Tafsir al-Basmala - Within 'Athar al-Mu'allimi'
تفسير البسملة - ضمن «آثار المعلمي»
تحقیق کنندہ
محمد أجمل الإصلاحي
ناشر
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٤ هـ
اصناف
الرسالة الأولى
في تفسير البسملة
7 / 3
[٤٢/أ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، نحمده على أن جعلنا من عباده المسلمين، وقسم لنا حظًّا من فهم كتابه المبين، ونسأله أن يرزقنا كمال اليقين، ويجعلنا من خيار المتقين، ويثبِّت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينجينا من القوم الظالمين.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد.
أما بعد:
فقد كثر الكلام على هذه الكلمة الشريفة (بِسْمِاللَّهِالرَّحْمَنِالرَّحِيمِ) وأُلِّفَتْ فيها رسائل، ولا يكاد يخلو شرح من شروح الكتب عن الكلام عليها، ولكنني مع ذلك لم أجد كلامًا عليها يقتصر على إيضاح معناها إيضاحًا تامًّا يُسَهِّل على الطالب الإحاطةَ به، ليستظهره عند ذكرها. فسَمَتْ بي الهمّةُ إلى محاولة ذلك. فإذا يسَّر الله ﵎ لي الوفاء بذلك، فمن محض فضله العظيم، وإلا فعذري القصور والتقصير، وقلة العلم الذي يتوقف عليه التحقيق، وقلة العمل المقتضي لحسن التوفيق.
وأستغفر الله العظيم، اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.
7 / 5
الفصل الأول
ينبغي أن يستحضر الإنسان قبل البسملة أمورًا:
الأول: أنه يقولها امتثالًا لأمر الله ﷿؛ لأنه ﷾ أمرنا بقولها. أمَّا في أول القراءة، فيقول ﷿: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] فإنَّ الراجح في تفسيرها أنَّ المعنى: اقرأ القرآن مُسَمِّيًا ربَّك، أي ذاكرًا اسمه، كما يأتي إن شاء الله. ثم بيَّن لنا كيف نذكر اسمه بقوله: (بِسْمِاللَّهِالرَّحْمَنِالرَّحِيمِ) وأما عند ذكاة الحيوان، فالآيات في ذلك كثيرة، كقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ [الحج: ٣٦]، وقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١].
والأحاديث في ذلك كثيرة أيضًا.
وفي بقية الأمور بالفهم من الآيات والأحاديث والإجماع.
الثاني: أن (بِسْمِاللَّهِالرَّحْمَنِالرَّحِيمِ) من كلام الله ﷿، فأما استحضار ذلك عند القراءة فواضح، وأما عند التسمية على الذبيحة وغيرها فليس بشرط، ولكن يظهر أنَّ استحضار ذلك أكمل.
الأمر الثالث: أن يعبر بها عن نفسه، كما في غيرها من الأذكار من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ..﴾ الآية [البقرة: ٢٠١]، وفي الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا﴾. ولا
7 / 6
منافاة بين ذلك وبين تلاوتها على أنها من القرآن، ولاسيما في البسملة، وقوله في الفاتحة
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إلخ؛ لأن الله ﵎ تكلم بها وأنزلها وأمر الإنسان أن يقولها معبرًا بها عن نفسه.
وكذلك في ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ والمعوذتين. وقد استشكل فيها ثبوت كلمة ﴿قُلْ﴾، وجاء عن بعض الصحابة أنه قرأ بدونها، وزعم بعضهم أنه ينبغي للإنسان أن ينوي بكلمة ﴿قُلْ﴾ أمر نفسه (^١). وهو بعيد، ولا يدفع الإشكال.
والذي يظهر أنه ينبغي أن يستحضر عند كلمة ﴿قُلْ﴾ أنها أمر من الله تعالى له بقول ما بعدها، ثم ينوي بما بعدها التعبير عن نفسه، فكأنه يقدر ما يأتي: يقول الله تعالى: ﴿قُلْ﴾ ما يأتي، فأنا أقول ﴿أعوذ ...﴾ إلخ.
[٤٢/ب] الأمر الرابع: أنَّ الباء في قوله: (بسم ...) حرف جرّ، وحرف الجرّ يحتاج إلى كلمة يتعلق بها، فإذا وقع في الكلام: "من البيت" أو "بالقلم" أو "بسلاحه" فلا يتم الكلام إلا بكلمة تدل على الأمر الواقع من البيت وبالقلم وبسلاحه.
