46

أما نمط الشخصية التي تقابل هاتين القيمتين وتمثلهما، فهو شخصية البطل الذي يعطى له العالم الواقعي قبل كل شيء كعالم يشتبك معه ويقاومه، ويتصدى له هو وجماعة الأبطال من خلال المقاومة. وتتألف المنظومة الثالثة في سلم تراتب القيم من قيم «الجميل والقبيح، والحق والباطل، ومعرفة الحقيقة» (وهنا نتذكر المتعاليات الثلاثة القديمة، وهي الجمال والخير والحق ...) وكلها تتحقق في الشعور العقلي، وتجرب في الفرح والحزن. أما الأنماط الشخصية التي تتمثل فيها فهم الفنان والمشرع والفيلسوف. وأما شكل الجماعة التي تتطابق معها فهي الأمة.

وتأتي أخيرا إلى قمة هرم التراتيب القيمي الذي تتبعناه حتى الآن من قاعدته، فنجد قيم المقدس وغير المقدس، التي تتحقق في الحب الشخصي، وتجرب في حالتي السعادة واليأس. ومن الطبيعي أن يكون «القديس» هو الشخصية التي تتمثل فيها هذه القيمة العالية، وأن تكون الجماعة المطابقة لها هي الجماعة المؤمنة؛ «الكنيسة أو المسجد أو المعبد».

11

هكذا نكون قد تتبعنا القيم التي تكون نظام الحب في تربيتها من الأدنى إلى الأعلى، كما تعرفنا على نسبيتها واقتصار كل منها على مجال محدد. ومعنى هذا أن أسمى القيم تتعلق بمجال شديد الضيق، كما تقتصر على الوجود الشخصي أو المطلق وحده؛ وأن أدنى القيم يمكن أن تتعلق بكل ما هو موجود؛ وبذلك وصفناها مجازا بقاعدة الهرم، وبهذا أيضا نتحقق صورة البناء القيمي للعالم، في الإنسان وفي الجماعات الإنسانية على اختلاف أشكالها، كالدولة والأمة وجماعات المؤمنين

12 ... إلخ.

كما نتمثل أيضا في شتى العصور التاريخية. وتخلص من هذا كله إلى أن «نظام الحب» موجود داخل الإنسان وخارجه، وهذا هو الذي يجعل المشاركة ممكنة؛ ذلك لأن ما نسميه الوجدان، أو نصفه مجازا بأنه «قلب» الإنسان، ليس على الإطلاق عالما عشوائيا ومضطربا من المشاعر العمياء، التي تدخل وفق قواعد مصطنعة في علاقات ترابط أو تفكك مع معطيات نفسية أخرى، بل هو - أي الوجدان أو القلب - صورة مقابلة لكون يضم كل ما هو محبوب وممكن؛ أي إنه بهذا المعنى كون مصغر لعالم القيم. إن للقلب - كما قال باسكال - حججه أو أسبابه.

13

هذه القيم التي تحدثنا عنها لا تسبح في سماء عالم مثل أفلاطوني كما اتهمه بعض الناقد بسبب استخدامه لمصطلحات تذكر بالفيلسوف اليوناني الكبير، كالصور والنماذج والرؤية والمرئي والماهيات ... إلخ.

فالواقع أن شيلر يعتمد على مصدر جديد للمعرفة هو الشعور أو الإحساس، ثم على أساس هذا «القبلي المادي الانفعالي» فلسفة معارضة لفلسفة كانط الأخلاقية والصورية الصارمة. وهو من ناحية أخرى يعتبر أن الوجود الشخصي هو أعلى أشكال الوجود؛ فالأشخاص لا يقفون من القيم موقف التلقي السلبي، بحيث يهتدون بها أو يتوجهون في حياتهم على ضوئها، بل هم في الحقيقة «يملكونها» وينمون داخل أنظامها؛ وبذلك يجسدونها ويحققونها في التاريخ. هذا هو الذي يقصده شيلر عندما يؤكد أن أخلاقه وفلسفته تتضمنان أو تؤسسان شخصانية قيمة أو شخصانية أخلاقية. لقد طالما سأل الفلاسفة عن ماهية الإنسان، واختلفت إجاباتهم منذ العصور القديمة، لكن إجابة شيلر عن السؤال المحوري إجابة جديدة ومغايرة: الإنسان هو كائن الحب، وهو بذلك وقبل كل شيء شخص واحد ومستقل. وقد كان من الأمور الطبيعية والمعقولة أن يستمد شيلر مذهبه عن أولوية الحب ويطوره من خلال الشخصانية. وكان الطريق العكسي كذلك أمرا ممكنا؛ فمن الناحية المعرفية يمكن أن تكون الشخصانية هي الشرط الضروري لقيام مذهب في أولية الحب، ولكنها - أي الشخصانية - تظل من الناحية الميتافيزيقية معتمدة على هذا المذهب. وقد سبق أن رأينا أن الحب هو الذي يحدد العلاقة الأساسية للإنسان مع العالم، وأنه هو الذي يؤدي به إلى مذهبه عن الشخص الإنساني ومنه إلى الفينومينولوجيا والميتافيزيقيا. والواقع أن أنثروبولوجيا شيلر - التي سنعرض لها بشيء من التفصيل، والتي يقدم فيها إجابته على السؤال عن ماهية الإنسان ووضعه في الكون - قد نمت وبلغت أوج نضجها من خلال انشغاله بقضايا فلسفة الأخلاق والظاهريات والميتافيزيقا. ويكفي الآن أن نقول إنه نظر إلى الإنسان نظرته إلى كون صغير منظم داخل الكون الكبير، وليس كعماء مضطرب ومختلط من المشاعر والانفعالات والأفكار، ويكفيه أيضا أنه لم يتوقف عن التنبيه بكل طاقته إلى الوجود الشخصي والعقلي للإنسان في كل ما تطرق إليه من قضايا الواقع، سواء كانت علمية أو سياسية أو اجتماعية وثقافية، وذلك في عصر تعرض فيه شخص الإنسان للنسيان أو النكران، بل زادت محنة إهانته وتعذيبه وإلغائه وسحقه بعد وفاة شيلر نفسه مع اغتصاب النازية للحكم في بلاده، وهيمنتها هي وغيرها من النظم الشمولية التي أضاعت حقوق الإنسان (التي ما تزال ضائعة وغائبة عن حياة معظم البشر).

14

نامعلوم صفحہ