هكذا تم التحول من السلب إلى الإيجاب؛ أي من الشك في كل شيء إلى التفكير الذي انشق عنه وبقي خارج دائرته. ثم بدأ مع تطور التجربة تحول جديد نتج عنه منطلق جديد هو إثبات وجود «الأنا» بعد إثبات وجود الفكر: «ما دمت أفكر، فأنا موجود.» ولو شئنا أن نضع التحولات السابقة في صورة أحكام لانقسم دليل الشك إلى هذه الأحكام الثلاثة: (أ)
يمكن أن يتعلق الشك بكل شيء. (ب)
لا يمكن أن يتعلق الشك بالتفكير. (ج) «أنا موجود» صادقة بالضرورة ما دمت أفكر فيها.
ربما ذهب بنا الظن - كما ذهب ببعض نقاد ديكارت الذين رد عليهم في مجموعة ردوده الأولى والثانية
3 - إلى أن البناء الثلاثي السابق للأحكام يتخذ شكل قياس صوري، وأن مسار «التجربة السلبية» نوع من أنواع الاستنباط. غير أن ديكارت قد رفض هذا التفسير. صحيح أنه أراد لدليل الشك أن يكون دليلا، ولكنه استنكر أن يفهم منه أنه دليل قياسي. وهنا نقترب من دائرة التفكير الجدلي التي حاولنا أن ندخل إليها في رفق وحذر. والحق أن كل شيء حتى الآن يبرر - من الناحية الموضوعية - أن نتصور الدليل تصورا جدليا لا قياسيا، فنجعل من الحكم الأول قضية، ومن الثاني نقيضها. بيد أن المشكلة تتمثل في الحكم الثالث؛ فنحن لا نجد فيه تأليفا واضحا كما يقضي بذلك المنطق الجدلي، أضف إلى هذا أن الجدل الهيجلي لم تكن ساعته قد دقت بعد، فهل يجوز لنا أن ننسب إلى ديكارت شيئا لم يفكر فيه، أو لم يسمح به تركيب الدليل ولا روح العصر؟ إذا كانت حركة الفكر في هذا الدليل لا تدخل في بنية منطقية صورية ولا جدلية، فكيف نفهم طابع السلب الذي يسوده، والذي اكتشف ديكارت من خلاله نقطة «أرشميدس»، التي سينطلق منها ليقيم منهجه ويصوغ معياري الصدق واليقين عنده (وهما الوضوح والتميز الشهيران، اللذان اعتمد عليهما في إبطال الشك الشامل وإثبات استحالته)، كما يبدأ منها لإثبات يقينية الآخرين (وهما وجود الله، ثم وجود العالم) بطريقة لم تخل في رأي نقاده من رواسب التقاليد الوسيطة، ولم تبرأ من التكلف والتصنع؟
ليس من غرضنا أن ندخل في تفصيلات النقد المتجدد ل «الكوجيتو» الديكارتي منذ أيامه إلى يومنا الحاضر، ولا يدور في الخاطر أن نجعل من ديكارت جدليا على الرغم منه أو برضاه؛ فالمهم لدينا هو الحركة الفكرية التي تحولت من سلب إلى إيجاب، ومن تناقض للفكر مع نفسه إلى رفع لهذا التناقض؛ ومن ثم إلى مجاوزة أزمة منطقية وتاريخية، بإيداع منهج وفلسفة تبلورت فيها حرية إنسان عصر النهضة، وإرادته التي صممت على اكتشاف «الحقيقة» من داخله وبقدراته المستقلة عن كل سلطة أو تقليد، ومضت تستقبل عصرا جديدا، وفكرا وعلما جديدين، لا يلتفتان إلى الظلام الذي تركاه وراءهما.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يؤكد ديكارت أنه لم يكتسب بداهة «الكوجيتو إرجوسوم» (أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود) عن أي طريق منطقي أو تأليفي.
4
ولو فهمنا دليله على أنه قياس لأخطأنا حركته الفكرية، وربما أخطأنا كذلك حركة الفكر الحديث كله في عصر النهضة. ولقد أوضح ديكارت نفسه أن الشك في كل شيء يحد من الشك نفسه، وأن هذا التحديد يفضي إلى الاعتراف بوجود الأنا المفكرة؛ ولهذا فإن قوة الدليل تكمن في نوع من الربط الغريب الذي يختلف عن المنطق الصوري والقياس التقليدي، ويؤدي من الحكم الأول إلى الحكمين التاليين. فالربط هنا مختلف عن القياس الذي يتم فيه الربط بين حكمين واستنتاج حكم ثالث عن طريق حد أوسط، وليس لدينا في دليل الشك سوى مفهوم واحد، هو الذي يمثل مضمون أحكامه الثلاثة؛ هذا المفهوم هو الفكر نفسه. وديكارت يضع هذا الفكر - على سبيل التجربة - في صورة تفكير سلبي أو سالب؛ أعني في صورة الشك في كل شيء. ولقد كان من المنتظر أن يؤدي هذا الشك الحاسم إلى العدم أو اللاشيء، غير أنه يتمخض من خلال التأمل الذاتي المنعكس، وبما يتفق مع الرغبة في استبعاد التناقض، عن تجربة غريبة أو عن شيء غريب، هو أن ثمة شيئا واحدا يستثنى منه؛ فلا فعل الشك الذي أقوم به، ولا الخطأ والخداع عن طريق مخادع واسع الحيلة، بقادرين على إبطال وجود الشك بوصفه فكرا. من ثم ينشطر مفهوم الشك هنا إلى فعل الشك وموضوعه؛ إلى تفكير محدد، وموضوع ينصب عليه هذا التفكير. وهنا يتجلى استحالة الشك في الشك نفسه بما هو تفكير، ويبزغ وجود الفكر من ظلمات الشك ومن ضبابه العدمي. ثم يقوم هذا الفهم أو هذا المفهوم المختلف للشك بتحول جديد؛ إذ تبزغ منه الأنا بعد أن أصبح تفكيرا، وتتميز عنه؛ لأن التفكير - كما تصور ديكارت، صوابا أو خطأ - لا يستقيم بغير وجود أنا مفكرة. وما دام الشك والخداع كلاهما عاجزين عن الحيلولة بيني وبين التفكير، فلا بد أن تكون «الأنا» متضمنة في هذا التفكير.
لقد كان في إمكان ديكارت أن يصوغ مفهومه أو تجربته الفكرية بخطواتها الثلاث (من الشك في كل شيء، إلى تناقض هذا الشك مع نفسه، إلى إثبات وجود الفكر الذي لم يستطع - أي الشك - أن يمتد إليه) على هيئة قياس من هذا النوع:
نامعلوم صفحہ