تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد
تصنيف الشيخ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري
الشهير بـ "ابن هشام الأنصاري"
ت: ٧٦١ هـ
تحقيق وتعليق/
الدكتور/ عباس مصطفى الصالحي
كلية التربية - بغداد
الناشر: دار الكتاب العربي
نامعلوم صفحہ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم. بحمدك نستفتح يا من تفرد بالقدم، ومن فيض فضلك نستمنح، يا من اخترع الموجودات من العدم، وإليك نرغب في أن تهدي أشرف صلواتك، وأزكى تحياتك، إلى من أرسلته على فترة من الرسل، وابتعثته على انقطاع من السبل، فجاء مجيء الصبح والليل مظلم، وحلَّ محل الغيث والقفر ممحل، وأن توفقنا إلى اقتباس أنواره، واقتفاء آثاره، وأن تجعلنا خدامًا لكتابك المبين، وأعوانًا للمستمسكين بحبلك المتين، وأن توضح السبل الموصلة إليه، وترشدنا إلى حقائق الشواهد الدالة عليه، وأن تجعله أنيسنا في اللحود، ودليلنا إلى دار كرامتك في اليوم المشهود بمنك وكرمك، وبعد: فقد شكا إلي جماعة من الطلاب، الراغبين في تحقيق علم الاعراب، ما يجدونه من نكد الشواهد الشعرية المستشهد بها في «شرح الخلاصة الألفية»، وأنهم لم يجدوا من يحسن إيرادها، ولا من يسعف بمطلوبه مرتادها، ولا من يفتح بسعة علمه مقفلها ولا من يوضح بلطف
1 / 39
إدراكه مشكلها، وأنهم عطشى الأكباد إلى تأليفٍ يجمع ذلك، وتصنيف يهتدون به إلى تلك المسالك، فأنشأت لهم هذا المختصر المسمى بـ «تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد»، محتويًا على تفسير لفظها، وتحرير ضبطها، وبيان الشاهد منها، وإيراد بعض ما تقدمها من الأبيات وما تأخر عنها، أو نسيبًا مستلذًا أو غزلًا، وفصلت ذلك كله مسألة مسألة، /٣/ وتخيرت لها العبارة الموجزة والإشارة المستسهلة، ثم أنني رأيت أن من إتمام الفائدة، وإكمال العائدة، ألا أقتصر على شرح شواهد الشرح، ولا على مسائل تلك الشواهد، فأردفتها بشواهد كثيرة لم يشتمل عليها، ووشحتها بمسائل عديدة لم يتضمن التصريح بها، ولا الإشارة إليها، ومن الله سبحانه أستمد، وإلى ركنه الحصين أستند، على جوده العميم أعتمد، ولا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم.
1 / 40
شواهد باب الكلام وما يتألف منه
مسألة [١]
قد يقصد بالكلمة الكلام
كقوله ﵇: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد، ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
وهذا الحديث في الصحيح من رواية أبي هريرة ﵁، ومن ألفاظه، أن أصدق كلمة، ومنها: أن أصدق بيت قاله الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل، ومنها: أصدق
1 / 41
بيت قالته الشعراء، والثلاثة في صحيح مسلم، ومنها: أشعر وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم، ومنها: أصدق بيت قالته الشعراء، والثلاثة في صحيح مسلم، ومنها: اشعر كلمة تكلمت بها العرب، أورده ابن مالك في باب الضمير من شرح التسهيل، ولبيد هو ابن ربيعة العامري، صحابي شاعر مجيد، هجر الشعر حين أسلم، واستنشده عمر، فقال: أبدلني الله خيرًا منه، سورتي البقرة وآل عمران، فزاد في عطائه، قيل: وليس له في الإسلام سوى قوله: [البسيط].
(الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالًا)
وقوله:
(ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء ينفعه القرين الصالح)
وهذه الكلمة مما قاله قبل الإسلام، ولما أنشد الشطر الأول قال له
1 / 42
/٤/ عثمان بن مظعون ﵁: صدقت، فلما أنشد الثاني قال له: كذبت، إن نعيم الآخرة لا يزول.
والباطل في الأصل غير الحق، والمراد به هنا الهالك، والبيت من معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [سورة القصص: ٨٨]، ولكن الشاعر عبّر عن الهالك بالباطل، لقصد التصريع، وهو تصريع في أثناء القصيدة.