فإذا قيل: زيد خرج أو يخرج أو خارج من البيت، فالجارُّ والمجرور وهو قولك: "من البيت" متعلق بخرج، أو يخرج، أو خارج؛ لأن الواقع من البيت هو الخروج. وقس عليه: كتبت بالقلم، وخرج زيد بسلاحه.
_________
(^١) انظر: "روح المعاني" (٣٠/ ٢٧٣). ونسبت القراءة المذكورة إلى ابن مسعود وأبي بن كعب. انظر: "إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم" لابن خالويه (٢٢٨)، و"الكشاف" (٤/ ٨١٧).
7 / 7
وكثيرًا ما يحذف المتعلق، إما لعمومه كقولهم: العَصَا من العُصَيَّة (^١)، أي كائنة؛ وإما لدلالة الحال عليه، كأن يرى رجلًا يضرب ولده بيده، فيقول: بالعصا، أي اضْرِبْه بالعصا.
ومتعلَّق (بسم الله) في القراءة محذوف لدلالة الحال عليه، وهو: "أقرأ". وفي غيرها يقدره الإنسان بحسب ما يسمِّي عليه. والغالب حذفه لدلالة الحال، ففي الأكل: آكل، وفي الشرب: أشرب، وفي الوضوء: أتوضأ، وهكذا. هذا هو المشهور، وسيأتي في تقرير المعنى احتمال غيره.
هذا، والأصلُ في الكلمة التي يتعلق بها الجار والمجرور تقدُّمُها عليه، ولكن المختار في تسمية الإنسان عن نفسه تأخير المتعلق؛ لأن الحال التي تدل عليه من شأنها التأخير. فإن أراد أن يقوم فقال: "بسم الله" وقام، فالقيام إنما يشاهدَ بعد التسمية، فكذلك ينبغي تقدير الفعل الذي دلَّ عليه القيام، وهو "أقُوم".
= ولوجوه أخرى أهمها أنَّ التأخير يبيِّن أنَّ في الكلام اختصاصًا، ومعنى الاختصاص أن يكون الكلام يدل مع ثبوت الأمر للشيء على انتفائه عن غيره، كقولك: ما جاء إلا زيدٌ، أثبتَّ المجيء لزيد، ونفيتَه عن غيره. وهذا المعنى يفيده تقدم الجار والمجرور على متعلقه، كقولك: بقلمي أكتبُ، وبسلاحي أخرج. فيكون معنى الأول: أكتب بقلمي، ولا أكتب بغيره؛
_________
(^١) العصا فرس جَذيمة الأبرش، والعُصَيّة أمُّها. يضرب في مناسبة الشيء أصله. انظر: "نسب الخيل" للكلبي (٥٤)، و"أسماء الخيل" للغندجاني (١٦٩)، و"المستقصى" (١/ ٣٣٤). وللمثل تفسير آخر ذكره الزمخشري وغيره، وهو أن الشيء الجليل يكون في بدئه حقيرًا.
7 / 8
ومعنى
الثاني: أخرج بسلاحي، ولا أخرج بغيره.
وهذا المعنى مقصود في البسملة، ردًّا على الشيطان الذي يوسوس لك أن لا تذكر اسم الله، أو بأن تذكر غيره دونه أو معه، وفيه مع ذلك تعريض بمن يطيع الشيطان من المشركين وغيرهم. ولذلك فموضعه بعد تمام البسملة حيث ذكرت بتمامها، وبعد "بسم الله" حيث اقتصر عليها. والله أعلم.
7 / 9
الفصل الثاني
باء الجرِّ تأتي لعدة معاني (^١)، اقتصر الأكثر هنا على معنيين، وذكروا أن غيرها لا يأتي إلا بتعسف:
أحدهما: الاستعانة.
الثاني: المصاحبة.
قالوا ــ والعبارة للصبَّان في "رسالة البسملة" ــ: "وباء الاستعانة هي الداخلة على واسطة الفعل المذكور معها التي يتوقف وجوده عليها، كما في كتبت بالقلم، وتسمى باء الآلة ... وباء المصاحبة هي التي يصلح موضعها "مع" ويغني عنها وعن مصحوبها الحال، كما في ﴿اهْبِطْ بِسَلَامٍ﴾ [هود: ٤٨] أي مع سلام، أو مسلِّمًا" (^٢).
