Tafsir wal-Bayan li-Ahkam al-Quran
التفسير والبيان لأحكام القرآن
ناشر
مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٨ هـ
پبلشر کا مقام
الرياض - المملكة العربية السعودية
اصناف
سلسلة منشورات مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع بالرياض (١٦٦)
التفسير والبيان لأحكام القرآن
تأليف
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
اعتنى به
عبد المجيد بن خالد المبارك
المجلد الأول
[البقرة]
نامعلوم صفحہ
التَّفسِيْرُ وَالبَيَان لِأَحكَامِ القُرآن (١)
1 / 2
جميع حقوق الطبع محفوظة لدار المنهَاج بالريّاض
الطبعَة الأولى
١٤٣٨ هـ
مكتبة دار المِنهَاج للنشر والتَّوزيع
المملكَة العَربيَّة السّعُوديَّة - الرّيَاض
المركز الرئيسي - الدّائري الشرقي - مَخرَج ١٥ - جنوب أسوَاق المجد
ت: ٤٤٥٦٢٢٩ - فاكس: ٤٩٦٢٠١٤ - ص ب: ٥١٩٢٩ - الرّياض: ١١٥٥٣
الفرُوع - طريق خالد بن الوليد (إنكاس سَابقًا) ت: ٢٣٢٣٠٩٥
مكة المكرمة - الجميزة - الطريق النازل للحَرَم - ت: ٥٧٦١٢٧٧/ ٠٢
المَدينَة النَّبويَّة - أمَام الجَامِعَة الإسلامية من جهة الجنوب - ت: ٨٤٦٧٩٩٩/ ٠٤
حِسَاب الدَّار في مَوقع تويتر: Alminhajj@
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ المُعتَنِي بالكِتَابِ
الحمد لله وحدَه، والصلاةُ والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبه، أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ الله أنعَمَ على الأُمة بالقرآن؛ لأنَّ به قوامَها وسعادتَها وثباتَها وعِزَّها ونَصرَها، وقد سمَّى الله القرآنَ وما فيه مِن شرائعَ وأحكامٍ نِعمةً؛ كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣]، ومن سُنَّة اللهِ أنه لا يُعظِّمُ النِّعمةَ إلا مَن عَرَف قَدْرَها، وقد جعلَ الله القرآنَ أعظَم ما يُفرَح به وخيرًا مما يجمَع مِن المادِّيَّاتِ كالأموال مِن الذَّهَبِ والفِضَّة وغيرِهما، ومن المعنَوِيَّاتِ كالأفكارِ والنُّظُم والقوانين، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
ولا يخفى على مُسلمٍ فضلُ القرآنِ العظيم لمَن يَقصِدُ نَيْلَ الأحكامِ الشرعية والغوصَ في دلالاتِها، ولا يَتأهلُ المتعلِّمُ إلا بمعرفةِ أقوى أدلَّةِ التشريع، وهو هذا الكتابُ العزيزُ.
1 / 5
وغيرُ خافٍ على متعلِّمٍ أنَّ أعلَى مراتِبِ الاحتجاجِ وأقوى الأدلةِ هي حُجَجُ القرآنِ وأدلَّتُه، ومِن القُصورِ في المتعلِّمِين أن تكونَ الحُجةُ في القرآنِ ظاهرةً ثم يتحاوزها إلى الاستدلالِ بما دُونَه، وقد حَرَص السلفُ وأئمةُ الخَلَفِ على إبراز أدلةِ الأحكام مِن القرآن، ببن متوسِّعٍ ومختَصِر، وقابِضٍ في الاستنباط وباسِط، حتى لم يَخْلُ مَذهبٌ مِن مصنَّفٍ في هذا الباب.
وإنَّ مِن إعجازِ القرآن صلاحَه لكُلِّ زمان ومكانٍ ولكلِّ جِيل، وقد كَثُرت المصنَّفاتُ في أحكام السُّنَّةِ وفقهِها في هذا العصرِ، ولكنَّ المصنفاتِ في تفسيرِ أحكام القرآن قليلةٌ، وقد كانَتِ الحاجةُ إلى الكلام على أحكامِ القرآن واستنباطِ آياته في أبواب الفقهِ وسائرِ الأحكام وخاصَّةً ونحنُ في زمنٍ كَثُرت نوازِلُه التي نحتاجُ إلى بيانِ أدلَّتِها مِن القرآن وإتباعِ ذلك بحُجَجِها مِن السُّنة والأَثَر.
وقد دارَسْتُ شيخَنا عبدَ العزيزِ الطريفيَّ القرآنَ فعرضْتُ عليه القرآنَ أربعَ مراتٍ بدءًا مِن رمضانَ عامَ أَلْفٍ وأربعِ مئةٍ واثنينِ وثلاثينَ، للهجرةِ النبويَّةِ، وأملَى عليَّ آياتِ الأحكام، ثُم فَسَّرَها في مجالسَ لطُلابِ العلمِ، أَوَّلُها في التاسِعَ عشرَ مِن شهرِ شوَّالٍ مِن عام ألفٍ وأربع مئةٍ واثنينِ وثلاثينَ، وأَتَمَّ تفسيرَ أحكامِ القرآن في أكثَرَ مِن مئةٍ وعشرينَ مجلسًا.
وقد بَسَط القولَ على كلِّ الآيات المتعلِّقةِ بأحكام التكليفِ الخَمْسة، فشَمِل التفسيرُ أحكامَ الفقهِ بقِسمَيْه العباداتِ والمعامَلاتِ، والآدابِ والأخلاقِ والسياسةِ الشرعيةِ في أحكام التعامُل مع الناسِ موافِقِينَ ومُخالفِين، مؤمِنِين ومنافِقِين وكافِرِين.
