52

ويضرب شيلر أمثلة بسيطة لهذا الفعل المختلف تمام الاختلاف عن الأفعال التي يقوم بها العقل العملي أو التقني من ناحية، أو يمارسها التفكير الاستدلالي غير المباشر من ناحية أخرى. فأنا أشعر مثلا بألم شديد في ذراعي، وتقرير مصدر هذا الألم أو علاجه والتخلص منه، أمر تقوم به العلوم الوضعية، كالفسيولوجيا والطب وعلم النفس، ولكنني أستطيع أن أقف من هذا الألم موقفا تأمليا عندما أعتبر تجربتي له مجرد مثل على ماهية موضوعية أشمل منها وأعم، عندما أقول إن هذا العالم في صميمه ألم، وإنه يقوم على العذاب والشر. عندئذ أطرح السؤال بطريقة أخرى عن: ما هو الألم في ذاته، وكيف تكون طبيعة «أصل الأشياء» التي تجعل مثل هذا أمرا ممكنا. والحكاية المأثورة عن الأمير بوذا، الذي حبسه أبوه سنوات طويلة في قصره؛ لكي يظل بعيدا عن كل ما هو سلبي وشرير، ثم شاءت الصدفة أن يتابع من شرفة القصر مرور إنسان فقير، ثم إنسان شديد المرض، ثم جنازة ميت، فأدى به التأمل لهذه الحالات الثلاث أن يجعلها مجرد أمثلة عارضة للماهية الحقيقية التي يقوم عليها وجود هذا العالم، وهي «الألم»، وأن يدعو بعد ذلك إلى فلسفته الروحية القائمة على الخلاص من الألم عن طريق إيقاف الرغبات وتعطيل الشهوات، بل نفي إرادة الحياة نفسها كما فعل شوبنهور في فلسفته المتأثرة به. كان من الطبيعي - كما سبق القول - أن يلجأ شيلر، وهو بصدد تحديد ماهية الإنسان ووعيه الذاتي، إلى كل ما توفره له العلوم الحديثة من معلومات. غير أن محاولاته الشاقة لإقامة بناء متدرج المستويات للعالم الطبيعي والعالم النفسي، يستقل فيه الإنسان عن بقية الكائنات بالعقل والوعي الذاتي، لا تمثل في الحقيقة الشيء المميز للأنثروبولوجيا عنده. إن ما يميزها حقا عن غيرها هو تلك البنية الثنائية التي تتألف من القطبين المتعارضين أو المتضادين، اللذين يكونان تلك البنية الموحدة التي لا ينفصم فيها قطب منهما عن الآخر: الدافع الذي يشعر الإنسان بالواقع من خلال تجربة المقاومة، والعقل الذي يتيح له التوصل للمعارف المختلفة، من خلال التجريد الماهوي للأشياء، والرؤية الحدسية للأفكار والماهيات المستخلصة منها. وينتج عن هذا في تقدير شيلر ألا يعود الإنسان كائنا مستقرا في ذاته أو مكتفيا بها، ولا تاجا للخليفة وللوجود كله كما يذهب القول اللاهوتي الشائع، ولكنه بالأحرى كائن «بيني» أو «معبر» في حالة صيرورة متصلة نحو ما يعلو على ذاته وعلى العالم بأسره؛ أي نحو المطلق وأساس الوجود وأصله. بهذه المثابة ينبغي التفكير فيه على الدوام: «إن الإنسان وحده، من حيث هو شخص، هو الذي يستطيع بوصفه كائنا حيا أن يحلق عاليا فوق ذاته، ومن مركز يمكن القول بأنه يقع وراء عالم الزمان والمكان يستطيع أن يجعل من كل شيء، بما في ذلك ذاته، موضوعا لمعرفته فوق ذاته، وفوق العالم جميعا. وبهذا أيضا يكتسب القدرة على الدعابة والسخرية والمرح، التي تنطوي دائما على نوع من الارتفاع أو العلو فوق الوجود العادي المألوف. أما هذا المركز الذي يحقق الإنسان من خلاله تلك الأفعال التي تمكنه من أن يجعل جسده ونفسه، بل أن يحيل العالم كله بتراثه المكاني والزماني إلى موضوعات لتفكيره، هذا المركز نفسه لا يمكن أن يكون جزءا من هذا العالم؛ أي لا يمكن أن يكون له «أين» ولا «متى»؛ إذ يستحيل أن يوجد إلا في الأساس الأعلى للوجود كله.»

