242

تفسير الشعراوي

تفسير الشعراوي

اصناف

وقد يقول قائل: ولكن الصيام في رمضان يختلف عن الصوم في أيام أخر لأن رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن. وأقول: إن الصوم هو الذي يتشرف بمجيئه في شهر القرآن، ثم إن الذي أنزل القرآن وفرض الصوم في رمضان هو سبحانه الذي وهب الترخيص بالفطر للمريض أو المسافر ونقله إلى أيام أخر في غير رمضان، وسبحانه لا يعجز عن أن يهب الأيام الأخر نفسها التجليات الصفائية التي يهبها للعبد الصائم في رمضان. إن الحق سبحانه حين شرع الصوم في رمضان إنما أراد أن يشيع الزمن الضيق - زمن رمضان - في الزمن المتسع وهو مدار العام. ونحن نصوم رمضان في الصيف ونصومه في الشتاء وفي الخريف والربيع، إذن فرمضان يمر على كل العام. ويقول الحق: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } [البقرة: 185] والطوق هو القدرة، فيطيقونه أي يدخل في قدرتهم وفي قولهم، والفدية هي إطعام مسكين. ويتساءل الإنسان: كيف يطيق الإنسان الصوم ثم يؤذن له بالفطر مقابل فدية هي إطعام مسكين؟ وأقول: إن هذه الآية دلت على أن فريضة الصوم قد جاءت بتدرج، كما تدرج الحق في قضية الميراث، فجعل الأمر بالوصية، وبعد ذلك نقلها إلى الثابت بالتوريث كذلك أراد الله أن يخرج أمة محمد صلى الله عليه وسلم من دائرة أنهم لا يصومون إلى أن يصوموا صياما يخيرهم فيه لأنهم كانوا لا يصومون ثم جاء الأمر بعد ذلك بصيام لا خيار فيه، فكأن الصوم قد فرض أولا باختيار، وبعد أن اعتاد المسلمون وألفوا الصوم جاء القول الحق: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [البقرة: 185] وفي هذه الآية لم يذكر الحق الفدية أو غيرها.

إذن كانت فرضية الصوم أولا اختيارية بقوله الحق: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } [البقرة: 184]، ثم جاء القرار الارتقائي، فصار الصوم فريضة محددة المدة وهي شهر رمضان { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [البقرة: 185] وبذلك انتهت مسألة الفدية بالنسبة لمن يطيق الصوم، أما الذي لا يطيق أصلا بأن يكون مريضا أو شيخا، فإن قال الأطباء المسلمون: إن هذا مرض " لا يرجى شفاؤه " نقول له: أنت لن تصوم أياما أخر وعليك أن تفدي. لقد جاء تشريع الصوم تدريجيا ككثير من التشريعات التي تتعلق بنقل المكلفين من إلف العادات، كالخمر مثلا والميسر والميراث، وهذه أمور أراد الله أن يتدرج فيها. ويقول قائل: ما دام فرض الصيام كان اختياريا فلماذا قال الحق بعد الحديث عن الفدية { فمن تطوع خيرا فهو خير له } [البقرة: 184]؟ وأقول: عندما كان الصوم اختياريا كان لابد أيضا من فتح باب الخير والاجتهاد فيه، فمن صام وأطعم مسكينا فهذا أمر مقبول منه، ومن صام وأطعم مسكينين، فذاك أمر أكثر قبولا. ومن يدخل مع الله من غير حساب يؤتيه الله من غير حساب، ومن يدخل على الله بحساب، يعطيه الحق بحساب، وقول الحق: { وأن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184] هو خطوة في الطريق لتأكيد فرضية الصيام، وقد تأكد ذلك الفرض بقوله الحق: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ولم يأت في هذه الآية بقوله: { وأن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184] لأن المسألة قد انتقلت من الاختيار إلى الفرض. إذن فالصيام هو منهج لتربية الإنسان، وكان موجودا قبل أن يبعث الحق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الصوم على المسلمين اختياريا في البداية، ثم فريضة من بعد ذلك. وقد شرع الله الصوم في الإسلام بداية بأيام معدودة ثم شرح لنا الأيام المعدودة بشهر رمضان. والذي يطمئن إليه خاطري أن الله بدأ مشروعية الصوم بالأيام المعدودة، ثلاثة أيام من كل شهر وهو اليوم العاشر والعشرون، والثلاثون من أيام الشهر، وكانت تلك هي الأيام المعدودة التي شرع الله فيها أن تصوم وكان الإنسان مخيرا في تلك الأيام المعدودة: إن كان مطيقا للصوم أن يصوم أو أن يفتدي، أما حين شرع الله الصوم في رمضان فقد أصبح الصوم فريضة تعبدية وركنا من أركان الإسلام، وبعد ذلك جاءنا الاستثناء للمريض والمسافر.