1 / 6
وقد توسَّعَ قي الكلامِ فتجاوَزَ المنطوقَ إلى المفهوم، والاستنباطَ إلى الاستطراد، وقد جُمِع هذا التفسيرُ كُل مجلِسٍ في يَوْمِه.
والحمدُ لله على عَوْنِه وتوفيقِه وتيسيرِه على تمامِه، ونَفَع به وبِشَارِحِه وجامِعِه، وصلَّى الله وسَلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه.
وكتب
عبد المجيد بن خالد المبارك
٣/ ٣/ ١٤٣٦ هـ
a.almubarak ١٢@gmail.com
1 / 7
مُقَدِّمَةُ المُؤَلِّفِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين، أوْجَدَ الخَلْقَ وتَكَفَّلَ بهم، وجَعَلَ لهم عقولًا تَهْدِيهِم إلى دُنْياهُم ووَحيًا يَهْدِيهم إلى دِينِهم، رَبِّ الآخِرَةِ والأُولَى، لا يستَحِقُّ العبادةَ إلا هُو، ولا يستحِقُّ كمالَ الشُّكرِ والحمدِ غيرُهُ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا المصطَفَى بالرسالةِ، خيرِ البَرِيَّةِ وإمامِ الحَنِيفِيَّة، المخصوصِ بالوحيِ المحفوظِ مِن التبديلِ والتحريفِ، كما قالَ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ نِعمةَ الهدايةِ إلى معرفةِ الله وأوامرِهِ ونواهِيهِ وامتثالِها أعظَمُ النِّعَم؛ إذ لا خَصِيصَةَ فارِقَةٌ بينَ الإنسانِ والحيوانِ إلا بتلكَ النِّعْمَة، ومَن حُرِمَ ذلك استَوَى مع الحَيَوانِ بالاستِمْتَاعِ، ولا فارِقَ بينَهم إلَّا أنَّ كلَّ واحِدٍ يَعْمُرُ دُنياهُ بما يُناسِبُ كمالَ تَلَذُّذِه ومُتْعَتِه فيها، وكُلُّ جِنْسٍ بَصِيرٌ بنَفْسِه، بلْ إنَّ كثيرًا مِنَ الحيوانِ أكثَرُ مُتعةً في الدُّنيا مِن الإنسانِ، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ [محمد: ١٢]، وامتَازَ الحيوانُ بأنَّه لا يُحاسَبُ على مُتعتِه فقالَ: ﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: ١٢]، ومِن هذا قولُه تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩].
وأَوْلَى ما يَجِبُ الوقوفُ عندَه مِن القرآنِ: مَعرِفةُ أوامِرِه ونواهِيه وأحكامِه، فمَن عَرَف أحكامَ اللهِ في كتابِه وتأمَّلَ ما فيها مِن إحكام، ودقيقِ انتِظَام، وعَظِيمِ المصالِحِ وجَلِيلِ المَقَاصِد؛ وَجَدَ في قَلْبِه مِن
1 / 9
الإيمانِ باللهِ والتسليمِ والخُضُوعِ والتعظيمِ له أعظَمَ ممَّا يَجِدُه في الآياتِ الكَوْنِيَّةِ المُشاهَدَةِ كالسَّمَواتِ والأَرْضِ والنُّجُومِ والكواكِبِ والسَّحَابِ، وقد سَمَّى الله أحكامَهُ مواعِظَ؛ فقد قال تعالى بعدَمَا ذَكَرَ آياتِ الطَّلَاقِ: ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٣١]، ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٣٢]، وقال بعدَ آباتِ الظِّهَارِ: ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: ٣]، وقال بعدَ آياتِ القَذْفِ: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا﴾ [النور: ١٧]، ولَمَّا ذَكَرَ اللهُ أوامِرَهُ لبَنِي إسرائيلَ قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: ٦٦]؛ وذلكَ أنَّ الأحكامَ فيها مِنَ المَوْعِظَةِ والعِبْرَةِ وعظيمِ المنفَعَةِ لمَنْ تأَمَّلَها، وإنَّ الفَقِيهَ بأحكامِ القُرآنِ يَجِدُ في قَلْبِه مِنَ الإيمانِ واليَقِينِ بمِقدارِ فِقْهِهِ وبَصَرِه فيها؛ لِمَا يَرَى مِن إِحْكامِ الأَحْكامِ ما لا يُمكِنُ ورودُهُ الا مِن خالِقٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، وقد قال التابعيُّ الحارِثُ بنُ يَعْقُوبَ: "إنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهِ مَن فَقُهَ في القُرآن، وعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَان" (١).
وأَحْكامُ الإسلامِ موجودةٌ في القُرآنِ بالإِجْمالِ، ولكنْ مِنها ما يَظْهَرُ بأَدْنَى نَظَرٍ؛ لِجَلَاءِ النصِّ فيهِ، ومِنها ما يحتاجُ إلى جلاءِ نَظَرٍ؛ لِخَفَاءِ النَّصِّ فيه، وتلكَ مُوازَنةٌ عَكسِيَّةٌ: إذا بَرَزَ الحُكمُ قَلَّتِ الحاجةُ للبَصِيرةِ، وإذا خَفِيَ الحُكمُ عَظُمَتِ الحاجةُ إليها، وإلَّا فالحُكمُ موجودٌ بالنصِّ أو الاستِنباطِ، وهذا مِنَ المُرادِ بقولِه تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩].
_________
(١) رواه ابن بَطَّةَ في "إبطال الحِيَل" (ص ١٧)، وابن عبدِ البَرِّ في "جامع بيانِ العلم وفَضْلِه" (٢/ ٨١٧).
