ولا ننسى أن «المسيو ديلكاسيه» وزير خارجية فرنسا سابقا هو الذي قال بأن تاريخ المملكة كتاريخ الحيوان الحي وكما أن للجسم الآلي حدود طبيعية لا يتعداها كذلك للدولة حدود طبيعية لا تتعداها وطرق تنمو بها حتى تبلغ أكثر ما يمكنها بلوغه من النمو والقوة. ولذلك كل من يحاول أن يدفع بالمملكة في غير طريقها الطبيعي، فهو في الحقيقة يرمي بها في هوة الضعف ويقذف بها في بحر من المصائب؛ فلذا كان واجب السياسي الحاذق الأمين أن يعرف الطريق التي رسمتها الطبيعة لمملكته ليقودها فيها فتستطيع أن تنمو وتتقوى، ونحن نعتقد أن كل سياسي فرنسا في العهد الأخير ساروا على هذه السياسة وعملوا بها على قدر طاقتهم.
ومثل هذه السياسة هو الذي ألجأ فرنسا في 1890 إلى التنازل عن حقوقها في سلطنة زنجبار؛ لأن ساستها عرفوا أنهم باحتلالهم جزءا من زنجبار يكونون أبدا في احتكاك مع إنكلترا وكثيرا ما يكون هذا الاحتكاك الاستعماري مضرا غير نافع لأن نتائجه لا توازي أتعاب فرنسا ونفقتها؛ ولذلك تقهقرت فرنسا برشاقة وبراعة وانتظام. وليس تقهقرها عن مصر إلا صورة ثانية من تقهقرها في زنجبار.
وعندما نتكلم عن علاقة إيطاليا بالمسألة المصرية، فيجب علينا أن نخفف الوطأ لرقة الأرض التي نسير عليها ونحافة الموضوع الذي نبحث فيه.
وأول ما نقول في هذا الموضوع هو أن سياسة إيطاليا في مصر في أثناء السنين الأخيرة قد تغيرت تغييرا شديدا، ولا يخفى أن هذا التغيير قد سبب إزعاج الخواطر وجرح إحساسات كثيرين، ومن حسن الحظ أن تغيير تلك العلائق لم يكن مسببا عن مشاكل سياسية؛ ولذلك لم يتعد حدود الكلام المزخرف اللطيف، ولقد اعتاد السياسيون على أن يعبروا عن أشد المعاني بأرق الألفاظ، فهم إذا أرادوا أن يهددوا دولة بالحرب قالوا: «إننا لا نعتبر عملكم الأخير عملا وديا.» فلا يخفى حينئذ بناء على ما ذكرناه أن الألفاظ اللطيفة كثيرا ما تؤدي أشد معاني البغض والكراهية والعداء، ويجب علينا هنا أن نعيد على القارئ رأينا وهو أن السياسة الدولية تختلف كثيرا عن سياسة الأفراد وقد قال: «سبينوزا» إن الدول عندما تتعامل تكون دائما في الحالة الطبيعية، ولم تكذب الأيام والظروف «سبينوزا» فيما قال من يومه إلى يومنا هذا.
وقبل أن ندخل على موضوع بحثنا يجب أن نشير إشارة أخرى وهي أن السياسة التي تتخذها إنكلترا ليست سياسة مكر وغدر وخداع، ولكن ما أكثر ما كتب ضد إنكلترا وسياستها وما أكثر أدلة أعدائها الحاسدين. إنهم يقولون إن إنكلترا غررت بإيطاليا وأغوتها حتى أسقطتها في المصائب التي حدثت لها في أفريقيا لتنال إنكلترا بذلك آمالها وتحصل على الفوائد التي كانت تتمنى الحصول عليها، ولكن ما أقسى هذا القول وما أشده! على أننا لا ننكر أن لهذا القول مكانا من الصحة لأننا نعلم كما يعلم غيرنا أن إنكلترا استعملت إيطاليا آلة في حل عقدة المسألة الكبرى في أواسط أفريقيا، ولكن إنكلترا في عملها هذا لم تتعد حدود السياسة المعروفة بين الدول.
فلو قلنا إن ساسة الإنكليز شجعوا إيطاليا فذهبت ضحية غوايتهم ولقيت في أفريقيا ما لقيت من خذلان وفشل فنحن لا نلقي الذنب على كاهل إنكلترا لأنه ليس المسئول عن مصائب إيطاليا إلا إيطاليا نفسها، فكان ينبغي لها أن تزن تشجيع إنكلترا بميزان التعقل، وأن تنظر إلى النصيحة نظر الحكيم فلا تعمل بها قبل أن يقبلها عقلها. فإن لم يقبلها العقل ضربت عنها صفحا، وكان يجب على إيطاليا أن تعلم أن النصيحة إن عادت بالشر فلا يصيب هذا الشر إلا نفسها.
