Tafsir Al-Uthaymeen: Al-Ankabut
تفسير العثيمين: العنكبوت
ناشر
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٦ هـ
پبلشر کا مقام
المملكة العربية السعودية
اصناف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ للَّه، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ باللَّه مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللَّهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ، فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في اللَّه حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيمِين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في تَفْسيرِهِ لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَين يَدَي الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَينِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما اللَّه بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللَّهِ تَعالى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤَسَّسَةِ الشَّيخِ مُحمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللَّهَ تعالَى أَنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ، نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِهِ ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
الآيات (١ - ٣)
* * *
* قال اللَّه ﷿: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ١ - ٣].
* * *
الحمدُ للَّه ربِّ العالينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشْرفِ الأنْبياءِ والمرْسَلِين نَبِينا محمَّدٍ، وعلَى آلِهَ وأصْحابِهِ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، أمَّا بَعْدُ:
قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: البَسْملةُ آيةٌ مستقِلَّةٌ يُؤتَى بها في ابتداءِ السُّورِ ما عدا سورةِ براءةَ (^١).
قَالَ المُفَسِّر (^٢) ﵀: [﴿الم﴾ اللَّهُ أعْلمُ بمُرادِهِ بذلكَ] اهـ.
وهذا حقُّ فيما لو جعلْنَا لهذه الكَلمةِ معْنًى، ولكنَّ الصوابَ: أنه لا مَعْنى لها كما قَاله مجاهِدٌ وغيرُهُ (^٣)، فهي في حدِّ ذاتِها ليس لها مَعْنًى، وذلك لأنَّ القرآنَ نزلَ باللُّغةِ العربيَّةِ، والحروفُ المركَّبةُ الهجائيَّةُ ليس لها مَعْنًى، فإن (ألف، باء، تاء، ثاء، جيم) ليس لها مَعْنًى، ومع هذا فابتِداءُ السورَةِ بالآياتِ المقَطَّعَةِ له مغْزًى، وهو
_________
(^١) انظر: تفسير سورة البقرة، لفضيلة الشيخ رحمه اللَّه تعالى المجلد الأول.
(^٢) المقصود بـ (المُفَسِّر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) رحمه اللَّه تعالى، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
(^٣) تفسير ابن كثير (١/ ١٥٧)، وتفسير القرطبي (١/ ١٥٥).
1 / 7
الإشارةُ إلى أنَّ هذا القُرآنَ الكريمَ الذي أعْجَزكم معْشرَ العربِ وأعْجزَ غيرَكُم لم يأتِ بحروفٍ جَديدَةٍ لا تَعرِفونها، وإنما أَتَى بحروفٍ تَعْرِفونها وتُركِّبونَ منها كَلامَكم، ومع ذلك أعْجَزَكم.
ولهذا لا تَكادُ تَجدُ سُورة مَبْدوءةً بهذه الحروفِ الهجِائيَّةِ إلَّا وجدْتَ بعدها ذِكْرَ القُرآنِ أو ما هو مِنْ خصائصِ القُرآنِ، انظُرْ قولَه ﷾: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ١ - ٢]، وقولَه: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ١ - ٣]، وقولَه: ﴿المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١ - ٢]، وقولَه: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: ١]، وقولَه: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ [الأحقاف: ١ - ٢]، وقولَهُ: ﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ [السجدة: ١ - ٢]، وهَكَذَا.
وأما قوله تعالى: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا﴾ فَلَيس فيهِ ذِكْرُ القرآنِ، لكِنْ فيها ذِكرُ ما هو مِنْ لازمِ القُرآن، وهو قَولُه: ﴿أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، فإنَّ مَنْ آمَنَ بالقُرآنِ لا بُدَّ أن يُفْتَنَ.
قولُه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا﴾ قولُه: ﴿أَن يَقُولُواْ﴾ هَذَا محِلُّ الاستِفْهامِ، يعني: أيظُنُّ الناسُ أن يُترَكوا إذا قالوا: آمنَّا بدونِ أن يُخْتبَروا؟ هذا أمْرٌ لا يكونُ، بل لا بُدَّ من الاخْتِبارِ، وكُلَّما كانَ الإنسانُ أقْوى إيمانًا كان اختِيارُهُ أكثرَ، فإنَّ اللَّه تعالى يَبتِلي الناس، فيُبتَلى الصالحونَ الأمْثلُ فالأمْثلُ، حتَّى يَنْظر في دِينهِ هل فيه قُوَّةٌ أو هو دِينٌ ضَعِيفٌ.