1 / 10
وإذا عَمِيَتِ البَصَائِرُ عن الحُجَجِ كانَ حالُها كحالِ البَصَرِ الأَعْمَى عنِ الطَّرِيق، وإذا أخَذَ الإنسانُ العاقل العارِفُ بلُغَةِ القُرآنِ بأمرَيْنِ؛ فَهِمَ منه ما لا يَفْهَمُه غيرُه، وفَتَحَ اللهُ عليه ما لم يَفْتَحْهُ على غيرِه:
الأَمْرُ الأَوَّلُ: حُسنُ القَصْدِ في طَلَبِ الحَقِّ؛ فإِنَّ اللهَ لم يُنزِلْ كتابَه إلَّا شِفاءً لأمراضِ الصُّدورِ وعِلَلِها، ومَن نَظَرَ في القُرآنِ بالهَوَى فسَبَقَ نَظَرَهُ مَرَضُ قَلْبِه: زَاغَ، فيُبَصَّرُ بما يوافِقُ هَوَاه، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، فهُم زاغُوا وبَيَّتُوا الغَيَّ فزادَهُمْ غَيًّا وزَيْغًا.
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢٧]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٤، ١٢٥]، وقال تعالى في هذا المعنَى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: ١٠]، فالرِّجْسُ والمَرَضُ والزَّيْغُ موجودٌ فيهم بعِلْمِهم قبْلَ نَظَرِهم في القُرآن، فزادَهُم نَظَرُهم رِجْسَا ومَرَضًا وغَيًّا، واللهُ لا يَقذِفُ في قلبِ الصادقِ غَيًّا إذا نَظَرَ في القُرآن، فهو شفاءٌ لِمَن حَسُنَ قَصْدُه، ولكنْ مَن لا يُوجَدُ الخيرُ في قَلْبِه تُحْرَمُ بصيرَتُه الفَهْمَ؛ ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: ٢٣]، ولأَجْلِ هذا السَّبَبِ يَزِيغُ بعضُ مَن يَقرَأُ القُرآنَ ويَعرِفُ الحديثَ؛ انحَرَفَتْ نِيَّتُه فانحَرَفَ فَهْمُه.
الأَمْرُ الثَّانِي: إدامةُ البَصَرِ وإطالةُ التأَمُّلِ في القُرآن؛ فإنَّ مَعانِيَ
1 / 11
القرآنِ وحِكَمَهُ وأدلَّةَ أحكامِهِ لا تُحصِيها عقولٌ ولا تُحيطُ بها فُهُوم، وقد دَعَا اللهُ إلى التَّفَكُّرِ في القُرآنِ وتأَمُّلِ آياتِه وتَدَبُّرِها؛ قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩]، والتَّدَبُّرُ بابُ القلوبِ، كُلَّمَا اتَّسَعَ الفَتْحُ اتسَعَ الذي يَدْخُلُه مِن المَعَاني؛ ولهذا شَبَّهَ اللهُ تارِكَ التدبُّرِ بمُقْفَلِ القلبِ؛ قال تعالى ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤]، وإذا كان القلبُ مُقفَلًا فلن ينتفِعَ الإنسانُ بالسمعِ والبَصَر.
وقد كانَ السلَفُ يَحُثُّونَ على تدبُّرِ القرآنِ والتأَنِّي في قراءَتِه لاستخراجِ ما فيه، وخاصَّةً أدلَّةَ الأحكام، ويَظُنُّ بعضُ الناسِ أنَّ أدلَّةَ أحكامِ القُرآنِ والقرائنَ عليها أُحْصِيَتْ ودُوِّنَتْ؛ وهذا غَلَطٌ؛ فالثابِتُ والمُحصَى هي أحكامُ الدِّينِ، فلا جَدِيدَ في الدِّينِ بعدَ انقِطاعِ الوَحْيِ، وإنَّما بَقِيَ مِن وُجوهِ الاستدلالِ مِن الوحي قَدْرٌ لا ينقَطِعُ، وقد قالَ ابنُ مسعودٍ في ذلك: "إِذَا أردتُّمُ العِلْمَ فأَثِيرُوا القُرآنَ؛ فإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ" (١)، و"أَثِيرُوا"؛ يعني: نَقِّرُوا عنه، وتَفَكَّرُوا في معانِيهِ وتفسيرِه.
وقد رُوِيَ عنِ الرَّبِيعِ صاحِبِ الشافعيِّ قولُه: "قَلَّمَا كُنتُ أَدْخُلُ على الشافعيِّ ﵀ إلَّا والمُصْحَفُ بينَ يَدَيْهِ، يَتَتَبَّعُ أحكامَ القُرآنِ" (٢).
وقد كانَ الأئمة يَرَوْنَ مِنَ القُصُورِ الاستِدلالَ بما دُونَ القرآنِ إذا كانَ الدليلُ فيه واضحًا، فأَوَّلُ مَن يستحِقُّ اسمَ أهلِ القرآنِ الوارِدَ في
_________
(١) رواه ابنُ المبارَكِ في "الزُّهد" (ص ٢٨٠).
(٢) رواه البيهقيُّ في مقدِّمةِ جَمْعِه لكتاب "أحكام القرآن" للشافعي (١/ ٢٠).
1 / 12
قولِه ﷺ: (أَهْلُ القُرْآنِ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ) (١): هُمْ أعلَمُ الناسِ بمواضعِ أحكامِه منه، وأكثَرُهُم تدبُّرًا وتأمُّلًا لمَعانِيه، ومِن الغَلَطِ حَصْرُ أو تقديمُ حَسَنِ الصَّوتِ بذلك الاسمِ والفَضْلِ على مَن يعرِفُ معانِيَهُ ويعرِفُ أدلَّةَ أحكامِ الله مِن كتابِه؛ فأَحَقُّ الناسِ باسمِ "أهلِ القرآن"، و"أَهْلِ الله وخاصَّتِه": مَن عَرَفَ حدودَ القرآنِ وحروفَه وأقامَهما، ثم يَلِيه: مَن عَرَفَ حُدُودَه وأقامَها، ثُم مَن عَرَفَ حروفَه وأقامَها.
