تملک فرانسوی قطار مصریہ
ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية
اصناف
وكان أمير الجيوش قد تمكن بعساكره من القلع والأسوار بالكلل وقوة النار، وكتب إلى مدينة الإسكندرية يسترجع الجبخانة والمدافع التي كان أرسلها حين عزم على التسليم، وأرسل إلى الجيزة أحضر مصطفى باشا كوسا وأرسله إلى دمياط، وقد بلغ أمير الجيوش ما أبدوه أهالي بولاق من العصاوة والنفاق، فأرسل إليهم ذلك الأسد الهدار والليث المغوار الجنرال بليار وأمره أن يهجم عليهم بالنار ويهدم الحصون ويخرب الديار، فهجم عليهم ذلك البهموت فما قدروا على الثبوت، وتركوا المتاريس والتجوا للبيوت، فهجمت عليهم تلك العساكر بالرصاص المتكاثر والسيوف البواتر، وأحرقوا المنازل واشتدت الأهوال، وهربت الرجال وبكت النسوان والأطفال، وصاحت الكبار والصغار: الأمان الأمان يا جنرال بليار، فلما سمع بكاهم حن إلى شكواهم، وأمر الصلدات بحفظ الحياة ومنع الممات، وعفا عن قتل الرجال، وبدوا ينهبون النساء والبنات، ويهتكون الحراير المخدرات.
واستمر هذا البلاء العام ثلاثة أيام، ففي تلك المدينة هدمت المنازل المتينة واحترقت البضايع الثمينة، وراح على التجار من المال والبضايع عدة خزاين وافرة؛ إذ كانت بولاق أسكلة القاهرة، فتجتمع بها البضايع والأموال، وهي محل للاستقبال والارتحال لقربها الى البحر، وكانت خزينة مصر ودثرت هذه المدينة في تلك الفتوح المهول عن سوء تدبير أهلها المخذول، ومن بعد هذا الخطب العظيم والخراب الجسيم أمر أمير الجيوش أن يؤخذ من أهلها أربعة آلاف كيس تمام الإنكيس، وكانت عساكر الفرنساوية مقيمين حول دايرة القاهرة نهارا وليلا على المحاصرة والمجادلة والمشاجرة، وعساكر المدينة لم تمتنع من الهجمات وراء المتاريس المتينة في ساير شوارع المدينة في كل الجهات، وقد عز القوت وهدمت البيوت.
وكانت أيام شديدة الأهوال غريبة الأحوال تتزعزع من ذكرها الجبال وتشيب من أهوالها الأطفال، وقد شدت الفرنساوية الحصار وصارت العساكر تهجم الليل والنهار، وترمي على المدينة النفط والنار والكلل والقنابر الكبار، وبقت أهل البلد بضجيج وعجيج والخلايق في الاضطراب ورجيج، والولولة من النساء والصياح والبكاء والعويل والنواح، وكانت الرجال والنساء والأولاد يختبون تحت العقودات من تساقط الكلل والقنابر من القلعات.
ولم يكن في تلك الأيام رقاد ولا مكان مؤتمن، بل حرب مستطيل وكرب دايم جزيل ونوح وعويل، فيا لها من ليلة ما أمرها وأشدها وأحرها! ليلة فتحت بها ميازيب السماء وهطلت وغم وجه الأرض بالمياه، فاستنهزت الفرنساوية الفرصة وهجموا في تلك الحصة، وأثاروا حروب عظيمة لم يكن مثلها في الوقايع القديمة، واتقدت النيران في أربع جهات القاهرة، واحترقت بيوت كثيرة في تلك الليلة الماطرة مع الحرب المتصل والضرب الغير منفصل، وماتت خلايق لا تحصى من الفريقين وزعق عليهم غراب البين، وكانت الكلل تتساقط عليهم من القلع كالبرد على وجه البقاع، وإذ كانت الناس مستترة في البيوت الذين على رصيف الخشب الكاين في اليزبكية، فأوقدت بهم النار الفرنساوية فكانت ساعة لا تعد بالساعات من تلك البلايا النازلات، وهجمت الفرنساوية وطردهم من تلك الحارات، وأحرقوا منازل كثيرة بتلك الجهات، وإذ شاهدت العساكر المحاصرة داخل القاهرة تلك النيران الوافرة وعدم النجاح بهذه المصادرة، فضجوا وقالوا: كفانا هذه المخاطرة.
وكانت الفرنساوية قد أحرقوا حارات متسعة؛ كحارة الحزوبي العدوي لحد باب الشعرية، ورصيف الخشب وما يليه من المنازل العلية، فاجتمع رأيهم أن يطلبوا الأمان، وعقدوا في بيت ناصيف باشا ديوانا، وقد اجتمعت السناجق والكشاف وعثمان بيك كتخدا الدولة والعلماء والأشراف، وأخذوا يتفاوضون في أمر التسليم والخلاص من هذا البلاء العظيم، وفيما هم في الاجتماع وإذ قد سقطت عليهم بومبة من القنابر ففرق جمعهم وأيقنوا بالموت والنزاع وقالوا هذه هي الأخيرة وقد استخرنا الله وهو نعم الخيرة، فالتسليم أسلم لنا عاقبة من هذه المجادلة والمعاقبة، وانتخبوا اثنين من المشايخ وهم عبد الله الشرقاوي وسليمان الفيومي واثنين من السناجق؛ عثمان بيك البرديسي وعثمان بيك الأشقر، وأخذوا بيراق أبيض معهم إشارة الأمان، وساروا مشاة إلى البركة اليزبكية.
