دفع جو هارلاند بوجهه إلى تجويف ذراعه مجددا وحاول أن يخلد إلى النوم. سمع الطبق يوضع وتبعه صوت قضمها للطعام دون أسنان وصوت ارتشاف من حين لآخر عندما تشرب القهوة. دخل زبون آخر وكان يتحدث عند طاولة البيع بصوت هادر منخفض. «أيها السيد، أيها السيد، أليس من الكريه أن أطلب شرابا؟» أعاد رفع رأسه ووجد عينيها الزرقاوين الغائمتين كالحليب المخفف بالماء تنظران إليه. «ماذا ستفعل الآن يا عزيزي؟» «العلم عند الرب.» «وحق السيدة العذراء وجميع القديسين سيكون من اللطيف أن أحظى بفراش وثوب جميل من الدانتيل وبرجل لطيف مثلك يا عزيزي ... أيها السيد.» «أذلك كل ما تريدينه؟» «أوه أيها السيد، لو كان زوجي المسكين حيا لما كان قد سمح لهم بمعاملتي هكذا. لقد فقدت زوجي على متن قارب جينرال سلوكوم البخاري، ويبدو لي الأمر كما لو كان بالأمس.» «يا له من محظوظ!» «لكنه مات بخطيئته دون أن يحضر موته قسيس يا عزيزي. إنه لأمر فظيع أن يموت المرء بخطيئته ...» «يا إلهي، أريد أن أنام.»
واصل صوتها في صخب رتيب خافت أثار أعصابه. «لم يكن القديسون في صفي منذ أن فقدت زوجي على متن جينرال سلوكوم. لم أكن امرأة مخلصة.» أجهشت بالبكاء مجددا. «السيدة العذراء والقديسون والشهداء ضدي، الجميع ضدي ... أوه، ليت أحدا يعاملني بلطف.» «أريد أن أنام ... ألا تخرسين؟»
انحنت وتحسست الأرض بحثا عن قبعتها. وجلست باكية تفرك عينيها بأصابعها المتورمة الملطخة بالحمرة. «أوه أيها السيد، ألا تريد أن تعاملني بلطف؟»
نهض جو هارلاند لاهثا. «اللعنة، ألا يمكنك أن تخرسي؟» انطلق صوته في عواء. «أليس هناك مكان يستطيع المرء أن يحظى فيه ببعض السكينة؟ ليس ثمة مكان يمكن الحصول فيه على أي هدوء.» سحب قبعته فوق عينيه، ودفع بيديه في جيبيه وعرج خارجا من المطعم. فوق ساحة تشاتام كانت السماء تومض بلون بنفسجي مشرئب بالحمرة عبر تعريشات مسارات القطار المرتفع. كانت الأضواء كصفين من مقابض النحاس اللامعة في حي بويري الفارغ.
مر شرطي مؤرجحا هراوته. شعر جو هارلاند بعيني الشرطي تنظران إليه. حاول أن يسير بسرعة وخفة كما لو كان ذاهبا إلى العمل. ••• «حسنا يا آنسة أوجليثورب، ما رأيك؟» «ما رأيي في ماذا؟» «أوه، كما تعلمين ... أن تحدثي ضجة سريعة.» «حسنا، لا أدري على الإطلاق يا سيد جولدوايزر.» «النساء يعلمن كل شيء ولكنهن لا يفصحن.»
