لما نزل به القرآن، فكأنما وظيفة الفلاسفة الإسلامية الدعوة إلى دين الإسلام.»
وتبيين مذهب الفلاسفة الإسلاميين في الفرق بين النبي والحكيم، أو الفلسفة والدين على هذا الوجه، لا دقة فيه، وسنعرض لهذا البحث بعد. (6-1) إجمال الآراء في الفلسفة الإسلامية في القرن العشرين
ونعود إلى تقرير موقف الفلسفة الإسلامية عند الغربيين في القرن العشرين، مستندين إلى أقوال المؤلفين المعاصرين، فنجمل هذا الموقف في الوجوه الآتية: (أ)
تلاشى القول بأن الفلسفة العربية أو الإسلامية ليست إلا صورة مشوهة من مذهب أرسطو ومفسريه أو كاد أن يتلاشى، وأصبح في حكم المسلم أن للفلسفة الإسلامية كيانا خاصا يميزها عن مذهب أرسطو ومذاهب مفسريه: فإن فيها عناصر مستمدة من مذاهب يونانية غير مذهب أرسطو، وفيها عناصر ليست يونانية من الآراء الهندية والفارسية ... إلخ، ثم إن فيها ثمرات من عبقرية أهلها ظهرت في تأليف نسق فلسفي قائم على أساس من مذهب أرسطو، مع تلافي ما في هذا المذهب من النقص باختيار آراء من مذاهب أخرى وبالتخريج والابتكار، وظهرت أيضا في أبحاثهم في الصلة بين الدين والفلسفة، ويقول ولف: «على أنه من الخطأ أن يظن أن الفلسفة العربية هي نسخة منقولة عن مذاهب المشائية.»
54
ثم يقول: «وبهذه المثابة انتهى العرب إلى نسق فلسفي فريد في بابه، يوفق بين مقالات متخالفة .»
55
ويقول أيضا: «وعلى كل حال، فليس ينبغي أن يعزب عن البال أن فلاسفة العرب نحوا في البحث عن الوجود منحى مستقلا، غير تابع لتعلقهم بالقرآن.»
56
ولعل جهود الباحثين ستكشف عن وجوه بديعة من الفلسفة الإسلامية لما تزل خافية. (ب)
تلاشى القول بأن الإسلام وكتابه المقدس كانا بطبيعتهما سجنا لحرية العقل، وعقبة في سبيل نهوض الفلسفة أو كاد يتلاشى، ووجد من يقول ما يقوله الأستاذ بيكافيه في كتابه: «تخطيط لتاريخ عام مقارن لفلسفة القرون الوسطى» المطبوع سنة 1905:
57 «إذا قارنا بين المؤلفات التي قرأها المسيحيون الغربيون والمؤلفات التي كانت في متناول العرب، عرفنا أن هؤلاء ينبغي أن يكونوا أدنى إلى الإبداع، فقد تميزوا بفضل معارفهم التي نسقوها، فكانوا في القرن الثالث عشر أساتذة أولئك، فعاونوا على تأسيس الفلسفة الكاثوليكية والكلام الكاثوليكي بما نقلوا عن القدماء وبما ولدته أفكارهم.» ويقول الأستاذ ليون جوتييه في مقال له نشر في مجلة «تاريخ الفلسفة».
58
الجزء الرابع من السنة الثانية بعنوان: «إسكولاستية إسلامية وإسكولاستية مسيحية»،
59
ما نصه: «أما في الإسلام فالفلسفة السكولاستية تنجو من هذه العبودية للكلام التي تدمغ السكولاستية المسيحية.
هي بعيدة عن أن تكون من أي وجه خاضعة للكلام، بل لا يمكن أن يقال إنها خاضعة للعقائد، هي شيء مختلف تمام الاختلاف؛ لأن العقائد وسيلة لتحقيق مصلحة الجماعة، أو كما يقال الآن «براجماتيك».
60
أما تلك الفلسفة فهي وحدها التي تعبر عن الحقيقة النظرية بذاتها، على حين أن العقيدة ليست إلا مثالا تخييليا لها.
والفلسفة التي تحترم العقائد الدينية الموجهة للجمهور لا لأهل النظر الفلسفي، لمكان نفعها للجماعة ولمصدرها الديني، ليست تقيم وزنا للكلام الذي تبين خطره على الدين وعلى الجماعة.» (ج)
أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملا، كما بينه الأستاذ هورتن، لما يسمى فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام، وقد اشتد الميل إلى اعتبار التصوف أيضا من شعب هذه الفلسفة، خصوصا في العهد الأخير الذي عني فيه المستشرقون بدراسة التصوف.
ويعد الأستاذ ماسينيون من متصوفة الإسلام الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة في كتابه المطبوع سنة 1929 المسمى «مجموع نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام».
61 (6-2) رأي فيما تشمله الفلسفة الإسلامية
وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملا لهما فإن «علم أصول الفقه» المسمى أيضا: «علم أصول الأحكام» ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام، بل إنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثا يسمونها «مبادئ كلامية» هي من مباحث علم الكلام، وأظن أن التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضم هذا العلم إلى شعبها، كما يوضحه بعض ما نعرض له فيما يأتي. (7) كلمة في جهود الغربيين
أما بعد؛ فإن الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم، وسعة اطلاعهم وحسن طريقتهم، وإذا كنا ألمعنا إلى نزوات من الضعف الإنساني تشوب أحيانا جهودهم في خدمة العلم، فإنا نرجو أن يكون في تيقظ عواطف الخير في البشر وانسياقها إلى دعوة السلم العام والنزاهة الخالصة والإنصاف والتسامح، مدعاة للتعاون بين الناس جميعا على خدمة العلم باعتباره نورا لا ينبغي أن يخالط صفاءه كدر.
وليس يوئسنا من ذلك أن تهب في بعض البلاد نزعات كانت ركدت ريحها، ليس من شأنها أن تخلص نفوس الناس من عوامل العصبية والهوى، مثل نظرية تفوق السلالة النوردية الشاملة لشعوب أوروبا الشمالية، التي تحيا في ألمانيا لهذا العهد، ومثل فكرة تفوق البيض على السود المنتشرة في أمريكا الشمالية، وفكرة تفوق الجنس الأبيض على الجنس الهندي التي دعت إلى تسمية المتولدين بين إنجليز وهنديين تسمية خاصة في بلاد الهند وفي بلاد أفريقيا الجنوبية، بل نحن نرجو أن يغلب العلم والحق هذه النزوات التي لا يسندها علم ولا حق، ويقوي رجاءنا أن نجد في أمريكا نفسها أصواتا تقرر باسم العلم أحيانا ما نقرره نحن الآن.
وفي مقال معرب عن مجلة «السينتفيك
62
أمريكان» نشر في مجلة «المقتطف» (يونيو سنة 1934) بعنوان: «بماذا تتفوق السلالات؟»: «وليس في الدعوى القائمة على تفوق السلالة النوردية شيء جديد، بل هي ناحية جديدة من مذهب سرى في خلال القرن التاسع عشر، مؤداه أن بعض طوائف من الناس لها حق منزل في أن تسود الطوائف الأخرى، ومن قبل ذلك أحس المؤلف الإنجليزي دانيال
63
ده فوا مؤلف رواية «روبنسن كروزو» بأنه مطالب من قبل نفسه بل ومن قبل الحق والعدل بأن يهب إلى السخرية من مثل هذا الرأي الذي يرمي إلى تبوء سلالة معينة المكانة العليا في تاريخ الإنسانية، كأن هذه المكانة خاصة بها من طريق الوضع الإلهي، ولكن العواطف الإنسانية قوية لتأصلها في الطبيعة البشرية فتطغى على صوت العقل ونوازع المنطق؛ فتبدو نظرية التفوق العنصري أو تفوق سلالة خاصة مرة بعد أخرى في خلال عصور التاريخ، مع أن العقل والعلم لا يؤيدان الأركان الواهية التي تقوم عليها.
ونحن الآن نشهد انبثاق هذه الفكرة أو هذه النزعة من جديد، بعدما كنا قد ظننا أنه قد قضي عليها في أواخر القرن التاسع عشر، ونظرية التفوق النوردي هي فرع من نظرية التفوق الآري، أي تفوق الشعوب الآرية التي كان زعيمها ذلك الأرستقراطي الفرنسي الكونت جوزيف آرثر جوبينو
64
المتوفى سنة 1882، فده جوبينو هذا ذهب إلى أن الشعوب الآرية وحدها دون غيرها هي التي خلفت كل ما له قيمة في الحضارة وحافظت عليه، وفكرة وجود سلالة آرية نشأت من تشابه اللغات الهندية الأوروبية مما حدا إلى القول بأنها جميعها ترتد إلى أصل واحد هي اللغة الآرية.
والقول بتفرع اللغات الهندية الأوروبية من اللغة الآرية قول له سند صحيح، أما ما ذهب إليه جوبينو من أن وجود لغة آرية أصلية تفرعت منها اللغات الهندية الأوروبية يقتضي كذلك وجود سلالة آرية، فقد كان وهما من الأوهام.
فلما خلقت هذه السلالة الموهومة على الطريق المتقدم أسندت إليها جميع الفضائل، وقيل إنها منبع جميع الحضارات العالمية من قديم الزمان إلى حديثه، وقيل إن النورديين هم سلالة الآريين الذين توطنوا شمال أوروبا في القدم، ومنهم الشعوب التيوتونية والأنجلو سكسونية، ومع ذلك لم يستطع أحد من العلماء أن يأتي بسند علمي واحد على أن السلالة الآرية كانت موجودة حقيقة؛ إذ ليس ثمة علاقة حتمية بين اللغة والسلالة؛ فالآرية لغة، واستعمالها للدلالة على سلالة معينة كما يستعملها الألمان اليوم ليس له مسوغ علمي واحد.
أما الشعوب النوردية؛ فلا يعلم أصلهم على وجه التحقيق، بل ليس من المؤكد أنهم ينتمون إلى سلالة صريحة النسب.»
وقد قرأنا في مجلة «الشهر» الفرنسية جملة تتعلق بكتاب ظهر حديثا اسمه «الآريون»، فيها إعراب عن منزع العلماء الفرنسيين المعاصرين في مسألة الآرية، وهذا تعريب تلك الجملة: «الآريون:
65
كتاب مسيو جورج بواسون
66
الذي ظهر غير بعيد يعرض لمسألة جعلتها الحوادث الحاضرة في مقدمة المسائل، وهي أثر الجنس في تكوين الشعوب الحديثة، وإذا كان العلم الألماني قد أوغل في الدراسات الآرية إيغالا بعيدا، فإنه انتحى نحوا يجعل صحة نتائجه موضع إنكار من علماء البلاد الأخرى، أما العلم الفرنسي فلم يعط هذه الأبحاث من عنايته إلا بقدر؛ لذلك لم يوجد إلى الآن مصنف يتناول هذا الموضوع من كل جوانبه مبينا الطبيعة الحقة للطائفة الموسومة بالآرية، وأصولها الجنسية وتطوراتها في ثنايا الأجيال، وهذا ما عالجه مسيو جورج بواسون العالم بما قبل التاريخ، المحيط بآخر ما دون العلماء الفرنسيون والأجانب.
كان الاهتمام بدرس مسألة الآرية في فرنسا متروكا إلى الآن لعلماء اللغات وحدهم، ويرى مسيو بواسون أن ذلك خطأ، وأن النهوض بهذه الأبحاث يستلزم ألا ننسى أن دعوى الآرية هي أولا من مسائل العلم الباحث عن أصول الشعوب، وفوق ذلك فإن الوصول إلى الأصول الحقيقية لتاريخ الشعوب والمدنيات يقتضي الاستعانة بما انتهى إليه المشتغلون بدرس ما قبل التاريخ، فمسيو بواسون يتخذ نمطا في البحث يعتمد على علم اللغات، وعلم أصول الشعوب، وعلم ما قبل التاريخ معا، وكتابه هو تاريخ حقيقي للتطور الأوروبي منذ نشأة الأجناس الحاضرة إلى يومنا هذا، على طريقة التقسيم المسماة بتركيب القياس.
67
وهذا التاريخ يبين كيف تكونت الأمم والشعوب في عهود التاريخ، وما هي العناصر التي كونتها، وأين نشأت منابتها، وكيف تنقلت في البلاد، وما مدنياتها المتعاقبة، وما أثرها في التطور العام للإنسانية.
ونجد فيه أن كل الأمم التي هي من الأسرة الآرية صيغت من خليط من عناصر الأجناس الأولى، وما يكون لأمة أن تعتز بأن لها من النقاء حظا أكبر من حظ غيرها، على أن هذا النقاء ليس مما يستطاع تحديده.
ثم إن المدنية الآرية هي أثر مشترك لجميع العناصر الجنسية التي شملتها هذه المدنية؛ إذ إن كل عنصر ساهم فيها بشمائله ومعارفه على نسب متعادلة.»
68
هوامش
الفصل الثاني
مقالات المؤلفين الإسلاميين
ذكرنا في الفصل السابق قول العلماء الغربيين من المستشرقين ومؤرخي الفلسفة في الفلسفة الإسلامية، وتتبعنا نظرهم إليها وحكمهم عليها منذ تأسيس تاريخ الفلسفة بالمعنى الحديث إلى أيامنا هذه.
ونريد في هذا الفصل: أن نتناول آراء المؤلفين الشرقيين من أهل البلاد الإسلامية الذين كتبوا مؤلفاتهم بالعربية غالبا.
وسنحاول أن نتبين وجهة نظرهم إلى الفلسفة الإسلامية ومقالاتهم في أصولها وحكمهم على منزلتها.
وقد يكون من العسير أن نسلك في هذا البحث نفس النسق الذي سلكناه في الفصل الأول، خصوصا فيما يتعلق بمراعاة الترتيب التاريخي في سرد الآراء وملاحظة تطورها، على أنا سنبذل جهدنا في التقريب بين مناهج البحثين. (1) الفلسفة والأمة العربية
يقول القاضي أبو القاسم (صاعد بن أحمد) المتوفى سنة 462ه/1070م في كتابه «طبقات الأمم» بعد ذكر علم العرب في جاهليتهم: «وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله - عز وجل - شيئا منه، ولا هيأ طباعهم للعناية به، ولا أعلم أحدا من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي
1
وأبا محمد
2
الحسن الهمداني.
3
وكلام صاعد نص في أن العرب لم يكن عندهم شيء من علم الفلسفة. وفي أن طبعهم خلو من التهيؤ لهذا العلم إلا شذوذا.»
لكن الشهرستاني المتوفى سنة 548ه/1155م يقول في كتابه «الملل والنحل» عند الكلام على الفلاسفة في الأمم المختلفة: «ومنهم حكماء العرب، وهم شرذمة قليلة؛ لأن أكثر حكمهم فلتات الطبع وخطرات الفكر، وربما قالوا بالنبوات.»
4
فالشهرستاني يرى أن العرب قبل الإسلام كان عندهم حكماء، هم شرذمة قليلة، وكان عندهم حكمة أكثرها فلتات الطبع وخطرات الفكر، ولا شك أن العرب في جاهليتهم كانوا يعرفون كلمة «حكمة» وكلمة حكماء.
ولم يبين صاحب كتاب «الملل والنحل» في هذا القول سبب قلة الحكماء عند العرب، ولم يرد ذلك إلى طبيعتهم على نحو ما صنع القاضي أبو القاسم صاعد، بل هو لم يرد ذلك إلى طبيعة العرب عندما ذكر آراء الناس في تقسيم أهل العالم فقال: «من الناس من قسم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة، وأعطى أهل كل إقليم حظه من اختلاف الطبائع والأنفس التي تدل عليها الألوان والألسن، ومنهم من قسمهم بحسب الأقطار الأربعة التي هي الشرق والغرب والجنوب والشمال، ووفر على كل قطر حقه من اختلاف الطبائع وتباين الشرائع، ومنهم من قسمهم بحسب الأمم، فقال: كبار الأمم أربعة: العرب، والعجم، والروم، والهند. ثم زاوج بين أمة وأمة، فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية، والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية.»
5
ولم يرد الشهرستاني ذلك إلى طبيعة العرب عند الكلام على آراء العرب في الجاهلية،
6
وسيأتي ذكر هذا النص في كلام الأستاذ أحمد أمين بك.
على أن الأستاذ أحمد أمين بك يرى رأيا آخر في كلام الشهرستاني؛ فهو يقول في كتابه «فجر الإسلام» ما نصه: «لاحظ بعض المستشرقين أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك، وقبله لاحظ هذا المعنى بعض المؤلفين الأقدمين من المسلمين، فقد جاء في «الملل والنحل» للشهرستاني عند الكلام على الحكماء: «الصنف الثاني حكماء العرب وهم شرذمة قليلة، وأكثر حكمهم فلتات الطبع وخطرات الفكر.
إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليهم الفطرة والطبع، وإن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد؛ حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفية الأشياء والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاجتهاد والجهد.»»
7
ولست أرى أن كلام الشهرستاني بسبب من عجز العقل العربي عن النظر إلى الأشياء نظرة شاملة، بل قد يكون على عكس ذلك.
فإن الذي يفهم من نصوص الشهرستاني هو أن العرب والهند يميلون إلى الأحكام الكلية والأمور العقلية والمجردات، وهم ينزعون إلى الروحانيات، بخلاف الروم والفرس الميالين إلى الأمور الجزئية، وإلى تتبع آثار الطبائع والأمزجة وما يقع عليه الحس من الأجسام والجسمانيات، ولعل قول الشهرستاني: «إن أكثر حكم العرب فلتات الطبع وخطرات الفكر»، وقوله: «والغالب عليهم الفطرة والطبع»، كل ذلك لا يخرج عما يقوله الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»: «إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام.»
8
ولا يريد الجاحظ بمقاله إلا أن يصف العرب بسرعة الذكاء وحدة الذهن وإصابة الرأي فيما يحتاج غيرهم فيه إلى أناة وطول تفكير واستعانة وبحث.
هذا ويوشك أن يكون التخالف بين مقال صاعد ومقال الشهرستاني في أمر الفلسفة عند العرب يرجع إلى عدم اتفاقهما على المراد بالفلسفة التي يتكلمان عنها، فصاعد يريد بالفلسفة النظر العقلي الموجه إلى تعرف الحقائق على أسلوب علمي، وهو يذكر ما يذكره من علوم العرب كعلم لسانها، وعلم الأخبار، ومعرفة السير والأمصار، ثم يذكر معرفتهم لمطالع النجوم ومغاربها، وأنواء الكواكب وأمطارها، فيقول: «على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم.»
9
فلم يكن عند العرب علم على طريق تعلم الحقائق والتدرب في العلوم مطلقا، لا ما يسمى بالفلسفة ولا غيره.
أما الشهرستاني فالظاهر أن الفلاسفة عنده يقابلون أهل الديانات والنحل، وهو يقول: «المستبدون بالرأي مطلقا هم المنكرون للنبوات مثل الفلاسفة والصابئة والبراهمة، وهم لا يقولون بشرائع وأحكام أمرية، بل يضعون حدودا عقلية حتى يمكنهم التعايش عليها، والمستفيدون هم القائلون بالنبوات.»
10
وقد كان عند العرب من غير الصابئة والبراهمة من يضعون لهم حدودا عقلية تكفل شيئا من النظام والعدل لمعيشتهم هم حكماؤهم وحكامهم.
وهذا التفكير العقلي وما إليه يسمى فلسفة عند الشهرستاني، ما دام غير معتمد على أساس من الدين، وإن لم يكن على المنهج العلمي.
وصاعد مع قوله بأن العرب لم يمنحهم الله شيئا من علم الفلسفة ولا هيأ طباعهم للعناية به، فإنه لم يتبين لنا ما هي تلك الطبيعة العربية التي تنبو عن الفلسفة.
أما الشهرستاني فقد ميز الطبيعة العربية تمييزا يجعلها قريبة من النظر المجرد والمباحث الكلية التي هي بالفلسفة أشبه، ثم ذكر أن حكماء العرب قليلون وأكثر حكمهم بديهة وارتجال، ولم يبين وجها لقلة حكمائهم مع توفر استعدادهم الطبيعي.
وجاء بعد ذلك عبد الرحمن بن خلدون المتوفى سنة 808ه/1406م فذهب في بيان معنى الفلسفة مذهبا غير بعيد من رأي الشهرستاني؛ فهو يقول في المقدمة: اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا وتعليما على صنفين: (1)
صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره. (2)
وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه.
والأول:
هو العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر.
والثاني:
العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال للعقل فيها إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول.
11
ويظهر أن هذا الفيلسوف الاجتماعي لا يرى رأي القائلين بأن في طبيعة العرب ما يصدهم عن الفلسفة ويضعف استعدادهم لها؛ إذ هو لا يقسم البشر أجناسا لكل جنس طبيعة لازمة، على نحو ما يميل إليه صاعد والشهرستاني فيما يؤخذ من كلامهما، بل هو يرد صفات الشعوب الحسية والمعنوية إلى عوامل طارئة من الهواء، واختلاف أحوال العمران، فهو يبين في «مقدمته» أثر الموقع الجغرافي وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم، ويذكر اختلاف أحوال العمران في الخصب والجدب، وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم.
وقد عقد في المقدمة فصلا للكلام على أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم، حلل فيه الأسباب التي يرى أنها صرفت العرب عن العناية بالعلم والفلسفة في جاهليتهم وإسلامهم، وهي أسباب خارجة عن طبيعتهم الجنسية.
قال في هذا الفصل: «من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي، والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة؛ لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين.»
وبعد أن ذكر نشأة العلوم الشرعية وغيرها قال: «فصارت هذه الع لوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع، وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب، وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة، فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه، فإنهم أهل الدولة وأولو سياستها ... مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها، وأما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه، واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم وتركها العرب وانصرفوا عن انتحالها، فلم يحملها إلا المعلمون من العجم شأن الصنائع، كما قلناه أولا.»
12
فابن خلدون لا يرى أن انصراف العرب عن الفلسفة إلا قليلا كان لقصور في طبيعتهم، لكنه كان بحكم البداوة البعيدة عن ممارسة الصناعات العلمية وغيرها، ثم بحكم اشتغالهم بالرياسة وتدبير الدولة والدفاع عنها، واستنكافهم عن معالجة الصناعات حتى العلمية منها التي تركوها للمرءوسين من الأعاجم.
وعرض تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845ه/1441م في «الخطط» لفلاسفة العرب في الجاهلية؛ فجعلهم دون غيرهم من فلاسفة الأمم، وجعل فلاسفة الإسلام في نسق مع حكماء الروم حتى لكأنهم طبقة منهم، قال: واسم الفلاسفة يطلق على جماعة من الهند هم الطبسيون
13
والبراهمة، ولهم رياضة شديدة، وهم ينكرون النبوة أصلا، ويطلق أيضا على العرب بوجه أنقص، وحكمتهم ترجع إلى أفكارهم وإلى ملاحظة طبيعية، ويقرون بالنبوات، وهم أضعف الناس في العلوم، ومن الفلاسفة حكماء الروم وهم طبقات، فمنهم أساطين الحكمة وهم أقدمهم، ومنهم المشاءون، وأصحاب الرواق، وأصحاب أرسطو، وفلاسفة الإسلام.»
14 (2) مصادر الفلسفة في الملة الإسلامية
لم يكن للعرب في جاهليتهم حظ من الفلسفة من حيث هي علم له موضوعه وأسلوبه في البحث وغايته.
لكن هذا العلم كان موجودا عند أمم من غير العرب، وانتقل منها إلى العرب في ريعان دولتهم الناهضة. (2-1) الاعتراف بسلطان الفلسفة اليونانية
قال ابن خلدون في المقدمة: «واعلم أن أكثر من عني بها (يعني العلوم العقلية) في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم؛ الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام، وهما: فارس
15
والروم.»
16
وجاء في كتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء».
17
في ترجمة الكندي: «يعقوب بن إسحاق ... أبو يوسف الكندي المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية.»
18
وقد ذكر صاحب
19
كتاب «الفهرست» أسماء
20
من نقلوا إلى العربية كتب العلوم الفلسفية في عهد العباسيين عن اليونانية والفارسية والهندية.
وفي ذلك اعتراف بقيام العلوم الفلسفية في الإسلام على أصول يونانية وفارسية وهندية، لكن ابن خلدون يقول في المقدمة: «وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما، ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتلقيها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله، فطرحوها في الماء أو في النار، وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا.»
21
ومهما يكن من أمر هذه الرواية، فإنها لا تثبت أن آثار الفرس محيت كلها غير أنها قد تدل على أن ما وصل إلى العرب من مؤلفات الفرس هو دون ما وصل إليهم من مؤلفات اليونان مثلا.
واعتراف مؤلفي العربية بأن علوم الفلسفة دخيلة عليهم، ظاهر في شيوع وصفها في كتبهم بأنها من علوم الأوائل والعلوم القديمة، في مقابلة العلوم المحدثة في الملة الإسلامية، وقد جاء هذا التعبير في كتاب «الفهرست» لابن النديم، وكتاب «طبقات الأمم» لأبي القاسم صاعد، و«كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، وغيرها. «واسم الفلسفة كما نقله عن الفارابي صاحب
22 «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» يوناني، وهو دخيل في العربية، وهو على مذهب لسانهم فيلاسوفيا، ومعناه إيثار الحكمة، وهو في لسانهم مركب من فيلا وسوفيا، ففيلا «الإيثار» وسوفيا «الحكمة»، والفيلسوف مشتق من الفلسفة، وهو على مذهب لسانهم فيلوسوفوس، فإن هذا التغيير هو تغيير كثير من الاشتقاقات عندهم ومعناه «المؤثر للحكمة»، والمؤثر للحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة.»
23
واستعمال العرب للفظ «الفلسفة» اليوناني إشعار بأن مصدر الفلسفة عندهم يوناني، بل إن مؤلفي العرب يرون أن الأصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم، قال صاحب كتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»: «وبسبب أرسطوطاليس كثرت الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في البلاد الإسلامية.»
24
وقال صاحب كتاب «الملل والنحل»: «فنحن نذكر مذاهب الحكماء القدماء من الروم واليونانيين في الترتيب الذي نقل في كتبهم، ونعقب ذلك بذكر سائر الحكماء، فإن الأصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم، وغيرهم كالعيال عليهم.»
25
وفي كتاب «أبجد العلوم» لصديق حسن خان: «وجميع العلوم العقلية مأخوذة عن أهل يونان.»
26
والرأي السائد عند المؤلفين الإسلاميين هو أن الفلسفة الإسلامية ليست إلا مقالات أرسطوطاليس مع بعض آراء أفلاطون والمتقدمين من فلاسفة اليونان قبل أفلاطون، وهذا ما يقوله الشهرستاني في «الملل والنحل» عند الكلام على المتأخرين من فلاسفة الإسلام: «قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين .»
27
وابن خلدون يقول تارة في المقدمة في: «فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها» كقول الشهرستاني: «وإمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها، ودون علمها، وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب، هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم ... ويسمونه المعلم الأول على الإطلاق، يعنون معلم صناعة المنطق؛ إذ لم تكن قبله مهذبة، وهو أول من رتب قانونها، واستوفى مسائلها، وأحسن بسطها ... ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب، واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل.»
28
ويرى تارة رأيا آخر فيقول في فصل: «العلوم العقلية وأصنافها» بعد ذكر عصر المأمون، وما كان فيه من العناية باستخراج كتب اليونانيين وترجمتها: «وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها، وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول، واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده، ودونوا في ذلك الدواوين، وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم.»
29
ومن فلاسفة الإسلام أنفسهم من لا يرى في الفلسفة الإسلامية في جملتها أفضل من هذه الآراء.
وقد نقل ماسينيون في كتابه «مجموع نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام»، جملة من كتاب لابن سبعين الفيلسوف الأندلسي المتوفى سنة 669ه/1270م، صور فيها ابن رشد والفارابي وابن سينا تصويرا يشف عن رأيه في فلسفتهم، وهم أئمة الفلسفة الإسلامية. قال في ابن رشد: «وهذا الرجل مفتون بأرسطو ومعظم له، ويكاد أن يقلده في الحس والمعقولات الأولى، ولو سمع الحكيم يقول: إن القائم قاعد في زمان واحد، لقال هو به واعتقده، وأكثر تآليفه من كلام أرسطو؛ إما يلخصها، وإما يمشي معها.»
وقال في الفارابي: «وهذا الرجل أفهم فلاسفة الإسلام وأذكرهم للعلوم القديمة، وهو الفيلسوف فيها لا غير، وهو مدرك محقق.»
أما ابن سينا عنده: «فمموه مسفسط، كثير الطنطنة، قليل الفائدة، وما له من التآليف لا يصلح لشيء، ويزعم أنه أدرك الفلسفة المشرقية، ولو أدركها لتضوع ريحها عليه، وهو في العين الحمئة، وأكثر كتبه مؤلفة ومستنبطة من كتب أفلاطون، وما فيها من عنده فشيء لا يصلح، وكلامه لا يعول عليه، و«الشفاء» أجل كتبه، وهو كثير التخبط ومخالف للحكيم، وإن كان خلافه له مما يشكر له، فإنه بين ما كتبه الحكيم، وأحسن ما له في الإلهيات «التنبيهات والإشارات»، وما رمزه في حي ابن يقظان، على أن جميع ما ذكره فيها هو من مفهوم «النواميس» لأفلاطون وكلام الصوفية.»
والواقع أن افتتان الجمهرة من متفلسفة الإسلام بأرسطو وبالمشائين وغيرهم من حكماء اليونان كان أمرا غير خفي.
وفي كلام ابن سبعين نفسه بوادر تنم عن شيء من هذا، ألست تراه يعتبر الفارابي هو الفيلسوف لا غيره؛ لأنه أفهم فلاسفة الإسلام، وأذكرهم للعلوم القديمة، وهو يريد علوم الفلسفة المترجمة عن يونان؟ ثم ألست تراه يلمز ابن سينا لمخالفته للحكيم - أي أرسطو - ويعود فيرى في ذلك موضعا للشكر لأن فيه تبينا لآراء المعلم الأول؟ (2-2) الخطأ والتحريف في تعريب الكتب الفلسفية
ولم يغفل المؤلفون الإسلاميون التنبيه إلى ما وقع من الخطأ والتحريف في ترجمة الكتب الفلسفية، ونقلها إلى العربية.
قال أبو حيان التوحيدي المتوفى سنة 400ه/1009م في «المقايسات»: «... على أن الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، قد أخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق إخلالا لا يخفى على أحد، ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع، وتصرفها الواسع، وافتنانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص، ولو كنا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم، كان ذلك أيضا ناقعا للغليل، وناهجا للسبيل، ومبلغا إلى الحد المطلوب.»
30
ويقول الغزالي المتوفى سنة 505ه/1111م في كتابه «تهافت الفلاسفة»: «ثم المترجمون لكلام أرسطاليس لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضا نزاعا بينهم، وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام الفارابي أبو نصر وابن سينا، فنقتصر على إبطال ما اختاروه ورأوه الصحيح من مذهب رؤسائهم في الضلال، فإن ما هجروه واستنكفوا (5) من المتابعة فيه لا يتمارى في اختلاله، ولا يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله .»
31 (3) وفي كتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» «وكل من نقل كلامه - أرسطوطاليس - من اليونانية إلى الرومية وإلى السريانية وإلى الفارسية وإلى العربية حرف وجزف، وظن بنقله الإنصاف وما أنصف، وأقرب الجماعة حالا في تفهيم مقاصده في كلامه الفارابي أبو نصر وابن سينا، فإنهما دققا وحققا؛ فحملا علمه على الوجه المقصود، وأعذبا منه لوارده منهله المورود، ووافقاه على شيء من أصوله، فكفرا بكفره، وجعل قدرهما بين أهل الشهادة كقدره.»
32 (3-1) رأي ابن سينا
وقد بين ابن سينا في مقدمة كتابه «منطق المشرقيين» تحكم أرسطو والمشائين في عقول المتفلسفة الإسلامية، وكشف عن فلسفته هو وموقفها فقال: «وبعد؛ فقد نزعت الهمة بنا إلى أن نجمع كلاما فيما اختلف أهل البحث فيه، لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى أو عادة أو إلف، ولا نبالي مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفا عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة، المشغوفين بالمشائين، الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم، مع اعتراف منا بفضل أفضل سلهم (يريد به أرسطو) في تنبهه لما نام عنه ذووه وأستاذوه. وفي تمييزه أقسام العلوم بعضها عن بعض. وفي ترتيبه العلوم خيرا مما رتبوه. وفي إدراكه الحق في كثير من الأشياء. وفي تفطنه لأصول صحيحة سرية في أكثر العلوم. وفي إطلاعه الناس على ما بينها فيه السلف وأهل بلاده، وهذا أقصى ما يقدر عليه إنسان يكون أول من مد يديه إلى تمييز مخلوط وتهذيب مفسد، ويحق على من بعده أن يلموا شعثه، ويرموا ثلما يجدونه فيما بناه، ويفرعوا أصولا أعطاها، فما قدر من بعده على أن يفرغ نفسه من عهدة ما ورثه منه، فذهب عمره في تفهم ما أحسن فيه، والتعصب لبعض ما فرط من تقصيره؛ فهو مشغول عمره بما سلف، ليس له مهلة يراجع فيها عقله ولو وجدها ما استحل أن يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر إلى مزيد عليه، أو إصلاح له أو تنقيح إياه، وأما نحن فسهل علينا التفهم لما قالوه أول ما اشتغلنا به، ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم.
وكان الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة، ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه، ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي يسميه اليونانيون «المنطق» - ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره - حرفا حرفا، فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة، فحق ما حق وزاف ما زاف، ولما كان المشتغلون بالعلم شديدي الاعتزاء إلى المشائين من اليونانيين، كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم، وتعصبنا للمشائين؛ إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم، وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه، وأغضينا عما تحطبوا فيه وجعلنا له وجها ومخرجا، ونحن بدخلته شاعرون، وعلى ظله واقفون، فإن جاهرنا بمخالفتهم فعن الشيء الذي لم يمكن الصبر عليه، وأما الكثير؛ فقد غطيناه بأغطية التغافل.»
33
وما يكون لنا أن نلتمس وراء ابن سينا مرجعا للحكم في الفلسفة الإسلامية، وجماع حكمه، أن الفلسفة الإسلامية كانت في غالب أمرها قائمة على العصبية لأرسطو وللمشائين، لكن فلاسفة الإسلام على الحقيقة، من أمثال ابن سينا، كانوا يعرفون لأرسطو فضله من غير غفلة عن قصوره أحيانا وخطئه، وكانت تقع لهم علوم من غير أرسطو، بل من غير علوم يونان، وكانت وجهتهم أن يشيدوا هيكلا فلسفيا يقوم على قواعد مما محصه النقد من مقالات أرسطو والمشائين، وترفع أركانه بما عملته أيديهم وما كسبوه من غير اليونانيين.
ومتى درست آثار الفلاسفة الإسلاميين حق دراستها - وذلك يحتاج إلى كد الذهن وطول الصبر، وحسن الاستعداد، وتحصيل الآلة المعينة على تفهم تلك الأساليب - ومتى نشر للباحثين ما لم ينشر من آثار القوم، وهو كثير، فسنعرف عن يقين نصيب الفلسفة الإسلامية من التراث الفلسفي في العالم. (3-2) فلسفة وحكمة
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن فلاسفة الإسلام استعملوا، إلى جانب كلمة «فلسفة» اليونانية وما اشتق منها، كلمة «حكمة» العربية وما أخذ منها، فقالوا: حكمة، وحكيم ، وعلوم حكمية.
ويظهر أن هذا الاستعمال بعيد العهد يتصل بأول نقل للعلوم القديمة في الإسلام، على ما جاء في كتاب «الفهرست»، فقد ورد فيه: «كان خالد بن يزيد بن معاوية (المتوفى سنة 85ه/704م) يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام.»
34
وقال صاحب «الفهرست» في موضع آخر: «قال محمد بن إسحاق: الذي عني بإخراج كتب القدماء في الصنعة خالد بن يزيد بن معاوية، وكان خطيبا شاعرا فصيحا حازما ذا رأي، وهو أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وكان جوادا، يقال إنه قيل له لقد جعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة، فقال خالد: ما أطلب بذلك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاختزلت دوني، فلم أجد منها عوضا إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة، فلا أحوج أحدا عرفني يوما أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة.»
35
وفي كتاب «فضل هاشم على عبد شمس» للجاحظ: «وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا، وجيد الرأي أريبا، كثير الأدب حكيما، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات.»
36
وفي كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ: «وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا، وفصيحا جامعا، وجيد الرأي كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء.»
37
وقد أنشيء في عهد الرشيد وولده المأمون بيت الحكمة، ونجد لبيت الحكمة هذا ذكرا في كتاب «الفهرست»، ففي أخبار غيلان الشعوبي: «أصله من الفرس، وكان راوية عارفا بالأنساب والمثالب والمنافرات، منقطعا إلى البرامكة، وينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة.»
38
وفي أخبار سهل بن هارون: «وكان متحققا بخدمة المأمون وصاحب خزانة الحكمة له، وكان حكيما فصيحا شاعرا، فارسي الأصل، شعوبي المذهب، شديد العصبية على العرب.»
39
ثم ذكر سعيد بن هارون الكاتب، وأنه شريك سهل بن هارون في بيت الحكمة، وذكر «سلما» صاحب بيت الحكمة مع سهل بن هارون.
وفي كتاب «سرح العيون» لابن نباتة المصري
40
في ترجمة سهل بن هارون: «وهو سهل بن هارون بن راهبون، ويكنى أبا عمرو، من أهل نيسابور، نزل البصرة فنسب إليها، ويقال إنه كان شعوبيا، والشعوبية فرقة تبغض العرب وتتعصب عليها للفرس، وانفرد سهل في زمانه بالبلاغة والحكمة، وصنف الكتب معارضا بها كتب الأوائل، حتى قيل له بزرجمهر الإسلام، وكان في أول أمره خصيصا بالفضل بن سهل ثم قدمه إلى المأمون فأعجب ببلاغته وعقله، وجعله كاتبا على خزانة الحكمة، وهي كتب الفلاسفة التي نقلت للمأمون من جزيرة قبرص، وذلك أن المأمون لما هادن صاحب هذه الجزيرة، أرسل إليه يطلب خزانة كتب اليونان، وكانت مجموعة عندهم في بيت لا يظهر عليها أحد أبدا، فجمع صاحب هذه الجزيرة بطانته وذوي الرأي واستشارهم في حمل الخزانة إلى المأمون، فكلهم أشاروا بعدم الموافقة إلا مطرانا واحدا، فإنه قال: «الرأي أن تعجل بإنفاذها إليه، فما دخلت هذه العلوم العقلية على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها، فأرسلها إليه، واغتبط بها المأمون، وجعل سهل بن هارون خازنا لها.»
41
وكثيرا ما نجد في كتب مؤلفي العربية وضع الحكمة والحكيم مكان الفلسفة والفيلسوف وبالعكس، وعبروا بحكماء الإسلام وفلاسفة الإسلام، والحكيم عندهم على إطلاقه هو أرسطو.
وقد يدل قدم العهد باستعمال كلمة «الحكمة» في معنى الفلسفة، وامتداد ذلك إلى أول نقل بالعربية للعلوم القديمة، على أن أصل معنى كلمة «الحكمة» في كلام العرب كان ممهدا لهذا الاستعمال غير بعيد منه.
هوامش
الفصل الثالث
تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين
(1) الكندي
أقدم ما عرفنا من أقوال الفلاسفة الإسلاميين في التعريف بالفلسفة هو ما نقله ابن نباته المصري
1
عن أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب، قال: «ومن كلامه (يعني الكندي) في الفلسفة: «علوم الفلسفة ثلاثة؛ فأولها: العلم الرياضي في التعليم، وهو أوسطها في الطبع. والثاني: علم الطبيعيات، وهو أسفلها في الطبع. والثالث: علم الربوبية، وهو أعلاها في الطبع.
وإنما كانت العلوم ثلاثة لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس، وهو ذوات الهيولى، وإما علم ما ليس بذي هيولى؛ إما أن يكون لا يتصل بالهيولى البتة، وإما أن يكون قد يتصل بها.
فأما ذات الهيولى فهي المحسوسات، وعلمها هو العلم الطبيعي، وإما أن يتصل بالهيولى وإن له انفرادا بذاته، كعلم الرياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف،
2
وإما لا يتصل بالهيولى
3
البتة، وهو علم الربوبية.»
4
وليس في هذا القول الموجز المجمل الذي لا يخلص من نفحات عجمة، بحكم أنه من المحاولات الأولى لإبراز المعاني والاصطلاحات الفلسفية في أساليب عربية، إلا تعرض للقسم النظري من الفلسفة دون العملي، وليس فيه محاولة وضع تعريف للفلسفة جامع، ولا ذكر للمنطق.
5 (2) الفارابي
وجاء بعد ذلك أبو نصر الفارابي المعلم الثاني المتوفى سنة 335ه/950م فعرض لتحديد معنى الفلسفة، وعرض للإحاطة بأقسامها، وذكر الغاية منها والفرق بين الدين والفلسفة في بيان أفصح وأبسط؛ لكنه فرق هذه الأبحاث في مواضع من كتبه لمناسبات، لم يعمد إلى جمعها في نسق، ولم تخل أقواله على بسطها من اضطراب وغموض في بعض الأحايين.
قال في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين»: «إذ الفلسفة حدها وماهيتها أنها العلم بالموجودات بما هي موجودة، وكان هذان الحكيمان هما مبدعان للفلسفة ومنشئان لأوائلها وأصولها، ومتممان لأواخرها وفروعها، وعليهما المعول في قليلها وكثيرها، وإليهما المرجع في يسيرها وخطيرها، وما يصدر عنهما في كل فن إنما هو الأصل المعتمد عليه لخلوه من الشوائب والكدر، بذلك نطقت الألسن وشهدت العقول، إن لم يكن من الكافة، فمن الأكثرين من ذوي الألباب الناصعة والعقول الصافية.
ولما كان القول والاعتقاد إنما يكون صادقا متى كان للموجود المعبر عنه مطابقا، ثم كان بين قول هذين الحكيمين في كثير من أنواع الفلسفة خلاف، لم يخل الأمر فيه من إحدى ثلاث خلال: إما أن يكون هذا الحد المبين عن ماهية الفلسفة غير صحيح، وإما أن يكون رأي الجميع أو الأكثرين واعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين سخيفا ومدخولا. وإما أن يكون في معرفة الظانين فيهما بأن بينهما خلافا في هذه الأصول تقصير، والحد صحيح مطابق لصناعة الفلسفة، وذلك يتبين من استقراء جزئيات هذه الصناعة، وذلك أن موضوعات العلوم وموادها لا تخلو من أن تكون: إما إلهية، وإما طبيعية، وإما منطقية، وإما رياضية أو سياسية.
وصناعة
6
الفلسفة هي المستنبطة لهذه والمخرجة لها، حتى إنه لا يوجد شيء من موجودات العالم إلا وللفلسفة فيه مدخل، وعليه غرض، ومنه علم بمقدار الطاقة الإنسية، وطريق القسمة
7
يصرح ويوضح ما ذكرناه، وهو الذي يؤثر الحكيم أفلاطون، فإن المقسم يروم ألا يشذ عنه شيء موجود من الموجودات، ولو لم يسلكها أفلاطون، لما كان الحكيم أرسطوطاليس يتصدى لسلوكها.
غير أنه لما وجد أفلاطون قد أحكمها وبينها وأتقنها وأوضحها، اهتم أرسطوطاليس باحتمال الكد وإعمال الجهد في إنشاء طريق القياس، وشرع في بيانه وتهذيبه ليستعمل القياس والبرهان في جزء جزء مما توجبه القسمة؛ ليكون كالتابع والمتمم والمساعد والناصح.
ومن تدرب في علم المنطق وأحكم علم الآداب الخلقية، ثم شرع في الطبيعيات والإلهيات، ودرس كتب هذين الحكيمين، يتبين له مصداق ما أقوله، حيث يجدهما قد قصدا تدوين العلوم بموجودات العالم، واجتهدا في إيضاح أحوالها على ما هي عليه من غير قصد منهما لاختراع أو إغراب أو إبداع وزخرفة وتشويق، بل لتوفيته كلا منها قسطه ونصيبه بحسب الوسع والطاقة.
وإذا كان ذلك كذلك، فالحد الذي قيل في الفلسفة: «إنها العلم بالموجودات بما هي موجودة» صحيح يبين عن ذات المحدود ويدل على ماهيته.»
8
ويتفق مع هذا التعريف للفلسفة ويوضحه قول الفارابي أيضا في كتاب «تحصيل السعادة»: «وأول هذه العلوم كلها هو العلم الذي يعطي الموجودات معقولة ببراهين يقينية، وهذه الأخر إنما تأخذ تلك بأعيانها، فتقنع فيها أو تخيلها؛ ليسهل بذلك تعليم جمهور الأمم وأهل المدن، فالطرق الإقناعية والتخيلات إنما تستعمل إذن في تعليم العامة وجمهور الأمم والمدن، وطرق البراهين اليقينية في أن يحصل بها الموجودات أنفسها معقولة
9
تستعمل في تعليم من سبيله أن يكون خاصيا.
وهذا العلم هو أقدم العلوم وأكملها رياسة، وسائر العلوم الأخر الرئيسية هي تحت رياسة هذا العلم ...
وكان الذين عندهم هذا العلم من اليونانيين يسمونه الحكمة على الإطلاق، والحكمة العظمى، ويسمون اقتناءها العلم، وملكتها الفلسفة، ويعنون به إيثار الحكمة العظمى ومحبتها، ويسمون المقتني لها فيلسوفا، يعنون به المحب والمؤثر للحكمة العظمى.»
10
وللفارابي تعريف وتقسيم للفلسفة نحا بهما منحى آخر؛ فهو يقول في كتاب «التنبيه على سبيل السعادة»: «فإن الصنائع صنفان: صنف مقصوده تحصيل الجميل، وصنف مقصوده تحصيل النافع، والصناعة التي مقصودها تحصيل الجميل فقط هي التي تسمى الفلسفة، وتسمى الحكمة على الإطلاق، ولما كانت السعادة إنما ننالها متى كانت لنا الأشياء الجميلة قنية، وكانت الأشياء الجميلة إنما تصير لنا قنية بصناعة الفلسفة، فلزم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي بها تنال السعادة، ولما كان الجميل صنفين؛ صنف به يحصل معرفة الموجودات التي ليس للإنسان فعلها، وهذه تسمى النظرية، والثاني: به تحصل معرفة الأشياء التي شأنها أن تفعل، والقوة على فعل الجميل منها، وهذه تسمى الفلسفة العملية والفلسفة المدنية.
والفلسفة النظرية تشتمل على ثلاثة أصناف من العلوم؛ أحدها: علم التعاليم. والثاني: العلم الطبيعي. والثالث: علم ما بعد الطبيعيات.
وكل واحد من هذه العلوم الثلاثة يشتمل على صنف من الموجودات التي من شأنها أن تعلم فقط ...
والفلسفة المدنية صنفان؛ أحدهما: يحصل به علم الأفعال الجميلة، والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، والقدرة على أسبابها، وبه تصير الأشياء الجميلة قنية لنا، وهذه تسمى الصناعة الخلقية، والثاني: يشتمل على معرفة الأمور التي بها تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن، والقدرة على تحصيلها لهم وحفظها عليهم، وهذه تسمى الفلسفة السياسية، فهذه جمل أجزاء صناعة الفلسفة.»
11
وبعد أن عرف الفارابي الفلسفة على هذا الوجه واستوفى أقسامها، ذكر المنطق على أنه آلة للفلسفة وممهد لسبيلها، لا على أنه قسم من أقسامها، فقال: «وأقول: لما كانت الفلسفة تحصل بجودة التمييز، وكانت جودة التمييز تحصل بقوة الذهن، إنما تحصل متى كانت قوة الذهن حاصلة لنا قبل جميع هذا، وقوة الذهن إنما تحصل متى كانت لنا قوة بها نقف على الحق أنه حق يقين فنعتقده، وبها نقف على الباطل أنه باطل بيقين فنجتنبه، ونقف على الباطل الشبيه بالحق فلا نغلط فيه، ونقف على ما هو حق في ذاته وقد أشبه الباطل فلا نغلط فيه ولا ننخدع، والصناعة التي بها نستفيد هذه القوة تسمى صناعة المنطق.»
12
وإذا كنا نرى في هذا المقال اتجاها من الفارابي إلى عد المنطق كالآلة للفلسفة يخالف اتجاهه إلى عده قسما من صميمها فيما نقلناه من كلامه؛ أولا: فإنا نجد الفارابي يذكر في كتابه: «ما ينبغي أن يقدم قبل تعلم فلسفة أرسطو» الغاية التي يقصد إليها في تعلم الفلسفة بما نصه: «وأما الغاية التي يقصد إليها في تعلم الفلسفة فهي معرفة الخالق - تعالى - وأنه واحد غير متحرك، وأنه العلة الفاعلة لجميع الأشياء، وأنه المرتب لهذا العالم بجوده وحكمته وعدله.
13
وتبيين الغاية من الفلسفة هذا البيان يشعر بقصر الفلسفة على القسم الإلهي.
ويعين على هذا الفهم ما جاء في الكتاب نفسه عند الكلام على العلم الذي ينبغي أن يبدأ به في تعلم الفلسفة.»
14
فقد ذكر الفارابي أن العلم الذي ينبغي أن يبدأ به قبل تعلم الفلسفة موضع خلاف بين الحكماء، فمنهم من يرون أنه علم الهندسة، ومنهم من يقولون علم إصلاح الأخلاق، ومنهم من يرون الابتداء بعلم الطبائع، ومنهم من يذكرون علم المنطق.
وظاهر أن هذه العلوم التي دار عليها القول فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة لا تكون أقساما من الفلسفة.
ومما ينحو هذا النحو في الميل إلى اعتبار الفلسفة على الحقيقة هي القسم الإلهي قول الفارابي في التعليقات: «وقال: الحكمة معرفة الوجود الحق، والوجود الحق هو واجب الوجود بذاته، والحكيم هو من عنده علم الواجب بذاته بالكمال، وهو
15
ما سوى الواجب بذاته، ففي وجوده نقصان عن درجة الأول بحسبه، فإذن يكون ناقص الإدراك، فلا حكيم إلا الأول لأنه كامل المعرفة بذاته.»
16 (3) إخوان الصفاء
وهذا الاختلاف في تعريف الفلسفة وتقسيمها الذي نصادفه في أقوال الفارابي، نجد شيئا منه في كلام من بعده، فرسائل إخوان الصفاء التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الرابع بعد زمن الفارابي، تقول في التعريف بالفلسفة وتقسيمها: «الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم، والعلوم الفلسفية أربعة أنواع؛ أولها: الرياضيات. والثاني: المنطقيات. والثالث: العلوم الطبيعيات. والرابع: العلوم الإلهيات.»
17
وتقول في موضع آخر: «وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع؛ منها الرياضيات، ومنها المنطقيات، ومنها الطبيعيات، ومنها الإلهيات.»
وبعد الكلام على أنواع الرياضيات من العدد والهندسة والنجوم والموسيقى وأنواع المنطقيات، وهي: معرفة صناعة الشعر، ومعرفة صناعة الخطب، ومعرفة صناعة الجدل، ومعرفة صناعة البرهان، ومعرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل، وأنواع العلوم الطبيعية وهي سبعة: علم المبادئ الجسمانية، وعلم السماء والعالم، وعلم الكون والفساد، وعلم حوادث الجو، وعلم المعادن، وعلم النبات، وعلم الحيوان. بعد ذلك ذكرت أنواع العلوم الإلهية وهي خمسة؛ أولها: معرفة الباري جل جلاله. والثاني: علم الروحانيات، وهو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلامة الفعالة التي هي ملائكة الله. والثالث: علم النفسيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية. والرابع: علم السياسة وهي خمسة أنواع: السياسة النبوية، السياسة الملوكية، السياسة العامية، السياسة الخاصية، السياسة الذاتية. والخامس: علم المعاد وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى.
18
فإخوان الصفاء لا يقسمون العلوم الفلسفية إلى نظرية وعملية، بل يدخلون القسم العملي كله في الإلهيات، ويدخلون في علوم الفلسفة ما لم يدخله من قبلهم من السياسة النبوية وعلم المعاد.
ومع أنا نجد في هذه النصوص تصريحا بأن المنطقيات من علوم الفلسفة، فإن في رسائل إخوان الصفاء فصلا عنوانه: «فصل في أن المنطق أداة الفيلسوف» جاء فيه: «واعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل إنه أداة الفيلسوف، وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات؛ لأنه قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، واعلم بأن معنى قولهم : «طاقة الإنسان» هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته، هذا هو معنى قولهم التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأن الله - عز وجل - لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير.»
19 (4) ابن سينا
أما ابن سينا المتوفى سنة 428ه/1087م فيعرض لتعريف الحكمة وتقسيمها في أسلوبه العلمي الدقيق، ولا تخلو مع هذا أقواله في كتبه المختلفة من تفاوت.
وهذا قوله في «رسالة الطبيعيات» من عيون الحكمة: «الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية؛ فالحكمة المتعلقة بالأمور التي لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها تسمى حكمة نظرية، والحكمة المتعلقة بالأمور العملية التي لنا أن نعلمها ونعمل بها تسمى حكمة عملية، وكل واحدة من هاتين الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة: فأقسام الحكمة العملية: حكمة مدنية، وحكمة منزلية، وحكمة خلقية، ومبدأ هذه الأقسام الثلاثة مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تستبين بها وتتصرف فيها بعد ذلك القوة النظرية من البشر بمعرفة القوانين واستعمالها في الجزئيات.
فالحكمة المدنية فائدتها أن يعلم أنه كيف يجب أن تكون المشاركة التي تقع فيما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان، ومصالح بقاء نوع الإنسان، والحكمة المنزلية فائدتها أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنظم به المصلحة المنزلية، والمشاركة المنزلية تتم بين زوج وزوجة، ووالد ومولود، ومالك وعبد.
وأما الحكمة الخلقية ففائدتها أن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس، وتعلم الرذائل وكيفية توقيها لتطهر عنها النفس، وأما الحكمة النظرية فأقسامها ثلاثة: حكمة تتعلق بما في الحركة والتغير من حيث هو في الحركة والتغير، وتسمى حكمة طبيعية، وحكمة تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن عن التغير، وإن كان وجوده مخالطا للتغير، وتسمى حكمة رياضية، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن مخالطة التغير؛ فلا يخالطها أصلا، وإن خالطها فبالعرض لا أن ذاتها مفتقرة في تحقيق الوجود إليها، وهي الفلسفة الأولى، والفلسفة الإلهية جزء منها، وهي معرفة الربوبية، ومبادئ هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، ومتصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة، ومن أوتي استكمال نفسه بهاتين الحكمتين، والعمل مع ذلك بإحداهما فقد أوتي خيرا كثيرا.
20
وتعريف ابن سينا للحكمة فيما أسلفنا محتمل لأن تعتبر الحكمة نفس المعلومات التصورية والتصديقية، بناء على أن السين والتاء في لفظة: «استكمال» مزيدتان بغير معنى، ومحتمل لأن تكون السين والتاء للدلالة على الطلب، فتكون الحكمة هي التماس تحصيل هذه المعلومات بالنظر العقلي، وفيما سبق من كلام الفارابي ما ينحو إلى كليهما.
واقتفى صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي
21
في كتاب «الأسفار الأربعة» أثر الشيخ الرئيس في هذا التعريف فقال: «اعلم أن الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقا بالبراهين لا أخذا بالظن والتقليد بقدر الوسع الإنساني، وإن شئت قلت نظم العالم نظما عقليا على حسب الطاقة البشرية؛ ليحصل التشبه بالباري تعالى.»
22
ثم إن ابن سينا لم يعرض للمنطق في أقسام الحكمة، وعرض لصلة كل من الحكمة العملية، والحكمة النظرية بالدين ببيان لم يرد في كلام من سبقوه.
ويقول ابن سينا في «رسالة في أقسام العلوم العقلية»: «فصل في ماهية الحكمة: الحكمة صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله مما ينبغي أن يكتسب فعله، لتشرف بذلك نفسه وتستكمل وتصير عالما معقولا مضاهيا للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى بالآخرة، وذلك بحسب الطاقة الإنسانية.