وقوله: ﴿أَحَسِبَ﴾ بمَعْنَى: ظَنَّ، وقولُه: ﴿النَّاسُ﴾ يشْملُ المؤمِنينَ وغيرَ المؤمنينَ، وذلِك لأن قَولَهُ: (إِنِّي مُؤمِنٌ) يكونُ مِنَ المؤمنِ حقًّا، ويكونُ مِنَ المنَافِقِ،
1 / 8
والمنافِقُ لا يصحُّ أن يُسمَّى مؤمنًا على الإطْلاقِ، بل إنَّما يقالُ: مؤمنٌ بلِسَانهِ كافِرٌ بقَلْبِهِ.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ أي: بِقَوْلهِمْ: ﴿آمَنَّا﴾] اهـ.
يَعْنِي: أَيَظُنُّ النَّاسُ أن يُتْرَكوا بلا فِتْنةٍ إذا قَالُوا: آمَنَّا.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿وَهُمْ لَا يُفتَنُونَ﴾ يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم]، وهذا الاستْفهامُ للإنْكارِ، يعني: لا تَظُنوا أنكم إذا قُلتم: آمنا، تُرِكتُم بلا فِتْنةٍ، بل لا بُدَّ مِنْ فِتْنة واخْتبارٍ، واللَّه ﷾ يَبْتلي المرءَ تارَة بأفْعالِهِ التي يفْعلُهَا به ﷿، وتارَةً بأفْعالِ غيم التي يُسَلَّطون بها عَلَيْهِ، أما بأفْعالهِ: فإنَّ اللَّه تعالى قد يَبتِليَ الإنسانَ بمصائبَ يَخْتبِرُ بها إيمانَهُ، مصائبَ في أهلْهِ أو مالِهِ أو بدَنِهِ، ومنَ الناسِ منْ إذَا أصابَتْهُ هذه المصائبَ -والعياذُ باللَّه- عَجَزَ أن يَصْبر، ورُبَّما ارتَدَّ بعدَ إسلامِهِ وكَفَرَ، ومنَ النَّاسِ من يَصْبرُ ويحْتَسِبُ.
كذلك قد يُبتَلى المرءُ بأمْر يُسلِّطهُ اللَّهُ عليه، مِثْلُ أن يُسَلِّط عليه قومًا يُؤْذُونه بالقولِ أو بالفِعلِ أو بِهما جميعًا، مثل ما حَصَل للنَّبِيِّ ﷺ وأصحابِهِ ﵃، فإنَّ النَّبِيَّ ﵊ أُوذِيَ إيذاءً عظيمًا من قَومهِ، ومن غيرِ قومِهِ، وكذلكَ أصْحابُهُ أُوذُوا إيذاءً عظيمًا، ومع ذلك صَبَرُوا واحتَسَبُوا، فإن عمَّارَ بنَ ياسرٍ وآلَه حصل لهُم إيذَاءٌ عظيمٌ، وكذلك غيرُهُمْ مِنَ المؤمنين، منهم مَنْ يُؤْذَى بالقَولِ، ومنهم مَنْ يُؤْذَى بالفِعْل، ومنهم من يُؤْذَى بالقولِ وبالفِعْل.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [وَنَزَل فِي جماعَةٍ آمنُوا فآذَاهُمُ المشْركونَ] اهـ.
أي: مِنَ الناسِ مَن يقولُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: ١٠]، ثمَّ يرْتَدُّ والعِياذُ باللَّه.
1 / 9
كذلك مِنَ الناسِ الآن، وخُصُوصًا مِنَ الشبابِ المتَّجهِ إلى الدِّين مَنْ يُؤذِيهِ أولئك الفَسَقَةُ ويسبُّونَه ويقولون: (أنتَ رَجْعيٌّ) وما أشْبَهَ ذلك، وهذا ابْتلاءُ مِنَ اللَّهِ وامتحانٌ ليَعْلمَ هل يَصْبرُ هذا على دِينِهِ أو ينْحَسرُ ثم يرْجِعُ خوفًا من أَذِيَّة هؤلاء؟
ومن النَّاسِ أيضًا من يُؤْذَى بتحلِّيهِ بأخلاقِ المؤمِنينَ، كإعفاءِ اللِّحيَةِ مثلًا، فيؤذَى بذلكَ إما بالقَولِ والاستهزاءِ والاسْتِخفافِ، وإما بالفعل فيُضْربُ عليها أو يُحْبس، فتَجدُه يحلِقُ لحْيَته خوفًا مِنْ هذا الأمْرِ، وهذا لا يجوزُ؛ لأن الواجِبَ أن يَصْبِرَ، نعم: إن أُكْرِهت على هَذَا وغُلَّتْ يدُك وأُتِيَ بالمُوسَى وحُلِقَتْ؛ فهذا أمر ليسَ إليكَ، لكن ما دَامَ الأمر إليكَ فإنَّهُ لا يجوزُ لك أن تَفْعلَ المعْصِيةَ خَوْفًا مِنَ الناسِ، بل يجبُ أن يَصْبرَ ويحتَسِبَ.
