ومنها: قولهم باستحالة رؤية الله عز وجل بالأبصار، وزعموا أنه لا يرى نفسه، ولا يراه غيره. واختلفوا فيه: هل هو راء لغيره أم لا؟ فأجازه قوم منهم، وأباه قوم آخرون منهم.
ومنها: اتفاقهم على القول بحدوث كلام الله عز وجل، وحدوث أمره ونهيه وخبره، وكلهم يزعمون أن كلام الله عز وجل حادث، وأكثرهم اليوم يسمون كلامه مخلوقا.
ومنها: قولهم جميعا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وزعموا أن الناس هم الذين يقدرون على أكسابهم، وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم، ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع وتقدير، ولأجل هذا القول سماهم المسلمون «قدرية».
ومنها: دعواهم في الفاسق من أمة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين، وهي أنه فاسق، لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سماهم المسلمون «معتزلة»؛ لاعتزالهم قول الأمة بأسرها.
هذا ما يقوله البغدادي عن مواضع الاتفاق التي جمعت فرق المعتزلة في جماعة واحدة. وإنه ليجدر بنا قبل ترك هذا السياق أن نذكر نقطة فرعية في تعليل اسم «المعتزلة»، فلئن كان البغدادي يعزو هذه التسمية إلى كون هذه الجماعة قد «اعتزلت قول الأمة بأسرها» حين رأت رأيها في الفاسق بأنه لا هو مؤمن ولا كافر، فللشهرستاني (في كتابه «الملل والنحل») تعليل آخر هو أكثر شيوعا بين الدارسين، وهو أنهم سموا «بالمعتزلة» لقول الحسن البصري، وقد كان يجلس في حلقته من الجامع، وبين تلاميذه المحيطين به عندئذ واصل بن عطاء ، ثم جاء من يسأل عن الحكم في الفاسق أمؤمن هو أم كافر؟ فتصدى واصل للإجابة بأنه يكون في منزلة بين المنزلتين، ولم يوافق الحسن البصري على هذا الرأي، فانتقل واصل بن عطاء - مع مؤيديه - وجلس وحده على مبعدة، فقال الحسن البصري: «اعتزل عنا واصل.» ومن هنا سمي من تبعوا هذا الخط الفكري الذي بدأه واصل «بالمعتزلة». وهناك تعليل ثالث ذكره النوبختي (في كتابه «فرق الشيعة»)، وهو أن اسم المعتزلة إنما أطلق على عدد من الصحابة «اعتزلوا» عن الإمام علي؛ بمعنى أنهم حايدوا بينه وبين معارضيه، فلا هم حاربوه ولا هم حاربوا معه.
ونعود إلى المعتزلة بالمعنى الأشيع، لنوجز القول في مذهبهم - وقد أسلفنا تلخيص البغدادي لأهم أركانه المتفق عليها بينهم - ثم لنشير إلى الوجه الذي نراه نافعا لنا في عصرنا الراهن، فيمكن القول بأن مذهبهم يدور حول محورين (وقد قال ذلك هنري كوربان في كتابه الجيد «تاريخ الفلسفة الإسلامية») هما: مبدأ التوحيد بالنسبة لله تعالى، ومبدأ حرية الاختيار بالنسبة للإنسان. وأما «التوحيد» - كما نظروا إليه - فهو بمثابة الرد على مظاهر التثليث في العقيدة المسيحية؛ وذلك لأن المعتزلة ينفون عن الجوهر الإلهي كل صفة، وهم ينفون عن الصفات (الإلهية) كل حقيقة إيجابية متميزة عن الجوهر الواحد، فلو كان «العلم» الإلهي - مثلا - أو «القدرة» أو «الكلام» صفة ذات كيان متميز مستقل، لحدث تعدد، ولم يعد الجوهر الإلهي «واحدا»، ولقد نتج عن موقفهم هذا - فيما نتج - تأكيدهم على أن القرآن «مخلوق» وأنه ليس «بالقديم»، أي أن القرآن حادث، له مكان وزمان نزل فيهما على النبي عليه السلام، ولو قيل إن القرآن هو كلام الله القديم، الذي ظهر في الزمان على الصورة التي نزل بها، حين نزل باللغة العربية، أو قل إن كلام الله قديم بمعناه حادث بلفظه، لو قيل ذلك، كان أشبه بالتجسد في العقيدة المسيحية، حين يقول أصحاب هذه العقيدة بأن المسيح عليه السلام هو «كلمة» الله القديمة، وقد ظهرت في مجرى الزمن على صورة إنسان من البشر.
أما التوحيد كما يراه المعتزلة فهو مطلق وخالص، لا يتكثر بتكثر صفاته، ولا يرى بالأبصار، شأن كل تجريد مطلق خالص.
