التهذيب
في فقه الإمام الشافعي
تأليف
الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي
المتوفي سنة ٥١٦ هـ
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض
الجزء الأول
يحتوي على
كتاب الطهارة
منشورات
محمد علي بيضون
دار الكتب العلمية
بيروت- لبنان
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد:
فيحسن بنا ونحن نقدم هذا الكتاب المبارك لهذه الأمة المرحومة أن تضع بين يديه مقدمة تجمع طرفًا من محاسن الشريعة يتمثل في العناوين الآتية:
١ - الحاجة إلى التشريع.
٢ - أقسامه.
٣ - مميزاته.
٤ - المصلحة العامة في التشريع.
٥ - منابع التشريع الإسلامي.
٦ - تطور التشريع الإسلامي.
٧ - اجتهاد الرسول ﷺ.
إلى غير ذلك مما نراه منشورًا بين يدي صفحات المقدمة.
1 / 3
الحاجة إلى الشريعة
لعلنا لا نعدو الحقيقة، إذا قلنا: إن الشرائع أمر ضروري للبشرية جمعاء؛ لما جبلت عليه النفوس البشرية من التَّنَافس والتَّسَابق في أمور كثيرة، قد يؤدي التعارض فيها إلى كثير من الآلام والمصاعب.
إن النفس البشرية مبنية على إدراك اللذائذ ودفع الآلام، وقد تتعارض اللذائذ والآلام، فما فيه لَذَة قوم قد يكون فيه إيلام لغيرهم، ولو قام شخص ما ليحكم في استيفاء لذائذه وإزاحة آلامه، لاستأثر باللذائذ الأقوياء، وأدى ذلك إلى الاختلال وعدم التوازن بين مصالح الناس.
لذا وضعت الشرائع قوانين للمعاملات والجنايات؛ لكي تمكن الناس من استيفاء حقوقهم.
وليس كل ما فيه ألم يستحق أن يُدْفع، ولا كل ما فيه لذة يجب أن يُجْلَب؛ فقد يجد الشخص في المشقة سعادة ما ويلتذ بالراحة؛ كالمريذ تلذْ له بعض المطعومات، ولكنها تسوق إلى منيته، ويشمئز من بعض الأطعمة وفيها غنيمة شفائه.
يقول الحقُ ﵎: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦].
فالمعتبر إذًا لواضع الشريعة إنما هو اللذة التي نطلق عليها اسم المنفعة أو المصلحة، والألم الذي نطلق عليه اسم المضرة أو المفسدة.
وتتفاوت هذه المنافع بحسب شدتها وضعفها، وطول بقائها وقصره، وبحسب ما تنتجه من نتائج.
والشريعة الإسْلاَمية العادلة هي مِيزَانُ المنافع والمضار، وهي التي تلاحظ ما يتفرع عنها من النتائج، ثم تفرض لها من الأحكام ما يطابقها ويلائمها.
1 / 5
أَقْسَامُ الشَّرائِعِ
تنقسم الشرائع بصفة عامة إلى قسمين: سماوية، ووضعية، والشرائع السماوية هي ما نزل بها وحي على رسول الله ﷺ والشرائع الوضعية هي ما استقر عليه الأمر من التقاليد البشرية التي وضعها البشر من تلقاء عقولهم.
ومن الملاحظ أن أصول جميع الشرائع السماوية واحدة؛ فهي تدعو كلها إلى توحيد الله - تعالى - وإفراده - سبحانه - بالعبودية والطاعات؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥].
وتدعو الشرائع السماوية جميعها إلى أصول عامة وقواعد أساسية، يقوم عليها نظام الحياةح كالعدل، والمساواة، والحرية الصحيحة؛ كما تنهى عن الظلم والعدوان.
وقد نسخ الله - تعالى - من تعاليم الشرائع السابقة "الجزئيات" التي اقتضتها الظروف وطبيعة المكلفين، وأبقى منها ما يبقى به نظام المجتمع الإنساني، مستقرًا على الأصل الذي دعت إليه تلك الشرائع.
بينما تختلف الشرائع الوضعية باختلاف الأمم؛ فكل أمة أو دولة لها جنسيتها وقوانينها الخاصة التي تختلف عن قوانين ونظم الدول الأخرى؛ وبهذا يظهر الفرق واضحًا بين الشرائع السماوية والوضعية؛ فالشرائع السماوية- كالإسلامية مثلًا- ترى أن المسلمين جنسية واحدة وأمة منفردة، مهما تفرقوا في شعاب الأرض ونواحيها؛ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠].
