34
وتلك هي اللحظة المنهجية الأولى.» أما اللحظة الثانية فيعبر عنها قوله في الكتاب السابق الذكر بأنها هي: «إدراك التضاد في وحدته، أو إدراك الإيجابي في السلبي.»
35
وهذه اللحظة الثانية هي التي تحول دون فهم «السلب أو النفي الذاتي للفكرة»، وكأنما هو تدمير لها أو قضاء عليها؛ فالواقع أنها تؤكد وجودها مرة أخرى في شكل أغنى وأوسع كما سبق القول، كما تنقل النفي الذاتي إلى إيجاب ذاتي على مستوى أعلى. وبهذا المعنى أيضا يمكن إجمال الخطوة الثلاثية الإيقاع للمنهج الجدلي في خطوة أو حركة واحدة، هي الحركة الذاتية للفكرة الشاملة؛ فكأن العلاقة الذاتية التي تظهر مرة في صورة سلب، وتظهر مرة أخرى في صورة إيجاب، هي التي تؤلف وحدة الشروط المختلفة التي تسير في حركة نموها؛ من الموضوع، إلى نقيض الموضوع، إلى المركب منهما. وعن طريق هذه العلاقة الذاتية تتراجع المرحلتان الأوليان لتتصلا بالفكرة الكلية التي بدأ منها؛ فما دام «الحق هو الكل» - على نحو ما تقول العبارة الشهيرة لهيجل - فلا بد أن يحتل التناقض موضعه المنهجي من هذا الكل، وأن يكون هو موضع القلب من الجسد العضوي الحي.
لم يكن هدفنا من هذا العرض - المخل! - لمنهج هيجل الجدلي هو النظر في تطبيقاته الحية على أعماله الثرية المتنوعة، ولم يكن كذلك هو الهدف من عرض منهجي الفيلسوفين السابقين، أو منهج الفيلسوف الذي سنتناوله الآن (وهو هسرل صاحب فلسفة الظاهرات أو الفينومينولوجيا)؛ فقد اقتصر جهدنا المتواضع على التحقق من الغرض الذي بدأنا به، وهو أن التفكير أو التأمل الذاتي الذي يصطدم بالتناقض وأزماته، ويحاول حلها وبيان أنها محالة، هو الذي يمثل نقطة الانطلاق إلى المنهج الجديد، كما أنه يعبر عن الإبداع، أو جانب منه على أقل تقدير، في فلسفتهم.
وقبل أن نختم حديثنا عن هيجل ومنهجه الجدلي، لا بد من كلمة عما يجمعه بالفلاسفة الثلاثة وما يميزه عنهم؛ فالتأمل الذاتي أو «فكر الفكر» هو مركز فلسفته التي لا تخرج عن كونها محاولة كبرى ل «الوعي الذاتي»، وهو يؤسس مثلهم منهجا علميا محكما، سماه - كما رأينا - بالمنهج الحقيقي الوحيد، وإن لم يتخذ نموذجه من العلوم الدقيقة، والرياضيات بوجه خاص، بل رفض أن تكون هي الأساس أو المثل الأعلى. بيد أنه لم يجارهم في الفصل بين المعرفة الإيجابية التي اتفقوا على أنها هي المعرفة الصحيحة، والمعرفة السلبية التي بذلوا كل جهدهم لاستبعادها ورفع تناقضاتها، أو بالأحرى لإثبات أنها ترفع نفسها بنفسها. وهو لم يأخذ كذلك بالمعيار الذي وضعوه ل «المنهج الدقيق»، وهو أن التناقض سمة المعرفة الخاطئة، وعلامة التفكير الخادع أو الكاذب. ومعنى هذا أنه قد عرف بوضوح أن البناء النظري للعالم العقلي محال بغير الاعتراف بالتناقض؛ فليس التناقض - كما سبق القول - مجرد دفعة أولية تنطلق منها حركة المنهج وحركة العقل أو الروح معا، وإنما يشغل مكانه المنهجي من الكل الحقيقي، أو إذا شئت من الحقيقة الكلية التي تنمو بذاتها نموا جدليا على إيقاع المنهج الجدلي. ولا شك في أن هذا يعبر عما يسمى ب «وحدة المنهج والمذهب»، وبصورة قد لا نجدها بمثل هذه القوة وهذا الترابط عند أي فيلسوف قديم أو حديث.
وأخيرا ننتقل - بحكم التطور التاريخي وحده - إلى فيلسوف اختلف عن هيجل، وربما لم يستفد - في رأي البعض - من ثورته المنهجية والجدلية شيئا يذكر، وإن كان قد نافسه في محاولة كبرى وأخيرة لجعل الفلسفة علما كليا شاملا؛ أقول هذا لأذكر القارئ بأن الفيلسوف الذي سنتحدث عنه - وهو هسرل - يرتبط بالفيلسوفين السابقين (ديكارت وكانط)، ويعد امتدادا أو بالأحرى ذروة للذاتية المتعالية، أكثر مما يرتبط بهيجل أو بغيره من الجدليين.
كيف «ظهر» المنهج الجديد لصاحب فلسفة الظاهرات؟ وكيف أدى به «سلب التناقض» الصارخ في نزوع بعض المناطقة لتفسير حقائق المنطق والرياضيات تفسيرا نفسيا، إلى «الإيجاب» الذي يتمثل في تأمين حقيقة الموضوع، بل إلى تأمين الحقيقة ذاتها، وحمايتها من الشك والنسبية النفسية والإنسانية؟
لا يعنينا هنا أن نفصل القول في طبيعة المنهج الظاهراتي وخصائصه ومراحله ومدى خصوبته في التطبيق، بقدر ما يهمنا أن نبرز الملمح المشترك بينه وبين بقية المناهج التي نعرض لها، وهو خروج الجديد الإيجابي من حطام السلبي والمتناقض. ويكفي أن نطلع على الجزء الأول من «البحوث المنطقية» لنتأكد من هذا الحرص على تأمين حقيقة الفكر ، ثم نتبين كذلك قرب نهاية هذا الجزء كيف يتحول المنهج النقدي السالب لتناقضات النزعة النفسية، إلى منهج إيجابي لإثبات حقيقة الموضوع أو حقيقة التفكير الموضوعي: «لا يتسنى وجود شيء بغير أن يتحدد على هذا النحو أو ذاك. وكونه موجودا ومحددا على هذا النحو أو ذاك، معناه أن هذه هي الحقيقة في ذاتها؛ الحقيقة التي تؤلف التضايف الضروري للوجود في ذاته.»
36
نامعلوم صفحہ