والمبدأ الثاني عندهم هو حرية الاختيار بالنسبة للإنسان، ويترتب على ذلك مبدأ العدل الإلهي - وكثيرا ما قال المعتزلة عن أنفسهم إنهم أهل توحيد وعدل؛ إبرازا لهذين الجانبين في مذهبهم - ومقتضى العدل الإلهي عندهم أن يثاب الإنسان وأن يعاقب على أفعاله، فما دام الإنسان حرا في اختياره، فحريته هذه لن يكون لها معنى إلا إذا كان مسئولا عما يفعل، ثم لا يكون لهذه المسئولية معنى إلا إذا ترتب الجزاء المناسب على العمل، أما أن يقترف الإنسان الإثم باختياره فنقول إن الله تعالى قد يغفر له إثمه، أو أن يعمل الإنسان العمل الصالح فنقول إن الله تعالى قد يشاء له من الجزاء شيئا غير الذي نراه متفقا مع العدل، فأمور لا يقبلها المعتزلة؛ لأنهم يرونها مناقضة لفكرة العدل الإلهي، ثم يترتب على صفة العدل هذه مبدأ من مبادئهم، هو مبدأ الوعد والوعيد، فالعدل الإلهي يقتضي عندهم ألا يتساوى المؤمن والكافر في الجزاء، فقد وعد الله تعالى المؤمنين بأشياء، وتوعد الكافرين بأشياء، فلا يعقل ألا يكون الله عند وعده ووعيده. على أن طرفي الكفر والإيمان يمكن أن تتوسطهما درجات من العصيان، فليس كل ذي معصية كافرا، بل يقولون إنه في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا هو بالكافر الذي تنكر لأركان الدين كلها، ولا هو بالمؤمن الذي أطاع تعاليم الدين كلها.
فهذه - إذن - أربعة أصول في مذهبهم: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، يضاف إليها أصل خامس يعالجون به موقف الفرد من المجتمع، هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يكفي أن تؤمن - من حيث أنت فرد واحد - بالعدل، وبالحرية، بل لا بد من إشاعتهما في المجتمع الذي تعيش فيه عضوا مواطنا؛ لتتحقق الظروف التي تمكن سائر الأفراد من أن يكونوا أحرارا في اختيارهم لما يعملون، وفي أن يتحملوا تبعات أفعالهم التي اختاروا فعلها وهم أحرار الإرادة.
إنه برغم الاختلافات البعيدة بين مضمونات هذه الألفاظ؛ ألفاظ العدل والحرية والأمر بالمعروف، عندما يستخدمها المعتزلة، عنها حين نستخدمها نحن اليوم في سياق الحياة الفكرية المعاصرة، فما زلت أرى أنه لو أراد أبناء عصرنا أن يجدوا عند الأقدمين خيطا فكريا ليمسكوا بطرفه فيكونوا على صلة موصولة بشيء من تراثهم، فذلك هو الوقفة المعتزلية من المشكلات القائمة؛ فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى سند من التراث يسندنا في الدعوة إلى حرية الفرد في فكره وسلوكه، وفي حمله التبعة عن نفسه دون أن يحمل عنه هذه التبعة ولي أو حاكم، ونحن أحوج ما نكون إلى سند من التراث يسندنا في الدعوة إلى مشاركة الفرد في حياة المجتمع مشاركة فعالة مسئولة، لعلنا نقضي على هذه اللامبالاة العجيبة وهذه السلبية وهذا الاستهتار، الذي يميل بالفرد إلى أن ينحصر في أهدافه الفردية، حتى لو كان بعد ذلك طوفان يغرق الأرض وما عليها. وإنا لنلحظ هنا تناقضا يلفت النظر، فبينما الفرد من أفرادنا اليوم يوشك أن يلقي بزمام أموره الاجتماعية والسياسية كلها إلى غيره يسيرها له، فتنعدم حريته الفردية انعداما شبه تام، بحيث يمكن أن يستيقظ ذات صباح فإذا الصحف تعلن له تغيرات أساسية في قواعد عيشه وقوانينها، وهو لم يكن يدري عشية الأمس من أمر تلك التغيرات مقدار ذرة، ثم لا يأخذه من ذلك العجب؛ لأنه شيء مألوف في حياته المعتادة، تراه يدير حياته من ناحية أخرى على فرديته كأنما الدنيا لم يعد فيها من الناس سواه، وإنه لعسير علينا أن نقول أيهما هو الأصل عندنا، تقرير الذات المفردة أم إنكارها؟ ومن أجل هذا أعتقد أن إحياء التراث المعتزلي في صورة جديدة قد ينفع في معالجة هذه المفارقة التي تمزق فينا وحدة النظر.
نامعلوم صفحہ