22

هكذا يؤكد شيلر أن العقل نفسه لا يمكن أن «يموضع» أو يكون موضوعا؛ فوجوده قائم على التحقيق الحر لأفعاله؛ ومن ثم لا يكون «شخصا» إلا في أفعاله - المعرفية والقيمية والفكرية - ومن خلال تحقيقه لها أو مشاركته بقية «الأشخاص» في تحقيقها في الواقع. وهكذا نصل أيضا إلى نتيجة كانت متضمنة في المراحل المبكرة من فلسفة شيلر، قبل أن تتحدد في مرحلتها الأخيرة بصورة جريئة ومؤكدة: لم تعد هناك عوالم فاصلة بين الإله المشخص في العقيدة المسيحية وبين الشخص الإنساني. لقد سبق له - أثناء الفترة التي انضوى فيها تحت مظلة الكنيسة الكاثوليكية، وأصبح من كبار الدعاة لها، والمعبرين عن رؤيتها الفلسفية والأخلاقية - سبق له أن عرف الإنسان نفسه بأنه «حركة» متجهة نحو الإله المشخص، واقتبس لتأملاته حول الإنسان عبارة القديس أوغسطين التي وردت في اعترافاته: «قلقا سيبقى قلبنا، حتى يجد الراحة فيك.» فقد عمد في هذه المرحلة المتأخرة إلى دمج الإله المسيحي المشخص داخل الإنسان أو في كيانه الباطن. لم يعد الإنسان إذن مجرد «معبر» أو كائن «بيني» يتحرك دائما على الطريق إلى ذلك الإله المشخص، كما سبق القول، بل أصبح هذا الإله في تقديره «صيرورة» متصلة تتحقق، وتبلغ الوعي بذاتها داخل الشخص الإنساني الفرد والتاريخ البشري العام (وهي فكرة تأثر فيها بغير شك بفلسفة اسبينوزا وهيجل، وربما بصوفية يعقوب بوهمه وغيره). وكان من الطبيعي أن يستنكر العالم الكاثوليكي تلك النتيجة التي انتهى إليها بعد انفصاله المفاجئ عن الكنيسة، وأن يرجح الجميع خيبة أملهم في فيلسوفهم السابق لأسباب واضطرابات شخصية ألمت بحياته. كانوا قد عقدوا عليه الأمل في تحقيق نوع من التناسق أو الوفاق بين العقيدة المسيحية عن الإله المشخص ، وبين مستجدات العصر الحديث في الفلسفة والعلم، وكان هو نفسه بفلسفته الشخصانية قد أتاح للكاثوليكية أن تتمسك بعقيدة الإله المسيحي المشخص كما تبلورت في اللاهوت المسيحي، وجعلها تشارك في الوقت نفسه في تيارات الفكر المعاصر، التي لا تلتزم بالضرورة بذلك التراث الوسيط. وكان شيلر قد رجع إلى صيغة لاهوتية مدرسية معروفة، ومقررة لدى الكاثوليكية ذات التوجه للتراث الوسيط، كما وقف ديكارت أب الفلسفة الحدثية وقفة طويلة عندها، وهي صيغة الخلق الإلهي المتصل

23

للعالم ورعايته، وحفظه في كل لحظة من خلال الروح أو العقل الأبدي، وكان هدفه من ذلك هو الربط بين تلك الصيغة وبين المذهب الكاثوليكي. لكن يبدو أن النقلة إلى تلك النتيجة التي أشرنا إليها، لم تحتج منه إلا إلى تغيير طفيف في منظور الرؤية لكي يقفز إلى ذلك الاعتقاد الذي أغضب الكنيسة، ويصور «الخلق المتصل» على صورة صيرورة مشتركة للعقل والعالم معا، ويصل إلى تلك النتيجة التي انتهى إليها وظل متمسكا بها في سنواته الأخيرة عن صيرورة الإله المسيحي المشخص داخل الشخص الإنساني الصائر أيضا على الدوام (وهي في تقديري فكرة مخيفة ومرفوضة من كل مؤمن بالواحد الأزلي الأبدي، المنزه عن التحول والتغير، والذي ليس كمثله شيء، فضلا عن أن المجتمع الكاثوليكي نفسه قد أدانها بشدة، واعتبرها عقيدة ضالة وخاطئة).

