92

تفسير الميزان

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

اصناف

تفسیر

فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير ولم يختلف في بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر.

لكن الأسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.

فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب - وذلك إثر عدة من الأسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء - لا يوجب اختلافا في السنة الجارية وضلالا في الصراط المستقيم.

الإشكال الثالث: أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة ونسخها لأجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، وكل من النوعين محال على الله تعالى لأن إرادته على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير.

والجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الإرادة والعلم في شيء وإنما التغير في المراد والمعلوم، فهو سبحانه يعلم أن الإنسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصة فيريد فيه بإرادة، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الأول لاقتران أسباب وشرائط أخر فيريد فيه بإرادة أخرى وكل يوم هو في شأن، وقد قال تعالى: "يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب": الرعد - 39، وقال: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء": المائدة - 67، مثال ذلك: أنا نعلم أن الهواء ستغشاه الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بإنارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضاءة بالسراج وعند انقضائه بإطفائه والعلم والإرادة غير متغيرتين وإنما تغير المعلوم والمراد، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم والإرادة، وليس كل علم ينطبق على كل معلوم، ولا كل إرادة تتعلق بكل مراد، نعم تغير العلم والإرادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان انطباق العلم على المعلوم والإرادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين أنه فرس فيتبدل العلم، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، وهذان غير جائزين في مورده تعالى، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.

الإشكال الرابع: أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الأنبياء (عليهم السلام) مستلزم لتجري الناس على المعصية وإغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية والطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الأصل البديهي.

والجواب عنه، أولا: بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء": النساء - 51، والآية - كما - مر في غير مورد التوبة بدليل استثنائه الشرك المغفور بالتوبة.

وثانيا: بالحل: فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية وإغراءهم على التمرد والمخالفة بشرطين: أحدهما: تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز من غير تعليق بشرط جائز.

وثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا.

صفحہ 93