178

تفسير الشعراوي

تفسير الشعراوي

اصناف

[التوبة: 30]. ثم في قصة خلق عيسى عليه السلام من مريم بدون رجل.. الله سبحانه وتعالى يقول:

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا

[مريم: 88-93]. والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا ادعاء خطير مستقبح مستنكر وممقوت.. لقد عالجت سورة مريم المسألة علاجا واسعا.. علاجا اشترك فيه انفعال كل أجناس الكون غير الإنسان.. انفعال السماوات والأرض والجبال وغيرها من خلق الله التي تلعن كل من قال ذلك.. بل وتكاد شعورا منها بفداحة الجريمة أن تنفطر السماء أي تسقط قطعا صغيرة.. وتنشق الأرض أي تتمزق.. وتخر الجبال أي تسقط كتراب.. كل هذا من هول ما قيل ومن كذب ما قيل.. لأن هذا الادعاء افتراء على الله. ولقد جاءت كل هذه الآيات في سورة مريم التي أعطتنا معجزة خلق عيسى.. كما وردت القضية في عدة سور أخرى. والسؤال هنا ما هي الشبهة التي جعلتهم يقولون ولد الله؟ ما الذي جعلهم يلجأون إلى هذا الافتراء؟ القرآن يقول عن عيسى بن مريم.

. كلمة الله ألقاها إلى مريم.. نقول لهم كلنا كلمة " كن ". لماذا فتنتم في عيسى ابن مريم هذه الفتنة؟ والله سبحانه وتعالى يشرح المسألة فيقول:

إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون

[آل عمران: 59]. قوله كمثل آدم لمجرد مجاراة الخصم.. ولكن المعجزة في آدم أقوى منها في عيسى عليه السلام.. أنتم فتنتم في عيسى لأن عنصر الأبوة ممتنع.. وآدم امتنع فيه عنصر الأبوة والأمومة.. إذن فالمعجزة أقوى.. وكان الأولى أن تفتنوا بآدم بدل أن تفتنوا بعيسى.. ومن العجيب أنكم لم تذكروا الفتنة في آدم وذكرتم الفتنة فيما فيه عنصر غائب من عنصرين غائبين في آدم.. وكان من الواجب أن تنسبوا هذه القضية إلى آدم ولكنكم لم تفعلوا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال له الله إن القضية ليست قضية إنكار ولكنها قضية كاذبة.. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين

[الزخرف: 81]. أي لن يضير الله سبحانه وتعالى أن يكون له ولد.. ولكنه جل جلاله لم يتخذ ولدا.. فلا يمكن أن يعبد الناس شيئا لم يكن لله.. وإنما ابتدعوه واختلقوه.. الله جل جلاله يقول: { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض } [البقرة: 116].. قوله تعالى: { بل له ما في السماوات والأرض } [البقرة: 116] تعطي الله سبحانه وتعالى الملكية لكل ما في الكون.. والملكية تنافي الولدية.. لماذا؟ لأن الملكية معناها أن كل ما في الكون من خلق الله.. كل شيء هو خالقه بدون معارض.. وما دام هو خالقه وموجده.. فلا يمكن أن يكون هذا الشيء جزءا منه.. لأن الذي يخلق شيئا يكون فاعلا.. والفاعل له مفعول.. والمفعول لا يكون منه أبدا.. هل رأيت واحدا صنع صنعة منه؟ الذي يصنع سيارة مثلا.. هل صنعها من لحمه أو من لحم البشر؟ وكذلك الطائرة والكرسي والساعة والتليفزيون.. هل هذه المصنوعات من جنس الذي صنعها؟ طبعا لا. إذن ما دام ملكية.. فلا يقال إنها من نفس جنس صانعها.. ولا يقال إن الفاعل أوجد من جنسه.. لأن الفاعل لا يوجد من جنسه أبدا.. كل فاعل يوجد شيئا أقل منه.. فقول الله: " سبحانه ".. أي تنزيه له تبارك وتعالى.. لماذا؟ لأن الولد يتخذ لاستبقاء حياة والده التي لا يضمنها له واقع الكون.. فهو يحمل اسمه بعد أن يموت ويرث أملاكه.

. إذن هو من أجل بقاء نوعه.. والذي يريد بقاء النوع لا يكفيه أن يكون له ولد واحد. لو فرضنا جدلا أن له ولدا واحدا فالمفروض أن هذا الولد يكون له.. ولكننا لم نر أولادا لمن زعموا أنه ابن الله.. وعندما وقبلما يوجد الولد ماذا كان الله سبحانه وتعالى يفعل وهو بدون ولد؟ وماذا استجد على الله وعلى كونه بعد أن اتخذ ولدا كما يزعمون.. لم يتغير شيء في الوجود.. إذن إن وجود ولد بالنسبة للإله لم يعطه مظهرا من مظاهر القوة.. لأن الكون قبل أن يوجد الولد المزعوم وبعده لم يتغير فيه شيء. إذن فما سبب اتخاذ الولد؟ معونة؟ الله لا تضعف قوته.. ضمان للحياة؟ الله حياته أزلية.. هو الذي خلق الحياة وهو الذي يهبها وهو حي لا يموت.. فما هي حاجته لأي ضمان للحياة؟ الحق سبحانه وتعالى تنفعل له الأشياء.. أي إنه قادر على إبراز الشيء بمقتضى حكمه.. وهو جل جلاله له كمال الصفات أزلا.. وبكمال صفاته خلق هذا الكون وأوجده.. لذلك فهو ليس في حاجة إلى أحد من خلقه.. لأنه ساعة خلق كانت له كل صفات القدرة على الخلق.. بل قبل أن يخلق كانت له كل صفات الخالق وبهذه الصفات خلق.. والله سبحانه وتعالى كان خالقا قبل أن يخلق أحدا من خلقه.. وكان رزاقا قبل أن يوجد من يرزقه .. وكان قهارا قبل أن يوجد من يقهره.. وكان توابا قبل أن يوجد من يتوب عليه.. وبهذه الصفات أوجد وخلق ورزق وقهر وتاب على خلقه. إذن كل هذا الكون لم يضف صفة من صفات الكمال إلى الله.. بل إن الله بكمال صفاته هو الذي أوجد. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي:

" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر.. "

نامعلوم صفحہ