زارني عثمان بعد غياب طال بسبب خدمة طويلة في الأقاليم. تعانقنا بحرارة، تذاكرنا عهدا ماضيا امتد من الطفولة مارا بالشباب حتى الكهولة. وقد عاد ليشغل وظيفة هامة رئيسية في جهاز الأمن عقب انتصارات خطيرة أحرزها في مطاردة المجرمين. وبعد أن شرق بنا الحديث وغرب سألني: هل ترى رمضان؟
توقعت هذا السؤال طيلة الحديث. حدثني قلبي بأنه آت لا ريب فيه، وأجبت بأمانة: أجل، بين حين وآخر. - ما زلتما صديقين؟ - أجل. - أليس غريبا أن تظلا صديقين وأنت المربي الفاضل؟ - الأمر لا يخلو من غرابة ولكنها عشرة عمر، ثم إنه يلقاني إذا جاء كشخص أليف مستأنس كأنما لا يمت بصلة إلى الشخص الآخر المثير للفزع. - لا أتصور ذلك! - ولكنها حقيقة، وعلاقته بي هي العلاقة الإنسانية الوحيدة في حياته، فلا عجب أن يحرص عليها. - قد يدهمك بغدره على غير انتظار. - لا سبب يدعو إلى ذلك البتة!
تنهد بحزن عميق، وشاركته مشاعره؛ إنه شقيقه، وهو يمثل نقطة سوداء دامية في حياته وحياة أسرته؛ نشآ في بيت واحد . نشأنا في حارة واحدة تحت ظل جيرة حميمة .. ولكن رمضان كان دائما ريحا هوجاء تعصف الوجوه بالطين والتراب. وسألني: هل تستطيع أن تهيئ لي لقاء معه في بيته؟
تفكرت مليا في قلق، فعاد يقول بإلحاح: لا بد من ذلك، إني مسئول عن الأمن، وأنت أدرى بما في موقفي من حرج! - ولكنه ... أعني ... - ولكنه يمقتني، ويسيء بي الظن، غير أنه سيثق في كلمتك! - أعدك بالسعي إلى تحقيق رغبتك، ولكن عدني بالتزام الحلم إلى أقصى حد مهما لقيت من استفزاز. - ليس في نيتي طبعا أن أعرض بيتك المنعزل في الضاحية الهادئة للفضيحة .. إني أعطيك كلمة شرف، وأنت أدرى بقدرتي على ضبط النفس. - وقد وعدتك! - تبدو غير متحمس؟ - فعلا. - وتراه لقاء عقيما؟ - أي نعم. - ولكن لا بد منه! - أي نعم.
وتبادلنا نظرة طويلة حزينة، وتلبدت سماؤنا بغيوم الذكريات المتجهمة، الصداقة الحميمة وقوى الهوس الصبياني التي انقلبت مع الزمن شرا كاسرا. وقال بنبرة كئيبة: لم أكن أتخيل أنه سيتردى إلى هذه الدرجة من الحضيض! - ولا أنا، ولو أن العمر والتجربة ومزاولة التربية لم تدع لي مجالا واسعا للدهشة. - وكم أرقتني أنباء تدهوره وأنا بعيد عن العاصمة! - لم يكن في الوسع صنع شيء. - لا أشك في أنك حاولت الإصلاح ما وسعك ذلك. - طبعا، ولكن النصيحة تؤجج ناره، فتجنب الحديث الشائك. - واحتفظت بصداقته رغم ذلك؟! - كان الذي بيننا أعمق من أخوة حميمة، ثم إن الإنسان الذي يجيء لمقابلتي إنسان آخر، طيب المعشر، عامر بأجمل الذكريات، يفيض بالود قلبه. - وكيف تفسر ذلك؟ - إن الحية الغادرة لا تخلو من عواطف أمومة! - ولكنك تعلم أنه وحش قذر وعار إنساني! - لن أدافع عن نفسي؛ فإني صديقه كما أنك شقيقه. - لا زلت أعجب أنك لم تقطعه!
داريت ابتسامة كئيبة، وقلت: إنه ليس كائنا من جنس آخر غير جنسنا، الحكاية أنه أسير الأهواء التي وفقنا إلى كبحها. - هو الفرق بين المدنية والوحشية. - إني لا أدافع عن انحرافه!
ولذنا بالصمت مليا، ثم عاد يسأل: هل زرت مخبأه في الجبل؟
تساءلت بدوري ضاحكا: هل تبدأ التحقيق معي؟
فضحك ضحكة فاترة ولم ينبس، فقلت: لا أدري شيئا عن هذا المخبأ المزعوم.
فقال بامتعاض: اعتداء، برمجة، بلطجة، مخدرات، عربدة، سرقة ونهب، هتك أعراض. - أما المبالغات فقد خلقت منه أسطورة! - إني أعرفه من المهد، وأنت كذلك! - أي نعم. - كنا ثلاثة، وكنا واحدا! - أجل. - انظر كيف انشق وانحرف! - يا للأسف! - شرير بطبعه. - الأفضل أن نقول: إن ثمة معاملات صادفته داخل البيت وأخرى في الطريق. - لا هذه ولا تلك يمكن أن تبرر هذا المصير الأسود. - أنا لا أدافع عنه، ولا جدوى من ذلك!
نامعلوم صفحہ