المقارنة بين نوعي التشريع السماوي والوضعي
١ - من حيث العقل والنظر:
لو تأملنا إلى حقيقة النفس البشرية، بما ركب فيها من النزعات النفسية والأهواء
1 / 6
البشرية والإرادات الشخصية، لوجدناها كلها تتجه تلقاء ما يحقق أطماعها ويساير أهواءها بدافع الحرص على اللذائذ، والاستئثار بها، وهم أمام هذه الإرادات والنزعات، لا يرى المرء ما يراه لغيره؛ لأن العقل البشري قاصر الإدراك مهما بَعُد مرماه. والمشرع يجب ألا يكون لهذه الاعتبارات كلها أو لبعضها، بقية من أثر في نفسه، وليس للهوى سلطان عليه، عالمًا بما تقتضيه روح التشريع، متنبئًا بما يمليه الغيب وما ستظهره الحقائق. ومعلوم أنه ليس في البشر من تكون له هذه المزايا، وتتحقق عنده هذه الصفات؛ ليقود البشر ويشرع لهم ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة. ومن هنا، نعلم أن التشريع الذي يصنعه العالم بهم والمطلع على ضمائرهم يكون أحفظ لمصالحهم، وأحكم نظامًا لهم.
٢ - من حيث المُشَاهدة والواقع:
يشهد الواقع - في كل زمان ومكان - بما جاءت به الشريعة الإسلامية، وبما اقتضته من حماية الإنسان من المفاسد والمضار التي تلحق بدينه، وعرضه، ونفسه، وماله، وكل ما يعكر صفوه وهناءه، وبالغت في الحفظ والحرص؛ حتى لقد يكون الشيء في نفسه خاليًا من المفسدة.
وهذا ما يدل عليه معنى التشريع المحكم الذي لا يتطرق إليه الفساد أو التناقض من أي وجه، فهل توجد في الشريعة الوضعية مثل هذه الأحكام؟
إننا لو نظرنا في الجرائم المتعلقة بالعرض والنفس والمال، وإلى جزاءات هذه الجرائم في كل من الشرائع الوضعية والسماوية - لوجدنا اختلافًا وبونًا شاسعًا بينهما.
فها هي مواد قانون العقوبات الوضعية تبين لنا الجزاء الواجب إيقاعه على كل سارق أو غاصب بأية كيفية، وبأي نوع من أنواع الاختلاس والاغتصاب، وذلك إما بالأشغال الشاقة المؤبدة، أو المؤقتة، أو الحبس مع الشغل في الأعمال الشاقة، أو الغرامة. كما تقع هذه الجزاءات نفسها - عدا الغرامة - على كل من هتك العرض، وأفسد الأخلاق.
ومن الملاحظ أن هذه الجزاءات لا تنفذ إلا إذا وقعت هذه الجرائم على وجه الإكراه.
وبالتأمل في هذه الأحكام- ومدى تأثيره في النفوس- نرى أنها كفاح مخفف ودواء، يحد من ثورة هذه الجرائم من بقاء أصل الداء في الجسم؛ لذا نرى السارق- وقد تلقى جزاءه الذي قرره له القانون الوضعي- يعود إلى السرقة مرة أخرى؛ وهكذا بقية الجرائم.
أما إذا قطعت يد السارق، أو أُخذ بالقود من القاتل- كما قررت الشريعة الإسلامية- لكان ذلك زاجرًا لكل أفراد المجتمع. إن الشريعة الإسلامية الغراء اعتبرت هؤلاء المجرمين من زناة، وسُرّاق، وقتلة عضوًا أشل في المجتمع البشري، بل جرثومة فساد؛ فوضعت لهذه
1 / 7
الأمراض أنجع الوسائل لمكافحتها واتقاء شرها، وعدم انتشار ضررها، ولا يكون ذلك إلا باستئصال شأفتها، واجتثاث أصلها من جذوره.
ولقد فتحت القوانين الوضعية - بدعوى الحرية والمدنية - أبواب الشر والفجور، فالزنا وهو ما تمجُّه النفوس وتأباه الكرامات تبيحه الأنظمة الوضعية؛ كذلك الخمور وبقية الآفات.
مميزاتُ التَّشْريع الإسلامي
يتميز التشريع الإسلامي بثلاث خصائص أساسية هي:
١ - رفع الحرج والمشقة:
يقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ويقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وقال ﷺ: "بعثت بالحنيفية السمحة" وصح أنه ﷺ ما خُير بين شيئين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا.
وإذا تتبعنا أحكام الإسلام، وجدنا أن جميع التكاليف روى فيها التخفيف واليسر على العباد، وقد استقرأ الفقهاء ذلك، فوجدوه على سبعة أنواع:
١ - إسقاط العبادة في حالة قيام العذر؛ كالحج عند عدم الأمن، والصوم عند العجز.
٢ - النقص من المفروض؛ كالقصر في السفر.
٣ - الإبدال؛ كإبدال التيمم عن الوضوء.
٤ - التقديم؛ كالجمع بعرفات.
٥ - التأخير؛ كالجمع بمزدلفة.
٦ - التغيير؛ كتغيير نظام الصلاة في وقت الخوف.
٧ - الترخيص؛ كأكل الميتة عند المخمصة، وشرب الخمر لإزالة الغُصَّة مقدّرًا بقدرها.
1 / 8
٢ - قِلَّةُ التَّكَالِيفِ:
تمتاز الشريعة الإسلامية بقلة التكاليف؛ حيث سلكت طريقًا وسطًا لا مشقة فيه بكثرة التكاليف ولا إرهاق؛ ويؤيد هذا أن السلف كانوا يكرهون السؤال عن النوازل قبل حدوثها، وكانوا يكرهون الاستفتاء في المسائل المقدرة.
