وتفرعت من مشكلة الحرية مشكلات لها خطرها وعمق أثرها في حياتنا العربية المعاصرة، منها حرية المرأة، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس، ومع ذلك فقد وجدت نفسها في مجالات العرف والتقليد والتشريع حبيسة أوضاع وضعت لسالفاتها من بنات «الحريم» و«الجواري» و«الغانيات». لقد أصبحت المرأة العربية اليوم طبيبة ومهندسة ومحاسبة ومدرسة في مختلف مدارج التعليم من المدارس الأولية فصاعدا إلى كراسي الأستاذية في الجامعات، أصبحت المرأة العربية اليوم عالمة في معامل الفيزياء النووية وكيماوية أمام مخابير التركيب والتحليل، وقانونية وممثلة للشعب في مجالس النواب، ووزيرة مع الوزراء في قيادة أمتها. نعم، أصبحت المرأة العربية اليوم ثم أصبحت وأصبحت، فهل يعقل أن يقال لها - وهذا هو كيانها الجديد - ما كان يقال لسالفتها من قوامة الرجال عليها بالمعنى القديم، ومن حق الرجل في أمثالها العاملات العالمات المثقفات القائدات، مثنى منهن وثلاث ورباع؟ هذه إذن إحدى المشكلات الفرعية التي تفرعت من المشكلة الأم؛ مشكلة الحرية بمعناها المطلق العام في دنيا السياسة والاجتماع. وإن امرأة عصرنا لتجد نفسها في أزمة حادة، نلمسها في كل من نعرفهن من ذوات القربى ومن الزميلات في مجال العلم والعمل؛ لأنها تجد نفسها مشدودة بين قطبين نقيضين، فمن هنا تقاليد تضعها موضعا لم يعد يصلح لها، ومن هناك مشاركة في نشاط العصر وثقافته تجذبها جذبا إلى أن تقف مع الرجل الزوج الأخ والزميل في صف واحد، فأين عساها أن تجد منافذ الخلاص؟ إن ذلك لن يكون في تراث عربي قديم، مهما نشط المتحذلقون في جمع قول من هنا وقول من هناك، وحكمة من هنا وحكمة من هناك، ومثل من هنا ومثل من هناك، ليدلوا بذلك على ما كان للمرأة العربية من مكانة يمكن أن تكون مطمعا لزميلتها المعاصرة، ومرة أخرى لن نجد للمشكلة حلولها إلا في حضارة الغرب الحديث.
ومن مشكلاتنا الكبرى كذلك - إلى جانب مشكلة الحرية بكل فروعها - مشكلة الدخول في عصر العلم والصناعة، لقد بدأ العالم كله عصرا جديدا أصبحت المعرفة فيه من جنس يختلف عما كان يسميه آباؤنا «معرفة» اختلاف الأبيض عن الأسود، وسأخصص فصلا من فصول هذا الكتاب لشرح الانتقال الانقلابي العميق الذي انتقل به الإنسان المعاصر - في البلاد المتقدمة علما وتكنية وصناعة - من عهود طويلة كانت «معرفته» خلالها كلاما في كلام في كلام - كما يقول هاملت - إلى عصره هذا الذي أصبحت فيه «المعرفة» التي تستحق هذه التسمية أجهزة بالغة الدقة لقياس الانتقال والسرعة وضبط الاتجاهات، ولنقل الصوت والضوء، ولتحريك الطائرات والغائصات والصواريخ. واختصارا، قد انتقل إنسان هذا العصر من معرفة «اللفظ» إلى معرفة «الأداء».
لم يكن «العالم» في العهود السابقة يبلغ من علمه حدا يجاوز إحسانه للكتابة والقراءة، ولا يغير من هذه الحقيقة البسيطة أن يكون الموضوع المكتوب أو المقروء فلسفة عميقة أو أدبا رائعا، فلا تكاد تجد فرقا ظاهرا من حيث القدرة على تغيير وجه الأرض بحضارة جديدة، بين تلاميذ المدارس الابتدائية أو الثانوية وبين كبار الفلاسفة والأدباء، فكلا الفريقين على حد سواء يكتب ويقرأ، لكن لا تحركت طائرة بتلك الكتابة والقراءة ولا غاصت غائصة ولا نطق مذياع.
وإن هذه التفرقة بين نوعي المعرفة يصدق علينا نحن العرب ألف مرة إذا صدق على شعوب أخرى مرة واحدة؛ لأن عبقرية العرب كانت في لسانها، لم تكن اللغة في ثقافة العرب «أداة» للثقافة، بل كان هي الثقافة نفسها، فأنت مثقف بلغ القمة إذا أنت أجدت الإلمام باللغة في مفرداتها ومترادفاتها وفي نحوها وصرفها وفي رواية نثرها وشعرها.