ولما قربوا من ذلك المكان ونظر إليهم أمير الجيوش من بعيد وعرف الإشارة، فأمر برفع ضرب البارود، وأرسل إليهم وزيره داماس ومعه ترجمانه الخاص، فلما تقابلوا قال لهم الجنرال داماس: ما مرامكم؟ فقالوا له: تسليم المدينة وخروج العساكر بطريقة أمينة، وسفرهم إلى أراضي الشام من القاهرة من دون مشقة ومخاطرة، وفرمان الأمان إلى الرعايا والأعيان، فرجع الجنرال وأخبر أمير الجيوش بذلك فرد الجواب: إن الباشا وكتخدا الدولة مع الغز والسناجق، وكامل العسكر لهم الأمان، وأصدر لهم فرمان بل ينقلوا إلى قاطع الخليج ويقوموا هناك ثلاثة أيام، بينما يتجهز لهم ما يحتاجون من لوازم الطريق لأرض الشام، ويخرجون بساير خيلهم وأثقالهم، وعند السفر يسير معهم الجنرال رانيه بأربعة آلاف صلدات إلى الصالحية؛ ليلا يصير لهم معارضة في الطريق من أهل البلاد ويكون سبيلا للفساد، وجميع ما يتركون من المجاريح وذوي الأمراض فيكون لهم الأمان وعدم الاعتراض، ولأجل عدم وقوع الخلل منهم بعد إصدار هذا الأمان لهم يكون عندنا منهم اثنان رهينة لحينما يخرجون من المدينة ويصلون إلى أرض غزة، ويرجع الجنرال رانيه إلى مصر بسلام، فنطلق سبيل الرهاين بكل إكرام، وقد أصدرنا لهم هذا الأمر الكافي والأمان الوافي.
وأما أهل المدينة فلا نمنحهم الأمان، وليس لهم أن يسألوا عنهم الآن؛ لأنهم رعاياي وتدبيرهم مختص بي، فرجعوا السنجقان والشيخان وأعرضوا القول على الغز والباشا وكتخدا الدولة فامتثلوا القول، وعقدوا الرأي على إرسال سنجقين رهينة وهما عثمان بيك البرديسي وعثمان بيك الأشقر، وحضروا لعند أمير الجيوش، ونبهوا حالا على العساكر بالانتقال إلى الجهة الثانية من الخليج، ودخلت العساكر الفرنساوية وأخذوا الجهة الواحدة من الخليج وتملكوا المتاريس، ونصبت الغز والعساكر العثمانية أوطاقها خارجا عن باب النصر، وشرعوا يتأهبون لأجل السفر من مدينة مصر، ونصب الجنرال رانيه مضاربه أمامهم، وكان حزنا عظيما عند المصريين وسقط عليهم خوف جسيم وبدوا بالنوح والعويل والبكاء والتعداد المستطيل في جميع منازل الإسلام الخاص والعام، وبدوا يسبون الغز ويشتمونهم وهم خارجين، ويقولون لهم: قد أحرقتمونا بناركم من بغيكم وضلالكم، وأسأتم إلينا وطرحتم شركم علينا، وقتلتم رجالنا ويتمتم أطفالنا، وفي الثلاثة أيام خرجت العساكر من مصر بالتمام وخرجت معهم عدة من العوالم وساروا قاصدين غزة والأراضي الشامية، والجنرال رانيه ساير في أثرهم بمن معه من الفرنساوية إلى أن أوصلهم للصالحية، واستراحوا يومين وأخدوا ما يحتاجون وتوجهوا لقطية، وقد ساعدهم الجنرال بما يحتاجون إليه من المأكل ومن الخيل والجمال، وتعجبت الإسلام من أمان هؤلاء الأنام وحفظهم للذمام إذ كانوا خاشين من خيانتهم بالطريق وغدرهم في تلك البرية، ثم رجع الجنرال عنهم إلى القاهرة بعزة وافرة.