إذن لنا أن نلحظ أن الصوم في الإسلام كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى شرع صيام أيام معدودة، وقد شرحنا أحكامها، والمرحلة الثانية هي تشريع الصوم في زمن محدود.. شهر رمضان، والعلماء الذين ذهبوا إلى جواز رفض إفطار المريض وإفطار المسافر لأنهم لم يرغبوا أن يردوا حكمة الله في التشريع، أقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى حين يرخص لابد أن تكون له حكمة أعلى من مستوى تفكيرنا، وأن الذي يؤكد هذا أن الحق سبحانه وتعالى قال: { ومن كان مريضا أو على سفر } [البقرة: 185]. الحكم هنا هو الصوم عدة أيام أخر، ولم يقل فمن أفطر فعليه عدة من أيام آخر، أي أن صوم المريض والمسافر قد انتقل إلى وقت الإقامة بعد السفر، والشفاء من المرض، فالذين قالوا من العلماء: هي رخصة، إن شاء الإنسان فعلها وإن شاء تركها، لابد أن يقدر في النص القرآني { ومن كان مريضا أو على سفر } [البقرة: 185]، فأفطر، { فعدة من أيام أخر } [البقرة: 185]. ونقول: ما لا يحتاج إلى تأويل في النص أولى في الفهم مما يحتاج إلى تأويل، وليكن أدبنا في التعبير ليس أدب ذوق، بل أدب طاعة لأن الطاعة فوق الأدب. إذن فالذين يقولون هذا لا يلحظون أن الله يريد أن يخفف عنا، ثم ما الذي يمنعنا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى أراد للمريض وللمسافر رخصة واضحة، فجعل صيام أي منهما في عدة من الأيام الأخر. فإن صام في رمضان وهو مريض أو على سفر فليس له صيام، أي أن صيامه لا يعتد به ولا يقبل منه، وهذا ما أرتاح إليه، ولكن علينا أن ندخل في اعتبارنا أن المراد من المرض والسفر هنا، هو ما يخرج مجموع ملكات الإنسان عن سويتها. وما معنى كلمة " شهر " التي جاءت في قوله: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [البقرة: 185]؟. إن كلمة " شهر " مأخوذة من الإعلام والإظهار، وما زلنا نستخدمها في الصفقات فنقول مثلا: لقد سجلنا البيع في " الشهر العقاري " أي نحن نعلم الشهر العقاري بوجود صفقة، حتى لا يأتي بعد ذلك وجود صفقة على صفقة، فكلمة " شهر " معناها الإعلام والإظهار، وسميت الفترة الزمنية " شهرا " لماذا؟ لأن لها علامة تظهرها، ونحن نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف الشهر عن طريق الشمس فالشمس هي سمة لمعرفة تحديد اليوم، فاليوم من مشرق الشمس إلى مشرق آخر وله ليل ونهار. ولكن الشمس ليست فيها علامة مميزة سطحية ظاهرة واضحة تحدد لنا بدء الشهر، إنما القمر هو الذي يحدد تلك السمة والعلامة بالهلال الذي يأتي في أول الشهر، ويظهر هكذا كالعرجون القديم، إذن فالهلال جاء لتمييز الشهر، والشمس لتمييز النهار، ونحن نحتاج لهما في تحديد الزمن.