فصل في أول أقسام الحكمة الحكمة: تنقسم إلى قسم نظري مجرد وقسم عملي، والقسم النظري هو الذي الغاية فيه حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان، ويكون المقصود إنما هو حصول رأي فقط مثل علم التوحيد وعلم الهيئة، والقسم العملي هو الذي ليس الغاية فيه حصول الاعتقاد اليقيني بالموجودات، بل ربما يكون المقصود فيه حصول صحة رأي في أمر يحصل بكسب الإنسان؛ ليكتسب ما هو الخير منه؛ فلا يكون المقصود حصول رأي فقط، بل حصول رأي لأجل عمل، فغاية النظري هو الحق، وغاية العملي هو الخير.
فصل في أقسام الحكمة النظرية: أقسام الحكمة النظرية ثلاثة: العلم الأسفل، ويسمى العلم الطبيعي، والعلم الأوسط، ويسمى العلم الرياضي، والعلم الأعلى، ويسمى العلم الإلهي، وإنما كانت أقسامه هذه الأقسام لأن الأمور التي يبحث عنها إما أن تكون أمورا حدودها ووجودها متعلقان بالمادة الجسمانية والحركة مثل: أجرام الفلك والعناصر الأربعة وما يتكون منها، وما يوجد من الأحوال خاصا بها مثل الحركة والسكون والتغير والاستحالة والكون والفساد والنشوء
23
والبلى، والقوى والكيفيات التي تصدر عنها هذه الأحوال وسائر ما يشبهها، فهذا قسم. وإما أن تكون أمورا وجودها متعلق بالمادة والحركة، وحدودها غير متعلقة بهما، مثل التربيع والتدوير والكرية والمخروطية، ومثل العدد وخواصه، فإنك تفهم الكرة من غير أن تحتاج في تفهمها إلى فهم أنها من خشب أو ذهب أو فضة، ولا تفهم الإنسان إلا وتحتاج إلى أن تفهم أن صورته من لحم وعظم، وكذلك تفهم التقعير من غير حاجة إلى فهم الشيء الذي فيه التقعير، ولا تفهم الفطوسة إلا مع حاجة إلى فهم الشيء الذي فيه الفطوسة. ومع هذا كله فالتدوير والتربيع والتقعير والاحدايداب لا توجد إلا فيما يحملها من الأجرام الواقعة في الحركة، فهذا قسم ثان، وإما أن تكون أمورا لا وجودها ولا حدودها مفتقرين إلى المادة والحركة، أما من الذوات فمثل ذات الأحد الحق رب العالمين، وأما من الصفات فمثل الهوية والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، والجزئية والكلية، والتمامية والنقصان، وما أشبه هذه المعاني، ولما كانت الموجودات على هذه الأقسام الثلاثة كانت العلوم النظرية بحسبها على أقسام ثلاثة، والعلم الخاص بالقسم الأول يسمى طبيعيا، والعلم الخاص بالقسم الثاني يسمى رياضيا، والعلم الخاص بالقسم الثالث يسمى إلهيا.
فصل في أقسام الحكمة العملية: لما كان تدبير الإنسان إما أن يكون خاصا بشخص واحد، وإما أن يكون غير خاص بشخص واحد، والذي يكون غير خاص هو الذي إنما يتم بالشركة، والشركة إما بحسب اجتماع منزلي عائلي، وإما بحسب اجتماع مدني؛ كانت العلوم العملية ثلاثة: واحد منها خاص بالقسم الأول، ويعرف به أن الإنسان كيف ينبغي أن تكون أخلاقه وأفعاله حتى تكون حياته الأولى والأخرى سعيدة، ويشتمل عليه كتاب أرسطوطاليس في الأخلاق. والثاني منها خاص بالقسم الثاني، ويعرف منه أن الإنسان كيف ينبغي أن يكون تدبيره لمنزله المشترك بينه وبين زوجه وولده ومملوكه، حتى تكون حاله منتظمة مؤدية إلى التمكن من كسب السعادة، ويشتمل عليه كتاب أرونس
24
في تدبير المنزل، وكتب فيه لقوم آخرين غيره. والثالث منها خاص بالقسم الثالث، ويعرف به أصناف السياسات والرياسات والاجتماعات المدنية الفاضلة والردية، ويعرف وجه استيفاء كل واحد منها وعلة زواله وجهة انتقاله، فما كان يتعلق من ذلك بالملك فيشتمل عليه كتاب أفلاطون وأرسطو في السياسة، وما كان من ذلك يتعلق بالنبوة والشريعة فيشتمل عليه كتابان هما في النواميس، والفلاسفة لا تريد بالناموس ما تظنه العامة أن الناموس هو الحيلة والخديعة، بل الناموس عندهم هو السنة والمثال القائم ونزول الوحي. والعرب أيضا تسمي الملك النازل بالوحي ناموسا، وهذا الجزء من الحكمة العملية يعرف به وجود النبوة وحاجة نوع الإنسان في وجوده وبقائه ومنقلبه إلى الشريعة، وتعرف بعض الحكمة في الحدود الكلية المشتركة في الشرائع، والتي تخص شريعة شريعة بحسب قوم قوم وزمان زمان، ويعرف به الفرق بين النبوة الإلهية وبين الدعاوى الباطلة كلها.
وذكر ابن سينا بعد ذلك أقسام الحكمة الطبيعية ما يقوم منها مقام الأصل، وأقسام الحكمة الطبيعية الفرعية، وأتبع ما ذكر ببيان الأقسام الأصلية للحكمة الرياضية، والأقسام الفرعية للعلوم الرياضية، وأول الأقسام الأصلية للعلم الإلهي، ثم ذكر من فروع العلم الإلهي معرفة كيفية نزول الوحي والجواهر الروحانية التي تؤدي الوحي، وأن الوحي كيف يتأدى حتى يصير مبصرا ومسموعا بعد روحانيته، وعلم المعاد ويشتمل على تعريف الإنسان أنه لو لم يبعث بدنه مثلا لكان له ببقاء روحه بعد موته ثواب وعقاب غير بدنيين، وكانت الروح التقية التي هي النفس المطمئنة الصحيحة الاعتقاد للحق، العاملة بالخير الذي يوجبه الشرع والعقل، فائزة بسعادة وغبطة ولذة فوق كل سعادة وغبطة ولذة، وأنها أجمل من الذي صح بالشرع ولم يخالفه العقل أنها تكون لبدنه، إلا أن الله - تعالى - أكرم عباده المتقين على لسان رسله - عليهم السلام - بموعد بالجمع بين السعادتين الروحانية بقاء النفس والجسمانية ببعث البدن الذي هو عليه قدير إن شاء هو ومتى شاء هو. وتبين أن تلك السعادة الروحانية كيف أن العقل وحده طريق إلى معرفتها، وأما السعادة البدنية فلا يفي بوصفها إلا الوحي والشريعة، وبمثل ذلك يعرف حد الشقاوة الروحانية التي لأنفس الفجار، وأنها أشد إيلاما وإيذاء من الشقاوة التي أوعدوا بحلولها بهم بعد البعث، ويعرف أن تلك الشقاوة على من تدوم وعمن تنقطع، وأما التي تختص بالبدن فالشريعة أوقفتهم على صحتها، دون النظر والعقل وحده، وأما الشقاوة الروحانية فإن العقل طريق إليها من جهة النظر والقياس والبرهان، والجسمانية تصح بالنبوة التي صحت بالعقل ووجبت بالدليل وهي متممة للعقل، فإن كل ما لا يتوصل العقل إلى إثبات وجوده أو وجوبه بالدليل؛ فإنما يكون معه جوازه فقط، فإن النبوة تعقد على وجوده أو عدمه فصلا، وقد صح عنده صدقها فيتم عنده ما صح وقصر عنه من معرفته.»
ولما فرغ ابن سينا من الكلام على أقسام الحكمة قال: «وإذ قد أتى وصفنا على الأقسام الأصلية والفرعية للحكمة، فقد حان لنا أن نعرف أقسام العلم الذي هو آلة للإنسان موصلة إلى كسب الحكمة النظرية والعملية، واقية عن السهو والغلط في البحث والروية، مرشدة إلى الطريق الذي يجب أن يسلك في كل بحث ومعرفة حقيقة الحد الصحيح، وحقيقة الدليل الصحيح الذي هو البرهان، وحقيقة الجدلي المقارب للبرهان، وحقيقة الإقناعي القاصر عنهما، وحقيقة المغالطي المدلس منهما، وحقيقة الشعري الموهم تخيلا، وهو صناعة المنطق.»
وعقد فصلا عنوانه «في الأقسام التسعة للحكمة التي هي المنطق» ذكر فيه أقسام المنطق التسعة، وختم بقوله: «فقد دللت على أقسام الحكمة، وظهر أنه ليس شيء منها يشتمل على ما يخالف الشرع؛ فإن الذين يدعونها ثم يزيغون عن منهاج الشرع إنما يضلون من تلقاء أنفسهم ومن عجزهم وتقصيرهم، لا أن الصناعة نفسها توجبه، فإنها بريئة منهم.»
25
وذكر في نهاية الرسالة ما نصه: «فجملة العلوم المعقولة المضبوطة في هذه الرسالة العظيمة ثلاثة وخمسون علما.»
ولم يبلغ أحد علمناه قبل ابن سينا بالعلوم العقلية أو العلوم الفلسفية هذا العدد، وقد جعل المنطق آلة للعلوم العقلية أو الفلسفة بقسميها النظري والعملي، ثم أسماه مع ذلك حكمة.
وذكر في فروع العلم الإلهي علم الوحي وعلم المعاد، وهو في ذلك يقارب منهج إخوان الصفاء، ولابن سينا في تعريف الحكمة وتقسيمها مسلك طريف سلكه في منطق المشرقيين فقال: «في ذكر العلوم: إن العلوم كثيرة، والشهوات لها مختلفة، ولكنها تنقسم أول ما تنقسم قسمين:
علوم لا يصلح أن تجري أحكامها الدهر كله، بل في طائفة من الزمان ثم تسقط بعدها، أو تكون مغفولا عن الحاجة إليها بأعيانها برهة من الدهر، ثم يدل عليها من بعد.
وعلوم متساوية النسب إلى جميع أجزاء الدهر، وهذه العلوم أولى العلوم بأن تسمى «حكمة».
وهذه منها «أصول» ومنها «توابع وفروع»، وغرضنا ها هنا ما هو في الأصول، وهذه التي سميناها توابع وفروعا؛ فهي كالطب والفلاحة، وعلوم جزئية تنسب إلى التنجيم، وصنائع أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها.
وتنقسم «العلوم الأصلية» إلى قسمين أيضا؛ فإن العلم لا يخلو؛ إما أن ينتفع به في أمور العالم الموجودة، وما هو قبل العالم، ولا يكون قصارى طالبه أن يتعلمه حتى يصير آلة لعقله يتوصل بها إلى علوم هي «علوم أمور العالم وما قبله»، وإما أن ينتفع به من حيث يصير آلة لطالبه فيما يروم تحصيله من العلم بالأمور الموجودة في العالم وقبله.
والعلم الذي يطلب؛ ليكون آلة قد جرت العادة في هذا الزمان وفي هذه البلدان أن يسمى «علم المنطق»، ولعل له عند قوم آخرين اسما آخر، لكننا نؤثر أن نسميه الآن بهذا الاسم المشهور.
وإنما يكون هذا العلم آلة في سائر العلوم؛ لأنه يكون علما منبها على الأصول التي يحتاج إليها كل من يقتنص المجهول من العلوم باستعمال للمعلوم على نحو وجهة يكون ذلك النحو وتلك الجهة مؤديا بالباحث إلى الإحاطة بالمجهول، فيكون هذا العلم مشيرا إلى جميع الأنحاء والجهات التي تنقل الذهن من المعلوم إلى المجهول، وكذلك يكون مشيرا إلى جميع الأنحاء والجهات التي تضل الذهن وتوهمه استقامة مأخذ نحو المطلوب من المجهول ولا يكون كذلك، فهذا هو أحد قسمي العلوم.
وأما القسم الآخر؛ فهو ينقسم أيضا أول ما ينقسم قسمين؛ لأنه إما أن تكون الغاية في العلم تزكية النفس مما يحصل لها من صورة المعلوم فقط، وإما أن تكون الغاية ليس ذاك فقط، بل وأن يعمل الشيء الذي انتقشت صورته في النفس.
فيكون الأول تتعاطى به الموجودات لا من حيث هي أفعالنا وأحوالنا، لنعرف أصوب وجوه وقوعها منا وصدورها عنا ووجودها فينا. والثاني يلتفت فيه لفت موجودات هي أفعالنا وأحوالنا لنعرف أصوب وجوه وقوعها منا وصدورها عنا ووجودها فينا.
والمشهود من أهل الزمان أنهم يسمون الأول «علما نظريا»؛ لأن غايته القصوى نظر، ويسمون الثاني منها «عمليا» لأن غايته عمل.
وأقسام العلم النظري أربعة؛ وذلك لأن الأمور إما مخالطة للمادة المعينة حدا وقواما، فلا يصلح وجودها في الطبع في كل مادة، ولا يعقل إلا في مادة معينة مثل الإنسانية والعظمية، وإن كانت بحيث لا يمتنع الذهن في أول نظرة، عن أن يحلها كل مادة؛ فيكون على سبيل من غلط الذهن بل يحتاج الذهن ضرورة في الصواب أن ينصرف عن هذا التجويز، ويعلم أن ذلك المعنى لا يحل مادة إلا إذا حصل معنى زائد يهيئها له، وهذا كالسواد والبياض فهذا
26
من قبيل الموجودات والأمور.
وإما أمور مخالطة أيضا كذلك، والذهن وإن كان يحوج في صحة تصور كثير منها إلى إلصاقه بما هو مادة أو جار مجرى المادة؛ فليس يمتنع عنده وعند الوجود ألا يتعين له مادة، وكل مادة تصلح لأن تخالطه ما لم يمنع مانع، وليس يحتاج في الصلوح له إلى ممهد يخصصه به مثل الثلاثية والثنائية من حيث هي متكونة ويعرض لها الجمع والتفريق، ومثل التدوير والتربيع وجميع ما لا يفتقر وجوده ولا تصوره إلى تعيين مادة له، وهذا قبيل ثان في الأمور والموجودات.
وإما أمور مباينة للمادة والحركة أصلا؛ فلا تصلح لأن تخلط بالمادة ولا في التصور العقلي الحق، مثل الخالق الأول - تعالى - ومثل ضروب من الملائكة، وهذا قبيل ثالث من الموجودات.
وإما أمور ومعان قد تخالط المادة وقد لا تخالطها، فتكون في جملة ما يخالط وفي جملة ما لا يخالط، مثل الوحدة والكثرة، والكلي والجزئي، والعلة والمعلول.
كذلك أقسام العلوم النظرية أربعة، لكل قبيل علم، وقد جرت العادة بأن يسمى العلم بالقسم الأول «علما طبيعيا»، وبالقسم الثاني «رياضيا»، وبالقسم الثالث «إلهيا»، وبالقسم الرابع «كليا»، وإن لم يكن هذا التفصيل متعارفا، فهذا هو العلم النظري.
وأما «العلم العملي» فمنه ما يعلم كيفية ما يجب أن يكون عليه الإنسان في نفسه وأحواله التي تخصه، حتى يكون سعيدا في دنياه هذه وفي آخرته، وقوم يخصون هذا باسم «علم الأخلاق».
ومنه ما يعلم كيف يجب أن يجري عليه أمر المشاركات الإنسانية لغيره، حتى يكون على نظام فاضل؛ إما في المشاركة الجزئية وإما في المشاركة الكلية، والمشاركة الجزئية هي التي تكون في منزل واحد، والمشاركة الكلية هي التي تكون في المدينة.
وكل مشاركة فإنما تتم بقانون مشروع، وبمتول لذلك القانون المشروع يراعيه ويعمل عليه ويحفظه، ولا يجوز أن يكون المتولي لحفظ المقنن في الأمرين جميعا إنسانا واحدا، فإنه لا يجوز أن يتولى تدبير المنزل من يتولى المدينة، بل يكون للمدينة مدبر، ولكل منزل مدبر آخر؛ ولذلك يحسن أن يفرد «تدبير المنزل» بحسب المتولي بابا مفردا، «وتدبير المدينة» بحسب المتولي بابا مفردا، ولا يحسن أن يفرد التقنين للمنزل والتقنين للمدينة كل على حدة، بل الأحسن أن يكون المقنن لما يجب أن يراعى في خاصة كل شخص. وفي المشاركة الصغرى وفي المشاركة الكبرى شخص واحد بصناعة واحدة وهو «النبي».
وأما المتولي للتدبير وكيف يجب أن يتولى، فالأحسن ألا تدخل بعضه في بعض، وإن جعلت كل تقنين بابا آخر، فعلت ولا بأس بذلك لكنك تجد الأحسن أن يفرد العلم بالأخلاق والعلم بتدبير المنزل والعلم بتدبير المدينة كل على حدة، وأن تجعل الصناعة الشارعة، وما ينبغي أن تكون عليه أمرا مفردا، وليس قولنا: «وما ينبغي أن تكون عليه»، مشيرا إلى أنها صناعة ملفقة مخترعة ليست من عند الله، ولكل إنسان ذي عقل أن يتولاها، كلا! بل هي من عند الله، وليس لكل إنسان ذي عقل أن يتولاها، ولا حرج علينا إذا نظرنا في أشياء كثيرة، مما يكون من عند الله، أنها كيف ينبغي أن تكون.
فلتكن هذه العلوم الأربعة أقسام العلم العملي، كما كانت تلك الأربعة أقسام العلم النظري.
وليس من عزمنا أن نورد في هذا الكتاب جميع أقسام العلم النظري والعلم العملي، بل نريد أن نورد من أصناف العلوم هذا العدد: نورد منه «العلم الآلي»، ونورد «العلم الكلي»، ونورد «العلم الإلهي»، ونورد «العلم الطبيعي الأصلي»، ونورد من العلم العملي القدر الذي يحتاج إليه طالب النجاة، وأما العلم الرياضي فليس من العلم الذي يختلف فيه.
والذي أوردناه منه في «كتاب الشفاء» هو الذي نورده ها هنا لو اشتغلنا بإيراده، وكذلك الحال في أصناف من العلم العملي لم نورده ها هنا، وهذا هو حين نشتغل بإيراد «العلم الآلي» الذي هو المنطق.»
27
ميز ابن سينا في هذا الفصل العلم الحكمي بأنه لا يتغير بتغير الأمكنة والأزمان، ولا يتبدل بتبدل الدول والأديان، وكما تسمى هذه العلوم الحكمية يقال لها العلوم الحقيقية أيضا؛ أي العلوم الثابتة على مر الدهور والأعوام، وجعل العلوم النظرية على أربعة أقسام، والعلوم العملية على أربعة أقسام كذلك، والتقسيم على هذا الوجه لم يسبق إليه.
وقد بين حدود ما بين الشريعة والفلسفة بقسميها النظري والعملي بيانا كمل به ما لم يستوفه الفارابي، فإن الفارابي إنما عرض للقسم العلمي من الدين ومن الفلسفة فيما نقلناه من كتاب «الجمع بين رأيي الحكيمين».
بقي أن ابن سينا لم يفته أن يشرح ما أجمله الفارابي من التنبيه على مكانة العلم الإلهي بين العلوم الفلسفية، فقال في «الشفاء» في الفصل الأول من المقالة الأولى من جملة الإلهيات في ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتبيين إنيته
28
في العلوم: «وأيضا قد كنت تسمع أن ها هنا فلسفة بالحقيقة وفلسفة أولى، وأنها تفيد تصحيح مبادئ سائر العلوم، وأنها هي الحكمة بالحقيقة، وقد كنت تسمع تارة أن الحكمة هي أفضل علم بأفضل معلوم، وأخرى أن الحكمة هي المعرفة التي هي أصح معرفة وأتقنها، وأخرى أنها العلم بالأسباب الأولى للكل، وكنت لا تعرف ما هذه الفلسفة الأولى وما هذه الحكمة، وهل الحدود والصفات الثلاث لصناعة واحدة أو لصناعات مختلفة كل واحدة منها تسمى حكمة، ونحن نبين لك الآن أن هذا العلم الذي نحن بسبيله هو الفلسفة الأولى، وأنها الحكمة المطلقة، وأن الصفات الثلاث التي ترسم بها الحكمة هي صفات صناعة واحدة وهي هذه الصناعة.»
29
ثم يقول بعد هذا: «فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي؛ فيسلمه إليه، وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلك في غير ذلك، وما قبل ذلك التخصيص فكالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله، فيكون إذن مسائل هذا العلم بعضها في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارض الموجود، وبعضها في مبادئ العلوم الجزئية، فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة، وهو الفلسفة الأولى لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم، وهو الوجود والوحدة، وهو أيضا الحكمة التي هي أفضل علم بأفضل معلوم، فإنها أفضل علم؛ أي اليقين بأفضل معلوم؛ أي بالله - تعالى - وبالأسباب من بعده، وهو أيضا معرفة الأسباب القصوى للكل، وهو أيضا المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذي هو أنه علم بالأمور المفارقة للمادة في الحد والوجود.»
30 (5) ما بعد ابن سينا والحديث عن الصلة بين الفلسفة والكلام والتصوف
أما ما يتعلق بتعريف الحكمة وتقسيمها بعد ابن سينا؛ فيوشك ألا يخرج عن الاستمداد من تلك التعاريف والتقاسيم التي أوردناها، ونكتفي في بيان جملة ذلك بما ذكره مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي المشهور باسم حاجي خليفة، المتوفى سنة 1067ه/1658م في كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»: «علم الحكمة: وهو علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية، وموضوعه: الأشياء الموجودة في الأعيان والأذهان. وعرفه بعض المحققين بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية، فيكون موضوعه الأعيان الموجودة، وغايته: هي التشريف الكمالات في العاجل، والفوز بالسعادة الأخروية في الآجل.
وتلك الأعيان إما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أولا، فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد يسمى حكمة عملية، والعلم بأحوال الثاني يسمى حكمة نظرية؛ لأن المقصود منها حصل بالنظر، وكل منهما ثلاثة أقسام؛ أما العملية؛ فلأنها إما علم بمصالح شخص بانفراده ليتحلى بالفضائل، ويتخلى عن الرذائل، ويسمى تهذيب الأخلاق، وقد ذكر في علم الأخلاق، وإما علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والمولود، والمالك والمملوك، ويسمى تدبير المنزل، وقد سبق في التاء، وإما علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة ويسمى السياسة المدنية، وسيأتي في السين، وأما النظرية فلأنها إما علم بأحوال ما لا يفتقر في الوجود الخارجي، والتعقل إلى المادة كالإله، وهو علم الإلهي وقد سبق في الألف، وإما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون التعقل كالكرة، وهو علم الأوسط ويسمى بالرياضي والتعليمي وسيأتي في الراء، وإما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والتعقل كالإنسان، وهو العلم الأدنى، ويسمى بالطبيعي وسيأتي في الطاء.
وجعل بعضهم ما لا يفتقر إلى المادة أصلا قسمين: ما لا يقارنها مطلقا كالإله والعقول، وما يقارنها، لكن على وجه الافتقار كالوحدة والكثرة وسائر الأمور العامة، فيسمى العلم بأحوال الأول علما إلهيا. والعلم بأحوال الثاني علما كليا وفلسفة أولى.
31 «واختلفوا في أن المنطق من الحكمة أم لا، فمن فسرها بما يخرج النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل جعله منها، بل جعل العمل أيضا منها، وكذا من ترك الأعيان من تعريفها جعله من أقسام الحكمة النظرية؛ إذ لا يبحث فيه إلا عن المعقولات الثانية التي ليس وجودها بقدرتنا واختيارنا، وأما من فسرها بأحوال الأعيان الموجودة، وهو المشهور بينها، فلم يعده منها؛ لأن موضوعه ليس من أعيان الموجودات، والأمور العامة ليست بموضوعات بل محمولات تثبت للأعيان فتدخل في التعريف.
ومن الناس من جعل الحكمة اسما لاستكمال النفس الإنسانية في قوتها النظرية؛ أي خروجها من القوة إلى الفعل في الإدراكات التصورية والتصديقية بحسب الطاقة البشرية، ومنهم من جعلها اسما لاستكمال القوة النظرية بالإدراكات المذكورة، واستكمال القوة العملية باكتساب الملكة التامة على الأقوال
32
الفاضلة المتوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط.
وكلام الشيخ في «عيون الحكمة» يشعر بالقول الأول، وهو جعل الحكمة اسما للكمالات المعتبرة في القوة النظرية فقط؛ وذلك لأنه فسر الحكمة باستكمال النفس الإنسانية بالتصورات والتصديقات، سواء كانت في الأشياء النظرية أو في الأشياء العملية، فهي مفسرة عنده باكتساب هذه الإدراكات، وأما اكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة فما جعلها جزءا منها، بل جعلها غاية للحكمة العملية.» (6) حكمة الإشراق «وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية، كما أن الحكمة الطبيعية والإلهية منها بمنزلة الكلام منها، وبيان ذلك أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان، وبما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة، وبالجملة معرفة المبدأ والمعاد، والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين؛ أحدهما: طريقة أهل النظر والاستدلال. وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات.
والسالكون للطريقة الأولى إن التزموا ملة من ملل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فهم المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشاءون ، والسالكون إلى الطريقة الثانية إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون، فلكل طريقة طائفتان، وحاصل الطريقة الأولى الاستكمال بالقوة النظرية والترقي في مراتبها الأربعة، أعني مرتبة العقل الهيولى، والعقل بالفعل، والعقل بالملكة، والعقل المستفاد، والأخيرة هي الغاية القصوى لكونها عبارة عن مشاهدة النظريات التي أدركتها النفس بحيث لا يغيب عنها شيء؛ ولهذا قيل: لا يوجد المستفاد لأحد في هذه الدار، بل في دار القرار، اللهم إلا بعض المتجردين من علائق البدن والمنخرطين في سلك المجردات.»
33
وحاصل الطريقة الثانية الاستكمال بالقوة العملية والترقي في درجاتها التي:
أولها:
تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع والنواميس الإلهية.
وثانيها:
تهذيب الباطن عن الأخلاق الذميمة.
وثالثها:
تحلي النفس بالصور القدسية الخالصة عن شوائب الشكوك والأوهام.
ورابعها:
ملاحظة جمال الله - سبحانه وتعالى - وجلاله، وقصر النظر على كماله.
والدرجة الثالثة من هذه القوة، وإن شاركتها المرتبة الرابعة من القوة النظرية، فإنها تفيض على النفس منها صور المعلومات على سبيل المشاهدة كما في العقل المستفاد، إلا أنها تفارقها من وجهين:
أحدهما:
أن الحاصل المستفاد لا يخلو عن الشبهات الوهمية؛ لأن الوهم له استيلاء في طريق المباحثة، بخلاف تلك الصور القدسية، فإن القوى الحسية قد سخرت هناك للقوة العقلية؛ فلا تنازعها فيما تحكم به.
وثانيهما:
أن الفائض على النفس في الدرجة الثالثة قد تكون صورا كثيرة استعدت النفس بصفائها عن الكدورات وصقالتها عن أوساخ التعلقات؛ لأن تفيض تلك الصور عليها، كمرآة صقلت وحوذي بها ما فيه صور كثيرة، فإنه يتراءى فيها ما تسع من تلك الصور، والفائض عليها في العقل المستفاد هو العلم التي تناسب منها تلك المبادئ التي رتبت معا للتأدي إلى مجهول، كمرآة صقل شيء يسير منها فلا يرتسم فيها إلا شيء قليل من الأشياء المحاذية لها (ذكره ابن خلدون في «المقدمة»).
34 (7) طريق النظر وطريقة التصفية
ولطاش كبرى زاده المتوفى سنة 962ه/1554-1555م قول مفصل في الفرق بين طريقي النظر والتصفية، وحجة أهل كل منهما في المفاضلة بينهما، نورده فيما يلي:
المقدمة الرابعة في بيان النسبة بين طريق النظر وطريق التصفية، اعلم أن الكل متفقون على أن السعادة الأبدية، والسيادة السرمدية، لا تتم إلا بالعلم والعمل، وأنهما توأمان، وله توجهان؛ أحدهما: الشائع المشهور، وهو أنه لا يعتد بواحد منهما بدون الآخر؛ إذ العلم بدون العمل وبال، والعمل بلا علم ضلال، وقال الله تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه . وثانيهما: أن كلا منهما ثمرة للآخر، مثلا إذا تمهر الرجل في اكتساب العلم وحذق فيه، لا مندوحة له عن العمل بموجبه، إذ لو قصر في العمل لم يكن في علمه كمال، وأيضا إذا باشر الرجل العمل وجاهد فيه وارتاض حسبما بينوه من الشرائط، ينصب على قلبه العلوم النظرية بكمالها، كما قال الله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وهاتان طريقتان؛ الأولى منهما: طريقة الاستدلال. الثانية: طريقة المشاهدة. والأول درجة العلماء الراسخين، والثاني درجة الصديقين، وقد تنتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى؛ فيكون صاحبه مجمعا للبحرين؛ أي بحري الاستدلال والمشاهدة، أو العلم والعرفان، أو الشهادة والغيب.
وإذا عرفت أن السالكين إلى الحق، مع كثرة الطرق وخروجها عن حد الإحصاء، نوعان؛ أحدهما: ما يبتدئ من طريق العلم إلى العرفان، ومن طريق الشهادة إلى الغيب. وثانيهما: ما ينجلي الحق له بالجذبة الإلهية فيبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة.
قال بعض العارفين: يشبه أن يكون الأول طريقة الخليل، حيث ابتدأ من الاستدلال بأفول الشمس والقمر إلى وجود رب العالمين، والثاني طريقة الحبيب، حيث ابتدأ بشرح الصدور وكشف له سبحات
35
وجه ذي الجلال وأحرقته حتى انمحق جميع ما أدركه وتلاشى في ذاته، ولم يبق له لحظة إلى نفسه لفنائه عن نفسه، فتحقق رتبة كل شيء هالك إلا وجهه ذوقا وحالا لا علما وقالا.
هذا حال الجامعين بين المرتبتين، وأما السالكون إلى إحدى الطريقتين فقد اختلفوا، وقال أرباب النظر: الأفضل طريق النظر؛ لأن طريق التصفية صعب الوصول لأن مسلكها وعر، وإفضاؤها إلى المقصد بعيد؛ لأن محو العلائق إلى حد يؤدي إلى انكشاف المعارف متعذر بل قريب من الممتنع ، وإن أفضى إلى المقصد فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواس وخاطر يمحو ما حصل ويقطع ما وصل، على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء تلك المجاهدات الصعبة، والرياضات الشاقة.
وقال أرباب التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو في الأكثر عن شوب أحكام الوهم، ولا تخلص عن مخالطة الخيال في الغالب؛ ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون ويضلون، كما تراه في أكثر مذاهب الاعتزال، وغير ذلك من اعتقادات الجهال من أصحاب الضلال، وأيضا لا يتخلصون في مناظراتهم ومباحثاتهم عن اتباع الأهواء والعادات، بخلاف التصوف فإن ذلك تصفية للروح وجلاء للنفوس، وتطهير القلوب عن أحكام النفس وتخليتها عن الأوهام والحيالات، فلا يبقى إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية الحقة؛ فتنكشف عليهم علوم إلهية ومعارف ربانية، ويرد عليهم وارد إلهام هو حديث عهد بربه، وأما وعورة المسلك وبعده فلا يقدح في قوة اليقين وصحة العلم، مع أنه يسير على من يسره الله - تعالى - من السالكين سبل أنبيائه والمتبعين لكمال أوليائه.
وأما اختلال المزاج؛ فإن وقع فيقبل العلاج؛ لأنهم كما أنهم أطباء النفوس والأرواح كذلك عارفون أحوال الأبدان والأشباح، فالرياضة على ما شرطوه من الآداب والأحوال أمان من الفساد والاختلال، وخلاص من الأفزاع والأهوال.
يحكى أن أهل الصين والروم في زمان قديم، تباهوا في صناعة النقش والرسم، وطال بينهم النزاع والجدال، ودار بينهم الكلام في النقص والكمال، حتى أدى الافتخار في هذا الشأن إلى الاختبار والامتحان، فعين لكل من الطائفتين جدار بينهما حجاب ليتميز الكامل من الناقص في هذا الباب، فجمع أهل الصين من الأصباغ العجيبة والألوان الغريبة، وتكلفوا الصنائع النادرة والرسوم الباهرة، حتى استفرغوا المجهود في تحصيل المقصود، واشتغل أهل الروم عن الترسيم بالتصقيل، وعرفوا أن ترك التخلية إلى التحلية هو التكميل، فلما كشف الغطاء وارتفع الحجاب لمعرفة الحال بين الأصحاب، رأوا أن جانب أهل الروم تلألأ لجميع نقوش أهل الصين مع زيادة الصفاء ولطافة الصقالة والجلاء، فهذا مثال العلوم النظرية والكشفية، والأول يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء ، والثاني يحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى.
إذا عرفت هذا؛ فاعلم أن المحاكمة بين هذين الفريقين، وتعيين الأفضل من الطريقين، هي أن العلوم مع تكثر فنونها وتعدد شجونها منحصرة في أربعة أنواع: وذلك لأن الأشياء وجودا في أربع مراتب: في الأعيان. وفي الأذهان ، وفي العبارة. وفي الكتابة، فالعلوم المتعلقة في الأول من حيث حالها في نفس الأمر هي العلوم الحقيقية التي لا تتبدل باختلاف الأزمان وتجدد الملك والأديان، وهذه تسمى علوما حكمية إن جرى الباحث عن أحوالها فيها على مقتضى عقله، وعلوما شرعية إن بحث عنها فيها على قانون الإسلام، والعلوم المتعلقة بالثانية هي العلوم الإلهية المعنوية كالمنطق ونحوه، والعلوم المتعلقة بالأخيرين هي العلوم الآلية اللفظية أو الخطية، وهذه هي العلوم العربية المعتبرة في ديننا هذا لورود شريعتنا هذه على لسان العرب وعلى كتابته، ثم إن الثلاثة الأخيرة من هذه الأنواع لا سبيل إلى تحصيلها إلا بالكسب بالنظر، وأما النوع الأول منها فقد يتحصل بالنظر وقد يتحصل بالتصفية.»
36 (8) اصطباغ الكلام والتصوف بالفلسفة
وإذا كانت هذه النصوص تشعر بقوة الصلة بين العلوم الفلسفية، وعلم الكلام وعلم التصوف الشرعيين؛ فإن ابن خلدون في «المقدمة» بين، عند كلامه على هذين العلمين، في حدوثهما وتدرج كلام الناس فيهما صدرا بعد صدر، أنهما اختلطا بالفلسفة في آخر أمرهما.
يقول ابن خلدون في علم الكلام: «ولقد اختلطت الطريقتان - يعني طريقتي المتقدمين من المتكلمين والمتأخرين - عند هؤلاء المتأخرين، والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة؛ بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر.»
37
ويقول ابن خلدون في علم التصوف ما يشبه هذا القول؛ فهو يذكر ما نصه: «ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف، وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملئوا الصحف منه.»
38
ويقول في موضع آخر في نفس الفصل: «والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان، من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه.»
39
وجملة القول أن المؤلفين الإسلاميين لا يعدون علم الكلام وعلم التصوف من العلوم الفلسفية في حقيقة أمرهما، ولكنهم يرونهما قريبي الشبه بهذه العلوم، ويرون أن الفلسفة طغت عليهما في بعض أدوار تدرجهما فصبغتهما بالصبغة الفلسفية. (9) علم أصول الفقه والفلسفة
وعلم أصول الفقه لم يخل من أثر الفلسفة أيضا، وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في الفصل الخاص بأصول الفقه، وما يتعلق به من الجدل والخلافيات؛ فهو يذكر أن للمتكلمين فيه طريقة عني بها الناس، والمتكلمون ليسوا بعيدين من الفلاسفة، ويجعل ابن خلدون علم الخلافيات وعلم الجدل تبعا لعلم أصول الفقه، وهما علمان لا ينكر صلتهما بالمنطق منكر، وعلم الجدل كما في كتاب «مفتاح السعادة»: «هو علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إبرام أي وضع أريد، وعلى هدم أي وضع كان، وهذا من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف، وهذا مأخوذ من الجدل الذي هو أحد أجزاء مباحث المنطق، لكنه خص بالعلوم الدينية.»
40
وفي كتاب «أبجد العلوم» بعد نقل كلام «مفتاح السعادة»:
ولا يبعد أن يقال: إن علم الجدل هو علم المناظرة؛ لأن المآل منهما واحد، إلا أن الجدل أخص منه، ويؤيده كلام ابن خلدون في «المقدمة»؛ حيث قال: «هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم ... ولذلك قيل فيه: إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه، كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره ...»
41
وعلم الخلاف هو كما في الكتاب نفسه: «الجدل الواقع بين أصحاب المذاهب الفرعية كأبي حنيفة والشافعي وأمثالهما»، والفرق بينه وبين علم الجدل بالمادة والصورة، فإن الجدل بحث عن مواد الأدلة الخلافية، والخلاف بحث عن صورها.»
42
وفي موضع آخر من الكتاب نفسه: «علم الخلاف، وهو علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلة الإجمالية والتفصيلية، الذاهب إلى كل منها طائفة من العلماء أفضلهم وأمثلهم أبو حنيفة ... إلخ.»
43
ويقول ابن خلدون في «المقدمة» ما خلاصته: «اعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة واقتصر الناس على تقليدهم، أقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة، وأجري الخلاف بين الآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية، وجرت المناظرات في تصحيح كل مقلد مذهب إمامه، وكان في هذه المناظرات بيان مأخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم، وكان هذا الصنف يسمى بالخلافيات.»
44
بل قد جعل طاش كبرى زاده فروع علم أصول الفقه أربعة علوم: «علم النظر، وهو علم المنطق الباحث عن أحوال الأدلة السمعية أو حدود الأحكام الشرعية، وعلم المناظرة، وهو علم باحث عن أحوال المتخاصمين؛ ليكون ترتيب البحث بينهما على وجه الصواب حتى يظهر الحق بينهما، ثم علم الجدل، وعلم الخلاف.»
45
وكل هذه العلوم من العلوم العقلية الفلسفية، وجعلها فروعا لعلم أصول الفقه يدل على مبلغ اصطباغ هذا العلم بالصبغة الفلسفية.
هوامش
الفصل الرابع
الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين
بقي أمر الصلة بين الفلسفة والدين في رأي فلاسفة الإسلام وغيرهم من المؤلفين الإسلاميين، وهو الأمر الذي جعله بعض الغربيين مناط الابتكار في الفلسفة الإسلامية، وجعله بعضهم سببا لانقلاب فلاسفة الإسلام مبشرين بالدين الإسلامي ودعاة له. (1) رأي الفلاسفة
يقول ابن حزم المتوفى سنة 456ه/1063م في كتابه «الفصل في الملل والنحل»: «الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها، والغرض المقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه، لا غيره، هو الغرض في الشريعة؛ هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة.»
1
ودعوى ابن حزم أنه لا خلاف بين أحد من الفلاسفة، ولا بين أحد من العلماء بالشريعة على أن ما ذكره هو غرض الشريعة والفلسفة جميعا ليست دعوى مسلمة، فإن معنى كلام ابن حزم هو أن غرض الفلسفة والشريعة غرض عملي، وليس ذلك بمذهب الفلاسفة ولا هو بمذهب الدينيين.
قال ابن رشد المتوفى سنة 595ه/1198م في كتابه «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: «وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق، والعلم الحق هو معرفة الله - تعالى - وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي، والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي.»
2
وقال الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل»: «قالت الفلاسفة: ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها، وإنما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها، وهي لا تنال إلا بالحكمة، فالحكمة تطلب إما ليعمل بها، وإما تعلم فقط، فانقسمت الحكمة قسمين: علمي وعملي ... فالقسم العملي هو عمل الخير، والقسم العلمي هو علم الحق.»
3
وبهذا تتشابه غاية الدين وغاية الفلسفة، وإن لم يكن هذا التشابه على الوجه الذي قرره ابن حزم، فكلاهما يرمي إلى تحقيق السعادة من طريق الاعتقاد الحق وعمل الخير، بل موضوعات الدين وموضوعات الفلسفة واحدة، وذلك رأي الفارابي في كتابه «تحصيل السعادة»؛ إذ يقول: «فالملة محاكية للفلسفة عندهم، وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلاهما تعطي المبادئ القصوى للموجودات، فإنهما يعطيان علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان، وهي السعادة القصوى والغاية القصوى في كل واحد من الموجودات الأخر، وكل ما تعطي الفلسفة فيه البراهين اليقينية؛ فإن الملة تعطي فيه الإقناعات، والفلسفة تتقدم بالزمان الملة.»
4
والدين والحكمة عند هؤلاء الفلاسفة يفيض كلاهما عن واجب الوجود على عقول البشر بواسطة العقل الفعال؛ إذ المعارف كلها صادرة عن واجب الوجود بواسطة العقل الفعال، وحيا كانت تلك المعرفة أم غير وحي، فلا فرق بين الحكمة والدين من جهة غايتهما، ولا من جهة مصدرهما وطريق وصولهما إلى الإنسان، والفرق بين الدين والفلسفة عند الفارابي هو من جهة أن طرق الفلسفة يقينية، أما طريق الدين فإقناعي، ومن جهة أخرى تعطي الفلسفة حقائق الأشياء كما هي، ولا يعطي الدين إلا تمثيلا لها وتخييلا، وقد ذكر الفارابي ذلك في مواضع مختلفة من كتبه، منها قوله في كتاب «تحصيل السعادة»: «تفهيم الشيء على ضربين؛ أحدهما: أن يعقل ذاته، والثاني: أن يتخيل بمثاله الذي يحاكيه، وإيقاع التصديق يكون بأحد طريقتين: إما بطريق البرهان اليقيني، وإما بطريق الإقناع، ومتى حصل علم الموجودات أو تعلمت فإن عقلت معانيها أنفسها ووقع التصديق بها عن البراهين اليقينية كان العلم المشتمل على تلك المعلومات فلسفة، وإن علمت بأن تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها، وحصل التصديق بما خيل منها عن الطرق الإقناعية، كان المشتمل على تلك المعلومات بتسمية القدماء ملة.»
5
ويرى ابن سينا أن بين الدين والفلسفة فرقا آخر، هو أن وجهة الدين عملية أصالة، ووجهة الفلسفة بالأصالة نظرية، وهو يقول في رسالة «الطبيعيات»: «مبدأ «الحكمة العملية» مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تتبين بها، وتتصرف فيها بعد ذلك القوة النظرية من البشر بمعرفة القوانين واستعمالها في الجزئيات ... ومبادئ «الحكمة النظرية» مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، ومتصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية، على سبيل الحجة.»
6
ويقول الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» في معنى قول ابن سينا ما يأتي: «الأنبياء أيدوا بأمداد روحانية لتقرير القسم العملي، وبطرف ما من القسم العلمي، والحكماء تعرضوا لأمداد عقلية تقريرا للقسم العلمي، وبطرف ما من القسم العملي، فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون، ويتشبه بالإله الحق - تعالى - بغاية الإمكان، وغاية الدين أن يتجلى له نظام الكون فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم، وينتظم مصالح العباد، وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب وتشكيل وتخييل؛ فكل ما وردت به أصحاب الشرائع والملل مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة، إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم، وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم.»
7
والتشكيل والتخييل في كلام الشهرستاني خاص بالأمور العلمية؛ فالفلاسفة يقولون، كما يذكره ابن تيمية المتوفى سنة 728ه/1327م في كتابه «موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول»: «إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر، وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله - تعالى - جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيما محسوسا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر؛ لأن مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا ، وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور؛ إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذا الطريق، وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منهم هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبا وباطلا ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب وبالباطل للمصلحة.
ثم إن من هؤلاء من يقول: «النبي كان يعلم الحق، ولكن أظهر خلافه للمصلحة.»، ومنهم من يقول: «ما كان يعلم الحق كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم.» وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل على النبي، وأما الذين يقولون: إن النبي كان يعلم ذلك، فقد يقولون إن النبي أفضل من الفيلسوف؛ لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة، وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف.»
8
وقول ابن تيمية تقرير واضح لآراء الفلاسفة، وإن كان في أسلوبه وألفاظه مما لم تجر به عادة الحكماء.
هذه خلاصة رأي الفلاسفة الإسلاميين في العلاقة بين الدين والفلسفة، وإذا كان الفلاسفة يحاولون غالبا التوفيق بين الشريعة والحكمة في أسلوب ليس فيه عنف، ولا نزوع إلى كبرياء، فإن لبعضهم أساليب تكاد تكون مهاجمة للدينيين أو دفاعا بعنف.
نقل أبو حيان التوحيدي، المتوفى سنة 403ه/1012-1013م على ما استظهره السندوبي طابع كتاب «المقابسات». وفي «معجم المطبوعات العربية» لسركيس أنه توفي سنة 400ه/1009-1010م، عن المقدسي الفيلسوف أنه قال: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا، وبين مدبر المريض وبين مدبر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعا، والطبع قابلا ، والطبيب ناصحا، وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل، وفرغه لها، وعرضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى، وقد صار مستحقا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الخلود والديمومة (والسرمدية)،
9
وإن كسب من يبرأ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضا، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل ؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برهانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقنة، وهذه روحانية وهذه جسمية، وهذه دهرية وهذه زمانية.»
10 (2) رأي علماء الدين
أما علماء الدين فمنزعهم غير ذلك المنزع، وهم في أكثر الأمر خصوم للفلسفة في غير هوادة ولا رفق، ونقول: في أكثر الأمر؛ لأن بعض الدينيين ممن كان للفلسفة في عقولهم أثر لا يخلو طعنهم على الحكمة من رفق. وفي كتاب «اللطائف» لأحمد بن عبد الرزاق المقدسي أن أبا عثمان الجاحظ مدح الفلسفة وذمها فيما مدحه وذمه من العلوم، معربا عن قدرته على الكلام وبعد شأوه في البلاغة، قال في الفلسفة مادحا: «قيل ما الفلسفة؟ قال: أداة الضمائر، وآلة الخواطر، ونتائج العقل، وأداة لمعرفة الأجناس والعناصر، وعلم الأعراض والجواهر، وعلل الأشخاص والصور، واختلاف الأخلاق والطبائع والسجايا والغرائز.»
11
وفي باب الذم: «قيل: ما الفلسفة؟ قال: كلام مترجم وعلم مرجم، بعيد مداه، قليل جدواه، مخوف على صاحبه سطوة الملوك وعداوة العامة.»
12
والجاحظ من المعتزلة، بل هو رأس فرقة من فرق المعتزلة تنتسب إليه، وتسمى: «الجاحظية»، والصلة بين الفلسفة وبين مذاهب الاعتزال معروفة.
وفي العلماء الدينيين من لا صلة لهم بالاعتزال، ولكنهم مع ذلك ليسوا غرباء عن الفلسفة، وليس في كلامهم عن الصلة بينها وبين الدين تلك الجفوة التي نجدها في أساليب المتأخرين، ومن هؤلاء العلماء أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المتوفى سنة 502ه/1108-1109م، المعتبر من أئمة السنة، وصاحب كتاب «الذريعة إلى مكارم الشريعة» الذي قيل: إن الغزالي كان يستصحبه دائما ويستحسنه لنفاسته.
يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين»: «واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء، لا يكاد يتوصل إلا إلى معرفة كليات الأشياء دون جزئياتها ، نحو أن يعلم جملة حسن اعتقاد الحق وقول الصدق وتعاطي الجميل، وحسن استعمال العدالة وملازمة العفة، ونحو ذلك من غير أن يعرف ذلك في شيء شيء.
والشرع يعرف كليات الأشياء ويبين ما الذي يجب أن يعتقد في شيء شيء، وما الذي هو معد له في شيء شيء، ولا يعرفنا العقل مثلا أن لحم الخنزير والدم والخمر محرم، وأنه يجب أن يتحامى من تناول الطعام في وقت معلوم، وألا تنكح ذوات المحارم، وألا تجامع المرأة في حال الحيض، فإن أشباه ذلك لا سبيل إليها إلا بالشرع؛ فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة، والدال على مصالح الدنيا والآخرة، ومن عدل عنه فقد ضل سواء السبيل.»
13
والغزالي المتوفى سنة 505ه/1111م، مع شدته في الرد على الفلاسفة ومعاداة الفلسفة، لم يبلغ في ذلك مبلغ من رد الفلسفة جملة وحرم الاشتغال بها من غير تفصيل، وهو يذكر في كتاب «تهافت الفلاسفة»: «أن الخلاف بينهم وبين غيرهم من الفرق ثلاثة أقسام: قسم يرجع النزاع فيه إلى اللفظ، وقسم لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين، والقسم الثالث ما يتعلق النزاع فيه بأصل من أصول الدين، كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع وبيان حشر الأجساد والأبدان.»
ثم يقول: «فهذا الغش ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه.»
14
ويرسم رأي الغزالي فيما بين الدين والفلسفة من الصلة قوله في كتاب «المنقذ من الضلال» عند الكلام عن الإلهيين من الفلاسفة: «الصنف الثالث: الإلهيون، وهم المتأخرون، ومنهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس، وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق وهذب العلوم، وخمر ما لم يكن مخمرا من قبل، وأنضج لهم ما كان فجا من علومهم، وهم بجملتهم وردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم «وكفى الله المؤمنين القتال» بتقاتلهم، ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم، إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين، وما نقله غيرهما ليس يخلو عن تخبط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم، وما لا يفهم، كيف يرد أو يقبل؟!
ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس - بحسب نقل هذين الرجلين - ينحصر في ثلاثة أقسام؛ قسم يجب التكفير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا فلنفصله.»
15
وقد يعتبر كلام الغزالي، على ما فيه من قسوة أحيانا، رفيقا إذا قيس إلى كلام كثير من المتأخرين: ويقول الشيخ محمد عبده في «رسالة التوحيد» في وصف موقف الدينيين من الفلاسفة منذ عهد الغزالي: «وجاء الغزالي ومن على طريقته فأخذوا جميع ما وجد في كتب الفلاسفة مما يتعلق بالإلهيات، وما يتصل بها من الأمور العامة أو أحكام الجواهر والأعراض، ومذاهبهم في المادة وتركيب الأجسام، وجميع ما ظنه المشتغلون بالكلام يمس شيئا من مباني الدين، واشتدوا في نقده، وبالغ المتأخرون منهم حتى كاد يصل بهم السير إلى ما وراء الاعتدال.»
16
ومبالغة المتأخرين في معاداة الفلسفة تظهر فيما جاء في «فتاوى ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والعقائد»، وابن الصلاح هو أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن تقي الدين الشهرزوري المتوفى سنة 643ه، وقد جاء في «فتاواه» ما نصه: «مسألة فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعلما وتعليما، وهل المنطق جملة وتفصيلا مما أباح الشرع تعلمه وتعليمه، والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون ذكروا ذلك أو أباحوا الاشتغال به أو سوغوا الاشتغال به أم لا؟ وهل يجوز أن تستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات المنطقية أم لا؟ وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا؟ وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهرا به؟ ما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره؟ وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروفا بتعليمها وإقرائها والتصنيف فيها وهو مدرس في مدرسة من مدارس العلم، فهل يجب على سلطان تلك البلدة عزله وكفاية الناس شره؟
أجاب رضي الله عنه: «الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه ويظلم قلبه عن نبوة نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم
كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره غافل، مع انتشار آياته المستبينة ومعجزاته المستنيرة، حتى لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها فجمع منها ألف معجزة، وعددناه مقصرا؛ إذ هي فوق ذلك بأضعاف لا تحصى، فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره
صلى الله عليه وسلم
بل تتجدد بعده
صلى الله عليه وسلم
على تعاقب العصور، وذلك أن كرامات الأولياء من أمته، وإجابات المتوسلين به في حوائجهم وإغاثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم، براهين له قواطع، ومعجزات له سواطع، ولا يعدها عاد ولا يحصرها حاد. أعاذنا الله من الزيغ عن ملته، وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته.
وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه من إباحة الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأمة وساداتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه، فطهرهم من أوصابه، وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية، فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة، وليس للأحكام الشرعية، والحمد لله، افتقار إلى المنطق أصلا، وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع
17
قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها؛ حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به، فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم
18
ويخرجهم عن المدارس ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام لتخمد نارهم وتمحى آثارها وآثارهم، يسر الله ذلك وعجله، ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله، وإن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم، فإن حاله يكذبه ، والطريق في قلع الشر قلع أصوله، وانتصاب مثله مدرسا من العظائم حمله، والله - تعالى - ولي التوفيق والعصمة، وهو أعلم.»
19
ومن أمثلة ذلك أيضا قول المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده المتوفى سنة 962ه/1554-1555م في كتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» في موضوعات العلوم: «وإياك أن تظن من كلامنا هذا أن
20
تعتقد كل ما أطلق عليه اسم العلم حتى الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا، ونقحه نصير الدين الطوسي، ممدوحا، هيهات هيهات! إن كل ما خالف الشرع فهو مذموم، سيما طائفة سموا أنفسهم حكماء الإسلام عكفوا على دراسة ترهات أهل الضلال وسموها الحكمة، وربما استجهلوا من عرى عنها، وهم أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله والمحرفون كلم الشريعة عن مواضعه، ولا تكاد تلقى أحدا منهم يحفظ قرآنا ولا حديثا، وإنما يتجملون برسوم الشريعة حذرا من تسلط المسلمين عليهم، وإلا فهم لا يعتقدون شيئا من أحكام الشرع، بل يريدون أن يهدموا قواعده وينقضوا عراه عروة عروة. قيل:
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا
لصون دمائهم عن أن تسالا
فيأتون المناكر في نشاط
ويأتون الصلاة وهم كسالى
فالحذر الحذر منهم، وإنما الاشتغال بحكمتهم حرام في شريعتنا، وهم أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى؛ لأنهم يتسترون بزي أهل الإسلام، نعم، إن من رسخ قواعد الشريعة في قلبه، وامتلأ قلبه من عظمة هذا النبي الكريم وشريعته، وتأيد دينه بحفظ الكتاب والسنة، وقوى مذهبه في الفروع، يحل له النظر في علوم الفلسفة، لكن بشرطين؛ أحدهما: ألا يتجاوز مسائلهم المخالفة للشريعة، وإن تجاوزها فإنما يطالعها للرد لا لغيره. وثانيهما: ألا يمزج كلامهم بكلام علماء الإسلام، ولقد حصل ضرر عظيم على المسلمين من هذه الجهة؛ لعدم قدرتهم على تمييز الجيد من الرديء، وربما يستدلون بإيرادها في كتب الكلام على صحتها، وما كان هذا إلا منذ ظهر نصير الدين الطوسي وأضرابه، لا حياهم الله، وإنما السلف، مثل الإمام الغزالي والإمام الرازي، مزجوا كتب الكلام بالحكمة، لكن للرد كما تراه في تصانيفهم، ولا بأس بذلك، بل ذلك إعانة للمسلمين وحفظ لعقائدهم، ثبتنا الله وإياكم على الصراط المستقيم، إنه جواد كريم.»
