تفسير الميزان
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
اصناف
زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلا ولا يكفي في ذلك الإجمال ومن أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الإحياء، فإن كان ولا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان ولذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، وهذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم، وقال موسى إنه يقول إنها بقرة لا فارض، أي ليست بمسنة انقطعت ولادتها ولا بكر أي لم تلد عوان بين ذلك، والعوان من النساء والبهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض والبكر، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال، ولا يشددوا على أنفسهم ويقنعوا بما بين لهم فقال: فافعلوا ما تؤمرون، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسر الناظرين وتم بذلك وصف البقرة بيانا، واتضح أنها ما هي وما لونها وهم مع ذلك لم يرضوا به، وأعادوا كلامهم الأول، من غير تحجب وانقباض وقالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون، فأجابهم ثانيا بتوضيح في ماهيتها ولونها وقال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول أي غير مذللة بالحرث والسقي تثير الأرض بالشيار ولا تسقي الحرث فلما تم عليهم البيان ولم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحق قول من يعترف بالحقيقة بالإلزام والحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلا، فيعترف بالحق اضطرارا، ويعتذر عن المبادرة إلى الإنكار بأن القول لم يكن مبينا من قبل، ولا بينا تاما.
والدليل على ذلك قوله تعالى: فذبحوها وما كادوا يفعلون.
قوله تعالى: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، شروع في أصل القصة والتدارؤ هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا - نفسا - وكل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - وأراد الله سبحانه إظهار ما كتموه.
قوله تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل، وثانيهما إلى البقرة، وقد قيل: إن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التوراة الذي نقلناه، والمراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله: "ولكم في القصاص حيوة": البقرة - 179، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الإعجاز هذا، وأنت خبير بأن سياق الكلام وخاصة قوله تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى، يأبى ذلك.
قوله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة القسوة في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر وكلمة أو بمعنى بل، والمراد بكونها بمعنى بل انطباق معناه على موردها، وقد بين شدة قسوة قلوبهم بقوله: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الأنهار على لين مائها وتشقق فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، ولا قول حق يلائم الكمال الواقع.
صفحہ 115