إننا نعرف أنه كان هناك مصريون مندمجون في الإغريقية، وإغريق «متمصرون»، كما كانت هناك مصر المسيحية ومصر الإسلامية، ونعرف أن الغرب قد سيطر على مصر، وأن مصر اتجهت إلى الغرب حينا، كما أشاحت بوجهها عنه أحيانا، وكان ذلك في الحالين عن وعي وإدراك.
ولكن ترى هل كانت مصر على علاقات مماثلة مع بني إسرائيل؟ ولكي أجيب عن هذا السؤال يجدر بي أن أميز بين نوعين رئيسيين من الصلات بين الشعبين:
فأما النوع الأول:
فيرجع إلى فترة ما بين بداية كتب العهد القديم الرسمية ونهايتها؛ أي حتى ذلك الحين الذي كانت فيه مصر وفلسطين مندمجتين في إمبراطورية الفرس وفي إبان الأحداث الخطيرة التي ترتبت على فتوح الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد.
وأما النوع الثاني:
فيبدأ عندئذ؛ أي عندما أخذ اليهود في الاستيطان في مصر، وقد قدر لليهود أن يكون لهم أثرهم في حياة البلاد الاقتصادية والثقافية، ولكنهم كانوا في هذه الحالة عاملا من عوامل تكوين مصر المسيحية والإسلامية ثم مصر المتصلة بالغرب، فيجدر بنا إذن أن نترك أمرهم لأحاديثنا في تلك الموضوعات، وأن نخصص الحديث الحالي لعلاقات مصر بيهود العهد القديم.
ومن رأيي أن تفسيري لتلك العلاقات يكون أوضح وأبين لو اخترت وقائع وحوادث معينة ورتبتها ترتيبا زمنيا، ولنبدأ بزيارة إبراهيم، وقد وقعت تحت ضغط المجاعة، وهي تبدو لنا مثلا قديما جدا للعلاقات بين الأقوام من رعاة الصحراء أو ما يشبه الصحراء وبين وادي النيل، ويرى بعض الثقات أن قدوم إبراهيم حدث في عهد الأسرة الثانية عشرة، كما أن بعضهم يوقتها بعد ذلك. ويجب علينا أن نلاحظ أنه كان لسارة - زوجة إبراهيم - جارية مصرية، هي هاجر أم إسماعيل، وقد أسكنها إبراهيم ببلاد العرب كما هو معروف، كما يجب علينا ألا ننسى قدوم يوسف إلى مصر، وما صادفه من تقلبات الحظ بين سعد ونحس، حتى آل به الأمر إلى توليه السلطة كوزير لفرعون مصر، ولقد أثرى هو وشعبه ثراء عجيبا، وابتسم لهم الحظ.
ويقول بعض المؤرخين، ويعارضهم آخرون: إن ذلك حدث في عهد الغزاة الأجانب، الذين كانوا يسمون بالهكسوس، والهكسوس في الواقع فتحوا أبواب البلاد لأخلاط من الناس، وفدوا عليها من الشرق، ويبدو أنه في أيامهم ازداد اليهود، الذين كانوا يعيشون في مصر، عددا وثراء، وامتلأت خزائنهم وحظائر ماشيتهم، كما اكتسبوا مهارة في ميادين الفنون المختلفة المعروفة عند المصريين، كصناعة المعادن، والحفر على الأحجار الكريمة والصباغة والنسيج، وكان يجمعهم نظام يرأسه «شيوخ» من أنفسهم، وعلينا أن نذكر أنهم عندما غادروا مصر كان رحيلهم على شكل حشد ونظام عسكري؛ أي رحيل أولئك الذين لم يؤثروا البقاء بعد انتهاء حكم الهكسوس.
وتنتقل بنا القصة إلى ما قامت به الأسرة الثامنة عشرة من أعمال عسكرية باهرة وانتصارات في آسيا، وإلى إعادة تنظيم الإمبراطورية، وإلى الآثار الكبرى التي شادوها، وإلى ذلك الحدث المفاجئ: ثورة أخناتون الدينية، وهذه العبادة التي فرضها أخناتون - عبادة قرص الشمس تحت اسم أتون - يمكن أن تعتبر - على وجه ضيق - شكلا من الأشكال المتعددة لعبادة الشمس، ولكنها كانت تقوم على الإيمان بإله واحد قوي حي؛ وبذا نشأ نوع من التقارب بين هذا التطور في عقيدة المصريين وبين توحيد اليهود.
والآن نتساءل: ما أثر العقيدتين إحداهما في الأخرى؟ وليست الإجابة على هذا السؤال بالأمر الهين، فإن العمل الجليل الذي قام به أخناتون، كان يتسم بطابع الابتكار الشخصي في طموحه وتحقيقه، ولكن تشابه الأفكار - ودع التشابه اللفظي جانبا - بين أناشيد أخناتون وبين بعض المزامير يسترعي من النظر والفكر ما يدعو إلى دقة وزنه وتقديره حق قدره.
نامعلوم صفحہ