21
ومن المتقدمين قبل الغزالي من كانوا حربا على الفلسفة لا يعرفون هوادة ولا لينا، وجل هذا الصنف ممن لم يتذوقوا طعم الفلسفة ولم يتنسموا ريحها. وفي كلامهم من الخلط ما يدل على أنهم لا يتكلمون عن علم فيما عالجوا من أمور الفلسفة، ومن أمثلة ذلك ما جاء في كتاب «مفيد العلوم ومبيد الهموم» للشيخ جمال الدين أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي المتوفى سنة 383ه/993م، «الباب الثالث في الرد على الفلاسفة»: «وهم قوم من اليونانيين تحذلقوا
22
في المعقولات حتى وقعوا في وادي الحيرة والخباط،
23
وتحيروا في الإلهيات، وبنوا مقالاتهم على التشهي المحض والدعاوى الصرف، ويزعمون أنهم أكيس خلق الله، وسياق مذهبهم يدل على أنهم أجهل خلق الله وأحمق الناس، وأساس الإلحاد والزندقة مبني على مذهبهم، والكفر كله شعبة من شعبهم، وكانوا يترهبون لقطع النسل، ورئيسهم أفلاطون الملحد، لعنه الله، قال لموسى بن عمران رسول الله وكليمه: «كل شيء تقوله أصدقك فيه إلا قولك: «كلمني علة العلل».» انظر إلى اعتقاد هذا الخبيث، كان يكذب رسول الله ويعتقد أن الله - تعالى - لا كلام له البتة، تسميته
24
توجب بنفسها من غير اختيار، ويعتقد أن العالم قديم، وإخوانه كأرسطاطاليس وسقراط وجالينوس كلهم ملاحدة العصر وزنادقة الدهر يقينا، فإن هذا تعرفه العلماء دون الأمراء، ثم إن الله - سبحانه وتعالى - علم خبث سرائرهم؛ فأرسل الله عليهم سلا ففرقهم، وعلومهم المشئومة عربتها أقوام في عهد المأمون الخليفة بإذنه ووصيته، ثم اعتقاد الفلاسفة أن الآلهة ثلاثة: المبدأ، والعقل، والنفس، وقضوا بكون العقل والنفس أزليين، وينفون الصفات، ولا يقولون إن الله حي عالم قادر مريد سميع متكلم البتة، وزعموا أن الحركات أزلية سرمدية، إلى غير ذلك، فهم مشركون ملحدون، لعنهم الله!»
25
أما الفقهاء من علماء الدين المتأخرين فالظاهر أنهم لا يرون بين الفلسفة وبين الشعبذة
26
والسحر
27
والكهانة
28
فرقا، يقول النووي محيي الدين أبو زكريا يحيى المتوفى سنة 677ه/1278م في كتاب «المجموع شرح المهذب»: «فصل، قد ذكرنا أقسام العلم الشرعي، ومن العلوم الخارجة عنه ما هو محرم أو مكروه ومباح، فالمحرم كتعلم السحر؛ فإنه حرام على المذهب الصحيح، وبه قطع الجمهور، وفيه خلاف نذكره في الجنايات؛ حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى، وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم الطبائعيين،
29
وكل ما كان سببا لإثارة الشكوك، ويتفاوت في التحريم.»
30
ويقول صاحب كتاب «الدر المختار شرح تنوير الأبصار» علاء الدين محمد بن علي الحصكفي المتوفى سنة 1088ه/1677م: «واعلم أن تعلم العلم يكون فرض عين، وهو بقدر ما يحتاج لدينه وفرض كفاية، وهو ما زاد عليه لنفع غيره ومندوبا، وهو التبحر في الفقه وعلم القلب، وحراما، وهو علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين والسحر والكهانة.»
31
وقد يصح أن يعد من الفقهاء شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي المتوفى سنة 751ه/1350م، وليس ابن قيم الجوزية ولا أستاذه شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد المعروف بابن تيمية المتوفى سنة 728ه/1327م من أنصار الفلسفة، لكنهما ممن اتصل بها، وألم بعلومها فيما ألما به من مختلف العلوم، وأسلوبهما في النقد والجدل عنيف، غير أن نفحات النظر العميق والاطلاع الواسع تخفف من لذع أسلوبهما.
وقد عرض ابن قيم الجوزية في كتاب «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» لنقد العلوم الفلسفية، فقال مبينا ما في المنطق من تهافت وقلة جدوى، ومشيرا إلى صلته بالدين وحكم الشرع في تعلمه «وأما المنطق فلو كان علما صحيحا كان غايته أن يكون كالمساحة والهندسة ونحوها، فكيف وباطله أضعاف حقه، وفساده وتناقض أصوله واختلاف مبانيه توجب مراعاتها للذهن أن يزيغ في فكره، ولا يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه للعقل الصريح، وأخبر بعض من كان قد قرأه وعني به، أنه لم يزل متعجبا من فساد أصوله وقواعده، ومباينتها لصريح المعقول، وتضمنها لدعاوى محضة غير مدلول عليها، وتفريقه بين متساويين، وجمعه بين مختلفين، فيحكم على الشيء بحكم، وعلى نظيره بضد ذلك الحكم، أو يحكم على شيء بحكم ثم يحكم على مضاده أو مناقضه به .
قال: إلى أن سألت بعض رؤسائه وشيوخ أهله عن شيء من ذلك، فأفكر فيه ثم قال: هذا علم قد صقلته الأذهان، ومرت عليه من عهد القرون الأوائل، أو كما قال، فينبغي أن نتسلمه من أهله، وكان هذا من أفضل ما رأيت في المنطق، قال: إلى أن وقفت على رد متكلمي الإسلام عليه، وتبيين فساده وتناقضه، فوقفت على مصنف لأبي سعيد السيرافي النحوي في ذلك، وعلى رد كثير من أهل الكلام والعربية عليهم كالقاضي أبي بكر بن الطيب، والقاضي عبد الجبار، والجبائي وابنه، وأبي المعالي، وأبي القاسم الأنصاري، وخلق لا يحصون كثرة، ورأيت استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الإشكال ومخالفتها ما كان ينقدح لي كثير منه، ورأيت آخر من تجرد للرد عليهم شيخ الإسلام - قدس الله روحه - فإنه أتى في كتابيه الكبير والصغير بالعجب العجاب، وكشف أسرارهم وهتك أستارهم، فقلت في ذلك:
واعجبا لمنطق اليونان
كم فيه من إفك ومن بهتان
مخبط لجيد الأذهان
ومفسد لفطرة الإنسان
مضطرب الأصول والمباني
على شفا هار بناه الباني
أحوج ما كان إليه العاني
يخونه في السر والإعلان
يمشي به اللسان في الميدان
مشي مقيد على صفوان
متصل العثار والتواني
كأنه السراب بالقيعان
بدا لعين الظمئ الحيران
فأمه بالظن والحسبان
يرجو شفاء غلة الظمآن
فلم يجد ثم سوى الحرمان
فعاد بالخيبة والخسران
يقرع سن نادم حيران
قد ضاع منه العمر في الأماني
وعاين الخفة في الميزان
وما كان من هوى النفوس بهذه المنزلة فهو بأن يكون جهلا أولى منه بأن يكون علما، تعلمه فرض كفاية أو فرض عين، وهذا الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام وتصانيفهم، وسائر أئمة العربية وتصانيفهم، وأئمة التفسير وتصانيفهم، لمن نظر فيها، هل راعوا فيها حدود المنطق وأوضاعه؟ وهل صح لهم علمهم بدونه أم لا؟ بل هم كانوا أجل قدرا وأعظم عقولا من أن يشغلوا أفكارهم بهذيان المنطقيين، وما دخل المنطق على علم إلا أفسده وغير أوضاعه وشوش قواعده.»
32
هذا وقد بدأنا حديثنا في الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين بذكر آراء الفلاسفة في الغرض من الدين والغرض من الفلسفة، فيحسن أن نختم هذا البحث ببيان آراء الدينيين في الغرض من الدين استكمالا لجميع جوانب الموضوع، وابن قيم الجوزية يبسط الآراء المختلفة في بيان المقصود من الشرائع عند المسلمين من فلاسفة وغيرهم، مع رد ما لا يرضاه واختيار ما يرتضيه، وذلك في كتاب «مفتاح دار السعادة» فيقول: «فصل، وأما ما ذكره الفلاسفة من مقصود الشرائع، وأن ذلك لاستكمال النفس قوى العلم والعمل، والشرائع ترد بتمهيد ما تقرر في العقل بتعبيره ... إلخ، فهذا مقام يجب الاعتناء بشأنه، وألا نضرب عنه صفحا، فنقول: للناس في المقصود بالشرائع والأوامر والنواهي أربعة طرق:
أحدها:
طريق من يقول من فلاسفة وأتباعهم من المنتسبين إلى الملل: إن المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس وتعديلها لتستعد بذلك لقبول الحكمة العلمية والعملية، ومنهم من يقول لتستعد بذلك لأن تكون محلا لانتقاش صور المعقولات فيها؛ ففائدة ذلك عندهم كالفائدة الحاصلة من صقل المرآة لتستعد لظهور الصور فيها، وهؤلاء يجعلون الشرائع من جنس الأخلاق الفاضلة والسياسات العادلة؛ ولهذا رام فلاسفة الإسلام الجمع بين الشريعة والفلسفة، كما فعل ابن سينا والفارابي وأضرابهما، وآل بهم إلى أن تكلموا في خوارق العادات والمعجزات على طريق الفلاسفة المشائين، وجعلوا لها أسبابا ثلاثة؛ أحدها: القوى الفلكية، والثاني: القوى النفسية، والثالث: القوى الطبيعية، وجعلوا جنس الخوارق جنسا واحدا، وأدخلوا ما للسحرة وأرباب الرياضة والكهنة وغيرهم مع ما للأنبياء والرسل في ذلك، وجعلوا سبب ذلك كله واحدا وإن اختلفت بالغايات، والنبي قصده الخير، والساحر قصده الشر، وهذا المذهب من أفسد مذاهب العالم وأخبثها، وهو مبني على إنكار الفاعل المختار وأنه - تعالى - لا يعلم الجزئيات، ولا يقدر على تغيير العالم، ولا يخلق شيئا بمشيئته وقدرته، وعلى إنكار الجن والملائكة ومعاد الأجسام، وبالجملة فهو مبني على الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وليس هذا موضع الرد على هؤلاء وكشف باطلهم وفضائحهم؛ إذ المقصود ذكر طرق الناس في المقصود بالشرائع والعبادات، وهذه الفرقة غاية ما عندها في العبادات والأخلاق والحكمة العلمية
33
أنهم رأوا النفس لها شهوة وغضب بقوتها العملية، ولها تصور وعلم بقوتها العلمية، فقالوا كمال الشهوة في العفة، وكمال الغضب في الحلم والشجاعة، وكمال القوة النظرية بالعلم، والتوسط في جميع ذلك بين طرفي الإفراط والتفريط هو العدل.
هذا غاية ما عند القوم من المقصود بالعبادات والشرائع، وهو عندهم غاية كمال النفس، وهو استكمال قوتيها العلمية والعملية، فاستكمال قوتها العلمية عندهم بانطباع صورة المعلومات في النفس، واستكمال قوتها العملية بالعدل، وهذا مع أنه غاية ما عندهم من العلم والعمل، وليس فيه بيان خاصية النفس التي لا كمال لها بدونه البتة، وهو الذي خلقت له، وأريد منها، بل ما عرفه القوم؛ لأنه لم يكن عندهم من معرفة متعلقه إلا نزر يسير غير مجد ولا محصل للمقصود، وذلك معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة ما ينبغي لجلاله، وما يتعالى ويتقدس عنه، ومعرفة أمره ودينه، والتمييز بين مواقع رضاه وسخطه، واستفراغ الوسع في التقرب إليه، وامتلاء القلب بمحبته، بحيث يكون سلطان حبه قاهرا لكل محبة، وألا سعادة للعبد في دنياه ولا أخراه إلا بذلك، ولا كمال للروح بدون ذلك البتة ...
فليس في حكمتهم العلمية إيمان بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه، وليس في حكمتهم العملية عبادته وحده لا شريك له، واتباع مرضاته واجتناب مساخطه، ومعلوم أن النفس لا سعادة لها ولا فلاح إلا بذلك.
فليس من حكمتهم العلمية والعملية ما تسعد به النفوس وتفوز؛ ولهذا لم يكونوا داخلين في الأمم السعداء في الآخرة، وهم الأمم الأربعة المذكورون في قوله تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة، آية 62) ...
الطريق الثاني:
طريق من يقول من المعتزلة ومن تابعهم: إن الله - سبحانه - عرضهم بها للثواب، واستأجرهم بتلك الأعمال للخير، فعاوضهم عليها معاوضة، قالوا: والإنعام منه في الآخرة بدون الأعمال، غير حسن؛ لما فيه من تكرير منة العطاء ابتداء، ولما فيه من الإخلال بالمدح والثناء والتعظيم الذي لا يستحق إلا بالتكليف، ومنهم من يقول: إن الواجبات الشرعية لطف في الواجبات العقلية، ومنهم من يقول: إن الغاية المقصودة التي يحصل بها الثواب هي العمل، والعلم وسيلة إليه، حتى ربما قالوا ذلك في معرفة الله تعالى، وأنها إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العملية، وهذه الأقوال تصور العاقل اللبيب لها حق التصور كاف في جزمه ببطلانها، رافع عنه مئونة الرد عليها، والوجوه الدالة على بطلانها أكثر من أن تذكر ها هنا.
الطريق الثالث:
طريق الجبرية ومن وافقهم، أن الله - سبحانه - امتحن عباده بذلك وكلفهم، لا لحكمة ولا لغاية مطلوبة له، ولا بسبب من الأسباب؛ فلا لام تعليل ولا باء سبب، إن هو إلا محض المشيئة وصرف الإرادة، كما قالوا في الخلق سواء، وهؤلاء قابلوا من قبلهم من القدرية والمعتزلة أعظم مقابلة، فهما طرفا نقيض لا يلتقيان.
والطريق الرابع:
طريق أهل العلم والإيمان الذين عقلوا عن الله أمره ودينه، وعرفوا مراده بما أمرهم ونهاهم عنه، وهي أن نفس معرفة الله ومحبته، وطاعته والتقرب إليه، وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته، وأن الله - سبحانه - يستحقه لذاته، وهو - سبحانه - المحبوب لذاته، الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتأله إلا له؛ فهو يستحق ذلك لأنه أهل أن يعبد، ولو لم يخلق جنة ولا نارا، ولو لم يضع ثوابا ولا عقابا، كما جاء في بعض الآثار: «لو لم أخلق جنة ولا نارا، أما كنت أهلا أن أعبد؟» فهو - سبحانه - يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لذاته، ولما له من أوصاف الكمال ونعوت الجلال .
وحبه والرضا به، ومنه، والذل له، والخضوع، والتعبد، هو غاية سعادة النفس وكمالها.»
34 •••
بينا سبيل الباحثين الغربيين في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ استقرت النهضة الحديثة لتاريخ الفلسفة إلى أيامنا هذه، وهؤلاء الباحثون يعرضون للفلسفة الإسلامية في مصنفاتهم في التاريخ العام للفلسفة، كما صنع تنمان وبرهيه، أو في مصنفاتهم في تاريخ الفلسفة في القرون الوسطى كما فعل وولف، وقد أخذ المستشرقون يعرضون لدراسات خاصة بتاريخ الفلسفة الإسلامية مثل رنان في كتابه «ابن رشد ومذهبه»، ودي بور في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام».
35
وقد صورنا أيضا منازع المؤلفين المسلمين في الكلام على الفلسفة الإسلامية تلقفنا ذلك من كتبهم في الموضوعات المتفرقة، فإن تاريخ الفلسفة بالمعنى الحديث لم يوجد في الإسلام، والذي عرفه المسلمون من دراسة تاريخ الفلسفة هو كتب الطبقات والتراجم، وقد ذكر صاحب كتاب «كشف الظنون» مما يدخل في هذا الباب الكتب الآتية: (1) «تاريخ حكماء» للإمام محمد عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548ه/1153-1154م. (2) «صوان الحكمة»
36
لأبي جعفر بن بويه ملك سجستان، ذكره الشهرزوري في تاريخ الحكماء. (3) «صوان الحكم في طبقات الحكماء» للقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد القرطبي، وقد ذكر في «كشف الظنون» في موضع آخر باسم «طبقات الحكماء» المسمى «بصوان الحكمة». وفي موضع ثالث باسم «تاريخ الحكماء» لصاعد و«تاريخ صوان الحكمة». (4)
كتاب للأمير محمد الشهير بالسناني مات سنة 548ه/1153-1154م، والظاهر أن اسمه «طبقات الحكماء»، ويسمى «صوان الحكمة»، كما يشعر به كلام «كشف الظنون». (5) «طبقات الحكماء وأصحاب النجوم والأطباء» للوزير علي بن يوسف القفطي المتوفى سنة 646ه/1248-1249م واختصره ابن أبي حمزة وعبد الله بن سعد الأزدي.
هكذا ورد في «كشف الظنون»، وهو نفسه الكتاب المسمى «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، ويسمى «تاريخ الحكماء»، و«تذكرة الحكماء»، و«أسماء الحكماء وتراجمهم»، واختصره الشيخ محمد بن علي بن محمد الخطيبي الزوزني، والمطبوع في ليبسك. وفي مصر باسم كتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» هو مختصر الزوزني. (6)
كتاب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» للشيخ موفق الدين أحمد بن قاسم الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668ه/1269-1270م قال فيه: «رأيت أن أذكر في هذا الكتاب نكتا وعيونا في مراتب المتميزين من الأطباء القدماء والمحدثين، ومعرفة طبقاتهم على توالي أزمنتهم، ونبذا من أقوالهم وحكاياتهم، وذكر شيء من أسماء كتبهم، وقد أودعت فيها أيضا ذكر جماعة من الحكماء الفلاسفة ممن لهم نظر وعناية بصناعة الطب، وخملا من أحوالهم، وأما ذكر جميع الحكماء وغيرهم من أرباب النظر؛ فإني أذكر ذلك مستقصى في «معالم الأمم وأخبار ذوي الحكم» انتهى.»
هذا ما جاء في «كشف الظنون»، وفيه إشارة إلى كتاب في تاريخ الحكماء لابن أبي أصيبعة يسمى «معالم الأمم وأخبار ذوي الحكم». (7)
كتاب ابن جلجل، ويذكره صاحب «كشف الظنون» بما يفيد أن اسمه «طبقات الأطباء»؛ إذ يقول: «طبقات الأطباء المسمى بعيون الأنباء للشيخ موفق الدين، وابن جلجل داود بن حسان، وقيل سليمان بن حسن الطبيب الأندلسي.»
وفي كتاب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» نقل عن هذا الكتاب؛ فهو يقول في مواضع كثيرة: «قال سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل.» (8) «نزهة الأرواح وروضة الأفراح في تاريخ الحكماء» للشيخ شمس الدين الشهرزوري، وهو مشتمل على مائة وإحدى عشرة ترجمة من المتقدمين والمتأخرين اليونانيين والمصريين، وشمس الدين الشهرزوري هو محمد محمود الشهرزوري. (9) «تاريخ حكماء الإسلام» لظهير الدين أبي الحسن البيهقي، ولم يرد هذا الكتاب في «كشف الظنون»، وقد طبع حديثا في لاهور بالهند.
وينقل ابن أبي أصيبعة في كتاب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» عن حنين بن إسحاق المتوفى سنة 260ه/873-874 في كتاب «نوادر الفلاسفة والحكماء»، وينقل كذلك عن مبشر بن فاتك في كتاب «مختار الحكم ومحاسن الكلم»، وقد ذكر هذا الكتاب صاحب «كشف الظنون» فقال: ««مختار الحكم ومحاسن الكلم» لأبي الوفاء مبشر بن فاتك الأمير.»
وتوجد طبقات للمتكلمين كطبقات أبي بكر محمد بن فورك المتوفى سنة 406ه/1015-1016م، وللقاضي عياض بن موسى اليحصبي كتاب في طبقات المتكلمين سماه «ترتيب المدارك»، وللمرزباني أخبار المتكلمين، وتوجد طبقات للمعتزلة «كطبقات المعتزلة» للقاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الحمداني الإسترابادي المتوفى سنة 415ه/1024-1025م ظنا.
وللصوفية والنساك طبقات كثيرة ذكرت في «كشف الظنون».
وما يكون لنا أن نغفل الإشارة إلى أبحاث في تاريخ الفلسفة عالجها من تعرضوا لتاريخ العلوم، والتأليف في الإسلام؛ مثل المسعودي في «مروج الذهب»، ومحمد بن إسحاق النديم في كتاب «الفهرست»، وصاعد بن أحمد في كتاب «طبقات الأمم»، وابن خلدون في المقدمة، والمولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده في كتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة»، وكتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لملا كاتب جلبي المعروف بحاج خليفة .
ولا تخلو كتب الملل والنحل والمقالات من موضوعات تتصل بتاريخ الفلسفة الإسلامية، كما نجد ذلك في كتاب «مقالات الإسلاميين» للأشعري، وكتاب «الفرق بين الفرق» لأبي منصور عبد القادر بن طاهر بن محمد البغدادي المتوفى سنة 429ه/1134-1135م، «ومختصر كتاب الفرق بين الفرق» الذي ألفه عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الرسعني، وكتاب «الفصل في الملل والنحل» لابن حزم، وكتاب «الملل والنحل» للشهرستاني.
وفي بعض الكتب الدينية الصرفة مسائل ذات علاقة بهذا الموضوع، كما في بعض كتب الغزالي، وابن الجوزي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية.
هذا وكلام الإسلاميين في الفلسفة الإسلامية، مع قصوره عن تكوين منهج تاريخي، هو في غالب الأمر يعنى ببيان نسبة هذه الفلسفة إلى العلوم الشرعية، وحكم الشرع فيها، ورد ما يعتبر معارضا للدين منها.
وليس بين العلماء نزاع في أن الفلسفة الإسلامية متأثرة بالفلسفة اليونانية، ومذاهب الهند، وآراء الفرس، ولعل هذا هو الذي يجعل الباحثين في تاريخ التفكير الإسلامي والفلسفة الإسلامية من الغربيين، يقصدون في دراستهم إلى استخلاص العناصر الأجنبية التي قامت الفلسفة الإسلامية على أساسها، أو تأثرت بها في أدوارها المختلفة، يجعلون ذلك همهم، ويتحرون على الخصوص إظهار أثر الفكر اليوناني في التفكير الإسلامي واضحا قويا.
وليس من العدل إنكار ما لهذه الأبحاث من نفع علمي، برغم ما قد يلابسها من التسرع في الحكم على القيمة الذاتية لأصل التفكير الإسلامي وعلى مبلغ انفعال هذا التفكير بالعوامل الخارجية من غير اعتبار لما يمكن أن يكون له من عمل فيها.
والعوامل الأجنبية المؤثرة في الفكر الإسلامي وتطوره، مهما يكن من شأنها، فهي أحداث طارئة عليه، صادفته شيئا قائما بنفسه، فاتصلت به لم تخلقه من عدم، وكان بينهما تمازج أو تدافع، لكنها على كل حال لم تمح جوهره محوا.
هوامش
القسم الثاني
منهجنا في درس تاريخ الفلسفة الإسلامية
الفصل الأول
بداية التفكير الفلسفي الإسلامي
من أجل هذا رأينا أن البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نساير خطاها في أدوارها المختلفة، من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرا فلسفيا.
وجريا على هذه الخطة نشرع في البحث عن بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين.
والبحث في بداية التفكير الفلسفي الإسلامي يستدعي إلمامه بحال الفكر العربي واتجاهاته حين ظهر الإسلام. (1) العرب عند ظهور الإسلام
ومهما يكن من أمر العرب عند ظهور الدين المحمدي، فإنهم لم يكونوا في سذاجة الجماعات الإنسانية الأولى من الناحية الفكرية التي تهمنا، يدل على ذلك ما عرف من أديانهم، وما روي من آثارهم الأدبية. (1-1) الدين والجدل الديني
جاء الإسلام والعرب في تشعب ديني وبوادر انبعاث إلى نهضة دينية، والقرآن هو أصدق مرجع في تصوير حالة العرب من هذه الناحية، فإن القرآن هو أقدم ما نعرفه من الكتب العربية، وهو بما لقي من العناية بحفظه على مر العصور أجدر المراجع بالثقة، وقد جمع القرآن الأديان التي كان للعرب اتصال بها في عهده في الآية 17 من السورة 22: الحج، مدنية:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .
كان في العرب يهود ونصارى، وكان فيهم صابئة ومجوس، ثم كان فيهم مشركون ... ومذهب الصابئة - على ما يحيط بتاريخه من غموض - يكاد يتم الاتفاق على أنه يقر بالألوهية، ويرى أنا نحتاج إلى معرفة الله ومعرفة أوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يكون روحانيا لا جسمانيا، ففزعوا إلى هياكل الأرواح، وهي الكواكب، فهم عبدة الكواكب.
أما المجوس، فهم ثنوية: أثبتوا للعالم أصلين اثنين مدبرين يقتسمان الخير والشر، يسمون أحدهما النور، والآخر الظلمة.
وأما المشركون، فهم طوائف مختلفة: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قوله:
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ،
1
وقوله:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون .
2
وصنف أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم وأنكر البعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قوله:
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم .
3
ومنهم من أقروا بالخالق، وأثبتوا حدوث العالم وابتداء الخلق، وأقروا بنوع من الإعادة، وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة، وحجوا إليها وقربوا القرابين، وهم الدهماء من العرب، وهم الذين حكى الله قولهم في آية:
ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون .
4
وقد كان صنف من العرب يعبدون الملائكة أو الجن لتشفع لهم إلى الله، ويزعمون أنها بنات الله، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله تعالى:
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ،
5
وقوله:
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .
6
وكان بين هذه الأديان والنحل جدال ونزاع. قال الشافعي في «الأم»: «فكانت المجوس يدينون غير دين أهل الأوثان، ويخالفون أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بعض دينهم، وكان أهل الكتاب اليهود والنصارى يختلفون في بعض دينهم.»
7
وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في مثل قوله:
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ،
8
وقوله تعالى:
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ،
9
وقوله:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت
10
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا .
11
وكان هذا الجدل يتناول بالضرورة شئون الألوهية والرسالة والبعث والآخرة والملائكة والجن والأرواح، ويدعو إلى الموازنة بين المذاهب المختلفة في تلك الشئون، وقوي أمر هذا الجدل الديني في ذلك العهد، حتى تولدت نزعة ترمي إلى تلمس دين إبراهيم أبي العرب.
ذكر ابن هشام المتوفى بالفسطاط سنة 218ه/833م في سيرته: «دين العرب: قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له، ويعكفون عنده ويديرون به، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما، فخلص منهم أربعة نفر نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، قالوا أجل، وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل.
فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم، التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم؛ فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب، وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ... قال ابن إسحاق: وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده.
قال ابن إسحاق: وأما زيد بن عمرو بن نفيل؛ فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، ونادى قومه بعيب ما هم عليه.»
12
وذكر المسعودي المتوفى بالفسطاط سنة 346ه/957م في «مروج الذهب» أسماء أناس من العرب دعوا قومهم إلى الله ونبهوهم على آياته في زمن الفترة، كقس بن ساعدة الإيادي، ورباب السبتي وبحيرا الراهب، وكانا من عبد القيس.
كل ذلك يدل على أن العرب عند ظهور الإسلام كانوا يتشبثون بأنواع من النظر العقلي يشبه أن تكون من أبحاث الفلسفة العلمية، لاتصالها بما وراء الطبيعة من الألوهية وقدم العالم أو حدوثه، والأرواح والملائكة والجن والبعث ونحو ذلك. (1-2) التفكير العملي
وقد كان عند العرب نوع آخر من التفكير عملي، دعت إليه حاجة الجماعة البشرية، لا يتصل بما كان يتنازعهم من مختلف العقائد والنحل.
قال صاعد بن أحمد المتوفى سنة 463ه/1070-1071م في كتابه «طبقات الأمم»، بعد أن ذكر معرفة العرب لأحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب وعلم السير: «وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغايبها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدرب في العلوم.»
13
وكان عند العرب طائفة مميزة يسمونهم حكماءهم، جمع حكيم، ويسمونهم حكاما أيضا جمع حاكم أو حكم، ومن أمثالهم: «في بيته يؤتى الحكم»، وهم علماؤهم الذين كانوا يحكمون بينهم إذا تنافروا في الفضل والحسب، وغير ذلك من الأمور التي كانت تقع بينهم.
14
ومن حكماء العرب أطباؤهم؛ لما كان لهم من العلم والتجربة ونفوذ الكلمة.
وكان لهؤلاء المفكرين أمثال تجري على ألسنتهم شعرا أو نثرا، حكما بالغة من ثمار الاختبار والعقل الراجح، وكانت هذه الأمثال عند العرب تراثا علميا ثمينا، يتنافسون في الاحتفاظ به، وقد وجهت العناية إلى جمع هذه الأمثال وتدوينها منذ عهد يزيد الأول المتوفى سنة 64ه/683-684م ذخيرة أدبية، ثم عني بها بعد ذلك الفلاسفة.»
15
وتسمى هذه الأمثال حكمة وحكما وفي الحديث: «إن من الشعر لحكما»؛ أي كلاما نافعا، يمنع من الجهل والسفه، وينهى عنهما، ويروى: «إن من الشعر لحكمة»، وهو بمعنى الحكم، كما في «لسان العرب». (1-3) الحكمة
ومهما اختلفت العبارات في بيان معنى «الحكمة» في لسان العرب، فقد يوشك أن يتفق اللغويون على أن عناصر الحكمة هي إتقان في العلم والعمل يمتنع معه الزيغ والفساد والجور، أو هي العلم الكامل النافع. وفي «كشف البزدوي»: «والحكمة، لغة، اسم للعلم المتقن والعمل به. ألا ترى أن ضده السفه، وهو العمل على خلاف موجب العقل، وضد العلم الجهل.»
16 «والحكم لا يختلف عن الحكمة اختلافا كبيرا.
فالحكيم هو العاقل الخبير الماهر، وهو المعنى العبري، وقبل ذلك الآرامي للفظ
hkm
ومن هذا المعنى الأصلي جاء في الاستعمال عند العرب لفظ حاكم بمعنى قاض ووال، ولفظ حكيم بمعنى طبيب.»
17
ويؤخذ من ذلك أن ما وسم به العرب علماءهم من صفات الحكمة والحكم كانت تعبر عن معان متقاربة من العلم والفقه، بما يفيد صلاحا للناس في أبدانهم ويحقق معنى العدل والنظام بينهم، ويمنع الخصام.
قال الآلوسي في «بلوغ الأرب»: «حكام العرب في الجاهلية: الحاكم منفذ الحكم كالحكم محركة، جمعه حكام، وحكام العرب علماؤهم الذين كانوا يحكمون بينهم إذا تشاجروا في الفضل والمجد، وعلو الحسب والنسب، وغير ذلك من الأمور التي كانت تقع بينهم، وكان لكل قبيلة من قبائلهم حكم يتحاكمون إليه، وهم كثيرون لا يسعهم الحصر.»
18
ولعلنا إذا استعرضنا باختصار تاريخ جماعة من حكماء العرب الذين يقول فيهم أبو الفتح محمد الشهرستاني المتوفى 548ه/1153م في «كتاب الملل والنحل»: «ومنهم - أي من الفلاسفة - حكماء العرب، وهم شرذمة قليلة؛ لأن أكثرهم حكمهم فلتات الطبع وخطرات الفكر، وربما قالوا بالنبوات.» استطعنا أن نتبين مجال معارفهم ومذاهب تفكيرهم، وقد ذكر الجاحظ المتوفى 255ه/896م في كتاب «البيان والتبيين» أسماء جماعة من هؤلاء الحكماء فقال: «ومن القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء:
19
لقمان بن عاد، ولقيم بن لقمان، ومجاشع بن دارم، وسليط بن كعب بن يربوع، سموه بذلك لسلاطة لسانه، وقال جرير: إن سليطا كاسمه سليط، ولؤي بن غالب، وقس بن ساعدة، وقصي بن كلاب، ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيفي، وربيعة بن حذار، وهرم بن قطبة، وعامر بن الظرب، ولبيد بن ربيعة.»
ومن هؤلاء الحكماء الحارث بن كلدة الثقفي، وقد ترجم له ابن أبي أصيبعة المصري المتوفى 668ه/1269م في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، وذكره الوزير جمال الدين القفطي المتوفى سنة 646ه/1948م في كتابه «إخبار العلماء بأخبار الحكماء». كان الحارث من الطائف وسافر البلاد وتعلم الطب بفارس وتمرن هناك، وكان يضرب العود، تعلم ذلك بفارس أيضا، وعاش إلى زمن معاوية، ومن حكمه المأثورة: دافع بالدواء ما وجدت مدفعا، ولا تشربه إلا من ضرورة؛ فإنه لا يصلح شيئا إلا أفسد مثله.
وروي أنه لما احتضر اجتمع الناس إليه فقالوا: مرنا بأمر ننتهي إليه بعدك، فقال: لا تتزوجوا من النساء إلا شابة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بالنورة
20
في كل شهر؛ فإنها مذيبة للبلغم مهلكة للمرة منبته للحم، وإذا تغدى أحدكم فلينم على إثر غدائه، وإذا تعشى فليخط أربعين خطوة.»
ومن حكماء العرب أكثم بن صيفي بن رباح، وكان حكما من حكام تميم، فصيحا عالما بالأنساب، وأدرك أوائل الإسلام، ومن حكمه: مقتل الرجل بين فكيه، ويل لعالم أمر من جاهله. وذكر الآلوسي من حكم أكثم بن صيفي: إن قول الحق لم يدع لي صديقا، يتشابه الأمر إذا أقبل، وإذا أدبر عرفه الكيس والأحمق، لا تغضوا عن اليسير فإنه يجني الكثير، حيلة من لا حيلة له الصبر.
وقال الآلوسي في أكثم بن صيفي: «وكان من حديثه أنه لما ظهر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بمكة ودعا إلى الإسلام بعث أكثم ابنه حبيشا، فأتاه بخبره فجمع بني تميم وقال: يا بني تميم، لا تحضروني سفيها فإنه من يسمع
21
يخل، إن السفيه يوهن من فوقه، ويثبت من دونه، لا خير فيمن لا عقل له، كبرت سني ودخلتني ذلة، فإذا رأيتم مني حسنا فاقبلوه، وإن رأيتم مني غير ذلك فقوموني أستقم، إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة، وأتاني بخبره، وكتابه يأمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق، ويدعو إلى توحيد الله - تعالى - وخلع الأوثان وترك الحلف بالنيران، وقد حلف (عرف) ذوو الرأي منكم أن الفضل فيما يدعو إليه، وأن الرأي ترك ما ينهى عنه، إن أحق الناس بمعونة محمد ومساعدته على أمره أنتم، فإن يكن الذي يدعو إليه حقا فهو لكم دون الناس، وإن يكن باطلا كنتم أحق الناس بالكف عنه والستر عليه، وقد كان أسقف نجران يحدث بصفته، وكان سفيان بن مجاشع يحدث به قبله وسمى ابنه محمدا، فكونوا في أمره أولا ولا تكونوا آخرا، ائتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين.
إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينا كان في أخلاق الناس حسنا، أطيعوني واتبعوا أمري أسأل لكم أشياء لا تنزع منكم أبدا، وأصبحتم أعز حي في العرب وأكثرهم عددا وأوسعهم دارا؛ فإني أرى أمرا لا يجتنبه عزيز إلا ذل، ولا يلزمه ذليل إلا عز، إن الأول لم يدع للآخر شيئا، وهذا أمر له ما بعده، ومن سبق إليه غمر المعالي واقتدى به التالي، والعزيمة حزم والاختلاف عجز.
فقال مالك بن نويرة: قد خرف شيخكم، فقال أكثم: ويل للشجي
22
من الخلي، ولهفي على أمر لم أشهده، ولم يسبقني؛ فذهب مثلا.»
23
ومنهم عامر بن الظرب العدواني من حكام قيس، وكانت العرب لا تعدل بفهمه فهما، ولا بحكمه حكما، ومن كلماته: «من طلب شيئا وجده، وإن لم يجده يوشك أن يقع قريبا منه، رب زارع لنفسه حاصد سواه، رب أكلة تمنع أكلات.»
ومنهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان من حكام قريش، وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها: كالمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة.
بل قد ذكر المؤرخون أسماء حكيمات من العرب طبيبات وغير طبيبات: كزينب طبيبة بني أود، كانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات، مشهورة بذلك، قال أبو الفرج الأصبهاني في كتاب «الأغاني»: «أخبرنا محمد بن خلف المرزباني قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن كناسة عن أبيه عن جده قال: أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان أصابني فكحلتني، ثم قالت: اضطجع قليلا حتى يدور الدواء في عينيك، فاضجعت ثم تمثلت قول الشاعر:
أمخترمي ريب المنوم ولم أزر
طبيب بني أود على النأي زينبا
فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا، قالت: في والله قيل هذا، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي.»
ومن حكيمات العرب اللواتي اشتهرن بإصابة الحكم، وفصل الخصومات وحسن الرأي خصيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، ولعلها هي التي كان أبوها عامر يقول لها: مسي سخيل بعدها أو صبحي بناء على أنها كانت تسمى سخيلا أيضا. قال الميداني عند شرحه لهذا المثل: «سخيل: جارية كانت لعامر بن الظرب العدواني، وكان عامر حكم العرب، وكانت سخيل ترعى عليه غنمه، فكان عامر يعاتبها في رعيتها إذا سرحت قال: أصبحت يا سخيل، وإذا راحت قال: أمسيت يا سخيل، وكان عامر عي في فتوى قوم اختلفوا إليه في خنثى يحكم فيه، وسهر في جوابهم ليالي؛ فقالت الجارية: أتبعه المبال فبأيهما بال فهو هو، ففرج عنه وحكم به، وقال: مسي سخيل بعدها أو صبحي. أي: بعد جواب هذه المسألة لا سبيل لأحد عليك بعد ما أخرجتني من هذه الورطة، يضرب لمن يباشر أمرا لا اعتراض لأحد عليه فيه.»
وذكر الآلوسي في «بلوغ الأرب» من حكام العرب غير من ذكرنا: حاجب بن زرارة من حكام تميم، وله معرفة تامة بأخبار العرب وأحوالها وأنسابها، وكان من مشاهير فصحاء زمانه، والأقرع بن حابس من حكام تميم، وكان مرجعهم في واقعاتهم ومنافراتهم، كان حكما في الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم، وربيعة بن مخاشن وضمرة بن ضمرة وكلاهما من تميم، وغيلان بن سلمة الثقفي من حكام قيس، وقد أدرك الإسلام، وهاشم بن عبد مناف، وتنافرت قريش وخزاعة إليه فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة، وأبا طالب عم النبي وناصره، والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص، وكان من حكام قريش وأدرك الإسلام ولم يسلم، والعلاء بن حارثة القرشي، وربيعة بن حذار الأسدي، ويعمر بن عوف الشداخ الكناني، وكان من حكام كنانة، وصفوان بن أمية، وسلمى بن نوفل وكلاهما من حكام كنانة، ومالك بن جبير العامري، كان من حكام العرب وحكمائهم، ومن كلامه الذي ضرب به المثل: على الخبير سقطت. وعمرو بن جمعة الدوسي، واختلفوا في أنه أدرك الإسلام، والحارث بن عباد الربعي من حكام ربيعة وفرسانها، والقلمس الكناني.
وذكر الآلوسي أنه كانت في نساء العرب جملة اشتهرن بإصابة الحكم وفصل الخصومات وحسن الرأي في الحكومة منهن، هند بنت الخس الإيادية، وجمعة بنت حابس الإيادي، وصحر بن لقمان أو أخته، وحذام بنت الريان وهي القائلة: لو ترك القطا ليلا لنام.
24
ولسنا نقطع بأن ما روي من هذه الأخبار صحيح ثابت، ولكنا نرى أنه في جملته يكفي في الدلالة على وجهة التفكير الذي كان يسمى حكمة عند العرب وحكما، ويسمى أهله حكماء وحكاما، وهو تفكير عملي متصل بالفصل فيما يقع بينهم من نزاع، والفتوى فيما يحدث لهم من أقضية، والطب لما يعرض لهم من مرض.
وبالجملة فقد كان العرب حين نزول القرآن في منازعة وجدل في العقائد الدينية، وكان البحث في إرسال الرسل والحياة الآخرة وبعث الأجساد بعد الموت، موضع الأخذ والرد على الخصوص بين النحل المتباينة.
قال الآلوسي في «بلوغ الأرب»: «وشبهات العرب كانت مقصورة على إنكار البعث وجحد إرسال الرسل؛ فعلى الأول قالوا:
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أوآباؤنا الأولون ، إلى غير ذلك من الآيات، وذكروا ذلك في أشعارهم، قال قائلهم:
حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو
وقال شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك يرثي كفار قريش يوم بدر لما قتلوا وألقاهم النبي
صلى الله عليه وسلم
في القليب، وهي البئر التي لم تطو:
يحدثنا الرسول بأن سنحيا
فكيف حياة أصداء وهام!
وأراد الشاعر إنكار البعث هذا الكلام كأنه يقول: إذا صار الإنسان كهذا الطائر، كيف يصير مرة أخرى إنسانا؟ وأما على الثاني فكان إنكارهم لبعث الرسل في الصورة البشرية أشد وإصرارهم على ذلك أبلغ، وأخبر عنهم التنزيل بقوله تعالى:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا
إلى غير ذلك من الآيات.
25
وكان يعد العرب للجدل الديني ويحفزهم إليه، إما الدفاع عن أديانهم الموروثة ضد الأديان الدخيلة عليهم، وإما المهاجمة لهذه الأديان جميعا من أجل ما يلتمسون من الدين الحنيف، دين إبراهيم، وهو دين قومي كانت تشرئب إليه أمة تدب فيها مبادئ الحياة القومية.
وكان عندهم نوع من النظر العقلي هو أهدأ من هذا وأقل عنفا، هو علم الطبقة المميزة، وهو علم الحكمة النافعة في الحياة. (2) العرب بعد ظهور الإسلام: دين وشريعة
جاء الإسلام يقرر أن الدين الحق واحد، هو وحي الله إلى جميع أنبيائه، وهو عبارة عن الأصول التي لا تتبدل بالنسخ، ولا يختلف فيها الرسل، وهي هدى أبدا.
أما الشرائع العملية، فهي متفاوتة بين الأنبياء، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى. وفي القرآن الكريم:
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ،
26
وفي القرآن أيضا:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... .
27
وقال مجاهد في معنى هذه الآية: أوصيناك يا محمد وإياهم دينا واحدا.
وروى الطبري المتوفى سنة 310ه/922-923م عن قتادة في تفسير قوله تعالى:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
28 «يقول: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.»
29
وروى الطبري عن قتادة أيضا: «الدين واحد، والشريعة مختلفة.»
وقال الزمخشري المتوفى سنة 538ه/1143-1144م في تفسيره «الكشاف» «قوله تعالى:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .
30
والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده، وأصول الدين دون الشرائع فإنها مختلفة، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدا.»
والإسلام يجمع بين الدين والشريعة، أما الدين فقد استوفاه الله كله في كتابه الكريم، ولم يكل الناس إلى عقولهم في شيء منه، وأما الشريعة فقد استوفى أصولها ثم ترك للنظر الاجتهادي تفصيلها، جاء في القرآن المجيد:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ،
31
وكان نزول هذه الآية في يوم عرفة عام حج النبي
صلى الله عليه وسلم
حجة الوداع، ولم يعش النبي بعد نزولها إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم يمت رسول الله حتى كمل الدين. روى الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية:
اليوم أكملت لكم دينكم ، وهو الإسلام. قال: «أخبر الله نبيه
صلى الله عليه وسلم
والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله - عز وجل - فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا.»
قال الشاطبي المتوفى سنة 590ه/1193-1194م في كتاب «الاعتصام»: «فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميلات إلا وقد بينت غاية البيان. نعم، يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد، فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة، فلا بد من إعمالها ولا يسع تركها، وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه، ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل، الجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم، وقد نص العلماء على هذا المعنى؛ فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجرى عليها ما لا نهاية له من النوازل.»
32
وفي «الرسالة» للشافعي: «قال الشافعي: فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم به لما مضى من حكمه - جل ثناؤه - من وجوه: (1) فمنها ما أبانه لخلقه نصا مثل جمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا وصوما، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبين لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصا. (2) ومنها ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه - صلى الله تعالى عليه وسلم، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتهما، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل في كتابه. (3) ومنها ما سن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - مما ليس لله - عز وجل - فيه نص حكم، وقد فرض الله - عز وجل - في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فبفرض الله - جل ثناؤه - قبل . (4) ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.»
33 (2-1) الإسلام والجدل في الدين
وقد بعث محمد بدين الإسلام داعيا إلى الوحدة في الدين وإلى التآلف، ناهيا عن الفرقة، كما في آيات كثيرة من القرآن، منها:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ،
34
ومنها
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ،
35
وقال الله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... ،
36
وقال:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ،
37
وقال:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ،
38
وقال:
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين .
39
وكان على القرآن أن يجادل مخالفيه من أرباب الأديان والملل في العرب ردا للشبهات التي كانوا يثيرونها حول عقائد الدين الجديد، على أنه كان لا يمد في حبل الجدل حرصا على الألفة ، وكثيرا ما تختم آيات الجدال بمثل قوله:
إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون ،
40
وقوله:
وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ،
41
وقوله:
ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون .
42
هذا الجدل
43
في العقائد عرض له القرآن للحاجة، وعلى مقدارها من غير أن يشجع المسلمين على المضي فيه، بل هو قد نفرهم منه في قوله:
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
44
جاء في كتاب «مختصر جامع بيان العلم» لابن عبد البر: «وعن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي في قوله تعالى: «فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء»، قال: «الخصومات بالجدال في الدين».» وهذا يتفق مع قول كثير من المفسرين كالزمخشري والبيضاوي.
ودعا القرآن إلى الأخذ في هذا الجدل برفق عند الحاجة إلى الجدال، في مثل قوله:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ،
45
وقوله تعالى:
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ،
46
وقوله:
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ،
47
وقوله:
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ،
48
وقوله:
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ،
49
وقوله:
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .
50 (2-2) الإسلام والحكمة
وإذا كان القرآن قد نفر المسلمين من الجدل في أمور العقائد، فإن القرآن قد ذكر الحكمة التي كانت معروفة عند العرب، وكانت شرفا لأهلها وجاها، وأثنى عليها وشجع على حياتها ونموها.
والقرآن إنما استعمل الحكمة والحكم وما إليهما في معانيها اللغوية، أو في معان ذات نسب واتصال بها شديد.
ويفسر مالك الحكمة في كثير من آيات القرآن بالفقه في دين الله والعمل به، كما رواه ابن عبد البر في كتاب: «مختصر جامع بيان العلم وفضله».
ويقول الشافعي في كتاب «الرسالة» في أصول الفقه، بعد أن أورد آيات فيها ذكر الكتاب والحكمة ما نصه: «قال الشافعي: فذكر الله - عز وجل - الكتاب وهو القرآن: وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: «الحكمة سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال الشافعي: وهذا يشبه ما قاله، والله أعلم.» وقال الشافعي في «الرسالة» أيضا: «وفيما كتبنا في كتابنا هذا من ذكر ما من الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سنة رسول الله.»
51
ويقول الطبري في تفسير آية:
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا :
52 «ويعني بالحكمة ما أوحي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أحكام دين الله ولم ينزل به قرآن، وذلك السنة.»
وفي كتاب «أصول الفقه» لفخر الإسلام البزدوي عند الكلام على «علم الفروع» وهو الفقه: «وقد دل على هذا المعنى: (أي إن العمل بالعلم معتبر في معنى الفقه) أن الله - تعالى - سمى علم الشريعة «حكمة»، فقال:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وقد فسر ابن عباس - رضي الله عنهما - الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام، وقال:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، أي: بالفقه والشريعة، والحكمة في اللغة هي العلم والعمل، فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم، وهو الفقه، دليل عليه: وهو العلم بصفة الإتقان مع اتصال العمل به، والموعظة الحسنة هي التي لا يخفى على من تعظه أنك تناصحه وتقصد نفعه فيها، ووصف الموعظة بالحسنة دون الحكمة؛ لأن الموعظة ربما آلت إلى القبح، بأن وقعت في غير موضعها ووقتها.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه: «كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يتخولنا
53
بالموعظة مخافة السآمة.» فأما الحكمة فحسنة أينما وجدت، إذ هي عبارة عن القول الصواب والفعل الصواب.»
54
وفي كتاب «المبسوط» لشمس الدين السرخسي»: «وأما علم الفقه والشرائع فهو الخير الكثير، قال الله عز وجل:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا . قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه: «الحكمة في معرفة الأحكام من الحلال والحرام.»»
55
وفي «شرح تنوير الأبصار في فقه الإمام الأعظم»: «وقد مدحه الله تعالى بتسميته خيرا بقوله تعالى:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وقد فسر الحكمة زمرة أرباب التفسير بعلم الفروع الذي هو علم الفقه.»
56
وجملة القول أن الحكمة في آية
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ،
57
هي الحكمة بمعناها اللغوي؛ أي العلم النافع والفقه في شئون الحياة بتعرف الحق فيها وإمضائه.
وفي تفسير الطبري لهذه الآية: «يعني بذلك - جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة منهم في ذلك فقد أوتي خيرا كثيرا، وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وأنها الإصابة بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع.»
وفي كتاب «العواصم من القواصم» لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي: «الحكمة» وليس للحكمة معنى إلا العلم، ولا للعلم معنى إلا العقل، إلا أن في الحكمة إشارة إلى ثمرة العلم وفائدته، ولفظ العلم مجرد عن دلالته على غير ذاته، وثمرة العلم العمل بموجبه والتصرف بحكمه، والجري على مقتضاه في جميع الأقوال والأفعال.
58
والنظر فيما ورد في القرآن والسنة من استعمال كلمة «الحكمة» يدل على أن المراد بها العلم الذي يتصل بالعمل. وفي حديث الصحيحين: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها .»
كان لهذه المعاني الدينية التي قررها الإسلام منذ نشأته أثرها العظيم في توجيه النظر العقلي عند المسلمين في عهدهم الأول، فكرهوا البحث والجدل في أمور الدين.
قال ابن عبد البر المتوفى سنة 463ه/1070-1071م في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «ونهى السلف - رحمهم الله - عن الجدال في الله - جل ثناؤه - في صفاته وأسمائه، وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك؛ لأن الله - جل وعز - لا يوصف عند الجماعة - أهل السنة - إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله
صلى الله عليه وسلم ، أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو إنعام النظر، وقد نهينا عن التفكر في الله، وأمرنا بالتفكر في خلقه الدال عليه، وعن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: «كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم، والقدر وما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل.»
59
وقال أيضا في الكتاب نفسه: «وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا نكاد نرى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل، وقال مالك: أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه، أيدع دينه كل يوم لدين جديد؟ وقال ابن عبد البر أيضا: «قال أبو عمر: تناظر القوم وتجادلوا في الفقه، ونهوا عن الجدال في الاعتقاد؛ لأنه يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، ألا ترى مناظرة بشر في قوله - عز وجل:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، حين قال: هو بذاته في كل مكان، فقال له خصمه فهو في قلنسوتك وفي حشك وفي جوف حمار، تعالى الله عما يقولون، حكى ذلك وكيع - رحمه الله - وأنا والله أكره أن أحكي كلامهم قبحهم الله، فعن هذا وشبهه نهى العلماء، وأما الفقه فلا يوصل إليه، ولا ينال أبدا دون نظر وتفهم له.»
60
وفي كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276ه/889-890م بصدد الطعن على المختلفين في أصول الدين: «قال أبو محمد: ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لاتسع العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم مع ما يدعونه لأنفسهم، كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم، ولكن اختلافهم في التوحيد وفي صفات الله - تعالى - وفي قدرته. وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح. وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى.»
61
ويقول ابن قتيبة نفسه في كتاب «الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة»: «وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر. وفي تفضيل أحدهما على الآخر. وفي الوساوس والخطرات، ومجاهدة النفس وقمع الهوى ، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، وقد تشعبت بهم الطرق، وقادهم الهوى بزمام الردى.»
62
وجاء في كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدو لشيء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا، وأجروها على سنن واحد، ولم يعملوا كما فعل أهل الأهواء والبدع، حيث جعلوها عضين وأقروا ببعضها، وأنكروا بعضها، من غير فرقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه.»
63
فالمسلمون في الصدر الأول كانوا يرون أن لا سبيل لتقرير العقائد إلا الوحي، أما العقل؛ فمعزول عن الشرع وأنظاره كما يقول ابن خلدون في المقدمة. وفي كتاب «النبوات» لابن تيمية: «فصل: قد ذكرنا في غير موضع أن أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمدا
صلى الله عليه وسلم ، قد بينها الله في القرآن أحسن بيان.»
64
وكانوا يرون أن التناظر والتجادل في الاعتقاد يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، من أجل ذلك كان المسلمون عند وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
على عقيدة واحدة إلا من كان يبطن النفاق، ولم يظهر البحث والجدل في مسائل العقائد إلا في أيام الصحابة، حين ظهرت بدع وشبه اضطر المسلمون إلى مدافعتها.
وفي كتاب «التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية من فرق الهالكين» لأبي المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني المتوفى سنة 471ه/1078م: «وظهر في أيام المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية، وكانوا يخوضون في القدر والاستطاعة كمعبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، وكان ينكر عليهم من كان قد بقي من الصحابة.»
65
ومن ثم تفرقت الفرق، ونشأ علم الكلام حجاجا للمبتدعة الحائدين عن طريق السلف والمخالفين للدين، ونشأ على أنه ضرورة تقدر بقدرها.
أما النظر العقلي في المسائل الشرعية العملية؛ فقد نشأ في الإسلام مؤيدا من الدين، وقد ورد في الكتاب والسنة الثناء على الحكمة والحكم والتنويه بفضلهما، فمهد ذلك لانتعاش النظر العقلي في الشئون العملية، وهو نوع من التفكير كانت العرب مستعدة لنموه بينها على ما أشرنا إليه آنفا، ووجدت الحاجة إلى هذا النظر في استنباط أحكام الوقائع المتجددة التي لم يكن من الممكن أن تحيط بها النصوص الشرعية.
قال ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى يومنا هذا وهلم جرا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم.»
وسن الرسول لولاته في الأمصار أن يجتهدوا رأيهم حين لا يجدون نصا، وجاء في القرآن نفسه بأحكام كلف بها المسلمون على أن يكون سبيلهم في طاعتها الاسترشاد بالعقل، كما في مسألة التوجه إلى القبلة للبعيد عن الكعبة، وقد فصل الشافعي، المتوفى سنة 204ه/819-820م ذلك في «رسالته» فحدث الاجتهاد في التشريع الإسلامي منذ عهد الإسلام الأول في كنف القرآن بترخيص من الرسول عليه السلام.
وقد روى ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «عن معاذ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لما بعثه إلى اليمن قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال أجتهد رأيي لا آلو، قال: فضرب بيده في صدري، وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله.»
وروى ابن عبد البر أيضا: عن ابن عمر، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يوم الأحزاب: «لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة.» فأدركهم وقت العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي ولم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم ، فلم يعنف واحدة من الطائفتين، قال أبو عمر: هذه سبيل الاجتهاد على الأصول عند جماعة الفقهاء.
66 (2-3) الاجتهاد بالرأي هو بداية النظر العقلي
هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين، ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم «أصول الفقه»، ونبت في تربته التصوف أيضا كما سنبينه، وذلك من قبل أن تفعل الفلسفة اليونانية فعلها في توجيه النظر عند المسلمين إلى البحث فيما وراء الطبيعة والإلهيات على أنحاء خاصة.
والباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يجب عليه أولا أن يدرس الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقا من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده.
يجب البدء بهذا البحث؛ لأنه بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، والترتيب الطبيعي يقضي بتقديم السابق على اللاحق، ولأن هذه الناحية أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثرا بالعناصر الأجنبية، فهي تمثل لنا هذا التفكير مخلصا بسيطا يكاد يكون مسيرا في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم.
هوامش
الفصل الثاني
النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه
(1) منزع المستشرقين في الفقه وتاريخه
البحث في الرأي وأطواره وأثره في تكوين المذاهب الفقهية يستدعي نظرة في تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره في أدواره المختلفة، وللناظرين في هذا البحث من المستشرقين منزع، ولمن عرض له من المسلمين منزع غيره، والمقارنة بين وجهتي النظر قد تنتهي بنا إلى تمحيص أوسع مدى، وطريقة أدنى إلى السداد. (1-1) وجهة نظر كارا دي فو
يقول البارون كارا دي فو في الجزء الثالث من كتابه المسمى «مفكرو الإسلام»،
1
عند الكلام على الفقه: «يرى المسلمون أن الفقه ذو علاقة بالدين متينة، بل هم يرونه ملتحما به التحاما؛ فهو جزء منه، والفقه مأخوذ كله من الوحي؛ أي القرآن، كسائر الدين، ولما كان في القرآن شيء من الإجمال، فقد عمدوا إلى توضيحه بالآثار؛ أي بسنة أصحاب النبي والجيلين الأولين من تابعيه.
