قلنا: اختلفوا فيه، فقيل: تعمد الأكل من عين ما نهي عنه، ووقعت كبيرة، وهو قول الحشوية، ولا يجوز ذلك على الأنبياء؛ لأنهم معصومون، ولأن ما جوزوه يوجب عليهم البراءة واللعن، وهذا لا يجوز. وقيل: نسي النهي فتناول منها وهو ناس، يدل عليه قوله تعالى: (فنسى) وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو نسي لما كان ذنبا، فكان لا يعاتب عليه، ولأنه كان من شريعته وأمر امرأته بالامتناع أيضا فكيف ينساه؟، ولا يقال نسي الوعيد؛ لأن النهي يتضمن الوعيد. وقيل: إنه سكر سقته حواء الخمر حتى سكر فقادته إليها فأكل، عن سعيد بن المسيب، فكان يحلف بالله ما أكل وهو يعقل، وهذا ليس بالوجيه؛ لأن السكران إن زال عقله زال التكليف فلا يوصف فعله بأنه معصية، وإن لم يزل عقله فالكلام بحاله. وقيل: أكله ناسيا، والنسيان غير مرفوع عن الأنبياء، وهذا لا يصح لأن النسيان يزيل التكليف، فإن الناسي لا يمكنه أداء ما كلف، وإن أراد بالنسيان التشاغل الذي يتمكن المكلف من إزالته، فلا فرق بيننا وبينهم فيه فلا معنى لهذا الفرق. وقيل: إنهما تأولا بأن الإشارة وقعت بالنهي إلى شجرة بعينها وكان المراد بها الجنس فترك الاستدلال وهذا نحو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما شبع من هذه البرة السمراء، ونحو إشارته إلى قطعة من ذهب وقطعة من حرير هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها وأراد الجنس؛ لأنه لا يجوز على نبي من أنبياء الله تعالى أن يأتي بمعصية، وهو يعلم أنها معصية، وإنما يغفل عن الاستدلال، وهذا هو الأوجه، وهو قول أبي علي، وقيل: تأولا النهي على الندب، لا على الحتم، وقد يجيء صورة النهي والمراد به التنزيه دون التحريم، كقوله: لا تجلس على الطريق، ونسي الوعيد المقرون به، وهذا يبعد لأن ظاهر النهي يقتضي التحريم، وذلك يتضمن الوعيد، ولا فرق بين أن يقال: نسي الوعيد المقرون بالنهي، أو يقال: نسي النهي.
فإن قيل: كيف لم يعلم آدم مع فضله أنه نهي عن الجنس، وعلم ذلك إبليس حتى دعاه إلى أكل الجنس، وهذا كالقدح فيه، ولأنه إذا كان نهاه عن الجنس فلا بد من دليل يتمكن به من معرفته فكان يجب أن ينظر في الدليل، فإذا لم ينظر فقد ترك واجبا، ولأنه لو نسي ذلك لوجب على الله أن يخطر ذلك بباله حتى لا يقدم عليه، وليستدل على تحريمه، ولأنه تعالى قال: (أنهكما عن تلكما الشجرة) فعاتبه على أنه أكل ما نهي عنه، دل على أنه تناول عين ما نهي عنه، ولأنه - وإن نسي الاستدلال - لما ذكره الشيطان ودعاه إلى الأكل تذكر فكان يستدل، فلما لم يستدل دل أنه ترك الاستدلال تعمدا، ثم استوى في ذلك ترك الاستدلال، وفعل الأكل؛ لأن كل واحد منهما ترك الواجب فلأن ذلك كان شريعة له، وكان مأمورا بتبليغه هو، فكيف يصح أن ينساه، وهو لا يعلم كيفية التحريم والشيطان يعرفه؟!
قلنا: الله تعالى نهاهما عن جنس تلك الشجرة، وأشار إلى شجرة بعينها وقرن بالنهي دليلا على أنه أراد الجنس، إلا أنه نسي الدليل فترك الاستدلال وتأول النهي على غير تلك الشجرة فأكل متأولا، ولم يتعمد العصيان.
فأما الجواب عن الأول أنه يجوز أن يكون علم إبليس من جهة الملائكة قبل خلق آدم وقبل هذه الأحوال ولم يعلم آدم ذلك، ولأن آدم لم يكن عرف العادات بالخطاب، وهو كان يعرف ذلك، ولأن مبالغته في العداوة تقوي دواعيه في النظر فعرف، والشهوة صرفت آدم عن النظر، ويدل عليه قوله تعالى: (فدلاهما بغرور)
صفحہ 337