أما قاعِدَةُ (المشَّقَّةُ تجلِبُ التَّيسِيرَ) فلا تُطبَّقُ هنا، فهذا الرَّجُل ما أُكِرَه، غايةُ ما هنالك أنه سيُضْربُ أو يُحْبس، فليقلْ: لن أفْعلَ المعصيةَ، ثُمَّ إذا أردتم ضَربِي فاضْرِبونِي كما شِئتُم، فالضَّرب مشقَّةٌ تَزُول، فلْيَصْبر ولْيَحْتسِب على دِينهِ.
ولا يَرِدُ على هذا قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦]، يَعْني: فلا شيءَ عليهِ؛ لأنَّ بعضَ العُلماءِ يقول: إن هذا في الكُفْرِ القَولِيِّ الذي مصدُرُه اللِّسانُ، وإن كان الصحيحُ أنه حتى في الكُفر الفِعْلي، فهو شامِلٌ؛ لأنَّ الآيَةَ عامَّةٌ، حتى لو أُكْره على السُّجودِ وما أشْبَه ذلك، أما التَّخَلِّي عن الأمرِ الشرعِيِّ، فهذا لا يمكنُ أن يَتَخلى المرءُ عنه، فَفَرْقٌ بينَ الفِعل الذي يُجبَر فيه على فِعلِ المعْصِيةِ، كأن تُكْره على الكُفر، فهذا يُعْذر به، وأما أن يَتْركَ واجبًا كوجوبِ إعْفاءِ اللِّحيةِ فهذا لا يجوزُ، مثاله: لو قيلَ لكَ: اتركِ الصلاةَ، فهذا كُفر، ولا يجوزُ لك أن تَتركَهَا، صلِّ ولو أُوذِيتَ بالضَّربِ والحبْسِ، ولا مانِعَ من ذلك.
1 / 10
أما أَكْلُ الميتةِ إذا اضْطُرِرْتَ إليه فلأنك إذا أكلتَ منه بَقِيَتْ حياتُك، لكنَّ الإكراهَ على تركِ الواجبِ فليس كذلك، فقَد تُهدَّدُ بالضربِ ولا تُضْرب، وقد تُضْرب وتَصْبر وتَحْتسبُ، هذه هي الفِتْنة التي ذَكَر اللَّه، وإذا لم نُطَبِّقْهَا على هذا فمَتَى تكونُ الفِتنةُ ما دُمْنَا قلنا: إن الإنسانَ إذا أُوذِيَ في اللَّه يجوزُ أن يَدَع ما أمَر اللَّه به؟ فلا بُدَّ من فِتْنة واخْتبارٍ وإلَّا أصبحتِ الفِتنةُ لا فائدةَ فِيها.
* * *
1 / 11
الآية (٣)
* * *
* قال اللَّه ﷿: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣].
* * *
قوله تعالى: ﴿فَتَنَّا﴾ بمَعنَى: اخْتَبرنَا الذين من قَبْلِهم، وقد أخبَرَ النَّبِيُّ ﵊ عن ذلك بقَولِهِ: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَينِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ" (^١)، يعني: يُؤتَى بأمشَاطِ الحديدِ ويُفْصَلُ بها اللَّحمُ ويمشَّطُ، ومع ذلك كله يصْبِرُ على دِينهِ ويحْتسبُ ولا يَرْتدُّ، فإذا كان هذا فيمن كان قَبْلنا فإن هذه الأُمَّةَ أوْلى بالصَّبر على هذا الأمرِ العَظيمِ، لا سِيَّما إذا كان المقامُ مقامَ جهادٍ، مثل ما وقَعَ للإمام أحمدَ ﵀ في أيامِ المِحْنَةِ، فإنه كان يُضربُ بالسِّياط ويُجَرُّ بالبِغالِ، ليقول: إن القرآنَ مخلوقٌ، ومع ذلك أبَى أن يقول: إن القرآن مخلوقٌ؛ لأنه لو قال: إن القرآنَ مخلوقٌ سيَتَرتَّبُ على ذلك فسادُ الأمَّةِ كلِّها، فليست المسألةُ متَعَلِّقة به وحده.
ولهذا مَنْ أُكْرِهِ على الكُفرِ وكان كُفرُهُ يستلزمُ كُفر غيرِهِ وفسادَ الملَّة، فإنه لا يجوزُ له أن يوافِقَ ولو أُكْره؛ لأن المقامَ في حَقِّهِ مقامُ جهادٍ، والإنسان يجبُ أن
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، رقم (٦٥٤٣).
1 / 12
يجاهِدَ في سبيلِ اللَّه ولو تَعرَّض للقتلِ، أما إذا كانتِ المسألةُ إكْراهًا شخصيًا على الكُفرِ، فإن هذا يجوزُ بشرطِ أن يكونَ قلبُه مُطمئنًا بالإيمانِ.