أقول: أما باء الاستعانة، فظاهر عباراتهم اختصاصها بالدخول على الآلات، نحو كتبتُ بالقلم، ونَجَرتُ بالقَدُوم، وخِطْتُ بالإبرة؛ ولكن قد يُنَزَّل ما ليس بآلة منزلةَ الآلة. وفي ذلك نظر ليس هذا موضعه، وربما يأتي شيء منه عند تقرير المعنى، إن شاء الله تعالى.
وأما المصاحبة، فهو معنى واضح، ولكن الأولى في تفسير ﴿اهْبِطْ بِسَلَامٍ﴾ أن يقال: اهبط معك سلام؛ [٤٣/أ] فإنَّ كلمة "مع" تُشعر بأنَّ ما تضاف إليه متبوع، تقول: حج الخادم مع سيَّده، ولا يحسن أن يقال: حجَّ
_________
(^١) كذا في الأصل بثبوت الياء.
(^٢) "الرسالة الكبرى" للصبان (٨ - ٩).
7 / 10
السيِّدُ مع خادمه، بل يقال: ومعه خادمه. والمراد: التبعية في المعنى المقصود، وقد يكون التابع أشرف، كما في قوله تعالى لموسى وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ [طه: ٤٦] فإنَّ الإنسان هو الأصل في التنقل والتحول، وعلمُ الله تعالى وحفظُه تبع له في ذلك، يعني: أنهما تصحبانه حيثما توجَّهَ.
وأما باء المصاحبة، فعلى عكس ذلك، تقول: خرج زيد بسلاحه، فيحسن أن يقدَّر: معه سلاحه، ومع ذلك فإنما يحصل الاتفاق في أصل المعنى كما لا يخفى.
وأما قوله: "ويغني عنها وعن مصحوبها الحال"، فالمراد كما يوضحُه المثال: حال مشتقة من المجرور. ولكن قد لا يتأتى ذلك، إما بأن لا يمكن الاشتقاق، كما في قولك: خرج العالم بكتبه، أو يمكن ولكن يتغير المعنى، كأن تقول: خرج بعمامته في يده؛ ففي هاتين الصورتين يحتاج إلى تقدير حال تغني عن الباء فقط. والأكثر أن تشتق من لفظ الصحبة، كأن يقال: مستصحبًا كتبه، ومستصحبًا عمامته.
إذا علمت ذلك فحقُّ تقدير الحال في التسمية أن يقال: "مسميًا"، إلا أن يتغير المعنى. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
7 / 11
الفصل الثالث
"اسم"
لفظ "اسم" في المعروف المتواتر من اللغة: هو اسم للفظ الدالِّ على المسمَّى. وأقرب ما يضبط به أنه اللفظ الذي يصلح جوابًا مطابقًا للسؤال عن اسم الشيء، كأن يقال: ما اسم هذا الرجل؟ فيقال: زيد. أي لفظ "زيد". وما اسم الإنسان في بطن أمه؟ فيقال: جنين. وما اسم الواحد من بني آدم؟ فيقال: إنسان. وما اسم الواحد من هذه التي تلمع في السماء؟ فيقال: نجم أو كوكب. وما اسم هذا الفعل؟ فيقال: قيام. وقس على ذلك.
وتقول: كتبت اسم محمد، تريد كتبت هذا اللفظ "محمد".
واسم الله هو هذه الكلمة "الله"، وله سبحانه الأسماء الحسنى، كالرحمن والرحيم وغيرهما.
وهاهنا أقوال مشهورة، لا بأس بذكرها:
الأول: زعم ابن جرير أنَّ كلمة "اسم" هنا بمعنى التسمية، كما يطلق "عطاء" بمعنى إعطاء، و"كلام" بمعنى تكليم (^١). وهذا قول لا حجة عليه، ولا حاجة إليه.
الثاني: زعم ابن عبد السلام (^٢) أن لفظ "اسم" قد يطلق بمعنى "مسمى"
_________
(^١) "تفسير ابن جرير" (شاكر ١/ ١١٥ - ١١٨). وقد نصر قوله الأستاذ محمود شاكر.
(^٢) لم أجده في موضعه من كتابه "مجاز القرآن". نعم ذكر أمثلة للتعبير بالمصدر عن المفعول في موضع آخر، وأولها قوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ١١] أي مخلوق الله (ص ١١٦) ولم يذكر آية الإسراء.