جلست إلين برداء حريري باللون الأخضر النيلي على كرسي بذراعين، مبطن بالزنبرك في طرف غرفة طويلة تجلجل بالحديث وببريق الثريات والمجوهرات، الذي يتخلله نقاط من السواد اللامع المتحرك لملابس السهرة والألوان المفضضة لفساتين النساء. يمتد انحناء أنف هاري جولدوايزر على طول انحناء جبهته الصلعاء، وتبظو عجيزته الكبيرة فوق حواف مقعد ذهبي مثلث بلا ذراعين، وتقيس عيناه البنيتان الصغيرتان قسمات وجهها كهوائي وهو يتحدث إليها. تنبعث من امرأة على مقربة رائحة خشب الصندل. وتمر امرأة برتقالية الشفتين طباشيرية الوجه ترتدي عمامة برتقالية متحدثة إلى رجل ذي لحية مدببة. وتضع امرأة ذات أنف كمنقار الصقر وشعر قرمزي يديها فوق كتفي رجل من الخلف. «مرحبا، كيف حالك يا آنسة كروكشانك؟ من المدهش، أليس كذلك، أن يتواجد جميع من تعرفين دائما في المكان نفسه وفي الوقت نفسه.» تجلس إلين في الكرسي ذي الذراعين مستمعة في خمول، وبرودة بودرة التجميل فوق وجهها وذراعيها، وسماكة أحمر الشفاه فوق شفتيها، وجسدها قد خرج لتوه من الحمام عطرا كزهرة بنفسج تحت فستانها الحريري، وتحت ملابسها الداخلية الحريرية؛ فجلست تستمع حالمة وناعسة. يتشابك حولها وخز مباغت من أصوات الرجال. تجلس بيضاء لا مبالية بعيدة المنال كالمنارة. تزحف أيادي الرجال كالبق فوق الزجاج غير القابل للكسر. تتخبط نظرات الرجال وتضطرب على سطحه واهنة كالعث. ولكن في جوف معتم عميق في الداخل شيء يصلصل كصلصلة جرس سيارة إطفاء. •••
وقف جورج بالدوين بجوار طاولة الإفطار ومعه نسخة من صحيفة «نيويورك تايمز» مطوية في يده. كان يقول: «حسنا يا سيسلي، يجب أن نتعقل بشأن هذه الأمور.»
قالت بصوت مهتز أزكم: «ألا ترى أنني أحاول أن أتعقل؟» وقف ينظر إليها دون أن يجلس، طاويا طرف الصحيفة بين سبابته وإبهامه. كانت السيدة بالدوين امرأة طويلة ولديها كتلة من الشعر الكستنائي المتجعد بعناية والمتجمع فوق رأسها. جلست أمام طقم القهوة الفضي تحرك وعاء السكر بأصابعها البيضاء، كبياض الفطر، ذات الأظافر الوردية الشديدة الحدة. «لا يمكنني تحمل الأمر أكثر من ذلك على الإطلاق يا جورج.» ضمت شفتيها المرتجفتين معا بشدة. «ولكنك تبالغين يا عزيزتي ...» «كيف أبالغ؟ ... هذا يعني أن حياتنا أصبحت حزمة من الأكاذيب.» «ولكن كلا منا يا سيسلي مغرم بالآخر.» «لقد تزوجتني لمكانتي الاجتماعية، تعلم ذلك ... لقد كنت حمقاء لدرجة أوقعتني في حبك. حسنا، انتهى الأمر.» «هذا ليس صحيحا. لقد أحببتك حقا. ألا تتذكرين كم كان الأمر مروعا عندما لم يكن باستطاعتك أن تبادليني الحب حقا؟» «كم أنت قاس بذكرك ذلك ... أوه، كم هو مروع!»
دخلت الخادمة من غرفة المؤن ومعها اللحم المقدد والبيض فوق صينية. جلسا في صمت ينظر كل منهما للآخر. خرجت الخادمة سريعا من الغرفة وأغلقت الباب. أنزلت السيدة بالدوين جبهتها فوق حافة الطاولة وأجهشت في البكاء. جلس بالدوين محدقا في عناوين الصحيفة. «اغتيال الأرشيدوق سيسفر عن عواقب وخيمة». «حشد الجيش النمساوي». ذهب إليها ووضع يده على شعرها ذي التجاعيد الهشة.
قال: «أيتها المسكينة سيسلي.» «لا تلمسني.»
نامعلوم صفحہ