فعلى هذا إذا كان هناكَ رجلٌ قُدوةٌ أمامَ الناسِ وأُكرهَ على أن يفعلَ معصيةً أو أن يفْعلَ كُفرًا، وفِعْلُه لها ليس لمجرَّدِ أن يتَخَلَّص من الأَذِيَّةِ ولكن سَيُفسِدُ به أمةً مِنَ الناسِ، فهذا نقول له: لا تَفْعَلْ ولا توافِقْ، ولو أُكْرِهْتَ ولو ضُربْتَ؛ لأن المقامَ مقامُ جِهادٍ في سبيلِ اللَّه. وإنسانٌ آخرُ لا يُؤبَهُ به ولا يَنظرُ الناسُ إليه ولا يحفِلُون به، وأُكرِهَ على أن يفعلَ شيئًا مِنَ الكُفر أو ما دونه، فله أن يَفْعَلَ بشرط أن يكون قلْبُه مُطْمئنًا بالإيمان، مِثلَمَا قال اللَّه ﷾.
ولو قال قائل: الإمامُ أحمدُ لم يَقُلْ بخَلقِ القُرآنِ لأنه قدوةٌ، فكيف تُجِيزُونَ التَّحاكُمَ للعلماءِ عندَ الضَّرورةِ؟
الجواب: الإمام أحمد لو قال: إن القرانَ مَخْلوقٌ فهو قَولٌ باطِلٌ، أما هذا فلم يتَحَاكَمْ إليهم لِكَي يَحْكُموا له بالبَاطِلِ، لذلك اشَتَرْطَنْا أنه إذا حَكَمَ له بغيرِ الحقِّ أن يَرْفُضَ الحُكْمَ.
وقوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ الصِّدقُ مطابقةُ القولِ للواقعِ، أو مُطابقةُ الفِعل للواقِعِ، فالذين صَدَقوا صدَقوا في قولهم: إنَّهم مؤمنونَ، فمَنْ كانَ صادِقًا في إيمانِهِ فإنه يَسْلَمُ بذلك، ومن كانَ كاذبًا فإنه -والعياذُ باللَّه- يَنْخدِعُ بهذه الفِتنَةِ، وينقَلِبُ على وجههِ، ويخسِرُ الدُّنيا والآخِرة.
وقولُ المُفَسِّر ﵀: [عِلْمَ مُشَاهَدَةٍ]، يشير إلى أن قوله تعالى: ﴿فَلَيَعْمَنَّ اللَّهُ﴾ مستَقْبلٌ، بدليلِ دخولِ نونِ التوكيدِ عليه، وبدَليلِ أنَّ الجملةَ قسَميَّةٌ، والجملةُ القَسَمِيَّةُ
1 / 13
تكون في المستقبلِ، فهو فِعلٌ مضارعٌ واقع في جملة قسَميَّة مؤكَّدٌ بالنُّونِ، فيكون للمستقبل.
واللَّه ﵎ يعلمُ ذلك قبلَ أن تَحْصُلَ الفتنةُ، فكيف الجواب عن قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ يدلُّ على أن العِلْمَ لا يكونُ إِلَّا بعدَ الفِتْنةِ؟
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [عِلمَ مُشاهَدَةٍ]، وهذا فيه وجهان:
الوجهُ الأَوَّلُ: أن عِلمَ اللَّه تعالى بالأشياءِ يَنقَسمُ إلى قِسْمين:
* علمٌ بأنها ستَقَعُ؛ وهذا علمٌ بما لم يَكُن.
* وعلم بأنها وَقَعَتْ، وهذا علمٌ بما كانَ، وهذا هو الذي يُنَّزلُ عَلَيْهِ مثلُ هذه الآياتِ، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ﴾ [محمد: ٣١]، المراد: عِلْمُ مشاهدةٍ، وأما العِلم بمَنْ سيكون مجاهَدًا فهذا سابِقٌ، ولكنَّهُ عِلمٌ بأنه سيكون.
فمتَعَلَّقِ العلمِ: إما مستَقْبلٌ يعلَمْه اللَّه بأنه سيكونُ، وإما واقعٌ عَلِمَ اللَّه بأنه قد كانَ.
الوجه الثاني: أن العِلمَ ينْقسمُ إلى قسمين:
* عِلم يترتَّبُ عليه جزاءٌ، فعِلمُ اللَّه تعالى بعدَ الوُقوعِ هو عِلمٌ يترتَّبُ عليه الجزاءُ.
* وعِلم لا يتَرَتَّبُ عليه جزاءٌ، فعِلمُ اللَّه ﷿ في الأَزَلِ قبلَ وقوعِ الشَّيءِ عِلمٌ لا يتَرتَّبُ عليه الجزاءُ.
