ولم يكن شيء يجعل عدلي يسكت عن هذا التساؤل كلما خلا به وبي مكان. •••
لم يكن عدلي يستطيع أن يعيش دون أن يعمل، فقد التحق بالوظيفة منذ تخرجه، ولم يكن يجد في التحاقه بالوظيفة أمرا يستحق منه إنعام نظر أو إمعان فكر، فهو حاصل على شهادة التجارة العليا، وعين في الدرجة التي يعين بها كل زملائه، وكان تعيينه في البورصة لأن عمه كان يعمل بها وصداقاته فيها مشهرة معلنة لا تحتاج إلى البحث عما وراءها، إن كان شيء وراءها.
ومرت على وفاة أبيه سنة وبعض السنة وهو مقيم في بيته مع والدته التي بدأت تلح عليه أن يتزوج شأن كل أم لها ابن وحيد، وتريد أن تطمئن أن حياة أبيه التي اعتسفت ممتدة في حفيد يوحي إليها ببعض طمأنينة أن حلمي الوسيمي لم يمت.
وكان عدلي يرى أن زواجه أمر طبيعي، فهو ليس من رواد الليل، ولا هو عربيد ولا صاحب لهو، فسنة الحياة سنته، والطريق الذي رسمه المجتمع هو طريقه لا يريد أن يخرج عنه ولا أن يغير الكون أو يحطم ما جرى عليه عرف الحياة.
وقد وجد في ابنة خاله أحمد نشيدته، فهي فتاة متعلمة حصلت على شهادة الآداب وذات جمال ناضر نقي وقلب يافع طازج، مقبلة على الحياة إقبالة طهورا رصينة، وهو منها ومن أسرتها في أمان أي أمان. أمها كانت منه بمنزلة الأم وأبوها أبوه. وهما أسرتان لا تجمعهما صلة الرحم وحدها وإنما يجمعهما أيضا قانون مجتمع واحد وخلق متشابه، فهما وإن كانا يعيشان في بيتين إلا أنهما في تكوين أخلاقهم وتفكيرهم بيت واحد. حتى لقد كان كل بيت منهما يطلق على البيت الآخر كلمة البيت الثاني، فلا يقال بيت الباشا ولا يقال بيت أحمد بك في أي من المنزلين، وإنما يقال البيت الثاني - فهما إذن بيت واحد. فزواج عدلي من حورية أمر يكاد يكون مقررا بالأمر الواقع حتى إنه لو لم يحدث لكان شذوذا عن الطبيعة الكونية لا معنى له ولا داعي إليه. وكان من الطبيعي أيضا أن تقيم حورية مع عمتها في نفس البيت. •••
حين أغلقت البورصة أبوابها كان عدلي قد أنجب ولده الأول منذ سنوات، وكان من الطبيعي أن يسميه حلمي. ولم يطق عدلي أن يعمل في الوظيفة التي نقل إليها؛ فقد كان لا يصنع شيئا إلا أن يقبض المرتب في آخر كل شهر، وهذا أمر يأباه ضميره، كما أن طبيعة عدلي ترفض أن يكون بلا عمل حقيقي، وليس يرضى أن يتوارى أمام الناس وراء وظيفة بلا عمل.
كان قد تعرف وهو في البورصة على أكبر المحاسبين شأنا، وقد اختار منهم مكتب الدكتور فكري الدهشان، فقد كان يأنس إليه، وكان يحس منه أمانة منقطعة النظير، كما أنه كان يعجب بعلمه النظري والعملي جميعا.
