وجاءنا رمضان ونحن ندخن في حجرة المكتب، ووقف عثمان لاستقباله، فالتقيا وجها لوجه بعد فراق ربع قرن من الزمان، نظرت إليهما باهتمام محموم وقلبي يخفق، تقابلا بوجهين جامدين لم يتحركا باختلاجة عاطفية واحدة، وتصافحا مصافحة رسمية باردة، وقال عثمان: أشكرك على قبول دعوتي.
وجلس عثمان على مقعده، على حين جلس رمضان إلى جانبي على الكنبة، واقترحت أن أنصرف، ولكنهما أصرا - معا - على استبقائي. وقال عثمان مخاطبا أخاه: لا أظنك تجهل السبب الذي دعوتك من أجله؟
قال رمضان ببرود: صارحني بما لديك. - طيب، نحن نعمل الآن في مدينة واحدة، ويحسن بنا أن نتجنب - ما وسعنا ذلك - وقوع المأساة. - المأساة؟
لم يخدع بتجاهله إذ كان على يقين من إدراكه لما يعنيه؛ ولذلك واصل حديثه قائلا: عندي اقتراحان.
فتساءل رمضان وهو يرمقه بتحد: أولهما؟ - أن تسلم نفسك معلنا توبتك، ولعل ذلك يخفف من عقوبتك. - وثانيهما؟ - أن تبتعد عن طريقي بالوسيلة التي تختارها.
ضحك رمضان ضحكة هازئة ولاذ بالصمت. انتظر عثمان مليا، ثم تمتم: الحق أني لم أتوقع خيرا. - إذن فلم دعوتني؟ - لكي أبرئ ذمتي.
قطب رمضان غاضبا، وقال: طالما رغب كلانا في القضاء على الآخر! - هذا حق فيما يتعلق بك. - وفيما يتعلق بك أيضا، ولكن كان لك أسلوبك الخاص. - لا جدوى من الجدل، والأفضل أن تفكر فيما عرضته عليك. - لن تظفروا بدليل ضدي ولا شاهد. - أنصحك بألا تطمئن إلى ذلك. - جرب حظك إذا شئت. - سأجربه بلا أدنى تردد.
بدهتني حقيقة طريفة. إنهما كانا يقتتلان طيلة العمر ومذ كانا في المهد، لم يجد جديد سوى أنهما سيتلاقيان وجها لوجه، سيكتشف كلاهما عما قريب أنه كان يقاتل شقيقه أو جزءا من نفسه.
نهض رمضان قائما، لوح بيده محييا، ومضى عابسا عصبي الخطوات. •••
بدأت المعركة بين الشقيقين عقب ذلك الاجتماع بأيام، دهمت قوات الأمن جميع الأماكن المشبوهة في المدينة والجبل والخلاء. قبض على جميع من ظن أن لهم بالرجل علاقة من الرجال والنساء، واستجوبوا بعنف فتتابعت الاعترافات، وتضاعف عدد المقبوض عليهم بعد أن ثبت أن أعوانه منبثون في أماكن لا حصر لها كالملاهي والأندية والمقاهي والمصالح الحكومية، حتى أماكن العبادة لم تخل منهم. وتدفقت القوات بكل ثقلها في مطاردة عنيفة جللت المدينة بطابعها الإرهابي؛ فذكرت الناسين بأيام الطوارئ وليالي الغارات، فتشت العيون السيارات والتاكسيات والناقلات، ومسحت الكشافات زوايا الجسور ومنعطفات الطرق والخرابات، وطوفت القوارب الشراعية فوق سطح النيل، واقتحمت الخلوات على العاشقين. ومكالمة تليفونية عابثة كانت خليقة بأن تحرك فرقة كاملة من الشرطة وتزلزل عمارة آمنة، وندبة في أنف رجل بريء أو بروز غير عادي في جبهته قد تجر عليه من الويلات ما لم يكن يحلم به. ولم يكن من النادر أن تند عن ركن من الطريق صيحة، تعقبها أصوات أقدام راكضة، ثم تنطلق رصاصات، فيخلو الطريق في ثوان، وتنقض على أديمه مطاردة عنيفة لا تنتهي إلى شيء. وأظلت المدينة سحابة قاتمة تقطر رعبا. •••
نامعلوم صفحہ