وفي كتابِ "أحكام القُرآن" للشافعيِّ فصلٌ في التحريضِ على تعلُّمِ أحكامِ القُرآن، وقال: "إنَّ مَن أَدْرَكَ عِلمَ أحكامِ الله في كتابِه نَصًّا واستِدلالًا، ووَفَّقَهُ اللهُ للقَوْلِ والعَمَلِ لِمَا عَلِمَ مِنه، فازَ بالفضيلةِ في دِينِه ودُنْيَاه، وانتَفَتْ عنه الرِّيَبُ، ونَوَّرَتْ في قَلْبِه الحِكمةُ، واستَوْجَبَ في الدِّينِ موضِعَ الإمامةِ" (٢).
السُّنَّةُ مُفَسِّرَةٌ للقُرآن:
ولا يتمَكَّنُ صاحبُ عقلٍ لبيبٍ مِن معرفةِ تفاصيلِ أحكامِ القرآنِ حتَّى يتمَكَّنَ مِنَ السُّنَّة؛ فإذا جَمَعَ تلك القواعِدَ فقَدْ جَمَعَ العِلمَ، كما قال أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: "أصولُ الإسلامِ أرْبَعةٌ: دَالٌّ، ودَلِيلٌ، ومُبَيِّنٌ، ومُسْتَدِلٌّ؛ فالدَّالُّ: اللهُ تعالى، والدَّلِيلُ: القُرآنُ، والمُبَيِّنُ: الرَّسُولُ ﷺ قال اللهُ تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]- والمُسْتَدِلُّ: أُولُو
_________
(١) أخرجه أحمد في "مسنده" (٣/ ٢٤٢ حديث ١٣٥٤٢)، وابن ماجه (٢١٥)؛ من حديث أنَسٍ ﵁.
(٢) "أحكام القرآن" للشافعي (١/ ٢١).
1 / 13
الأَلْبَابِ وأُولُو العِلمِ الذين أَجْمَعَ المسلمونَ على هِدَايَتِهِم ودِرَايَتِهم" (١)، ولا يُقبَلُ الاستِدلالُ إلَّا مِمَّنْ كانَت هذه صِفَتَه.
وقد سُئِلَ أحمدُ عن قولِهِم: "السُّنَّةُ قاضيةٌ على الكِتابِ"؟ فقال: "ما أَجْسُرُ على هذا، ولَكِنِ السُّنَّة تُفَسِّرُ الكتابَ وتُبَيِّنُهُ" (٢).
وكُلَّما كانَ اللَّبِيبُ عارِفًا بالقُرآنِ والسُّنَّةِ، كانَت حاجَتُه إلى الرأيِ أَضْيَقَ، وإنَّما تَوَسَّعَ أهلُ الرأيِ في الدِّينِ برَأْيِهم لقِلَّةِ معرِفَتِهم بالنُّصُوصِ، فاحتاجُوا للرَّأْيِ لسَدِّ مكانِ الحُجَّةِ لإثباتِ الأحكام، والخَبِيرُ العارِفُ بالنُّصوصِ ودلالاتِها لا يَلجَأُ إلى ذلك إلا في أضيَقِ الأحوالِ، كما قال ابنُ تيميَّة: "وقَلَّ أن تُعْوِزَ النُّصوصُ مَن يكونُ خبيرًا بها وبدلالاتِها على الأحكامِ" (٣).
ومعرفةُ السُّنَّةِ تكونُ بالتوسُّعِ في جَمْعِ أحاديثِ الأبوابِ، ومعرفةِ مواضِعِها ومنازِلِها في الاستِدلالِ، والمُحكَمِ والمُتَشابِهِ، والناسِخِ والمنسوخِ، والعامِّ والخَاصِّ، والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ، والقَطْعِيِّ والظَّنِّيِّ دلالةً وثبوتًا، ومعرفةِ عددِ أحاديثِ البابِ ومقارَنَتِها بما يشابِهُها مِن الأبوابِ، وسببِ زيادةِ هذا على هذا، وعمومِ البَلْوَى، وأحكامِ العِبادةِ والآدابِ والإرشادِ، وتمييزِ مراتب الثُّبوتِ، قال أحمدُ وإسحاقُ: "إذا لم يَعْرِفِ الصحيحَ والسَّقِيمَ والناسِخَ والمنسوخَ مِن الحديثِ لا يُسَمَّى عالِمًا" (٤).
_________
(١) "النُّبُوَّات" لابن تيمية (ص ٤٢)، وانظر: "الفَقِيه والمتفَقِّه" للخطيب البغدادي (٢/ ٤٤).
(٢) "جامع بيان العلم وفضله" (٢/ ١١٩٤)، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (١/ ٢٥٢).
(٣) "الاستقامة" (٢/ ٢١٧).
(٤) "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص ٦٠).
1 / 14
والمتشابِهاتُ في الوحيِ هي جِهادُ العُلماءِ؛ لأنَّ ذلك مِنِ ابتِلاءِ العُقولِ الذي جَعَلَهُ اللهُ اختِبارًا للمَقاصِدِ والنِّيَّاتِ، وإخراجًا لمَكنُونِ النُّفُوس، فبذلكَ يتمايَزُ الصادِقُ مِن صاحبِ الهَوَى، فمَصَارِعُ العلماءِ عدَ المتشابِهاتِ قَبْلَ المُحْكَمَاتِ.