وقد كان الدكتور فكري من الذين يعجبون بوالده كل الإعجاب، ولم يكن يخفي إعجابه هذا كلما دعا الحديث أن يبديه، قصد إليه. - يا دكتور أريد أن أعمل معك. - وتترك الحكومة؟ - أنت بالذات تعرف معنى أن يتناول الإنسان مرتبا دون أن يعمل في مقابله شيئا، وأنت بالذات تدرك معنى أن يكون الإنسان في ريعان شبابه وفي استقبال القادم من الأيام دون أن يعد نفسه لذلك بالعمل والجهد. - ولكن يا عدلي يا بني عمل المحاسبين في مصر أصبح محدودا كما تعرف. - وهل طلبت منك مرتبا؟ - إذا كنت أنت لا تقبل أن تنال أجرا بلا عمل، فإنني أنا أيضا لا أقبل أن يعمل محاسب في مكتبي بلا أجر. - أنت تعلم أنني والحمد لله موفور. - لا يعنيني هذا في شيء. أنت ستعمل معي فلا بد أن تنال مرتبا. - إذن فأنت ترفض أن أعمل معك. - وهل تتصور هذا؟ - هذا ما فهمته من كلامك. - إن ما قلته واقع لا شأن له بعملك معي، فإن مجرد إبداء رغبتك في العمل معي يعتبر كأنك عملت فعلا، فأنت تعرف رأيي فيك وفي المرحوم والدك. - إذن؟ - اسمع، أنا لن أجد خيرا منك ليتولى أعمال مكتبي في مصر. - ماذا؟ - هذا هو الجديد، لقد فتحت مكتبا في الكويت، وأعتقد أنه سيشغلني بعض الوقت عن المكتب هنا. والعمل الحسابي في مصر كما قلت لك أصبح نادرا، أو أقل من النادر وخاصة في المكاتب الكبيرة مثل مكتبي، وكنت فكرت أن أقفل المكتب هنا، ولكني سرعان ما طردت الفكرة، فقد أحسست أنها أشبه ما تكون بالانتحار، فالدنيا يا عدلي ليست فلوسا فقط، وها أنت تبحث عن عمل مع إنك تستطيع أن تعيش على دخلك، وهذا المكتب يمثل عندي كفاح عمري كله، فأنا إذن سأتركه في رعايتك وأسافر أنا لإنشاء مكتب الكويت، وسنكون على اتصال دائم إما بأن تأتي أنت إلى الكويت أو بأن أجيء أنا إلى القاهرة. ما رأيك؟ - سأقدم استقالتي غدا إن شاء الله من الحكومة، وإن كنت مندهشا مما سمعت. - ومم الدهشة؟ - أنت بلا ولد، وقد كونت اسما عظيما، ولا شك أنك كونت ثروة، ففيم إذن سفرك إلى الكويت وهذا الجهد؟ - عجيب شأن الناس! لماذا يظن الناس أن ما يصدق عليهم لا يصدق على غيرهم؟! يا رجل ألم تأت إلي هربا من الفراغ؟ - أنا آسف لك حق.
الفصل الثامن عشر
كانت الحياة الجديدة هي أصلح حياة لحسن هنداوي. وكأنما تم كل هذا الذي تم ليصبح حسن هنداوي في الذؤابة العليا من القمة، والحقيقة أنه كان يعرف طريقه كل المعرفة، فإذا هو حوت شرس، يحرص كل الحرص أن يمزق بأسنانه الحادة المتراكبة كل من كان ذا فضل عليه في ماضيه. استطاع أن يزج بفايز إلى السجن أو أوحى إلى مستمعيه أن عدلي لا حديث له إلا الهجوم والتنقص، واعتقل عدلي ولكنه لم يبت ليلته في المعتقل، فقد أدركه عمه مرة أخرى وخرج بعد عشر ساعات من اعتقاله، فصداقات حفني لم تكن مقصورة على فئة بعينها إنما هي تنداح وتتسع فتشمل كل ذي سلطان في أي وقت. وكأنما كانت شقة حفني مظهرا لا يكتمل سلطان ذي السلطان إلا به، فلم يكن عجيبا أن يكون محاطا بسياج من الأمان يستطيع أن يصد عنه وعن كل من يهتم به أي عادية.
نامعلوم صفحہ