Tafsir Al-Muntasir Al-Kattani
تفسير المنتصر الكتاني
اصناف
تفسير قوله تعالى: (ما كان لله أن يتخذ من ولد)
قال الله ﷻ: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [مريم:٣٥ - ٣٦].
بعد أن علمنا الله ﷻ وقص علينا قصة زكريا وقصة ولده يحيى، وقصة خلق عيسى من غير أب، ختم الله ذلك بقوله: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم:٣٥] أي: لا يليق بجلاله ولا يليق بحق ألوهيته ولا بصفاته أن يكون الرب أبًا كالمخلوقات.
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ [مريم:٣٥] فالله ينزه نفسه ﷻ عن أن يشبه خلقه في ولد أو ولادة أو في شيء مما يتعلق بالمخلوق، فالله هو الخالق والرازق والذي أكسب هؤلاء قوة ليكون لهم أولاد وصواحب، وأما هو ﷻ فهو منزه عن ذلك ومعظم عنه فلا يليق به ولا بألوهيته، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١ - ٤].
قال تعالى: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ [مريم:٣٥] أي: إذا سبق في علمه وقضائه وإرادته أن يكون له أمر كأن يخلق شيئًا، فهو لا يحتاج لصاحبة ولا ولد، وإنما يقول للشيء: كن فيكون، فالله لا يريد ولدًا ولا يليق بجلاله أن يكون له ولد من حمل أو من غير حمل.
فعيسى ﵇ كان من نفخة الروح، فحملته أمه تسعة أشهر ثمَّ ولدته كما يلد النساء حملًا ووحمًا وعذابًا ومخاضًا وولادة، والله ﷻ لا يحتاج لذلك ولا يليق به أن يكون له ولد، ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [مريم:٣٥] أي: إذا تعلقت إرادته وقدرته بالشيء، فيكفي أن يقول له: كن فيكون، فكما خلق آدم من تراب وحواء من ضلع آدم، وخلق السماوات العلا والأرضين السفلى وما بينهما، فلم يحتج إلا إلى قوله: كن فكان ذلك، ولا يزال الخلق مستمرًا، ولا يزال الله وسيبقى الخالق المدبر الرازق المعطي المانع المحيي المميت، فكل ما يريده ﷻ لا يحتاج منه إلى أكثر من قوله له: كن فيكون.
يقول عيسى ﵇: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [مريم:٣٦]، وقرئ ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ [مريم:٣٦] عطف على قول عيسى: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم:٣١] أي: وأوصاني بأن اتخذ الله ربًا؛ لأن الخلق جميعًا مربوبون فما خلقنا إلا لعبادته، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦].
فعيسى عندما ولد طفلًا رضيعًا أنطقه الله تعالى وآتاه الحكم والكتاب والنبوة صبيًا، فكان أول ما قال: إنه عبد الله، وهنا يؤكد ذلك ويقول لنفسه وللناس: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ [مريم:٣٦] أي: إن الله ﷻ هو ربي وخالقي ورازقي، فهو يزيف بذلك ما زعمه النصارى عنه من أنه الرب أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن كل ذلك علوًا كبيرًا.
فقوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ [مريم:٣٦] أي: كما هو خالقي فهو خالقكم، وكما هو رازقي فهو رازقكم، والأمر بيده إحياءً وإماتةً.
فالله ﷻ أنطق عيسى عند الطفولة وهو لا يزال في المهد: أن يكذب ما سيكون بعد ذلك من اتهام اليهود له، وقذفهم له أنه ابن يوسف النجار، أو غلو ومبالغة النصارى عندما جعلوه الله وعبدوه، فعيسى قد قال عن نفسه: إنما أنا عبدٌ لله، وربي الله كما هو ربكم، فلا يعبد سواه، ولا ينزه سواه، ولا يعظم سواه ﷻ.
قال تعالى: ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [مريم:٣٦] يقول عيسى: هذا الذي أتيتكم به صراط سوي واضح بين، ليس فيه عوج ولا أمت، وهو يدعو إلى عبادة الله الواحد، فالكل عبيد له ومخلوقون له، وأن دينه الذي أتى به دين سوي مستقيم لا يفسد على الناس عقولهم.
23 / 2