الآكل من كسب غيره وهو قاعد لا يحمل نفسه عناء السعي لرزقه، وإذا علمت الأمة حقائق الأشياء وبصرت بضلالات أهل التعصب قبضت عنهم جدواها ومنعتهم ورد جودها، والقوم يعلمون ذلك ولا يدانيهم فيه ريب فمن أية الطرق يأتي نحوهم الإنصاف؟ لو جمعنا العمائم التي بالبلاد العثمانية وجعلنا بعضها فوق بعض بنينا حصنا يعجز عن هدمه أسطول إنكلترا بأسره، ما في هذه الجوزات ما يرجى منه أقل الفوائد إلا آحاد لا يصعب تسميتها، وما بقي من ذلك الجمع العديد، فأنصار للاستبداد، سواء عليهم حق وباطل، لا يعجبهم من الحياة الدنيا إلا الجفان أو ما يكون ثمنا للجفان، أروني واحدا من هؤلاء للمبردين يكون جاد بدرهم واحد في خير يريده - يا بعد ما تمنى به النفوس - هذا والقوم كلهم مثقلون بالصفر والبيض يجعلونها في أشداقهم كما تجعل القردة مآكلها في أشداقها خيفة خاطف يخطفها، ثم إذا التفت عليهم المحافل ألفينا كل عثنون كحديدة الفاس يضطرب غضبا لرأي رآه أحد العقلاء، فكم من عنفقة كذنب السمكة تهتز على أثرها وتغضب لغضبها، ما أشقانا بهذه المخلوقات!
يغشوننا ونغشهم، ختل بختل، كل فريق يود أن يحرز الغلبة على مضاده بحيلة يحتالها، ولبئست أسباب الفوز في هذه الحرب العوان اتفق المنافقون من أدعياء التقوى أن يظهروا حسن النية ويبدوا جانب الود لمخالفيهم، وذلك بعد أن شرت سيوف أبطال الحرية من النفوس وباعت، فلما أفرخ روعهم وثاب إليهم بأسهم السالف أسمعونا صريف أنيابهم وقلبوا لنا صفحة الود، وأضحت تلك الألطاف أحاديث مغتبق ذهبت الكميت بلبه، أو أهازيج طير استطير من عشه فذهبت الريح بصداها .
آكل اللحم لا يغذوه النبات، والسمك لا يعيش في غير الماء ولو فرشوا له خدود الملائكة وجعلوا مساكنه سواد المقل، والمعمم لا يطيب له مقعد على متن طائرة ولا على ظهر دارجة، ومخادعة الناس بدعة من بدع عبد الحميد، وليس من الإنصاف أن نبغض الرجل لظلمه حتى نزيله عن سلطانه ثم نعاود شأنه ونستعيد سيرته.
وبعد فقد رأى قراء المقطم الأغر عجائب في نهج حكومتنا العثمانية - رعاها الله - تأتي بالواحدة من باهرات الحكم حتى لتعشى عندها الأبصار وتتضاءل أنوار الفهوم، وبينا تلهج الألسن بإطرائها وتعقد الخناصر على كل أعجوبة من مآثرها إذا بها كممثل الفصل المضحك في آخر رواية كلها حكم وكلها عبر. وما نريد أن نحصي تلك الخطيئات، وليس فينا شامت ولا بيننا عدو رقيب. إن لنا في مفاخرها ومخازيها لنصيبا يصيب كل مستظل براية الهلال، غير أننا معيرون بهاتيك الخطيئات ملزمون من خصوم غير غافلين بإلزاماتها، لا حكمة نستبين بها المراد مما نرى ولا في أولي الأمر من يتكلفون بيانا لما أشكل علينا، وليس لدينا من يدعي علم الغيب ولا من يستطيع كشفا لما تخفيه الصدور.
واقعة العلامة الزهاوي ليست فذة في مواليد الشرور، ولكن لها أخوات تخالفها ظواهر وإن لم تخالفها حقائق، لقد وقع مثلها لصديقي العثماني الحر يوسف سامح بك أحد الموظفين في نظارة الحربية المصرية، ولو كان هذا الفاضل ممن قضى عليه شقاء الجد أن يقيم في بلادنا الدستورية لسمعنا على بعد الديار أنينه في سجنه وصليل السلاسل على سواعده. ويوسف سامح رجل من العثمانيين الأحرار الذين هاجروا من بلادهم، ورأوا في أرض مصر أكنافا موطأة وجوانب مذللة فصدقها الخدمة وصدقته الجزاء. ولما انتشلت الأمة حريتها من كف سالبها وتباشر الناس بعهد جديد وصفو مقبل رأى أن يتحف إخوانه العثمانيين من العنصر التركي بكتاب جليل الفائدة جامع لأشتات الحكمة، وهو كتاب تحرير المرأة الذي وضعه العالم الحر المرحوم قاسم بك أمين، فترجمه إلى التركية بأجمل أسلوب، فأصدر مجلس الوكلاء بالآستانة قرارا إداريا يمنع به دخوله إلى الأقطار العثمانية، وقد علمنا أن الحكومة توخت هذا الجنف استرضاء لفريق المتعصبين، فهذا قلم مذرب تريد الحكومة الحرة أن تكسر شباته، والدستور رهين الإرادة، فيوما هو بمنزلة الوحي ويوما هو مهجور ومنسوخ، قاتل الله الأهواء.
لا ندري ما خطب حكامنا، يقودون أم يقادون، الأمة قاصرة وقيمها الحكومة، وإذا أطاع القيم أهواء القاصر تعطلت أحكام الحكمة، وما أرخي العنان لقوم حديثي عهد بالعتق إلا اشتد جماحهم وتعذر كبحهم، وكما ضمنت الحكومة تعليم الأمة فرض عليها أن تضمن تربيتها. إن لأهل الصلف المتزهدين والمتورعين من الخطل ما لا يستطاع معه إحكام أمر، وحسب هؤلاء أن تدر عليهم هبات المحسنين وأن يأتيهم رزقهم غدا، إن يقنعوا فذلك الكفاف وإن يطمعوا فيما وراء ذلك فنصح نافع أو زجر رادع أو لجام مصرف في يد تعودت حبس الأعنة واقتياد الصعاب.
الأديان مناهج للناس إلى ما يستطاع من الكمال، فإذا هي تجاوزت ذلك وأضحت سلعا يتجرون بها كان شرها أكثر من خيرها، وإن من أشد ما ينزل بالحر أن يبلى بقوم لا تسمو مداركهم إلى مقاصده فيتعسفوا في تأويلها الشبهات، حتى إذا أعيتهم المناظرة وأعوزتهم الحجج عمدوا إلى الفساد فاستثاروا العامة إلى الوقيعة وفزعوا إلى الختل والغدر، وأكبر من هذا أن تكون الحكومة عونا للمفسد على المصلح لا اعتقادا بإيمانه ولا إعجابا برأيه، بل تحببا إليه وإقرارا بالعجز عن إخضاعه وتقويمه.
لقد ذهلت حكومتنا الدستورية عن الدستور في قضية الزهاوي، وفي كتاب المرأة الذي ترجمه يوسف سامح بك، ثم فعلت مثل ذلك بكتاب كان ترجمه صديقي العثماني الحر الدكتور عبد الله بك جودت، كفانا الله شر الآتية من الهفوات، فهي - ولا شك - أشد وأنكى.
قيل لرجل: لم لا تصلي؟ فقال: إن الله توعد المصلين في قرآنه الكريم إذ قال:
فويل للمصلين ، قالوا له: ولكن بقية الآية تنفي زعمك، وهي قوله تعالى:
نامعلوم صفحہ