والواقع أن هذا التطور الخطر لم يفاجئ المتابعين لفلسفة شيلر وبحوثه، التي نشرها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى في الأخلاق والقيم. إننا نجد في هذه البحوث المتنوعة إشارات دالة على تصوره للإنسان، كما سبق القول، كحد أو «بين» أو «معبر» إلى الوجود والعقل الإلهي المطلق، بل على اعتبار أنه «ظهور إلهي» في تيار الحياة، وتجاوز أبدي للحياة فوق ذاتها، حتى وصلت المبالغة إلى حد القول بأنه - أي الإنسان - إله مصغر (أو ميكروثيوس). لم يكن عنده مجرد كائن يصلي لله، ويبحث عنه على الدوام، وإنما هو الصلاة نفسها أو التعبد ذاته، أو هو الكائن المجهول (س)، الذي لا يفتأ باحثا عن الله. ولعله في تلك المرحلة السابقة قد اقترب من التصوف وشعرائه الكبار في الشرق والغرب، عندما عثر على هذه الصورة المعبرة عن علاقة الإنسان بالله؛ فهو كما يقول: «هو البحر، والبشر هم الأنهار، والأنهار تشعر سلفا ومنذ أن تنحدر من المنبع بالبحر الذي تسيل نحوه.»

24

ثم يصل بنا شيلر إلى تحديد أدق للفكرة المتجذرة في شعوره وإحساسه بالحياة، التي تقوم - كما رأينا من قبل - على الصراع الدائم بين قطبي الدافع والعقل؛ فالأقوى في نظره، والأشد قربا من الواقع المباشر، ليس هو الأسمى؛ أي العقل، بل هو الأدنى؛ أي الدافع. أما العقل فهو بالقياس إليه ضعيف عاجز؛ أي إن الأصل أن يكون الأدنى هو الأقوى، «والأسمى» هو الأضعف. والعقل لا يكتسب القوة إلا عن طريق عمليات الإعلاء التي يقوم فيها بإضفاء المعنى والقيمة على الدافع، وتقديم الأبنية الفكرية إليه؛ حتى يتسنى له (أي للعقل) أن يحاول ترويض جموحه الشيطاني الأعمى، وقيادته وتوجيهه وتعقيله؛ لأن القيادة والتوجيه والإعلاء من صميم الأفعال التي يستطيع العقل وحده تحقيقها؛ لأنه هو قائل «لا» الدائم للحياة والواقع، وهو - كما سبق - هو مجرد الواقع من الواقعية. وعلى ضوء هذه الفكرة المحورية يفهم شيلر التاريخ بوصفه عمليات إعلاء مستمرة؛ أي إنه على الدوام تاريخ الصراع الدائر بين الدافع الحيوي الأعمى من ناحية، والعقل الفاعل والمقيم والمفكر والرافض أو النافي لواقعية الواقع من ناحية أخرى، مع العلم بأن كليهما مندمج في الآخر وملتحم به على الدوام. ولولا هذا الصراع الذي لا يتوقف بينهما ما تقوى العقل الضعيف العاجز من الأصل، بل ما استمر على حيويته وفعله الإعلائي الدائب عبر تاريخ الشخص المفرد، والتاريخ البشري العام. ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن حياة العقل وقوته هما في النهاية الهدف الأخير من وجودنا المتناهي، ومن كل حدث تاريخي متناه. هكذا يرتبط كل من التاريخ الشخصي البشري، وينفتح أحدهما على الآخر

25

عبر صراع الصيرورة الأبدي. وهكذا أيضا نجد في كتاباته ورسائله المتأخرة إلى حبيبته وزوجته السابقة، ما يؤكد - على الرغم من انفصاله عن المؤسسة الكنسية، التي ظل مؤمنا بدورها الكبير في الحفاظ على أعز ذكريات التراث المسيحي الغربي، والتي اعتبرها آخر الأساطير الكبرى في ذلك التراث - نجد ما يؤكد طمأنينة وعمق إيمانه ب «إلهه الخاص»، الذي يصير في داخله مع كل نبضة قلب، وكل نفس يدخل أو يخرج من صدره. وهو يتمسك بهذا الإله، ويترك له أمر رعايته وهدايته، ويستمد منه ثقته وإيمانه بانتصار الخير، وذلك كما سبق القول على الرغم من استنكار المؤسسة الدينية

نامعلوم صفحہ