وذكر النحويون أنه اعترض بالاستثناء بين المبتدأ والخبر، و(ما) عندهم في نحو: قام القوم ما خلا زيدا، مصدرية، ومحلها مع صلتها نصب على الحال، أي خالين عن زيد، أو على الظرف، على حذف مضاف، أي وقت خلوهم عن زيد.
وفي النهاية لابن الخباز قال شيخنا: ليس هذا باستثناء، بل (ما) زائدة، وخلا الله صفة لكل أو لشيء، والمعنى: كل شيء غير [بالرفع] أو غير [بالجر] باطل. انتهى.
وليس الشاهد في البيت، بل في الحديث مع البيت، لاشتمال الحديث
1 / 43
على تسمية البيت كلمة، وأول الكلمة: [الطويل].
(ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلالٌ وباطل)
(أرى الناس لا يدرون ما قدرُ أمرهم ... بلى كل ذي لُب إلى الله واسل)
وبعد البيت:
(وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل)
(وكل امرئ يومًا سيعلم غيبه ... إذا حصلت عند الإله المحاصل)
(إذا المرء أسرى ليلة خال أنه ... قضى عملًا والمرء ما دام عامل)
(فقولا له ان كان يقسم أمره ... ألما يعظم الدهر أمك هابل)
(فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب ... لعلك تهديك القرون الأوائل)
(فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معد فلتزعك العواذل)
/٥/ والبيت الأول يأتي عليه الكلام إن شاء الله تعالى في باب الموصول، ومعنى البيت الثاني: أن الناس لا يدرون ما هم فيه من خطر الدنيا وسرعة فنائها، وأن كل ذي عقل متوسل إلى الله سبحانه بصالح عمله، وقوله: واسل، معناه ذو وسيلة، مثل: لابن وتامر. وقوله: سوف تدخل، دليل على جواز وقوع (سيفعل) خبرًا، وذلك جائزًا اتفاقًا إذا كان المخبر عنه مبتدأ عامًا كما في البيت، أو اسمًا لأن، نحو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
1 / 44
سيجعل لهم الرحمن ودا﴾ ويمتنع عند ابن الطراوة وتلميذه السهيلي في غير ذلك، نحو: زيد سيقوم، والأكثرون على الجواز، بدليل قوله: [الطويل].
(فلما رأته أمنا هان وجدها ... وقالت أبونا هكذا سوف يفعل)
وقوله: دويهية، استدل به الكوفيون على ثبوت تصغير التعظيم؛ إذ المعنى: داهية عظيمة، وأجيب بأنها إنما صغرت لدقتها وخفائها، فهو راجع إلى معنى التقليل، وفي (المحكم) أنه يروى: خويخية، بمعجمتين، بمعنى دويهية.
وقوله: فإن أنت، أصله: فإن إياك، ثم أناب المرفوع عن المنصوب كقراءة الحسن: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [سورة الفاتحة: ٥]، = إياك (يعبد)، وفيه أوجه آخر.
1 / 45
ومعنى البيتين الأخيرين: أن غايةالإنسان الموت، فينبغي له أن يتعظ بأن ينسب نفسه إلى عدنان أو معد، فإن لم يجد من بينه وبينهما من الأباء باقيًا فليعلم أنه يصير إلى مصيرهم، فينبغي له أن ينزع عما هو عليه. ويقال: وزعه يزعه إذا كفه، والعواذل هنا حوادث الدهر وزواجره، وإسناد العذل إليها مجاز، ونصب (دون) بالعطف على محل (من دون)؛ لأن معنى: إن لم تجد من دون عدنان، وإن لم تجد دون عدنان، واحد.
مسألة [٢]
/٦/ تسميتهم الكلام كلمة مجاز من باب تسمية الشيء باسم بعضه كتسمية القصيدة قافية، قال: [الوافر].
(وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني)
وقبله:
(أعلمه الرماية كل يوم ... فلما استد ساعده رماني)
و(استد) بالسين المهملة، من السداد، ومن أعجمها فقد صحف و(كم) خبرية بمعنى كثير، وتمييزها محذوف، وإعرابها بحسبه، فإن قدّرت:
وكم وقت، فهي ظرف، أو كم تعليم، فهي مفعول مطلق، و(نظم) مفعول ثان؛ لأن (علّم) منقول بالتضعيف من (علم) بمعنى عرف.
1 / 46
مسألة [٣]
تنوين الترنم
هو المبدل من حرف الإطلاق، كقوله: [الزجر].