فيكونُ العِلم الذي يجعلُهُ اللَّه تعالى مَرَتَّبًا على الوُقوعِ؛ المرادُ به عِلمُ المُجازاةِ، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
1 / 14
فهذان جوابانِ عن مثلِ هذه الآيَةِ، ولا يقالُ: إن اللَّهَ لا يعْلمُ الشيء إلَّا بعدَ وقوعِهِ، كما قال ذلك غُلاةُ القَدَرَّيةِ، فإن غلاةَ القَدَرِيَّةِ يقولون: إن اللَّهَ لا يَعْلَمُ بالشيءِ إِلَّا بعدَ وُقوعِهِ، ويستدلون بهذا المتُشَابِهِ مِنَ القرآنِ، ولكننا نقول: هؤلاء في قُلوبِهم زَيغٌ؛ لأنهم اتَّبَعُوا ما تَشَابه منه، ولو رَجَعُوا إلى قول اللَّه ﷿: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: ٧٠]، لتَبيَّن لهم أن اللَّهَ عالمٌ بما سيكون قَبلَ أن يكونَ.
قوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ يعني في قولهم: إنهم مُؤمنونَ، فاللَّه تعالى إذا فَتَن الخلْقَ عَلِم من كان صادِقًا في قولِه ومَن كان كَاذِبًا، وفي هذا تحذيرُ المرءِ عندَ وُقوعِ الفِتنَ أن يرْتدَّ عن إيمانِهِ فيكونُ بذلك كاذبًا.
قولُهُ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ وقوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ﴾ اللام للتَّوكيدِ، وهي أيضًا مُوطِّئةٌ للقَسمِ، فتكونُ الجملةُ مُؤكَّدَةً بثلاثَة مؤكِّدَاتٍ.
وقوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ بفَتْحِ آخرِهِ مع أنه لا يوجَدُ ناصِبٌ؛ لأنه مبْنِيٌّ على الفتحِ في محلِّ رَفعٍ وليس مَنصوبًا.
من فوائد الآيات الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: الحِكْمةُ في ابتداءِ السور بالحروفِ الهِجائِيَّةِ، وقد تَقدَّم الحكمُ فيه هذا.
الفَائِدةُ الثَّانِية: أن اللَّهَ ﷿ يخْتَبِرُ المؤمنين ليعَلَم بذلك صِدقَ إيمانِهمْ من عَدَمهِ.
الفَائِدةُ الثَّالِثة: أن هذا الاخْتبارَ ليس خاصًّا بهذه الأُمَّةِ، بل لهذا الأُمَّةِ ولغيرها مِنَ الأمم، لقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾.
1 / 15
الفَائِدةُ الرَّابِعة: أنَّ حقيقةَ المرءِ لا تُعرفُ إِلَّا بامتِحانِهِ، فإذا امتُحنَ وثبتَ كان ذلكَ دَليلًا على صِدْقهِ، وإن انْحرفَ كان ذلك دَليلًا على كَذبِهِ وعدمِ صدْقِهِ، كما قيل: "عندَ الامتحانِ يُكْرمُ المَرءُ أو يُهانُ".
الفَائِدةُ الخامِسة: إثباتُ العِلمِ للَّه ﷿ لقوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾.
الفَائِدةُ السَّادِسَة: انقسامُ النَّاسِ في الإيمانِ إلى صادِقِ وكاذِبٍ، فالصادقُ الذي يَثْبُتُ على إيمانِهِ عندَ الامْتحانِ، والكاذبُ الذي لا يَثْبتُ.
* * *
1 / 16
الآية (٤)
* * *
* قال اللَّه ﷿: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤].
* * *
قولُه ﷾: ﴿أَمْ حَسِبَ﴾ (أَم) مُنقطعَةٌ؛ وهي تأتِي في اللُّغةِ العربية على قِسْمينِ: متَّصَلِةٍ ومُنقطِعَةٍ، والفرق بينهما:
١ - أنَّ المتصلةَ بمعنى (أو).
٢ - وأنها تَأتِي بعدَ هَمزة التَّسْوية.
٣ - وأنها تأتِي بينَ متَقَابِلَينِ.
فهذه ثلاث علامات لها.
فمثال المتصلة قوله تعالى: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦]، فهنا جاءتْ بمَعْنى (أو)، أي: أنَّ هَذَا وهذَا سواءٌ.
ثانيًا: أنها بعد هَمزةِ التَّسوية: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦].
ثالثًا: أنها بين متقابلين: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦].
ومِنها أيضًا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا﴾ [إبراهيم: ٢١]، ولها أمثلةٌ متَعَددةٌ.
1 / 17
أما المنْقَطِعةُ: فهي التي تأتِي بمعنى (بَل)، وليست بمعنى (أَوْ)، ولا تقعُ بعدَ همزةِ التَّسْوية، ولا بينَ مُتَقابلينِ.
فهنا ﴿أَم حَسِبَ﴾ بمعنى: بَلْ أحسَبُ، وهذا الإضرابُ إضرابُ انتقالٍ وليس إبْطَالًا، يعني: بعد أن ذَكَرَ اللَّه ﷿ وأنْكَر على الذين حَسِبُوا أن يُتْركوا أن يَقُولوا: آمنَّا وهم لا يُفتَنُون، انتَقَل ﷿ إلى ذِكْر صِنفٍ آخرَ من النَّاس، وهم الذِينَ لم يقُولوا: آمنا ولم يُؤمِنوا، بل هم يَعْملونَ السيِّئاتِ، ويَظُنُّون أن اللَّه تعالى لن يُحيطَ بهم.
وقوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾، يعني: يَعْملونَ الأعمال السيِّئةَ، والسيئُ: ما يسُوءُ فاعِلَهُ، وكل عَمَلٍ محرَّمٍ فإنه سَيِّئ؛ لأنه يسوءُ صاحِبَه، بِمَا يجِدُ فيه مِنَ العُقوبةِ الحاضِرَةِ والمستْقبلِيَّة.
وقولُه ﵀: [الشِّرْك والمعَاصِي]، أفادَنَا المُفَسِّر أن السيِّئةَ هنا تَعُمُّ الصَّغائرَ والكَبائرَ، الكبائرُ: التي أعْلاهَا الشِّركُ، والصَّغائرُ: ما دُونَ الكَبائرِ، وهي المعَاصِي، فهي تشمَلُ كلُّ ما يسُوءُ فاعِلَهُ من مَعصِيةِ اللَّهِ تعالى في الشِّرْك فما دُونَهُ.
قوله ﷾: ﴿أَن يَسْبِقُونَا﴾ هذا مَفعولُ (حَسِبَ)، ﴿أَن يَسْبِقُونَا﴾، أي: [يَفُوتُونَا فلا نَنْتَقِمُ منهم]، والسَّبْقُ: بمَعْنى الفَواتِ، كما تقول: سَبْقتُ فلانًا، يعني: فُتُّهُ لم يُدْرِكْني، فهؤلاء يَظُنُّونَ أن اللَّه ﷿ لا يُدْركُهم، وأنَّ اللَّه لا يَنْتَقم منهم، وهذا بلا شكٍّ سوءُ ظَنٍّ باللَّه ﵎، ولهذا قال: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُون﴾، أي: ساءَ حُكْمهم هذا، وهو حُسبانُهم أن اللَّهَ تعالى لن يُدْرِكَهُمْ.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿سَاءَ﴾ بِئسَ ﴿مَا﴾]، وبئسَ: فِعل ماضٍ جامد لإنشاءِ الذَّمِّ، و﴿مَا﴾ بمعنى: الَّذي، فهِي اسمٌ مَوصُولٌ.
1 / 18
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿يَحْكُمُونَ﴾ ـهُ] قَدَّر المُفَسِّر الهاءَ لتكونَ عائدًا إلى الموصُولِ، أي: ساءَ الذي يحكُمونَهُ.
إذن: (الَّذِي) فاعلٌ، والمخصوصُ بالذَّم.
وقولُه: [حُكْمهُمْ هَذَا] اهـ.
هذا هو المخْصُوصُ، وكلُّ فِعْلٍ من الأفعالِ الجامِدةِ التي للذَّمِّ أو للمَدْحِ تحتاجُ إلى فاعلٍ وتحتاجُ إلى مَخصوصٍ، والمخصوصُ دَائمًا يُحذَفُ لدَلالةِ الفاعِلِ عليه، تقول: (نِعمَ دارُ المتَّقِين الجنَّةُ)، الفاعلُ قولِنا: دارُ، والجنَّةُ هي المخْصوصُ بالمدْحِ، والجنَّةُ: فيها وجهانِ للإعرابِ:
أحَدُهُمَا: أن تجعلها مُبتدأً مُؤخَّرًا، والجملَةُ خبرٌ مُقَدَّمٌ.
والثاني: أن تجعلها خَبرًا لمبتَدَأ محذوفٍ، تَقْدِيره: هي الجنَّةُ.
أما قولَه: [نِعْمَ دارُ المتقينَ] فَهِي فِعلٌ وفاعِلٌ.
يقولُ المُفَسِّر ﵀: [بِئسَ ما يَحْكُمونَ حُكمهُم هَذَا]، ولا ريبَ أن ما حَكَموا بِه وظَنُّوهُ هو ظنُّ سَوءٍ لا يَلِيقُ باللَّه، فإنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ في آياتٍ كثيرَةٍ: ﴿وَمَا هُم بِمُعْجِرينَ﴾ [الزمر: ٥١]، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [فاطر: ٤٤]، فهؤلاءِ الذين استَمَرُّوا في عَمَلِ السَّيئاتِ، وظَنُّوا أن اللَّهَ تعالى لا يَقْدِرُ عليهِمْ ولا يَنتَقمُ منهم، أضَافُوا والعِياذُ باللَّهِ شَرًّا إلى شرِّهم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: التَّهْديدُ والوَعيدُ لمنَ ظَنَّ أن اللَّهَ لا يَقدِرُ عليه بعَملٍ السيِّئاتِ، لقَولِهِ: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾.