ويليق بنا في هذا المقام أن نلقي نظرة على تاريخ السياسة الدولية في السنين الأخيرة حوالي منابع النيل؛ لأننا بدون أن نعرف هذا التاريخ حق المعرفة لا نقدر على أن نعرف حقيقة منافع إيطاليا في مصر وعلاقتها بالمركز السياسي الحاضر وبالمسألة المصرية.
على أنا لا نريد أن نذكر الحوادث التاريخية التي ألجأت إنكلترا لتجريد الحملات الحربية التي كان غرضها سحق قوة المهدي في السودان واحتلال أعالي النيل، ولا نريد أن نذكر تاريخ الحملات التي كتب لها أن تفشل وأن لا تترك إلا أسماء قوادها أمثال «غوردون» و«هيكس باشا» وغيرهما، إنما نرغب أن نذكر القارئ بالزمن الذي كانت إنكلترا فيه تجمع قواها الحربية بعد أن عقدت النية على ضربة المهدية ضربة قاضية وإخلاء أم درمان والخرطوم من الدراويش بعد إهلاكهم؛ لأن إنكلترا رأت في ذلك الحين أنها لو نجحت في أعمالها الحربية ونالت بغيتها من السودان فإنها تقف أمام عقبات كثيرة قبل أن تتمكن من أن تضع يدها على أعالي النيل وقبل أن تتغلب على أهل هذه البلاد، وكانت أعظم هذه العقبات عقبتان لم تر إنكلترا للتغلب عليهما طريقا؛ أولاهما: أن الحبشة كانت في الجهة الشرقية تأخذ في القوة شيئا فشيئا بسرعة أدهشت إنكلترا وجعلتها تشعر بخطر هذه الدولة المستقلة الغنية، وثانية العقبتين أن فرنسا كانت مستولية على أراضي بحر الغزال، فكأنها كانت تسابق إنكلترا إلى امتلاك أراضي السودان وأوشكت أن تفوز عليها، فماذا صنعت إنكلترا لتخرج من هاتين الورطتين؟ وما هي التدابير التي دبرتها للتغلب على تلك العقبتين؟
إن إيطاليا كانت واضعة يدها على مخرج مهم على البحر الأحمر، وذلك المخرج على شواطئ «أريترية»، فكانت إيطاليا تحب دائما أن يكون مخرجها في مأمن وأن تكون أملاكها على البحر الأحمر ناجحة غنية، ولم تر أمامها إلا طريقا واحدا لتنال بغيتها وهي أن تقهر ما وراء أملاكها من البلاد الخصبة، ولا يمكن أن يتم هذا العمل إلا ضد إدارة الحبشة، ولم يكن ينقص الإيطاليين إلا التشجيع فأعطتهم إياه إنكلترا بكمية وافرة، وحببت لهم عملهم وحسنته في أعينهم؛ لأنه كان من آمال إنكلترا أن الحبشة تشتغل قليلا بشيء غير مسألة النيل، فكانت الحرب بين الحبشة وإيطاليا خير كفيل لإنكلترا باشتغالها عن أعمال الجنود البريطانية في أعالي النيل وأواسط أفريقية، وكان قصد إنكلترا أنها توجه أنظار النجاشي إلى البحر الأحمر لأنها علمت أنه إذا انتبه إلى هذه الجهة فهي تنجو من شره في أمرين؛ الأمر الأول: أنها تأمن مساعدته وإغاثته للمهدي، والأمر الثاني: أنها تأمن معاندته لها في أعالي النيل، وكان ما كان من أمر الحرب وهزمت إيطاليا شر هزيمة، فساءت تلك الهزيمة إنكلترا لأنها قلبت تدابيرها، ولا نظن أن إنكلترا كانت تعلم بنتيجة الحرب ولا نؤيد القائلين بهذا الظن، ولكن إنكلترا استفادت شيئا كثيرا من المعاهدة التي عقدت بين إيطاليا والحبشة ...
وهكذا أزالت إنكلترا العقبة الأولى من طريقها وبقيت أمامها العقبة الثانية وهي أصعب جوازا وأشد خطرا من الأولى، وهذه العقبة هي وجود فرنسا على ضفاف بحر الغزال، وحالما كانت وزارة إنكلترا الخارجية في غم وتنكيد خطرت ببالها مكيدة بسيطة حلت تلك العقدة وأزالت هذه العقبة من وجه الأسد البريطاني.
نامعلوم صفحہ