وسنعدد ما يلزم هذا الرأى من المحالات التى عددها ارسطو. فلنرجع الى حيث كنا، فنقول اما من زعم ان صور المحسوسات موجودة فى النفس بالفعل، وانها انما تحتاج الى المحسوسات من خارج لتتذكر وتتنبه فقط، فقد يدل على بطلانه انه لوكانت هذه الصور موجودة لها بالفعل، لما احتاجت الى الصور التى من خارج فى حصول العلم بها؛ ولكان يحصل لها العلم بمحسوساتها قبل ان تحس بالامور التى من خارج، ولكانت اذا شأت ان تحس بمحسوساتها، القت عليها شعاعها فى ذاتها فادركتها. وايضا لو كان الامر هكذا، لكانت هذه الآلات باطلا وعبثا، والطبيعة لا تصنع باطلا. واما من يرىء يرى ان صور المحسوسات تنطبع فى النفس انطباعا جسمانيا، فقد يدل على بطلانه ان النفس تقبل صور المتضادات معا، والاجسام ليس يمكن ذلك فيها. وليس يلفى هذا للنفس فقط، بل وللمتوسطات. فانه يظهر ان بجزء واحد من الهواء يقبل الناظر اللونين المتضادين معا اذا تناظر شخصان احدهما ابيض والاخر اسود. وايضا فان كون الاجسام العظام مدركة للبصر بالحدقة على صغرها حتى انها تدرك نصف الكرة من العالم، دليل على ان الالوان وما بتبعها ليست تحل فيها حلولا جسمانيا بل حلولا روحانيا. ولذلك نقول ان هذه الحواس انما تدرك معانى المحسوسات مجردة من الهيولى، فتدرك معنى اللون مجردا من الهيولى، وكذلك تدرك معنى المشموم والمطعوم وسائر المحسوسات. واذا تبين ان هذا الادراك روحانى، فنقول لمن انكر ان يكون ادراك الحواس بمتوسط ان المعانى التى تدركها النفس ادراكا روحانيا، منها كلى، وهو المعقولات، ومنها جزئى، وهى المحسوسات. ولا يخلو هذان الصنفان من المعان ان يكون ادراك النفس لهما بجهة واحدة من الجهات الروحانية او بجهتين. ولو كانت بجهة واحدة، لكانت المعانى الكلية والجزئية بجهة واحدة، وذلك مستحيل. واذا كان الامر هكذا، فهى تدرك المعانى الكلية بجهة، والجزئية بجهة. اما المعانى الكلية، فتدركها ادراكا غير مشارك لمادة اصلا, ولذلك لا تحتاج فيها الى متوسط. واما المعانى الجزئية ، فتدركها بامور مناسبة للامور الجزئية وهى المتوسطات. ولولا ذلك لكانت المعانى التى تدرك كلية لا جزئية. وكان وجود الصور فى متوسطات هو بضرب متوسط بين الروحانية والجسمانية. وذلك ان وجود الصور خارج النفس جسمانى محض، ووجودها فى النفس روحانى محض، ووجودها فى المتوسط متوسط بين الروحانية والجسمانية؛ واعنى بالمتوسط هاهنا، آلات الحس والامور التى من خارج فى الحواس التى تحتاج الى ذلك. فالآلات بالجملة انما احتاجت اليها الحواس لكون ادراكها شخصيا روحانيا، فان الروحانى الكلى لا يحتاج الى هذه الآلات.
فقد ظهر من هذا القول ان كون هذه الصور التى فى النفس روحانية جزئية هو السبب الذى اضطر هذا الادراك ان يكون بتوسط. وبحق ما كان ذلك كذلك، فان الطبيعة من شانها ان تسير من الوجود المقابل الى مقابله، بمسيرها اولا الى المتوسط، فليس يمكن ان يحصل الروحانى من الجسمانى الا بمتوسط. ولذلك كلما كانت هذه المتوسطات الطف، كان الادراك اتم وفضل. واما قول من قال انه لو ادركت النفس بمتوسط، لكانت انما تقبل من ذلك بقدر جرم المتوسط، اعنى ان كان صغيرا قبلته صغيرا، وان كان كبيرا قبلته كبيرا، فان هذا انما يلزم فى ادراك الجسمانى لا الروحانى.
صفحہ 26