(يا صاح ما هاج العيوم الذرفن ... من طلل كالأتحميٌ انهجنْ)
كذا قال الشارح، وقد وقع له ولغيره في هذا الموضع وهمان، أحدهما: تسمية هذا التنوين تنوين الترنم، والصواب: تنوين ترك الترنم، إذ الترنم إنما هو في أحرف الإطلاق، قال سيبويه: أما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء؛ لأنهم أرادوا مدّ الصوت، وإذا أنشدوا ولم يترنموا، فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنم، وناس كثير من بني تميم يبذلون مكان المدة النون. انتهى، وكذا قال ابن السراج وغيرهما.
والوهم الثاني اعتقاد أن المصراعين من ارجوزة واحدة، وذلك غير متأت، لاختلاف رويهما بالفاء والجيم، ويتضح لك ذلك إذا استعملتها بحرف الإطلاق، والصواب أنهما من ارجوزتين، والأول صدر الأرجوزة، وبعده:
1 / 47
(من طلل أمسى يحاكي المصحفا)
والثاني ثاني شطري الأخرى، وقبله:
(ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا)
وكلاهما /٧/ للعجاج، وهو عبد الله بن رؤبة التميمي الراجز، ولقب العجاج لقوله:
(حتى يعج عندها من عجعجا)
روى عن أبي هريرة أحاديث، وقال له سليمان بن عبد الملك: أنك لا تحسن الهجاء، فقال:
إن لنا أعلامًا تمنعنا أن نظلم وأحسابًا تمنعنا أن نظلم وهل رأيت بانيًا لا يحسن أن يهدم؟
و(صاح) منادى مرخم على لغة من ينتظر، ولم يسمع ترخيمه على لغة التمام، وأصله صاحب، وترخيمه شاد؛ لأنه ليس بعلم، ولا ذي تأنيث، وقيل: أصله صاحبي، فرخم بحذف المضاف إليه، ثم رخم بحذف آخر المضاف، وليس بشيء. و(ما) استفهام مبتدأ، وفاعل (هاج) ضمير ما، وهاج يتعدى ولا يتعدى، تقول: هاج الحزن، وهاجه التذكار، والمعنى:
1 / 48
أي شيء هيّج الدموع، والجملة خبر ما، والذرف، بالذال المعجمة، جمع ذارف، اسم فاعل من ذرف الدمع، كضرب، بمعنى سال، وإسناد الذروف إلى ضمير العيون مجاز عقلي، مثل: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [سورة البقرة: ٢٥]، ويروي الدموع بدل العيون، فالاسناد حقيقة، و(من) للابتداء، وتعلقها بهاج. و(الطلل) ما شخص من آثار الديار، وجمعه أطلال، وطلول، و(الأتحمي) بهمزة مفتوحة فتاء مثناة فحاء مهملة مفتوحة: برد يمنّي، وتشبه به الأطلال من أجل الخطوط التي فيه كما تشبه بالمصحف، لذلك، وانهج الثوب، بالنون والجيم: أخذ في البلى، قال: [الطويل].
(فما زال بردي طيبًا من ثيابها ... إلى الحول حتى انهج البرد باليا)
والظرف صفة لطلل، وأنهج حال من الأتحمي، أو صفة له؛ لأن تعريفه جنسي.
مسألة [٤]
/٨/ التنوين الغالي اللاحق للروي المقيد
أي الذي ليس ألفًا ولا واوًا ولا ياءً، كقوله: [الرجز].
1 / 49
وقاتم الأعماق خاوى المخترقن.
وإنما سمي غاليًا لأنه زيادة على الوزن، والغلو في اللغة الزيادة، والأخفش يسمي الحركة التي قبله غلوًا، وهي الكسرة؛ لأنها الأصل في حركة التقاء الساكنين، وكقوله: يومئذٍ، وصه، فكسروا ما قبل التنوين.
وزعم ابن الحاجب أنه إنما سمى التنوين غالبًا لقلته، وأن الأولى أن تكون الحركة قبله فتحة كما في نحو: أضربا، وأن هذا أولى من أن يقاس على يومئذٍ؛ لأن ذاك له أصل في المعنى، وهو العوض من المضاف إليه، ولنا أنه لا يعرف غلا الشيء بمعنى قلّ، ولكن غلو قيمة الشيء لازمة عن قلة وجوده، وأما غلا بمعنى زاد فثابت، فتفسيرنا أولى، وكذلك قياس التنوين على التنوين أولى لاتحاد جنسهما ولأنهما يكونان في الاسم، والنون لا تكون إلا في الفعل، ثم إن فتحة (أضربا) للتركيب كما في خمسة عشر لا لالتقاء الساكنين بدليل لتضربن، وبدليل ردهم حرف العلة في نحو: قومن وأقعدن بخلاف نحو: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [سورة المزمل: ٢]، قال: [الطويل].