هذه هي النظرية الأساسية، وبناء عليها ذكر الفقه في الكتب الإسلامية على أنه وليد القرآن والآثار الإسلامية من غير إشارة إلى أصول أجنبية قط، وهذه نظرية لا تثبت عند النقد، وإذا قرأ قارئ بعض آيات الأحكام في القرآن، ثم قرأ صفحتين أو ثلاثة من بعض مبسوطات الفقه الإسلامي، أحس بما بين الاثنين من فرق؛ فذاك نص ساذج مبهم في صورة من صور البداوة الأولى، وهذا تحليل علمي دقيق من آثار التفكير المثقف، ذاك شبه مسودة جافة بالية قائمة في صحراء، وهذا ممحص مصقول متسق مع الرقي المدني.
هاتان هما حالتا الإسلام اللتان ينبغي شرحهما، فمن أين جاءت قوانين القرآن؟ ومن أين جاءت قوانين الفقهاء؟ وما أريد إلا أن أشير إلى ذلك إشارات عامة، ولست أريد أن أنكر بادئ الأمر كل طرافة في أحكام القرآن، لكني أرى مساغا للبحث عما إذا كانت تلك الأحكام متأثرة بالتلمود
2
أو بالقانون المسيحي، وعلى الخصوص هذا القانون كما كان يفهمه رجال الدين، وقد تكون بقايا العادات العربية القديمة وجدت لها منفذا في بعض الأحوال أيضا.
أما فقه الفقهاء؛ فيجب أن يلاحظ أن تدوينه كان في عصر عاصمة الإسلام فيه بغداد، فلعل عناصر آتية من العراق هي التي غلبت عليه، ومن قبل ذلك لما كانت دمشق دار الخلافة كان الفقه عرضة للتأثر بالقوانين البيزنطية (الرومانية الشرقية)، وينبغي أن يلاحظ أن هذا التأثير وقع - فيما يظهر - من القوانين المحلية التي كانت خاصة بكل إقليم، ولئن كنا نعرف القانون الروماني أحسن معرفة، فإنا لا ندري أكان القانون النافذ في سورية لعهد «هرقل».
3
قبل الفتح العربي بقليل هو نفس القانون الذي كان معروفا في «بيزنطة» لعهد «جستنيان».
4
أم كان قانونا يغايره؟ ولا ندري أي قانون كان معمولا به في العراق تحت حكم الفرس حين جاء الفتح الإسلامي، لا نكاد نعرف من ذلك شيئا، بيد أن صيغة الفقه الدينية تسوغ لنا أن نفرض أنه كان على الخصوص موضعا للتأثر بالقوانين الدينية أو الشرائع، وقد أدركته هذه التأثيرات في سورية والعراق من المذاهب المسيحية التي كانت موجودة في بلاد فارس.
هذه هي المعلومات القليلة التي لدينا في الموضوع، وهي مقدمات ليس التوصل منها إلى نتيجة سهلا على من يحاوله.» (1-2) ملاحظات على كلام كارا دي فو
والخلاصة التي يصح التعويل عليها من كلام البارون كارا دي فو، هي أن نظرية الإسلاميين ترد الفقه إلى مصادر إسلامية من غير ملاحظة أي تأثير أجنبي في تكوينه.
والنظرية الأخرى تلحظ في نشأة الفقه وتطوره العوامل الخارجية على الخصوص، هذا المقدار صحيح في تقرير النظريتين، على ما في بيان المؤلف من تساهل في مثل قوله: «إن الفقه يعتبر في كتب الإسلام وليد القرآن وآثار الصحابة والجيلين الأولين من التابعين، وليست آثارهما أصلا من أصول الفقه.» دع عنك ما في مقارنته بين نصوص القرآن ونصوص الكتب الفقهية من عسف وحيف في غير رفق، فما كان القرآن كتابا فنيا يصح أن تقارن نصوصه بكتب الفنون، وقد يلحظ أن كارا دي فو يميل في فروضه إلى رد معظم التأثير في تكوين الفقه الإسلامي إلى المذاهب المسيحية. (1-3) وجهة نظر جولدزيهر
أما جولدزيهر
5
المتوفى سنة 1921م فهو لا يميل هذا الميل، بل هو ينزع في لطف إلى ما يؤيد ناحية التأثير اليهودي، ويمكن أن يلاحظ أن الأول مسيحي، وأن الثاني يهودي، قال جولدزيهر في مقاله عن الفقه في «دائرة المعارف الإسلامية»: «ومن السهل أن نفهم أن ما أفاده المشتغلون بالتشريع في الشام والعراق من القانون الروماني ومن القوانين الخاصة ببعض الولايات، كان له أثر في تكامل الفقه الإسلامي من ناحية أحكامه ومن ناحية طرق الاستنباط وكان طبيعيا لهؤلاء الأميين - الخارجين من نظام اجتماعي ساذج إلى بلاد ذات مدنية قديمة ليتبوءوا فيها مكانة الحاكمين - أن يتناولوا في الحوادث المتولدة ما يناسب الحالة القائمة على الفتح، ويلائم نزعات الدين الجديد من عادات القوم وقوانينهم، ودرس هذا الجانب من تاريخ التشريع هو من أهم الأبحاث المتعلقة بالعلوم الإسلامية.
ولئن كان ذلك مقررا من قبل ومعترفا به، فإنه لم يتناول بالبحث إلا في جزئيات قليلة.
وقد جمع سانتلانا
6
في مشروع قانوني مدني تجاري وضعه لحكومة تونس سنة 1899 كثيرا من المواد المهيئة لدرس هذا الموضوع.
وفي مقال نشره فرانز فردريك شميدت
7
في سترسبورج سنة 1910، في موضوع المقارنة بين القوانين في فصل من فصول القانون الخاص، أدلة قوية على قبول فقهاء الإسلام لكثير من أحكام القانون الروماني، ومن قبل ذلك بين صاحب هذا المقال في بعض مؤلفاته أن تسمية الاستنباط للأحكام الشرعية فقها - حكمة - وتسمية أهل هذا الشأن فقهاء - حكماء - متأثرة بتعبير الرومانيين من رجال الشرع وعلم التشريع بعبارات: «جوريس-برودانتس،
8
وجوريس-برودنتيا»
9
واستعمال يهود فلسطين لكلمتي «حاخاميم، حخمة» هو من هذا القبيل، ينبغي أن ينسب إلى تأثير روماني أيضا.
ولم تقف عند القانون الروماني أصول التشريع الإسلامي، فإن الخاصة الملازمة لنشوء الإسلام ونموه
10
ظهرت أولا في أمور العبادات كما هو طبيعي باقتباس أحكام مما عند اليهود.»
ويقول فون كريمر: «إن بعض أحكام القوانين الرومانية التي دخلت في الإسلام لم تصل إليه إلا في خلال اليهودية ، ويجب البحث عما قد يكون للمجوسية من أثر في فروع الفقه الإسلامي وعن مبلغ هذا الأثر.»
ويبين جولدزيهر في كتابه «عقيدة الإسلام وشرعه» مداخل العناصر الأجنبية إلى الفقه الإسلامي: فيذكر أولا أنه وإن كان القرآن لبث في كل تاريخ الإسلام عند أتباع دين محمد
صلى الله عليه وسلم
أصلا من الأصول وكتابا إلهيا مجيدا، وظل موضعا لإعجاب لا يظن أن أثرا من الآثار الأدبية في العالم نال مثله - فإنه من الخطأ أن ينسب للقرآن أرجح قسط في رسم حدود الإسلام، إنما تحكم القرآن مدة لا تزيد عن عشرين عاما في صدر التاريخ الإسلامي، ولئن كنا لا نستطيع أن نتصور الإسلام من غير القرآن، فإن القرآن ليس مغنيا وحده في كمال الفهم للإسلام.
إلى جانب ما ورد في القرآن من أحكام شرعية مكتوبة، وجدت أحكام منقولة مشافهة كما هو الأمر عند اليهود، تلك هي السنة، وهي ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، وما يدل على هذه السنة من عبارة يصلها الإسناد إلى عهد الرسول، هو الحديث، ويدل على ما للسنة عندهم من شأن، كلمة منسوبة للإمام علي، وهي وصية يقال إنه وصى بها عبد الله بن عباس؛ إذ أرسله لمحاجة الخوارج: «لا تحتج عليهم بالقرآن، فإن القرآن حمال أوجه، ولكن احتج عليهم بالسنة، فإنها لا تدفع لهم مخرجا.»
ثم يقول جولدزيهر: «ليس الشرع وحده والسنة والعقائد والمبادئ السياسية هي التي اتخذت شكل الحديث، ولكن كل العناصر التي استنبطها الإسلام أو اقتبسها من مصادر أجنبية لبست هذا الشكل، وبذلك بلغ اندماج العناصر الأجنبية في الإسلام حدا ضاعت معه مناشئها، ومن خلف هذا الستار تبوأت مكانا في الإسلام جمل من العهد القديم،
11
ومن العهد الجديد،
12
وحكم مأثورة عن أحبار اليهود، أو مقتبسة من الأناجيل الموضوعة، بل بعض مذاهب الفلسفة اليونانية، وبعض عبارات من حكمة الفرس والهنود ... وكان الغش بنية الزلفى إلى الله من ناحية وضاع الأحاديث لا يلقى في كل مكان إلا تسامحا متى كانت الأحاديث الموضوعة في الأخلاق والمواعظ، لكن المتشددين من علماء الدين كانوا يتجهمون كل تجهم حينما تكون تلك الأحاديث مما يعتبر أصلا في العبادات، أو الأحكام الشرعية ...
وما كان للحديث أن يكفي وحده أساسا تقوم عليه قواعد العبادة والمعاملة؛ ولهذا الاعتبار أثر كبير فيما ساد منذ بدء تكوين الفقه من نزوع إلى استنباط الأحكام الدينية باجتهاد الرأي، كما تؤخذ هذه الأحكام مما صح عندهم من السنن مع اعتقاد أنه من المستطاع ضبط الحوادث المتجددة بالقياس الفقهي والاستقراء، بل الاستدلال العقلي، وما ينبغي لنا أن نعجب من أن يكون لبعض المعارف الأجنبية أثر أيضا في تكوين هذه الطريقة وفي تفاصيل تطبيقها، ومن آيات ذلك أن في الفقه الإسلامي، أصوله وأحكامه الفرعية، شواهد غير منكورة لتأثير الفقه الروماني.»
ويذكر جولدزيهر أن للتغير السياسي ، الذي تم بزوال الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، شأنا عظيما في تكوين الفقه وتدوينه، فيقول: «حلت محل حكومة الأمويين، المتهمة بأنها دنيوية، دولة «تيوقراطية».
13
مستمدة سلطانها من الله، وسياستها «سياسة ملية». كان العباسيون يجعلون حقهم في الإمامة قائما على أنهم سلالة البيت النبوي، وكانوا كذلك يقولون إنهم سيشيدون على أطلال الحكومة الموسومة بالزندقة عند أهل التقى نظاما منطبقا على سنة النبي وأحكام الدين الإلهي، ويلاحظ أن المثل الأعلى للسياسة الفارسية، وهو الاتحاد الوثيق بين الدين والحكومة، كان برنامج الحكم العباسي، ولم تنته المحاولات الجزئية التي تناولت علوم التشريع في عهد الأمويين إلى طريقة عملية تجمع أبواب الفقه.
وبقيام الدولة الجديدة آن لنهضة التشريع الإسلامي أن تزهر بعدما نشأت ضعيفة متضائلة، وكما أريد جمع الأحكام الشرعية للحاجة إليها في ضبط أمور الدولة على منهاج شرعي، تقررت أصول أربعة لاستنباط الأحكام الشرعية الفقهية، وهي: القرآن، والسنة، والقياس، والإجماع. واعترف علماء الدين بها، وكان الاختلاف بينهم على حسب اختلافهم في كثرة الاعتماد على أصل من الأصول دون الآخر، وفي الاستناد إلى بعض الأحاديث المتضاربة دون بعض، ونشأ عما بين هذه النزعات من تباين مناهج مختلفة في أحكام الوقائع الجزئية. وفي بعض طرائق الاستنباط، وهم يسمونها «مذاهب» واحدها «مذهب»، بمعنى وجهة أو طريقة، ولا يريدون معنى البدعة بحال من الأحوال؛ ذلك بأن اختلاف المذاهب في الفقه قام على أساس من التسامح والتعاون على خدمة الدين، وإنما نجمت مظاهر الروح المذهبي وانساقت في سبيل التعصب منذ طغى سلطان الغرور من جانب الفقهاء.»
هذا الذي بيناه من أقوال جولدزيهر يكاد يجمع خلاصة ما توجهت إليه أبحاث المستشرقين في الموضوع الذي نحن بصدده، وجملته أن أصول الفقه تأثرت في تكوينها بعناصر أجنبية كما تأثر الفقه نفسه.
وأن القياس والإجماع إنما تقررا أصلين من أصول الاستنباط للأحكام الشرعية حينما تكون الفقه في عهد العباسيين، وإن كانت طلائع النزوع إليهما في زمن الأمويين.
وأن المذاهب الفقهية نشأت مع تكون الفقه واستقرار أصوله، وأساس الخلاف بينها كثرة الاعتماد على بعض الأصول دون بعض، والأخذ ببعض الأحاديث دون بعض. (2) منزع علماء الإسلام في الفقه وتاريخه (2-1) ابن خلدون
أما علماء الإسلام، فمنهم من يرون أنه على عهد النبي كانت الأحكام تتلقى منه بما يوحى إليه من القرآن ويبينه بفعله وقوله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس، ومن بعده - صلوات الله وسلامه عليه - تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر، وأجمع الصحابة على وجوب العمل بما يصل إلينا من السنة، قولا أو فعلا، بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه، وأجمع الصحابة على النكير على مخالفيهم مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة، فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشرعيات، ثم إن كثيرا من الواقعات بعده
صلى الله عليه وسلم
لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسها الصحابة بما نص عليه، وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه.
ذلك ما يقوله ابن خلدون المتوفى سنة 808ه/1406م في «المقدمة»: (الفصل التاسع في أصول الفقه).
وقد أشار ابن خلدون، في الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من الفرائض، إلى أسباب الاختلاف بين علماء التشريع ونشوء المذاهب؛ إذ يقول: «الفقه معرفة أحكام الله - تعالى - في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة، قيل لها فقه، وكان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيما بينهم، ولا بد من قوعه ضرورة أن الأدلة غالبها من النصوص وهي بلغة العرب. وفي اقتضاء ألفاظها لكثير من معانيها اختلاف بينهم معروف، وأيضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت، وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح، وهو مختلف أيضا.
فالأدلة من غير النصوص
14
مختلف فيها، وأيضا فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص، وما كان منها غير ظاهر في المنصوص فيحمل على منصوص لمشابهة بينهما، وهذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقوع، ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم.»
15 (أ) موازنة بين نظرية المستشرقين ونظرية ابن خلدون
والذي يعنينا في هذا المقام هو أن نميز بين النظريتين فيما يتعلق بالرأي؛ نظرية المستشرقين، ونظرية ابن خلدون. والنظريتان متفقتان على أن الرأي وجد بعد زمن النبوة حين لم تعد النصوص كافية لما يلزم الجماعة من قوانين، وتختلف بعد ذلك النظريتان.
فيذكر ابن خلدون نشأة الإجماع والقياس، بل والسنة المنقولة بالرواية
16
لا المعتمدة على المشاهدة والخطاب الشفاهي على أنها أصول إسلامية للأحكام الشرعية اتفق عليها الصحابة بعد عهد الرسول، ولا يشير إلى عامل خارجي في هذه النشأة.
والمرحوم الشيخ محمد الخضري بك في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي» يتفق مع ابن خلدون من كل وجه، لكن جولدزيهر يقرر أن هذين الأصلين - الإجماع والقياس - إنما وجدا في الإسلام بعد اتصاله بالقانون الروماني فيما استولى عليه من البلاد التي كانت تابعة للرومانيين، فلا يخلو نشوء هذين الأصلين وتكونهما من أثر القانون الروماني. (2-2) مذهب ابن القيم وابن عبد البر من قبله
أما ابن قيم الجوزية
17
فيصرح في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين» بأن الرأي وجد بين الصحابة في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ إذ يقول: «وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ، في كثير من الأحكام ولم يعنفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة، فصلوها ليلا، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس.»
18
وسبق لنا أن نقلنا مثل هذا النص عن ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»، ويقول ابن القيم في موضع آخر: «والمقصود أن أحدا ممن بعدهم (أي: الصحابة) لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم، وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته كما رأى عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن بموافقته،
19
ورأى أن تحجب نساء النبي
صلى الله عليه وسلم ، فنزل القرآن بموافقته.»
20
وهذه نظرية غير النظريتين الأوليين، تقرر أن الرأي وجد مع الكتاب والسنة في عهد النبي ، وأن العناصر التي كونت المذاهب المختلفة في التشريع الإسلامي عندما شرع في تدوين الفقه، وجدت في عهد النبي أيضا.
ومذهب ابن قيم الجوزية، وابن عبد البر من قبله، يوافق ما بيناه آنفا، من أن الرأي نشأ منذ عهد الإسلام الأول في ظل القرآن ورعايته، وهذا هو المذهب الذي نرضاه، وسيزيده ما نورده بعد بيانا وتوكيدا. (3) نظرة إجمالية
وجملة القول أن الرأي بمعناه العام نشأ في التشريع الإسلامي مع القرآن والسنة منذ عهد النبي على المذهب الذي نرجحه، أو هو نشأ بعد عهد النبي وظل الرأي أصلا من أصول التشريع يستعمل كثرة وقلة، وضيقا وسعة، على حسب الحاجة إليه بكثرة السنن المروية كما في الحجاز، وقلتها كما في العراق.
فلما انتهت الخلافة إلى العباسيين ونهضوا لإحكام الصلة بين دولتهم وبين الشرع، كما بينه جولدزيهر، ونشأت العلوم وأخذ في تدوينها، تكونت المذاهب الفقهية، ووضع علم أصول الفقه، وظهرت الخلافات بين المذاهب ظهورا واضحا في الفروع وفي الأصول، فكان أهل العراق أهل الرأي، يتوسعون في استعماله ما لا يتوسع غيرهم، وإمامهم الذي بقي مذهبه إلى اليوم هو أبو حنيفة المتوفى سنة 150ه/767م، وكان أهل الحجاز أهل الحديث لوفرة حظهم منه، وما ترتب على ذلك من قلة استعمالهم للرأي، مع اعترافهم بأنه أصل من أصول التشريع، وإمامهم الذي انتشر مذهبه واستقر هو مالك بن أنس المتوفى سنة 179ه/795م.
وتوسط بين أهل الحديث وأهل الرأي محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204ه/820م، وهو الذي وضع نظام الاستنباط الشرعي من أصول الفقه، وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول في رسالته في أصول الفقه، ويعتبر هذا المذهب أدنى إلى أصحاب الحديث؛ لذلك نشأ من بين أتباعه الإفراط في احترام الفقه المأخوذ من النصوص، نشأ ذلك أولا في مذهب أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241ه/855م. ثم نشأ أشد وأقوى في مذهب الظاهرية، وهو المذهب الذي أسسه داود بن علي الأصفهاني المتوفى سنة 270ه/883م، وداود هو أول من استعمل قول الظاهر، وأخذ بالكتاب والسنة، وألغى ما سوى ذلك من الرأي والقياس.
وقد كتب البقاء للمذاهب الأربعة الأولى المعمول بها عند جمهور المسلمين إلى اليوم، وكتب لها التغلب على سواها من مذاهب أهل السنة: كمذهب الحسن البصري بالبصرة المتوفى سنة 110ه/828-829م، ومذهب سفيان الثوري بالكوفة المتوفى سنة 161ه/777-778م، ولم يطل العمل بهذين المذهبين لقلة أتباعهما، وبطل العمل بمذهب الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو أبي عمر من الأوزاع - بطن من همدان - المتوفى سنة 157ه/773-774م وكان مذهبه بالشام والأندلس وغيرهما.
وانقرض مذهب أبي ثور إبراهيم بن خالد المتوفى سنة 240ه/854-855م بعد القرن الثالث وكان ببغداد، واشتق مذهبه من مذهب الشافعي، وانقرض مذهب الطبري أبي جعفر محمد بن جرير المتوفى سنة 310ه/922-923م بعد القرن الرابع، كما انقرضت مذاهب أخرى، إلا الظاهري فقد طالت مدته وزاحم الأربعة ودرس بعد القرن الثامن، ولم يبق إلا الأربعة ومذاهب أخرى خاصة بطوائف من المسلمين لا يعدها جمهورهم من مذاهب أهل السنة، وذلك كمذهب الشيعة والخوارج.
21
هذا وإنا وإن كنا نرى الدلائل متضافرة على أن الرأي نشأ في التشريع الإسلامي منذ نشأ الإسلام، ومن قبل أن يمتد به الفتح إلى ما وراء البلاد العربية، فإنا لا ننكر أنه كان في تدوينه وتفريعه وضبط قواعده موضعا للتأثر بعناصر خارجية، حتى لقد انتهى علم «أصول الفقه» بأن جمع من مسائل المنطق وأبحاث الفلسفة والكلام شيئا غير قليل، ويقول أهل هذا العلم إن مبادئه مأخوذة من العربية وبعض العلوم الشرعية والعقلية، على أن هذا لا يمس ما قررناه من أن النظر العقلي نشأ أصلا من أصول التشريع في الإسلام يؤيده ويحميه.
ولم تنزل مكانة الرأي في الفقه الإسلامي إلا من يوم أن جاء دور الجمود، ووقف العلم والعمل بين المسلمين عند حد محدود.
هوامش
الفصل الثالث
الرأي وأطواره
ذكرنا في الفصل السابق مذاهب الباحثين في تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره في أدواره المختلفة تمهيدا لدرس نشوء الرأي في الإسلام وأطواره.
ونريد بالرأي في هذا الموضع معناه اللغوي أو ما يقرب من معناه اللغوي؛ ففي «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير» لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفى سنة 770ه/1368م: «الرأي في اللغة العقل والتدبير، ورجل ذو رأي أي بصيرة وحذق بالأمور، وجمع الرأي: آراء.» وفي «النهاية في غريب الحديث والأثر» لمحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الملقب بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606ه/1309م: وفي حديث عمر وذكر المتعة: «ارتأى امرؤ بعد ذلك ما شاء أن يرى»؛ أي فكر وتأنى، وهو افتعل من رؤية القلب أو من الرأي، ومنه حديث الأزرق بن قيس: وفينا رجل له رأي، يقال فلان من أهل الرأي؛ أي يرى رأي الخوارج ويقول بمذهبهم، وهو المراد ها هنا، والمحدثون يسمون أصحاب القياس أصحاب الرأي، يعنون أنهم يأخذون برأيهم فيما يشكل من الحديث أو ما لم يأت فيه حديث ولا أثر.»
وفي «المغرب في ترتيب المعرب» لأبي الفتح المطرزي المتوفى سنة 610ه/1313م «والرأي ما ارتآه الإنسان واعتقده، ومنه ربيعة الرأي - المتوفى سنة 136ه/753-754م على الصحيح - بالإضافة، فقيه أهل المدينة، وكذلك هلال الرأي بن يحيى البصري المتوفى سنة 245ه/859-860م.»
وقد بين ابن قيم الجوزية معنى الرأي المراد بيانا واضحا، معتمدا على أصله اللغوي، فقال في كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»:
1 «والرأي، في الأصل، مصدر رأى الشيء، يراه، رأيا. ثم غلب استعماله على المرئي نفسه، من باب استعمال المصدر في المفعول كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه، هوى. ثم استعمل في الشيء الذي يهوى - يقال: هذا هوى فلان.
والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها، فتقول: رأي كذا في النوم رؤيا، ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا، لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين، رأيا، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تعارض فيه الأمارات، فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به إنه رأيه، ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات إنه رأى وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها.»
2
وفي «إرشاد الفحول» للشوكاني:
3 «واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة يكون بالتمسك بالبراءة الأصلية أو بأصالة الإباحة في الأشياء أو الحظر على اختلاف الأقوال في ذلك، أو التمسك بالمصالح، أو التمسك بالاحتياط.»
4 (1) القياس
والرأي بهذا المعنى مرادف للقياس بالمعنى العام، قال الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» في بيان معنى القياس: «والقياس هو في اللغة تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويته به، وقيل هو مصدر قست الشيء إذا اعتبرته أقيسه قيسا وقياسا، ومنه قيس الرأي، وسمي امرؤ القيس لاعتباره الأمور برأيه، وله في الاصطلاح معان؛ منها بذل الجهد في طلب الحق.»
5 (2) الاجتهاد
والاجتهاد مرادف للقياس فهو مرادف للرأي أيضا، يقول الشافعي في «الرسالة»: «قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد، أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنى واحد.»
6
وقد شرح أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الملقب بسيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631ه/1233-1234م في كتاب: «الإحكام»، معنى الاجتهاد فقال: «أما الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة؛ ولهذا لا يقال: اجتهد فلان في حمل خردلة، وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.»
7
فالرأي الذي نتحدث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية وهو مرادنا بالقياس والاجتهاد، وهو أيضا مرادف للاستحسان والاستنباط، قال ابن حزم في كتاب «الإحكام»: «الباب الخامس والثلاثون، في الاستحسان والاستنباط وفي الرأي وإبطال كل ذلك. قال أبو محمد، رحمه الله: إنما جمعنا هذا كله في باب واحد لأنها كلها ألفاظ واقعة على معنى واحد، لا فرق بين شيء من المراد بها، وإن اختلفت الألفاظ، وهو الحكم بما رآه الحاكم أصلح في العاقبة وفي الحل، وهذا هو الاستحسان لما رأى برأيه من ذلك، وهو استخراج ذلك الحكم الذي رآه.»
8
ودرس نشوء الرأي وأطواره يستدعى الإلمام به في عهد الإسلام الأول؛ أي في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم تتبع ما مر به من الأدوار بعد ذلك. (3) الرأي في عهد النبي
الرأي في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
يشتمل على وجهين؛ أحدهما: تشريع النبي نفسه بالرأي من غير وحي. والثاني: اجتهاد الصحابة في زمن النبي واستنباطهم برأيهم أحكاما ليست بعينها في الكتاب ولا في السنة. (3-1) اجتهاد النبي
أما جواز الاجتهاد من النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما لا وحي فيه ووقوعه، فقد استدلوا عليه بأدلة كثيرة، نورد منها ما يأتي نقلا عن كتاب «الإحكام» للآمدي: «قال تعالى:
وشاورهم في الأمر ،
9
والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد، لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي.
وروى الشعبي
10
أنه كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يقضي القضية وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به، فيترك ما قضى به على حاله ويستقبل ما نزل به القرآن. والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد،
11
وروي عن النبي أيضا أنه قال في مكة: «لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها»، فقال العباس: إلا الإذخر. فقال
صلى الله عليه وسلم : «إلا الإذخر.»
12
ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة فكان الاستثناء بالاجتهاد، وأيضا ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء.» وذلك يدل على أنه كان متعبدا بالاجتهاد، وإلا لما كان علماء أمته وارثة لذلك عنه، وهو خلاف الخبر.»
13 «ومما احتج به على وقوع الاجتهاد من النبي ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟» قالت: نعم، قال: «فدين الله أحق بالقضاء.» ووجه الاحتجاج به أنه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه، وهو عين القياس ...
وأيضا ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال لأم سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم: «هلا أخبرته أني أقبل وأنا صائم؟» وإنما ذكر ذلك تنبيها على قياس غيره عليه، وأيضا ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه علل كثيرا من الأحكام، والتعليل موجب لاتباع العلة أينما كانت، وذلك هو نفس القياس؛ ومن ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم : «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة
14
فادخروها»، وقوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة»، ومنها قوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر: «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم، قال: «فلا، إذن»، ومنها قوله في حق محرم وقصت
15
به ناقته: «لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا»، ومنها قوله في حق شهداء أحد: «زملوهم
16
بكلومهم ودمائهم؛ فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم
17
تشخب
18
دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك»، ومنها قوله في الهرة: «إنها ليست بنجسة؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات»، وقوله: «إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل؛ فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده»، وقوله في الصيد: «فإن وقع في الماء فلا تأكل منه؛ لعل الماء أعان على قتله»، وأيضا قوله: «أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي»، والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء، وذلك هو القياس، إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها، المتحد معناها، النازل جملتها منزلة التواتر، وإن كان آحادها آحادا.»
19
واستدل أيضا على وقوع القياس من النبي
صلى الله عليه وسلم ، بما يأتي: قوله لرجل سأله حين قال: «في بضع أحدكم صدقة»، فقال: «أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليها؟» فقال: «أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟» فقال: نعم، قال: «فذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر»، وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «فما ألوانها؟» قال: حمر. قال: «فهل فيها من أورق؟» - لونه كلون الرماد - قال: نعم، قال: «فمن أين؟» قال: «لعله نزعه عرق»،
20
فقال: «وهذا لعله نزعه عرق»، وقال لعمر، وقد قبل امرأته وهو صائم: «أرأيت لو تمضمضت بماء؟» وقال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.» وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام، وقد وقع منه
صلى الله عليه وسلم
قياسات كثيرة، حتى صنف الناصح الحنبلي جزءا في أقيسته.
21
ويقول الشوكاني ما يدل على أنه لا نزاع في حجية القياس الصادر منه
صلى الله عليه وسلم
ونص كلامه: «وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه -
صلى الله عليه وسلم .»
22
ومما يدخل في هذا الباب ما جاء في كتاب «مرآة الجنان وعبرة اليقظان» للإمام عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي المتوفى سنة 768ه/1367م: «قتيلة بضم القاف وفتح المثناة من فوق وتسكين المثناة من تحت، ابنة النضر بن الحارث التي أنشدت عقب وقعة بدر الأبيات التي من جملتها: «ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... إلخ.»
فقال
صلى الله عليه وسلم : «لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته.» قلت: وهذا مما احتج به للقول الصحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، كان له أن يجتهد في الأحكام.»
23 «والمختار جواز الخطأ على النبي في اجتهاده، لكن بشرط ألا يقر عليه، ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى:
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .
24
وذلك يدل على خطئه في إذنه لهم، وقوله - تعالى - في المفاداة في يوم بدر:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض
إلى قوله:
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم
حتى قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه إلا عمر»؛ لأنه كان قد أشار بقتلهم ونهى عن المفاداة، وذلك دليل على خطئه في المفاداة.
25
وأما السنة فما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي، ولعل أحدكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار.» وذلك يدل على أنه قد يقضي بما لا يكون حقا في نفس الأمر.»
26
ومما يتصل بهذا المقام ويوضحه ما ذكره ابن قيم الجوزية في كتاب «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»، حيث يقول: «فإن الله - سبحانه - أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ... بل قد بين الله - سبحانه - بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، ليست مخالفة له، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات؛ فقد حبس رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، في تهمة وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم ... وقد منع النبي
صلى الله عليه وسلم ، الغال من الغنيمة سهمه وحرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده، ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية، فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع ، وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة، وأضعف الغرم على سارق ما لا قطع فيه، وشرع فيه جلدات نكالا وتأديبا، وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها، وقال في تارك الزكاة: «إنا آخذوها منه وشطر ماله عزمة (أي: فريضة) من عزمات ربنا»، وأمر بكسر دنان الخمر، وأمر بكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام.»
27 (3-2) اجتهاد الصحابة في عصر النبي في حضرته وفي غيبته
أما وقوع الاجتهاد من الصحابة في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر - رضي الله عنه - في حق أبي قتادة، حيث قتل رجلا من المشركين فأخذ سلبه
28
غيره: «لا نقصد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه.» فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «صدق وصدق في فتواه.»
29
ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد، وأيضا ما روي عن النبي،
صلى الله عليه وسلم ، أنه حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم بالرأي، فقال
صلى الله عليه وسلم : «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»،
30
وأيضا ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه أمر عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجهني أن يحكما بين خصمين، وقال لهما: «إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة.»
31
ويدل على جواز الاجتهاد من الصحابة في غيبة النبي
صلى الله عليه وسلم ، في حياته ما روي عن النبي أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيا: «بم تحكم؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد؟» قال: فبسنة رسول الله، قال: «فإن لم تجد؟» قال: أجتهد رأيي. والنبي
صلى الله عليه وسلم
أقره على ذلك، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله.»
وأيضا ما روي عنه،
صلى الله عليه وسلم
أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري، وقد أنفذهما إلى اليمن: «بم تقضيان؟» فقالا: إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا في السنة قسنا الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به - صرحوا بالعمل بالقياس، والنبي
صلى الله عليه وسلم
أقرهما عليه فكان حجة - وأيضا ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال لابن مسعود: «اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما، فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد برأيك.»
32
وقد جمع ابن حزم حجج القائلين بالرأي، قال في كتاب «الإحكام»: «وأما الرأي؛ فإنهم احتجوا في تصويب القول به، بقول الله عز وجل: «وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله»، وبقوله تعالى: «وأمرهم شورى بينهم».
ومن الحديث بالأثر الصحيح في مشاورة النبي
صلى الله عليه وسلم
المسلمين فيما يعملون لوقت الصلاة قبل نزول الأذان، فقال بعضهم: نار، وقال بعضهم: بوق، وقال بعضهم: ناقوس، وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس، ثنا أبو داود، عن الزهري، وذكر حديث مشاورة النبي
صلى الله عليه وسلم
أصحابه في القتال يوم الحديبية، قال الزهري: فكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
حدثنا المهلب، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن حسين، قال: سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن الحزم، فقال: تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى ما أمرك به، وبه إلى ابن وهب، عن عيسى الواسطي يرفعه، قال: ما شقي عبد بمشورة ولا سعد عبد استغنى برأيه.
حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه قال: «جاء خصمان إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لي: «يا عمرو، اقض بينهما.» قلت: أنت أولى مني بذلك يا نبي الله، قال: «وإن كان»، قلت: على ماذا أقضي؟ قال: «إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات، وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة.»
قال سعيد بن منصور: وحدثنا فرج بن فضالة عن ربيعة بن يزيد، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، مثله، إلا أنه قال: «إن أصبت فلك عشرة أجور، وإن أخطأت فلك أجر واحد.» عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله عز وجل. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: فبسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم . قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.»
كتب إلي يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، عن علي بن أبي طالب، قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم يمض فيه منك سنة؟ قال: «اجمعوا له العالمين - أو قال: العابدين - من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد.»
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثني ابن غنم أن رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، لما خرج إلى بني قريظة والنضير، قال له أبو بكر وعمر: «يا رسول الله، إن الناس يزيدهم حرصا على الإسلام أن يروا عليك زيا حسنا من الدنيا، فانظر إلى الحلة التي أهداها لك سعد بن عبادة فالبسها فليرك اليوم المشركون أن عليك زيا حسنا.» قال: «أفعل وايم الله، لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا، ولقد ضرب لي ربي لكما مثلا، فأمثالكما في الملائكة كمثل جبريل وميكائيل، فأما ابن الخطاب فمثله في الملائكة كمثل جبريل، إن الله لم يدمر أمة قط إلا بجبريل، ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ قال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
ومثل ابن أبي قحافة في الملائكة كمثل ميكائيل؛ إذ يستغفر لمن في الأرض، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، إذ قال:
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم . ولو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشاورة أبدا، ولكن شأنكما في المشاورة شيء كمثل جبريل وميكائيل ونوح وإبراهيم».»
33
وقد ذكر ابن حزم هذه الأدلة بيانا لحجة القائلين بالرأي، ثم كر عليها ينازع في دلالتها؛ ولذلك قال بعد ما ذكر: «قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به، ما نعلم لهم شيئا غيره، وكله لا حجة لهم في شيء منه.»
34 (3-3) أصول التشريع في عهد النبي
ويتبين مما ذكر أنه كان في العصر الذي عاش فيه النبي
صلى الله عليه وسلم ، أصل للتشريع هو الرأي. قال المزني: «الفقهاء من عصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى يومنا وهلم جرا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم»،
35
وذلك إلى جانب الكتاب والسنة.
أما الكتاب فهو القرآن، وهو الكلام المنزل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلا متواترا، وأما السنة في اصطلاح أهل الشرع، عند الكلام على الأدلة الشرعية، فهي ما صدر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، والحديث هو قول الرسول وحكاية فعله وتقريره.
وقيل الحديث خاص بقول الرسول دون رواية ما يدل على فعله أو تقريره، وقد يطلق الحديث على ما يشمل قول الصحابة والتابعين والمروي من آثارهم. وفي كتاب «مناقب الإمام الشافعي» لفخر الدين الرازي: «إن الحديث عبارة عن القرآن وعن خبر الرسول، وقد ساق الأدلة على أن لفظ الحديث متناول للقرآن تارة والخبر أخرى.»
36
قال الدهلوي في «حجة الله البالغة»، مبينا طريقة تشريع النبي بسنته في بساطة ويسر أيام حياته: «اعلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل البحث من هؤلاء الفقهاء، حيث يبينون بأقصى جهدهم الأركان والشروط وآداب كل شيء ممتازا عن الآخر بدليله، ويفرضون الصور، يتكلمون على تلك الصور المفروضة، ويحدون ما يقبل الحد، ويحصرون ما يقبل الحصر، إلى غير ذلك من صنائعهم، أما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكان يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين أن هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي، وحج فرمق الناس حجه ففعلوا كما فعل؛ فهذا كان غالب حاله
صلى الله عليه وسلم
ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة والفساد إلا ما شاء الله، وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ،
37
ويسألونك عن المحيض .
38
قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم، وقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.
قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما أدري ما هي، ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها.
عن عمر بن إسحاق، قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم، وعن عبادة بن يسر الكندي، وسئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت قوما ما كانوا يشددون تشديدكم ولا يسألون مسائلكم (أخرج هذه الآثار الدارمي).»
39
وكان
صلى الله عليه وسلم
يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويرى الناس يفعلون معروفا فيمدحه، أو منكرا فينكر عليه، وكل ما أفتى به مستفتيا أو قضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات.
40 (3-4) الاختلاف في الرأي في ذلك العهد
ولم يكن للخلاف الذي ينشأ حتما عن الاجتهاد بالرأي أثر ظاهر في التشريع لذلك العهد، وهو تشريع - كما رأينا - بسيط، لجماعة تأخذ باليسر في أمرها والبساطة، كان النبي
صلى الله عليه وسلم
غير بعيد من القوم، يفصل بينهم فيما هم فيه مختلفون من أمر الأحكام.
قال ابن حزم: «وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره
صلى الله عليه وسلم
فيبلغه ذلك، فيصوب المصيب، ويخطئ المخطئ.»
41
وكان ينهاهم عن التفرق والتنازع في الدين اتباعا لما جاء به القرآن، من مثل قوله تعالى:
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ،
42
وقوله: ،
43
وقوله:
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ،
44
وقوله:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ،
45
وقوله تعالى:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا .
46
روي أنه نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر، وقال: إنما هلك من قبلكم لخوضهم في هذا، وقال
صلى الله عليه وسلم : عليكم بدين العجائز، وهو ترك النظر، ولم ينقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقا، ولو وجد ذلك منهم لنقل كما نقل عنهم النظر في المسائل الفقهية.
47
وكان التنازع والاختلاف - حتى فيما عدا المسائل الكلامية - أشد شيء على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان إذا رأى من الصحابة اختلافا يسيرا في فهم النصوص يظهر في وجهه، حتى كأنما فقئ فيه حب الرمان، ويقول: أبهذا أمرتم؟
48
ويقول ابن حزم: «قال أبو محمد: وقد ذم الله - تعالى - الاختلاف في غير ما موضع في كتابه؛ قال الله عز وجل:
وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ،
49
وقال تعالى:
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ،
50
وقال تعالى مفترضا للاتفاق، وموجبا رفض الاختلاف:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ...
الآية، إلى قوله تعالى:
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ،
51
وقال تعالى:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم .
52
فصح أنه لا هدى في الدين إلا ببيان الله - تعالى - لآياته، وأن التفرق في الدين حرام لا يجوز، وقال تعالى:
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ،
53
وقال تعالى:
أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ،
54
وقال تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ،
55
وقال تعالى:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ،
56
وقال تعالى:
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
57
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، نا حماد بن زيد، ثنا أبو عمران الجوني، قال: كتب إلي عبد الله بن رباح الأنصاري، أن عبد الله بن عمرو، قال: هجرت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يعرف في وجهه الغضب فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.»
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، ثنا أبو إسحاق البلخي ، ثنا الفهري، ثنا البخاري، ثنا أبو الوليد هو الطيالسي، ثنا شعبة، أخبرني عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود، قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: «كلاكما محسن.» قال شعبة: أظنه قال: «لا تختلفوا، فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا.»
حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا بندار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن عبد الله بن ميسرة عن النزال عن ابن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم
بهذا الحديث، وذكر شعبة في آخره، قال: حدثني مسعر عنه يرفعه إلى ابن مسعود عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا تختلفوا.»
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، ثنا عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم.» وبه إلى مسلم، ثنا يحيى بن يحيى، وإسحاق بن منصور، وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، قال يحيى: أنا أبو قدامة الحارث بن عبيد، وقال إسحاق: ثنا عبد الصمد، وهو ابن عبد الوارث التنوري، ثنا همام، وقال أحمد ثنا حبان، ثنا أبان، قالوا كلهم ثنا أبو عمران الجوني عند جندب بن عبد الله البلخي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا.» وبه إلى مسلم، حدثني زهير بن حرب، ثنا جرير، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله - تعالى - يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.»
قال أبو محمد: ففي بعض ما ذكرنا كفاية؛ لأن الله - تعالى - نص على أن الاختلاف شقاق وأنه بغي، ونهى عن التنازع والتفرق في الدين، وأوعد على الاختلاف بالعذاب العظيم وبذهاب الريح، وأخبر أن الاختلاف تفرق عن سبيل الله، ومن عاج عن سبيل الله فقد وقع في سبيل الشيطان.»
58 (3-5) نظرة إجمالية
وجملة القول أن التشريع في عهد النبي كان يقوم على الوحي من الكتاب والسنة، وعلى الرأي من النبي ومن أهل النظر، والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي، وتفصيل وجوهه، وبدون تنازع ولا شقاق بينهم.
فرأى كل صحابي ما يسره الله له من عبادته (أي النبي) وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها، وعرف لكل شيء وجها من قبل حفوف القرائن به. فحمل بعضها على الإباحة، وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده، ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج
59
من غير التفات إلى طريق الاستدلال، كما نرى الأعراب يفهمون مقصود الكلام فيما بينهم، وتثلج صدورهم بالتصريح والتلويح والإيماء من حيث لا يشعرون.
60
وفي نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس من كتاب «طبقات الفقهاء» للشيخ أبي إسحاق إبراهيم الفيروزآبادي الشيرازي: «ذكر فقهاء الصحابة رضي الله عنهم: اعلم أن أكثر أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين صحبوه ولازموه كانوا فقهاء؛ وذلك أن طريق الفقه في حق الصحابة، خطاب الله عز وجل، وخطاب رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وما عقل منها، فخطاب الله - عز وجل - هو القرآن، وقد أنزل ذلك بلغتهم على أسباب عرفوها، وقصص كانوا فيها، فعرفوها مسطورة ومفهومة ومنطوقة ومعقولة؛ ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب «المجاز»: لم ينقل أن أحدا في الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وخطاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أيضا بلغتهم، يعرفون معناه ويفهمون منطوقه وفحواه، وأفعاله هي التي فعلها من العبادات والمعاملات والسير والسياسات، وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه، وتكرر عليهم وتحروه؛ ولهذا قال
صلى الله عليه وسلم : «أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم.» ولأن من نظر فيما تعلموه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أقواله، وتأمل ما وصفوه من أفعاله في العبادات وغيرها، اضطر إلى العلم بفقههم وفضلهم، غير أن الذي اشتهر منهم بالفتاوى والأحكام، وتكلم في الحلال والحرام جماعة مخصوصة ... إلخ.» (أ) المفتون من الصحابة في عهد النبي «وكان يفتي في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبدالرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وسلمان الفارسي، رضي الله عنهم.»
61
ويقول ابن حزم: «المكثرون من الصحابة - رضي الله عنهم - فيما روي عنهم من الفتيا، عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله بن العباس، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، فهم سبعة يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابا، وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا، رضي الله عنهم: أم سلمة أم المؤمنين، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، عثمان بن عفان، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن الزبير، أبو موسى الأشعري، سعد بن أبي وقاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد الله، معاذ بن جبل، أبو بكر الصديق، فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدا، ويضاف إليهم طلحة، الزبير، عبد الرحمن بن عوف، عمران بن الحصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، معاوية بن أبي سفيان، والباقون منهم - رضي الله عنهم - مقلون في الفتيا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة على ذلك فقط، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث.»
62
وكان التشريع على الوجه الذي ذكرنا كافيا في إقامة الدين وسياسة جماعة قريبة عهد بحياة البداوة، لا تزال تخطو خطواتها الأولى في سبيل تكوين الدولة وإقرار النظام. (ب) شرائع العرب قبل الإسلام
على أن الرسول - عليه السلام - إنما كان يريد بشريعته إصلاح ما عند العرب لا تكليفهم بما لا يعرفونه أصلا.
قال الدهلوي: «وكان الأنبياء - عليهم السلام - قبل نبينا
صلى الله عليه وسلم
يزيدون ولا ينقصون ولا يبدلون إلا قليلا، فزاد إبراهيم - عليه السلام - على ملة نوح - عليه السلام - أشياء من المناسك وأعمال الفطرة والختان، وزاد موسى - عليه السلام - على ملة إبراهيم - عليه السلام - أشياء؛ كتحريم لحوم الإبل ووجوب السبت، ورجم الزنا وغير ذلك، ونبينا
صلى الله عليه وسلم
زاد ونقص وبدل، والناظر في دقائق الشريعة، إذا استقرأ هذه الأمور وجدها على وجوه: منها أن الملة اليهودية حملها الأحبار والرهبان فحرفوها بالوجوه المذكورة فيما سبق، فلما جاء النبي
صلى الله عليه وسلم
رد كل شيء إلى أصله، فاختلفت شريعته بالنسبة إلى اليهودية، التي هي في أيديهم، فقالوا هذه زيادة ونقص وتبديل، وليس تبديلا في الحقيقة.
ومنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعث بعثة تتضمن بعثة أخرى:
فالأولى:
إنما كانت إلى بني إسماعيل، وهو قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ، وقوله تعالى:
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ، وهذه البعثة تستوجب أن يكون مادة شريعته ما عندهم من الشعائر وسنن العبادات ووجوه الارتفاقات؛ إذ الشرع إنما هو إصلاح ما عندهم لا تكليفهم ما لا يعرفونه أصلا، ونظيره قوله تعالى:
قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، وقوله تعالى:
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ، وقوله تعالى:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه .
والثانية:
كانت إلى جميع أهل الأرض عامة.»
63
فكان العرب حين يدخلون في الإسلام يظلون بالضرورة على شريعتهم كما هي، إلا ما يغيره الدين الجديد.
ويبين هذا المعنى ما ذكره مؤلفو أصول الفقه عند الكلام على شرع من قبلنا، قالوا: إن العلماء اختلفوا في النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأمته بعد البعثة، هل هم متعبدون بشرع من تقدم؟
وقد ذكر الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» أقوالا أربعة في ذلك: (1)
أنه لم يكن متعبدا باتباع شرع من قبله، بل كان منهيا عنه، ونسب الآمدي هذا المذهب للأشاعرة والمعتزلة. (2)
أنه كان متعبدا بشرع من قبله إلا ما نسخ منه، ونقل هذا المذهب عن أصحاب أبي حنيفة، وعن أحمد في إحدى الروايتين، وعن أصحاب الشافعي. (3)
الوقف. حكاه ابن القشيري وابن برهان.
ثم زاد الشوكاني مذهبا رابعا، فقال: «وقد فصل بعضهم تفصيلا حسنا، فقال: إنه إذا بلغنا شرع من قبلنا على لسان الرسول، أو لسان من أسلم، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، لم يكن منسوخا ولا مخصوصا فإنه شرع لنا، وممن ذكر هذا القرطبي.» وذيل الشوكاني بقوله: «ولا بد من هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبد لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل، فإطلاقهم مقيد بهذا القيد، ولا أظن أحدا يأباه.»
64
وفي كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم: «وأما شرائع الأنبياء - عليهم السلام - الذين كانوا قبل نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم ، فالناس فيها على قولين: فقوم قالوا هي لازمة لنا ما لم ننه عنها، وقال آخرون هي ساقطة عنا ولا يجوز العمل بشيء منها إلا أن نخاطب في ملتنا بشيء موافق لبعضها، فنقف عنده ائتمارا لنبينا
صلى الله عليه وسلم ، لا اتباعا للشرائع الخالية.»
65
وذكر علماء أصول الفقه خلافا آخر في النبي
صلى الله عليه وسلم ، قبل بعثته، هل كان متعبدا بشرع أم لا. فقيل إنه كان متعبدا قبل البعثة بشريعة آدم، وقيل بشريعة نوح، وقيل بشريعة إبراهيم، وقيل كان متعبدا بشريعة موسى، وقيل بشريعة عيسى، وقيل كان على شرع من الشرائع، ولا يقال كان من أمة نبي ولا على شرعه، وقيل كان متعبدا بشريعة كل من قبله من الأنبياء إلا ما نسخ منها واندرس ، وقال بعضهم: بل كان على شريعة العقل، وقيل بالوقف.»
66
وليس يعنينا أن نعرض لاستدلالات هذه المذاهب ومناقضاتها؛ فذلك ما لا طائل تحته. (ج) النبي وشريعة العقل
ولكن الذي يعنينا أن من علماء المسلمين من يرى أن النبي كان على شريعة العقل قبل أن يأتيه الوحي، ومنهم من يرى في الشرائع الماضية أصلا من أصول التشريع الإسلامي، وذلك يبين وجه ما أشرنا إليه من كفاية التشريعات القليلة التي رويت عن عهد النبي لحاجات الأمة العربية في ذلك الحين.
وعلى الذي أسلفناه من قول بعض الأئمة: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان متعبدا قبل الوحي بشريعة العقل، فإن ذلك يقتضي أن يكون النبي ظل على هذه الشريعة بعد الوحي إلا ما غيره الشرع الجديد، والعقل كان أصلا من أصول تشريعه فيما لم ينزل به تنزيل.
وإذا كان شرع من قبلنا معتبرا في التشريع الإسلامي حين لا يرد في الإسلام ما يبطله، فمعنى ذلك أن شرائع من قبلنا كانت أصلا من أصول التشريع في صدر الإسلام، يثبت بها الحكم فيما لم يرد في الدين الجديد.
وقد ذكر علماء الأصول الاستصحاب باعتباره أصلا من أصول الفقه في بعض المذاهب.
قال الشوكاني: «الاستصحاب أي استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي، ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، مأخوذ من المصاحبة وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ما يغيره؛ فيقال الحكم الفلاني قد كان فيما مضى، وكل ما كان فيما مضى ولم يظن عدمه فهو مظنون البقاء ... العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره، وكنفي صلاة سادسة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا حجة بالإجماع من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع، قال: الثالثة: استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة، فإن عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعي، وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به؛ لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات .
قال: الرابعة: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، إما تخصيصا إن كان الدليل ظاهرا، أو نسخا إن كان الدليل نصا، فهذا أمر معمول به إجماعا، وقد اختلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب، فأثبته جمهور الأصوليين، ومنعه المحققون، منهم: إمام الحرمين في «البرهان»، والكيا في «تعليقه» وابن السمعاني في «القواطع»؛ لأن ثبوت الحكم من ناحية اللفظ لا من ناحية الاستصحاب.
قال: الخامسة: الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع، وهو راجع إلى الحكم الشرعي، بأن يتفق على حكم في حالة ثم تتغير بصفة المجمع عليه؛ فيختلفون فيه فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال، مثاله إذا استدل من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة، وكقول الظاهرية يجوز بيع أم الولد؛ لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد، وهذا النوع هو محل الخلاف كما قاله في «القواطع»، وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها.»
67
وبذلك يتبين أن الاستصحاب في بعض صوره أصل من أصول التشريع، يزيد على الأصول التي ذكرناها، ويؤيد اعتبار حكم العقل وشرع من قبلنا في تقرير الأحكام العملية في الإسلام.
وبناء على ما ذكرنا تكون مصادر الحكم في عهد النبي غير ضيقة بما تستلزمه حاجات الجماعات ولا حاجات الأفراد. (4) الرأي في عهد الخلفاء الراشدين
مضى عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين منذ سنة 11ه/632م إلى 40ه/660م.
وقد اتفق الصحابة على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير إنكار من أحد منهم، وابن حزم نفسه مع إنكاره للرأي يقول: «قال أبو محمد: فقد ثبت أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يفتوا برأيهم على سبيل الإلزام ولا على أنه حق، ولكن على أنه ظن يستغفرون الله - تعالى - منه، أو على سبيل صلح بين الخصمين.»
68
ويقول أيضا في الكتاب نفسه: «وأما القول بالرأي والاستحسان والاختيار فكثير منهم - رضي الله عنهم - جدا، ولكنه لا سبيل إلى أن يوجد لأحد منهم أنه جعل رأيه دينا أوجبه حكما، وإنما قالوا إخبارا منهم بأن هذا الذي يسبق إلى قلوبهم، وهكذا يظنون، وعلى سبيل الصلح بين المختصمين، ونحو هذا.»
69
ويكفينا من ابن حزم الظاهري أن يعترف بوقوع الرأي من الصحابة كثيرا، وإن ذهب في تأويل وقوعه مذهبا عجبا. (4-1) عهد أبي بكر
فمن ذلك رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر - رضي الله عنه - في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم على ذلك، وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف. ومن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة: «أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، الكلالة ما عدا الوالد والولد.» ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب، فقال له بعض الأنصار: لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فرجع إلى التشريك بينهما في السدس؛ ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر: كيف تجعل من ترك دياره وأمواله، وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرها؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ،
70
وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرق بينهم. ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة، حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة، ووافقه على ذلك الصحابة.
71 «ومن ذلك أن الصحابة قدموا الصديق في الخلافة وقالوا: رضيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة، وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه، وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد، وترتيب واحد، وحرف واحد.»
72
ومن ذلك - كما في «الطرق الحكمية»
73 - أن أبا بكر حرق اللوطية وأذاقهم حر النار في الدنيا قبل الآخرة ... فإن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - كتب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة، فاستشار الصديق أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفيهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكان أشدهم قولا، فقال: إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم، أرى أن يحرقوا بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد أن يحرقوا. فحرقوهم. (4-2) عهد عمر
ومن ذلك ما روي عن عمر، أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك. وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح: إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فاقض بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا لك (ذكره سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه).
74
ومن ذلك أنه لما قيل لعمر إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور، وخللها وباعها، فقال: قاتل الله سمرة! أما علم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها،
75
وباعوها وأكلوا أثمانها»؟ قاس الخمر على الشحم، وأن تحريمها تحريم لثمنها.
ومن ذلك أنه جلد أبا بكرة؛ حيث لم يكمل نصاب الشهادة، بالقياس على القاذف وإن كان شاهدا لا قاذفا.
ومن ذلك أن عمر حرق حانوت خمار بما فيه، وحرق قريبة يباع فيها الخمر، وحرق قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب في قصره عن الرعية، ودعا محمد بن مسلمة فقال : اذهب إلى سعد بالكوفة فحرق عليه قصره ولا تحدثن حدثا حتى تأتيني، فذهب محمد إلى الكوفة فاشترى من نبطي
76
حزمة من حطب وشرط عليه حملها إلى قصر سعد، فلما وصل إليه ألقى الحزمة فيه وأضرم فيها النار، فخرج سعد فقال: ما هذا؟ قال: عزمة أمير المؤمنين فتركه حتى أحرق، ثم انصرف إلى المدينة، فعرض عليه سعد نفقة، فأبى أن يقبلها، فلما قدم على عمر قال: هلا قبلت نفقته! قال: إنك قلت لا تحدثن حدثا حتى تأتيني.