1 / 19
الفَائِدةُ الثَّانِية: تَهديدُ عاملي السيِّئاتِ بأخذِ اللَّه لهم وأنَّهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ.
الفَائِدةُ الثَّالِثة: تَحريمُ ظَنِّ السُّوءِ باللَّه تعالى لقولِهِ: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.
* * *
1 / 20
الآية (٥)
* * *
* قال اللَّه ﷿: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)﴾ [العنكبوت: ٥].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿مَن كانَ يَرْجُوا﴾ يَخافُ ﴿لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ بِهِ ﴿لَآتٍ﴾، فَلْيَسْتَعِدَّ لَهُ، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأَقْوالِ العِبادِ، ﴿العَلِيمُ﴾ بِأَفْعَالهِمْ] اهـ.
قولُه: ﴿مَن كانَ يَرْجُوا﴾، قَالُ المُفَسِّر في تَفْسيرِ ﴿يَرْجُوا﴾: [يخَافُ] وهذا صَرفٌ للَّفْظِ عن ظاهِرِه؛ لأن الرجاءَ غيرُ الخوفِ، الرجاءُ: أي: الأَمَل، وهذا هو الصوابُ، فالمعنى: ﴿يَرْجُوْا لِقَاءَ اللَّهِ﴾، أي: يأمل أن يلقى اللَّه ﷿ راضيًا عنه ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾، كما في قولِه تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وليس هناك ما يوجِبُ صرفَ اللَّفظِ عن ظَاهِرِه، بل إن المعنى: مَنْ كانَ يرْجُو لقِاءَ اللَّهِ وأنه يَلْقاهُ وهو راضٍ عنه، فإن الأمر لَيسَ ببعيدٍ ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾، أي: المدَّةُ التي جعَلَها اللَّه ﷾ حائلًا بينَكَ وبين لقَائه سوف تَأتِي، يعني: سوفَ يأتي ذلك الأجلُ لا محالةَ، ويُحتمَلُ أن قولَهُ: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾، أي: المدَّةُ التي قَدَّرهَا للقائه، وهذا أحسنُ، فالمدَّةُ التي قدَّرهَا للقائِهِ لا بُدَّ أن تَأْتِيَ.
قولُهُ ﷿: [﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ به]، أي: باللِّقاءِ، ﴿لَآتٍ﴾ (اللام) للتَّوكِيدِ لأنها واقعة في خبرِ (إنَّ)، وقَدْ تقدَّم في شرحِ الألْفِيَّةِ أن مَحلَّها في أَوَّل الجملةِ،
1 / 21
ولكنهم أخَّروهَا لأن (إنَّ) للتوكيدِ أيضًا، فكَرِهوا أن يجتمِعَ مؤكِّدانِ متوالانِ، وزَحْلَقوا اللام إلى مكانها في الخبرِ.
وقوله: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ (آتٍ): خبرُ إنَّ لأنها اسمٌ منْقُوصٌ؛ والاسم إما منْقُوصٌ أو مقْصورٌ أو مَمْدودٌ أو صحيحُ الآخِرِ، فهنا نقولُ: لأنها منقوصةٌ، أصلُهَا: (لآتي) بالياء، فحُذِفَتِ الياءُ وعُوِّض عنها بالتنوين: ﴿لَآتٍ﴾ وعلى هذا فنقول: (آتٍ) خَبَرُ (إنَّ) مرفوعٌ بها، وعلامة رَفْعِه ضمَّة مقدَّرة على الياءِ المحذوفةِ لالتقاءِ الساكِنَين.
﴿وَهُوَ﴾ أي: اللَّهُ ﷾.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿السَّمِيعُ﴾ لأقْوالِ العِبادِ ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفْعالهِمْ] اهـ.
السَّمِيعُ يعني: ذا السَّمْعِ، الذي لا يَخْفَى عليه شيءٌ، كلُّ شيءٍ مِنَ المسمُوعاتِ فإنَّ اللَّه تعالى مُدْرِكه، والسَّمْعُ ينقسم إلى قسمين:
١ - سَمْعُ إدْراكٍ.
٢ - سَمْعُ إجابةٍ.
فالأَوَّلُ: مثلُ قولِهِ تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾ [المجادلة: ١١].
والثاني: مِثْلُ قولِه تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: ٣٩]، ومثلُ قولِ المصلِّي: (سمِعَ اللَّهُ لمن حَمِدهُ)، فإن المعنى: أنه استَجابَ.
وسَمْعُ الإدراكِ ينْقسِمُ إلى أقسامٍ:
مِنهَا: ما يَقْتضي التَّهديدَ.
ومنها: ما يَقْتضِي النَّصر والتأييدَ.
ومنها: ما يُقصدُ به مجرَّدُ الإدراكِ.
1 / 22
فمثالُ الأوَّلِ الذي للتَّهديدِ: قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: ١٨١].