قال ﷺ للأقرع بن حابس- حين سأل عن الحج أفي كل عام يا رسول الله؟ قال ﷺ: "لو قلت: نعم، لوجبت. ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم".
وقال ﷺ: "إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء؛ رحمة بكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها".
٣ - التدرُّجُ في التَّشْرِيعِ:
من حسن تدبير الشرع وحكمته، أنه أخذ الناس في تقرير أحكامه على مهل، وعرض لهم أوامره قضية بعد قضية، متدرجًا بهم بما يلائم طباعهم وعاداتهم.
لقد جاء الشرع الحنيف، والعرب يرزحون تحت وطأة شهواتهم التي تمكنت من نفوسهم، ووقعوا تحت تأثير غرائز كثيرة، لا يستطيعون الفكاك منها دفعة واحدة؛ فاقتضت الحكمة الإلهية ألاَّ يفاجَؤُوا بالأحكام جملة؛ فتثقل كواهلهم، وتنفر منها نفوسهم؛ فلذلك نزل القرآن منجمًا، ووردت التكاليف متدرجة؛ لإعداد النفوس وتهيئتها لقبول كل هذه
1 / 9
التكاليف والأحكام. ومن ذلك أمر تحريم الخمر التي تمكنت من نفوس العرب إلى حدٍ بعيد؛ الأمر الذي جعل الحكمة الإلهية تتدرج في تشريع الأحكام التي تحرمها، فقال سبحانه في أول الأمر: ﴿قُلْ: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩].
ثم تدرج خطوة أخرى حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣].
ثم صرح بالنهي: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠].
هل لا بُدّ لكل تَشْريعٍ من حِكْمَةٍ؟
نعم، لا بد لكل تشريع من حكمة، تُطمئن القلوب حنى تمتثله وتقبل عليه، وهذه الحكمة قد تكون واضحة ظاهرة؛ كقول الرسول ﷺ في الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" وقد تكون الحكمة خفية يعجز البشر عن إدراكها، ولس ذلك مبررًا لترك العمل بما خفي فيه موضع الحكمة، وقصر عنه إدراكه؛ فذلك تشريع الحكيم الخبير.
فوائد حكمة التشربع:
١ - الإرشاد إلى استنباط الأحكام التي تقتضيها مصالح الناس، فحيثما وجدت المصلحة، وُجِدَ حكم الله.
٢ - الإثارة الى أن الشارع ينبغي له أن يبين لهم ما في تشريعه من مصالحهم، وجلب النفع لهم، ودفع الضرر عنهم.
يقول تعالى في الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣].
وفي الحج: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٨].
وفي القتل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩].
وفي الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥].
ولما كان التشريع الإسلامي مبنيًا على جلب المصالح ودفع المفاسد، فإنه لم يضع إلا قواعد عامة وأمورًا كلية، يدور عليها نظام الحياة في كل زمان ومكان، تاركًا التفصيلات الجزئية المختلفة يستنبطها المجتهدون والعلماء في ظل القواعد الكلية المقررة.
1 / 10
كما أن المصالح والمفاسد تترتب على الأفعال ترتب المسببات العادية على أسبابها؛ مثل ترتب منافع الأدوية ومضارها عليها؛ فإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فالعمل قد يكون مُنشئًا لمصلحة في حال أو زمان في حق أشخاص، فيستدعي الإقبال عليه، وقد ينتقل فعله إلى أن يتصل بمفسدة، فيستحق البعد عنه، ومن هنا، يجب أن يكون في نص القانون سعة ومرونة، بحيث يمكن تطبيقه على ما يجد من الحاجات والجزئيات؛ لأنه قانون عام، وضع للناس كافة في كل زمان ومكان.
المصلحةُ العامَّةُ في التَّشْرِيع الإسْلامِيّ
لم يقف المجتهدون من الصحابة والتابعين عند ظواهر النصوص، بل استنبطوا منها أحكامًا تلائم حالة العصر، بحيث لا تخرج عن دائرة الشرع الحكيم، واعتبروا المصلحة العامة وفقًا للشرع الحنيف. كما أن الصحابة عملوا أمورًا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار؛ ككتابة المصحف، وولاية العهد من أبي بكر لعمر وتدوين الدواوين ... إلخ مما لم يتقدم له أمر أو نظر، وإنما فعل لمطلق المصلحة.
هَلِ العُرْفُ قَانُونٌ شَرْعيٌّ مُطَاعٌ؟
من الأحكام التشريعية ما بينه الشارع على رعاية أحوال تتغير وعوائد تتجدد، وهذا النوع من الأحكام هو ما يعبر عنه بما يحتمل التفيير والتبديل ولا يلزم طرده في كل عصر، ولا إجراؤه في كل مكان بل يجري العمل فيه على ما يقتضيه العرف السائد بين الناس، ما دام الدين لا يحرم ذلك.