(فلا تقبلن ضيمًا مخافة ميتة ... وموتًا بها حرًا وجلدك أملس)
1 / 50
وفائدة هذا التنوين التطريب والتغني عند ابن يعيش، وجعله ضربًا من تنوين الترنم، وزعم أن تنوين الترنم يراد به ذلك، وقد مضى أن ذلك وهم.
وقال عبد القاهر: فائدته الإيذان بأن المتكلم واقف؛ لأنه إذا أنشد عجلًا والقوافي ساكنة لم يعلم أواصل هو أم واقف؟
وأنكر هذا التنوين الزجاج والسيرافي، وزعما أن رؤبية كان يزيد في أواخر الأبيات (أن)، فلما ضعف صوته بالهمزة لسرعة الإيراد ظن السامع أنه نون.
1 / 51
قال الناظم: "وهذا تقرير صحيح مخلص من زيادة ساكن /٩/ على ساكن بعد تمام الوزن"، قلت: لكن فيه توهيم الرواة الضابطين بمجرد الاحتمال المرجوح، وليس هذا التنوين في أواخر الأبيات بأبعد من الخزم في أوائلها. وهذا البيت أول أرجوزة شهيرة لرؤبة بن العجاج المتقدم ذكره، وبعده:
(مشتبه الأعلام لمّاع الخفق ... يكل وفد الريح من حيث انخرق)
و(القاتم) بالقاف والتاء المثناة: المغبر، والقتام، بالفتح: الغبار، وهو صفة لمحذوف، وجره برب محذوفة، والأصل: ورب بلد قاتم، والواو عاطفة على شيء قدره في نفسه؛ إذ لا شيء قبله في اللفظ فيعطف عليه.
واستدل بظاهره من زعم أن الواو هي الخافضة، وليست عاطفة، وأنها المفيدة لمعنى رب. واحتج الجماعة بأن العاطف لا يدخل عليه بخلاف واو القسم، نحو ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ [سورة الحجر: ٩٢].
(والأعماق) بالمهلة: جمع عمق، بضم العين وفتحها: ما بعد من أطراف المفاوز، مستعار من عمق البئر وعمقها.
و(الخاوي) بالمعجمة: الخالي. و(المخترق)، بضم الميم وبالمعجمة والمثناة والراء المفتوحة: الممر؛ لأن المار يخترقه.
1 / 52
و(الأعلام)، جمع علم بفتحتين: وهي الجبال وكل ما يهتدي به، يريد أن اعلامه يشبه بعضها بعضًا، فلا يحصل الاهتداء بها للسالكين. و(الخفق): الاضطراب، وهي في الأصل بسكون الفاء، وإنما حرك للضرورة، يريد أنه يلمع فيه السراب ويضطرب، و(وفد الريح): أولها: مثل وفد القوم، وهذا تمثيل، وإذا اتسع الموضع فترت فيه الريح، وإذا ضاق اشتدت، ومنها أيضًا:
(فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلة توليع البهق)
و(التوليع): ألوان شتى. و(البهق): بياض يخرج في عنق الإنسان وصدره، قال أبو عبيدة /١٠/ معمر: قلت لرؤبة، إن أردت بقولك كأنه كان الخطوط فقل: كأنها، أو كأن السواد والبلق فقل: كأنهما، فقال: أردت كأن ذلك، ومنها:
لواحق الأقراب فيها كالمقق
ويأتي شرحه إن شاء الله تعالى في باب حروف الجر.
شواهد باب المعرب والمبني
مسألة [٥]
ذو على وجهين
بمعنى صاحب فتستعمل بالواو والألف والياء، وبمعنى الذي، والأعرف فيها البناء، كقوله: [الطويل].
1 / 53
(فأما كرام موسرون لقيتهم ... فحسبي من ذو عندهم ما كفانيا)
وحكى ابن درستويه في "الإرشاد" وابن جني في "المحتسب": أن بعض طيء يقول: جاءني ذو قام، ورأيت ذا قام، ومررت بذي قام.