ولَمَّا كانَ القرآنُ عامًّا في غالِبِه، والسُّنَّةُ مُفَصَّلَةً في عمومِها، وجَبَ على الناظِرِ في القُرآنِ الإحاطةُ بمعاني الآيةِ مِن السُّنَّةِ، وتَحَرِّي تفسيرِها مِن القرآنِ؛ فإنَّ القرآنَ يُفَسِّرُ بعضُه بعضًا، ويُبَيِّنُ بعضُه بعضًا؛ كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣]، قال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: "يُشْبِهُ بعضُه بعضًا، ويُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، ويَدُلُّ بعضُه على بعضٍ" (١). وبنحوِ هذا أو معناهُ قال الحَسَنُ وعِكرِمةُ وقَتادةُ (٢)، وقد قالَ ابنُ عبَّاسٍ: "كِتَابُ اللهِ مَثَانٍ، ثَنَّى فيه الأَمْرَ مِرَارًا" (٣).
ولإحكامِ القُرآن كانَ نَسْخُ أحكامِه منه بنَفْسِه، ولا يكاد تُنْسَخُ آيةٌ مِنَ القرآنِ إلا بمِثْلِها، ويُؤَيِّدُها الحديثُ والأَثَرُ، وإنْ كانَتِ السُّنَّةُ تُقَيِّدُ القرآنَ وتخصِّصُه وتُبَيِّنُه وتُفَسِّرُه، كما قال أحمدُ: "لا يَنْسَخُ القرآنَ إلا قُرآنٌ يَجِيءُ بعدَهُ، والسُّنَّةُ تفسِّرُ القُرآن" (٤).
وبنحوِ هذا قال الشافعيُّ وغيرُه.
وإذا كانَتِ السُّنَّةُ لا تَنسَخُ القرآنَ عندَهم، فقولُ الصحابيِّ مِن بابِ أوْلَى، وأولَى منه: التابعيُّ.
_________
(١) "تفسير الطبري" (٢٠/ ١٩١).
(٢) "تفسير الطبري" (٢٠/ ١٩١ - ١٩٢).
(٣) "تفسير الطبري" (٢٠/ ١٩٢).
(٤) "العدة في أصول الفقه" للقاضي أبي يعلى الفرَّاء (٣/ ٧٨٨ - ٧٨٩).
1 / 15
معرفةُ أقوالِ الصحابةِ والتابعينَ:
ولا غِنًى للمفسِّرِ عن كلامِ السلفِ صحابةً وتابعينَ، فقد فضَّلَهُمُ اللهُ على مَن بعدَهُم، وفيهم مِن فَصاحةِ اللِّسانِ وقُوَّةِ البيانِ ما ليسَ فيمَن بعدَهم، مع ما هُم عليه مِن الصِّدْقِ والدِّيَانةِ والحِيَاطةِ في الكلامِ، والتحرِّي في تفسيرِ كلامِ الله أَشَدُّ مِن غيرِه، وقد رَوَى أحمدُ - كما في "العلل" - عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ قال: "أَدْرَكتُ بالمدينةِ رِجالًا، فرأيْتُهم يُعَظِّمُون القولَ في التفسيرِ ويهابُونَه، مِنهم القاسِمُ وسالِمٌ ونافِعٌ" (١).
وفي الصحابةِ مِن شِدَّةِ التوثُّقِ في التفسيرِ ما ليس في التابعينَ، مع فَضْلِهم وتزكيةِ النبيِّ ﷺ -لهم، فلم يَحْمِلْهُم ذلك على الجَسَارَةِ على الفُتْيَا والقولِ بالظَّنِّ، وكانوا أشَدَّ الأُمَّةِ مشاوَرَةً ومراجَعَةً لبعضِهم في كلِّ نازِلةٍ، كما قالَ المُسَيَّبُ بنُ رافِعٍ: "كان الصحابة إذا نَزَلَتْ بِهِم قَضِيَّةٌ؛ ليس لرسولِ الله ﷺ فيها أَثَرٌ؛ اجتَمَعُوا لها وأَجمَعُوا"؛ رواه الدارِمِيُّ (٢).
ولهذا كان قولُ الصحابةِ في صدرِ أقوالِ الأُمَّةِ، ومَن بَعدَهم تَبَعٌ لهم، فكُلُّ صوابٍ هُم أوْلَى الناسِ به، وكُلُّ خَطَإٍ هُم أَقَلُّ الناسِ حَظًّا فيه، ولم يُتَّهَمْ واحدٌ بالجُرْأَةِ على تفسيرِ كلامِ الله، والقولِ فيه بالتَّوَهُّمِ؛ لشِدَّةِ تعظيمِهم للهِ ولكلامِه والقولِ عليه بلا عِلْمٍ، وقد قال ابنُ أبي زَيْدٍ القَيْرَوَانِيُّ - كما في "الذب عن مذهب مالك" -: "وما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن أهلِ السُّنَّةِ تجاسَرَ على أنَّ صاحِبًا لرسولِ الله خالَفَ ظاهِرَ كتابِ الله" (٣)
_________
(١) "العلل ومعرفة الرجال لأحمد، رواية ابنه عبد الله" (٢/ ٣٧٤).
(٢) "سُنَن الدارمي" (١١٦).
(٣) "الذب عن مذهب مالك" (٢/ ٦٨٩).
1 / 16
وكان أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ يرى أنَّ الأخذَ بظاهِرِ الآيةِ بلا دلالةٍ مِن السُّنَّةِ ولا قولِ أحدٍ مِن الصحابةِ: أنَّه تأويلُ أهلِ البِدَعِ، كما قال: "مَن تأوَّلَ القرآنَ بلا دلالةٍ مِن رسولِ الله ﷺ ولا أحدٍ مِن الصحابةِ فهو تأويلُ أهلِ البدع؛ لأنَّ الآيةَ قد تكونُ خاصَّةً ويكونُ حكمُها حكمًا عامًّا، ويكونُ ظاهِرُها في العمومِ وإنما قُصِدَت لشيءٍ بعَيْنِه، ورسولُ اللهِ ﷺ المعبِّرُ عن كتابِ اللهِ وما أرادَ، وأصحابُه أعلَمُ بذلك منَّا؛ لِمُشَاهَدَتِهم الأمرَ وما أُريدَ بذلك" (١).