إن الحق سبحانه وتعالى يربط الأعمال العبادية بآيات كونية ظاهرة التي هي الهلال، وبعد ذلك نأخذ من الشمس اليوم فقط لأن الهلال لا يعطيك اليوم، فكأن ظهور الهلال على شكل خاص بعدما يأتي المحاق وينتهي، فميلاد الهلال بداية إعلام وإعلان وإظهار أن الشهر قد بدأ، ولذلك تبدأ العبادات منذ الليلة الأولى في رمضان لأن العلامة - الهلال - مرتبطة بالليل، فنحن نستطلع الهلال في المغرب، فإن رأيناه نقول شهر رمضان بدأ. ولم تختلف هذه المسألة لأن النهار لا يسبق الليل، إلا في عبادة واحدة وهي الوقوف بعرفة، فالليل الذي يجئ بعدها هو الملحق بيوم عرفة. وكلمة " رمضان " مأخوذة من مادة الراء - والميم - والضاد، وكلها تدل على الحرارة وتدل على القيظ " رمض الإنسان " أي حر جوفه من شدة العطش، و " الرمضاء " أي الرمل الحار، وعندما يقال: " رمضت الماشية " أي أن الحر أصاب خفها فلم تعد تقوى أن تضع رجلها على الأرض، إذن فرمضان مأخوذ من الحر ومن القيظ، وكأن الناس حينما أرادوا أن يضعوا أسماء للشهور جاءت التسمية لرمضان في وقت كان حارا، فسموه رمضان كما أنهم ساعة سموا مثلا " ربيعا الأول وربيعا الآخر " كان الزمن متفقا مع وجود الربيع، وعندما سموا جمادى الأولى وجمادى الآخرة " كان الماء يجمد في هذه الأيام. فكأنهم لاحظوا الأوصاف في الشهور ساعة التسمية، ثم دار الزمن العربي الخاص المحدد بالشهور القمرية في الزمن العام للشمس. فجاء رمضان في صيف، وجاء في خريف، لكن ساعة التسمية كان الوقت حارا. وهب أن إنسانا جاءه ولد جميل الشكل، فسماه " جميلا ". وبعد ذلك مرض والعياذ بالله بمرض الجدري فشوه وجهه، فيكون الإسم قد لوحظ ساعة التسمية، وإن طرأ عليه فيما بعد ذلك ما يناقض هذه التسمية، وكأن الحق سبحانه وتعالى حينما هيأ للعقول البشرية الواضعة للألفاظ أن يضعوا لهذا الشهر ذلك الاسم، دل على المشقة التي تعتري الصائم في شهر رمضان، وبعد ذلك يعطي له سبحانه منزلة تؤكد لماذا سمي، إنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، والقرآن إنما جاء منهج هداية للقيم، والصوم امتناع عن الاقتيات، فمنزلة الشهر الكريم أنه يربي البدن ويربي النفس، فناسب أن يوجد التشريع في تربية البدن وتربية القيم مع الزمن الذي جاء فيه القرآن بالقيم، { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [البقرة: 185]. وإذا سمعت { أنزل فيه القرآن } [البقرة: 185] فافهم أن هناك كلمات " أنزل " و " نزل " و " نزل " ، فإذا سمعت كلمة " أنزل " تجدها منسوبة إلى الله دائما:

إنا أنزلناه في ليلة القدر

[القدر: 1]. أما في كلمة " نزل " فهو سبحانه يقول:

نزل به الروح الأمين

[الشعراء: 193]. وقال الحق:

تنزل الملائكة..

[القدر: 4]. إذن فكلمة " أنزل " مقصورة على الله، إنما كلمة " نزل " تأتي من الملائكة، و " نزل " تأتي من الروح الأمين الذي هو " جبريل " ، فكأن كلمة " أنزل " بهمزة التعدية، عدت القرآن من وجوده مسطورا في اللوح المحفوظ إلى أن يبرز إلى الوجود الإنساني ليباشر مهمته. وكلمة " نزل " و " نزل " نفهمهما أن الحق أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا مناسبا للأحداث ومناسبا للظروف، فكان الإنزال في رمضان جاء مرة واحدة، والناس الذين يهاجموننا يقولون كيف تقولون: إن رمضان أنزل فيه القرآن مع أنكم تشيعون القرآن في كل زمن، فينزل هنا وينزل هناك وقد نزل في مدة الرسالة المحمدية؟ نقول لهم: نحن لم نقل إنه " نزل " ولكننا قلنا " أنزل " ، فأنزل: تعدي من العلم الأعلى إلى أن يباشر مهمته في الوجود. وحين يباشر مهمته في الوجود ينزل منه " النجم " - يعني القسط القرآني - موافقا للحدث الأرضي ليجيء الحكم وقت حاجتك، فيستقر في الأرض، إنما لو جاءنا القرآن مكتملا مرة واحدة فقد يجوز أن يكون عندنا الحكم ولا نعرفه، لكن حينما لا يجيء الحكم إلا ساعة نحتاجه، فهو يستقر في نفوسنا. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت مثلا تريد أن تجهز صيدلية للطوارئ في المنزل، وأنت تضع فيها كل ما يخص الطوارئ التي تتخيلها، ومن الجائز أن يكون عندك الدواء لكنك لست في حاجة له، أما ساعة تحتاج الدواء وتذهب لتصرف تذكرة الطبيب من الصيدلية، عندئذ لا يحدث لبس ولا اختلاط، فكذلك حين يريد الله حكما من الأحكام ليعالج قضية من قضايا الوجود فهو لا ينتظر حتى ينزل فيه حكم من الملأ الأعلى من اللوح المحفوظ، إنما الحكم موجود في السماء الدنيا، فيقول للملائكة: تنزلوا به، وجبريل ينزل في أي وقت شاء له الحق أن ينزل من أوقات البعثة المحمدية، أو الوقت الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد فيه الحكم الذي يغطي قضية من القضايا. إذن فحينما يوجد من يريد أن يشككنا نقول له: لا. نحن نملك لغة عربية دقيقة، وعندنا فرق بين " أنزل " و " نزل " و " نزل " ولذلك فكلمة " نزل " تأتي للكتاب، وتأتي للنازل بالكتاب يقول تعالى:

نامعلوم صفحہ