22
وأخيرا فربما استطاعت الشروح السابقة لنظرية أرسطو عن الاستبداد والطغيان، بجانب الإشارة إلى مراحل تطور المصطلحين في تاريخ الفكر السياسي الغربي والتعليقات عليها، أن تلقي شيئا من الضوء على موضوعنا الأساسي، وهو استبداد جلجاميش أو طغيانه بوصفه «نموذجا أو نمطا أوليا» للمستبد الشرقي في هذه المنطقة، التي ابتليت بنماذج وأنماط فرعية لا حصر لها من الطغاة والمستبدين. ولا بد من الاحتراس من محاذير المقارنة بين دلالة مصطلح نشأ في سياق حضاري وديني معين، ودلالته في سياق آخر بعيد عنه في زمانه ومكانه «وبناه» الثقافية والاجتماعية، مع العلم بأن الكلام يدور في دائرة الترجيح البعيدة كل البعد عن التزمت والقطع بالرأي، كما أن مفهوم الاستبداد والطغيان نفسه يعاني من ازدواجية مراوغة لم يستطع التخلص منه تماما في تراث الفكر السياسي بوجه عام.
نبدأ بالسؤال: هل يمكن أن نصف جلجاميش بأنه ملك حكم شعبه في أوروك أو تحكم فيه تحكم السيد في عبيده؟ هل رضي الناس بذلك لأنهم عبيد بالفطرة والطبيعة؟ وهل خلت العلاقة بينهم وبينه - كما يؤكد معظم المنظرين للاستبداد والطغيان - من كل علاقة بشرية توحي بوجود الحب والحرية واحترام العقل والطبيعة الإنسانية؟
23
الواقع أن الرد على هذه الأسئلة وأمثالها متضمن في الصفحات السابقة؛ فقد تحدثنا عن مظاهر الديمقراطية البدائية أو الأولية عند السومريين، وعن توجه جلجاميش بالخطاب إلى شيوخ أوروك وشبابها في مناسبات ومواقف عديدة، وتهليل الشعب له لانتصاره في مغامرات كان يعرف أو يحس على الأقل بأنه قام بها لتحقيق مصلحة عامة (مثل جلب الخشب الذي تحتاج إليه بلاده)، بجانب المصلحة الخاصة، وهي تحقيق المجد والشهرة وخلود الاسم. وكل هذا يؤكد وجود «الآخر» في حياة جلجاميش بصورة من الصور مهما تكن ضئيلة، وعدم إلغائه أو نفيه كما هو الحال في علاقة السيد بعبيده. ثم إن طاعة السومري والسامي القديم لحاكمه الديني والدنيوي، المكلف من قبل الآلهة بتنفيذ القوانين والألواح المنزلة من السماء، تستبعد أن تكون هي طاعة العبد لسيده الصادرة عن الخوف (الملازم لكل استبداد ممكن!) وترجح قيامها على أساس الإيمان المستقر بضرورة تقديم فروض الطاعة للآلهة في السماء، ولحكامهم وملوكهم على الأرض وفي مدن البشر، وإن لم يمنع هذا، كما تشهد نصوص الحكمة البابلية، من ارتفاع بعض الأصوات المحتجة أو المتمردة بالتساؤل والشك في جدوى الحكمة والتقدير الإلهي مع استفحال الشر والظلم في العالم، واقتراب أصحابها من هاوية التجديف، ثم تراجعهم عنها قبل السقوط فيها (ومعظم هذه النصوص يرجع للألف الأولى ق.م).
ولا بد في النهاية من النظر إلى مشكلة الحرية في إطار الحضارة البابلية - وفي غيرها من الحضارات العريقة في الشرق الأدنى والأقصى - نظرة مختلفة عن معانيها المجردة وتحققاتها المجسدة في الحضارة اليونانية - الرومانية - المسيحية، بحيث لا تدينها بصورة قليلة على أساس المقاييس العقلية ومبادئ الحرية الشخصية، التي تأصلت لأول مرة في فترة مزدهرة وقصيرة من حياة الديمقراطية في ظل مجتمع دولة المدينة. ولا ننسى أن وراء النظرة الغربية إلى الحضارة والإنسان في الشرق تاريخا طويلا من الحروب الطاحنة والعدوان الشرس، منذ الحروب الإغريقية-الفارسية إلى الصدام مع المسلمين، من عصر الفتوح إلى الحروب الصليبية، حتى العثمانيين والحملات الاستعمارية المتتابعة على الشرق. أضف إلى هذا أن طاعة الشرقي والسامي بوجه خاص لحكامه الإلهيين تختلف اختلافا جوهريا عن طاعة العبد لسيده؛ لأنها لا تنبعث من الخوف والرعب، بل من الرهبة والإجلال، كما أن الكلام عن طبيعة عبودية الشرقي يدين القائل به قبل كل شيء، ويدمغه بالجهل والتعصب وضيق الأفق، فوق أنه لم يعدم المنصفين الذين ما فتئوا يتصدون له على الأقل منذ عصر التنوير إلى اليوم.
24
لم استجار إذن شعب أوروك بآلهته من جلجاميش؟
إن القراءة المتأنية للملحمة - بجانب ما ذكرناه من قبل - تؤكد أن شكواهم كانت تعبيرا عن سخطهم على إساءة استخدامه للسلطة المخولة له من قبل الآلهة وشرائعهم المنزلة، وانسياقه وراء أهوائه ونزواته بما يتنافى مع هذه الشرائع.
ومعنى هذا أن الشكوى لم تكن تعبيرا عن رفضهم لتلك السلطة، ولا لشخص جلجاميش نفسه - بدليل أنهم يشكونه ويمجدونه في نفس واحد كما سبق القول! - وإنما «فاض بهم الكيل» - كما نقول اليوم - من مظالمه التي لا يقرها الآلهة الذين يسارعون إلى الاستجابة لمطلبهم؛ أي من استبداده بالمعنى السيئ للكلمة، أو بالأحرى من طغيانه.
نامعلوم صفحہ