وحلق رأس نصر بن حجاج ونفاه من المدينة لتشبيب النساء به، وضرب صبيغ بن عسيل التميمي على رأسه لما سأله عما لا يعنيه، وصادر عماله، فأخذ شطر أموالهم لما اكتسبوها بجاه العمل، واختلط ما يخصون به بذلك، فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين.
وألزم الصحابة أن يقلوا من الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لما اشتغلوا به عن القرآن؛ سياسة
77
منه، إلى غير ذلك من سياساته التي ساس بها الأمة رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: ومن ذلك إلزامه للمطلق ثلاثا بكلمة واحدة بالطلاق، وهو يعلم أنها واحدة، ولكن لما أكثر الناس منه رأى عقوبتهم بإلزامهم به؛ ومن ذلك منعه بيع أمهات الأولاد، وإنما كان رأيا منه رآه للأمة، وإلا فقد بعن في حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ومدة خلافة الصديق؛ ولهذا عزم علي بن أبي طالب على بيعهن، وقال إن عدم البيع كان رأيا اتفق عليه هو وعمر، فقال قاضيه عبيدة السلماني: يا أمير المؤمنين، رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، فقال: اقضوا بما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، فلو كان عنده نص من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بتحريم بيعهن لم يضف ذلك إلى رأيه ورأي عمر، ولم يقل إني رأيت أن يبعن.
78 (4-3) عهد عثمان
ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة: «إن تتبع رأيك فرأيك أسد، وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذلك الرأي!» ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يجز تصويبهما.
وجمع عثمان الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
القراءة بها، لما كان ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة - رضي الله عنهم - على الأمة أن يختلفوا في القرآن، ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد عن وقوع الاختلاف فعلوا ذلك، ومنعوا الناس من القراءة بغيره.
79 (4-4) عهد علي
ومن ذلك قول علي - رضي الله عنه - في حد شارب الخمر: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدوه حد المفترين. قاس حد الشارب على القاذف.
ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة، فقال له علي: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم؟ قال: نعم، قالوا: كذلك، وهو قياس للقتل على السرقة.
ومن ذلك تحريق علي - رضي الله عنه - الزنادقة الرافضة وهو يعلم سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في قتل الكافر، لكن لما رأى أمرا عظيما جعل عقوبته من أعظم العقوبات ليزجر الناس عن مثله؛ ولذلك قال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا
أججت ناري ودعوت قنبرا
وقنبر غلامه.
80
ومن ذلك قول علي في المرأة التي أجهضت بفزعها بإرسال عمر إليها: أما المأثم فأرجو أن يكون منحطا عنك، وأرى عليك الدية، فقال له: عزمت عليك ألا تبرح حتى تضربها على بني عدي، يعني قومه، وألحقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدب، وقالا: إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك. وروى هذه الواقعة ابن عبد البر على الوجه الآتي: «وعن عمر في المرأة التي غاب عنها زوجها، وبلغه أنه يتحدث عندها، فبعث إليها يعظها ويذكرها ويوعدها إن عادت، فمخضت فولدت غلاما فصوت ثم مات، فشاور أصحابه في ذلك، فقالوا: والله، ما نرى عليك شيئا، وما أردت بهذا إلا الخير. وعلي حاضر. فقال: ما ترى يا أبا حسن؟ فقال: قد قال هؤلاء، فإن يك هذا جهد رأيهم فقد قضوا ما عليهم، وإن كانوا قاربوك فقد غشوك ، أما الإثام فأرجو أن يضعه الله عنك بنيتك وما يعلم منك، وأما الغلام فقد والله غرمت، فقال له أنت والله صدقتني، أقسمت عليك لا تجلس حتى تقسمها على بني أبيك، يريد بقوله بني أبيك، أي: بني عدي بن كعب رهط عمر رضي الله عنه.»
81 «ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته: أنت علي حرام، حتى قال أبو بكر وعمر هو يمين، وقال علي وزيد هو طلاق ثلاث، وقال ابن مسعود هو طلقة واحدة، وقال ابن عباس هو ظهار.
82 (4-5) ظهور الخلاف بالرأي في الأحكام
وفي هذا العصر ظهر الخلاف بالرأي في مسائل الأحكام، قال الشاطبي في كتاب «الاعتصام»: «ولقد كان
صلى الله عليه وسلم
حريصا على ألفتنا وهدايتنا حتى ثبت من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: لما أحضر النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: «هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده .» فقال عمر: إن النبي
صلى الله عليه وسلم ، غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول كما قال عمر. فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «قوموا عني»؛ فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. فكان - والله أعلم - وحيا أوحاه الله إليه، أنه كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة من مقتضى قوله:
ولا يزالون مختلفين
بدخولها تحت قوله:
إلا من رحم ربك ، فأبى الله إلا ما سبق في علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم.»
83
وفي شرح السيد الشريف على «المواقف»: «قال الآمدي: كان المسلمون عند وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
على عقيدة واحدة وطريقة واحدة، إلا من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق، ثم نشأ الخلاف فيما بينهم أولا في أمور اجتهادية لا توجب إيمانا ولا كفرا، وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم، وذلك كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته: «ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي»، حتى قال عمر: إن النبي قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله.
وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي: «قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع.» وكاختلافهم بعد ذلك في التخلف عن جيش أسامة، فقال قوم بوجوب الاتباع لقوله عليه السلام: «جهزوا جيش أسامة. لعن الله من تخلف عنه»، وقال قوم بالتخلف انتظارا لما يكون من رسول الله في مرضه، وكاختلافهم بعد ذلك في موته حتى قال عمر: من قال: إن محمدا قد مات علوته بسيفي، وإنما رفع إلى السماء، كما رفع عيسى بن مريم، وقال أبو بكر: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت، وتلا قوله تعالى:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ...
الآية. فرجع القوم إلى قوله، وقال عمر: كأني ما سمعت هذه الآية إلا الآن.
وكاختلافهم بعد ذلك في موضع دفنه بمكة أو بالمدينة أو القدس، حتى سمعوا ما روي عنه، من أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، وكاختلافهم في الإمامة، وثبوت الإرث عن النبي كما مر. وفي قتال مانعي الزكاة حتى قال عمر: كيف نقاتلهم وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»؟ فقال له أبو بكر: أليس قد قال: «إلا بحقها»؟ ومن حقها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو منعوني عقالا مما أدوه إلى النبي لقاتلتهم عليه.
ثم اختلافهم بعد ذلك في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة، ثم في أمر الشورى حتى استقر الأمر على عثمان، ثم اختلافهم في قتله. وفي خلافة علي ومعاوية، وما جرى في وقعة الجمل وصفين، ثم اختلافهم أيضا في بعض الأحكام الفروعية كاختلافهم في الكلالة، وميراث الجد مع الأخوة، وعقل الأصابع، وديات الأسنان، وكان الخلاف يتدرج ويترقى شيئا فشيئا إلى آخر أيام الصحابة.»
84
وقد عرض ابن حزم في كتاب «الإحكام» لقصة الصحيفة التي تعتبر أول خلاف قائم على الرأي ظهر في الإسلام فقال: «عن ابن عباس قال: لما اشتد برسول الله
صلى الله عليه وسلم
وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي»، فقال عمر: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، فقال: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع»؛ فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.
وحدثنا عبد الله بن ربيع عن ابن عباس فذكر هذا الحديث وفيه: أن قوما قالوا عن النبي
صلى الله عليه وسلم
في ذلك اليوم: «ما شأنه؟ هجر؟» قال أبو محمد هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديما، وقد كان في سابق علم الله - تعالى - أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة، وتهتدي بهدى الله أخرى، فلذلك نطق عمر ومن وافقه مما نطقوا به، مما كان سببا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده، ولم يزل أمر هذا الحديث مهما لنا وشجى في نفوسنا وغصة نألم لها، وكنا على يقين من أن الله - تعالى - لا يدع الكتاب الذي أراد نبيه
صلى الله عليه وسلم ، أن يكتبه فلن يضل بعده دون بيان؛ ليحيا من حي عن بينة إلى أن من الله - تعالى - بأن أوجدناه، فانجلت الكربة، والله المحمود، وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مرضه: «ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر.»
قال أبو محمد: هكذا في كتاب عن عبد الله بن يوسف. وفي أم أخرى: «ويأبى الله والمؤمنون»، وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع عن عائشة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفيه أن ذلك كان في اليوم الذي بدئ فيه
صلى الله عليه وسلم
بوجعه الذي مات فيه.
قال أبو محمد: فعلمنا أن الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته
صلى الله عليه وسلم
بأربعة أيام كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا، إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد
صلى الله عليه وسلم
أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم
ابتدأ وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين وأراد الكتاب الذي قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد أن اشتد به المرض، ومات
صلى الله عليه وسلم
يوم الإثنين، وكانت مدة علته،
صلى الله عليه وسلم
اثني عشر يوما، فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلالة في الأمة بعده
صلى الله عليه وسلم .»
85 (أ) أسباب الاختلاف
ويشير ابن حزم إلى أسباب الاختلاف الحادث في هذه القصة. وفي نحوها مما وقع في عهد الصحابة بقوله: «وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره؛ حتى يفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بألا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكرته امرأة بقول الله تعالى: «وآتيتم إحداهن قنطارا»، فترك قوله وقال: كل واحد أفقه منك يا عمر! وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ.
وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فذكره علي بقول الله تعالى:
وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ، مع قوله تعالى:
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ، فرجع عن الأمر برجمها، وهم أن يسطو بعيينة بن حصن؛ إذ قال له: يا عمر، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى:
وأعرض عن الجاهلين ، وقال له: يا أمير المؤمنين، هذا من الجاهلين، فأمسك عمر، وقال يوم مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم : والله، ما مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا يموت حتى يكون آخرنا - أو كلاما هذا معناه - حتى قرئت عليه:
إنك ميت وإنهم ميتون ، فسقط السيف من يده، وخر إلى الأرض وقال: كأني والله لم أكن قرأتها قط. فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن، وقد ينساه البتة، وقد لا ينساه بل يذكره، ولكن يتأول فيه تأويلا فيظن فيه خصوصا أو نسخا أو معنى ما.»
86
وبقوله أيضا: «والله العظيم، قسما برا، ما اختلف اثنان قط فصاعدا في شيء من الدين إلا في منصوص بين في القرآن والسنة، فمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا تلقي بخلاف ظاهره، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا منسوخ، ومن قائل: هذا تأويل؛ فعلى هذا، وعلى النسيان للنص، كان اختلاف من اختلف في خلافة أبي بكر.»
87
وابن حزم يريد بذلك أن يفر من جعل الاختلاف بين الصحابة كان بسبب الرأي، ولا شك أن ما ذكره من أسباب الاختلاف صحيح، ولكن الركون إلى الرأي هو سبب الاختلاف؛ حتى في هذا الذي يورده، وقد صرح الشاطبي في كتاب «الاعتصام»
88
بأن الله - تعالى - حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون، وأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة، وإنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، رضي الله عنهم، وأنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه. (ب) تفاوت الخلاف في عهود الخلفاء الراشدين
ولم يكن وقوع الاختلاف مطردا على سواء في عهود الخلفاء الراشدين.
ويقول ابن قيم الجوزية في كتاب «إعلام الموقعين»: «وأما الصديق فصان الله خلافته عن الاختلاف المستقر في واحد من أحكام الدين، وأما خلافة عمر فتنازع الصحابة تنازعا يسيرا في قليل من المسائل جدا، وأقر بعضهم بعضا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن، وترجع قلة الاختلاف في عهد عمر إلى حزمه
89
وحريته وحسن سياسته واعتماده على الشورى.
90
فلما كانت خلافة عثمان اختلفوا في مسائل يسيرة صحب الاختلاف فيها بعض الكلام واللوم، كما لام علي عثمان في أمر المتعة
91
وغيرها، ولامه عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات.
فلما أفضت الخلافة إلى علي - كرم الله وجهه - صار الاختلاف بالسيف.»
وقال الدهلوي في هذا المعنى: «وأكابر هذا الوجه (يريد الفتوى) عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، رضي الله عنهم؛ لكن كان من سيرة عمر - رضي الله عنه - أنه كان يشاور الصحابة ويناظرهم حتى تنكشف الغمة ويأتيه الثلج، فصار غالب قضاياه وفتاواه متبعة في مشارق الأرض ومغاربها، وهو قول إبراهيم (يريد النخعي): لما مات عمر - رضي الله عنه - ذهب تسعة أعشار العلم، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: كان عمر إذا سلك طريقا وجدناه سهلا، وكان علي - رضي الله عنه - لا يشاور غالبا، وكان أغلب قضاياه بالكوفة، لم يحملها عنه إلا ناس، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - بالكوفة، فلم يحمل عنه غالبا إلا أهل تلك الناحية، وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - اجتهد بعد عصر الأولين؛ فناقضهم في كثير من الأحكام، واتبعه في ذلك أصحابه من أهل مكة، ولم يأخذ بما تفرد به جمهور أهل الإسلام، وأما غير هؤلاء الأربعة فكانوا يراوون دلالة - يريد الاستنباط - ولكن ما كانوا يميزون الركن والشرط من الآداب والسنن، ولم يكن لهم قول عند تعارض الأخبار وتقابل الدلائل إلا قليلا، كابن عمر، وعائشة، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم.»
92 (4-6) أصول الأحكام الشرعية في هذا العهد
وفي هذا العهد صارت أصول الأحكام الشرعية أربعة: الكتاب، والسنة،
93
والرأي أو القياس، والإجماع؛ أي: ما عليه جماعة المسلمين من التحليل والتحريم. (أ) الإجماع
قال الشافعي: «ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول جماعة المسلمين؛ فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يكون فيها كافة غفلة عن معنى كتاب الله - تعالى - ولا سنة، ولا قياس، إن شاء الله تعالى.»
94
وليس يخلو من غموض هذا المعنى الذي اتفق المختلفون عليه في بيان معنى الإجماع، ثم اختلفوا توضيحه.
قال ابن حزم: «اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة، وحق مقطوع به في دين الله عز وجل، ثم اختلفنا: فقالت طائفة: هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم على منصوص، وقلنا نحن: هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يبين في أن قول المختلفين هو الحق.»
95
وقال ابن حزم: «قال أبو محمد: فقالت طائفة: الإجماع إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - فقط، وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا، وقالت طائفة: إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح، ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة منهم: إذا صح إجماع كل عصر فهو إجماع صحيح، وليس لهم ولا لأحد من بعدهم أن يقول بخلافه، وقالت طائفة منهم أخرى: بل يجب مراعاة ذلك العصر، فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه؛ فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه، وإن رجع أحد منهم عما أجمع عليه مع أصحابه؛ فله ذلك، ولا يكون ذلك إجماعا، وقالت طائفة: إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما؛ فقد ثبت الاختلاف، ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا، وقالت طائفة: إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما، ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول بعض أهل العصر الماضي؛ فهو إجماع صحيح لا يسع أحدا خلافه أبدا: وقالت طائفة: إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر؛ فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه، وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال، فلا يسع أحدا الخروج على تلك الأقوال كلها، وله أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده، وقالت طائفة: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح، لا يجوز خلافه لأحد، وقالت طائفة: ليس هو إجماعا، وقالت طائفة : إذا اتفق الجمهور على قول، وخالفهم واحد من العلماء، فلا يلتفت إلى ذلك الواحد، وقول الجمهور هو إجماع صحيح، وهذا قول محمد بن جرير الطبري، وقالت طائفة: ليس هذا إجماعا، وقالت طائفة: قول الجمهور والأكثر إجماع، وإن خالفهم من هو أقل منهم عددا، وقالت طائفة: ليس هذا إجماعا: وقالت طائفة: إجماع أهل المدينة هو الإجماع، وهذا قول المالكيين، ثم اختلفوا، فقال ابن بكير منهم وطائفة معه: سواء كان عن رأي أو قياس، أو نقلا، وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه: إنما ذلك فيما كان نقلا فقط، وقالت طائفة: إجماع أهل الكوفة، وهذا قول بعض الحنفيين، وقالت طائفة: إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة، ولم يعرف له مخالف منهم فهو إجماع، وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين، وقال بعض الشافعيين: إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم ، ولم يعرف له منهم مخالف، وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر، فليس إجماعا، بل خلافه جائز.»
96 (ب) الإجماع طور من أطوار الرأي
كل هذه المعاني المختلفة للإجماع لم تفصل هذا التفصيل إلا حينما دونت العلوم ونظمت قواعدها، لكنها تدل على أن الإجماع في نشأته كان معنى مبهما صالحا لأن يحمل على كل هذه المعاني، كما كان الرأي نفسه مبهما غير مقسم ولا معين، وما الإجماع في بدء أمره إلا طور من أطوار الرأي ومظهر من مظاهر تنظيمه، وتنظيم التشريع والديمقراطية به، في دولة أخذت تخرج من دور البداوة إلى صورة من صور الحكم الديمقراطي المنظم. (ج) شأن عمر في هذا الباب
ومن الطبيعي أن يكون شأن عمر بن الخطاب في هذا الباب شأنا كبيرا، فإنه أول من وضع الأسس الأولى لتنظيم العمل الحكومي في الدولة الإسلامية؛ فإن أبا بكر إنما استطاع في مدة حكمه اليسيرة أن يقمع الفتن ويفتح اليمامة وبعض أطراف العراق والشام، والذي عرف عنه من شئون التنظيم الحكومي هو أنه أول من اتخذ الحاجب وصاحب الشرطة في الإسلام، أما عمر فقد فتح الفتوحات وكثر المال في دولته إلى الغاية حتى عمل بيت المال، ووضع للديوان، ورتب لرعيته ما يكفيهم، وفرض للأجناد، كما في «تاريخ الخميس».
97
وجاء أيضا في الكتاب نفسه: «وأول من وضع التاريخ بعام الهجرة وضعه في السنة السابعة عشرة، وهو أول من جمع الناس على إمام في قيام رمضان، وأول من أخر المقام عن موضعه وكان ملصقا بالبيت، وقيل بل أول من أخره رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأول من حمل الدرة لتأديب الناس وتعزيرهم، وفتح الفتوح ووضع الخراج، ومصر الأمصار، واستقضى القضاة ودون الديوان وفرض العطية.»
98
وجاء في كتاب: «الإدارة الإسلامية في عز العرب»: للأستاذ محمد كرد علي بك المطبوع سنة 1934م: «ومما تعلقت به همة عمر إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح: فهو أول من حمل الدرة، وهو أول من دون الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم، دونها عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس.
والديوان: الدفتر أو مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وعرفوا الديوان بأنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة، وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير والطوامير، وثبت أنه كان له سجن، وأنه سجن الحطيئة على الهجو، وسجن صبيغا على سؤاله عن «الذاريات»، و«المرسلات» و«النازعات» وشبههن، وضربه مرة بعد مرة ونفاه إلى العراق، وكتب ألا يجالسه أحد، فلو كانوا مائة تفرقوا عنه، حتى كتب إليه عامله أن حسنت توبته، فأمره عمر فخلى بينه وبين الناس، وكانت أعمال عمر جدا كلها، لا يجوز لأحد أن يجلس في المسجد في غير أوقات الصلاة، وبنى في المسجد رحبة تسمى البطيحا. قال: من كان يريد أن يلفظ أو ينشد شعرا أو يرتفع صوته فليخرج إلى الرحبة، وما كان المسجد في أيامه لغير الصلاة والقضاء، وكان الخلفاء يجلسون في المسجد لقضاء الخصومات، ولما كثرت الفتوحات وأسلمت الأعاجم وأهل البوادي وكثر الولدان أمر عمر ببناء بيوت المكاتب، ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.
وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل، وقيل إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء، ودواوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية ودواوين مصر بالقبطية يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين، والسبب في تدوين الدواوين أن عامل عمر على البحرين أتاه يوما بخمسمائة ألف درهم، فاستعظمها، وجعل عليها حراسا في المسجد، فأشار عليه بعض من عرفوا فارس والشام أن يدون الدواوين يكتبون فيها الأسماء، وما لواحد واحد، وجعل الأرزاق مشاهرة، وجعل عمر تابوتا - أي صندوقا - لجمع صكوكه ومعاهداته، وجند الأجناد - أي ألف الفيالق - فصير فلسطين جندا، والجزيرة جندا، والموصل وقنسرين جندا، وأصبح كل جند في الشام والعراق يتألف من مقاتلة المسلمين يقبضون أعطياتهم من البلد الذي نزلوه، فأصبحت الجندية خاصة بفئة المسلمين، ويسير الناس بقضهم وقضيضهم إلى الزحف عند الحاجة حتى النساء والأولاد، وما كان الجند يجعلون كلهم في المسالح، بل يترك بعضهم في البلاد يكونون على استعداد للوثبة عند أول إشارة، والغالب أنه كان يترك فضل في بيوت الأموال خارج الحجاز؛ ليستخدم في طارئ إذا طرأ، وما كانت الصوافي تحمل كلها إلى الحجاز بل يدخر بعضها في بيوت الأموال في الشام والعراق ومصر، وجزء عظيم من دخل الدولة يصرف في الوجوه التي أشرنا إليها.
وعمر هو أول من لقب بأمير المؤمنين، وأول من استقضى القضاة، وأول من أحدث التاريخ الهجري فأرخ سنة ستة عشر لهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، فكان أول من أرخ الكتب وختم على الطين. قال اليعقوبي: وأمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيسه ثم يختم أسفلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك، وغير أسماء المسلمين بأسماء الأنبياء، وكان أول من مصر الأمصار: مصر المصرين البصرة والكوفة، وكان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لعبد الله بن العباس: إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل فأنت لها ولأمثالها، ثم أخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحدا سواه، وكان في المسائل العامة يسأل الناس في المسجد عن آرائهم ثم يعرض رأيه ورأيهم على مجلس شوراه، وهم من كبار الصحابة، فما استقر عليه رأيهم أمضاه.
فكانت أعماله ثمرة ناضجة من الآراء الصائبة؛ ولذلك ندرت هفواته في الإدارة بالقياس إلى غيره؛ لأنه يتروى ويعمل بآراء أهل الرأي، ولما أرسل عبد الله بن مسعود إلى العراق وزيرا ومعلما مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل العراق: «وقد جعلت على بيت مالكم عبد الله بن مسعود وآثرتكم به على نفسي.» وقد يبعث إلى بعض الأقطار عاملا على الصلاة والحرب ويسميه أميرا، وعاملا على القضاء وبيت المال ويسميه معلما ووزيرا، كما فعل في العراق، أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر.
وتقسيم العمالات في الشام يختلف عن اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة، وقد يبعث أناسا لمساحة الأرض، وأناسا لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس، وقال لعاملين له توليا مساحة العراق ووضع الخراج على سوادها: أخاف أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه، لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا، وقال اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويعدلوا عليهم ويقسموا فيئهم بينهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمورهم، وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده.»
99 (د) تفسير ظهور الإجماع
ويفسر ظهور الإجماع في هذا العصر، أن الأئمة بعد النبي
صلى الله عليه وسلم ، كانوا يستشيرون في الأحكام.
قال الشاطبي في «الاعتصام»: «وكانت الأئمة بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها، فإذا وقع في الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان القراء أصحاب مشورة عمر، كهولا كانوا أو شبانا، وكان وقافا عند كتاب الله.»
100
وفي كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «وعن يوسف بن يعقوب بن الماجشون قال: قال لنا ابن شهاب ونحن نسأله: لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم.»
101
وعن المسيب بن رافع قال: كان إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمي صوافي الأمراء فيرفع إليهم، فجمع له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق.
102
وكان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس.
وفي كتاب «إعلام الموقعين»: «... ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله - تعالى - فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإن وجد ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا، وإن لم يجد سنة سنها النبي
صلى الله عليه وسلم ، جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه قضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.»
103
وفي الكتاب نفسه: «عن عبد الله بن مسعود قال: من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله؛ فليقض بما قضى فيه نبيه
صلى الله عليه وسلم ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه
صلى الله عليه وسلم ، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه، فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي.»
104
قال الأستاذ أحمد أمين بك في كتاب «فجر الإسلام»: «وقد وجدت نزعة من العصر الأول لتنظيم هذا الرأي من طريق الاستشارة، فقد أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه خصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أنا في كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله قضاء، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رءوس الناس، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به.»
105
وكان العلماء من الصحابة يومئذ، وهم المعتبرون في الإجماع قلة، كما بينا آنفا، لا يتعذر علاج التوفيق بين آرائهم، وتعرف الاتفاق بينهم على حكم من الأحكام. (5) الرأي في عهد بني أمية
وكان بعد ذلك عصر بني أمية من سنة 40ه/660م إلى سنة 132ه/749م.
في هذا العصر اتسعت مملكة الإسلام، ودخلت فيها أمم من غير العرب، ونقل مركز الخلافة إلى دمشق الشام، وتفرق القراء وعلماء الصحابة في البلاد، وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسبما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه ... فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب.
106
وانتهى عهد الصحابة في هذا العصر، قال ابن قتيبة المتوفى سنة 276ه/889م في كتاب «المعارف»: «قال أبو محمد: قال الواقدي: آخر من مات بالكوفة من الصحابة عبد الله بن أبي أوفى في سنة ست وثمانين، وآخر من مات بالمدينة من الصحابة سهل بن سعد الساعدي سنة إحدى وتسعين، ويقال هو ابن مائة، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة أنس بن مالك سنة إحدى وتسعين، ويقال سنة ثلاث وتسعين، وآخر من مات بالشام عبد الله بن بسر سنة ثمان وثمانين، وممن تأخر موته واثلة بن الأسقع هلك بالشام سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين، وهو من بني ليث بن كنانة. أبو الطفيل، رضي الله - تعالى - عنه هو أبو الطفيل بن عامر بن وائلة، رأى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان آخر من رآه موتا، ومات بعد سنة مائة.»
107
وخلف بعد الصحابة التابعون، الذين ورثوا علمهم، وكل طبقة من التابعين إنما تفقهوا على من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدون فتاويهم إلا اليسير مما بلغهم من غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم ، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن [عمر رضي الله عنهما، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي عبد الله بن]
108
مسعود، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عباس، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص.
109
وجاء في كتاب «إعلام الموقعين»: «وأكابر التابعين كانوا يفتون في الدين ويستفتيهم الناس، وأكابر الصحابة حاضرون يجوزون لهم ذلك.»
110
ولما انقرض عهد الصحابة وجاء على أثرهم التابعون، انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلا.
قال ابن القيم في كتاب «إعلام الموقعين»: «وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة؛ عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه أهل مكة عطاء بن رباح، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع.»
111 (5-1) تشعب وجوه الاختلاف في هذا العصر وأسبابها
تشعبت في هذا العصر وجوه الاختلاف بين المفتين، وتعددت مناحيها، وقد ألف أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي الأندلسي المتوفى سنة 521ه/1127م كتابا سماه: «الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم»،
112
نبه فيه على المواضع التي منها نشأ الخلاف بين العلماء حتى تباينوا في المذاهب والآراء، وذكر أن الخلاف عرض لأهل الملة من ثمانية أوجه: (1)
الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها التأويلات الكثيرة، وهذا الباب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها:
اشتراك في موضوع اللفظة المفردة، بأن تكون اللفظة موضوعة لمعان مختلفة متضادة أو غير متضادة، ومن هذا النوع قوله
صلى الله عليه وسلم : «قصوا الشوارب واعفوا اللحى»، قال قوم معناه وفروا وأكثروا، وقال آخرون قصروا وانقصوا، وكلا القولين له شاهد من اللغة. هذا من الاشتراك في المعاني المتضادة.
أما الاشتراك في المعاني المختلفة غير المتضادة فهو كثير جدا، ومنه قوله تعالى:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض . ذهب قوم إلى أن كلمة «أو» هنا للتخيير، فقالوا السلطان مخير في هذه العقوبات، يفعل بقاطع السبيل أيها يشاء، وهو قول الحسن البصري وعطاء، وبه قال مالك، وذهب آخرون إلى أن كلمة «أو» هنا للتفصيل والتعيين: فمن حارب وقتل وأخذ المال، صلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده، وهو قول أبي مجلز لاحق بن حميد التابعي، وحجاج بن أرطاة النخعي الكوفي، وبه قال أبو حنيفة والشافعي واختلفوا في النفي من الأرض ما هو؟ فقال الحجازيون ينفى من موضع إلى موضع، وقال العراقيون يسجن ويحبس، والعرب تستعمل النفي بمعنى السجن.
وثانيها:
الاشتراك العارض من قبل اختلاف أحوال الكلمة دون موضع لفظها، مثل قوله تعالى:
ولا يضار كاتب ولا شهيد . قال قوم: مضارة الكاتب أن يكتب ما لم يمل عليه ، ومضارة الشهيد أن يشهد بخلاف الشهادة، وقال آخرون: مضارتهما أن يمنعا من أشغالهما ويكلفا الكتابة والشهادة في وقت يشق ذلك فيه عليهما، وإنما أوجب هذا الخلاف أن قوله
ولا يضار
يحتمل أن يكون تقديره ولا يضارر بفتح الراء، ويحتمل أن يكون تقديره أيضا بكسر الراء، وقد رويت القراءتان بإظهار التضعيف مع الفتح ومع الكسر، قرأ بالأولى ابن مسعود، وبالثانية ابن عمر.
ومثل هذا قوله تعالى:
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده .
وثالثها:
الاشتراك العارض من قبل تركيب الكلام، وبناء بعض الألفاظ على بعض: ومنه ما يدل على معان مختلفة متضادة، ومنه ما يدل على معان مختلفة غير متضادة؛ فمن النوع الأول قوله تعالى:
وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن . قال قوم: معناه وترغبون في نكاحهن لما لهن، وقال آخرون: إنما أراد وترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وقلة ما لهن، ومنه قول علي رضي الله عنه: «أيها الناس، أتزعمون أني قتلت عثمان؟ ألا وإن الله قتله وأنا معه.» أراد علي - رضي الله عنه - أن الله قتله وسيقتلني معه، فعطف «أنا» على «الهاء» من «قتله»، وجعل «الهاء» في «معه» عائدة على عثمان، وتأوله الخوارج على أنه عطف «أنا» على الضمير الفاعل في قتله، أو على موضع المنصوب بأن، كما تقول: إن زيدا قائم وعمرو، فترفع عمرا عطفا على موضع زيد وما عمل فيه، وجعلوا الضمير في قوله معه عائدا على الله تعالى، فأوجبوا عليه من هذا اللفظ أنه شارك في قتل عثمان رضي الله عنه.
ومن الدال على معان مختلفة غير متضادة قوله تعالى:
وما قتلوه يقينا ، فإن قوما يرون الضمير من «قتلوه» عائدا إلى المسيح
صلى الله عليه وسلم ، وقوما يرونه عائدا إلى العلم المذكور في قوله:
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن
فيجعلونه من قول العرب: «قتلت الشيء علما»، ومنه قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . اختلفوا في هذا التشبيه: من أين وقع؟ فذهب قوم إلى أن التشبيه إنما وقع في عدد الأيام، واحتجوا بحديث رووه: أن النصارى فرض عليهم في الإنجيل صوم ثلاثين يوما، وأن ملوكهم زادوا فيها تطوعا حتى صيروها خمسين، وذهب آخرون إلى أن التشبيه إنما وقع في الفرض لا في عدد الأيام.
يقول البطليوسي: وهذا القول هو الصحيح، وإن كان القولان جائزين في كلام العرب، فإنك إذا قلت: أعطيت زيدا كما أعطيت عمرا، احتمل أن تريد تساوي العطيتين، واحتمل أن تريد تساوي الإعطائين، وإن أعطيت أحدهما خلاف ما أعطيت الآخر. (2)
الخلاف العارض من جهة الحقيقة والمجاز، وقد ذهب قوم إلى إثباته. يقول صاحب «الإنصاف»: «وإنما كلامنا فيه على مذهب من أثبته؛ لأنه الصحيح الذي لا يجوز غيره.» والمجاز ثلاثة أنواع: نوع يعرض في موضوع اللفظة، ونوع يعرض في أحوالها المختلفة عليها من إعراب وغيره، ونوع يعرض في التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض. فمثال النوع الأول: السلسلة، فإن العرب تستعملها حقيقة وتستعملها مجازا بمعنى الإجبار والإكراه؛ كقوله
صلى الله عليه وسلم : «عجبت لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.» بمعنى المنع من الشيء والكف عنه، كقول أبي خراش الشاعر المخضرم التابعي:
فليس كعهد الدار يا أم مالك
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
يريد بالسلاسل حدود الإسلام وموانعه، التي كفت الأيدي الغاشمة، ومنعت من سفك الدماء إلا بحقها، وبمعنى ما تتابع بعضه في أثر بعض، واتصل كقولهم تسلسل الحديث، وقولهم سلاسل الرمل، ومن هذا النوع قول الله عز وجل:
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم ، ومعلوم أن الله لم ينزل من السماء ملابس تلبس، وإنما تأويله - والله أعلم - أنه أنزل المطر فنبت عنه النبات، ثم رعته البهائم فصار صوفا وشعرا ووبرا على أبدانها، ونبت عنه القطن والكتان، واتخذت من ذلك أصناف الملابس، فسمى المطر لباسا إذ كان سبب ذلك، ومن هذا الباب أيضا قوله
صلى الله عليه وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟» جعلته المجسمة نزولا على الحقيقة، وقد أجمع العارفون على أن الله لا ينتقل؛ لأن الانتقال من صفة المحدثات؛ ولهذا الحديث تأويلان:
أحدهما:
أن معناه: ينزل أمره في كل سحر؛ أي إن الله - تعالى - يأمر ملكا بالنزول إلى سماء الدنيا، وقد تقول العرب: كتب الأمير إلى فلان كتابا وقطع الأمير يد اللص، وضرب السلطان فلانا؛ إذ هي تنسب الفعل إلى من أمر به، كما تنسبه لمن فعله، ويقول العرب: جاء فلان إذا جاء كتابه، ويقولون للرجل: أنت ضربت زيدا وهو لم يضربه، إذا كان قد رضي بذلك وشايع عليه.
وثانيهما:
أن من المعاني المجازية للنزول الإقبال على الشيء بعد الإعراض عنه، والمقاربة بعد المباعدة، فيكون معنى الحديث على هذا أن العبد في هذا الوقت أقرب إلى رحمة الله منه في غيره من الأوقات، وأن الباري - سبحانه - يقبل على عباده بالتحنن والعطف في هذا الوقت بما يلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكير الباعثين لهم على الطاعة والجد في العمل، ومن استعمال العرب النزول في هذا المعنى قول حطان بن المعلى من شعراء «الحماسة»:
أنزلني الدهر على حكمه
من شاهق عال إلى خفض
أي: جعلني أقارب من كنت أباعده، وأقبل على من كنت أعرض عنه؛ ومن ذلك أيضا قوله تعالى:
الله نور السموات والأرض ، توهم المجسمة أن الله نور، وإنما المعنى هادي السموات والأرض، والعرب تسمي كل ما جلا الشبهات وأزال الالتباس وأوضح الحق، نورا. قال الله تعالى:
وأنزلنا إليكم نورا مبينا
يعني القرآن، ثم قال المؤلف: ولو منحت المجسمة طرفا من التوفيق، وتأملت الآية بعين التحقيق، لوجدت فيها ما يبطل دعواهم بدون تكلف تأويل، ومن غير طلب دليل؛ لأن الله - تعالى - قال بعقب هذه الآية:
ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .
أما النوع الثاني: نوع الحقيقة والمجاز العارضين في اللفظة من قبل أحوالها، فمثاله قوله تعالى:
فإذا عزم الأمر ، والأمر لا يعزم وإنما يعزم عليه، ونحو قوله تعالى:
بل مكر الليل والنهار ، أي: مكركم في الليل والنهار، ويقول العرب: نهارك صائم، وليلك قائم.
وأما النوع الثالث: أي: المجاز والحقيقة العارضان من طريق التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض، فنحو الأمر يرد بصيغة الخبر، والخبر يرد بصيغة الأمر، والإيجاب يرد بصيغة النفي، والنفي يرد بصيغة الإيجاب، والواجب يرد بصيغة الممكن أو الممتنع، والممكن والممتنع يردان بصيغة الواجب، والمدح يرد بصيغة الذم، والذم يرد بصيغة المدح، والتقليل يرد بصيغة التكثير، والتكثير يرد بصيغة التقليل، ونحو ذلك من أساليب الكلام التي لا يقف عليها إلا من تحقق بعلم اللسان.
فمن الأمر الوارد بصيغة الخبر قوله تعالى:
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ، وإنما المعنى لترضع الوالدات أولادهن، والخبر الوارد بصيغة الأمر كقوله تعالى:
أسمع بهم وأبصر
أي: ما أسمعهم وأبصرهم! أما الإيجاب الوارد بصيغة النفي، فكقولك: ما زال زيد عالما، فإن صيغته كصيغة قولك: ما كان زيد عالما ، والأول إيجاب، والثاني نفي، وأما النفي الوارد بصورة الإيجاب فنحو قولهم: لو جاءني زيد لأكرمته، فصورته صورة كلام موجب لأنه ليس فيه أداة من أدوات النفي، وهو منفي في المعنى لأنه لم يقع المجيء ولا الإكرام، ومنه قوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ،
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا .
وورود الواجب بصورة الممكن كقوله تعالى:
فعسى الله أن يأتي بالفتح : وقوله:
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، وورود الممتنع بصورة الممكن كقول النابغة الذبياني يرثي النعمان بن الحارث الغساني:
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت
فما في حياتي بعد موتك طائل
وأما ورود المدح في صورة الذم فمنه ما ذكره ابن جني أن أعرابيا رأى ثوبا فقال: ما له؟ محقه الله! قال فقلت له: لم تقول هذا؟ فقال: إذا استحسنا شيئا دعونا عليه، وأصل هذا أنهم يكرهون أن يمدحوا الشيء فيصيبونه
113
بالعين فيعدلون عن مدحه إلى ذمه، وأما ورود الذم في صورة المدح فكقوله تعالى:
إنك لأنت الحليم الرشيد . (3)
الخلاف العارض من جهة الإفراد والتركيب: وذلك أنك تجد الآية الواحدة ربما استوفت الغرض المقصود بها من التعبد، فلم تحوجك إلى غيرها، مثل قوله تعالى:
يا أيها الناس اتقوا ربكم ، وقوله تعالى:
وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ، فإن كل واحدة من هذه الآيات قائمة بنفسها مستوفية للغرض المراد منها، وكذلك الأحاديث الواردة كقوله: «الزعيم غارم، والبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه.» وربما وردت الآية غير مستوفية للغرض المراد من التعبد، وورد تمام الغرض في آية أخرى وكذلك الحديث، ومثال ذلك قوله تعالى:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، ثم قال آية أخرى:
بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، فدل اشتراط المشيئة في هذه الآية الثانية على أنه مراد في الآية الأولى، وربما وردت الآية مجملة ثم يفسرها الحديث، كالآيات الواردة مجملة في الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم شرحت السنة والآثار جميع ذلك، ولأجل هذا صار الفقيه مضطرا في استعمال القياس إلى الجمع بين الآيات المفترقة وبين الأحاديث المتغايرة وبناء بعضها على بعض، ووجه الخلاف العارض في هذا الموضع أنه ربما أخذ بعض الفقهاء بمفرد الآية أو بمفرد الحديث، وبنى آخر قياسه على جهة التركيب الذي ذكرنا، بأن يأخذ بمجموع آيتين أو بمجموع حديثين، أو بمجموع آيات أو بمجموع أحاديث، فيفضي بهما الحال إلى الخلاف فيما ينتجانه، فعلى مثل هذا ركبت القياسات وأنتجت النتائج، ووقع الخلاف بين أصحاب القياس. وخالفهم قوم آخرون لم يروا القياس، ورأوا الأخذ بظاهر الألفاظ، فنشأ من ذلك نوع آخر من الخلاف، ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء من هذا الباب ما يكون لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به ولم يتصل به سواه. (4)
الخلاف العارض من جهة العموم والخصوص، وهو نوعان؛ أحدهما: يعرض في موضوع اللفظة المفردة. والثاني: يعرض في التركيب. فالأول:«كالإنسان»، يستعمل عموما نحو قوله تعالى:
إن الإنسان لفي خسر ، ويدل على أنه لفظ عام لا يخص واحدا دون آخر قوله:
إلا الذين آمنوا
فإن الاستثناء لا يكون إلا من جملة، ويستعمل خصوصا نحو ذلك: جاءني الإنسان، تريد شخصا معينا.
والثاني: نحو قوله تعالى:
لا إكراه في الدين . قال قوم: هذا خصوص في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، وقال قوم: هي عموم ثم نسخت بقوله:
جاهد الكفار والمنافقين ، وقد يأتي من هذا الباب ما موضوعه في اللغة على العموم ثم تخصصه الشريعة كالمتعة، فإنها عند العرب اسم لكل شيء استمتع به لا يخص به شيء دون آخر، ثم نقلت عن ذلك واستعملت في الشريعة على ضربين؛ أحدهما: المتعة التي كانت مباحة في أول الإسلام، ثم نهي عنها ونسخت بالنكاح والولي.
والثاني: ما تمتع به المرأة من مهرها، كقوله تعالى:
ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، وقد وقع الخلاف في قوله تعالى:
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، فكان ابن عباس يذهب بمعناه إلى المتعة الأولى، وذهب جماعة الفقهاء إلى أن المتعة الأولى منسوخة، وأن هذه الآية كالتي في «البقرة»، وأن معنى قوله:
فآتوهن أجورهن
إنما المراد المهر.
114 (5)
الخلاف العارض من جهة الرواية: والعلل التي تعرض للحديث فتحيل معناه، فربما أوهمت فيه معارضته بعضه لبعض، وربما ولدت فيه إشكالا يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد على أضرب:
العلة الأولى:
فساد الإسناد، وهذه العلة أشهر العلل عند الناس، حتى إن كثيرا منهم يتوهم أنه إذا صح الإسناد صح الحديث، وليس كذلك، وفساد الإسناد يكون من الإرسال
115
وعدم الاتصال، ويكون من أن بعض الرواة صاحب بدعة أو متهم بكذب وقلة ثقة، أو مشهورا ببله وغفلة، أو يكون متعصبا لبعض الصحابة منحرفا عن بعضهم، فإن من كان مشهورا بالتعصب ثم روى حديثا في تفضيل من يتعصب له، ولم يرد من غير طريقه، لزم أن يستراب به.
ومما يبعث على الاسترابة بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الاتصال بالملوك، ونيل المكانة والحظوة عندهم، فإن من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغيير والتبديل والافتعال للحديث والكذب، حرصا على مكسب يحصل عليه، وقد روي أن قوما من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر وعم ودوخ وأذل جميع الأمم، ورأوا أنه لا سبيل إلى مناصبته، رجعوا إلى الحيلة والمكيدة، فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف، فلما حمد الناس طريقتهم ولدوا الأحاديث والمقالات، وفرقوا الناس فرقا، وأكثر ذلك في الشيعة، كما يحكى عن عبد الله بن سبأ اليهودي أنه أسلم واتصل بعلي - رضي الله عنه - وصار من شيعته، فلما أخبر بقتله وموته قال: كذبتم والله! لو جئتمونا بدماغه مصرورا في سبعين صرة ما صدقنا بموته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، نجد ذلك في كتاب الله، فصارت مقالة يعرف أهلها بالسبئية، ويقال: إنه قال: علي هو إله، وإنه يحيي الموتى، وإنما غاب ولم يمت، وإذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتشدد في الحديث ويتوعد عليه، والزمان زمان والصحابة متوافرون ، والبدع لم تظهر، فما ظنك بالحال في الأزمنة التي ذمها الرسول، وقد كثرت البدع وقلت الأمانة؟
العلة الثانية:
نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه، فربما اتفق أن يسمع الراوي الحديث فيتصور معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى بألفاظ أخر، كان قد حدث بخلاف ما سمع من غير قصد منه، وذلك أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد يكون فيه اللفظة المشتركة، ومن ظريف الغلط الواقع في اشتراك الألفاظ ما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
وهب عليا - رضي الله عنه - عمامة تسمى «السحاب»، فاجتاز علي - رضي الله عنه - متعمما بها، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم ، لمن كان معه: «أما رأيتم عليا في السحاب؟» أو نحو ذلك من اللفظ. فسمعه بعض المتشيعين لعلي - رضي الله عنه - فظن أنه يريد السحاب المعروف، فكان ذلك سببا لاعتقاد الشيعة أن عليا في السحاب إلى يومنا هذا.
العلة الثالثة:
الجهل بالإعراب ومباني كلام العرب ومجازاتها.
العلة الرابعة:
وهي التصحيف، وذلك أن كثيرا من المحدثين لا يضبطون الحروف، ولكنهم يرسلونها إرسالا غير مقيدة ولا مثقفة اتكالا على الحفظ، فإذا غفل المحدث عما كتب مدة من زمانه، ثم احتاج إلى قراءة ما كتب أو قرأه غيره، فربما رفع المنصوب ونصب المرفوع، فانقلبت المعاني إلى أضدادها، وربما تصحف له الحرف بحرف آخر لعدم الضبط فيه؛ فانعكس المعنى إلى نقيض المراد، كما يحرف «أفرع» بمعنى تام الشعر إلى «أقرع» بالقاف بمعنى لا شعر برأسه، وذلك أن هذا الخط العربي شديد الاشتباه.
ومن ظريف ما وقع من التصحيف في كتاب مسلم ومسنده الصحيح: «نحن يوم القيامة على كذا انظر» وهذا شيء لا يتحصل له معنى، وهكذا نجده في كثير من النسخ، وإنما هو: «نحن يوم القيامة على كوم»، والكوم جمع كومة وهو المكان المشرف، فصحفه بعض النقلة فكتب: «نحن يوم القيامة على كذا»، فقرأ من قرأ فلم يفهم ما هو فكتب على طرة الكتاب: «انظر»، يأمر قارئ الكتاب بالنظر فيه وينبهه عليه، فوجده ثالث فظنه من الكتاب وألحقه بمتنه.
العلة الخامسة:
هي إسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به.
العلة السادسة:
هي أن ينقل المحدث الحديث ويغفل عن نقل السبب الموجب له فيعرض من ذلك إشكال في الحديث أو معارضة لحديث آخر.
العلة السابعة:
هي أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، كنحو ما روي من أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرت أن أبا هريرة حدث أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس»، وهذا الحديث معارض للأحاديث الكثيرة الناهية عن التطير، فغضبت عائشة وقالت: والله ما قال هذا رسول الله قط. إنما قال: «أهل الجاهلية يقولون: إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس.» فدخل أبو هريرة فسمع الحديث ولم يسمع أوله، وهذا غير منكر أن يعرض؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يذكر في مجلسه الأخبار حكاية ويتكلم بما لا يريد به أمرا ولا نهيا، ولا أن يجعله أصلا في دينه ولا شيئا يستسن به، وذلك معلوم من فعله ومشهور من قوله.
العلة الثامنة:
نقل الحديث المصحف دون لقاء الشيوخ والسماع من الأئمة والاكتفاء بالأخذ من الصحف المسودة والكتب التي لا يعلم صحتها من سقمها، وربما كانت مخالفة لرواية شيخه، فيصحف الحروف ويبدل الألفاظ، وينسب جميع ذلك إلى شيخه ظالما. (6)
الخلاف العارض من قبل الاجتهاد والقياس، وهو نوعان؛ أحدهما: الخلاف الواقع بين المنكرين للاجتهاد والقياس والمثبتين لهما، والثاني: خلاف يعرض بين أصحاب القياس في قياسهم. (7)
الخلاف العارض من قبل النسخ وهو يعرض بين من أنكر النسخ ومن أثبته، ويعرض بين القائلين بالنسخ من جهة اختلافهم في الأخبار: هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر والنهي أم لا؟ واختلافهم في نسخ السنة للقرآن، واختلافهم في أشياء من القرآن والحديث، ذهب بعضهم إلى أنها نسخت وبعضهم إلى أنها لم تنسخ. (8)
الخلاف العارض من قبل الإباحة؛ أي من قبل أشياء أوسع الله - تعالى - فيها على عباده، وأباحها لهم على لسان نبيه، كاختلاف الناس في الأذان ووجوه القراءات السبع، ونحو ذلك.
116
وجدت في العصر الذي نحن بصدده كل هذه الخلافات أو أكثرها تبعا لاستقرار الملك واتساعه، وتشعب حاجاته التشريعية، وخروج العرب من طور البداوة والأمية واتصالهم بأمم أعجمية لها حظ من العلم والمدنية، وكانت هذه الخلافات من بواعث النهضة الأولى لإنشاء العلوم العربية، وتدوين الحديث والتفسير على أنها أدوات لاستنباط الأحكام الشرعية من دلائلها، وللاجتهاد بالرأي الذي هو أصل من أصول الشرع. (6) نظرة إجمالية
وجملة القول أن التشريع في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، كان يقوم كما بينا آنفا على الوحي من الكتاب والسنة، وعلى الرأي من النبي ومن أهل النظر، والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي وتفصيل وجوهه، وبدون تنازع ولا شقاق بينهم.
ومضى عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين من سنة 11ه/632م إلى 40ه/660م، وقد اتفق الصحابة في هذا العهد على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم.
وفي هذا العهد أخذت تبدو الصورة الأولى للإجماع، بما كان يركن إليه الأئمة من مشاورة أهل الفتوى من الصحابة - وهم المعتبرون في انعقاد الإجماع، وكانوا قلة لا يتعذر تعرف الاتفاق بينهم.
117
ولم يكن يفتى من الصحابة إلا حملة القرآن الذين قرءوه وكتبوا وفهموا وجوه دلالته وعرفوا ناسخه ومنسوخه، وكانوا يسمون «القراء» لذلك، وتمييزا لهم عن سائر الصحابة بهذا الوصف الغريب في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.
ولم يكن الرأي في هذا الدور قد تعين معناه ولا تخصص، قال المرحوم الشيخ محمد الخضري بك في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»: «بينا أنهم كانوا (أي الصحابة) يعمدون إلى الفتوى بالرأي، إن لم يكن هناك عندهم في الحادثة نص من القرآن والسنة، والرأي عندهم إنما كان للعمل بما يرونه مصلحة وأقرب إلى روح التشريع الإسلامي من غير نظر إلى أن يكون هناك أصل معين للحادثة أو لا يكون.
ألا ترى أن عمر حتم على محمد بن مسلمة أن يمر خليج جاره في أرضه لأنه ينفع الطرفين ولا يضر محمدا في شيء، وأفتى بوقوع الطلاق الثلاث مرة واحدة؛ لأن الناس قد استعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة، وحرم على من تزوج امرأة في عدتها أن يتزوج بها مرة أخرى بعد التفريق بينهما، زجرا له، والنظر في المصالح يختلف باختلاف الناظرين؛ لذلك نجد بعض المفتين في عصر عمر خالفوه فيما رأى، وهناك مسائل خالف فيها عمر أبا بكر وقضى بغير ما كان يقضي به، كما ذكرنا في ميراث الجد مع الأخوة. وفي التفضيل في العطاء، وكذلك هناك مسائل أفتى فيها علي بغير ما أفتى به غيره من إخوانه، فقد كان يخرج الزكاة عن أموال اليتامى الذين في حجره، وكان غيره يقول ليس على مال اليتيم زكاة.
وقد بينا أن الخلاف لم يكن في هذا العصر بالشيء الكثير؛ لأن أقضيتهم كانت بقدر ما ينزل من الحوادث، ولم تدون هذه الأقضية في عصرهم، فقد انتهى ذلك الدور والفقه هو نصوص القرآن الكريم والسنة الطاهرة المتبعة وما ارتضاه كبار الصحابة، مما رواه لهم غيرهم من الصحابة أو ما سمعوه هم، وقليل من الفتاوى صادرة عن آرائهم بعد الاجتهاد والبحث.
وأشهر المتصدرين للفتوى في هذا العصر الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، والمكثرون منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وهذا في الفرائض خاصة.»
118
وفي كتاب «إعلام الموقعين» لابن قيم الجوزية: «وقال محمد بن جرير: لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه، ويرجع من قوله إلى قوله، وقال الشعبي كان عبد الله لا يقنت، وقال لو قنت عمر لقنت عبد الله.
فصل: وكان من المفتين عثمان بن عفان، غير أنه لم يكن له أصحاب معروفون، والمبلغون عن عمر فتياه ومذاهبه وأحكامه في الدين بعده أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه، وأما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فانتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتل الله الشيعة! فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه؛ ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان عن طريق أهل بيته وأصحاب عبد الله بن مسعود كعبيدة السلماني، وشريح وأبي وائل ونحوهم.»
119 (6-1) علم وفقه
ثم كان عصر بني أمية من سنة 40ه/660م إلى سنة 132ه/749م، وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب، ودخلت في دين الله أمم ليست أمية، فلم يعد لفظ القراء نعتا غريبا يصلح لتمييز أهل الفتوى ومن يؤخذ عنهم الدين، هنالك استعمل لفظ «العلم» للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار، وسمي أهل هذا الشأن «العلماء»، واستعمل لفظ الفقه للدلالة على استنباط الأحكام الشرعية بالنظر العقلي فيما لم يرد فيه نص كتاب ولا سنة، وسمي أهل هذا الشأن «الفقهاء»، فإذا جمع امرؤ بين الصفتين جمع له اللفظان أو ما يرادفهما.
وفي «طبقات» ابن سعد: كان ابن عمر جيد الحديث غير جيد الفقه، وكان زيد بن ثابت فقيها في الدين وعالما بالسنن.
وروى ابن القيم في «إعلام الموقعين» عن بعض التابعين، قال: دفعت
120
121
إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان، قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه. وفي «إعلام الموقعين» أيضا عن ميمون بن مهران: «ما رأيت أفقه من ابن عمر ولا أعلم من ابن عباس.» (6-2) الخلاف في كتابه العلم وتخليده في الصحف
وقد كان كثير من الصحابة والتابعين يكره كتابة العلم، وتخليده في الصحف كعمر وابن عباس والشعبي والنخعي وقتادة ومن ذهب مذهبهم.
قال ابن عبد البر في «مختصر جامع بيان العلم»: «من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين؛ أحدهما: ألا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهى به، ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ فيقل الحفظ.»
وقال ابن عبد البر أيضا في الكتاب نفسه: «قال أبو عمر: من ذكرنا قوله في هذا الباب فإنما ذهب في ذلك مذهب العرب؛ لأنهم كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك، والذين كرهوا الكتابة كابن عباس والشعبي وابن شهاب والنخعي وقتادة ومن ذهب مذهبهم وجبل جبلتهم، كانوا قد طبعوا على الحفظ، فكان أحدهم يجتزي بالسمعة، ألا ترى ما جاء عن ابن شهاب أنه كان يقول: إني لأمر بالبقيع فأسد آذاني مخافة أن يدخل فيها شيء من الخنا، فوالله، ما دخل أذني شيء قط فنسيته، وجاء عن الشعبي نحوه وهؤلاء كلهم عرب.»
122
وفي «تاريخ التشريع الإسلامي»
123
للشيخ محمد الخضري بك: «وقال السيوطي في «تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك»: أخرج الهروي في ذم الكلام من طريق الزهري، قال أخبرني عروة بن الزبير، أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن واستشار فيه أصحاب رسول الله، فأشار عليه عامتهم بذلك، فلبث شهرا يستخير الله في ذلك شاكا فيه، ثم أصبح يوما، وقد عزم الله له فقال: إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء ، فترك كتابة السنن، وقال ابن سعد في «الطبقات»: أخبرنا قبيصة بن عقبة، أنبأنا سفيان عن معمر عن الزهري قال: أراد عمر أن يكتب السنن فاستخار الله شهرا، ثم أصبح وقد عزم له، فقال ذكرت قوما كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله. ا.ه.»
124
ولما مضى عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من الهجرة، وجاء عهد التابعين انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلا.
