أحبته لو أنصفته عواذله
مضى حكمه لا أرجع الله حكمه
أواخره مذمومة وأوائله
رحمة الله عليك يا «آلبوز» بك، رجل جثته أعظم من المحمل المصري أربع مرات، ذو لحية كأنها الأجمة، ووجه كأنه ميدان القتال، وشكل لا يشابه أحد الأشكال الهندسية، لم يركب عربة إلا كسرها إما صاعدا أو نازلا، أكثر علمه باللغة الجركسية ولا يعلم منها أكثر من اثنتي عشرة كلمة، عرفته بسيواس نفيت إليها قبله ونفي إليها بعدي، وكنت أكثر عباد الله تعجبا من نكبة «آلبوز»؛ لأنه كان حما السلطان عبد الحميد ، وجد الأمير نور الدين أفندي لأمه، فلما علمت أن الحكومة جعلت راتبه مائة وخمسين جنيها في الشهر بطل تعجبي وتمنيت لكل أحبتي مثل نفيه.
أخذنا نتزاور وتحاب أهلانا، فبلغني أن له زوجتين هما آيتان في حسن الخلق والخلق، ما رأتهما سيدة إلا أحلتهما مكان الإجلال، فكان آلبوز بك كالأكمة تختفي وراءها هاتان الزهرتان، وإنما نفي إلى سيواس لخصام وقع بينه وبين بعض المقربين، وإن منهم يومئذ لجمعا لو اجتمع على طود لأماله على قواعده.
إن للتيجان بين رءوس الجبابرة وأقدام الغواني تنقلات تحدثها الصبابة، وكم من حريص ملك في فروق يهبه جملة لثغر ضاحك وما أقبلت السرائر على دول الشرق إلا وولت عنها الجدود، وبذا تبتدئ قصة المرحوم «آلبوز». نشأت له ثلاث بنات، كبراهن ذات جمال يستهوي قلوب أهل الورع، فوصف جمالها لعبد الحميد وهي طفلة، فما أومأ إليها بطرف سبابته إيماءة واحدة إلا وقد ألقي بها بين يديه، ثم فاضت مواهبه على والديها فيضا، فأنعم على أبيها برتبة الميرالاي وأدخل في حرس القصر السلطاني، غير أن نفس «آلبوز» بك ترفعت عن الوشاية، فبقي مكانه ولم يترق في الرتب، وحيل بين الطفلة ووالديها، ما سألا زيارتها إلا عللا بالمواعيد الكاذبة، ومرت الأعياد وهما يرجوان التلاقي بها فلم يقدر التلاقي، وأتت محنة النفي ولم يزودوا بنظرة إلى غصنهما الرطب في مغرسه الذي نقل إليه، وإذا هي يوما قد وضعت الأمير نور الدين، متقدم الذكر في هذا المقال، وعقد عقدها على سلطان العثمانيين فصارت ثالثة نسائه، اليوم أوفى عبد الحميد على باب السبعين، وهي لا تزال في أوائل العشرين.
سمعت أنين آلبوز بك أيام المحنة، فقلت هذا أول طود يتألم، خبرت عن حزن جرمه فقلت درة تذوب بغير لهب، وكم تمنى ذانك القلبان لقاء ساعة فضن بها الجبار، اجتث ذلك الغصن الأهيف من منبته، فلما بات في قبضته حاول أن يميله إليه فاستعصى، وما زال يجاذبه السلطانين من ذهب وقوة حتى استماله بالقوة، وما هي استمالة ولكنها إذلال، تتبدى على مثل عرش بلقيس، مستقرة بقصر «يلديز» تضم بين ذراعيها فرعا من شجرة عثمان الباسقة، نعم الظل غير أنه محرق، وحبذا الجاه ولكن حماه موحش.
حدثني ابن آلبوز بك، قال: دخلت القصر فانتهوا بي إلى ابن أختي الأمير وهو في الثامنة من عمره، فأجلسني أمامه في عربته وطاف بي الحديقة، وقال سأسأل مولاي أن يجعلك لي ياورا، وحين أنس خلوة همس في أذني: إن والدتي مشتاقة إليك، لم تنسك أبدا، وهي توصيك أن تحسن التعلم وأن تكون نابغا بين نظرائك، وكان ابن آلبوز بك يحدثني وعيناه مغرورقتان في الدموع، قلت: ذهبت وصاة أختك في الريح، هل جاء المسكينة أن أخاها لا يحسن الهجاء؟
تواقعت قنابل جيش الحرية على أسوار الملك المستبد وبينها أنفس تدعو لراميها بالتسديد، وأبت بعد ذلك أكثر نساء الملك المخلوع أن يشاركنه في محنته وأن يسكن معه في سجنه، فكانت بنت آلبوز بك فيمن خرجن من قصر الأتيني رغبة في الحرية، أبين أن يتحرر العثمانيون والعثمانيات من أسر الظلم وأن يبقين وحدهن أسيرات.
يا أسود سلانيك ومناستر، إن وراء السجون لمكربات كشفتم عنهن الكرب، أن رءوسا عقدت عليها التيجان تحنى لديكم اليوم إجلالا.
نامعلوم صفحہ