219

تفسير الشعراوي

تفسير الشعراوي

اصناف

إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره..

[الشورى: 33]. أي أن الله حين يشاء يعطل القوة المحركة لأي شيء فهو سبحانه يفعل. أما عن معنى الريح كرائحة فنحن نجده في قوله الحق:

ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف..

[يوسف: 94]. إن يعقوب والد يوسف عليهما السلام كان يملك حاسة شم قوية، فعندما خرجت القافلة من مصر، قال والده: إني أشم رائحة يوسف. وفي الريف نحن نسمع من يقول: " سأنتقم من فلان ولا اجعل له ريحة في الأرض " ، ويقصد أنه لن يجعل له أثرا في الأرض، ولماذا استخدم هنا كلمة الرائحة؟. لقد ثبت حديثا فقط أن الرائحة هي أبقى الآثار بالنسبة إلى الكائن الحي، بدليل أن الذين عندهم حاسة الشم قوية من الكائنات كالكلاب البوليسية يستدلون برائحة الجاني على مكان وجوده، كأن الجاني يترك أثرا لرائحته في مكان الجريمة، وكل ما هو مطلوب أن يوجد من له حاسة شم قوية ليستدل عليه.

والحق سبحانه وتعالى أعطانا العقل، ولكن أبقى لبعض منا ولغير العاقل ما لا تستطيع أغلبيتنا أن تصل إليه، وأصبح الكلب الذي هو حيوان بهيم أعجم يستدل على أشياء لا نستطيع نحن أن نستدل عليها، لأنه لا يزال في عالم الحس فقط، بينما الإنسان أخذ جانبا من عالم الحس. وجانبا من العقل. وقوله الحق: { ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الأرض بعد موتها } [البقرة: 164] فهل يعني هذا القول أن الماء في السماء؟.. لا، إن الماء أصله في الأرض، لكن ماء الأرض الثابت لا ينفع لرينا ولا لري زرعنا إنه ملح أجاج مر، والذي يوجد على الأرض منه هو مخزون فقط، ولذلك وضع الله له المواد الكيماوية التي تجعله لا يفسد ولا تتغير صفاته وطبيعته، ثم تتسع رقعة الماء على قدر اليابس ثلاث مرات، لماذا؟. لأن الله يريد أن تتسع صفحة الماء اتساعا يجعل للبخر مصادر كبيرة واسعة، هذا البخر هو عملية التقطير الإلهي. إن إنزال الماء من السماء هو الذي نراه على هيئة المطر، لكن تسبق نزوله مراحل متعددة هي بخر وتكثيف وتلقيح الرياح للسحاب وغيرها. وتلك المراحل المتعددة اهتدينا إليها مؤخرا، بدليل أننا حاولنا تقليد هذه الدورة، بأن نبخر الماء المالح ونكثفه لنستخرج ماء مقطرا، لكن ذلك له تكاليفه المالية العالية، فكوب واحد من الماء المقطر يستغرق وقتا ويستلزم جهدا وتكاليف بينما المعمل الإلهي يدر لنا ماء غدقا لا حصر لكمياته، إن هذا المعمل يعمل ونحن لا ندري. إن الدورة المائية تبدأ بصعود البخار من الماء، وبعد ذلك يصادف منطقة باردة فينزل ماء عذبا. ومن دقة الخالق الحكيم سبحانه أن جعل منسوب الماء العذب دائما أعلى من منسوب الماء المالح، فلو كان منسوب المالح أعلى من العذب فسيطغى عليه ويفسده، ولا نجد ماء نشربه، لكن الخالق الحكيم جعل منسوب المياه العذبة في الأنهار أعلى من ماء البحار والمحيطات حتى ينساب الماء من النهر إلى البحر وذلك لا يسبب ضررا. فالحق سبحانه وتعالى يعلمنا أنه أنزل من السماء ماء، كيف ينزل هذا الماء؟. هذا ما عرفناه مؤخرا، وبالماء العذب يحيي الله الأرض بعد موتها، وما هو الموت؟ إن الموت هو ذهاب الحركة، كذلك الأرض عندما تجف فلا تبقى لها حركة، ونحن لا نستطيع بحواسنا أن ندرك حركة الأرض أثناء نمو النبات، لكن الله عز وجل يؤكد ذلك في قوله

وترى الأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت..

[الحج: 5]. فالأرض عندما ينزل عليها المطر تنتفخ قشرتها، وتطفو تلك القشرة على سطح الأرض، ثم ماذا يحدث؟.

وأنبتت من كل زوج بهيج

[الحج: 5]. وهذا هو معنى قوله تعالى: { فأحيا به الأرض بعد موتها } [البقرة: 164].

ثم تمضي الآية { وبث فيها من كل دآبة } [البقرة: 164] أي نشر فيها كل ما يدب على الأرض، و { وتصريف الرياح } [البقرة: 164] ومعنى التصريف هو التحويل والتغيير، أي توجيه الرياح إلى نواح مختلفة سواء إلى الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب، وهذا الاختلاف لم يجعل للهواء مسارا رتيبا، وعندما نتأمل عملية الاستطراق في الهواء نجد أنها تعطي اعتدالا مزاجيا للهواء، فمرة يأتي من ناحية حارة ليهب على المناطق الباردة، ومرة يأتي من المناطق الباردة فيهب على المناطق الحارة، وهذا التصريف نعمة من نعم الله، فلو كانت الرياح ثابتة لصارت مرهقة للبشر . ونحن نسمع عن أسماء الرياح مثل الصبا والدابور، وريح الشمال، وريح الجنوب، والنكباء، والزعزع، والصرصر، وساعة تسمع كلمة " رياح " بصيغة الجمع، فلنعلم أنها للخير، وإن جاءت " ريح " بصيغة المفرد فلنعلم أنها عقيم ضارة. مثل قوله الحق:

نامعلوم صفحہ