جاء في كتاب «مناقب الإمام الأعظم» للبزار: «عن عطاء قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فقال: هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى، قال: فمن فقيه المدينة؟ قلت: نافع مولى ابن عمر المتوفى سنة 117ه/735م، وفقيه مكة عطاء بن رباح المولى المتوفى سنة 114ه/732م، وفقيه اليمن طاوس بن كيسان المولى، وهو فارسي توفي سنة 106ه/724-725م، وفقيه الشام مكحول (مات سنة بضع ومائة)، وفقيه الجزيرة ميمون بن مهران المولى (مات سنة 117ه/745م) وفقيها البصرة الحسن وابن سيرين (محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرة مات سنة 110ه/728-729م) الموليان، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعي العربي (أبو عمران إبراهيم بن يزيد مات سنة 95ه/713-714). قال هشام: لولا قولك عربي لكادت نفسي تخرج.»
125
وجاء في كتاب «الخطط» للمقريزي: «وعن عون بن سليمان الحضرمي قال: كان عمر بن عبد العزيز قد جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال: رجلان من الموالي، ورجل من العرب، فأما العربي فجعفر بن ربيعة، وأما الموليان فيزيد بن أبي حبيب، وعبد الله بن أبي جعفر، فكأن العرب أنكروا ذلك، فقال عمر بن عبد العزيز: ما ذنبي إذا كانت الموالي تسمو.»
126
بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون؟
127 (6-3) تدوين العلم
عندئذ تضاءلت النزعة العربية إلى حظر التدوين، وصارت كتابة العلم أمرا لازما، ومما أكد الحاجة لتدوين السنن شيوع رواية الحديث، وقلة الثقة ببعض الرواة، وظهور الكذب في الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لأسباب سياسية أو مذهبية «عن سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز - المتوفى سنة 101ه/720م - بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل بلد له عليها سلطان دفترا.»
128
وفي شرح الزرقاني على «موطأ مالك»: «وأفاد في الفتح أن أول من دون الحديث ابن شهاب بأمر عمر بن عبد العزيز، يعني كما رواه أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زباله، عن مالك قال: أول من دون العلم ابن شهاب، وأخرج الهروي في «ذم الكلام» من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار، قال: لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث، إنما كانوا يؤدونها لفظا، ويأخذونها حفظا، إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنة أو حديث عمر فاكتبه، وقال مالك في «الموطأ» (رواية محمد بن الحسن): أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر
129
محمد بن عمرو بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، أو سنة أو حديث أو نحو هذا، فاكتبه لي؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (علقه
130
البخاري في صحيحه)، وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأجمعوه، وروى ابن عبد الرزاق عن ابن وهب، سمعت مالكا يقول: كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن ويكتب بها إليه، فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إليه.»
131
ويقول المرحوم محمد بن الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»: «أما السنة فمع كثرة روايتها في هذا الدور - يريد عهد صغار الصحابة ومن تلقى عنهم من التابعين من سنة 41ه/661-662م إلى أوائل القرن الثاني من الهجرة - وانقطاع فريق من علماء التابعين لروايتها، لم يكن لها حظ من التدوين، إلا أنه لم يكن من المعقول أن يستمر هذا الأمر طويلا مع اعتبار الجمهور للسنة أنها مكملة للتشريع ببيانها للكتاب، ولم يكن ظهر بين الجمهور من يخالف هذا الرأي، وأول من تنبه لهذا النقص الإمام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية من الهجرة، فقد كتب إلى عامله بالمدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، أو سنته فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (رواه مالك في «الموطأ» رواية محمد بن الحسن). وأخرج أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأجمعوه.»
132
وجاء في كتاب «الإحكام» لابن حزم: «... ولئن كان جمع حديث النبي
صلى الله عليه وسلم ، مذموما، فإن مالكا لمن أول من فعل ذلك؛ فإنه أول من ألف في جمع الأحاديث فحماد بن سلمة، ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس.»
133
وقد بدت مخايل نهضة في التشريع الإسلامي منذ ذلك العهد، فحصل تدوين بعض السنن وبعض المسائل، ولم يصل إلينا من تلك المدونات إلا صدى. (أ) أول تدوين السنن بالمعنى الحقيقي
أما أول تدوين للسنن بالمعنى الحقيقي فيقع ما بين سنة 120ه/738م، سنة 150ه/767م.
ويقول ابن قتيبة إن ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 124ه/سنة 741-742م هو أول من كتب الحديث.
وفي «إعلام الموقعين»: «وجمع محمد بن نوح فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه.»
134
وفي كتاب «كشف الظنون»: «الإشارة الثالثة في أول من صنف في الإسلام: واعلم أنه اختلف في أول من صنف، فقيل الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة، وقيل: أبو النصر سعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة ست وخمسين ومائة، ذكرهما الخطيب البغدادي، وقيل ربيع بن صبيح المتوفى سنة ستين ومائة، قاله أبو محمد الرامهرمزي، ثم صنف سفيان بن عيينة (المتوفى سنة 198ه/813-814م)، ومالك بن أنس بالمدينة، وعبد الله بن وهب (المتوفى سنة 197ه/812-813م بمصر)، وعبد الرزاق باليمن، وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن عزوان بالكوفة، وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصرة، وهشيم (المتوفى سنة 183ه/799م) بواسط، وعبد الله بن المبارك (المتوفى سنة 182ه/798م) بخراسان، وكان مطمح نظرهم في التدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما، ثم دونوا فيما هو كالوسيلة وإليهما.»
135
وجاء في «خطط المقريزي»: «فكان أول من دون العلم محمد بن شهاب الزهري، وكان أول من صنف وبوب سعيد بن عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالري، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهشيم بن بشير بواسط، وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف .»
136
وقال الغزالي في «الإحياء»: «بل الكتب والتصانيف محدثة، لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنما حدثت بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة، وبعد وفاة جميع الصحابة وجلة التابعين - رضي الله عنهم - وبعد وفاة سعيد بن المسيب والحسن وخيار التابعين، بل كان الأولون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب، لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبر والتذكر، وقالوا: احفظوا كما كنا نحفظ، وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك تصنيف «الموطأ»، ويقول: ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم، وقيل أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس، - رضي الله عنهم - بمكة، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني (المتوفى سنة 154ه/771م) باليمن جمع فيه سننا مأثورة نبوية، ثم كتاب «الموطأ» بالمدينة لمالك بن أنس، ثم «جامع» سفيان الثوري، ثم في القرن الرابع حدثت مصنفات الكلام وكثر الخوض في الجدال والغوص في إبطال المقالات.»
137
وفي كتاب «مختصر جامع بيان العلم»: «وعن عبد العزيز بن محمد الداروردي قال: أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس، وعن الحسن أنه كان لا يرى بكتاب العلم بأسا، وقد كان أملى التفسير فكتب، وعن الأعمش قال: قال الحسن: إن لنا كتبا نتعاهدها، وعن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قد احترقت كتبه يوم الحرة وكان يقول: وددت لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي.»
138
ويقول جولدزيهر في مقاله عن كلمة «فقه» في دائرة المعارف الإسلامية: «وينبغي ألا يعطى كبير ثقة لما نسب لهشام بن عروة، من أنه في يوم الحرة حرقت لأبيه كتب فقه، ولا يمكن أن يتصور بحال أنه في ذلك العهد البعيد كانت توجد كتب بالمعنى الصحيح، وإنما هي صحائف متفرقة، وتوفي عروة سنة 94ه/712م، وتلك السنة هي التي كانت تسمى سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من الفقهاء ...»
لكن جولدزيهر يذكر في المقال الذي أشرنا إليه آنفا ما يأتي: «وقد اكتشف جرفيني بين المخطوطات القديمة في المكتبة الأمبروزية بميلانو الخاصة ببلاد العرب الجنوبية مختصرا في الفقه اسمه «مجموعة زيد بن علي» المتوفى سنة 122ه/740م، وهو منسوب إلى مؤسس فرقة الزيدية من الشيعة، وعلى ذلك تكون هذه المجموعة أقدم مجموعة في الفقه الإسلامي.
وعلى كل حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامي، وإذا صح أنه وصل إلينا من بطانة زيد بن علي، وجب أن نعترف بأن أقدم ما وصل إلينا من المصنفات الفقهية هو من مؤلفات الشيعة الزيدية، على أن البحث الذي أثير لتعيين مركز هذا الباب بين المؤلفات الفقهية لم يكمل.»
وعلى الجملة فإنه إذا كان دون شيء لضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما في عهد بني أمية، أو دون شيء مما يتصل بالقضاء في هذا العهد أيضا كما يقول السكتواري في كتاب «محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر»: «أول القضاة بمصر سجل سجلا بقضائه، سليم بن عز؛ قضى في ميراث وأشهد فيه، وكتب كتابا بالقضاء به وأشهد فيه شيوخ الجند؛ فكان أول القضاة تسجيلا، وكانت ولايته من سنة أربعين إلى موت معاوية - رضي الله عنه - سنة ستين» (أوائل السيوطي).
139
فإن التدوين في الفقه بالمعنى المحدث لم يكن إلا في عهد العباسيين . هذا هو الرأي الذي يكاد يكون مقررا ومجمعا عليه بين الباحثين.
وقد ذكر صاحب «الفهرست» عند الكلام على الزيدية ما نصه: «الزيدية الذين قالوا بإمامة زيد بن علي - رضي الله عنه، ثم قالوا بعده بالإمامة في ولد فاطمة، كائنا من كان، بعد أن يكون استوفى شروط الإمامة، وأكثر المحدثين على هذا المذهب مثل سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وصالح بن حي وولده
140
وغيرهم.»
141
وعلاقة ابن عيينة والثوري بنهضة الفقه عند أهل السنة تجعل للبحث الذي يشير إليه جولدزيهر شأنا خطيرا.
وفي «رسائل الجاحظ» (كتاب فضل بني هاشم): «فأما الفقه والعلم والتفسير والتأويل فإن ذكرتموه لم يكن فيه أحد، وكان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وزيد ومحمد ابني علي بن الحسين بن علي، وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفضله، ويقال إن أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب؛ ولذلك نسب إلى سفيان أنه زيدي المذهب، وكذلك أبو حنيفة، ومن مثل علي بن الحسين زين العابدين؟ وقال الشافعي في «الرسالة» في إثبات خبر الواحد: وجدت علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة، يقول على أخبار الآحاد، ومن مثل ابن الحنفية، وابنه أبي هاشم الذي قرر علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة: غلب الناس كلهم بأبي هاشم الأول!
142
على أن الشيعة كان بأيديهم بعد علي كتاب يقولون إن فيه قضاياه، وقد عرض هذا الكتاب على ابن عباس فأنكر أكثره.»
قال المرحوم الشيخ الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»: «وروي عن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني، فقال: ولد ناصح، أنا أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه، قال: فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء، ويمر بالشيء فيقول: والله، ما قضى علي بهذا إلا أن يكون ضل، وروي عن طاوس قال: أتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي فمحاه إلا قدر (وأشار سفيان بن عيينة بذراعه). وروي عن ابن إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي - رضي الله عنه - قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله، أي علم أفسدوا!
143
ثم قال: ويظهر من حديث ابن عباس السابق أنه كان عند شيعة علي كتاب فيه أقضيته، وذلك ما لم يثق ابن عباس بصحته، وقال: والله، ما قضى علي بهذا إلا أن يكون ضل، ومحا منه كثيرا ولم يبق إلا أقله.»
144 (ب) سبق الشيعة إلى تدوين الفقه
وعلى كل حال؛ فإن ذلك لا يخلو من دلالة على أن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين، ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الأحكام الشرعية أسرع إلى الشيعة؛ لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حريا أن يسوقهم إلى الحرص على تدوين أقضيتهم وفتاواهم؛ ذلك إلى أن التشيع تأثر منذ بداية أمره بعناصر من غير العرب الأميين الذين كانوا مجبولين على الحفظ نافرين من الكتابة والتدوين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وفي هذا العهد لم يكن عرف بين الناس الانتساب إلى فقيه معين يعمل بما ذهب إليه من رواية أو رأي، وإنما كان هؤلاء المفتون بالأمصار المختلفة معروفين بالفقه ورواية الحديث، فكان المستفتي يذهب إلى من شاء منهم فيسأله عما نزل به فيفتيه، وربما ذهب مرة أخرى إلى مفت آخر، وكان القضاة في الأمصار يقضون بين الناس بما يفهمونه من كتاب الله أو سنة رسوله أو أي رأي، إن ظهر لهم، وربما استفتوا من ببلدهم من الفقهاء المعروفين، وربما أرسلوا إلى الخليفة يسألونه، كما حصل في عهد عمر بن عبد العزيز.
145 (7) الرأي في العصر العباسي الأول من 132ه/749-750م إلى 232ه/846-847م
جاء عهد العباسيين منذ 132ه/749-750م، وشجع الخلفاء الحركة العلمية وأمدوها بسلطانهم، فكان طبيعيا أن تنتعش العلوم الدينية في ظلهم، بل كانت حركة النهوض أسرع إلى العلوم الشرعية؛ لأنها كانت في دور نمو طبيعي وتكامل.
وهناك سبب يذكره «جولدزيهر» في كتابه «عقيدة الإسلام وشرعه» «وهو أن حكومة الأمويين كانت متهمة بأنها دنيوية، فحلت محلها دولة دينية سياستها سياسة ملية.
كان العباسيون يجعلون حقهم في الإمامة قائما على أنهم سلالة البيت النبوي، وكانوا يقولون إنهم سيشيدون على أطلال الحكومة الموسومة بالزندقة عند أهل التقى نظاما منطقيا على سنة النبي وأحكام الدين الإلهي، ويلاحظ أن المثل الأعلى للسياسة الفارسية وهو الاتصال الوثيق بين الدين والحكومة كان برنامج الحكم العباسي، وقد اقتضى ضبط أمور الدولة على منهاج شرعي جمع الأحكام الشرعية وتدوينها وترتيبها.»
146 (7-1) تطور معنى كلمة الفقه في هذا العهد
وفي صدر العهد العباسي تمكن الاستنباط واستقرت أصوله، وجعل لفظ الفقه ينتهي بالتدريج إلى أن يكون غير مقصور على المعنى الأصلي؛ أي الاستنباط من الأدلة التي ليست نصوصا، وأصبح المعنى الأول للفقه هو، كما يقول الآمدي في كتاب «الإحكام»: «وفي عرف المتشرعين الفقه
147
مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.»
148
أو هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية كما اختاره الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» والمراد من الأدلة التفصيلية ما كان نصا أو رأيا، وسمي أهل هذا الشأن بالفقهاء. (7-2) أهل الرأي وأهل الحديث
ونشأ التأليف على هذا المعنى، وانقسم الفقهاء انقساما ظاهرا إلى فريقين؛ أصحاب الرأي والقياس وهم أهل العراق، وأهل الحديث وهم أهل الحجاز.
ومقدم جماعة أهل الرأي الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة 150ه/767م المعتبر أبا لمذهب أهل العراق. أسسه وأعانه على تأسيسه تلميذاه الجليلان أبو يوسف القاضي المتوفى سنة 182ه/798م ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189ه/804م.
وبدأ النزاع بين الرأي والحديث، وظهور أنصار لكل منهما يسبق عهد أبي حنيفة، فقد كان في كبار التابعين أهل رأي وأهل حديث.
قال الدهلوي في كتابه «حجة الله البالغة»: «اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب المتوفى سنة 91ه/709-710م، وإبراهيم،
149
والزهري المتوفى 124ه/741-742م. وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك، قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
150
وقال المرحوم الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي» عند الكلام على الدور الثالث - التشريع في عهد صغار الصحابة، ومن تلقى عنهم من التابعين - في مميزات هذا الدور: بدء النزاع بين الرأي والحديث، وظهور أنصار لكل من المبدأين:
قدمنا أن كبار الصحابة كانوا في العصر الأول يستندون في فتواهم أولا إلى الكتاب ثم إلى السنة، فإن أعجزهم ذلك أفتوا بالرأي وهو القياس بأوسع معانيه، ولم يكونوا يميلون إلى التوسع في الأخذ بالرأي، ولما جاء هذا الخلف - يريد صغار الصحابة ومن تلقى عنهم من التابعين - وجد منهم من يقف عند الفتوى على الحديث ولا يتعداه، يفتي في كل مسألة بما يجده من ذلك، وليست هناك روابط تربط المسائل بعضها ببعض، ووجد فريق آخر يرى أن الشريعة معقولة المعنى، ولها أصول يرجع إليها، فكانوا لا يخالفون الأولين في العمل بالكتاب والسنة ما وجدوا إليها سبيلا، ولكنهم لاقتناعهم بمعقولية الشريعة وابتنائها على أصول محكمة فهمت من الكتاب والسنة، كانوا لا يحجمون عن الفتوى برأيهم فيما لم يجدوا فيه نصا.
وجد بذلك أهل حديث، وأهل رأي، الأولون يقفون عند ظواهر النصوص بدون بحث في عللها وقلما يفتون برأي، والآخرون يبحثون عن علل الأحكام وربط المسائل بعضها ببعض، ولا يحجمون عن الرأي إذا لم يكن عندهم أثر، وكان أكثر أهل الحجاز أهل حديث، وأكثر أهل العراق أهل رأي؛ ولذلك قال سعيد بن المسيب لربيعة (ابن أبي عبد الرحمن المتوفى سنة 136ه/753-754م) لما سأله عن علة الحكم: أعراقي أنت؟ (7-3) أهل الرأي من فقهاء العراق
وممن اشتهر بالرأي والقياس من فقهاء العراق إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي فقيه العراق، وهو شيخ حماد بن أبي سليمان المتوفى سنة 120ه/737-738 شيخ أبي حنيفة المقدم من أهل العراق، وقد أخذ إبراهيم الفقه عن خاله علقمة المتوفى سنة 60ه/679-680م أو 70ه/689-690م، وهو علقمة بن قيس النخعي الكوفي، وهو من متقدمي فقهاء التابعين من الطبقة الأولى منهم، وكان أنبل أصحاب ابن مسعود.
وكان إبراهيم يعاصر عامر بن شرحبيل الشعبي المتوفى سنة 104ه/732-733م محدث الكوفة وعالمها، وكان الأمر بعيدا بينهما، فإن الشعبي كان صاحب حديث وأثر، إذا عرضت له الفتيا ولم يجد فيها نصا انقبض عن الفتوى، وكان يكره الرأي وأرأيت، وقال مرة: أرأيتم لو قتل الأحنف وقتل معه صغير، أكانت ديتهما سواء، أم يفضل الأحنف لعقله وحكمه؟ قالوا: بل سواء، قال: فليس القياس بشيء. فالفرق بين الرجلين أن الشعبي ومن على طريقته من رجال الحديث والأثر يقفون عند السنة لا يتعدونها، وينقبضون أن يقولوا بآرائهم فيما فيه سنة وما ليس فيه سنة، ولا يحكم العقل في شيء من ذلك، وليس هناك مصالح منضبطة اعتبرها الشارع في تشريعه يرجعون إليها عند الفتيا، كأنه لا رابطة بين الأحكام الشرعية.
وقد تألم سعيد بن المسيب شيخ فقهاء أهل الحديث من ربيعة لما سأله عن المعقول في دية الأصابع، وكان أهل المدينة يسمون ربيعة هذا بربيعة الرأي، لما يبحث في علل الشريعة، حتى قال ربيعة بن سوار القاضي: ما رأيت أحدا أعلم من ربيعة بالرأي. فقيل له: ولا الحسن وابن سيرين؟ فقال: ولا الحسن وابن سيرين.
أما إبراهيم النخعي ومن على طريقته من فقهاء العراق وبعض فقهاء المدينة؛ فإنهم كانوا يستندون أيضا في فتاويهم إلى الكتاب والسنة، إلا أنهم فهموا أن هذه الشريعة لا بد أن تكون لها مصالح مقصودة التحصيل من أجلها شرعت، وصح لهم اعتبار هذه المصالح فجعلوها أساسا للاستنباط فيما لم يروا فيه كتابا ولا سنة، ولهم في ذلك سلف صالح؛ فإن الصحابة قاسوا في كثير من المسائل التي عرضت لهم، ولم يكن عندهم فيها كتاب ولا سنة، ولم تكن آراؤهم إلا نتيجة اعتبار تلك المصالح.
151 (أ) أبو حنيفة
ولئن كان حماد بن أبي سليمان الكوفي المتوفى سنة 120ه/738م هو أول من جمع حوله طائفة من التلاميذ يعلمهم الفقه مع ميل غالب للرأي، وكان أبو حنيفة من هؤلاء التلاميذ - كما في مقال جولدزيهر - فإن حمادا لم يترك أثرا علميا مكتوبا.
أما أبو حنيفة فيقول صاحب «الفهرست»: «وله من الكتب كتاب «الفقه الأكبر»، وكتاب «رسالة إلى البستي» (أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي)، وكتاب «العالم والمتعلم» رواه عنه مقاتل، وكتاب «الرد على القدرية »، والعلم، برا وبحرا وشرقا وغربا بعدا وقربا، تدوينه، رضي الله عنه.»
152
وفي كتاب «أصول» فخر الإسلام البزدوي:«وقد صنف أبو حنيفة - رضي الله عنه - في ذلك - أي في علم التوحيد والصفات - كتاب «الفقه الأكبر»، وذكر فيه إثبات الصفات، وإثبات تقدير الخير والشر من الله، وأن ذلك كله بمشيئته، وأثبت الاستطاعة مع الفعل، وأن أفعال العباد مخلوقة بخلق الله - تعالى - إياها كلها، ورد القول بالأصلح، وصنف كتاب «العالم والمتعلم» وكتاب «الرسالة»، وقال فيه لا يكفر أحد بذنب ولا يخرج به من الإيمان ويترحم عليه.»
153
ويذكر الموفق بن أحمد المكي الحنفي في كتابه «مناقب الإمام الأعظم» أثر أبي حنيفة في الفقه بقوله: «وأبو حنيفة أول من دون علم هذه الشريعة، لم يسبقه أحد ممن قبله؛ لأن الصحابة والتابعين لم يضعوا في الشريعة أبوابا مبوبة ولا كتبا مرتبة، إنما كانوا يعتمدون على قوة فهمهم، وجعلوا قلوبهم صناديق علمهم، فنشأ أبو حنيفة بعدهم، فرأى العلم منتشرا فخاف عليه الخلف السوء أن يضيعوه؛ ولهذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وإنما ينتزعه بموت العلماء، فيبقى رؤساء جهال، فيفتون بغير علم، فيضلون ويضلون».»
154
فلذلك دونه أبو حنيفة، فجعله أبوابا مبوبة، وكتبا مرتبة، فبدأ بالطهارة، ثم بالصلاة، ثم بسائر العبادات على الولاء، ثم بالمعاملات، ثم ختم بكتاب المواريث، وإنما ابتدأ بالطهارة ثم بالصلاة؛ لأن المكلف بعد صحة الاعتقاد أول ما يخاطب بالصلوات؛ لأنها أخص العبادات وأعم وجوبا، وأخر المعاملات لأن الأصل عدمها وبراءة الذمة منها، وختم بالوصايا والمواريث؛ لأنها آخر أحوال الإنسان، فما أحسن ما ابتدأ به وختم! وما أحذق وأفهم وأفقه وأمهر وأعلم وأبصر!
ثم جاء الأئمة من بعده فاقتبسوا من علمه واقتدوا به، وقرنوا كتبهم على كتبه؛ ولهذا روينا بإسناد حسن عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال في حديث طويل: العلماء عيال على أبي حنيفة في الفقه، وروي عن ابن سريح أنه سمع رجلا يتكلم في أبي حنيفة فقال له: يا هذا، مه، فإن ثلاثة أرباع العلم مسلمة له بالإجماع، والرابع لا يسلمه لهم. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن العلم سؤال وجواب، وهو أول من وضع الأسئلة، فهذا نصف العلم، ثم أجاب عنها، فقال بعض: أصاب، وبعض: أخطأ، فإذا جعلنا صوابه بخطائه صار له نصف النصف الثاني، والربع الرابع ينازعهم فيه ولا يسلمه لهم ...
ولأنه أول من وضع كتابا في الفرائض، وأول من وضع كتابا في الشروط
155
والشروط لا يستطيع أن يضعها إلا من تناهى في العلم، وعرف مذاهب العلماء ومقالاتهم؛ لأن الشروط تتفرع على جميع كتب الفقه، ويتحرز بها من كل المذاهب لئلا يتعقبها حاكم بنقض أو فسخ، وقد قيل بلغت مسائل أبي حنيفة خمسمائة ألف مسألة، وكتبه وكتب أصحابه تدل على ذلك.
ويقول صاحب كتاب «المبسوط»: «وأول من فرع فيه (يريد الفقه) وألف وصنف سراج الأمة أبو حنيفة، رحمة الله عليه، بتوفيق من الله - عز وجل - خصه به، واتفاق من أصحاب اجتمعوا له كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم بن خنيس الأنصاري، - رحمه الله تعالى - المقدم في علم الأخبار، والحسن بن زياد اللؤلئي المقدم في السؤال والتفريع، وزفر بن الهذيل - رحمه الله - ابن قيس بن سليم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو المقدم في القياس، ومحمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله تعالى - المقدم في الفطنة وعلم الإعراب والنحو والحساب.
ومن فرغ نفسه لتصنيف ما فرعه أبو حنيفة، رحمه الله، محمد بن الحسن الشيباني، رحمه الله، فإنه جمع المبسوط لترغيب المتعلمين والتيسير عليهم ببسط الألفاظ، وتكرار المسائل في الكتب ليحفظوها، شاءوا أو أبوا.»
156
ويقول الفخر الرازي: «قولهم: إن أبا حنيفة أول من صنف في الفقه؛ فكان قوله أولى من غيره. الجواب أن هذه الحجة بالعكس أولى؛ وذلك لأن الواضع الأول ينقل كلامه عن مساهلات ومسامحات، وأما المتأخر فيكون كلامه أقرب إلى التنقيح والتهذيب، وأيضا إن أرادوا به أن أبا حنيفة صنف كتابا في الفقه فهذا ممنوع؛ لأنه لم يبق منه كتاب مصنف، بل أصحابه هم الذين صنفوا الكتب، وإن أرادوا به أنه تكلم في المسائل واشتغل بالتفاريع، فلا نسلم أنه أول من فعل ذلك، بل الصحابة والتابعون كلهم كانوا مشتغلين به.»
157 (ب) أثر أهل الرأي في الفقه الإسلامي
وجملة القول أن مذهب أهل الرأي هو الذي رتب أبواب الفقه، وأكثر من جمع مسائله في الأبواب المختلفة، وكان الحديث قليلا في العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل أهل الرأي. وفي شرح أصول البزدوي المسمى «كشف الأسرار» لعبد العزيز البخاري: «سموهم أصحاب الرأي تعييرا لهم بذلك، وإنما سموهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام، واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام، ودقة نظرهم فيها، وكثرة تفريعهم عليها، وقد عجز عن ذلك عامة أهل زمانهم، فنسبوا أنفسهم إلى الحديث، وأبا حنيفة وأصحابه إلى الرأي ...
عن مالك بن أنس أنه كان يقول: اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتا، وكلمته في مسائل كثيرة فما رأيت رجلا أفقه منه، ولا أغوص منه في معنى وحجة، وروي أنه كان ينظر في كتب أبي حنيفة - رحمهما الله - وكان يتفقه بها.
وإنما كان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق؛ لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة، ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد وغيره من شئون الدولة أكثر، ومذهب أهل العراق كان يقصد إلى جعل الفقه وافيا بحاجة الدولة التشريعية، فكان همه أن يجعل الفقه فصولا مرتبة، يسهل الرجوع إليها عند القضاء والاستفتاء، وكان همه أن يكثر التفاريع حتى تقوم بما يعرض ويتجدد من الحوادث.
أبو حنيفة: وذكر الإمام المرغيناني أن رجلا جاء إليه وقال: حلفت ألا أغتسل من هذه الجنابة، فأخذ الإمام بيده وانطلق به، حتى إذا مر على قنطرة نهر فدفعه في الماء فانغمس في الماء ثم خرج، فقال قد طهرت وبررت؛ لأن اليمين كان على منع نفسه عن فعل الغسل ولم يحصل منه فعل، وسأله رجل عمن حلف بطلاق امرأته إن اغتسل من جنابة اليوم، ثم حلف كذلك إن ترك صلاة من هذا اليوم، ثم حلف كذلك إن لم يطأها اليوم. قال: يصلي العصر ثم يطؤها، ثم يؤخر الاغتسال إلى الغروب، فإذا غربت الشمس اغتسل وصلى المغرب ولا يحنث؛ لأنه لم يغتسل في اليوم ولم يترك الصلاة ولا الجماع، وبه قال: سئل عن امرأة صعدت السلم، فقال زوجها: إن صعدت فأنت طالق، وإن نزلت فكذلك، قال: يرفع السلم وهي قائمة عليه ثم يوضع على الأرض، أو ترفع المرأة وتوضع على الأرض، ولا يحنث لأنها ما نزلت ولا طلعت.
وسئل أيضا عن رجل قال لامرأته: إن لبست هذا الثوب فأنت كذا، وإن لم أجامعك فيه فأنت كذا، فتحير علماء الكوفة، فقال يلبسه الزوج ويجامعها فيه، وسئل أيضا عمن حلف بالطلاق ألا يأكل البيض، فجاءت امرأته وفي كمها بيض ولم يعلم به؛ فقال: إن لم آكل ما في كمك فأنت كذا، قال: تحضن البيض تحت الدجاجة، فإذا خرج منه فرخ شواه إذا كبر وأكله، ولا يعتبر القشر والدم لأنهما لا يؤكلان، أو يطبخ الفرخ في قدر ويأكله ويأكل المرقة فلا يحنث في اليمين.
وبه عن أبي بكر محمد بن عبد الله أن الموالي قدموا الكوفة وكان لواحد منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي، وادعى أنها زوجته، واعترفت المرأة أيضا بذلك، وادعى المولى المرأة وعجز عن البينة، فعرضت القضية على الإمام فذهب إلى رحلهم مع ابن أبي ليلى وجماعة، وأمر جماعة من النساء أن يدخلن رحل المولى، فلما قربن عوت عليهن كلابه، فأمر المرأة أن تدخل وحدها، فلما قربت بصبص الكلاب حولها، فقال الإمام: ظهر الحق، فانقادت المرأة للحق واعترفت.
وسئل أيضا عن رجل قال لامرأته وفى يدها قدح من ماء فقال: إن شربته أو صببته أو وضعته أو ناولته إنسانا فأنت كذا، قال ترسل فيه ثوبا فتنشفه.»
158 (ج) بين أهل الرأي وأهل الحديث
لا جرم كان مذهب أهل الرأي مذهب القضاء، وكان أئمته قضاة؛ كأبي يوسف ومحمد.
وقد ورد في «أصول» البزدوي: «وقال محمد - رحمه الله تعالى - في كتاب «أدب القاضي»: «لا يستقيم الحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث، حتى إن من لا يحسن الحديث أو علم الحديث ولا يحسن الرأي، فلا يصلح للقضاء والفتوى.»
159
وقد يشعر هذا بما في مذهب أهل الرأي من الاهتمام بشئون القضاء والفتوى، وفي شرح «تنوير الأبصار» الذي كتب عليه ابن عابدين «حاشيته» المشهورة المسماة «رد المحتار إلى الدر المختار»: «وقد جعل الله الحكم لأصحابه وأتباعه - أي أبي حنيفة - من زمنه إلى هذه الأيام، إلى أن يحكم بمذهبه عيسى عليه السلام.»
160
وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بكثرة مسائلهم وقلة روايتهم.
وسئل رقبة بن مصقلة عن أبي حنيفة، فقال: «هو أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما قد كان، وقد روي هذا القول عن حفص بن غياث في أبي حنيفة، يريد أنه لم يكن له علم بآثار من مضى.»
161
ويروي ابن عبد البر في كتاب «الانتقاء»: «عن الحكم بن واقد، قال: رأيت أبا حنيفة يفتي من أول النهار إلى أن يعلو النهار، فلما خف عنه الناس دنوت منه فقلت: يا أبا حنيفة، لو أن أبا بكر وعمر في مجلسنا هذا ثم ورد عليهما ما ورد عليك من هذه المسائل المشكلة لكفا عن بعض الجواب ووقفا عنه، فنظر إليه، وقال: أمحموم أنت؟ يعني مبرسما.»
162 (7-4) أهل الحديث
أما أهل الحديث - أهل الحجاز - فإمامهم مالك بن أنس المتوفى سنة 179ه/795م، وكانت طريقة أهل الحجاز في الأسانيد أعلى من سواهم وأمتن في الصحة لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك. (أ) مالك بن أنس وكتاب «الموطأ»
وكتب مالك كتاب «الموطأ»، أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه.
في «حاشية» الزرقاني على «الموطأ»: وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني الأصفهاني، قلت لأبي حاتم الرازي: موطأ مالك، لم سمي الموطأ؟ فقال: شيء صنعه ووطأه للناس، حتى قيل موطأ مالك، كما قيل جامع سفيان، وروى أبو الحسن بن فهر عن علي بن أحمد الخلنجي، سمعت بعض المشايخ يقول: قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ.
قال ابن فهر: لم يسبق مالكا أحد إلى هذه التسمية، فإن من ألف في زمانه بعضهم سمى بالجامع، وبعضهم سمى بالمصنف، وبعضهم بالمؤلف، ولفظة «الموطأ» بمعنى الممهد المنقح، وأخرج ابن عبد البر عن الفضل بن محمد بن حرب المدني، قال: أول من عمل كتابا بالمدينة على معنى الموطأ من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وعمل ذلك كلاما بغير حديث، فأتى به مالكا فنظر فيه، فقال: ما أحسن ما عمل! ولو كنت أنا الذي عملته ابتدأت بالآثار، ثم سددت ذلك بالكلام.
قال: ثم إن مالكا عزم على تصنيف «الموطأ»، فصنفه فعمل من كان يومئذ بالمدينة من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما فعلوا، فأتي بذلك فنظر فيه، وقال: لتعلمن أنه لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله، قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمعت لشيء منها بعد ذلك بذكر، وروى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتابا أحملهم عليه، فكلمه مالك في ذلك فقال: ضعه؛ فما أحد اليوم أعلم منك، فوضع «الموطأ»، فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر. وفي رواية أن المنصور قال: ضع هذا العلم ودون كتابا وجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد أوسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة. وفي رواية قال له: اجعل هذا العلم علما واحدا فقال له: إن أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - تفرقوا في البلاد، فأفتى كل في مصره بما رأى، فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم، فقال: أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفا ولا عدلا، وإنما العلم علم أهل المدينة، فضع للناس العلم. وفي رواية عن مالك: فقلت له: إن أهل العراق لا يرضون علمنا، فقال أبو جعفر: يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط.
وإذا لم يكن مالك قد وضع «موطأه» تلبية لدعوة المنصور ليجعل هذا العلم علما واحدا، وليحمل الناس عليه، فإن مالكا قد وضع «موطأه» تلبية لحاجة المسلمين الذين اشتدت حاجتهم يومئذ لجمع الأحكام وترتيبها وتنقيحها وتمهيدها، وشعر بهذه الحاجة المنصور، يدل على ذلك ما جاء في «رسالة الصحابة» لابن المقفع. وفي كتاب «ضحى الإسلام»: «ولابن المقفع رسالة سميت بالصحابة - وليس يعني صحابة رسول الله - كما هو المشهور في استعمال الكلمة، وإنما عنى صحابة الولاة والخلفاء ... وللرسالة قيمة كبرى؛ فإنها تقرير في نقد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه، رفعه إلى أمير المؤمنين ولم يسمه، والظاهر أنه أبو جعفر المنصور.»
163
وبعد أن لخص المؤلف الرسالة قال: «فمجمل رأي ابن المقفع في إصلاح القضاء وضع قانون رسمي تجري عليه المملكة الإسلامية في جميع أنحائها.»
164
وقد يكون المنصور أراد أن يحقق مشورة ابن المقفع بما كان يحاول أن يحمل الناس على «الموطأ» لولا أن أدركه الأجل.
وفي كتاب «تبييض الصحيفة» أن مالكا في ترتيبه «للموطأ» متابع لأبي حنيفة، ومن العسير إثبات ذلك، فإن أبا حنيفة ومالكا كانا متعاصرين، وإن تأخر الأجل بمالك، وأقدم ما حفظ من المجاميع الفقهية المؤلفة في عصور الفقه الأولى بين السنيين هو «موطأ» مالك.
في حاشية محمد الزرقاني على «موطأ» مالك: «و«الموطأ» من أوائل ما صنف، قال في مقدمة فتح الباري: اعلم أن آثار النبي
صلى الله عليه وسلم ، لم تكن في عصر أصحابه، وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين؛ حدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك كما في «مسلم»، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن. والثاني: سعة حفظهم وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار.
فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهما، فصنفوا كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدونوا الأحكام ؛ فصنف الإمام مالك «الموطأ» وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وصنف ابن جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وابن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري، وكان هؤلاء في عصر واحد؛ فلا يدرى أيهم أسبق.
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن يفرد حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، خاصة وذلك على رأس المائتين، فصنفوا المسانيد. انتهى.»
165
وقال أبو طالب المكي في «القوت»: «هذه الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة، ويقال إن أول ما صنف كتاب ابن جريج بمكة في الآثار وحروف من التفاسير، ثم كتاب معمر باليمن جمع فيه سننا منثورة مبوبة، ثم «الموطأ» بالمدينة، ثم ابن عيينة الجامع والتفسير في أحرف عن علم القرآن وفي الأحاديث المتفرقة، وجامع سفيان الثوري صنفه أيضا في هذه المدة، وقيل إنها صنفت سنة ستين ومائة. انتهى.»
ويقول صاحب «الفهرست» في سرد كتاب مالك: «وله من الكتب كتاب «الموطأ»، وكتاب «رسالة إلى الرشيد».»
166
وكانت وجهة أهل الحجاز كوجهة أهل العراق تدوين الأحكام الشرعية مبوبة مرتبة، إلا أن اعتماد أهل الحديث على السنة أكثر من اعتمادهم على الرأي، بل هم كانوا يعتبرون الرأي ضرورة لا يلجئون إليها إلا على كره، وعلى غير اطمئنان.
وقد روي عن مالك أنه قال في بعض ما كان ينزل فيسأل عنه فيجتهد فيه برأيه: «إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.»
167
وكان أهل الحديث يكرهون أن يتكاثر الناس بالمسائل كما يتكاثر أهل الدرهم بالدراهم، وكانوا يكرهون السؤال عما لم يكن قالوا، ألا ترى أنهم كانوا يكرهون في الجواب في مسائل الأحكام ما لم تنزل، فكيف بوضع الاستحسان والظن والتكلف ونظير ذلك واتخاذه دينا؟
وفي «الانتقاء» قال الهيثم بن جميل: «شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: «لا أدري.»
ولم يكن أهل الحديث مع ذلك ينكرون اجتهاد الرأي والقياس على الأصول في النازلة تنزل عند عدم النصوص.» (ب) الشافعي وأمر الفقه عند ظهوره
ظهر الشافعي والأمر على ما وصفناه من نهضة الدراسة الفقهية في بلاد الإسلام، نهضة ترمي إلى الوفاء بالحاجة العملية في دولة تريد أن تجعل أحكام الشرع دستورا لها.
ومن انقسام الفقهاء إلى أهل رأي يعتمدون في نهضتهم على سعة أفهامهم ونفاذ عقولهم وقوتهم في الجدل، وأهل حديث يعتمدون على السنن والآثار ولا يأخذون من الرأي إلا بما تدعو إليه الضرورة.
كان أهل الرأي يعيبون أهل الحديث بالإكثار من الروايات الذي هو مظنة لقلة التدبر والتفهم؛ حكي عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش (المتوفى سنة 147ه/764م) عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال لي: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت، فقال: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك ما عرفت تأويله إلا الآن.»
168
وفي شرح عبد العزيز البخاري على أصول البزدوي: أنه سأل واحدا من أهل الحديث عن صبيين ارتضعا لبن شاة، هل تثبت بينهما حرمة الرضاع؟ فأجاب بأنها ثبتت عملا بقوله
صلى الله عليه وسلم : «كل صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم أحدهما على الآخر.» فأخطأ لفوات الرأي، وهو أنه لم يتأمل أن الحكم متعلق بالجزئية والبعضية، وذلك إنما يثبت بين الآدميين لا بين الشاة والآدمي.
وسمعت عن شيخي - رحمه الله - أنه قال: كان واحد من أصحاب الحديث يوتر بعد الاستنجاء عملا بقوله
صلى الله عليه وسلم : «من استنجى فليوتر.»
169
فأصحاب الحديث كانوا حافظين لأخبار رسول الله، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالا أو إشكالا بقوا في أيديهم متحيرين.»
170
هم ضعاف في الاستنباط وفي القدرة على دفع المطاعن والشبهات عن الحديث، وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن، وأنهم ليسوا للسنة أنصارا، ولا هم فيها بمتثبتين، فإن أصحاب أبي حنيفة يقدمون القياس الجلي على خبر الواحد، وهم يقبلون المراسيل والمجاهيل.
وفي كتاب «الانتقاء»: «سمعت عبد الله بن المبارك - المتوفى سنة 181ه/797م - يقول: كان أبو حنيفة قديما أدرك الشعبي والنخعي وغيرهما من الأكابر، وكان بصير الرأي يسلم له فيه، ولكنه كان تهيما في الحديث.»
171
ثم لا يقبلون الحديث الصحيح إذا كان مخالفا للقياس، ولا يقبلونه في الواقعة التي تعم فيها البلوى.»
172
وفي كتاب «أصول» البزدوي: «وهم - أي أبو حنيفة وأصحابه - أصحاب الحديث والمعاني، أما المعاني فقد سلم لهم العلماء حتى سموهم أصحاب الرأي - والرأي اسم للفقه الذي ذكرنا - وهم أولى بالحديث أيضا، ألا ترى أنهم جوزوا نسخ الكتاب بالسنة لقوة منزلة السنة عندهم، وعملوا بالمراسيل تمسكا بالسنة والحديث، ورأوا العمل به مع الإرسال أولى من الرأي ومن رد المراسيل،
173
فقد رد كثيرا من السنة وعمل بالفرع بتعطيل الأصل، وقدموا رواية المجهول على القياس، وقدموا قول الصحابي على القياس.»
174
نشأة الشافعي
كانت الحال على ما ذكرنا حين جاء الشافعي، وقد تفقه الشافعي أول ما تفقه على أهل الحديث من علماء مكة: كمسلم بن خالد الزنجي المتوفى سنة 179ه/795م، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198ه/813م، ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث «مالك» بن أنس في المدينة؛ فلزمه ولقي من عطفه وفضله ما جعله يحبه ويجله.
عن أنس بن عبد الأعلى أنه سمع الشافعي يقول: إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك بن أنس.
175
على أن نشأة الشافعي لم تكن من كل وجه نشأة أهل الحديث، ولا استعداده استعدادهم.
لقد توجه في أول أمره إلى درس اللغة والشعر والأدب وأخبار الناس، ولم يقطع صلته بهذه العلوم حين وصل حبله بأهل الحديث الذين كانوا لا يرونها من العلم النافع.
حكي عن مصعب الزبيري قال: «كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظا، وقال: لا تعلم بهذا أحدا من أهل الحديث، فإنهم لا يحتملون هذا.»
176
وفي كتاب «طبقات الشافعية» للنووي من نسخة خطية في ترجمة محمد بن علي البجلي القيرواني: «قال البجلي: وقال لي الربيع: كان الشافعي إذا خلا في بيته كالسيل يهدر بأيام العرب.»
وكان الشافعي بطبعه نهما في العلم، يلتمس كل ما يجده من فنونه، وقد ذكر من ترجموا له أنه اشتغل بالفراسة حين ذهب إلى اليمن
177
وعالج التنجيم والطب، وربما كان درسهما في إحدى رحلاته إلى العراق، حيث كان التنجيم يعتبر فرعا من فروع العلوم الرياضية، وكان الطب فرعا من العلم الطبيعي، والعلم الرياضي والعلم الطبيعي قسمان من أقسام الفلسفة التي كان مسلمو العراق أخذوا يتنسمون ريحها، وكان الشافعي مغرى بالرمي والفروسية في شبابه، ولم يكن في كهولته يأنف من الوقوف عند مهرة الرماة يدعو لهم ويمدهم بالمال، وكان يحب اقتناء الخيل الجيدة والبغال الفارهة.
وفي كتاب «طبقات الشافعية» للقاضي شمس الدين الصفدي في صفة الشافعي: «وكان مقتصدا في لباسه، يتختم في يساره، وكان ذا معرفة تامة في الطب والرمي، وكان أشجع الناس وأفرسهم، يأخذ بأذنه وأذن الفرس والفرس يعدو.»
وفي كتاب «مفتاح السعادة» لطاش كبرى زاده: «روي عن الشافعي أنه رأى على باب مالك كراعا
178
من أفراس خراسان وبغال مصر، ما رأيت أحسن منه، فقلت له: ما أحسنه! فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله. قلت: دع لنفسك منها دابة تركبها. فقال: أنا أستحي من الله - تعالى - أن أطأ تربة فيه رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، بحافر دابة.»
179
ويظهر أنه لم يكن شديدا في جرح الرجال كعادة أهل الحديث، وقد نقل صاحب «طبقات الشافعية الكبرى» حكاية تدل على سخرية الشافعي من تزمت المزكين.
قال الشافعي - رضي الله عنه: «حضرت بمصر رجلا مزكيا يجرح رجلا فسئل عن سببه، وألح عليه فقال: رأيته يبول قائما. قيل: وما في ذلك؟ قال يرد الريح من رشاشه على بدنه وثيابه فيصلي فيه. قيل: هل رأيته أصابه الرشاش وصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟ قال: لا، ولكن أراه سيفعل.»
180
وكان في العلماء المعاصرين للشافعي من لا يراه ممعنا في الحديث. عن أبي عبد الله الصاغاني يحدث عن يحيى بن أكثم قال: «كنا عند محمد بن الحسن في المناظرة، وكان الشافعي رجلا قرشي العقل والفهم، صافي الذهن سريع الإصابة، ولو كان أكثر سماع الحديث لاستغنت أمة محمد به عن غيره من العلماء.»
181
ولما ذهب الشافعي إلى العراق استرعى نظره تحامل أهل الرأي على أستاذه مالك وعلى مذهبه، وكان أهل الرأي أقوى سندا وأعظم جاها بما لهم من المكانة عند الخلفاء وبتوليهم شئون القضاء، ذلك إلى أنهم أوسع حيلة في الجدل من أهل الحديث وأنفذ بيانا، ويمثل حال الفريقين من هذه الناحية ما روي عن إمامي أهل الرأي وأهل الحديث: أبي حنيفة ومالك.
روى ابن عبد البر المالكي عن الطبري قال: «وكان مالك قد ضرب بالسياط، واختلف فيمن ضربه وفي السبب الذي ضرب فيه قال: حدثني العباس بن الوليد قال: خبرنا ذكوان عن مروان الطاطري أن أبا جعفر نهى مالكا عن الحديث: «ليس على مستكره طلاق»، ثم دس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رءوس الناس.»
182
أما أبو حنيفة فينقل في شأنه الموفق المكي في كتاب «المناقب» عن معمر بن الحسن الهروي يقول: اجتمع أبو حنيفة ومحمد بن إسحاق المتوفى سنة 150ه/767م عند أبي جعفر المنصور، وكان جمع العلماء والفقهاء من أهل الكوفة والمدينة وسائر الأمصار لأمر حزبه، وبعث إلى أبي حنيفة فنقله على البريد إلى بغداد، فلم يخرجه من ذلك الأمر الذي وقع له إلا أبو حنيفة، فلما قضيت الحاجة على يديه حبسه عند نفسه ليرفع القضاة والحكام الأمور إليه، فيكون هو الذي ينفذ الأمور ويفصل الأحكام، وحبس محمد بن إسحاق ليجمع لابنه المهدي حروب النبي
صلى الله عليه وسلم
وغزواته، قال: فاجتمعا يوما عنده وكان محمد بن إسحاق يحسده، لما كان يرى من المنصور من تفضيله وتقديمه واستشارته فيما ينوبه وينوب رعيته وقضاته وحكامه، وسأل أبا حنيفة عن مسألة أراد بها أن يغير المنصور عليه، فقال له: ما تقول يا أبا حنيفة في رجل حلف ألا يفعل كذا وكذا، أو أن يفعل كذا وكذا، ولم يقل: «إن شاء الله» موصولا باليمين، وقال ذلك بعدما فرغ من يمينه وسكت. فقال أبو حنيفة: لا ينفعه الاستثناء إذا كان مقطوعا من اليمين، وإنما ينفعه إذا كان موصولا به.
فقال: وكيف لا ينفعه وقد قال جد أمير المؤمنين الأكبر أبو العباس عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - إن استثناءه جائز ولو كان بعد سنة، واحتج بقوله عز وجل:
واذكر ربك إذا نسيت . فقال المنصور لمحمد بن إسحاق: أهكذا قال أبو العباس، صلوات الله عليه؟ قال: نعم، فالتفت إلي أبي حنيفة - رحمه الله - وقد علاه الغضب، فقال: تخالف أبا العباس؟ فقال أبو حنيفة: لم أخالف أبا العباس، ولقول أبي العباس عندي تأويل يخرج على الصحة، ولكن بلغني أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «من حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه.» وإنما وضعناه إذا كان موصولا باليمين، وهؤلاء لا يرون خلافتك؛ لهذا يحتجون بخبر أبي العباس.
فقال له المنصور: كيف ذلك؟ قال: لأنهم يقولون إنهم بايعوك حيث بايعوك تقية، وإن لهم الثنيا متى شاءوا يخرجون من بيعتك، ولا يبقى في أعناقهم من ذلك شيء. قال: هكذا؟ قال: نعم. فقال المنصور: خذوا هذا - يعني محمد بن إسحاق - فأخذ وجعل رداؤه في عنقه وحبسوه.»
183
وفي نسخة خطية من كتاب «طبقات الفقهاء» للقاضي شمس الدين العثماني الصفدي: «وكان الطوسي يكره أبا حنيفة، وهو يعرف ذلك؛ فدخل أبو حنيفة على المنصور وكثر الناس، فقال الطوسي: اليوم أقتل أبا حنيفة، فقال لأبي حنيفة: إن أمير المؤمنين يأمرنا بضرب عنق الرجل لا ندري ما هو، فهل لنا قتله؟ فقال: يا أبا العباس، أمير المؤمنين يأمر بالحق أو الباطل؟ فقال: بالحق، قال: اتبع الحق حيث كان ولا تسأل عنه، ثم قال لمن قرب منه: إن هذا أراد أن يوثقني فربطته.»
184
كان طبيعيا أن يجادل الشافعي عن أستاذه، وعن مذهب أستاذه، وقد نهض الشافعي لذلك قويا بعقله، قويا بعلمه، قويا بفصاحته، قويا بشباب في عنفوانه وحمية عربية، وقد رويت لنا نماذج من دفاع الشافعي عن مالك ومذهبه: «عن محمد بن الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم ، يعني أبا حنيفة ومالكا، وما كان على صاحبكم أن يتكلم، وما كان لصاحبنا أن يسكت، قال: فغضبت وقلت: نشدتك الله، من كان أعلم بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، مالك أم أبو حنيفة؟ قال: مالك، لكن صاحبنا أقيس. فقلت: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله - تعالى - وناسخه ومنسوخه، وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام.»
185
كان هذا الحجاج عن مذهب مالك في قدوم الشافعي إلى العراق أول أمره، وأقام الشافعي في العراق زمنا غير قصير، درس فيه كتب محمد بن الحسن وغيره من أهل الرأي فيما درس في العراق، ولازم محمد بن الحسن، ورد على بعض أقواله وآرائه مناصرة لأهل الحديث.
ولا شك أن الشافعي في ذلك العهد كان متأثرا بمذهب أهل الحديث، ومتأثرا بملازمة عالم دار الهجرة؛ فهو كان يدافع عن مذهبه هو، مع دافع من حميته لأستاذه وأنصار أستاذه من المستضعفين.
أما البزار الكردري فهو يروي في سبب اختلاف الشافعي على محمد بن الحسن وصحبه روايات يلمز بها قدرة الشافعي على الدخول في مداخل أهل الرأي تارة، ويطعن بها في وفاء الشافعي لمن أحسن إليه أحيانا؛ فهو يقول: «عن علي بن الحسين الرازي قال: اجتمع في عرس هو وسفيان بن سحبان، وفرقد، وعيسى بن أبان، وأخذوا في مسألة في الوصايا غامضة وفيهم الشافعي، فدخل في نكتة من المسألة غامضة، فظن الإمام الشافعي أنه فطن للمسألة ولم يكن كذلك، فجره سفيان إلى أغمض منها حتى تحير، ولم يتهيأ له الكلام، فحكي ذلك لمحمد فقال: ارفقوا به؛ فإنه جالسنا وصحبنا، ولا تفعلوا به هذا.»
186
ويقول أيضا: «عن عبد الرحمن الشافعي: لم يعرف الشافعي لمحمد حقه، وأحسن إليه فلم يف له، وعن إسماعيل المزني قال الإمام الشافعي: حبست بالعراق لدين، فسمع محمد بي فخلصني، فأنا له شاكر من بين الجميع، وعن ابن سماعة قال: أفلس الشافعي غير مرة، فجاء إلى محمد فحدث أصحابه فجمع له مائة ألف، فكان فيه قضاء حاجته، ثم أفلس مرة أخرى فجمع له سبعين ألف درهم، ثم أتاه الثالثة فقال لا أذهب مروءتي من بين أصحابي، ولو كان فيك خير لكفاك ما جمعته لك ولعقبك، وكان قبل هذا مولعا بكتبه يناظر أوساط أصحابه ويعد نفسه منهم، فلما أتى محمدا الثالثة أظهر الخلاف.»
187
والشافعي نفسه يرد على ذلك ، فقد أخرج الحاكم من طريق محفوظ بن أبي توبة قال: سمعت الشافعي يقول: «يقولون إني إنما أخالفهم للدنيا، وكيف ذلك والدنيا معهم؟ وإنما يريد الإنسان لبطنه وفرجه، وقد منعت ما ألذ من المطاعم، ولا سبيل إلى النكاح - يعني لما كان به من البواسير - ولكن لست أخالف إلا من خالف سنة رسول الله.»
188
ولما عاد الشافعي إلى بغداد في سنة 195ه/810-811م ليقيم فيها سنتين اشتغل بالتدريس والتأليف، وروى البغدادي في كتاب «تاريخ بغداد»: «عن أبي الفضل الزجاج يقول: لما قدم الشافعي إلى بغداد، وكان في الجامع إما نيف وأربعون حلقة أو خمسون حلقة، فلما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة ويقول لهم: قال الله وقال الرسول، وهم يقولون: قال أصحابنا، حتى ما بقي في المسجد حلقة غيره.»
189
واختلف إلى دروس الشافعي جماعة من كبار أهل الرأي كأحمد بن حنبل وأبي ثور، فانتقلوا عن مذهب أهل الرأي إلى مذهبه.
ويروى عن أحمد بن حنبل أنه قال: ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه منة، فقلنا: يا أبا محمد، كيف ذلك؟ قال: «إن أصحاب الرأي كانوا يهزءون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم.»
190
مذهب الشافعي القديم ومذهبه الجديد
ووضع الشافعي في بغداد كتاب «الحجة»، روى ابن حجر عن البويطي أن الشافعي قال: اجتمع علي أصحاب الحديث فسألوني أن أضع على كتاب أبي حنيفة، فقلت: لا أعرف قولهم حتى أنظر في كتبهم، فكتبت لي كتب محمد بن الحسن، فنظرت فيها سنة حتى حفظتها، ثم وضعت الكتاب البغدادي، يعني الحجة.»
191
ويظهر من ذلك أن مذهب الشافعي القديم الذي وضعه في بغداد كان في جل أمره ردا على مذهب أهل الرأي، وكان قريبا إلى مذهب أهل الحديث.
وروى البغدادي عن حرملة أنه سمع الشافعي يقول: «سميت ببغداد ناصر الحديث.»
192
ونقل ابن حجر عن البيهقي أن كتاب «الحجة» الذي صنفه الشافعي ببغداد حمله عنه الزعفراني، وله كتب أخرى حملها غير الزعفراني، منها كتاب «السير» رواية أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي. وفي كتاب «كشف الظنون»: ««الحجة» للإمام الشافعي، وهو مجلد ضخم ألفه بالعراق، إذا أطلق القديم من مذهبه يراد به هذا التصنيف، قاله الإسنوي في «المبهمات»، ويطلق على ما أفتى به هناك أيضا.»
