يصور «كافكا» صورة هادية، حين تصور إنسانا أخذه النعاس واستيقظ ليجد نفسه خنفسا ضخما، لقد تحول، فكان لهذا التحول مشكلات العصية العسيرة، فكيف يسير وعلى أي نهج يسلك هذا الإنسان الخنفس، بحيث يرضى عن سيره وسلوكه؟ أيجعل معياره حياة الخنفس، أم يجعله حياة الإنسان؟ إنه لو فعل هذا أو ذاك تجاهل حالته الراهنة، فلا هو بالإنسان حتى يصطنع قواعد الأناسي، ولا هو بالخنفس حتى يحيا كما تحيا الخنافس، إنه إنسان خنفس، وإذن فلا بد له من نظرة جديدة، ومن معايير جديدة، وإلا أخذته الحيرة واستبدت به الفوضى وضلله اللبس والغموض، واضطرب بين مجموعتين من المثل، فلا يدري بأيهما يأخذ، والصواب هو ألا يأخذ بأي منهما، وأن يخلق مجموعة من المثل ثالثة تصلح لهذا الكائن الجديد.
لا جناح على الإنسان أن تستقر حياته على قواعد ثابتة، إذا ما رسا فلكه على شط الوصول، أما وهو ما يزال يسبح في اللجة، يلاطم الموج ليصل، أعني أما وهو في مرحلة التحول، فصاحب القواعد الجامدة الثابتة هو المحكوم عليه بالتهلكة والضياع، فالقاعدة الأولى في مرحلة التحول هي ألا تكون هنالك قاعدة تسد علينا طريق المغامرة والمبادرة والخلق. إن «الجديد» لم يتحدد بعد حتى يجوز لنا أن نقعد له القواعد ونقنن له القوانين، الجديد هو في طريق الصنع، نحن الذين نصنعه في مرحلة التحول هذه، نبتكر لكل موقف ما يلائمه، ونلاقي كل مشكلة بما يناسبها. إننا إذ نشكل المواقف نتشكل في صورتنا الجديدة، فلا بد أن يكون من صفات هذه المرحلة تغير كل عام، كل شهر، كل يوم. ليس العيب هو في هذه المراجعة الدائبة لنظم الأسرة، والحكومة، والتعليم، والاقتصاد، وإنما العيب هو في الوقوف عندما كان قائما، كأنما هو الأزل الذي لا يبيد.
لقد ارتسمت حقائق الأشياء أمام أفلاطون صورا سماوية لا تتبدل ولا تتغير، وعلى الأشياء في دنيا الطبيعة والواقع أن تقترب من تلك النماذج ما استطاعت. كذلك ارتسمت حقائق الأشياء أمام أرسطو أجناسا وأنواعا، لكل منها تعريف ثابت ساكن أزلي أبدي، يضعه حيث هو من بقية الأشياء، لكن حقائق الأشياء لا تثبت هكذا ولا تستقر، إلا حين تجمد أوضاع الحياة على حالة هادئة ساكنة يرضى عنها الإنسان، أما حين يزول عن الإنسان هذا الرضا، ويهم بالانتقال إلى حالة أخرى، فعندئذ تكون حقيقة الكائنات أنها تتغير، وبخاصة الإنسان، ولا يعيب الإنسان إذ هو في مرحلة التغير، مرحلة التحول، مرحلة السفر، أن تهتز القيم وترتج المعايير، بل العيب هو ألا ترتج هذه وألا تهتز تلك، فلا ينبغي أن تكون لشيء أو لفكرة أو لوضع أو لنظام حصانة تصونه من النقد والتجريح. إن كل الأشياء والأفكار والأوضاع والنظم تريد أن تتغير وتتجدد، فكيف يتم لها ما تريده إذا لم نقع على أوجه النقص فيها، ننقده ونجرحه لكي تتكشف حقيقته وتتعرى؟
إن الحكم على المستقبل قياسا على الماضي لا يجوز إلا في حالات الثبات والاطراد، أما في حالات التحول، فبحكم الفرض نفسه - والفرض هنا هو أننا «نتحول» - لن يجيء المستقبل على صورة الماضي وغراره، وإذن فلا يحق لأحد أن يحكم بالذي كان على الذي سوف يكون. بعبارة أوضح: لا يجوز اليوم للتقاليد أن تكون حكما يبين الصواب والخطأ، «فالتقليد» هو محاكاة الكائن لما كان، ولو جرت هذه المحاكاة لجاء غدنا كأمسنا، ولم يكن ذلك ليستوجب العجب لو كنا في حالة مستقرة من تاريخنا، أما ونحن «نتحول»، فمحال لغدنا أن يحاكي أمسنا، فلئن كان الاطراد في الجماعات المستقرة هو الأصل، والتغير هو الشذوذ، ففي مرحلة التحول ينعكس الموقف ليصبح التغير الدائم الدائب هو الأصل، والثبات المطرد هو الشذوذ.
في الحياة المستقرة يفيد الشبان من خبرة الشيوخ؛ ومن ثم فواجبهم الخلقي هو في توقير الشيوخ واحترام ما يدلون به من رأي؛ لأنه رأي الخبرة، والخبرة هي صورة الماضي، والمستقبل سوف يجيء على غرار الماضي؛ وإذن ففي رأي الشيوخ إضاءة وهداية. وأما في الحياة المتحولة، ففي كل لحظة جديد لا يعرفه الشيوخ، ولم تعد خبراتهم بالماضي لتفيد حتى وإن أمتعتنا بذكرياتها. إن من يطرد معه سير الحياة يستطيع أن يتعلم الدرس من الماضي ليفيد منه في المستقبل؛ ومن هنا كان يقال إن قادة الجيوش وهم يعدون لحرب آتية بمثابة من يعدون العدة لحرب وقعت بالفعل، توقعا منهم أن الموقعة الآتية ستكون كالموقعة الماضية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رجال الاقتصاد، كانوا وهم يفكرون في مواقف الغد، بمثابة من يحلون أزمات الأمس، افتراضا منهم بأن قوانين الاقتصاد التي تحكمت أمس هي التي ستتحكم غدا ... وذلك كله مفهوم ومقبول في حياة ثبتت أوضاعها واستقرت، أما في حياة «متحولة» فلا قياس لغد على أمس، لأنه لن يكون غد كأمس.