يقول عمر بن العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" وعلى ذلك فالعادة قانون شرعي مطاع؛ لما لها في الشريعة الإسلامية بمقتضى المصلحة من هذا الأثر البيِّن، كذلك نرى لها هذا الأثر الفعال في بعض الشرائع الوضعية.
التَّشْرِيعُ عِنْدَ العَرَبِ
لقد استمد العرب تشريعاتهم من العرف والعادات الجارية فيهم، وآراء حكامهم في النوازل التي كانت تعرض لهم.
وإذا قرأنا تاريخ العرب وتاريخ حكامهم المشهورين، وجدنا هذه الأمثلة الواضحة لكثير من الحكام؛ مثل قصي بن عبد مناف، وعبد المطلب بن هاشم، وغيرهما من الذين
1 / 11
أدلوا بآرائهم في كثير من المشكلات، وكان يدفعهم إلى وجه الصواب من الخصومات ما غرس في طباع الناس من حب العدل والميل إليه، بالإضافة إلى ما اقتبسوه من النصرانية واليهودية آنذاك.
ومما ينكر أن العرب كانوا على جانب عظيم من الفوضى والاضطراب، حتى جاء الإسلام بنوره ومهّد لإقامة الوحدة القومية، فانهدم سلطان العادات، وقام الدين ينظم العلاقات البشرية، ويكمل ما قصرت العادات دونه، ويفي بحاجات المدينة الناشئة المتجددة؛ لذلك كان العهد الذي ظهر فيه الإسلام عهد انقلاب للحياة العربية الأخلاقية والاجتماعية، وعهد إصلاح للتقاليد والقوانين، فأبطل وأد البنات، وحرّم الربا، وبيع الغرر، وحرم زواج المقت والمتعة وطلاق الظهار ... إلخ.
وامتدت حركة الإصلاح؛ لتضع للمجتمع الجديد الحدود والجزاءات للجرائم الخطيرة الني تهدد المجتمع بالفناء؛ كالزنا، والسرقة والقتل ... إلخ.
وقد أقر الإسلام بعض التقاليد الجاهلية التي لا تتعارض معه؛ كإقرار نظام القسامة، وميراث الولاء؛ كذلك إكرام الضيف، ونصر المظلوم وصلة الرحم.
منابعُ التَّشْرِيع الإِسْلاَمِيّ
رسمت الشريعة الإسلامية لبعض أحكامها العملية بالدلائل الصريحة، ورسمت لبقيتها مناهج يهتدي بها المجتهد، وينحصر ما يتمسك به المستدل للحكم في نوعين:
١ - ما يدل بنفسه، وهو القرآن الكريم، والحديث الشريف، والقياس.
٢ - ما يتضمنه الدليل ويستلزمه، وهو الإجماع.
وإنما كان كذلك؛ لأنه لا ينعقد على حكم حادثة إلا إذا قام له دليل ثابت ومستند صحيح.
قال في "كشف الأسرار" للبزدوي: "اعلم أن أصول الشرائع ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والأصل الرابع: القياس بمعنى الاستنباط من هذ ٥ الأصول".
سبب انحصار المصادر على هذ ٥ الأربعة:
إن الحكم إما أن يثبت بالوحي، أو بغيره، والأوّل إما أن يكون متلوًا وهو الذي تعلق بنظمه الإعجاز، وجواز الصلاة، وحرمة القراءة على الحائض والجنب، أو لم يكن، والأول هو الكتاب، والثاني هو السُّنة، وإن ثبت بغيره فهو إما أن يثبت بالرأي الصحيح أو بغيره، والأول إن كان رأى الجمع فهو الإجماع، وإن لم يكن فهو القياس، والثاني الاستدلالات الفاسدة.
1 / 12
الأدلَّةُ على هذه المَصَادِرِ الأَرْبَعَةِ
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩].
وقد اختلفت آراء المفسرين في المراد بأولي الأمر في الآية؛ فذهب بعضهم إلى أنهم العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية، وذهب بعضهم إلى أنهم الخلفاء الراشدون، وذهب البعض الآخر إلى أنهم أمراء السرايا.
ولا شك أن المراد بطاعة الله العمل بما جاء في كتابه، وبطاعة الرسول العمل بما صح عنه من الأخبار والآثار.
أما وجه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع، فهو - كما يرى الفخر الرازي - أن المراد من "أولي الأمر" "أهل الحل والعقدة" فالله - تعالى - ذكر ثلاثة طاعتهم واجبة، وهم: الله، ورسوله، وأولو الأمر، والله ورسوله مقطوع بعصمتهما؛ فوجب أن يكون أولو الأمر كذلك. أما وجه الاستدلال بالآية على حجية القياس، فقوله فيها: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾.
حيث نرى أن موضع الآية الثانية غير موضع الآية الأولى؛ إذ لو كان الموضع واحدا، وهو السائل المنصوص على حكمها في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع - كما يفهم من الآية الأخيرة لكان قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ....﴾ تكرارًا محضًا؛ إذ يؤول الكلام إلى: أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فأطيعوا الله ... إلخ. وذلك لغو ينزه القرآن عن مثله.