ولم يَكُنِ الصحابةُ ﵃ على مرتَبَةٍ واحدةٍ في العلمِ، كما أنَّهم لَيْسُوا على مرتبةٍ واحدةٍ في الفَضْلِ، والتفاضُلُ بينَهم بالمَنْزِلَةِ والمكانةِ شيءٌ، وتفاضُلُهُم في العِلْمِ شيءٌ آخَرُ، ومنِهم مَن كان تَقَدُّمُه في العِلمِ كتَقَدُّمِه في الفَضْلِ، كالخُلَفَاءِ الراشِدِينَ الأربعةِ؛ فقد جَمَعُوا السَّبْقَيْنِ: سَبْقَ العلمِ، وسَبْقَ الفَضْلِ، ومنهم مَن يتأَخَّرُ على غيرِه بالفضلِ ولكنَّه يسبِقُه بالعلمِ، كابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ وغيرِهما من الصحابةِ؛ فهُم قد يَفْضُلُونَ بعضَ العَشَرةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنَّةِ في العِلم، وذلك فَضْلٌ مِن اللهِ يَقسِمُه بينَ عبادِه، فيُهَيِّئُ لبعضِهم أسبابًا تُقَدِّمُه على غيرِه من وجهٍ ويُقدِّمُ غيرَه عليه مِن وجهٍ، وإذا اختلَفَ الصحابة في حكمٍ مِن أحكامِ القرآنِ، وتساوَوْا منزِلةً بلا مُرَجِّحٍ، فيُقَدَّمُ القولُ الذي ذهَبَ إليه ابنُ عبَّاسٍ؛ لأنَّه مِن أكثَرِ الصحابةِ مشاوَرَةً لهم، ولدعاءِ النبيِّ ﷺ له، قال ابنُ عبَّاسٍ: "إنْ كنتُ لَأَسْأَلُ عنِ الأمرِ الواحدِ ثلاثين مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ" (٢).
_________
(١) "العدة في أصول الفقه" (٢/ ٥٢٧).
(٢) "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (٢/ ٤٢٨).
1 / 17
ويُيَسَّرُ في شرطِ الأخذِ بأقوالِ الصحابةِ في التفسيرِ عن شرطِ المرفوعِ إلى النبيِّ ﷺ؛ لاختلافِ قُوَّةِ الاحتجاجِ والتَّبِعَةِ في الوَهمِ والغَلَطِ، ويُشَدَّدُ في مَرْوِيَّاتِ الأحكامِ مِن الحلالِ والحرامِ ولو كانَتْ في سياقِ التفسيرِ، بخلافِ مَرْوياتِ تفسيرِ معاني الألفاظِ وأسبابِ النُّزُولِ؛ لأنَّ الحُكمَ يُشَدَّدُ فيه ولا يُفَرَّقُ في سياقِه ولو كان في ثَنَايا التاريخ أو السِّيرةِ أوِ المَغَازِي أو التَّفسير؛ لبناءِ الحُكمِ عليه، وأمَّا بَقِيَّةُ التفسيرِ فَأمْرُه دونَ ذلك، كما بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا في رسالةِ (التَّقْرِير، في أسانيدِ التَّفْسِير).
أَنْسابُ القولِ:
ويَتأَكَّدُ على المفسِّرِ أن يتتَبَّعَ أُصولَ الأقوالِ وأنسابَها، حتى لا يَقَعَ في الأخذِ بقولٍ مَهْجُورٍ، أو بقولٍ لم يُسبَقْ إليه؛ فإنَّ للأقوالِ أنسابًا تتسَلْسَلُ كأنسابِ الرِّجَال، والحَقُّ لا ينقَطِعُ؛ فلا بُدَّ له مِن قائِلٍ ولو لم يَكُنْ مشهورًا، ورُبَّما كان مِن السلَفِ مَن قالَ بقولٍ شاذٍّ ثُم تُرِكَ القولُ وعُذِرَ القائلُ، فذاكَ قولٌ مهجورٌ لا ينبَغِي اعتبارُه مِن السلَفِ السابقِ؛ لأنَّها زَلَّةٌ متروكةٌ بدلالةِ هَجْرِها؛ لأنَّ السَّلَفَ أهلُ عِلمٍ ودِيانةٍ لا يُطْبِقُونَ على تركِ قولٍ مُعتَبَرٍ ويَهْجُرُونَه إلا وعَلِمُوا مُخالفَتَه الدليلَ.
ومِن التَّلْبِيس على بعضِ المتعَلِّمِينَ أنُ عَطَّلُوا الاقتداءَ بالأئمَّةِ بحُجَّةِ تعظيمِ الأَدِلَّةِ؛ فاستَنْبَطُوا مِن النُّصُوصِ معانيَ لا قائِلَ بها، وهذا أشَدُّ مِنَ الأَخْذِ بالأقوالِ المهجورةِ؛ فتلكَ مَبْتُورةُ الأنسابِ، وهذه لا أَنْسابَ لها وإن تَوَهَّمُوا أنَّها تنتَسِبُ للدليلِ؛ فالدليلُ قد مَرَّ بخَيْرِ عقولِ الأُمَّةِ وقلوبِها، فإذا لم تَحْرُجْ عقولُهم وقلوبُهم بقولٍ منه فهو عَقِيمٌ، فليسَ كُلُّ الأدلَّةِ يولَّدُ منها أقوالٌ.