فإذا جاء علينا عصر يركز في أجهزة وأنابيب ومعامل ومصانع، أسقط في أيدينا؛ لأن بضاعتنا شعر ونثر ونحو وصرف ومفردات لغوية ومترادفات، وهي كلها لا تقوى على ضبط إبرة في جهاز.
والمشكلة الكبرى الآن هي كيف نتحول من ثقافة اللفظ إلى ثقافة العلم والتكنية والصناعة؟ واضح أن ذلك لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، وأن مصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء وما استطعنا من القبول وتمثل ما قبلناه.
ومن مشكلاتنا التي نصبح معها ونمسي، والتي تشغل قلوبنا وعقولنا مع القيام والقعود، وخلال العمل وإبان الفراغ، مشكلة الوحدة العربية والقومية العربية وما يتهددها من عوامل التسلط والعنصرية متمثلة في الغزو الصهيوني. لقد تعرض العرب من قبل لغارات المغول وغزوات التتار، لكن الغزو الصهيوني أفدح خطرا؛ لأنه غزو جاء ليقيم وليكتسح وليتسع وليضرب بجذوره في الأرض، ولأنه غزو تناصره دول لا يبدو في الأفق ما يوحي أقل إيحاء بأنها سوف تهن وتضعف في وقت قريب. وإنه لخطر مزدوج؛ لأنه دهمنا ونحن على غير اعتصام بحبل القومية الواحدة ، والنظرة السياسية الواحدة، والرأي الواحد فيما يختص بالهدف والمصير، فترانا نعترك بعضنا مع بعض في ساحات الكلام، ثم نعترك مع العدو المهاجم في ساحات القتال بالسلاح. وإلى هذه الساعة التي تكتب فيها هذه السطور، لا معركة الكلام انتهت بأصحابها إلى إقناع واقتناع، ولا معركة السلاح انتهت بنا مع العدو إلى موقف نطمئن له ونستريح.
وفي غمرة هاتين المعركتين ترتفع أصوات المشفقين على الأمة العربية من مصير قد ينتهي إلى ما يشبه الدمار السياسي والحضاري، وهو دمار لا ينتقص من حدته أننا موجودون بالأبدان وبالتكاثر، ترتفع أصوات هؤلاء المشفقين بأن طريق الخلاص أن نستمسك بالدين وبالعروبة وبغيرهما من المفهومات التي من أجل توضيحها كتب هذا الكتاب.
فسؤالنا المطروح الذي نبحث له عن جواب، هو: على أي نحو يكون التمسك بتراثنا الديني والثقافي العربي ممسكا لنا من الانهيار والهزيمة والدمار؟ بديهي أن ذلك لا يكون بأن نطمئن إلى وجود الكتب المحتوية على هذا التراث فوق رفوف المكتبات، سواء أكانت موجودة هناك مخطوطة أو مطبوعة طباعة قديمة أو طباعة محققة حديثة، وإنما الوجود الذي نعنيه والذي يرجو به الداعون إلى إحياء تراثنا أن يجيء هذا الإحياء وسيلة إنقاذ مما نحن فيه، وطريقة حياة جديدة نحياها في مستقبل قريب أو بعيد، هو ذلك الوجود الذي تتحول به الثقافة المعينة إلى وجهة نظر حية تدفع صاحبها في مسالك الحياة اليومية العملية. إنه ما من خطوة يخطوها الإنسان في حياته إلا ووراءها خلفية فكرية في رأسه، استمدها من التقاليد بالتربية أو من الدراسة بالتعلم، أو استمدها من التأمل النظري الذي يتحول معه إلى عمل وتطبيق. إنك إذا غيرت مجموعة الأفكار المجتمعة في رأس آدمي تغير بالتالي سلوك صاحبه، وما «غسل الدماغ» الذي يتحدثون عنه اليوم إلا تغيير أفكار بأفكار في رءوس الناس، وما هدف الدعاوى السياسية والمذهبية والتجارية إلا زرع أفكار معينة في رءوس الخاضعين لها، فنضمن بذلك أن يتغير سلوكهم.
وإذن فسؤالنا الأساسي المطروح هو: أي الأفكار التي يريدوننا أن نبتعثها من تراث الأسلاف، يمكن أن نعلق به الرجاء ؟ وهل صحيح أننا واجدون في أفكار أسلافنا بالأمس ما يمكن أن ينير أمامنا الطريق؟ لقد كانت أفكارهم وليدة مشكلاتهم، فهل تكون مشكلاتنا هي نفسها مشكلاتهم، بحيث نهتدي بحكمتهم في اقتراح الحلول؟ •••
نامعلوم صفحہ