ثم انتهى الشافعي إلى مصر، ويأبى البزار الكردري في كتابه «مناقب الإمام الأعظم» إلا أن يجعل رحيل الشافعي من بغداد إلى مصر هزيمة وفرارا؛ فهو يقول: «عن الجارود بن معاوية قال: كان الشافعي - رضي الله عنه - بالعراق يصنف الكتب وأصحاب محمد يكسرون عليه أقاويله بالحجج ويضعفون أقواله، وضيقوا عليه، وأصحاب الحديث أيضا لا يلتفتون إلى قوله، ويرمونه بالاعتزال، فلما لم يقم له بالعراق سوق خرج إلى مصر، ولم يكن بها فقيه معلوم، فقام بها سوقه.»
193
وفي مصر آزره تلاميذ مالك، حتى إذا وضع مذهبه الجديد وأخذ يؤلف الكتب ردا على مالك تنكروا له وأصابته منهم محن.
وفي كتاب طبقات الشافعية للنووي من نسخة خطية بدار الكتب المصرية في ترجمة يوسف بن يحيى أبي يعقوب البويطي: «قال أبو بكر الصيرفي في كتابه «شرح اختلاف الشافعي ومالك، رضي الله عنهما»: عن البويطي: قدم علينا الشافعي مصر فأكثر الرد على مالك، فاتهمته وبقيت متحيرا، فكنت أكثر الصلاة والدعاء رجاء أن يريني الله مع أيهما الحق، فأريت في منامي أن الحق مع الشافعي، فذهب ما كنت أجده.
فالبويطي مشهور أنه كان يرى مذهب مالك قبل أن يقول بقول الشافعي، وذكر فيه أيضا أن المزني كان يرى أهل العراق.»
قال الربيع: «سمعت الشافعي يقول: قدمت مصر لا أعرف أن مالكا يخالف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثا، فنظرت فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل.
ثم ذكر الشافعي في رده على مالك المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها بقول واحد من الصحابة أو بقول واحد من التابعين أو لرأي نفسه.
ثم ذكر ما ترك فيه أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه، وذلك أنه يدعي الإجماع، وهو مختلف فيه.
ثم بين الشافعي أن ادعاء أن إجماع أهل المدينة حجة قول ضعيف.»
194
ويروي بعض الرواة: «أن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك؛ لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقى بها، وكان يقال لهم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فيقولون قال مالك، فقال الشافعي: إن مالكا بشر يخطئ؛ فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتب في اختلافه معه، وكان يقول: استخرت الله - تعالى - في ذلك.»
195
وفي كتاب «مغيث الخلق في اختيار الأحق» تصنيف إمام الحرمين الجويني من نسخة خطية بدار الكتب المصرية: «فمالك أفرط في مراعاة المصالح المطلقة المرسلة غير المستندة إلى شواهد الشرع، وأبو حنيفة قصر نظره على الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مراعاة القواعد والأصول، والشافعي - رضي الله عنه - جمع بين القواعد والفروع، فكان مذهبه أقصد المذاهب، ومطلبه أسد المطالب.»
مذهب الشافعي الجديد
ومذهب الشافعي الجديد الذي وضعه في مصر هو الذي يدل على شخصيته وينم على عبقريته، ويبرز استقلاله. «سئل أحمد ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين، أهي أحب إليك أم التي بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك، كما يرويه الذهبي في تاريخه الكبير.»
196
وفي كتاب «مغيث الخلق»: «للشافعي مذهبان: مذهب قديم ومذهب جديد ناسخ للقديم، فلا يجوز أن يفتى ويؤخذ بالقديم مع إمكان الأخذ بالجديد؛ لأن القديم صار منسوخا، ولأن المتأخر يرفع المتقدم لا محالة كالمنسوخ لا يبقى مع الناسخ، فعلى هذا لا تردد، فلم يبق للشافعي تردد إلا في ثماني عشر مسألة، إذ لم يفرغ للتخريج على أصله ويحكمه ويتمه؛ لأنه اخترمته المنية في ريعان شبابه.»
ومذهب الشافعي الجديد وصل إلينا فيما ألفه بمصر من الكتب ، وقد سرد البيهقي المتوفى سنة 458ه/1065-1066م، كتب الشافعي ولخصها عنه ابن حجر: «الرسالة القديمة»، ثم «الرسالة الجديدة»، «اختلاف الحديث»، «جماع العلم»، «إبطال الاستحسان»، «أحكام القرآن»، «بياض الغرض»، «صفة الأمر والنهي»، «اختلاف مالك والشافعي»، «اختلاف العراقيين»، «اختلافه مع محمد بن الحسن»، «كتاب علي وعبد الله»، «فضائل قريش»، كتاب «الأم».
197
وعدة كتاب «الأم»
198
مائة ونيف وأربعون كتابا، وحمل عنه حرملة كتابا كبيرا يسمى كتاب «السنن»، وحمل عنه المزني في كتابه «المبسوط»، وهو المختصر الكبير والمنثورات، وكذا المختصر المشهور.
قال البيهقي: وبعض كتبه الجديدة لم يعد تصنيفها وهي: الصيام، والحدود، والرهن الصغير، والإجارة، والجنائز. فإنه أمر بقراءة هذه الكتب عليه في الجديد وأمر بتحريق ما يغاير اجتهاده، قال: وربما تركته اكتفاء بما نبه عليه من رجوعه عنه في مواضع أخرى. قلت: وهذه الحكاية مفيدة ترفع كثيرا من الإشكال الواقع بسبب مسائل اشتهر عن الشافعي الرجوع عنها، وهي موجودة في بعض هذه الكتب.
ثم نقل ابن حجر أن لأصحاب الشافعي من أهل الحجاز والعراق عنه مسائل وزيادات، قال: وهذا يدل على أن كتبا أخرى حملها عنه هؤلاء؛ لأن هذه المسائل ليست في الكتب المقدم ذكرها.
وقد ترك ابن حجر في تلخيصه كتاب «مسند الشافعي»، ولا ندري إن كان البيهقي قد تركه أيضا أم لا، ويقول الرازي: «إن كتابه المسمى بمسند الشافعي كتاب مشهور في الدنيا.»
199
على أني رأيت في كتاب «طبقات الشافعية» للنووي، من نسخة خطية بدار الكتب المصرية، عند ترجمة محمد بن يعقوب بن يوسف أبي العباس السناني النيسابوري المعروف بالأصم المولود سنة 249ه/863م: «و«مسند الشافعي» المعروف ليس من جمع الشافعي وتأليفه، وإنما جمعه من سماعات الأصم بعض أصحابه؛ ولذلك لا يستوعب حديث الشافعي؛ فإنه مقصور على ما كان عند الأصم من حديثه.»
توجيه الشافعي للدراسات الفقهية توجيها جديدا
كان اتجاه المذاهب الفقهية قبل الشافعي إلى جمع المسائل وترتيبها وردها إلى أدلتها التفصيلية، خصوصا عندما تكون دلائلها نصوصا.
وأهل الحديث لكثرة اعتمادهم على النص كانوا أكثر تعرضا لذكر الدلائل من أهل الرأي.
فلما جاء الشافعي بمذهبه الجديد كان قد درس المذهبين ولاحظ ما فيهما من نقص بدا له أن يكمله، وأخذ ينقض بعض التعريفات من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد في طريقة الاستنباط.
وذلك يشعر باتجاهه في الفقه اتجاها جديدا هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يكاد يعنى بالجزئيات والفروع .
ويدل على أن اتجاه الشافعي لم يكن إلى تمحيص الفروع ما نقله ابن عبد البر في «الانتقاء» من أن أحمد بن حنبل قال: «قال الشافعي لنا: أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني، إن يكن كوفيا أو بصريا أو شاميا أذهب إليه إذا كان صحيحا.»
200
وطريقة علاجه للعلم تدل على منهجه، قال محمد ابن أخت الشافعي عن أمه قالت: «ربما قدمنا في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو أقل أو أكثر المصباح بين يدي الشافعي، وكان يستلقي ويتذكر ثم ينادي: يا جارية، هلمي مصباحا، فتقدمه، ويكتب ما يكتب، ثم يقول: ارفعيه، فقيل لأحمد: ما أراد برد المصباح؟ قال: الظلمة أجلى للقلب.»
201
وليس هذا النوع من التفكير الهادئ في ظلمة الليل كتفكير من يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع، بل يعنى بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، وذلك هو النظر الفلسفي.
قال ابن سينا في منطق الشفاء: «إنا لا نشتغل بالنظر في الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غير متناهية فتحصر، ولا، لو كانت متناهية، كان علمنا بها من حيث هي جزئية يفيدنا كمالا حكميا أو يبلغنا غاية حكمية.»
وكان أحمد يقول: «الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه.»
202
وقد حاول الشافعي أن يجمع أصول الاستنباط الفقهي وقواعدها علما ممتازا، وأن يجعل الفقه تطبيقا لقواعد هذا العلم، وبهذا يمتاز مذهب الشافعي من مذهب أهل العراق وأهل الحجاز.
قال الغزالي في «المستصفى»: «بيان حد أصول الفقه: اعلم أنك لا تفهم حد أصول الفقه ما لم تعرف أولا معنى الفقه، والفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، يقال: فلان فقيه الخير والشر؛ أي يعلمه ويفهمه، ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة، حتى لا يطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم، وفلسفي، ونحوي، ومحدث، ومفسر.
بل يختص بالعلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الإنسانية كالوجود والحظر والإباحة والندب والكراهة، وكون العقد صحيحا وفاسدا وباطلا، وكون العبادة قضاء وأداء وأمثاله، ولا يخفى عليك أن للأفعال أحكاما عقلية؛ أي مدركة بالعقل، ككونها أعراضا وقائمة بالمحل ومخالفة للجوهر، وكونها أكوانا حركة وسكونا وأمثالها، والعارف بذلك يسمى متكلما لا فقيها، وأما أحكامها من حيث إنها واجبة ومحظورة ومباحة ومكروهة ومندوب إليها، فإنما يتولى الفقيه بيانها، فإذا فهمت هذا فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل.
فإن علم الخلاف من الفقه أيضا مشتمل على أدلة الأحكام ووجوه دلالتها، ولكن من حيث التفصيل، كدلالة حديث خاص في مسألة النكاح بلا ولي على الخصوص، ودلالة آية خاصة في مسألة متروك التسمية على الخصوص، وأما الأصول فلا يتعرض فيها لإحدى المسائل ولا على طريق ضرب المثال، بل يتعرض فيها لأصل الكتاب والسنة والإجماع، ولشرائط صحتها، وثبوتها ثم لوجوه دلالتها الجميلة، إما من حيث صيغتها أو مفهوم لفظها أو معقول لفظها وهو القياس من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة، فبهذا تقارن أصول الفقه فروعه، وقد عرفت من هذا أن أدلة الأحكام: الكتاب والسنة والإجماع؛ فالعلم بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة وشروط صحتها ووجوه دلالتها على الأحكام هو: العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه.»
203
الشافعي أول من وضع مصنفا في العلوم الدينية على منهج علمي
إذا كان الشافعي هو أول من وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية؛ فهو أيضا من وضع مصنفا في العلوم الدينية الإسلامية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه.
قال الرازي: «اتفق الناس على أن أول
204
من صنف في هذا العلم - أي أصول الفقه - الشافعي، وهو الذي رتب أبوابه، وميز بعض أقسامه من بعض، وشرح مراتبها في القوة والضعف.
وروي أن عبد الرحمن بن مهدي التمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص فوضع الشافعي - رضي الله عنه - الرسالة وبعثها إليه؛ فلما قرأها عبد الرحمن بن مهدي قال: ما أظن أن الله - عز وجل - خلق مثل هذا الرجل.
205
الشافعي واضع علم الأصول
ثم قال الرازي: «واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، وذلك أن الناس كانوا قبل أرسططاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن ما كان عندهم قانون مخلص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي قلما أفلح، فلما رأى أرسططاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة، واستخرج لهم علم المنطق، ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يرجع إليه في معرفة الحدود والبراهين.
وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارا، وكان اعتمادهم على مجرد الطبع، فاستخرج الخليل علم العروض، وكان ذلك قانونا كليا في مصالح الشعر ومفاسده، فكذلك هنا؛ الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، وكذلك ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.» ثم يقول الرازي: «واعلم أن الشافعي صنف كتاب «الرسالة» ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب «الرسالة». وفي كل واحد منهما علم كثير.»
206
وفي كتاب «مغيث الخلق في اختيار الأحق» لإمام الحرمين الجويني: «ولا يخفى على المسترشد المستبصر، وعلى الشادي والمبتدي، وعلى الطغام والعوام رجحان نظر الشافعي في فن الأصول، فإنه أول من ابتدع ترتيب الأصول ومهد الأدلة ورتبها وبينها وصنف فيها رسالته.»
ويقول بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794ه/1291-1292م في كتابه «أصول الفقه»، المسمى بالبحر المحيط: «فصل: الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، صنف فيه كتاب «الرسالة» وكتاب أحكام القرآن واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم.
ثم تبعه المصنفون في علم الأصول، قال أحمد بن حنبل: «لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي.» وقال الجويني في شرح «الرسالة»: «لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها، وقد حكي عن ابن عباس تخصيص عموم، وعن بعضهم القول بالمفهوم، ومن بعدهم لم يقل في الأصول شيء، ولم يكن لهم فيه قدم، فإنا رأينا كتب السلف من التابعين وتابعي التابعين وغيرهم، وما رأيناهم صنفوا فيه».»
207
وفي موضع آخر من هذه النسخة عند الكلام على منع الشافعي نسخ السنة للكتاب: «كيف وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه وأول من أخرجه؟»
ويقول ابن خلدون في المقدمة: «وكان أول من كتب فيه - أي في علم أصول الفقه - الشافعي، أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي، والبيان والخبر، والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس.
ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضا.»
208
وفي كتاب «طبقات الفقهاء» للقاضي شمس الدين العثماني الصفدي: «ثم خرج الشافعي إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف بها كتبه الجديدة، وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام واليمن والعراق وغيرها من النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه، وابتكر الشافعي ما لم يسبق إليه من ذلك أصول الفقه، فإنه أول من صنف أصول الفقه بلا خلاف.
ومن ذلك كتاب القسامة وكتاب الجزية وكتاب قتال أهل البغي.»
209
ويقول صاحب كتاب «كشف الظنون»: «وأول من صنف فيه الإمام الشافعي، ذكره الإسنوي في «التمهيد»، وحكى الإجماع فيه.»
210
الباحثون في هذا الشأن من الغربيين يرون الشافعي واضعا لأصول الفقه، يقول جولدزيهر في مقالته في كلمة «فقه» في دائرة المعارف الإسلامية: «وأظهر مزايا محمد بن إدريس الشافعي أنه وضع نظام الاستنباط الشرعي في أصول الفقه، وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول، وقد ابتدع في «رسالته» نظاما للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشأن المقدم، رتب الاستنباط من هذه الأصول، ووضع القواعد لاستعمالها بعد ما كان جزافا.»
على أنا نجد في كتاب «الفهرست» في ترجمة محمد بن الحسن ذكر كتاب له يسمى كتاب أصول الفقه، ويقول الموفق المكي في كتاب «مناقب الإمام الأعظم » نقلا عن طلحة بن محمد بن جعفر: «إن أبا يوسف أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة.»
211
ونقل ذلك طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة»،
212
ولم يرد في هذا العلم فيما أورده صاحب «الفهرست» لأبي يوسف من الكتب، وإذا صح أن لأبي يوسف أو لمحمد كتابا في أصول الفقه؛ فهو فيما يظهر كتاب لنصرة ما كان يأخذ به أبو حنيفة، ويعيبه أهل الحديث - ومعهم الشافعي - من الاستحسان، وقد يؤيد ذلك أن صاحب «الفهرست» ذكر في أسماء كتب أبي يوسف كتاب «الجوامع»، ألفه ليحيى بن خالد، يحتوي على أربعين كتابا ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به، ولم يكن في طبيعة مذهب أهل الرأي الذين كان من همهم أن يجمعوا المسائل ويستكثروا منها النزوع إلى تقييد الاستنباط بقواعد لا تتركه متسعا رحبا.
على أن القول بأن أبا يوسف هو أول من تكلم في أصول الفقه علما ذا قواعد عامة يرجع إليها كل مستنبط لحكم شرعي، هذا وقد نقلنا آنفا عن ابن عابدين أن أبا حنيفة كان إذا وقعت واقعة شاور أصحابه شهورا أو أكثر حتى يستقر آخر الأقوال فيثبته أبو يوسف حتى أثبت الأصول على هذا المنهاج.
وفي رسالة ابن عابدين: «ثم هذه المسائل التي تسمى بظاهر الرواية والأصول هي ما وجد في كتب محمد التي هي المبسوط والزيادات والجامع الصغير والسير الصغير والجامع الكبير، وإنما سميت بظاهر الرواية لأنها رويت عن محمد برواية الثقات، فهي ثابتة عنه، إما متواترة أو مشهورة عنه.»
213
وكل ذلك يدل على أن أبا يوسف هو أول من أثبت الأصول التي هي فتاوى اتفق عليها الإمام وأصحابه، وأن محمدا جمع من كتب السنة مسائل الأصول، وتسمى ظاهر الرواية أيضا، وهي - كما يقول ابن عابدين في الرسالة المذكورة - مسائل رويت عن أصحاب المذهب، وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، رحمهم الله تعالى، ويقال لهم العلماء الثلاثة.»
فليس بمستبعد أن يكون ما نسب لأبي يوسف من أنه أول من وضع الكتب في أصول الفقه، وما نسب لمحمد من أنه ألف كتاب أصول الفقه، إنما أريد به أصول فقه أبي حنيفة؛ أي المسائل التي أشار الإمام بثباتها بعد مشاورة أصحابه، وقد يعضد هذا الفهم تعبير صاحب «الفهرست» عند تعديد كتب أبي يوسف بقوله: «ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي
214
كتاب الصلاة وكتاب الزكاة، ... إلخ.»
215
وعند ذكر الكتب التي ألفها محمد بقوله: «ولمحمد من الكتب في الأصول كتاب الصلاة، وكتاب الزكاة ... إلخ.»
216
وقد لا يكون بعيدا عن غرض الشافعي في وضع أصول الفقه أن يقرب الشقة بين أهل الرأي وأهل الحديث، ويمهد الوحدة التي دعا إليها الإسلام.
وفي كتاب «تقويم النظر» لمحمد بن علي المعروف بابن الدهان، من نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس: «وقيل لبعض القصاص: ما السر في قصر عمر الشافعي؟ فقال حتى لا يزالوا مختلفين، ولو طال عمره رفع الخلاف.»
تحليل الرسالة
وصف الشافعي في خطبة «الرسالة» حال الناس عند بعثة النبي من الجهة الدينية، فبين أنهم كانوا صنفين: «أهل الكتاب بدلوا أحكامه وكفروا بالله وافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم.
وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبا وصورا استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها ودعوها آلهة عبدوها، أو عبدوا ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم وغار وغيره.»
ثم ذكر الشافعي أن الله أنقذ الناس بمحمد من هذا الضلال، وأنزل عليه كتابه فقال:
وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
فنقلهم به من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى.
وتكلم على منزلة القرآن من الدين واشتماله على ما قد أحل الله وما حرم، وما تعبد الناس به، وما أعد لأهل طاعته من الثواب، وما أوجب لأهل معصيته من العقاب، ووعظهم بالإخبار عمن كان قبلهم.
ورتب الشافعي على ذلك ما يحق على طلبة العلم بالدين من بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علم القرآن وإخلاص النية لله، لاستدراك علمه نصا واستنباطا، فإن من أدرك علم أحكام الله - عز وجل - في كتابه نصا واستدلالا ووفقه الله - تعالى - للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريبة، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.
ثم ختم الشافعي خطبة «الرسالة» بقوله: «فليست بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله - جل ثناؤه - الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تعالى:
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، وقال:
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ، وقال:
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، وقال:
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله ...
الآية.»
ولما كان قد وضح من هذه المقدمة أن القرآن هو تبيان لكل شئون الدين قال تعالى:
هذا بيان للناس ، وأراد به القرآن، وإنه الدليل على سبيل الهدى في كل نازلة تنزل بأي أحد من أهل دين الله، فإن الشافعي عقد بعد هذه المقدمة بابا عنوانه: «باب كيف البيان»، بدأه بتعريف البيان بأنه اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه، متقاربة الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض، ومختلفة عند من يجهل لسان العرب.
عرض من جاء بعد الشافعي لتحديد معنى البيان على وجه أوضح، قال الغزالي في «المستصفى»: «مسألة في حد البيان: اعلم أن البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام، وإنما يحصل الإعلام بدليل، والدليل محصل للعلم، فها هنا ثلاثة أمور: إعلام، ودليل به الإعلام، وعلم يحصل من الدليل. من الناس من جعله عبارة عن التعريف فقال في حده: إنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي، ومنهم من جعله عبارة عما تحصل به المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة، أعني الأمور التي ليست ضرورية، وهو الدليل، فقال في حده: إنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه، وهو اختيار القاضي، ومنهم من جعله عبارة عن نفس العلم وهو تبيين الشيء، فكأن البيان عنده والتبيين واحد، ولا حجر في إطلاق اسم البيان على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة، إلا أن الأقرب إلى اللغة وإلى التداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي، إذ يقال لمن دل غيره على الشيء: بينه له - وهذا بيان منك، لكنه لم يتبين، وقال تعالى:
هذا بيان للناس
وأراد به القرآن.
وعلى هذا فبيان الشيء قد يكون بعبارة وضعت بالاصطلاح، فهي بيان في حق من تقدمت معرفته بوجه المواضعة، وقد يكون بالفعل والإشارة والرمز إذ الكل دليل ومبين، ولكن صار في عرف المتكلمين مخصوصا بالدلالة بالقول؛ فيقال: له بيان حسن؛ أي كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد، واعلم أن ليس من شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد، بل يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت المواضعة صح أن يعلم به، ويجوز أن يختلف الناس في تبيين ذلك.»
217
ويوشك أن يكون مذهب القاضي الباقلاني هو أقرب المذاهب إلى رأي الشافعي.
ثم جعل الشافعي ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم به من وجوه خمسة، وقد سماها المتأخرون مراتب البيان للأحكام؛ أولها: ما أبان الله في كتابه نصا جليا لا يتطرق إليه التأويل فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره، وسماه المتأخرون بيان التأكيد. ثانيها: ما أبانه القرآن بنص يحتمل أوجها، فدلت السنة على تعيين المراد به من هذه الأوجه، كما يؤخذ من كلام الشافعي، وقد أسقط الشافعي هذا الثاني في مواضع من «الرسالة» حصل فيها جملة وجوه البيان، كما في الفصل الذي عقده للبيان الرابع.
وذكر الشوكاني وغيره من الأصوليين معنى آخر لهذا البيان. قال الشوكاني: «الثاني النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء، كالواو وإلى في آية الوضوء، وأن هذين الحرفين مقتضيان لمعان معلومة عند أهل اللسان.»
وحمل كلام الشافعي على هذا بعيد.
ثالثها: ما أتى الكتاب على غاية البيان في فرضه، وبين رسول الله كيف فرضه وعلى من فرضه، ومتى يزول فرضه ويثبت.
رابعا: ما بين الرسول مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل.
خامسها: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وهو القياس، «والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة»، وقد سمى المتأخرون هذا البيان ببيان الإشارة. قال الشوكاني: «الخامس بيان الإشارة وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة، مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني وقيس عليها غيرها؛ لأن الأصل إذا استنبط منه معنى وألحق به غيره لم يقل: لم يتناوله النص، بل تناوله؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم ، أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربويات بالأربعة المنصوص عليها؛ لأن حقيقة القياس بيان المراد بالنص، وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - أهل التكليف بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد.»
وبعد أن أجمل الشافعي مراتب البيان الخمس أخذ يوضحها ويبين لها الأمثلة والشواهد في أبواب خمسة.
وبعد أن أتم الكلام على البيان الخامس قال: «وهذا الصنف من العلم (يعني الاجتهاد) دليل على ما وصفت قبل هذا، على أن ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.»
وهذا يفيد أن الشافعي يرى الإجماع من مراتب البيان، وإن لم يذكره مستقلا، قال الشوكاني: «ذكر هذه المراتب الخمس للبيان الشافعي في أول «الرسالة»، وقد اعترض عليه قوم وقالوا: قد أهمل قسمين، وهما: الإجماع، وقول المجتهد إذا انقرض عصره وانتشر من غير نكير، قال الزركشي في «البحر»: إنما أهملهما الشافعي لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي؛ لأن الإجماع لا يصدر إلا عن دليل، فإن كان نصا فهو من الأقسام الأول، وإن كان استنباطا فهو الخامس.»
وما قاله الزركشي في «البحر» متعلقا بالإجماع بين من كلام الشافعي نفسه في «الرسالة» في باب الإجماع.
وذكر الشافعي في الباب الخامس أن القرآن الذي هو الأصل لكل أقسام البيان عربي، وأنه يخاطب العرب بلسانها «على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص؛ فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاما ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، وكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين آخر لفظها فيه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة، وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به، وإن اختلفت أسباب معرفتها، معرفة واضحة عندها ومستنكرا عند غيرها ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة.»
وأخذ الشافعي يشرح وجود هذه الوجوه في القرآن في أبواب مرتبة كما يأتي: باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص. باب بيان ما نزل من القرآن عام الظاهر، وهو يجمع العام والخصوص. باب ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص. باب الصنف الذي يبين سياقه معناه. باب الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره. باب ما نزل عاما فدلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص.
ولما كان في هذا الباب الأخير ما يدل على أن السنة تخصص الكتاب؛ فقد عرض الشافعي للسنة وحجيتها ومنزلتها من الدين، فوضع لذلك الأبواب الآتية: باب بيان فرض الله - تعالى - في كتابه اتباع سنة نبيه،
صلى الله عليه وسلم . باب فرض الله طاعة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، مقرونة بطاعة الله - جل ذكره - ومذكورة وحدها. باب ما أمر الله به من طاعة رسوله
صلى الله عليه وسلم . باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه، وما شهد له به من اتباع ما أمر به ومن هداه، وأنه هاد لمن اتبعه.
وفي هذا الباب كرر الشافعي القول بأن رسول الله سن مع كتاب الله، وبين فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وأخذ يستدل على ذلك ويحاج المخالفين في أن النبي يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ثم قال: «وسأذكر مما وصفنا من السنة مع كتاب الله، والسنة فيما ليس فيه نص كتاب، بعض ما يدل على جملة ما وصفنا منه، إن شاء الله تعالى، فأول ما نبدأ به من ذكر سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، مع كتاب الله ذكر الاستدلال بسنته على الناسخ والمنسوخ من كتاب الله، عز وجل، ثم ذكر الفرائض الجمل التي أبان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن الله كيف هي ومواقيتها، ثم ذكر العام من أمر الله - تعالى - الذي أراد به العام، والعام الذي أراد به الخاص، ثم ذكر سنته فيما ليس فيه نص كتاب.»
وبعد وضع فصلا عنوانه: «ابتداء الناسخ والمنسوخ» ذكر فيه حكمة النسخ التي هي التخفيف والتوسعة.
وذكر أن الكتاب إنما ينسخ بالكتاب، والسنة إنما تنسخ بالسنة، ويلي ذلك الفصول الآتية: الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه. باب فرض الصلاة الذي دل الكتاب، ثم السنة على من تزول عنه بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية. باب الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع. باب الفرائض التي أنزلها الله - تعالى - نصا . باب الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
معها. باب ما جاء في الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنما أريد به الخاص. جمل الفرائض التي أحكم الله - تعالى - فرضها بكتابه وبين كيف فرضها على لسان نبيه
صلى الله عليه وسلم . باب في الزكاة.
ثم ذكر الشافعي بابا عنوانه: «باب العلل في الأحاديث» ذكر فيه ما يكون بين الأحاديث من اختلاف بسبب أن بعضها ناسخ وبعضها منسوخ، وما يكون من الاختلاف بسبب الغلط في الأحاديث وذكر بعض مناشئ الغلط.
ثم عقد أبوابا للناسخ والمنسوخ من الأحاديث، وأبوابا للاختلاف بسبب غير النسخ، وتكلم في بعض هذه الأبواب على الاختلاف في القراءات في القرآن وسببه.
ووضع بعد ذلك أبوابا في النهي الوارد في الأحاديث، يوضح بعضها معاني بعض، وتكلم على النهي وأقسامه.
ثم وضع بابا للعلم فقال: إن العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله، وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا في كتاب الله - تعالى - وموجود عاما عند أهل الإسلام ينقله كله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله لا يتنازعون في حكايته، ولا في وجوبه عليهم، وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل.
أما الثاني فهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء منه سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا، والفرض في هذا مقصود به قصد الكفاية، فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفاية خرج من تخلف عنه من المأثم، ولو ضيعوه لم يخرج واحد منهم مطيق فيه من المأثم.
ثم عقد بابين؛ أولهما: باب خبر الواحد، والثاني: الحجة في تثبيت خبر الواحد، ويتجلى في هذين البابين أسلوب الشافعي في الجدل ومنهجه في الترجيح.
أما أبواب الرسالة بعد ذلك فهي: باب الإجماع، باب إثبات القياس والاجتهاد، وحيث يجب القياس ولا يجب، ومن له أن يقيس، باب الاجتهاد، باب الاستحسان، وهو يبين فيه أن حراما على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، وقد أفاض في هذا الباب في الكلام على القياس وأنواعه، ورد القول بالاستحسان.
وختم الشافعي رسالة الأصول بالكلام على الاختلاف، فبين أن الاختلاف من وجهين: أحدهما: محرم. والآخر: غير محرم.
أما الاختلاف المحرم فهو: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه منصوصا بينا، فمن علمه لم يحل له الاختلاف فيه. والثاني: الاختلاف فيما يحتمل التأويل أو يدرك قياسا؛ فيذهب المتأول أو القائس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره.
وعقب الشافعي على باب الاختلاف بباب في المواريث يذكر فيه أوجها من الاختلاف في المواريث، ويلي ذلك باب الاختلاف في الجد، وبه تكمل الرسالة، وقد ذكر في هذا الباب الأخير رأيه في أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها، وصرح بأنه هو يصير إلى اتباع قول واحدهم إذا لم يجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا، ولا شيئا في معنى هذا أو وجد معه القياس.
ورتب الشافعي بعد ذلك مراتب الأصول وأنزلها منازلها بما نصه: «نحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم بسنة رويت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم بالإجماع، ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحل القياس والخبر موجود.»
مظاهر التفكير الفلسفي في الرسالة
ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقا مقررا في ذهن مؤلفها، قد يختل اطراده أحيانا، ويخفى وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المنظم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى.
وإذا كنا نلمح في «الرسالة» نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية؛ للعناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، وإن لم تغفل جانب الفقه؛ أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية؛ فإنا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى.
منها هذا الاتجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتعاريف أولا، ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم، وقد يعرض الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها، وينتهي به التمحيص إلى تخير ما يرتضيه منها.
ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه، حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم، وحسن التصرف في الاستدلال، والنقض ومراعاة النظام المنطقي، حوارا فلسفيا على رغم اعتماده على النقل أولا وبالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة.
ومنها الإيماء إلى مباحث من علم الأصول تكاد تهجم على الإلهيات أو علم الكلام؛ كالبحث في العلم، وأن هناك حقا في الظاهر والباطن وحقا في الظاهر دون الباطن، وأن المجتهد مصيب أو مخطئ معذور، والفرق بين القرآن والسنة، وعلل الأحكام، وترتيب الأصول بحسب قوتها وضعفها، وقد استدل الشافعي على حجية السنة وما دونها من الأصول؛ فلفت الأذهان إلى حجية القرآن نفسه، وهي مسألة وثيقة الاتصال بأبحاث المتكلمين.
شراح الرسالة متكلمون وفقهاء
وقد أثارت رسالة الشافعي اهتمام العلماء يروونها، ويتناولونها بالشرح وبالنقد، فمن شرحها: محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي المتوفى سنة 330ه/932م. وفي ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» لابن السبكي: «الإمام الجليل الأصولي، أحد أصحاب الوجوه المسفرة عن فضله، والمقالات الدالة على جلالة قدره، وكان يقال إنه أعلم خلق الله - تعالى - بالأصول بعد الشافعي، ومن تصانيفه شرح الرسالة.» وذكر له صاحب «الفهرست» من الكتب في الأصول كتاب «البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام»، وكتاب «شرح رسالة الشافعي»، وقال صاحب «كشف الظنون»: «ومن شروحها - أي «الرسالة» - «دلائل الأعلام للصيرفي».» فجعل الكتاب الأول شرحا للرسالة، وذكر صاحب «الفهرست» من كتب الصيرفي: «كتاب نقض كتاب عبيد الله بن طالب الكاتب لرسالة الشافعي».
ومنهم حسان بن محمد القرشي الأموي أبو الوليد النيسابوري المتوفى سنة 349ه/960م. روى صاحب «الطبقات الشافعية الكبرى» عن الحاكم أنه قال: «كان إمام أهل الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم، وأكثرهم تقشفا ولزوما لمدرسته وبيته.» ولم يشر صاحب الطبقات إلى شرحه لرسالة الشافعي، لكن صاحب «كشف الظنون» ذكره فيمن شرح الرسالة، وذكر الزركشي في «البحر المحيط» شرحه للرسالة فيما عنده من كتب الفن ؛ أي فن الأصول.
ومنهم محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي المتوفى سنة 365ه/975-976م. قال صاحب «طبقات الشافعية الكبرى»: «كان إماما في التفسير، إماما في الحديث، إماما في الكلام، إماما في الأصول، إماما في الفروع.» وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: «كان إماما، وله مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها، وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء؛ فإنه كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة، وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر.» وذكر في «البحر المحيط» للزركشي وفي «كشف الظنون» وفي «الطبقات»: «وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: بلغني أنه كان مائلا عن الاعتدال، قائلا بالاعتزال في أول أمره، ثم رجع إلى مذهب الأشعري.»
ومنهم الحافظ أبو بكر الجوزقي،
218
ومحمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري الشيباني توفي سنة 378ه/998-999م: وفي «طبقات الشافعية»: «كان أبو بكر أحد أئمة المسلمين علما ودينا، وكان محدث نيسابور.» ولم يذكر شرحه للرسالة في «الطبقات»، لكن الزركشي وصاحب «كشف الظنون» ذكراه، قال الزركشي في «البحر المحيط» في الكلام على ما عنده من كتب الفن: «فمن كتب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - «الرسالة» و«اختلاف الحديث»، و«أحكام القرآن»، ومواضع متفرقة من «الأم» و«شرح الرسالة» للصيرفي، وللقفال الشاشي، وللجويني،
219
ولأبي الوليد النيسابوري، وكتاب «القياس» للمزني».
أما صاحب «كشف الظنون» فيقول: «رسالة الشافعي في الفقه على مذهبه، وهي مشهورة بينهم، ورواها عنه جماعة وتنافسوا في شرحها، فشرحها أبو بكر محمد بن عبد الله الشيباني الجوزقي النيسابوري المتوفى سنة 388ه/998م، والإمام محمد بن علي القفال الكبير الشاشي المتوفى سنة 365ه/975-976م، وأبو الوليد حسان بن محمد النيسابوري القرشي الأموي المتوفى سنة 349ه/960م، وأبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي سنة 330ه/941-942م واسمه: «دلائل الأعلام»، ذكره في شرح الألفية، وشرحها أبو زيد عبد الرحمن الجزولي، ويوسف بن عمر، وجمال الدين ... الأقفهسي، وابن الفاكهاني أبو القاسم بن عيسى بن ناجي.»
220
ولم أعثر على تراجم للشراح الخمسة الأخيرين.
والشراح الذين تناولوا رسالة الشافعي كانوا ما بين متكلمين وفقهاء، فنزع كل فريق منهم المنزع المناسب لفنه، فعني الفقهاء بجانب الاستنباط والتفريع في «الرسالة»، وعني المتكلمون بما توحي به مباحث الكلام.
وتوجه التأليف في علم الأصول هذا الاتجاه؛ قال ابن خلدون
221
في المقدمة في باب «أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات»: وكان أول من كتب فيه - أي في علم أصول الفقه - الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أملى به رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس، ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضا كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه، وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية، والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن؛ لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم، وكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن، وجاء أبو زيد الدبوسي
222
من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده، وعني الناس بطريقة المتكلمين، وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب «البرهان» لإمام الحرمين،
223
و«المستصفى» للغزالي،
224
وهما من الأشعرية، وكتاب «العهد» لعبد الجبار
225
وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري
226
وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه.»
ويقول الزركشي في البحر المحيط: «وجاء من بعده - أي الشافعي - فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا، حتى جاء القاضيان قاضي السنة أبو بكر بن الطيب،
227
وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم وساروا على لاحب نارهم.»
وجملة القول أن المتكلمين منذ القرن الرابع الهجري وضعوا أيديهم على علم أصول الفقه، وغلبت طريقتهم فيه طريقة الفقهاء؛ فنفذت إليه آثار الفلسفة والمنطق، واتصل بهما اتصالا وثيقا.
هوامش
ضميمة في علم الكلام وتاريخه
علم الكلام وتاريخه
(1) تعريف علم الكلام
للعلماء في تعريف علم الكلام عبارات مختلفة، كثيرا ما تدل على الاختلاف في وجهة النظر.
ولأبي نصر الفارابي المتوفى سنة 339ه/950م قول في تعريف الكلام وفرق ما بينه وبين الفقه، تفرد به - فيما نعلم - وهو من أقدم ما وصل إلينا من تعاريف هذا العلم، قال في الكلام: «صناعة الكلام: وصناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل، وهذا ينقسم إلى جزءين أيضا: جزء في الآراء وجزء في الأفعال.»
وهي غير الفقه لأن الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلمة ويجعلها أصولا، فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها.
والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولا من غير أن يستنبط عنها أشياء أخر.
فإذا اتفق أن يكون لإنسان ما قدرة على الأمرين جميعا فهو فقيه متكلم، فيكون نصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فقيه.
وأما الوجوه والآراء التي ينبغي أن تنصر الملل، فإن قوما من المتكلمين يرون أن ينصروا الملل بأن يقولوا إن آراء الملل وكل ما فيها من الأوضاع ليس سبيلها أن يمتحن بالآراء والروية والعقول الإنسانية؛ لأنها أرفع رتبة منها إذ كانت مأخوذة عن وحي إلهي؛ لأن
1
فيها أسرارا إلهية تضعف عن إدراكها العقول الإنسية ولا تبلغها.
وأيضا فإن الإنسان إنما سبيله أن تفيده الملل بالوحي ما شأنه ألا يدركه بعقله، وما يخور عقله منه، وإلا فلا معنى للوحي ولا فائدة، إذا كان إنما يفيد الإنسان ما كان يعمله
2
وما يمكن إذا تأمله أن يدركه بعقله، ولو كان كذلك لوكل الناس إلى عقولهم، ولما كانت بهم حاجة إلى نبوة ولا إلى وحي.
لكن لم يفعل بهم ذلك؛ فلذلك ينبغي أن يكون ما تفيده الملل من العلوم ما ليس في طاقة عقولنا إدراكه، ثم ليس هذا فقط، بل وما تستنكره عقولنا أيضا، فإنه ليس كل ما كان أشد استنكارا عندنا كان أبلغ في أن
3
يكون أكثر فوائد، وذلك أن التي يأتي بها الملك مما تستنكره العقول وتستبشعه الأوهام ليست هي بالحقيقة منكرة ولا محالة، بل هي صحيحة في العقول الإلهية.
فإن الإنسان، وإن بلغ نهاية الكمال في الإنسانية، فإن منزلته عند ذوي العقول الإلهية منزلة الصبي و
4
الحدث والغمر عند الإنسان الكامل، وكما أن كثيرا من الصبيان والأغمار يستنكرون بعقولهم أشياء كثيرة، مما ليست في الحقيقة منكرة ولا غير ممكنة ويقع لهؤلاء أنها غير ممكنة، فكذلك منزلة من هو في نهاية كمال العقل الإنسي عند العقول الإلهية.
وكما أن الإنسان من قبل أن يتأدب ويحتنك يستنكر أشياء كثيرة ويستبشعها ويخيل إليه فيها أنها محالة، فإذا تأدب بالعلوم واحتنك بالتجارب زالت عنه تلك الظنون فيها، وانقلبت الأشياء التي كانت عنده محالة فصارت هي الواجبة، وصار عنده ما كان يتعجب منه قديما في حد ما يتعجب من ضده، كذلك الإنسان الكامل الإنسانية لا يمتنع من
5
أن يكون يستنكر أشياء ويخيل إليه أنها غير ممكنة من غير أن تكون في الحقيقة كذلك؛ فلهذه الأشياء رأى هؤلاء أن يحيل
6
تصحيح الملل، فإن الذي أتانا بالوحي من عند الله - جل ذكره - صادق، ولا يجوز أن يكون قد كذب، ويصح أنه كذلك من أحد وجهين:
إما بالمعجزات التي يفعلها أو تظهر على يده.
وإما بشهادات من تقدم قبله من الصادقين المقبولي الأقاويل على صدق هذا ومكانه من الله، جل وعز، أو بهما جميعا.
فإذا صححنا صدقه بهذه الوجوه، وأنه لا يجوز أن يكون قد كذب، فليس ينبغي أن يتفق بعد ذلك في الأشياء التي هو
7
لها مجال للعقول، ولا تأمل، ولا روية، ولا نظر.
فبهذه وما أشبهها رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.
وقوم منهم آخرون يرون أن ينصروا أولا جميع ما صرح به واضع الملة بالألفاظ التي عبر عنها، ثم يتتبعوا المحسوسات والمشهورات والمعقولات، فما وجدوا منها أو من اللوازم عنها، وإن بعد، شاهدا لشيء مما في الملة نصروا به ذلك الشيء، وما وجدوا منها مناقضا لشيء مما في الملة وأمكنهم أن يتأولوا اللفظ الذي به عبر عنه واضع الملة على وجه موافق لذلك المناقض - ولو تأويلا بعيدا - تأولوه عليه، وإن لم يمكنهم ذلك، وأمكن أن يزيف ذلك المناقض و
8
أن يحملوه على وجه يوافق ما في الملة فعلوه، فإن تضاد المشهورات والمحسوسات في الشهادة مثل أن تكون المحسوسات أو اللوازم عنها توجب شيئا، والمشهورات أو اللوازم عنها توجب ضد ذلك، نظروا إلى أقواهما شهادة لما في الملة فأخذوه واطرحوا الآخر وزيفوه.
فإن لم يمكن أن تحمل لفظة الملة على ما يوافق أحد هذه، ولا أن يحمل شيء من هذه على ما يوافق الملة، ولم يمكن أن يطرح ولا أن يزيف شيء من المحسوسات ولا من المشهورات ولا من المعقولات التي تضاد شيئا منها، رأوا حينئذ أن ينصروا ذلك الشيء بأن يقال إنه حق لأنه أخبر به من لا يجوز أن يكون قد كذب ولا غلط، ويقول هؤلاء في هذا الجزء من الملة بما قاله أولئك الأولون في جميعها.
فبهذا الوجه رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.
وقوم من هؤلاء رأوا أن ينصروا أمثال هذه الأشياء، يعني التي يخيل فيها أنها شنعة، بأن يتتبعوا سائر الملل؛ فيلتقطوا الأشياء الشنعة التي فيها، فإذا أراد الواحد من أهل تلك الملل تقبيح شيء مما في ملة هؤلاء، تلقاه هؤلاء بما في ملة أولئك من الأشياء الشنعة فدفعوه بذلك عن ملتهم.
وآخرون منهم لما رأوا أن الأقاويل التي يأتون بها في نصرة أمثال هذه الأشياء ليست فيها كفاية في أن تصح بها تلك الأشياء صحة تامة، حتى يكون سكوت خصمهم لصحتها عنده لا لعجزه عن مقاومتهم فيها بالقول، اضطروا عند ذلك إلى أن يستعملوا معه الأشياء التي تلجئه إلى أن يسكت عن مقولتهم إما خجلا وحصرا أو خوفا من مكروه يناله.
وآخرون لما كانت ملتهم عند أنفسهم صحيحة لا يشكون في صحتها، رأوا أن ينصروها عند غيرهم، ويحسنوها ويزيلوا الشبهة منها، ويدفعوا خصومهم عنها بأي شيء اتفق، ولم يبالوا بأن يستعملوا الكذب والمغالطة والبهت والمكابرة؛ لأنهم رأوا أن من يخالف ملتهم أحد رجلين:
إما عدو، والكذب والمغالطة جائز أن يستعمل في دفعه وفي غلبته، كما يكون ذلك في الجهاد والحرب.
وإما ليس بعدو، ولكن جهل حظ نفسه من هذه الملة لضعف عقله وتمييزه، وجائز أن يحمل الإنسان على حظ نفسه بالكذب والمغالطة، كما يفعل ذلك بالنساء والصبيان.
9
ويقول الفارابي في الفقه: «علم الفقه: وصناعة الفقه هي التي بها يقتدر الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء مما لم يصرح واضع الشريعة بتحديده على الأشياء التي صرح فيها بالتحديد والتقدير، وأن يتحرى تصحيح ذلك حسب غرض واضع الشريعة بالعلة التي شرعها في الأمة التي لها شرع.
وكل ملة فيها آراء وأفعال: فالآراء مثل الآراء التي تشرع في الله، وفيما يوصف به. وفي العلم أو غير ذلك، والأفعال مثل الأفعال التي يعظم بها الله، والأفعال التي بها تكون المعاملات في المدن.
فلذلك يكون علم الفقه جزءين؛ جزء في الآراء، وجزء في الأفعال.»
10
ولسنا نعرف لغير الفارابي من علماء الإسلام هذا التمييز بين الكلام والفقه، بأن الأول يتعلق بنصرة العقائد والشرائع التي صرح بها واضع الملة، على حين يتعلق الثاني باستنباط ما لم يصرح به واضع الملة؛ مما صرح به في العقائد والشرائع جميعا. نعم، للفقه في بعض إطلاقاته عموم يشتمل جميع مسائل الدين، قال صاحب «كشاف اصطلاحات الفنون»: «وقد يطلق الفقه على علم النفس بما لها وما عليها، فيشتمل جميع العلوم الدينية؛ ولهذا سمى أبو حنيفة - رحمه الله - الكلام بالفقه الأكبر.»
وجاء في «تاج العروس»: «وقد غلب - أي الفقه - على علم الدين لشرفه وسيادته وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريا والعود على المندل. قال ابن الأثير: واشتقاقه من الشق والفتح، وقد جعلته العرب خاصا بعلم الشريعة وتخصيصا بعلم الفروع منها.»
ومع هذا فإن العلماء يكادون يتفقون على أن علم الكلام خاص بالمسائل الاعتقادية، وعلم الفقه متصل بالأحكام العملية .
وفي كتاب «التعريفات» للسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة 816ه (1413م): «الفقه هو في اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه. وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وقيل هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم، وهو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل؛ ولهذا لا يجوز أن يسمى الله - تعالى - فقيها؛ لأنه لا يخفى عليه شيء.»
الكلام علم يبحث فيه عن ذات الله - تعالى - وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، والقيد الأخير لإخراج العلم الإلهي للفلاسفة ... الكلام علم باحث عن أمور يعلم منها المعاد وما يتعلق به من الجنة والنار والصراط والميزان والثواب والعقاب، وقيل الكلام هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من الأدلة.
وفلاسفة الإسلام أنفسهم لا يخالفون ذلك.
قال أبو حيان التوحيدي المتوفى سنة 400ه/1009م في رسالة «ثمرات العلوم»:
11 «أما الفقه فإنه دائر بين الحلال والحرام، وبين اعتبار العلل في القضايا والأحكام، وبين الفرض والنافلة، وبين المحظور والمباح، وبين الواجب والمستحب، وبين المحثوث عليه والمنزه عنه ...»
12 «وأما علم الكلام؛ فإنه باب من الاعتبار في أصول الدين يدور النظر فيه على محض العقل في التحسين والتقبيح والإحالة والتصحيح والإيجاب والتجويز والاقتدار والتعديل والتجويز
13
والتوحيد والتكفير، والاعتبار فيه ينقسم بين دقيق يتفرد العقل به، وبين جليل يفزع إلى كتاب الله - تعالى - فيه.
ثم التفاوت في ذلك بين المتحلين به على مقاديرهم في البحث والتنقير والفكر والتحبير، والجدل والمناظرة، والبيان والمناضلة، والظفر بينهم بالحق سجال، ولهم عليه مكر ومجال، وبابه مجاور لباب الفقه والكلام فيهما مشترك، وإن كان بينهما انفصال وتباين، فإن الشركة بينهما واقعة والأدلة فيهما متضارعة، ألا ترى أن الباحث عن العالم في قدمه وحدثه وامتداده وانقراضه يشاور العقل ويخدمه ويستضيء به ويستفهمه، كذلك الناظر في العبد الحاني هل هو مشابه للمال فيرد إليه، أو مشابه للحر فيحمل عليه؛ فهو يخدم العقل ويستضيء به.»
14
نعم إن الفارابي في «إحصاء العلوم» لم يقصد إلى بيان الكلام الإسلامي ، والفرق بينه وبين الفقه على مصطلح أهل الإسلام، بل قصد الكلام في العلوم الدينية جملة فجعلها طائفتين: طائفة تبحث فيما يقتدر به الإنسان على الاستنباط من نصوص الدين المأخوذة تسليما، وطائفة تبحث فيما يقتدر به الإنسان على نصرة ما جاء به الدين من العقائد والأحكام وتزييف كل ما خالفه بالبراهين العقلية؛ ولهذا التقسيم في نفسه وجه ظاهر، وللتسمية بالفقه والكلام وجه، ولكن تطبيق ما يراه الفارابي على المعروف من مصطلح المسلمين ليس بظاهر.
أما كلام أبي حيان التوحيدي؛ فلا يخالف الاصطلاح المعروف إلا في قوله: إن الفقه والكلام يشتركان في استخدام العقل، وتتضارع أدلتهما في قيامه على النظر العقلي، وتلك نظرة فيلسوف يقوي سلطان العقل ويوسع ميدانه من غير مخالفة للواقع ذات خطر، فإن الاستنباط الفقهي يحتاج إلى العقل خصوصا إذا كان معتمدا على القياس.
أما المتكلمون فليست تعاريفهم للكلام متفقه من كل وجه، فالغزالي المتوفى سنة 505ه/1111م يقول: «القول في بيان مقصود علم الكلام وحاصله: ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي، وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة؛ فقد ألقى الله - تعالى - إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة، فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله - تعالى - طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله؛ فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله - تعالى - إليه، فأحسنوا الذب عن السنة والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة، والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة، ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد أو إجماع الأمة أو مجرد القبول من القرآن والأخبار.
وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في جنب من لا يسلم سوى الضروريات شيئا أصلا، فلم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا.
نعم، لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة، تشوق المتكلمون إلى مجاوزة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها، ولكن لما لم يكن مقصود علمهم لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى؛ فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلاف الخلق، ولا أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغيري، بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة، ولكن حصولا مشوبا بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات، والغرض الآن حكاية حالي لا الإنكار على من استشفى به، فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر.»
15
وتعريف ابن خلدون المتوفى سنة 806ه/1406م لعلم الكلام ملائم تمام الملاءمة لكلام الغزالي؛ فهو يقول: «علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة.»
16
وابن خلدون يصرح بما صرح به الغزالي، من أن العقائد الإيمانية أخذها السلف عن أدلتها من الكتاب والسنة، وإنما حدث علم الكلام حجاجا عن هذه العقائد، ودفعا في صدور البدع والشبهات التي أثارها المبتدعة حول عقائد السلف.
ويعرف عضد الدين الإيجي المتوفى سنة 756ه/1355م علم الكلام في كتاب «المواقف» بما نصه: «والكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد فيه نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد.
صلى الله عليه وسلم ، فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام.»
وفي «كشاف اصطلاحات الفنون» لمحمد بن علي التهانوي الذي فرغ من تصنيفه سنة 1158ه/1745م شرح لهذا التعريف، نقتبس منه فيما يلي ما يتعلق بغرضنا: «وهو (أي علم الكلام) علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير بإيراد الحجج ودفع الشبه ... وفي اختيار إثبات العقائد على تحصيلها إشعار بأن ثمرة الكلام إثباتها على الغير، وبأن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليعتد بها، وإن كانت مما يستقل العقل فيه، ولا يجوز حمل الإثبات هنا على التحصيل والاكتساب، إذ يلزم منه أن يكون العلم بالعقائد خارجا عن علم الكلام ثمرة له ولا خفاء في بطلانه.
فحاصل الحد أنه علم بأمور يقتدر معها؛ أي يحصل مع ذلك العلم حصولا دائما عاديا، قدرة تامة على إثبات العقائد الدينية على الغير وإلزامها إياه بإيراد الحجج ودفع الشبه عنها.
فإيراد الحجج إشارة إلى وجود المقتضي، ودفع الشبه إلى انتفاء المانع، ثم المراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد كقولنا: الله - تعالى - عالم قادر سميع بصير، لا ما يقصد به العمل كقولنا: الوتر واجب؛ إذ قد دون للعمليات الفقه، والمراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد
صلى الله عليه وسلم
سواء كانت صوابا أو خطأ، فلا يخرج علم أهل البدع الذي يقتدر معه على إثبات عقائدهم الباطلة من علم الكلام.
ثم المراد جميع العقائد لأنها منحصرة مضبوطة لا يزاد عليها، فلا تتعذر الإحاطة بها والاقتدار عليها، وإنما تتكثر وجوه استدلالاتها وطرق دفع شبهاتها بخلاف العمليات، فإنها غير منحصرة فلا تتأتى الإحاطة بها، وإنما مبلغ من يعلمها التهيؤ التام.»
وتعريف الإيجي على هذا التفسير غير مختلف مع ما ذهب إليه الغزالي؛ فهو يرى أن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليعتد بها، وإنما ثمرة الكلام إثبات العقائد على الغير ورد الشبه؛ لكن تعريف الإيجي يخالف تعريف الغزالي من ناحية، هي أن الغزالي يجعل علم الكلام أداة لعقائد السلف ودفاعا عن السنة، أما الإيجي فيجعل علم الكلام أداة دفاع لكل معتقد عن عقيدته، فدفاع المبتدع عن عقيدته بالبراهين العقلية كلام أيضا.
ويقول سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة 792ه/1389م في كتاب «المقاصد» تعريفا للكلام: «الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية، وموضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثباتها، ومسائله القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية، وغايته تحلية الإيمان بالإيقان، ومنفعته الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد؛ فهو أشرف العلوم، والمتقدمون على أن موضوعه الموجود من حيث هو، ويتميز عن الإلهي بكون البحث فيه على قانون الإسلام؛ أي ما علم قطعا من الدين، كصدور الكثرة عن الواحد، ونزول الملك من السماء وكون العالم محفوفا بالعدم والفناء، إلى غير ذلك مما تجزم به الملة دون الفلسفة، لا ما هو الحق ولو ادعاء لمشاركته الفلسفة ككلام المخالف ... وقيل موضوعه ذات الله وحده أو مع ذات الممكنات من حيث استنادها إليه لما إنه يبحث عن ذلك؛ ولهذا يعرف بالعلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتية والسلبية، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة، أو عن أحوال الواجب وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام ... واعترض بأن إثبات الصانع من أعلى مطالب الكلام، وموضوع العلم لا يبين فيه، بل فيما فوقه، حتى تنتهي إلى ما موضوعه بين الوجود كالموجود من حيث هو.»
وظاهر أن التفتازاني يخالف الإيجي في جعله الكلام شاملا لكلام المخالفين؛ فهو يخصه بالكلام القائم على قانون الإسلام؛ أي مما علم قطعا من الدين، والتفتازاني في هذا موافق للغزالي، وإن كان يعتبر علم الكلام تحصيلا للعقائد بالدليل العقلي ودفاعا عنها خلافا لرأي الغزالي.
