لن يستغني النقد والفحص والتحليل «العلاجي» الفلسفي الذي أشرت إليه عن التعاون والتفاعل مع بقية العلوم الإنسانية والإفادة من نتائج بحوثها النظرية والميدانية، كالاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا واللغة والتاريخ والقانون والاقتصاد السياسي ... وربما انعكس على مناهج النظر والبحث في هذه العلوم نفسها، كما سينعكس بالضرورة على تخصصاته النوعية الدقيقة في مباحث الأخلاق والقيم وتاريخ الفلسفة والعلم ... إلخ، فيخلصها من العناصر الذاتية والاهتمامات المحلية والتمركز الشعوبي والاجتماعي والحضاري، بحيث يوسع من آفاق عالميتها وإنسانيتها وتجردها وتسامحها، بل إن المتفلسف لن يستطيع أن يغفل دور العلم والتقنية في خلق الوعي العالمي من الناحية العقلية، وتوحيد أساليب الحياة ونماذج السلوك لأعداد متزايدة من البشر في كل القارات، بصرف النظر عن الآثار المدمرة للتقنية، والأضرار الفادحة الناجمة عن التهاون في الاهتمام بأخلاقيات العلم وعدم ربط نتائجه بالقيم الإنسانية، وأخيرا فإن المتفلسف لن يستغني عن النظر بقدر الطاقة في الأعمال الأدبية والفنية المعبرة عن معاناة البشر ومشقاتهم وآمالهم وآلامهم في مختلف الآداب والفنون المعاصرة؛ لأن قدرة الأدب والفن على توحيد الوجدان الإنساني - بغض النظر عن اللون والجنس والقومية والعقيدة - ومد جسور التفاهم والتجانس والاحترام المتبادل بين الشعوب والحضارات؛ أمر معروف ومشهود منذ أن وجد الأدب والفن. وتبقى المهمة «الهرقلية» - كما يقول أستاذ الفلسفة الأمريكي الأرمني الأصل هيج خاتشا دوريان في مقال أخير له بمجلة «الفلسفة البعدية»
5
تبقى هذه المهمة ملقاة من الناحية العقلية البحتة على أكتاف الفلاسفة، أو بالأحرى على ضمائرهم ومدى قدرتهم على استشراف المستقبل.
والأمر الثاني الذي يخطر كذلك على البال، ويتصل مباشرة بما ذكرته عن دور الفلسفة في التعجيل ب «الوعي العالمي والإنساني»، هو مساهمة المشتغلين بها في الجهود العالمية والإقليمية الموجهة لإيجاد عالم يسوده السلام والتضامن والأمن، وتسترد فيه القيم الأخلاقية والجمالية قيمتها بعد طول ضلال وضياع؛ عالم لا يروعه الإرهاب المنظم من بعض الحكومات والمنظمات والعصابات، ولا تهدده الانقلابات العسكرية المفاجئة وأشكال العنف والاضطهاد السياسي والتعذيب والأحكام الجائرة بالسجن والإعدام على أصحاب الرأي الآخر (وكفى البشر ما يلقونه من الأعاصير والزلازل وانفجارات البراكين والفيضانات، وما يعانونه من الأورام والآلام النفسية والجسدية، بسبب تدخل الإنسان في الدورة الطبيعية وإخلال ساعتها الحيوية وتخريب البيئة بغير وازع أخلاقي). ويستطيع أصحاب الفلسفة أن يشاركوا في الجمعيات والمنظمات والهيئات العالمية والمحلية، المعنية بالسلام العالمي، ورعاية البيئة والطفولة والشيخوخة، والدفاع عن حقوق الإنسان (مثل منظمة العفو الدولية، وحركة السلام العالمي، واليونيسيف، وأحزاب الخضر ...)، وذلك عن طريق التعليم والبحث والكتابة والقدوة الشخصية وإقامة الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، أو بالتعاون على تأسيس اتحادات فلسفية تختص بدراسة الموضوعات والمشكلات التي تهم البشر كافة ولم تعد مقصورة على شعب دون شعب أو مكان دون مكان.