7 / 12
كما يطلق "خَلْق" بمعنى "مخلوق"، كقول الله ﷿: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٠ - ٥١]. واحتج على ذلك بأمور سنعقد لها فصلًا، ونبين إن شاء الله تعالى أنه لا حجة فيها.
ويردُّ قولَه هذا أمور:
منها: أن كلمة "اسم" ليست بمصدر.
ومنها: أن اسم المفعول وما في معناه أكثر ما يضاف إلى الفاعل، مثل: خلق الله، بمعنى مخلوقه. وقد يضاف إلى غير ذلك، ولكن إضافة لفظ "مسمَّى" إلى الاسم الدالِّ على المسمَّى لا أراها تصح.
نعم، استعمل المولدون قولهم: "مسمَّى زيد" يريدون مسمَّى هذا الاسم. وهذا مع أني لا أُثبِتُ صحته لا يأتي في نحو "بسم الله"؛ لظهور أنه ليس المراد هنا بلفظ الجلالة نفس اللفظ، بل المراد مدلولها، وهو الربّ ﷿.
وجعل ابن عبد السلام (^١) من هذا قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] قال: "معناه: سبح ربك الأعلى". وكذلك صنع في أمثلة بحذف لفظ "مسمى" (^٢)، كأنه رأى أن الكلام يسمح بالتصريح به.
الثالث: قال البغوي في أوائل تفسيره في الكلام على البسملة: "والاسم هو المسمَّى وعينُه وذاتُه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾ [مريم: ٧] ثم نادى الاسم فقال: ﴿يَايَحْيَى﴾ [مريم: ٨]. وقال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
_________
(^١) "مجاز القرآن" ــ طبعة طرابلس (١٩٧).
(^٢) كذا في الأصل.
7 / 13
إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [يوسف: ٤٠] وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسمَّيات. وقال: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] و﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ١٨]. ثم يقال للتسمية أيضًا: اسم، فاستعماله في التسمية أكثر من المسمَّى" (^١).
[٤٣/ب] أقول: ينبغي أن يحقَّق أولًا المراد بقولهم: "الاسم عين المسمى"، هل المراد لفظ "اسم" أو مدلوله في كل كلمة دالة على مسمًّى مثل زيد ورجل ونخلة وفهم؟
فإن كان الأول، فما المراد بلفظ "مسمَّى"؟ أهذا اللفظ على نحو ما مرَّ عن ابن عبد السلام، وهذا الوجه الأول. أو ذاته صاحب الاسم، فيكون لفظ "اسم" بمعنى ذات، وهو الثاني. أو الاسم الخاص، بأن يقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو لفظ الله. وهذا الثالث. أو صاحب الاسم عينه، فيقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو الربُّ ﷿. وهذا الرابع.
أما الأول: فقد مرَّ ما فيه، ولا حجة عليه في قوله تعالى: ﴿يَايَحْيَى﴾ [مريم: ٨]؛ لأن لفظ "يحيى" ليس بمصدر، ولا بينه وبين ذات الرجل اشتقاق، كما بين لفظي "خَلْق"، و"مخلوق". وعجيب من ابن عبد السلام أنه قرَّر التجوَّز على هذا الوجه على ما مر عنه، ثم قال: "واستدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ...﴾ [مريم: ٨] ".
وأما الثاني، فلا دليل عليه، والأمثلة التي ذكرها هو وغيره سيأتي الكلام عليها، إن شاء الله تعالى.
_________
(^١) "معالم التنزيل" (١/ ١ - ٢).
7 / 14
وأما الثالث، فبطلانه واضح؛ لأنه إذا كان لفظ "اسم" بمعنى الله، فكيف أضيف إلى الله؟ إلا أن يريد أن مدلول اسم الله هو هذه الكلمة "الله"، فهذا لا نزاع فيه، وليس مراده؛ لأنه يقول في ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١]: إنَّ المعنى سَبِّحْ رَبَّكَ. ولو كان ذاك مراده، لكان المعنى: سبح اللفظ الذي هو اسم ربك، مثل لفظ "الله"، ولفظ "الرحمن"، وهو لا يقول ذلك.
وأما الرابع، فبطلانه واضح.
وإن كان الثاني، أي أن المراد بالاسم مدلوله من كل لفظ دالٍّ على مسمًّى، مثل زيد ورجل ونخلة وفهم، فهذا حقٌّ، فإن من قال: بايعت زيدًا، إنما يريد بقوله: "زيد" الرجلَ عينَه، وكذلك الباقي.