وحيث اختلف الموضوع، فكان محل الآية الأولى الأحكام المنصوص عليها، ويكون محل الثانية الأحكام الغير منصوص عليها أو على حكمها، وهذه يمكن تعرُّفها من النصوص الشرعية بعد معرفة العلة التي يناط بها الحكم في محل النص، وبعد معرفة تحققها في الحادثة التي لم ينص عليها، فكأن الله - تعالى - يقول: فإن تنازعتم في شيء، لا تجدون له نصًا - فردوه إلى المنصوص في الكتاب أو السنة، بإعطائه حكمه بعد الاشتراك في المناط المعتبر.
وبذلك تكون الآية قد دلت على حُجية الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والقياس. وأما مأخذ هذه الأصول من السُّنة، فالأمر ظاهر بالنسبة للكتاب الكريم الذي قال الله فيه: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وكان ذلك دليلًا على حُجية السُّنة من وجه آخر.
1 / 13
وأما الإجماع فسنده قوله ﷺ: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وأما القياس، فدليله من السنة حديث معاذ بن جبل، حينما بعثه الرسول ﷺ إلى اليمن، وقال له: "كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ " فقال له معاذ: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ ". قال معاذ: أقضي بسنة نبي الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله؟ ". قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلوا، فضرب الرسول ﷺ على صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله".
وإذا دققنا النظر، وجدنا أن الأصل في هذه الأحكام كلها واحد، وهو قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف: ٤٠].
ومن هذه الأحكام، ما وصلنا بين دفتي المصحف، ومنه ما وصل على لسان رسول الله، ومنها مما لم يكن قرآنًا ولا سنة، ولكنه مستنبط من ذلك وهو القياس، أو مستند إلى أحدها وهو الإجماع. وهناك أدلة أخرى أخذ بها البعض، وتركها البعض الآخر؛ مثل: الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة ... إلخ.
والكلام فيها مبسوط في كتب علماء الأصول.
بَعْضُ الدَّعَاوَى المُفْتَرَاةِ
يدعي بعض الباحثين في الشرائع والقوانين الذين هبطت عقولهم دون مستوى العقول - أن الشريعة الإسلامية أخذت بعض أصولها من الشرائع والقوانين الرومانية، ويستدلون على هذا الزعم الباطل باتحاد بعض القواعد والأصول في القانونين "الإسلامي والروماني" وبأن بلاد الشام كانت تابعة للدولة الرومانية قبل ظهور الإسلام، وقد كان القانون الروماني يحكمها، فهيأ ذلك لأولي الأمر من المسلمين أن يقتبسوا بعضًا من أصول هذا القانون.
وللرد على هذه الدعوى نقول:
1 / 14
١ - لقد جمعت الشريعة الإسلامية بنظمها وقوانينها في مدة قصيرة، ولم ينتقل الرسول ﷺ إلى الدار الآخرة حتى كانت أصولها تامّة، ولم يمض على الأمة قرن ونصف حتى ألفت تآليف هامة في فروعها وبسط أحكامها، وهذا ما لم يكن للأمم قبلنا، مع العلم أن النظم الرومانية لم تنضج إلا على عهد القيصر "جوستنيان" عام ٥٦٥، أي بعد مضي ثلاثة عشر قرنًا من حياة الرومان؛ وذلك يدل دلالة قاطعة على مكانة الشريعة الإسلامية وأنها بوحي سماوي.
٢ - من الناحية التاريخية يتضح لنا أنه لم يكن ثَمَّ اتصال بين العرب في شبه الجزيرة العربية، وبين أهل تلك البلاد "الشام" إلا في أحوال قليلة جدًا، كالتجارة مثلًا، فلا يعقل أن يكون المسلمون قبل اتساع فتوحاتهم قد أخذوا من فقه هؤلاء الرومان، على أن هذه القاعدة قد تقررت في الدين الإسلامي قبل أن تمتد الفتوحات الإسلامية إلى الشام، ويتهيأ للمسلمين أن يطلعوا على النظم الرومانية.
٣ - الاتفاق في بعض الأحكام واتحاد بعض النصوص في كلا القانونين لا ينهض دليلًا للحكم بأن القانون الإسلامي اقتبس من الروماني، فالعقل كثيرًا ما يهتدي إلى أحكام تتفق مع ما ينزل من السماء من شريعة وقانون، فمثلًا قد اهتدى عمر بن الخطاب ﵁ إلى أحكام في بعض ما عرض للنبي ﷺ من حوادث، وقد نزل القرآن موافقًا لما حكم به ابن الخطاب، فهل يقال - من أجل هذا التوافق -: إن الإسلام قلد عمر في رأيه؟
أقْسَامُ المَشْرُوعَاتِ الإِسْلاَمِيّة
يلاحظ الناظر إلى المشروعات الإسلامية أنها تنقسم إلى قسمين:
١ - أحكام أصلية، وبكون المقصود منها الاعتقاد.
٢ - أحكام فرعية، ويكون المقصود منها العمل.
ومعلوم أن الأحكام الاعتقادية متعلقة بذات الله - تعالى - وأسمائه وصفاته، وبالرسل، والكتب، واليوم الآخر؛ وهذا ما يطلق عليه "علم التوحيد".