ومثالُ الذي للنَّصر والتَّأييدِ: قوله ﷾: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: ٤٦].
ومثالُ المقصودِ به مجَرَّدُ الإدراكِ: أي الذي يُرادُ به بيانُ أن اللَّهَ ﷿ محيطٌ بالشيءِ سميعٌ له قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾ [المجادلة: ١].
كونُه تعالى سَمِيعًا هلْ يلْزَمُ منه إثباتُ الأُذُنِ؟
الجواب: لا يَلْزمُ، كما أن كونَه بَصِيرًا لا يلزمُ منه إثباتُ العَين، ولكن العَينَ ثَبتَتْ بدَلِيلٍ آخَرَ، ولولا أنَّ اللَّهَ أثْبَتَهَا لنَفْسِهِ بدليلٍ آخر ما أثْبَتْناهَا، فلا نقول: يلزمُ من كونِهِ سَمِيعًا أن يكونَ لَهُ أُذُن، كما لا يلزمُ من كونِه متَكَلِّمًا أن يكونَ له لِسانٌ وشَفتانِ وما أشبه ذلك، فإنَّنَا نعلمُ أن الأرض محدِّثُ أخْبارَهَا، ولا تُحدِّثُ إلَّا بسماعٍ، وليس لها أُذُنٌ فيما نَعلم، ولا نعلمُ أن لها لِسَانًا أيضًا، فعلى هذا نقول: لا يلزمُ مِنْ إثباتِ السمعِ إثباتُ الأُذُن.
فإذا قال قائلٌ: ولكن ثبت في الحديث الصحيح: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لَشَيءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ" (^١).
فالجواب: ما أَذِنَ له، أي: ما استَمَعَ له، وليس المعنى: ما قَدَّرَ؛ لأنه مُعَلَّقٌ بصوت، قال: "لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ"، وإلا فإنَّ اللَّهَ ﷿ أذِنَ للناسِ
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول النبي ﷺ: "المَاهِرُ بالْقُرآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ"، رقم (٧١٠٥)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، رقم (٧٩٢).
1 / 23
من جِهةِ الإذنِ الشَّرْعِيِّ، فرخَّصَ لهم وأباحَ لهُمْ ما هو أعظمُ من هذا، فإن التَّوحيدَ وغيرَهُ مما هو أكبرُ مِن قراءةِ القُرآنِ لا شكَّ أن اللَّه ﷿ يأْذنُ به أكثر، والحاصلُ أنه لا يَلزمُ من هذا أيضًا إثباتُ الأُذُن؛ لأنه ليسَ بصَرِيحٍ، والصفاتُ لا يُمكنُ أن نُثْبتَهَا بالاحتمالِ، فلا بُدَّ أن تكونَ المسألةُ واضِحةً وصريحةً.
وقوله: ﴿العَلِيمُ﴾، يقول المُفَسِّر ﵀: [بِأفْعَالهِمْ]، والحقيقَةُ أن العِلم يتَعلَّقُ بالأفعالِ والأقوالِ أيضًا، فتَخْصِيصُه بالأفعالِ فيه نَظَرٌ؛ لأن الرُّؤَيةَ هي التي تَختَّصُ بالأفعالِ، أما العِلمُ فإنه أَعَمُّ، فهو يتعلَّقُ بالأفعالِ ويتعلَّقُ بالأقوالِ، ويتعلَّقُ بحديثِ النَّفْس ويتعلَّقُ بالجَهْرِ، وبكلِّ شيءٍ.
أما جواب ﴿مَن كَانَ يَرْجُوْا لِقَاءَ اللَّهِ﴾، فقد قدَّره المُفَسِّر بقوله: [فَلْيَسْتَعِدَّ لَهُ]، وجعلُه محذوفًا، وعِندِي أنه لا بأسَ أن نقولَ: إن جوابَ الشَّرْطِ هو قوله: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾.
ويكون المعنى: أن الذي يرجو لقاءَ اللَّهِ فإنه سيَحْصُلُ له، ولا حاجةَ أن نُقَدِّر شيئًا محذوفًا؛ لأن الأصلَ عدمُ الحَذفِ، وهذا الذي قَدَّره المُفَسِّر مثل ما قدَّرَه في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧]، فَقَدْ قدَّرَهَا المُفَسِّر بقولِه: [فَلْيَمُتْ غَيظًا]، لكِنْ لا حاجةَ لهذا التَّقْدِيرِ.
قوله: ﴿مَن كَانَ يَرْجُوْا﴾ أي: يُؤمِّل؛ لكنَّ الأملَ مبنِيٌّ على المحبَّةِ، فأنت لا تؤمِّلُ الشيءَ إلا وأنتَ تُحبُّهُ، فرجاءُ الشيءِ بمعنى الأملِ في حصولِهِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: طَمأنَهُ أولئكَ الذين يَرجُونَ لقاءَ اللَّه بأنَّ ما رَجَوه سيَأْتِي.
1 / 24