1 / 18
وقد ظَهَرَ في الأزمِنَةِ المتأخِّرَةِ أقوالٌ شاذَّةٌ من هذا البابِ؛ بحُسْنِ قَصْدٍ مِن أقوامٍ، وسُوءِ قَصدٍ مِن آخَرِينَ، ودَخَلَ الضَّلَالُ والانحِرافُ في الدِّين، وخُرِقَ إجماعُ السلَفِ والأئمَّة؛ لإشباعِ أهواءِ أفرادٍ وجماعاتٍ وحُكَّام!
وقد قابَلَ هذه الفِئَةَ طائفةٌ غَلَتْ في التقليدِ، فلا تَرَى الخُروجَ عن مَذهَبِ إمامِها، فتَرَى نَسَبَ أقوالِه أصَحَّ أنسابِ الأقوال، ولو كان الدليلُ مع غيرِها ظاهرًا، فهؤلاءِ قَدَّمُوا الرِّجَالَ على الأدلَّةِ، وأُولئِكَ أَخَذُوا الأدلَّةَ بلا رجالٍ!
والأئمَّةُ وأتباعُهم لم يقولُوا بأقوالٍ لِيَتَعَصَّبَ لها الناسُ فيُقَلِّدُوهم ويَتْرُكُوا الأدلَّةَ، فقد قال أبو حنيفةَ لأبي يوسُفَ، والشافعيُّ للرَّبِيع، وأحمدُ لولَدِه عبدِ الله، ومالكٌ لابنِ القاسِمِ: "إذا صَحَّ الحديثُ فخُذْ به واتْرُكْ قَوْلِي" (١)، وحادَتْ طائفتانِ عن الصَّوَابِ وتوَهَّمُوا التعارُضَ بين فِقهِ الأدِلَّةِ وفِقهِ الأئمَّة، وكُلُّها مسالِكُ للتعليمِ لا للتعصُّبِ، ففِقْهُ الأئمةِ إنَّما خرَجَ مِن رَحِمِ الأدلَّةِ، وعلى العالِمِ تمحيصُ تلك الأدلَّةِ: صِحَّةً وضَعفًا، وظُهورًا وخَفاءً، وعمومًا وخُصوصًا، ونَسْخًا ومَنْسُوخًا، وإطلاقًا وتقييدًا، وقَطْعًا وظَنًّا، ونصًّا وفَهْمًا.
ومعرفةُ الأدلَّةِ لا يعني هَجْرَ مَذاهِبِ الأئمَّةِ والتمَذْهُبِ على طرائِقِهِم في التَّفَقُّهِ بلا تعصُّبٍ، ولا يعني عدمَ الخُروجِ عن التقليدِ لِمَنْ مَلَكَ القُدرةَ على التحرير.
_________
(١) انظر أقوالَهم في: "الإنصاف، في بيان أسباب الاختلاف" للدهلوي (ص ١٠٤).
1 / 19
وقد كان الإمامُ أحمدُ أكثَرَ الأئمَّةِ الأربعةِ جمعًا للحديثِ والأَثَرِ، وكتابُه "المُسْنَدُ" ومَرْوِيَّاتُه في السُّؤَالاتِ والفضائِلِ والزُّهدِ والوَرَعِ والعِلَلِ والرِّجَال: دالَّةٌ على ذلك، ولا يُنازِعُه في ذلك أحَدٌ، وهو آخِرُ الأئمَّةِ الأربعةِ وفاةً، وتحصَّلَ له مِن معرفةِ قولِ مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ ما لم يتحَصَّل لهم مِن معرفةِ قولِ بعضِهم لبعضٍ، ويليه الشافعيُّ بَصَرًا بقولِ مالِكٍ وأبي حَنِيفة، فعَرَفَ أحمدُ أقوالَ الصحابةِ والتابعينَ، وأقوالَ أئمَّةِ المذاهبِ قَبْلَ أن تَظْهَرَ مذاهِبُهم، وكانَتْ كَثرةُ مرويَّاتِ أحمدَ للحديثِ والأَثَرِ سببًا في كفايةِ أتباعِ مذهَبِه عن جمعِ الأدلَّةِ على أقوالِه، بخلافِ غيرِه؛ كما احتاجَ أَتْباعُ الشافعيِّ إلى جمعِ أدلَّةِ مذهَبِه كما فَعَلَ البيهَقِيُّ في كتابِه "السُّنَن والمَعْرِفَة"، وكما احتاجَ أَتْباعُ أبي حنيفةَ إلى جمعِ أدلَّةِ مذهَبِهِ كما فَعَلَ أبو يُوسُفَ ومحمَّدُ بنُ الحسَنِ في الآثارِ وغيرِها، وكالطَّحَاوِيِّ في كتابِه "مُشْكِلِ الآثارِ"، و"شرح معاني الآثار"، وكان أَتبْاعُ مالكٍ أكثَرَ أصحابِ المذاهب الأربعةِ عنايةً بآياتِ الأحكامِ وجمعًا لها، وكان أتباعُ الشافعيِّ أكثر أصحابِ المذاهبِ الأربعةِ عنايةً بأحاديثِ الأحكامِ وجمعًا لها، وكُلُّ مَذْهَبٍ له فَضْلٌ على غيرِه في بابٍ دُونَ بابٍ.
والمنقولُ عن الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ في أخذِ الأحكامِ مِن آياتِ القرآنِ قَدْرٌ ليس بالقَلِيل، وهو مَنْثُورٌ في مسائِلِه والنُّقولِ عنه، وعامَّتُه في مواضِعِه مِن هذا الكتابِ، وللقاضي أبي يَعْلَى كتابٌ في أحكامِ القرآنِ؛ يَذْكُرُه ويَنْقُلُ منه الطُّوفِيُّ وابنُ اللَّحَّامِ وغيرُهما، وأبو يَعْلَى إمامٌ في المذهَبِ ونُصوصِ الإمامِ واختلافِها، ولكنَّه قليلُ النظرِ في عِلَلِ الحديثِ ورجالِه؛ ولهذا وَقَعَ الاحتجاجُ بأحاديثَ واهِيَةٍ وضعيفةٍ.