والأحكام العملية هي ما تتعلق بأفعال المكلفين، من وجوب، وحرمة، وندب، وكراهة ... إلخ.
والأحكام الأصلية ثلاثة أقسام:
١ - ما لا يمكن إثباته إلا بالدليل العقلي القاطع كوجود الله تعالى، وصدق الرسل في دعوى الرسالة؛ لأنه لا طريق إلى إثبات ذلك بالدليل النقلي وحده، ولا يؤثر ذلك في كونه
1 / 15
شرعيًا؛ لأن الشارع أرشد إلى النظر والاستدلال في كثير من نصوصه.
٢ - ما لا سبيل إلى إثباته إلا بالنقل؛ وذلك كالأحكام المتعلقة بتفاصيل الدار الآخرة.
٣ - ما يثبت بكل من الدليلين النقلي والعقلي؛ كالحكم بأن الله عالم مريد، وبأن الأنبياء تجوز عليهم الأعراض البشرية.
تطوُّر التَّشْرِيع الإسْلاَمِيّ
وسوف نتكلم في ذلك عن عهدين متمايزين:
١ - العهد الأول: عهد التأسيس، وهو زمن الرسول ﷺ من بعثته إلى موته.
٢ - العهد الثاني: من بعد موته ﷺ إلى وقتنا هذا.
١ - التَّشْرِيعُ في عَهْدِ الرَّسُولِ ﷺ:
يلاحظ الناظر لنصوص الشرع في العهد المكي، أنها لا تكاد تتعرض لشيء من التشريع؛ وإنما كانت تدعو إلى أصول الدين وقواعده؛ فالإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، والأمر بمكارم الأخلاق وتجنب مساويها.
وما نزل بمكة من الآيات التي تشتمل على تشريع، لم يكن الغرض منه إلا حماية العقيدة.
أما المرحلة الثانية للتشريع في عهد الرسول، فكان بعد هجرته ﷺ إلى المدينة؛ حيث انتظم التشريع جميع أمور الدولة ونواحيها، ونظمها.
وفي هذا العهد كان التشريع لرسول الله ﷺ وحده مستقلًا به، وما كان لأحد من المسلمين أن يشترك معه في سلطة التشريع، وكان المسلمون إذا عرض لهم حادث أو شجر بينهم خلاف، وأرادوا معرفة حكم الإسلام - رجعوا إلى الرسول، ليعرفوا ما أرادوا.
اجتهاد الرسُول ﷺ
قد اجتهد الرسول ﷺ في وقائع عدة، وأقر الاجتهاد كمصدر للشريعة الإسلامية.
وقال العلماء: إن ما فيه نص إلهي، لا يجوز للنبي أن يجتهد فيه؛ لقوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ الأنعام: ١٠٦].
أما ما لا نص فيه، فيجوز أن يكون النبي ﷺ متعبدًا بالاجتهاد فيه؛ لأن له سلطة التشريع عن الله تعالى باعتباره مبلغًا معصومًا.
1 / 16
والظاهر من استقراء كلام أهل العلم، جواز الخطأ عليه ﷺ في اجتهاده؛ لأنه لو لم يكن احتمال الخطأ في اجتهاده، لكان مثل الوحي في عدم احتماله.
جوانبُ من اجْتِهَادِهِ ﷺ
١ - في الأحكام الدينية: قوله ﷺ: "لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ لما سقت الهدى"، ويريد النبي به ما ظهر عنده من المشقة عليه ومن تبعه في سوقه الملزم دوام الإحرام إلى قضاء مناسك الحج لما سقته، بل كنت أحرمت بالعمرة ثم أحللت بعد أدائها، كما هو دأب المتمتع؛ فثبت بذلك اجتهاده في الأحكام الدينية.
٢ - في الحروب: قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] عاتبه الله على إذنه للمنافقين بالتخلف عن غزوة "تبوك".
٣ - في الأمور الدينية: قوله تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ... .﴾ [الأنفال: ٦٨] عاتبه على أخذه برأي أبي بكر الصديق في أخذه الفداء من أسارى بدر، وتركه رأي عمر في التقتيل، وكانت المصلحة الإسلامية تقتضيه.
٤ - في المصلحة العامة: لما قال ﷺ في مكة: "لا يُخْتَلَى خلاها ولا يُعْضَدُ شَجَرُهَا" قال له العباس ﵁: "إلا الإذْخر - يا رسول الله - لبيوتنا وقبورنا" فقال رسول الله ﷺ: "إلا الإذخر".
وهذا منه ﷺ استثناء باجتهاده؛ إجابة للعباس؛ للمصلحة العامة.
اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ في عَصْرِهِ ﷺ
تروي لنا الآثار وقوع الاجتهاد من الصحابة - رضوان الله عليهم - وقد أقرهم الرسول ﷺ على ذلك وسُرّ بهذا. وقد مَرَّ بنا إقرار الرسول لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى "اليمن" ويروى أيضًا أن صحابيين خرجا في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء
1 / 17
فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فصوبهما رسول الله ﷺ وقال للذي لم يُعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي أعاد: "لك الأجر مرتين".
