هذا وإذا كان الفن القبطي تعبيرا عن الخصائص الدينية لمصر المسيحية، فإن نشأة حياة الرهبنة ونموها لهي وجه آخر من أوجه التعبير، يعتبره العلماء أكثر ما ساهم به الشعب المصري بروزا وجلاء في تراث المسيحية.
وإنا لنكتفي بالقول دون الدخول في التفاصيل أن الرهبنة بدأت بفرار الأفراد إلى البرية هربا من شرور العالم ورذائله، ثم أخذت شهرة بعض الصالحين النساك تجذب الناس إلى العيش بجوارهم، يلتمسون منهم الهداية، وكان ذلك حال «أنطونيوس» الشهير. ولكن يرجع الفضل في تنظيم الرهبنة إلى عبقرية «باخوميوس»؛ فقد كان للقواعد التي وضعها تأثير بالغ في نمو أنظمة الرهبنة في المسيحية الغربية وغيرها، ولكن الرهبنة في مصر لم تكن أمرا روحانيا صرفا، بل كانت عاملا في التطور الاجتماعي، والتطور الديني، فأثرت تبعا لذلك، في مصائر البلاد بأجمعها.
وقد انتظمت المسيحية في كنائس شكلت على طراز الأنظمة الرومانية الإمبراطورية، وتركزت الكنائس الرئيسية في مدن اشتهرت في التاريخ، كالإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية، وروما. وكان من شأن اختلاف الأمزجة القومية والمنافسات بين الأمم والأشخاص، أن نشأت اختلافات مذهبية، فنبت ذلك النقاش، وذاك الجدل الذي شاع وذاع بين أريوس وأثناسيوس في القرن الرابع، وانتهت تلك الجولة بأن قرر مجمع نيقية إدانة أريوس بالإلحاد (الهرطقة)، كما نشب خلاف آخر حول الأقاليم، كان من أثره انحياز الكنيسة المصرية - ومعها في ذلك كنائس شرقية أخرى - إلى رأي في طبيعة السيد المسيح يعرف بالمذهب المنوفيسي - أي الطبيعة الواحدة - وانحازت الكنيسة الإمبراطورية إلى قول آخر، وعمل هذا النزاع المذهبي وما صحبه من اضهطادات وإحن واضطرابات، وتدهور اقتصادي، على إضعاف الصلة التي كانت تربط البلاد بالإمبراطورية الرومانية، عند حدوث الفتح الإسلامي في القرن السابع.
وقد فسر المذهبان «المنوفيسي» و«النسطوري» على أنهما يمثلان احتجاج الشعوب الشرقية على السيطرة الهيلينية السياسية والاقتصادية والثقافية، وقد أشار هارناسك، الحجة الذي سبق لنا الاقتباس منه، إلى أن بطارقة الإسكندرية لم يقتصر طموحهم على السيطرة على الكنائس الرئيسية الأخرى، بل تعدى ذلك إلى التطلع إلى أن يجعلوا من مصر دولة دينية مستقلة. ويؤيد هذا ما ذهبت إليه الآنسة رويار المؤرخة الثقة للإدارة البيزنطية، من أن العرب الغزاة لم يروا في مصر إحدى ممتلكات بيزنطة، بل بدت لهم مملكة تكاد تكون مستقلة. هذا وبينما كان رهبان أديرة مصر من أبناء الفلاحين، يؤيدون الكنيسة القبطية في صراعها ضد أولي الأمر الحاكمين الأجانب، موظفين مدنيين وكنسيين، فإنه لا يمكن القول بأن تلك الأديرة كانت عنصرا من عناصر النظام أو الاستقرار في حياة الكنيسة الوطنية ذاتها.
وبالاختصار هذا هو مجمل القول في هذا الموضوع الكبير، وسأحاول في حديثي التالي وصف ما خلفه تراث مصر المسيحية لمصر الإسلامية.
وآمل أن أبين حينئذ أن خير طريق يسلكه اليوم مسلمو مصر ومسيحيوها على السواء لكي يفهموا أنفسهم، هو أن يعملوا على فهم الإسلام والمسيحية على حد سواء.
مصر والإسلام
غزت جيوش الخلافة مصر سنة 640 بعد الميلاد، وقطعت العلاقة التي كانت تربطها بالإمبراطورية الرومانية الشرقية، وبذا أصبحت مصر جزءا من دار الإسلام، إلا أن العملية التي أصبح بها المصريون مسلمين يتكلمون العربية نمت بالتدريج؛ إذ جاء انتشار الإسلام عن طريق اعتناق سكان البلاد المسيحيين الإسلام تدريجيا، كما جاء نتيجة لاستيطان الوافدين من بلاد العرب، وقد تمشى انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام جنبا إلى جنب، إلا أن انتشار اللغة كان أشمل وأتم من انتشار الديانة، فهي لغة الأهلين كافة - المسلمين منهم والمسيحيين - على السواء.
ونستطيع أن نقسم تاريخ مصر الإسلامي على وجه العموم إلى فترتين مختلفتين كل الاختلاف في الطول، فالأولى تستغرق من منتصف القرن السابع حتى نهاية القرن الثامن عشر، بينما تشمل الثانية السنوات المائة والخمسين الأخيرة. وقد شهدت الفترة الأولى تكون ثقافة إسلامية، بلغت قدرا كبيرا من الاستقرار والتماسك، سواء في أيام ازدهارها أو في عصر انحطاطها، وسواء نظرنا إليها من وجهة بنائها الداخلي، أو من وجهة علاقاتها الخارجية. أما الفترة الثانية فقد شهدت إخضاع تلك الثقافة لدوافع وحركات من الشد والجذب، كانت ذات تأثير بليغ في كيانها، ولما كانت اتصالاتها بالحضارة الغربية هي المسئولة عن حدوث عوامل التغير؛ فإني سأتناول الفترة الثانية من تاريخ مصر الإسلامية في حديثي التالي - عن مصر والغرب - خاتمة هذه الأحاديث.
أما هذا الحديث فيتناول نشأة الثقافة الإسلامية، وبلوغها كمال نموها، وعلى أن أبدأ ببناة تلك الثقافة، فإن وفود العرب على البلاد كان إيذانا ببزوغ فجر عملية جديدة من عمليات بناء الأمة المصرية، فاجتذب الريف المصري رجال الصحراء إليه، وما زال حتى الآن يجتذبهم، وارتباط مصر بدار الإسلام فتح أبوابها - وبخاصة أبواب مدنها - للمستوطنين من البلدان الإسلامية الأخرى، وبخاصة من بلاد المغرب ومن فلسطين وسوريا، وقيام دول من المماليك، واعتماد تلك الدول على جيوش مؤلفة من أبناء الرق، أديا إلى قدوم جموع من الجواري والعبيد من مختلف العناصر والأجناس، من أتراك وشراكسة وصقالبة ومن إليهم، أضف إليهم مستوطنين من شتى السلالات الأفريقية، والآن نتساءل إلى أي مدى تمثلت الأمة تلك العناصر؟ إذا اتجه النظر إلى أهل الريف فإننا نجدهم - قديمهم وجديدهم - يستوون في الانتماء إلى طائفة من الفلاحين، بيد أن بين الفلاحين فروقا لا تخفى، ففلاحو الدلتا مختلفون عن فلاحي الصعيد، بل الاختلاف ظاهر من مديرية إلى أخرى.
نامعلوم صفحہ