مفتاح الصواب اليوم هو أن نبدأ بهضم هذه الفكرة هضما جيدا، فكرة أننا في تحول، وإذن فنحن في تغير، وإذن فلا حكم لماض على آت، مفتاح الصواب اليوم هو أن ننظر إلى حالة التحول هذه من الداخل، لنعيشها ونعانيها. انظر إلى الفارق البعيد بين شجرة الورد وهي تعتمل من باطنها، بكل أليافها وقشورها، وبكل جذوعها وأوراقها؛ لكي تخلق آخر الأمر وردة، تكون ثمرة المعاناة. أقول: انظر إلى الفارق البعيد بين شجرة الورد وهي تعتمل وترهص لتلد وتثمر، وبين من يجيء عابرا على الطريق فيقطف الوردة جاهزة، يشمها ثم يضعها في عروة سترته! تلك هي حالنا مع ثمرات الحضارة في عصر التحول هذا، فالعالم المحتضر بحق، يعاني من الداخل مخاضا ليلد الثمرة، ونجيء نحن على طريق الحياة عابرين فنقطف الثمرة من خارج، دون أن تهتز في أبداننا خلية، نقطف الثمرة نظما للتعليم ونظما للحكم، ومذاهب وفلسفات وأفكارا، وسيارات وطيارات وفنا وأدبا وعلما، نقطف الثمرة ثم نتبجح، فإذا قال خالقو الثمرة إنهم يحسون في حياتهم قلقا لأنها حياة متحولة زعمنا - على أقلام كتابنا - أننا نحن كذلك نحس قلقا مثل قلقهم؛ لأننا في تحول مثل تحولهم. هم هناك يجرعون المر، ونحن هنا نقرأ تركيبة هذا المر كما فصلت عناصرها على ظاهر الزجاجة من خارج ... وأقول إن مفتاح العيش في عصرنا ومعه، هو أن ندرك من الأعماق، ما معنى أنه عصر للتحول، ولن يتم لنا هذا الإدراك واضحا إلا إذا عرفنا أولا: تحول من ماذا؟ •••
في البدء كان الكلمة. هذا صحيح، لكن هل تكون الكلمة في الوسط وفي النهاية كذلك؟ ذلك هو السؤال.
كانت «الكلمة» - في البدء - هي كل ما هنالك، هي الفكرة، وهي الثقافة، وهي المعرفة، وهي المهارة، بل كانت «الكلمة» هي التي ترفع عارفها إلى مكان الصدارة، وتخفض جاهلها إلى الدرجات الدنيا من سلم المجتمع، وارتبطت الكلمة بالكهانة، وبالقداسة، وبالوساطة بين الإنسان والله، فمن قرأها ومن كتبها كانت له قوة السحر في خلق الأشياء وتبديلها وإعدامها، فما على الكاهن الساحر إلا أن يقرأ كلاما أو أن يكتب كلاما، لتنفتح له أبواب السماء، وليشفي المرضى، وليفتك بالعدو، ولتربح التجارة، ويسلم المسافر، وينتصر المحارب. كلام ينط ق به القادر على الكلام أو يكتبه، كان هو الكفيل بتيسير العسير وتذليل الصعاب وبلوغ الهدف.
ولم يكن ذلك غريبا؛ فالكلمة - أعني الرمز إلى الشيء بعلامة تنوب عنه وتغني عن حضوره - كانت هي الحد الفاصل بين الحيوان والإنسان. لقد ظل الحيوان حيوانا «أعجم»، فلما زالت برموز اللغة عجمته ارتقى إلى منزلة الإنسان. التطور من الحيوانية إلى الآدمية قد تحقق عندما نطق الحيوان باللفظ الرامز فصار بالنطق إنسانا، الإنسان هو الحيوان، والناطق هو المفكر، إذ لم يكن فكر إلا بنطق، ولم يزد الأمر في جوهره كثيرا عندما أضيفت الكتابة إلى النطق صورة أخرى لعملية الرمز باللفظ إلى دنيا الحقائق. أقسم الله - جل وعلا - بالقلم، وبما يسطر القلم. أقسم بهذه القدرة العجيبة التي أبرزت الإنسان من دنيا الحيوان ليصبح سيدها ومسخرها، أعني قدرة الإنسان على الكلمة ينطقها أولا، ويسطرها بالقلم كتابة بعد أن تحضر.
لبث مجرد النطق بالكلام كفيلا أن يجعل من الحيوان إنسانا، حتى ظهرت الكتابة وظهرت معه - بالطبع - القراءة، فلا قراءة إلا لمكتوب، ولا كتابة إلا لما يحتمل أن يقرأ. وعندئذ اختصت قلة قليلة من الناس بهذا الامتياز العظيم، وأصبح القارئ الكاتب بين الناس ذا قدرة يفعل بها المعجزات، هو وحده القادر على مخاطبة السماء، يخط الطلاسم فينزل المطر بعد جفاف ويهدأ البركان بعد ثورة.
نامعلوم صفحہ