1 / 20
ومذهَبُ أحمدَ في تفسيرِه لأحكامِ القرآنِ وغيرِها ظاهِرٌ في سؤالاتِه، ونُقولِ أصحابِه عنه، كاستدلالِه بدليلِ الخِطَابِ في قولِه تعالى: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ [النور: ٣١]؛ فنَقَلَ ابنُ هانِئٍ عنه أنَّه أَخَذَ مِن هذه الآيةِ أنَّ المُسْلِمَةَ لا تكشِفُ رأسَها عندَ نِساءِ أهلِ الذِّمَّةِ (١)، ومِثلُه: تحريمُه ذَبِيحةَ المَجُوسِيِّ وصيدَه؛ لقولِه تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٥]؛ لكَوْنِ المَجُوسِ ليسوا أهلَ الكِتَاب (٢)، وأنَّ الغُرَابَ والسَّبُعَ يَقْتُلُه المُحْرِمُ ولا كَفَّارَةَ عليه لقولِه ﷿: ﴿لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ٩٥]، وهذه لا تُسَمَّى صَيْدًا (٣).
ومذهَبُه: الوُقوفُ على العُمومِ المُستَغْرِقِ للجِنسِ في القُرآن وَالبَحْثُ عن مُخَصِّصٍ له، كما تَوَقَّفَ في عمومِ اليَدِ والوَلَدِ في قولِهِ تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨]، وقولِهِ تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: ١١]، فقد نَقَلَ ابنُه عبدُ اللهِ - ونحوَه صالِحٌ - قولَه: ". . . نَقِفُ عندَ الوَلَدِ حَتَّى يُنزِلَ اللهُ تعالى ألَّا يَرِثَ قاتِلٌ ولا عَبْدٌ ولا مُشْرِكٌ، فلَمَّا عبَّرَتِ السُّنَّةُ معنَى الكتابِ فقال رسولُ الله ﷺ: (لَا يَرِثُ مُسْلِمٌ كَافِرًا، وَلَا كَافِرٌ مُسْلِمًا) (٤)، وقال: (لَا يَرِثُ القَاتِلُ) (٥) -: لم يُعْلَمِ الناسُ اختلَفُوا في أنَّ العبدَ لا يَرِثُ، وإنَّما قالَ رسولُ اللهِ ﷺ:
_________
(١) "مسائل أحمد، رواية ابن هانئ" (٢/ ١٤٩).
(٢) "أحكام أهل الملل والردة من الجامع لمسائل الإمام أحمد" (ص ٣٧٧)، و"العدة في أصول الفقه" (٢/ ٤٥٠ - ٤٥١).
(٣) "مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله" (ص ٢٠٦).
(٤) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٢/ ٢٦٢)؛ من حديثِ أسامةَ بن زيدٍ ﵄؛ وصحَّحَه.
(٥) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (١٢٠٢٠)؛ عن عمرِو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه.
1 / 21
(مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ) (١)؛ فكان مالُ العَبْدِ إنَّما هو لسَيِّدِه وليس له فيه مِلكٌ" (٢).
وكان يُخصِّصُ عمومَ القرآنِ بعَمَلِ الصحابةِ، ويَرَى أنَّ ذلك التخصيصَ هو معنَى الآيةِ، كما نقَلَهُ عنه ابنُهُ صالِحٌ في "مسائِلِه"، ومِن ذلك: فُتْيَاهُ بأنْ يَتَسَرَّى العَبْدُ، مع أنَّه قِيلَ له: إنَّ اللهَ يقولُ ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٦، والمعارج: ٣٠]؛ فأَيُّ مِلكٍ للعَبْدِ؟ ! فقال أحمدُ: "القُرآنُ نَزَلَ على أصحابِ النبيِّ ﷺ وهم يَعْلَمُون فيمَ أُنْزِلَ وقالُوا: يَتَسَرَّى العبدُ" (٣). فجَعَلَ قولَ الصحابةِ مُؤوِّلًا لظاهِرِ الآيَةِ.
وكان يأخُذُ بالإبهامِ ويحتاطُ في ذلك؛ كما أَخَذَ بحُرمَةِ المرأَةِ على الرجُلِ لمُجَرَّدِ العَقْدِ على ابْنَتِها، وحُرمةِ الزَّوجةِ على أَبِي الزوجِ وإن لم يَدْخُلِ الزوجُ بها؛ لقولِهِ تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ. . . وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ [النساء: ٢٣] (٤)، ومِثْلُ ذلك: حُرمةُ زوجةِ الأَبِ على الولَدِ لمُجَرَّدِ العَقْدِ بلا دُخولٍ؛ لقولِه تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٢٢]، كما نقَلَهُ عنه ابنُهُ عبدُ الله (٥)، وكان أحمدُ يقولُ: "المُبْهَمَاتُ ثَلَاثٌ"؛ يعني: أُمَّ الزَّوْجَةِ، وزَوْجَةَ الأَبِ، وزَوْجَةَ الوَلَدِ (٦).
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق (٨/ ١٣٥)، وابن أبي شيبة في مصنفه (٧/ ٣٠٦)؛ من حديث عبد الله بن عُمر ﵄؛ بمثله، وأخرجه البخاري (٢٣٧٩)، ومسلم (١٥٤٣/ ٨٠)؛ بنحوِه.
(٢) "مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله" (ص ٤٢٨).
(٣) "العدة في أصول الفقه" (٢/ ٥٨٨).
(٤) "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكَوْسَج (٤/ ١٥٤٣ - ١٥٤٤).
(٥) "مسائل الإمام أحمد، روايه ابنه عبد الله" (ص ٣٣٦).
(٦) "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (٤/ ١٥٤٦ - ١٥٤٧).
1 / 22