6
والمهم بعد كل شيء أن يخرجوا أحيانا من ثياب وظائفهم التي تفرضها لقمة العيش وتأدية الدور الاجتماعي، ويتشجعوا - كما يقول كانط في مقاله المشهور عن التنوير - على الاستخدام العلني العام لعقولهم، ويستمعوا للنداء الذي أطلقه ماركس وزميله إنجلز ذات يوم في بيانهما المعروف بعد تعديله على هذه الصورة: يا فلاسفة العالم، اتحدوا في سبيل إنقاذ العقل والإنسان!
وطبيعي أنهم لن يتمكنوا من الاقتراب خطوة واحدة من الوعي العالمي والإنساني أو من التضامن والسلام بين البشر، حتى يبدءوا بتحقيق هذا السلام بينهم كأشخاص واتجاهات وتيارات، ويراجعوا مفاهيمهم التقليدية عن الفلسفة وفاعليتها ووظيفتها وغايتها، ويتذكروا المهام والآمال المعقودة عليها، لا كمعرفة موضوعية دقيقة وحسب، بل كأداة تحرير - بطيء ولكنه أكيد! - للإنسان العادي أو «الرجل الصغير»، الذي طالما تجاهلته وأهملته مع أنه هو الضحية الأولى والأخيرة لما يحدث اليوم من مآس وفواجع ترتبت - في جزء منها على الأقل - على بعض أنظمتهم و«أيديولوجياتهم» وشطحاتهم. ويزداد هذا المطلب إلحاحا في وقتنا الحاضر الذي تعلو فيه بعض الأصوات التي تعلن نهاية الفلسفة (مثل هيدجر ورورتي).
لا شك أن تعريف أرسطو للإنسان بأنه الحيوان الناطق أو العاقل قد يبدو اليوم خطأ لا يغتفر، اللهم إلا إذا وضعناه في إطار فلسفته النسقية المحكمة، ومنطقه الصوري الذي كان منطق الثبات والتحدد. فلم يزل العقل الحي يصارع خلال التاريخ لإثبات جدارته وإبداعه وحيويته، ولم يزل يتصادم مع القوى العمياء للشر والجنون واللاعقل واللامنطق (وهي القوى التي لم تغب عن بال أرسطو نفسه، وإن لم يتصور أنها يمكن أن تبلغ ما بلغته اليوم وفي أوقات المحن والكوارث الكبرى من تدمير للعقل والمعنى). نعم! ليس الإنسان مجرد حيوان ناطق، وإنما هو قيمة مجسدة وشخص حي حر مريد، يغير الواقع، ويتمرد على المألوف، وينزع للامحدود ويصنع الحضارات، ويبدع الفنون والآداب والعلوم، ويشرع نفسه على الممكن والمستقبل لتحقيق ما لم يتحقق بعد، ويعقل اللامعقول، وينظم الفوضى، ويقفز فوق ظلال جسده وبيئته وجنسه ولونه ومعتقده، بل يتخطى حدود عالمه وكل ما هو في عالم لعله يعرف نفسه التي لا تنفك تعذبه وتفلت كل تحديد؛ حتى يدرك وحدتها الجوهرية مع كل ما ينبض بالحياة أو يسمو على الحياة. وهنا أيضا يثبت سقراط أنه الحكيم الذي لم يزل واقفا على عتبة باب الغرب المتسلط المغرور بمنجزات عقله وعلمه وصناعته، ولم يزل هو اللغز الساخر والسؤال المحير الذي يلح عليه أن يعرف نفسه، كما يلح علينا أيضا أن نعرف أنفسنا!
إن الأدب القومي لم يعد له اليوم من معنى. لقد آن أوان الأدب العالمي، وعلى كل امرئ أن يشارك بجهده في التعجيل به. هذه العبارة الشهيرة التي قالها «جوته» (1749-1832م) قبل وفاته بسنوات قليلة في أحد أحاديثه العذبة مع صديقه وتلميذه الوفي الأمين «إكرمان»،
7
نامعلوم صفحہ