ولقد كان اجتهاد الصحابة في الحالات التي تعذر الرجوع فيها إلى الرسول- ﷺ واستفتاؤه في الأمر؛ وعلى هذا فلا يظن أن الاجتهاد مصدر ثالث للشريعة في عهده ﷺ؛ لأن اجتهاد النبي مرجعه الوحي، فإن كان صوابًا أقر عليه، وإن كان خطأ نبه إلى وجه الخطأ فيه.
وعلى هذا، لا يصح -نظريًا- اعتبار الاجتهاد في عصره- ﷺ مصدرًا مستقلًا للشريعة؛ إذ كان مرجعه إلى السنة.
القرآنُ الكريمُ مَصْدَرُ التَّشْرِيعِ الأَوَّلُ
عرف العلماء القرآن الكريم بأنه اللفظ العربي المنزل على سيدنا محمد ﷺ المنقول بالتواتر، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس.
وهو أيضًا حبل الله المتين من تمسك به نجا، ومن حاد عنه ضل؛ يقول الله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
يقول الإمام المازني: "القرآن قاعدة الإسلام، وقطب الأحكام، ومفزع أهل الملة ووزرهم، وآية رسولهم، ودليل صدق نبيهم".
ومعظم آيات القرآن تتعلق بالتوحيد، والأدلة الدالة عليه، ورد عقائد المضللين والملحدين، وإثبات الثواب والمعاد، ووصف يوم القيامة وأهواله، وما أعده للطائعين وللعاصين، وتضمن أيضًا أخبار الأمم الماضية والتنكير، وذكر أسماء الله وآلائه وبيان صفاته.
وتعلقت بقية الآيات بالأحكام الفقهية وهي قليلة بالنسبة للأغراض السابقة.
كيفيَّةُ نُزُولِ القُرْآنِ الكَرِيمِ
يقول تعالى: ﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: ١٠٦].
1 / 18
معنى هذا، أن القرآن الكريم لم ينزل على النبي ﷺ جملة واحدة، بل كان ينزل بحسب الوقائع والمناسبات، أو جوابًا لأسئلة واستفتاءات.
مثال على الحالة الأولى: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢١] حيث نزلت في شأن "مرثد الغنوي" وقد بعثه الرسول ﷺ إلى "مكة" ليحمل من المستضعفين من المسلمين، فعرضت امرأة مشركة أن يبيت عندها، وكانت ذات جمال ومال، فأعرض عنها خوفًا من الله، ثم أرادت أن يتزوجها، فقبل على شرط أن يرجع بالأمر إلى النبي، فلما رجع إليه سأله أن يأذن له في التزوج بها فنزلت الآية.
مثال على الحالة الثانية:
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ [البقرة: ٢٢٠].
وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥].
وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: ٢٢٢].
وتلك الوقائع والاستفتاءات التي كان ينزل بحسبها القرآن هي ما يعرف بأسباب النزول، وللعلم بها أهمية كبرى في تفسير القرآن الكريم، ولتكون هذه الأسئلة والوقائع قرائن معنوية، يستعان بها على أن يفهم القرآن حق الفهم، وأن تعرف أسراره ولطائفه ومراميه أحسن معرفة.
وقد أفرد العلماء لأسباب النزول كتبًا ومصنفات كثيرة، كـ"أسباب النزول" للواحدي النيسابوري.
ما حِكْمَةُ نُزُولِ القُرْآن مُنَجَّمًا؟
قلنا فيما سبق: إن القرآن نزل منجمًا حسب الوقائع والمناسبات، وما زال كذلك حتى كملت الشريعة بتمام نزول القرآن، وقد ذكر العلماء الحكمة في نزوله منجمًا فيما يلي:
١ - ليقوي به قلب الرسول ﷺ فيعيه ويحفظه؛ يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢].
٢ - اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون في القرآن ما هو ناسخ، وما هو منسوخ، وهذا لا يتأتى إلا فيما ينزل مفرقًا.
1 / 19
٣ - في نزول القرآن منجمًا رحمة بالعبادة؛ لأنهم كانوا قبل الإسلام في إباحية مطلقة وحرية لا حدود لها، فلو نزل عليهم القرآن دفعة واحدة لثقلت عليهم التكاليف، ونفرت قلوبهم عن اتباع الحق والإذعان له.
أخرج البخاري عن السيدة عائشة أنها قالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء لا تشربوا الخمر، لقوال: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا".
الآيَاتُ المكّيَّةُ والمَدَنِيَّةُ
يقال للآيات التي نزلت بمكة: آيات مكية، وما نزل بالمدينة يقال لها: مدنية.
واختلف العلماء في ذلك؛ فيرى البعض منهم أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، معنى هذا أن ما نزل في الأسفار لا يطلق عليه مكّي ولا مَدَنيّ، فهو قسم مستقل.
ويرى بعضهم أن المكي ما كان خطابًا لأهل مكة، والمدني ما كان خطابًا لأهل المدينة.