وأما أمير الجيوش فإنه بعدما سارت العساكر أمر بأن يعملوا فرحة عظيمة، وحضرت إليه الأعيان والحكام والعلماء وأرباب الديوان وأقعد عن يمينه السنجقين بكل إكرام، ورجع الفرنساوية إلى محلاتهم في المدينة، وبعد ثلاثة أيام عمل أمير الجيوش ديوانا ودعا إليه العلماء والأعيان وقال لهم: إني كنت أظنكم أيها علماء الديوان أنكم من الناس العقلاء ذوي الأذهان، والآن قد استبان لي أن عقولكم أخف من عقول الصبيان وأجهل من النسوان؛ لأن بعد معرفتكم أني قد قهرت وزير السلطان وشتتت جيشه في البراري والوديان، فقبلتم شردمة يسيرة وفرقة حقيرة هاربين من سيفي الباتر وقوة بطشي القاهر، وأدخلتموهم القاهرة وأخذتم تحاربوني بعيون فاجرة، مع أنكم تعلمون لا تربحون إلا الذل والإهانة وخراب وطنكم الكنانة، وهلاك الرجال وذهاب الأموال، وقد كنتم قادرين على طرد هؤلاء القوم الهاربين وعدم تمكنهم الغير الأمين، وإني قد كنت قادرا بعد حضوري أن أحرق المدينة في الحال، ولكن أخذتني الشفقة على النساء والأطفال الذين لا رضا لهم بهذا الوبال والنكال، والآن قد صفحت عن خطئكم ولكن يلزمكم أن تدفعوا مليونين من الريال، مبلغها ستة عشر ألف كيس ثمن دماكم، وعشرين ألف بندقية، وخمسة عشر ألف جوز طبنجات، وعشرة آلاف سيف، وأربعماية بغل، وماية حصان؛ وهذه يكون منها على السيد أحمد المحروقي ماية وخمسين ألف ريال، وعلى شيخ مصطفى الصاوي خمسين ألف ريال، والشيخ العناني ثلاثين ألف ريال، وبقية المال على أهالي البلد جميعها، وأما النصارى فليس لهم أن يساعدوكم بدرهم واحد؛ فكفاهم ما جرى عليهم منكم من الوبال والهتيكة وسلب المال، وما تكبدوه من الأضرار وسفك الدماء منكم يا أشرار، مع أننا أفهمناكم أمرار عديدة أننا نحن لسنا من النصارى، بل نود الإسلام ونحترم القرآن بكل احترام وما سمحنا لهم بحمل السلاح إلا ليحموا أنفسهم منكم يا قباح؛ إذ نظرنا هجومكم عليهم. ثم نهض من قدامهم وهو مملوء من الغضب ولم يلتفت إليهم ثم استدعى يعقوب القبطي الذي ذكرنا أنهم حاصروه في حارة الأقباط، وأمره أن يسترد منهم في الحال ما طلبه من المال، وأرسل قبض على السيد أحمد المحروقي وضبط منزله وأرسله للقلعة، وسجن أيضا امرأته، فكان ذلك أمر عظيم عند المصريين وغم لا يوصف عند المسلمين، وارتجت تلك الديار من سطوة هذا الأسد المغوار، وخافت منه الصغار والكبار، وقطعت الإسلام الآمال من التغيير والابتدال، وخرجوا النساء خروجا شنيعا مع الفرنساويين، وبقت مدينة مصر مثل باريز في شرب الخمر والمسكرات، والأشياء التي لا ترضي رب السموات، ورجعت الولاة والحكام لما كانوا عليه أولا من الأحكام.
وأحضر أمير الجيوش السيد خليل البكري الذي قد كانوا الإسلام نهبوا بيته، وأنعم عليه بما كان راح له وأرجعه إلى الديوان كما كان، وأحضر رجلا ونصبه عوض مصطفى أغا الذي قتلوه، وأقامه على الإنكشارية، ثم يعقوب القبطي أنعم عليه بالجنرالية ووضع على كتفه شراديب الذهب كعادة هذه المنصبية، وأمر أن يجمع عسكرا من الأقباط، ودعي من ذلك الحين الجنرال يعقوب، وكان ذلك مكافأة له لما ظهر منه من الشجاعة والفروسية مع الصلدات الفرنساوية، وجمع ثمانماية راجل من الأقباط ولبسهم لبس الصلدات، وكانت الفرنساوية تعلمهم فنون حرب الإفرنجية في كل يوم بكرة وعشية، ثم أحضر نقولا قبطان الروم وأكرمه غاية الإكرام، وأعطاه الوظيفة الجنرالية ووضع على كتفه الشراديب الذهبية؛ وذلك لما ظهر منه من الشجاعة والرجولية، وأقامه جنرالا على العسكر الرومية، وألبس عسكره الملابس الإفرنجية، وأحضر أيضا برتولمي الساقزلي وأنعم عليه الجنرالية، وبلغ عسكر الأروام ثلاثماية صلدات من الشجعان.
ثم إن أمير الجيوش ابتدأ ببناية أبراج جديدة حول مصر خشية من قيام أهاليها وعصاوتها على الفرنساوية إن وردت الأخصام لمحاربتهم من البلاد العثمانية؛ لأنهم كانوا يخشون قيام أهالي المدينة أكثر من القادمين عليهم من البرية، وهذه مرة ثانية التي قامت بها أهالي مصر على الفرنساوية، وهذه المرتين أهلكوا من العسكر الفرنساوية ما ينوف عن الثلاثة آلاف، ما عدا الذين أهلكوهم خفية في المنازل.
نامعلوم صفحہ