وزعم ابن الضايع أنها إنما تعرب في حالة الجر كهذا البيت، فإنه روي بالوجهين، ولم يطلع المرزوقي على هذه اللغة البتة، فزعم أن (ذي) في البيت بمعنى صاحب، كقوله: هذا ذو زيد، أي صاحب هذا الاسم،
1 / 54
وليس بشيء؛ لأن المشهور في البيت (ذو) بالواو، وذلك لا يجوز في التي بمعنى صاحب، لاستلزامه أن يخفض (عند) بالإضافة؛ إذ لا تدخل التي بمعنى صاحب إلا على اسم مخفوض، أو (تسلم) في قولهم: اذهب بذي تسلم، ولم يسمع خفض (عند) بغير من، وهذا البيت لمنظور بن سحيم الفقعسي، وقبله:
(ولست بهاج في القرى أهل منزل ... على زادهم أبكي وأبكّي البواكيا)
(فأما كرام موسدون أتيتهم ... البيت)
وبعده:
(وأما كرام معسرون عذرتهم ... وأما لئام فادّخرت حيائيا)
(وعرضي أبقى ما ادخرت ذخيرة ... وبطني أطويه كطي ردائيا)
ومعنى هذا الشعر التمدح بالقناعة، والكف عن أعراض الناس، يقول: الناس ثلاثة أنواع: موسرون كرام فاكتفي منهم بمقدار كفايتي، /١١/ ومعسرون كرام فاعذرهم، وموسرون لئام فاكف عن ذمهم حياء.
وقوله: في القرى، هو بكسر القاف، طعام الضيف، و(في) للسببية، مثلها في قوله تعالى: ﴿لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وربما توهم متوهم أنها للظرفية، فضم القاف على أنه جمع لقرية، وقوله: (على زادهم ... إلخ) صورته الإثبات، ومعناه النفي؛ لأنه تفسير لخبر ليس، وإن قدر خبرًا ثانيًا فلا أشكال، وذكر البكاء تمثيل، والمعنى: أنه لا يأسف لما يرى من الحرمان أسف من يبكي ويبكّي غيره.
1 / 55
وقوله: (فأما) هو بكسر الهمزة، كذا ثبت في نسخ (الحماسة) وغيرها، وعليه (شرح التبريزي)، إلا أنه قدرها كلمتين أن الشرطية وما الزائدة، وقدر الاسم معمولًا لفعل محذوف بعدها مبني للمفعول، أي فأما يقصد كرام، كما قدروا في قوله: [الكامل] لا تجزعي. إن منفس أهلكته [وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي] إن أهلك فنفس.
والصواب أنها إما التي في قولك: جاءني إما زيد وإما عمرو، وأن الاسم بعدها خبر لمبتدأ مقدر قبلها، أي: فالناس إما كرام، بدليل قوله: وإما لئام، وليس بعده فعل يفسر المحذوف الذي زعمه، والجملتان من قوله: أتيتهم وعذرتهم صفتان، وقوله: فحسبي ... البيت، أي فكافي من عطائهم ما يكفيني لحاجتي، أي لا أبتغي منهم زيادة على الحاجة، ولولا هذا التأويل لفسد، لاتحاد المبتدأ والخبر.
مسألة [٦]
في (الأب) مضافًا إلى غير الياء ثلاث لغات، أكثرها كونه بالواو
1 / 56
والألف والياء، وأقلها كونه منقوصًا، أي على حرفين كما كان في الإفراد على حد يدٍ ودمٍ وحرٍ وغدٍ وبينهما كونه مقصورًا، أي بالألف دائمًا، وهي مقتضى الأصل إذ أصله أبو، بفتحتين، بدليل (أبوان)، وشاهد النقص /١٢/ قول بعضهم: أبان، وقول راجز:
(بأبه اقتدى عديّ في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم)
إذ لم يقل بأبيه، ولا ومن يشابه أباه، وقدّم (بأبه) ليفيد الاختصاص، مثل: ﴿لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [سورة آل عمران: ١٥٨]، وعديّ هذا كأنه الصحابي ابن حاتم الطائي، ومعنى (ما ظلم): ما وضع الشبه في غير موضعه، وفيه رد على اللحياني؛ إذ زعم أن الصواب في المثل "ومن أشبه أباه فما ظلمت" أي أمه، أي أنها لم تزن، ومما يرده أيضًا أن اسم الشرط على تأويله لم يعد إليه ضمير من خبره، وبهذا يرد على الميداني في قوله: "إن الضمير في ظلم في المثل راجع إلى الأب، أي فما ظلم الأب إذ زرع في موضع أدى إليه الشبه. وشاهد القصر ما" ثبت في صحيح البخاري من قوله: حدثنا يعقوب الرقي، حدثنا ابن عُلية، حدثنا سليمان التيمي حدثنا أنس قال: قال رسول
1 / 57