والظاهر أن الشيخ محمد عبده المتوفى سنة 1323ه/1905م في رسالة التوحيد ينهج نهج التفتازاني فهو يقول: «التوحيد علم يبحث فيه عن وجود الله وما يجب أن يثبت له من صفات وما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن ينفى عنه، وعن الرسل لإثبات رسالتهم وما يجب أن يكونوا عليه، وما يجوز أن ينسب إليهم، وما يمتنع أن يلحق بهم.»
17
وعرض طاش كبرى زاده المتوفى سنة 962ه/1457-1458م في كتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» لتعريف علم الكلام موضوعه مع ذكر الخلاف في هذا الموضوع، والخلاف في عد كلام المبتدعة من علم الكلام. قال: «الشعبة الخامسة من العلوم الشرعية علم أصول الدين المسمى بعلم الكلام، وهو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه عنها، وموضوعه ذات الله - سبحانه وتعالى - وصفاته عند المتقدمين، وقبل موضوعه الوجود من حيث هو موجود، وإنما يمتاز عن العلم الإلهي الباحث عن أحوال الوجود المطلق باعتبار الغاية؛ لأن البحث في الكلام على قواعد الشرع. وفي الإلهي على مقتضى العقول، وعند المتأخرين موضوع الكلام المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية المنسوبة إلى دين محمد - صلوات الله عليه وسلامه - وذلك بأن يسلم المدعى منه ثم يقام عليه البرهان العقلي، وهذا التسليم هو معنى التدين اللائق بحال المكلفين، حتى لو لم يؤخذ منه، لا يعد كلاما ولا علما دينيا، وإن وافقه في الحقيقة لفوات أمر التدين، بل يعد من الأمور الحكمية.
وبالجملة يشترط في الكلام أن يكون القصد فيه تأييد الشرع بالعقل، وأن تكون العقيدة مما وردت في الكتاب والسنة، ولو فات أحد هذين الشرطين لا يسمى كلاما أصلا، ولما لم يلزم من قصد موافقة الشرع الموافقة في نفس الأمر، عد بعضهم كلام أهل الاعتزال من الكلام، وإن لم يوافق الكتاب والسنة؛ فظهر من هذا التفصيل أن الكلام من العلوم الشرعية، لكن إذا كان على طريقة الكتاب والسنة، وأن هناك كلاما مموها يشبه الكلام وليس بذاك ككلام أهل الاعتزال وأمثاله؛ فذلك علم شرعي باعتبار دلائله.»
18
وجملة القول أن المتكلمين متفقون على أن علم الكلام يعتمد على النظر العقلي في أمر العقائد الدينية، ثم هم يختلفون في أن الكلام يثبت العقائد الدينية بالبراهين العقلية كما يدافع عنها، أو هو إنما يدفع الشبه عن العقائد الإيمانية الثابتة بالكتاب والسنة، وهذا الخلاف يرجع إلى الخلاف في أن العقائد الإيمانية ثابتة بالشرع، وإنما يفهمها العقل عن الشرع، ويلتمس لها بعد ذلك البراهين النظرية أو هي ثابتة بالعقل على معنى أن النصوص الدينية قررت العقائد الدينية بأدلتها العقلية.
وقد أشار إلى ذلك فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606ه/1209م عند تفسيره للآيتين 19-20 من سورة «البقرة» مدنية فقال: «إن الآيات الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية، وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين.»
وبعد أن ذكر معاقد الدلائل في القرآن؛ مما يدل على وجود الصانع وعلى صفاته وعلى النبوة والمعاد قال: «وأنت لو فتشت علم الكلام لم تجد فيه إلا تقدير هذه الدلائل والذب عنها، ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها.»
وقال بعد ذلك: «وأما محمد
صلى الله عليه وسلم ، فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل.»
وقد ذكر الفخر الرازي في ذلك المقام رأي المخالفين القائلين بأن الكلام بدعة، وأنه مذموم نهى عنه الدين وأنكره السلف، وبسط أدلة الفريقين، وستكون لنا فرصة للموازنة بين الرأيين عند الكلام في تاريخ البحث في العقائد الدينية عند المسلمين. (2) ألقاب هذا العلم وسبب تسميته بعلم الكلام
جمع التهانوي في كتاب «كشاف اصطلاحات الفنون» أسماء هذا العلم فقال: «علم الكلام، ويسمى بأصول الدين أيضا، وسماه أبو حنيفة - رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 150ه/ 767م) - بالفقه الأكبر. وفي «مجمع السلوك»: ويسمى بعلم النظر والاستدلال أيضا، ويسمى أيضا بعلم التوحيد والصفات. وفي «شرح العقائد» للتفتازاني: العلم المتعلق بالأحكام الفرعية، أي: العملية، يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصلية؛ أي الاعتقادية يسمى علم التوحيد والصفات.»
وقد ذكر المؤلفون أقوالا متباينة في سبب تسمية هذا العلم بالكلام، وجمع عضد الدين الإيجي هذه الأقوال في كتاب «المواقف» بما نصه: «وإنما سمي الكلام إما لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة، وإما لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا، أو لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التشاجر والسفك فغلب عليه، أو لأنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم.»
ويبدو لي أن البحث في أمور العقائد كان يسمى كلاما قبل تدوين هذا العلم، وكان يسمى أهل هذا البحث متكلمين؛ فلما دونت الدواوين وألفت الكتب في هذه المسائل، أطلق على هذا العلم المدون ما كان لقبا لهذه الأبحاث قبل تدوينها وعلما على المعترضين لها.
وإنما سمي البحث في الشئون الاعتقادية كلاما وسمي أهله متكلمين لأحد وجهين:
أولهما: يؤخذ مما رواه جلال الدين السيوطي (المتوفى سنة 914ه/1505م) في كتاب «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام»، وهو مخطوط بدار الكتب الأزهرية. «وأخرج عن مالك - رضي الله عنه (المتوفى سنة 179ه /795م) - قال: إياكم والبدع. قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.»
ويؤيد ذلك ما نقل السيوطي في كتابه هذا عن كتاب «ذم الكلام وأهله» لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (المتوفى سنة 481ه): وأخرج عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من تكلم في الدين برأيه فقد اتهمه.»
وأخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يكفر بالله جهارا، وذلك عند كلامهم في ربهم.»
وأخرج محمد بن الخليفة قال: «لا تهلك هذه الأمة حتى تتكلم في ربها.»
وأخرج عن علي بن أبي طالب قال: «يخرج في آخر الزمان أقوام يتكلمون بكلام لا يعرفه أهل الإسلام ويدعون الناس إلى كلامهم، فمن لقيهم فليقاتلهم؛ فإن قتلهم أجر عند الله.»
وأخرج عن ابن عمر قال: «إن القدرية حملوا ضعف رأيهم على مقدرة الله، وقالوا: لم؟ ولا ينبغي أن يقال لله: لم؛ لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.»
وأخرج عن هشام بن عبد الملك أنه قال لبنيه: «إياكم وأصحاب الكلام فإن أمرهم لا يئول إلى الرشاد.»
وأخرج عن جعفر بن محمد قال: «إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا.» وأخرج عنه قال: «تكلموا فيما دون العرش ولا تكلموا فيما فوق العرش، فإن قوما تكلموا في الله فتاهوا.»
وأخرج عن شعبة قال: «كان سفيان الثوري يبغض أهل الأهواء وينهي عن مجالستهم أشد النهي، وكان يقول: «عليكم بالأثر، وإياكم والكلام في ذات الله».»
وأخرج عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال: قال أبو حنيفة: «لعن الله عمرو بن عبيد؛ فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام.» قال: وكان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام.
فالكلام ضد السكوت، والمتكلمون كانوا يقولون حيث ينبغي الصمت اقتداء بالصحابة والتابعين الذين سكتوا عن المسائل الاعتقادية لا يخوضون فيها. وفي «الكليات» لأبي البقاء: «واختيار محققي أهل السنة أن الكلام في الحقيقة مفهوم ينافي الخرس والسكوت ... والكلام عند أهل الكلام ما يضاد السكوت ...»
19
أما الثاني فيؤخذ مما نقله ابن عبد البر (المتوفى سنة 463ه/1070-1071م) في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «وعن مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر، وما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل.
قال أبو عمر: قد بين مالك - رحمه الله - أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده، يعني العلماء منهم رضي الله عنهم، وأخبر أن الكلام في الدين نحو قول جهم والقدر، والذي قال مالك رحمه الله، عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك، رحمه الله، إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل، وصرف صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عامة أو نحو هذا.»
20
واعتبار أن الدين هو شئون الاعتقادات لا شئون الأحكام العملية، يؤيده ما جاء في كتاب شرح أبي منصور الماتريدي (المتوفى سنة 332ه/943-944م أو 333ه/944-945م) على كتاب «الفقه الأكبر» المنسوب إلى أبي حنيفة: «قال أبو حنيفة، رضي الله عنه: «الفقه في الدين أفضل من الفقه في العلم»؛ لأن الفقه في الدين أصل والفقه في العلم فرع، وفضل الأصل على الفرع معلوم، قال الله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام ، ولا شك أن العبد أولا يلزمه الإسلام؛ لقوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؛ أي ليوحدون، ثم العلم يبنى على الدين، فصار الدين هو التوحيد، والعلم هو الديانة يعني الشرائع وهو بعد التوحيد، ثم الدين عقد على الصواب والديانة سيرة على الصواب.»
21
والكلام على هذا مقابل الفعل، كما يقال فلان قوال لا فعال، والمتكلمون قوم يقولون في أمور ليس تحتها عمل ، فكلامهم نظري لفظي لا يتعلق به فعل، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعية العملية.
وعلم الكلام علم يبحث فيما يتصل بالعقائد التي هي شئون غير عملية ورد تسمية هذا العلم بالكلام إلى أحد هذين الوجهين أرجح عندي لمناسبته للواقع من سبق هذه التسمية للتدوين؛ أما سائر الوجوه فتجعل التسمية لاحقة لظهور العلوم وتدوينها. (3) تاريخ علم الكلام
يبدو مما أسلفنا أن العبارات المختلفة في تعريف علم الكلام متفقة على أن هذا العلم يعتمد على البراهين العقلية بالعقائد الإيمانية، وهذا المعنى؛ أي البحث في العقائد الإسلامية اعتمادا على العقل، هو الذي نريده عند البحث في تاريخ علم الكلام.
واستيفاء القول في هذا الباب يستدعي الإلمام بتقرير العقائد الروحية في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
وفي عهد الخلفاء الراشدين من بعده، وفيما تلا ذلك إلى عهد التدوين في علم الكلام، ثم تتبع الأدوار التي مر بها علم الكلام بعد تدوينه. (3-1) تقرير العقائد الدينية في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
جاء الإسلام يقرر أن الدين الحق واحد، هو وحي الله إلى جميع أنبيائه، وهو عبارة عن الأصول التي لا تتبدل بالنسخ ولا يختلف فيها الرسل، وهي هدى أبدا.
أما الشرائع العملية فهي متفاوتة بين الأنبياء، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى.
قال الزمخشري (المتوفى سنة 538ه/1143-1144م) في تفسير قوله تعالى:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده :
22 «والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين، دون الشرائع فإنها مختلفة، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدا.»
قال ابن تيمية (المتوفى سنة 728ه/1327م): «وقد أرسل الله جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ،
23
وقال تعالى:
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة ،
24
وقال تعالى:
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ،
25
وقال تعالى:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون .»
26
وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم:
أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون ، فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعتهم، والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام.
27
وقد بعث محمد
صلى الله عليه وسلم ، بدين وشريعة، أما الدين فقد استوفاه الله كله في كتابه الكريم ووحيه، ولم يكل الناس إلى عقولهم في شيء منه، وأما الشريعة فقد استوفى أصولها ثم ترك للنظر الاجتهادي تفصيلها.
وجاء في القرآن المجيد:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ،
28
وكان نزول هذه الآية في يوم عرفة عام حج النبي،
صلى الله عليه وسلم ، حجة الوداع، ولم يعش النبي بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، ولم يمت رسول الله حتى كمل الدين.
روى الطبري (المتوفى سنة 310ه/922-923م) عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: «
اليوم أكملت لكم دينكم ، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيه
صلى الله عليه وسلم
والمؤمنين، أنه قد أكمل لهم الإيمان؛ فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله - عز وجل - فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا.»
وقد بعث محمد
صلى الله عليه وسلم ، بدين الإسلام، داعيا إلى الوحدة في الدين، وإلى التآلف، ناهيا عن الفرقة، كما في آيات كثيرة من القرآن، منها:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون .
29
وكان على القرآن أن يجادل مخالفيه من أرباب الأديان والملل في العرب، ردا للشبهات التي كانوا يثيرونها حول عقائد الدين الجديد، على إنه كان لا يمد في حبل الجدل حرصا على الألفة، وكثيرا ما تختم آيات الجدل بمثل قوله:
وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون .
30
هذا الجدل في العقائد عرض له القرآن للحاجة وعلى مقدارها، من غير أن يشجع المسلمين على المضي فيه، بل هو قد نفرهم منه، في مثل قوله:
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
31
جاء في كتاب «مختصر جامع بيان العلم»: «وعن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي في قوله تعالى:
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء ، قال: الخصومات بالجدل في الدين.»
وهذا يتفق مع قول كثير من المفسرين، كالزمخشري، والبيضاوي (المتوفى سنة 791ه/1389م).
كان لهذه المعاني الدينية التي قررها الإسلام منذ نشأته أثرها العظيم في توجيه النظر العقلي عند المسلمين في عهدهم الأول، فكرهوا البحث والجدل في أمور الدين دون أمور الأحكام الفقهية.
وفي كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة الدينوري (المتوفى سنة 276ه/878-879م) بصدد الطعن على المختلفين في أصول الدين: «قال أبو محمد: لو كان اختلافهم في الفروع والسنن لاتسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعون لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم، ولكن اختلافهم في التوحيد. وفي صفات الله - تعالى - وفي قدراته. وفي نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ. وفي اللوح. وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها إلا نبي بوحي من الله تعالى.»
32
فالمسلمون في الصدر الأول كانوا يرون ألا سبيل لتقرير العقائد إلا بوحي، أما العقل فمعزول عن الشرع وأنظاره، كما يقول ابن خلدون.
وكانوا يرون أن التناظر والتجادل في الاعتقاد يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، فقررت عقائد الدين في القرآن الكريم المقطوع به في الجملة والتفصيل.
وقد عرض القرآن للرد على من جادلوا في بعض ما جاء به من العقائد بأساليب تناسب حالهم، مثل:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين .
33
وبين في هذا الأسلوب ما أشرنا إليه آنفا من الرغبة عن إطالة حبل الجدل، ومهما يكن في القرآن من تعرض للجدل، ومن دعوة إلى الجدل برفق عند الحاجة، في مثل قوله:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ،
34
فإن القرآن ليس كتابا جدليا، ولم تقم دعوته إلى الإيمان على جدال.
وقد مضى زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
والمسلمون على عقيدة واحدة هي ما جاء في كتاب الله؛ لأنهم - كما يقول طاش كبرى زاده: «أدركوا زمان الوحي وشرف صحبة صاحبه، وأزال نور الصحبة عنهم ظلم الشكوك والأوهام.»
35
قال تقي الدين المقريزي (المتوفى سنة 845ه/1441-1442م) في كتاب «الخطط»: «اعلم أن الله - تعالى - لما بعث من العرب نبيه محمدا
صلى الله عليه وسلم ، رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم - سبحانه وتعالى - بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه
صلى الله عليه وسلم
الروح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى؛ فلم يسأله
صلى الله عليه وسلم
أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه
صلى الله عليه وسلم
عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه - أمر ونهي، وكما سألوه
صلى الله عليه وسلم
عن أحوال القيامة والجنة والنار، ولو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه
صلى الله عليه وسلم
في أحكام الحلال والحرام مما تضمنته كتب الحديث، ومعاجمها ومسانيدها وجوامعها.
ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرو قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم، أنه سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، عن معنى شيء مما وصف الرب - سبحانه - به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات.
نعم؛ ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة علة، وإنما أثبتوا له - تعالى - صفات أزلية من العلم والقدرة، والحياة والإرادة، والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا، وهكذا أثبتوا - رضي الله عنهم - ما أطلقه الله - سبحانه - على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا - رضي الله عنهم - بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت.
ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة.»
36
وقد بين صاحب «البرهان القاطع» محمد بن إبراهيم الوزير (المتوفى سنة 840ه/1436-1437م) مذهبه في طريقة إيمان المسلمين في عهد النبي بقوله: «ويؤيد ما ذكرناه من أن خبر الواحد إذا انضمت إليه القرائن يفيد العلم، أن خبر التواتر إنما أفاد العلم لكثرة القرائن، وذلك أن خبر كل واحد من أهل التواتر قرينة تولد الظن، فإذا تضامت القرائن وكثرت خلق الله العلم عند خبره، ويؤيد ما ذكرنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، بل الأنبياء كافة ما كانوا يأمرون الصبي إذا بلغ التكليف بالنظر إلى الأدلة، ولا الكافر الذي يأتي مصمما على إنكار الله وجميع الشرائع بالنظر قبل تصديق النبي في إثبات الصانع وأنه حكيم؛ حتى يعلم أن الله متى كان حكيما قادرا لم يظهر المعجز على الكاذب، وحتى إنه إن صدق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل إتقان معرفة الصانع، وأنه عالم بجميع المعلومات قادر على جميع المقدورات، حكيم لا يفعل القبيح ، فقد بنى تصديقه للنبي على غير أساس، إذ لا يمتنع عنده أن يكون الله قد أظهر المعجز على يد الكاذب، فإن قيل إنه يجوز أنهم كانوا قد نظروا، وأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علم ذلك، أو كان ذلك هو الظاهر منهم، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يحكم بالظاهر؛ قلنا الظاهر أنهم كانوا يعرفون الله بمعجز النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو قرائن صدقه، وإنما كانوا يفرعون جميع عقائدهم على تصديق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمعجز فيهم، أو أكثرهم استفادوا معرفة الله من الأنبياء.»
37 «فإن قيل فلماذا حث الله على التفكير في خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات، وهلا اقتصر البحث على النظر في معجزات الأنبياء وأحوالهم؟ قلنا لسنا ننكر أن ذلك طريق واضح، لكنا نقول إن هذا أيضا طريق آخر، والطرق إلى معرفة الله كثيرة، ولله من قال:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
ولا ندعي أن جميع المكلفين ما عرفوا الله إلا من طريق تصديق الأنبياء، بل ندعي أن كثيرا من المكلفين ما عرفوا الله إلا من طريق تصديق الأنبياء، وأن ذلك تواتر إلينا تواترا معنويا عن كثير من الناس، وتواتر إلينا أيضا تواترا معنويا أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، قررهم على تصديقهم له، فلو لم يكن صدقه معلوما ضرورة من قرائن حاله؛ لكان قد أقرهم على التصديق مع الشك في الصانع، وذلك إقرار على الكفر، ولا يجوز عليه مثل ذلك، ومن أراد معرفة ذلك فعليه بمطالعة السيرة النبوية وتواريخ الصحابة ومعرفة أحوالهم؛ فإن الدلالة على مثل ذلك بالبرهان لا تصح.»
38 «فبهذه الأمور علمنا أن الأنبياء ما أخذوا عقائدهم عن النظر، ولا كانوا بحيث يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، فلم يبق إلا أنهم علموا ما دانو به علما ضروريا، ولا يقال إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما ترك ذلك لأنه لم يكن في زمان مشبهة؛ لأن اليهود كانوا مجاورين له وكانوا أهل فلسفة، ولأن النصارى وابن الزبعرى ناظروه، فلم يأت بشيء من جنس علم الكلام، وكذلك لما سئل عن الروح، لا يقال إنه أراد جنسا من الملائكة؛ لأن السابق إلى الأفهام خلافه؛ فهو تأويل بغير دليل، كما لا يقال إن الروح جبريل، لمثل ذلك، ولأنه
صلى الله عليه وسلم
قد أمر أحدنا أن يقول عند أن يكثر سؤال الناس: آمنت بالله ورسله. ثبت ذلك في الصحيح عن أبي هريرة.
وخبر الواحد يكفي فيما يعامل به المشبهون والمكثرون للسؤال؛ لأن معاملتهم ليست من مسائل الاعتقاد، وقال تعالى:
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ، وهذا معنى حديث أبي هريرة فصح بحمد الله ووجب العمل به.»
39 «وليس القصد بهذا الكلام إنكار صحة علم الكلام؛ فإن فيه ما يعلم صحته بالضرورة، وإنما فيه إنكار اعتماد الأنبياء ومن عاصرهم من المؤلفين على أدلة الكلام الملخصة وبيان أن الذي كانوا عليه يكفي المسلم، ولا يقال كانوا يعلمون ذلك جملة؛ لأنه لا يصح ذلك لما مضى.»
40
وللغزالي قول مفصل في الإيمان ومراتبه وطرقه، يكشف عن وجهة نظره فيما نحن بصدده من تقارير العقائد الدينية في صدر الإسلام، أورده في كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام»، قال: «فصل: فإن قال قائل: العامي إذا منع من البحث والنظر لم يعرف الدليل، ومن لم يعرف الدليل كان جاهلا بالمدلول، وقد أمر الله كافة عباده بمعرفته؛ أي بالإيمان به والتصديق بوجوده أولا، وبتقديسه عن سمات الحوادث ومشابهته غيره ثانيا، وبوحدانيته ثالثا، وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئة وغيرها رابعا، وهذه الأمور ليست ضرورية فهي إذن مطلوبة، وكل علم مطلوب؛ فلا سبيل إلى اقتناصه وتحصيله إلا بشبكة الأدلة والنظر في الأدلة والتفطن لوجه دلالتها على المطلوب وكيفية إنتاجها، وذلك لا يتم إلا بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج، وينجز ذلك شيئا فشيئا إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلام إلى آخر النظر في المعقولات.
وكذلك يجب على العامي أن يصدق الرسول
صلى الله عليه وسلم ، في كل ما جاء به، وصدقه ليس بضروري، بل هو بشر كسائر الخلق، فلا بد من دليل يميزه عن غيره ممن تحدى بالنبوة كاذبا، ولا يمكن ذلك إلا بالنظر في المعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر النظر في النبوات، وهو علم الكلام. «قلنا» الواجب على الخلق الإيمان بهذه الأمور، والإيمان عبارة عن تصديق جازم لا تردد فيه، ولا يشعر صاحبه بإمكان وقوع الخطأ فيه، وهذا التصديق الجازم يحصل على ست مراتب:
الأولى:
وهي أقصاها: ما يحصل بالبرهان المستقصي المستوفي شروطه المحرر أصوله ومقدماته درجة درجة، وكلمة كلمة، حتى لا يبقى مجال احتمال وتمكن التباس ذلك وهو الغاية القصوى، وربما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممن ينتهي إلى تلك الرتبة، وقد يخلو العصر عنه، ولو كانت النجاة مقصورة على مثل تلك المعرفة لقلت النجاة وقل الناجون.
الثانية:
أن يحصل بالأدلة الوهمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لاشتهارها بين أكابر العلماء، وشناعة إنكارها ونفرة النفوس عن إبداء المراء فيها، وهذا الجنس أيضا يفيد في بعض الأمور. وفي حق بعض الناس تصديقا جازما بحيث لا يشعر صاحبه بإمكان خلافه أصلا.
الثالثة:
أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية، أعني القدرة التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات، وذلك يفيد في حق الأكثرين تصديقا ببادئ الرأي وسابق الفهم، إن لم يكن الباطن مشحونا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد على خلاف مقتضى الدليل، ولم يكن المستمع مشغوفا بتكلف المماراة والتشكك، ومنتجعا بتحديق المجادلين في العقائد، وأكثر أدلة القرآن من هذا الجنس، فمن الدليل الظاهر المفيد للتصديق قولهم لا ينتظم تدبير المنزل بمدبرين؛ فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
فكل قلب باق على الفطرة غير مشوش بمماراة المجادلين يسبق من هذا الدليل إلى فهم تصديق جازم بوحدانية الخالق، لكن لو شوشه مجادل وقال: لم يبعد أن يكون العالم بين إلهين يتوافقان على التدبير ولا يختلفان؛ فإسماعه هذا القدر يشوش عليه تصديقه، ثم ربما يعسر سل هذا السؤال ودفعه في حق بعض الأفهام القاصرة، فيستولي الشك ويتعذر الرفع، وكذلك من الجلي أن من قدر على الخلق فهو على الإعادة أقدر. كما قال:
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ، فهذا لا يسمعه أحد من العوام، ذكي أو غبي، إلا ويبادر إلى التصديق ويقول: نعم، ليست الإعادة بأعسر من الابتداء، بل هي أهون.
ويمكن أن يشوش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه، والدليل المستوفي هو الذي يفيد التصديق بعد تمام الأسئلة وجوابها؛ بحيث لا يبقى للسؤال مجال، والتصديق يحصل قبل ذلك.
الرابعة:
التصديق لمجرد السماع ممن حسن فيه الاعتقاد، بسبب كثرة ثناء الخلق عليه، فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه، أو في رجل من الأفاضل المشهورين قد يخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائب أو غيره؛ فيسبق إليه اعتقاد وتصديق بما أخبر عنه، بحيث لا يبقى لغيره مجال في قلبه، ومستنده حسن اعتقاده فيه، فالمجرد بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق - رضي الله عنه - إذ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كذا، فكم من مصدق به جزما وقابل له قبولا مطلقا لا مستند لقوله إلا حسن اعتقاده فيه، فمثله إذا لقن العامي اعتقادا وقال له: اعلم أن خالق العالم واحد، وأنه عالم قادر، وأنه بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم ، رسولا، بادر إلى التصديق ولم يمازجه ريب ولا شك في قوله، وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائهم ومعلميهم، فلا جرم يسمعون الاعتقادات ويصدقون بها، ويستمرون عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة.
الرتبة الخامسة:
التصديق به الذي يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائن أحوال لا تفيد القطع عند المحقق، ولكن يلقي في قلب العوام اعتقادا جازما، كما إذا سمع بالتواتر مرض رئيس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره، ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد مات، اعتقد العامي جزما أنه مات، وبنى عليه تدبيره ولا يخطر بباله أن الغلام ربما قال ذلك عن إجاف سمعه، وأن الصراخ والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب آخر، لكن هذه خواطر بعيدة لا تخطر للعوام؛ فتنطبع في قلوبهم الاعتقادات الجازمة.
وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وإلى حسن كلامه ولطف شمائله وأخلاقه، فآمن به وصدقه، جزما لم يخالجه ريب من غير أن يطالبه بمعجزة يقيمها أو يذكر وجه دلالتها.
الرتبة السادسة:
أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه لا من حسن اعتقاد في قائله، ولا من قرينة تشهد له، لكن لمناسبة ما في طباعه.
فالحريص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إجاف، ويستمر على اعتقاده جازما، ولو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته وهواه، توقف فيه أو أباه كل الإباء، وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات؛ لأن ما قبله استند إلى دليل ما، وإن كان ضعيفا، من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك، وهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل الأدلة.
فإذا عرفت مراتب التصديق؛ فاعلم أن مستند إيمان العوام هذه الأسباب، وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجري مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق، ولا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن، وما في معناه من الجليات المسكنة للقلوب، المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق، وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته.
وأكثر الناس آمنوا في الصبا، وكان سبب تصديقهم مجرد التقليد للآباء والمعلمين، لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم، وثناء غيرهم عليهم، وتشديدهم النكير بين أيديهم على مخالفيهم، وحكايات أنواع النكال النازل بمن لا يعتقد اعتقادهم، وقولهم إن فلانا اليهودي في قبره مسخ كلبا وفلانا الرافضي انقلب خنزيرا، وحكايات منامات وأحوال من هذا الجنس تغرس في نفوس الصبيان النفرة عنه والميل إلى ضده؛ حتى ينزع الشك بالكلية عن قلبه.
فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر، ثم يقع نشؤه عليه ولا يزال يؤكد ذلك في نفسه، فإذا بلغ استمر على اعتقاده الجازم وتصديقه المحكم الذي لا يخالجه فيه ريب؛ ولذلك ترى أولاد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم، واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة لو قطعوا إربا إربا لما رجعوا عنها، وهم قط لم يسمعوا عليه دليلا لا حقيقيا ولا رسميا، وكذا ترى العبيد والإماء يسبون من المشرك ولا يعرفون الإسلام، فإذا وقعوا في أسر المسلمين وصحبوهم مدة ورأوا ميلهم إلى الإسلام، مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم، وتخلقوا بأخلاقهم، كل ذلك لمجرد التقليد والتشبه بالمتبوعين، والطبائع مجبولة على التشبيه، لا سيما طباع الصبيان وأهل الشباب؛ فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة.
فصل: لعلك تقول: لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه الأسباب، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء، وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد هو من جنس الجهل الذي لا يتميز فيه الباطل عن الحق، فالجواب أن هذا غلط ممن ذهب إليه، بل سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقادا جازما؛ لتنتفش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق، حتى إذا ماتوا وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا الأمور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا، ولم يحترقوا بنار الخزي والخجلة ولا بنار جهنم ثانيا.
وصورة الحق إذا انتفش بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له، أهو دليل حقيقي أو رسمي أو إقناعي، أو قبول بحسن الاعتقاد في قائله، أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب، فليس المطلوب الدليل المفيد بل الفائدة وهي حقيقة الحق على ما هي عليه.
فمن اعتقد حقيقة الحق في الله وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو سعيد، وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلامي، ولم يكلف الله عباده إلا ذلك، وذلك معلوم على القطع بجملة أخبار متواترة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، في موارد الأعراب عليه، وعرضه الإيمان عليهم، وقبولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم التفكير في المعجزة ووجه دلالته، والتفكر في حدوث العالم وإثبات الصانع . وفي أدلة الوحدانية وسائر الصفات، بل الأكثر من أجلاف العرب لو كلفوا ذلك لم يفهموه ولم يدركوه بعد طول المدة ، بل كان الواحد منهم يحلفه ويقول: والله، آلله أرسلك رسولا؟ فيقول: والله، الله أرسلني رسولا، وكان يصدقه بيمينه وينصرف، ويقول الآخر إذا قدم عليه ونظر إليه: والله ما هذا وجه كذاب. وأمثال ذلك مما لا يحصى.
بل كان يسلم في غزوة واحدة في عصره وعصر أصحابه آلاف لا يفهم الأكثرون منهم أدلة الكلام، ومن كان يفهمه يحتاج إلى أن يترك صناعته ويختلف إلى معلم مدة مديدة، ولم ينقل قط شيء من ذلك. فعلم علما ضروريا أن الله - تعالى - لم يكلف الخلق إلا الإيمان والتصديق الجازم بما قاله كيفما حصل التصديق. نعم، لا ينكر أن للعارف درجة على المقلد، ولكن المقلد، في الحق مؤمن كما أن العارف مؤمن ...»
41
وابن تيمية يرى أن القرآن قرر أصول الدين وقرر دلائلها وبراهينها، والمبتدعة يخالفون ما في القرآن من أصول الاعتقاد، ومن أدلتها السمعية والعقلية، قال في كتاب «النبوات»: «فصل: قد ذكرنا في غير موضع أن أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمدا
صلى الله عليه وسلم ، قد بينها الله في القرآن أحسن بيان، وبين دلائل الربوبية والوحدانية ودلائل أسماء الرب وصفاته، وبين دلائل نبوة أنبيائه، وبين المعاد، بين قدرته عليه في غير موضع، وبين وقوعه بالأدلة السمعية والعقلية.
فكان في بيان الله أصول الدين الحق وهو دين الله، وهي أصول ثابتة صحيحة معلومة، فتضمن بيان العلم النافع، والعمل الصالح الهدى ودين الحق، وأهل البدع الذين ابتدعوا أصول دين يخالف ذلك، وليس فيما ابتدعوه لا هدى ولا دين حق؛ فابتدعوا ما زعموا أنه أدلة وبراهين على إثبات الصانع وصدق الرسول وإمكان المعاد أو وقوعه، وفيما ابتدعوه ما خالفوا بها الشرع، وكل ما خالفوه من الشرع فقد خالفوا فيه العقل أيضا، فإن الذي بعث الله به محمدا وغيره من الأنبياء وهو حق وصدق، وتدل عليه الأدلة العقلية؛ فهو ثابت بالسمع والعقل، والذين خالفوا الرسل ليس معهم لا سمع ولا عقل ...»
42
لم يكن بين المسلمين في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، خلاف ظاهر، وروي عنهم في مدة مرض النبي خلاف في أمور اجتهادية لا تتصل بمسائل العقائد، وذلك كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته: «ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي.» حتى قال عمر: إن النبي قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله! وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي: «قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.» وكاختلافهم في التخلف عن جيش أسامة، فقال قوم بوجوب الاتباع لقوله عليه السلام: «لعن الله من تخلف عنه.» وقال قوم بالتخلف انتظارا لما يكون من رسول الله في مرضه.
وإن رويت عنهم ألوان من الجدل؛ نهاهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عنها.
جاء في كتاب «صون المنطق والكلام عن فن النطق والكلام» للسيوطي نقلا عن كتاب «ذم الكلام وأهله» لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي (المتوفى سنة 481ه): «وأخرج من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، على أصحابه ذات يوم وهم يتراجعون في القدر، فخرج مغضبا حتى وقف عليهم، فقال: «يا قوم، بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضا، ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به.»
وأخرج عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، ونحن نتنازع في القدر؛ فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال: «أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حتى تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا.» وأخرج عن أبي الدرداء وأبي أمامة وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع قالوا: خرج إلينا رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، قال: «يا أمة محمد، لا تهيجوا على أنفسكم.» ثم قال: «أبهذا أمرتكم؟ أوليس عن هذا نهيتكم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا.» ثم قال: «ذروا المراء لقلة خيره، ذروا المراء فإن نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان، ذروا المراء فإنه لا تؤمن فتنته، ذروا المراء فإن المراء يورث الشك ويحبط العمل، ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فكفى بك إثما ألا تزال مماريا، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في وسطها ورياضها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإنه أول ما نهاني الله عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر، ذروا المراء فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد، ولكن رضي بالتحريش وهو المراء في الدين، ذروا المراء فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم.» قالوا: يا رسول الله، ومن السواد الأعظم؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي.» ثم قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء.» قالوا: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله.»» (3-2) العقائد الإيمانية في عهد الخلفاء الراشدين من سنة 11ه/632م إلى سنة 40ه/660م
كان أمر العقائد في عهد الخلفاء الراشدين على ما كان عليه في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، لكن النبي كان يصدع بكلمة الوحي؛ فلا يستطيع مؤمن أن يجد عنها محيصا، وما كان من خلاف بين المسلمين قضي الأمر فيه برده إلى الرسول، وقد حدث في عهد الخلفاء الراشدين خلاف في أمور اجتهادية، إن تكن متصلة بالأحكام العملية، فإن لها من الخطر ما جعلها أساسا لاختلافات مستمرة بين المسلمين ورفع من شأنها؛ حتى وصلها بأمور العقائد، وعلى قواعدها قام كثير من الفرق الإسلامية.
ظهر بين المسلمين عقب وفاة النبي اختلاف في وفاته حتى قال قوم منهم: إنه لم يمت ولكنه رفع كما عيسى بن مريم، وقد يكون لهذا الخلاف مظهر في بعض أقاويل الشيعة في أئمتهم، واختلفوا في الإمامة فقالت الأنصار: منا إمام ومنكم إمام، وطال بينهم الكلام في ذلك حتى صعد الصديق - رضي الله عنه - المنبر وخطب ثم تلا عليهم قوله تعالى:
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .
43
قال فسمانا الصادقين ثم أمر المؤمنين (أي الله تعالى) أن يكونوا مع الصادقين بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ،
44
وروى لهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «الأئمة من قريش.»
وحديث الخلافة له شأن عظيم في قيام الفرق الإسلامية، وهو أكبر مظاهر الخلاف التي حدثت منذ وفاة النبي إلى ختام عهد أبي بكر وأيام عمر، حتى ليقول الإمام أبو الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324ه/936م) في كتاب «مقالات الإسلاميين واختلافات المصلين»: «وأول ما حدث من الاختلافات بين المسلمين بعد نبيهم
صلى الله عليه وسلم ، اختلافهم في الإمامة.»
45
ويقول: «وكان الاختلاف بعد الرسول
صلى الله عليه وسلم ، في الإمامة، ولم يحدث خلاف غيره في حياة أبي بكر - رضوان الله عليه - وأيام عمر.»
46
وقد اختلف المسلمون في عهد أبي بكر في قتال مانعي الزكاة حتى قال عمر: كيف تقاتلهم وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»؟ فقال له أبو بكر: أليس قد قال: «إلا بحقها»؟ ومن حقها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو منعوني عقالا مما أدوه إلى النبي لقاتلتهم عليه، ويبدو لي أن الخلاف في قتال مانعي الزكاة أو أهل الردة - كما يسمونهم - كان أصلا لما حدث بعد ذلك من الخلاف في الإيمان والإسلام وتضمنهما للعمل أو عدم تضمنهما له.
واختلف المسلمون في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة، وفيما اتخذه عمر في أمر الخلافة من الشورى بين ستة من الصحابة، وذلك من ذيول حديث الخلافة الذي بدأ في عهد أبي بكر.
ثم اختلفوا في أمر عثمان، وأنكر قوم عليه في آخر أيامه أفعالا، واختلفوا في قتله، فقال قائلون قتل ظلما وعدوانا، وقال قائلون بخلاف ذلك.
وبويع علي بن أبي طالب فاختلف الناس في أمره، فمن بين منكر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته، ثم حدث الاختلاف في أمر طلحة والزبير وحربهما إياه. وفي قتال معاوية إياه في الوقائع المعروفة بوقعة أصحاب الجمل، ووقعة صفين. وفي حال الحكمين، وظهر من ظهر خلاف الخوارج، ويقول الإمام أبو المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني (المتوفى سنة 471ه/1078م) في كتاب «التبصير في الدين، وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين»: «وظهر في وقته - أي علي - خلاف السبئية من الروافض، وهم الذين قالوا إنه إله الخلق، حتى أحرق علي جماعة منهم.»
ويتبين مما ذكرنا أن أسس الخلافات التي قامت عليها بعض الفرق الإسلامية وجدت في عهد الخلفاء الراشدين، ولئن كان الحجاج بين هذه المذاهب قام على النقل في غالب أمره؛ فهو كان أحيانا مشوبا بالنظر العقلي.
وقد ذكر ابن عبد البر مناظرة ابن عباس للحرورية، وهم الخوارج، وهي مناظرة تعتمد على النقل ولا تخلو من نظر عقلي، وروى ابن عبد البر أنه لما ظهر على البصرة يوم الجمل جعل لأصحابه ما في عسكر القوم من السلاح، ولم يجعل لهم غير ذلك، فقالوا: كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ولا نساؤهم؟ قال: هاتوا سهامكم، فأقرعوا على عائشة، فقالوا: نستغفر الله! فخصمهم علي وعرفهم أنها إذا لم تحل لم يحل بنوهم. (3-3) العقائد الدينية في عهد الأمويين من سنة 41ه/661م إلى سنة 132ه/750م
انتهى عهد الصحابة في هذا العصر ما بين تسعين ومائة من الهجرة.
وفي كتاب «التبصير في الدين»: «وظهر في أيام المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية، وكانوا يخوضون في القدر والاستطاعة كمعبد الجهني،
47
وغيلان الدمشقي، وجعد بن درهم،
48
وكان ينكر عليهم من كان قد بقي من الصحابة كعبد الله بن عباس،
49
وجابر،
50
وأنس،
51
وأبي هريرة،
52
وعقبة بن عامر،
53
وأقرانهم، وكانوا يوصون إلى أخلافهم بألا يسلموا عليهم، ولا يعودوهم إن مرضوا، ولا يصلوا عليهم إذا ماتوا.»
وفي كتاب «مفتاح السعادة»: «إن رجلا قال لابن عمر - رضي الله عنهما - (المتوفى سنة 73ه/692-693م): ظهر في زماننا رجال يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله، ثم يحتجون علينا ويقولون كان ذلك في علم الله، فغضب ابن عمر وقال: سبحان الله! كان ذلك في علم الله، ولم يكن علمه يحملهم على المعاصي ... وأتى عطاء بن يسار (المتوفى سنة 94ه/713م) ومعبد الجهني الحسن البصري وقالا: يا أبا سعيد، هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى!»
54
بل قد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وقال: «إنما هلك من قبلكم بخوضهم في هذا.»
وذلك يدل على أن مسألة القدر كانت أول ما خاض فيه المسلمون وتجادلوا من مسائل الاعتقاد.
وقد قال العلماء: إن أول من تكلم في القدر ودعا إليه معبد الجهني، ثم أبو مروان غيلان بن مسلم الدمشقي. قال ابن قتيبة في «كتاب المعارف»: «غيلان الدمشقي: كان قبطيا قدريا لم يتكلم أحد قبله في القدر ودعا إليه إلا معبد الجهني، وكان غيلان يكنى «أبا مروان»، وأخذه هشام بن عبد الملك (المتوفى سنة 125ه/743) وصلبه بباب دمشق.»
55
وفي هذا العهد ظهرت طائفة تكفر مرتكب الكبيرة، وطائفة تقول لا يضر مع الإيمان كبيرة، وقالت فرقة المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين، وأخذ الجدل في هذه المسائل ينتشر وينحو منحى كلاميا.
قال طاش كبرى زاده في «مفتاح السعادة»: «فاعلم أن مبدأ شيوع الكلام كان بأيدي المعتزلة والقدرية في حدود المائة من الهجرة؛ لأن ظهور الاعتزال كان من جهة واصل بن عطاء، وكانت وفاته في سنة 131ه/748-749م وولادته في سنة 80ه/699م، فيصير زمن طلبه العلم وقدرته على الاجتهاد في حدود المائة تقريبا.»
56
وجملة القول أنه في هذا العهد ظهر الخلاف بين الفرق التي أشرنا إلى مناشئ وجودها في هذا العهد السالف واحتدم النزاع بينها، واعتمد هذا النزاع على كل وسائل الدفاع من جدل يقوم على أدلة نقلية وعقلية، ثم تولدت مسائل اعتقادية كانت موضع تجادل وتنازع، وافترق المسلمون فيها فرقا، فظهر علم الكلام على أيدي هذه الفرق، خصوصا المعتزلة، وإذا كان واصل بن عطاء هو أول من أظهر الاعتزال وأشاعه، فإنه أخذ الاعتزال عن الإمام أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية الهاشمي (المتوفى سنة 98ه/716-717م).
وفي «مفتاح السعادة»: «قيل كان أول من أحدث مذهب الاعتزال واخترعه، كان الإمام هاشم المذكور وأخوه الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفى سنة 101ه/719-720م، وقيل: سنة 95ه/713-714م).
وقال برهان الدين الحلبي في «شرح شفاء قاضي عياض»: «إن هذا الرجل وهو الحسن بن محمد بن الحنفية، كان أول المرجئة، وله فيه تصنيف.»»
57
وعلى هذا يكون التدوين في مسائل الكلام قد بدأ في العهد الذي نحن بصدده، ولكن التدوين في هذا العهد لم يكن في جملته إلا بداية، ولم يصل إلينا من مؤلفات ذلك العهد شيء. (3-4) العقائد الدينية منذ عهد العباسيين في سنة 131ه/748-749م أو علم الكلام منذ تدوينه
في صدر هذا العهد ظهر التدوين وألفت الكتب في علم الكلام كما ألفت في غيره من العلوم الإسلامية.
ألف في علم الكلام أهل الفرق مثل واصل بن عطاء، وله كما في «خطط» المقريزي كتاب «المنزلة بين المنزلتين»، وكتاب «الفتيا»، وكتاب «التوحيد»، ومثل عمرو بن عبيد المتكلم المعتزلي (المتوفى سنة 142ه/759-760م تقريبا)، وقد ذكروا له كتابا في الرد على القدرية، وكبعض متكلمي الشيعة مثل هشام بن الحكم (المتوفى بعد نكبة البرامكة، وقيل في خلافة المأمون)، وله كتب في الإمامة وفي الرد على المعتزلة وغيرهم، ذكرها صاحب «الفهرست»، كما ذكر متكلمي المجبرة وأسماء ما صنفوه من الكتب، ومتكلمي الخوارج وكتبهم، وألفت في هذا العهد كتب في العقائد لأهل السنة، مثل كتاب «الفقه الأكبر» المنسوب لأبي حنيفة النعمان (المتوفى سنة 150ه/767م)، وكتاب «العالم والمتعلم» له أيضا، وقد صرح فيهما بأكثر مباحث علم الكلام، ومثل «الفقه الأكبر» المنسوب للشافعي (المتوفى سنة 204ه/819-820م).
وراج مذهب الاعتزال لما فيه من مظاهر البحث العقلي والاعتماد على أساليب المنطق والجدل، فمالت إليه الطباع وكثر أنصاره، وأصبح المذهب السائد من بين المذاهب الكلامية، قال صاحب كتاب «مفتاح السعادة»: «فاعلم أن مبدأ شيوع الكلام كان بأيدي المعتزلة والقدرية في حدود المائة من الهجرة، وقد ثبت في التواريخ الصحاح أن إحياء طريقة السنة والجماعة كان في حدود الثلاثمائة من الهجرة؛ لأن ظهور الاعتزال كان جهة واصل بن عطاء، وكانت وفاته في إحدى وثلاثين ومائة وولادته في سنة ثمانين، فيصير زمان طلبه العلم، وقدرته على الاجتهاد في حدود المائة تقريبا، وظهر أيضا مذهب أهل السنة والجماعة بالسعي الجميل والإقدام المشهور من جهة أبي الحسن الأشعري في حدود الثلاثمائة، إذ كانت ولادته سنة ستين ومائتين، ودام على الاعتزال أربعين سنة، فيكون علم الكلام بأيدي المعتزلة مائة سنة ما بين المائة والثلاثمائة.»
58
وتوفي الأشعري على الأرجح سنة 324ه/936م، والأشعري هو أول من عرض لنصرة عقائد أهل السنة بالبراهين العقلية، وأخذ في مجادلة مخالفيهم، خصوصا المعتزلة، اعتمادا على النقل والعقل، وقام بمثل ما قام به في زمنه الماتريدي أبو منصور محمد بن محمد بن محمود (المتوفى سنة 333ه/944-945م)، وله كتاب في المقالات كما أن للأشعري كتابا في المقالات، وله كتب في الرد على المعتزلة والقرامطة والروافض، وكتاب الجدل وكتاب في التوحيد، وله شرح لكتاب الأشعري في علم الكلام المسمى ب «الإبانة عن أصول الديانة» على أنه قد حدث بين أتباع الأشعري وأتباع الماتريدي خلاف ذكره المقريزي في «الخطط» بقوله: «هذا وبين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، وهم طائفة الفقهاء الحنفية مقلدو الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت وصاحبيه: أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرمي، ومحمد بن الحسن الشيباني - رضي الله عنهم - من الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه، وهو إذا تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة كان بسببها في أول الأمر تباين وتناقض، وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلا أن الأمر آل أخيرا إلى الإغضاء ولله الحمد.»
59
بدأ الأشعري بكتبه في الرد على المعتزلة، وطريقته في نصرة العقائد الإيمانية على مذهب السلف بالأدلة العقلية، عهدا جديدا تزلزل فيه سلطان الاعتزال، ويقول في هذا الصدد صاحب «مفتاح السعادة»: «ودفع الكتب التي ألفها على مذاهب أهل السنة، وكانت المعتزلة قبل ذلك قد رفعوا رءوسهم فجرهم الأشعري حتى دخلوا في أقماع السمسم.»
60
وإذا كان مذهب الأشعري في محاربة المعتزلة بمثل سلاحهم من أساليب النظر العقلي قد أضعف مذهب الاعتزال، وأذل من طغيانه، فإن سلطان السياسة كان كبير الأثر فيما ناله مذهب الاعتزال من القوة والسيادة أولا، وكان له أثر في نزوله عن عرشه أخيرا.
وقد نقل المؤرخون صورا من جدل الأشعري تمثل لنا روح مذهبه، تناظر الأشعري مع أبي علي الجبائي أحد أئمة المعتزلة (المتوفى سنة 303ه/915-916م)، وكان الجبائي أستاذا للأشعري قبل أن ينتقل هذا عن مذهب الاعتزال: «تناظر مع الجبائي يوما وسأله عن ثلاثة إخوة ماتوا: الأكبر منهم مؤمن بر تقي، والأوسط كافر فاسق شقي، والأصغر مات على الصغر لم يبلغ الحلم، فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، بناء على أن ثواب المطيع وعقاب العاصي واجبان على الله - تعالى - عندهم، وأما الصغير فمن أهل السلامة لا يثاب ولا يعاقب، فقال الأشعري: إن طلب الصغير درجات أخيه الأكبر في الجنة؟ فقال الجبائي يقول الله تعالى: الدرجات ثمرة الطاعات. قال الأشعري: فإن قال الصغير ليس مني النقص والتقصير؛ فإنك إن أبقيتني إلى أن أكبر لأطعتك ودخلت الجنة. قال الجبائي: يقول الباري تعالى: قد كنت أعلم منك أنك لو بقيت لعصيت ودخلت العذاب الأليم في دركات الجحيم، فإن الأصلح لك أن تموت صغيرا، فقال الأشعري: إن قال العاصي المقيم في العذاب الأليم مناديا من بين دركات النار وأطباق الجحيم: يا إله العالمين، يا أرحم الراحمين، لم راعيت مصلحة أخي دوني وأنت تعلم أن الأصلح لي أن أموت صغيرا ولا أصير في السعير أسيرا؟ فماذا يقول الرب؟ فبهت الجبائي في الحال وانقطع عن الجدال.»
61
كان زمن الأشعري قد امتلأ بالفرق ومجادلتها القائمة على أصول فلسفية، وقد كانت الفلسفة منتشرة المذاهب في الناس منذ أمر بتعريب كتبها المأمون في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين. قال المقريزي: «واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة، وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم يبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرناهم، وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ولازمه عدة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار، وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح، وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به ولا يجب البحث عنها إلا السمع، وأن الله - تعالى - لا يجب عليه شيء، وأن النبوات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية، إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.»
62
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن «كلاب»، كخطاف لفظا ومعنى، كما في «طبقات الشافعية» لابن السبكي، هو عبد الله بن سعيد، ويقال عبد الله بن محمد أبو محمد بن كلاب القطان أحد أئمة المتكلمين، وذكر ابن السبكي أن وفاة ابن كلاب فيما يظهر بعد الأربعين ومائتين بقليل، ونفى ما نسبه إليه محمد بن إسحاق النديم من أنه من أئمة الحشوية، وإن كان يقول إن كلام الله هو الله.
ويقول صاحب «طبقات الشافعية الكبرى» (المتوفى سنة 756ه/1355م): «اعلم أن أبا الحسن الأشعري لم يبدع رأيا ولم ينشئ مذهبا، وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كان عليه صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدي به في ذلك، السالك سبيله في الدلائل، يسمى أشعريا ... وقد ذكر شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء الحنابلة.»
63
ويقول ابن السبكي أيضا: «ومن كلام ابن عساكر حافظ هذه الأمة الثقة الثبت: هل من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق للأشعري ومنتسب إليه، وراض بحميد سعيه في دين الله مثن بكثرة العلم عليه، غير شرذمة قليلة تضمر التشبيه، وتعادي كل موحد يعتقد التنزيه، أو تضاهي قول المعتزلة في ذمه، وتباهي بإظهار جهلها بقدره وسعة علمه؟.»
64
وقد فصل المقريزي (المتوفى سنة 845ه/1441م) حال المذهب الأشعري منذ نشأته إلى عهده فقال: «وحقيقة مذهب الأشعري - رحمه الله - أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه؛ فمال إليه جماعة وعولوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ إبراهيم بن محمد بن مهران الإسفراييني، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وغيرهم ممن يطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه، واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تحصر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام ...»
وبعد أن ذكر انتشار المذهب في مصر، على يد الملك ناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومن بعده من ملوك الأيوبيين، وانتشار هذا المذهب في بلاد المغرب على يد أبي عبد الله محمد بن تومرت. قال: «فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، رضي الله عنه ، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات إلى أن كان بعد السبعمائة من الهجرة اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، فتصدى للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية.
فافترق الناس فيه فريقين؛ فريق يقتدي به ويقول على أقواله ويعمل برأيه، ويرى أنه شيخ الإسلام وأجل حفاظ أهل الملة الإسلامية، وفريق يبدعه ويضلله ويرد عليه بإثبات الصفات، وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خرق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء، وله إلى وقتنا هذا عدة أتباع بالشام وقليل بمصر.»
65
بدأ الأشعري أول ما بدأ في طوره الثاني بعد أن ترك الاعتزال مقتصدا في علم الكلام، مقتصدا في مجادلة الخصوم، وقد نقل ابن السبكي في «طبقات الشافعية» حكايات تدل على أنه كان لا يتكلم في علم الكلام إلا حيث يجب عليه، نصرا للدين، ودفعا للمبطلين، وكان صاحب فراسة تعينه على التماس وجوه من الأساليب مختلفة في مناظرة من يناظرهم.
كان أهل السنة من قبل الأشعري لا يعتمدون إلا على النقل في أمور الاعتقاد على حين أخذت الفلسفة توجه أهل الفرق إلى الاعتماد على العقل؛ فلما أخذ الأشعري في مناضلة المبتدعة بالعقل حفاظا للسنة، جاء أنصار مذهبه من بعده يثبتون عقائدهم بالعقل تدعيما لها ومنعا لإثارة الشبه حولها، ووضعوا المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار مثل: إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعلوا هذه القواعد تبعا للعقائد في وجوب الإيمان بها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول، وهذه الطريقة هي المسماة بطريقة المتقدمين، ورأسها القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفى سنة 403ه/1013م)، وإمام الحرمين أبو المعالي (المتوفى سنة 478ه/1085م) من بعده، ولم يكن المنطق يومئذ منتشرا في الملة لاعتباره جزءا من أجزاء الفلسفة يجري حكمها عليه، ويتحرج منه كما يتحرج منها.
ثم مارس أتباع مذهب الأشعري المنطق، وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، وراعوا في استدلالاتهم ومناظراتهم قواعده، وقرروا أن بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول الذي يمكن أن يثبت بدليل آخر، فصارت هذه الطريقة مباينة للطريقة الأولى، وسميت طريقة المتأخرين.
وأول من كتب في الكلام على هذا المنحى الغزالي وتبعه فخر الدين الرازي، وبعد ذلك توغل المتكلمون في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه واحدا، واختلطت مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر كما فعل البيضاوي (المتوفى سنة 691ه/1286م)، في «الطوالع»، وعضد الدين الإيجي (المتوفى سنة 750ه/1355م) في كتاب «المواقف».
هذا ما ذكره ابن خلدون (المتوفى سنة 808ه/1405م) في «المقدمة» ولم يعرض ابن خلدون لما حدث في علم الكلام من نزوع مقاوم لغلو الغالين في خلط الفلسفة، وذلك بنهوض ابن تيمية (المتوفى سنة 728ه/1327) وتلميذه ابن قيم الجوزية (المتوفى سنة 751ه/1350م) لإحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة الأشعري كما أسلفنا.
ويقول المقريزي في «خططه»: إن مذهب الحنابلة الذي أحياه ابن تيمية كان له أنصار بمصر.
ثم ضعفت الهمم عن الدراسات القوية لعلم الكلام، «ولم يبق بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ وتناظر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور»، كما يقول الشيخ محمد عبده في «رسالة التوحيد».
أما النهضة الحديثة لعلم الكلام فتقوم على نوع من التنافس بين مذهب الأشعرية ومذهب ابن تيمية.
وإنا لنشهد تسابقا في نشر كتب الأشعري وكتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويسمي أنصار هذا المذهب الأخير أنفسهم بالسلفية، ولعل الغلبة في بلاد الإسلام لا تزال إلى اليوم لمذهب الأشاعرة.
هوامش
نامعلوم صفحہ