ويرى البعض الآخر - وهو أشهر المذاهب- أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها ولو في "مكة".
مميزات كل منهما:
١ - يرجع معظم الآيات المكية إلى توحيد الله، وإقامة البراهين على وجوده، وهدم افتراءات الملحدين؛ بينما تعرضت الآيات المدنية للأحكام الفقهية والفرائض والحدود.
٢ - الآيات المكية غالبًا قصيرة؛ ليتمكن الرسول والمؤمنون من حفظها؛ بخلاف المدني.
٣ - كانت صيغة الخطاب المكي تارة تكون بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وتارة تكون بـ ﴿يَا بَنِي آَدَمَ﴾، أما الخطاب المدني فيغلب عليه أن يكون بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾، ولم يرد في الخطاب المدني بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ إلا في سبع آيات معلومة.
٤ - كل سورة فيها سجدة فهي مكية إلا الحج؛ فالراجح أنها مدنية.
1 / 20
٥ - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، إلا "العنكبوت"؛ لأنهم لم يكونوا بمكة غالبًا.
اسْتِنْبَاطُ الفُقَهَاء للأحْكَام من القُرْآنِ الكَرِيمِ
تنحصر أحكام الشريعة الإسلامية في خمسة أنواع:
الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والجواز، وهو ما اصطلح أئمة الفقه والأصول عليه.
ولا يخفى على كل بصير أن القرآن جاء في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة والإعجاز، وأن الله ساقه على سبيل الإنذار والبشارة؛ ليكون مؤثرًا في النفس البشرية، والفصاحة من أعظم المؤثرات على عقول البشر وطبيعته التي تمل من تكرار عبارة واحدة.
فلو جاءت الأحكام الإسلامية على سبيل: هذا واجب، هذا مندوب، هذا حرام ... إلخ. لم تكن هناك الفصاحة المؤثرة. وفي الواقع، نجد القرآن الكريم يعبر ببعض الألفاظ المصطلح عليها كالحرمة والحل؛ كما في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] وقوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤].
وتارة يعبر في الوجوب بمادة "فرض": ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٥٠].
أو يعبر عنه بـ"قضى"؛ مثل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣].
أو يعبر عنه بـ"كتب"؛ مثل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: ١٨٣].
ويعبر القرآن بـ"ينهى" عن حرَّم ويعبر عنه بـ"لا يحل"؛ مثل: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ [النساء: ١٩].
ويعبر عن الوجوب بـ"على"؛ مثل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧].
ومن الصيغ المفيدة للوجوب ظاهرًا وصفه بأنه بر؛ مثل: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: ١٨٩] أو وصفه بالخير؛ مثل: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة: ٢٢٠].
ومن الصيغ الدالة على التحريم "لا تفعل"؛ مثل: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٣٤].
ومن ذلك فعل الأمر الدال على طلب الكف؛ نحو: ﴿ذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٠].
1 / 21
ومن ذلك ذكر الفعل متوعدًا عليه، إما بالإثم، أو بالفسق؛ مثل: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩]. وقوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: ٦٨]
وقوله: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ [المائدة: ٣].
وما ذكرناه سابقًا، إنما هو أمثلة فقط لهذه الأحكام الخمسة. وبالجملة، فإن الأحكام الخمسة السابقة لم ينص في الكتاب والسنة عليها. كما هي في كتب الفقه بهذه الألفاظ المعروفة في كل مسألة مسألة؛ وإنما وردت في الكتاب والسنة تلك الصيغ الدالة على السخط، أو الرضا، أو عدمهما، منطوقًا أو مفهومًا، ثم إن الصحابة ومن بعدهم من العلماء أدركوا بحسب القرآن ما دلهم على تلك الأحكام، فاصطلحوا عليها ورأوا أن الأوامر والنواهي لا تخرج عنها، فبذلوا وسعهم في الاستنباط بحسب القرآن وموارد كلام العرب وكتاباتهم.
وقُوعُ النَّسْخِ فِي القُرْآنِ
وقع النسخ في الكتاب والسُّنة على السواء، وهو جائز عقلًا بلا خلاف.
وحكمة النسخ أن شرع الأحكام كثيرًا ما يكون لمقتضيات وقتية، فإذا تغيرت هذه المقتضيات اقتضى ذلك تغير الحكم؛ رحمة من الحق- تعالى - بعباده.
أما حكمة بقاء تلاوة المنسوخ، فهو التذكير بحكمة التخفيف واستحضار تلك الحالة السابقة، وثواب التلاوة، والتعبد، وغير ذلك.
والنسخ في القرآن معناه: رفع حكم آية عن جميع محالها.
أمثلة على ذلك:
١ - قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة:١٨٤]. نسخها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥].
٢ - قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] نسخها قوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
٣ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ [النساء: ٣٣]. نسخها قوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦].
وقد وقع النسخ في حديث الرسول ﷺ قال العلاء بن الشخير: كان رسول الله ﷺ ينسخ حديثه بعضه بعضًا كما ينسخ القرآن بعضه بعضًا.
1 / 22