هذا هو الحقيقة، وقد يطلق الاسم ويراد به نفسه، كقولك: كتبت "زيد"، وقوله تعالى: ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾ [مريم: ٨]، وغير ذلك.
فإذا كان المعنى الثاني هو مراد من قال: الاسم عين المسمى، فمراده أن ذلك هو الحقيقة. وهذا حق لا ريب فيه، ولكنه لا دليل فيه على أن لفظ "اسم" في قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] أريد به الرب تعالى؛ لأن لفظ "اسم" هو في نفسه فرد من أفراد الاسم، فإنك تقول: ما اسم اللفظ الذي يوضع للشخص ليعرف به؟ فيقال: اسم.
ومقتضى القاعدة أن لفظ "اسم" حيث يطلق فالمراد به مدلوله إذا كان الكلام على حقيقته، ومدلول لفظ "اسم" هو اللفظ الموضوع للشيء ليعرف به، وهذا حق، فإننا نقول لزيد: كتبنا اسمك، أي كتبنا لفظ: "زيد".
7 / 15
فقضية القاعدة أن لفظ "اسم" في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] أريد به اللفظ الذي تسمى به الله ﷿، كلفظ الله، ولفظ الرحمن. وهذا عكس مراده.
وإيضاح هذا أن للفظ "اسم" مسمًّى هو لفظ يحيى مثلًا، وللفظ "يحيى" مسمًّى هو الرجل، فإذا أريد بالقاعدة أن لفظ يحيى إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به الرجل، فقضية ذلك أن لفظ "اسم" إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به لفظ "يحيى" مثلًا، فأما إطلاق لفظ "اسم" على الرجل، فلو أريد لقيل: الاسم هو المسمى بالمسمى به؛ فتدبَّرْ هذا، فإنّ فيه شبه غموض.
ومن العجب أن في كلام ابن عبد السلام (^١) ما يظهر منه أن إطلاق الاسم وإرادة مدلوله، كقوله تعالى: ﴿يَايَحْيَى﴾ وقوله: ﴿يَازَكَرِيَّا﴾، وقولك: ركبت الفرس، بل وقولنا: عبدت الله= مجاز غالب، وإنما الحقيقة هي أن يراد بالكلمة نفسها كيحيى في قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾ [مريم: ٨]، وقولك: كتبت "جعفر"، تريد كتبت هذا اللفظ؛ ونحو ذلك.
لكنه مع ذلك عاد فقال: إن إطلاق الأسماء على الألفاظ المسمى بها حقيقة. وكأن ذلك منه مبني على أصل الوهم، وهو أن وزان لفظ "اسم" إلى الرجل، كوزان لفظ "يحيى" إلى الرجل.
وبالجملة، ففي كلامه تخليط، ولكن هذا القول ــ أعني أن إطلاق الاسم مثل "يحيى" مرادًا به مدلوله مجاز ــ قد يفسر لنا أصل النزاع في
_________
(^١) الإشارة إلى الإيجاز، طبعة دار الكتب العلمية (٤٩).
7 / 16
الاسم والمسمى، فإنه اشتهر أنَّ مذهب أهل السنة أنَّ الاسم عين المسمى، ومذهب المعتزلة
والخوارج ــ كما قال الأشعري في كتاب المقالات ــ أن الاسم غير المسمى (^١).
وقد تحير المتأخرون في معنى الخلاف. قالوا: لأنه إن أريد بالاسم لفظه، فهو غير المسمى قطعًا، ولا يقول عاقل ــ فضلًا عن أهل السنة ــ إنه عينه. وإن أريد مدلوله فهو عين المسمى، ولا يخالف في ذلك المعتزلة ولا الخوارج.
أقول: لا يبعد أن يكون أول الأمر زعم بعض المبتدعة أنَّ الدلالة الحقيقية للألفاظ إنما هي على أنفسها، كما في قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾ [مريم: ٨]، وأما دلالتها على المسمى فإنما هي مجاز، وروَّج ذلك بأن دلالة الشيء على نفسه أسبق وأوضح من دلالته على غيره، فالدخان مثلًا يدل على نفسه ثم على النار، ودلالته على نفسه أسبق وأوضح. [٤٤/أ] ثم عبَّر عن ذلك بقوله: "الاسم غير المسمى" أي هو غيره في نفس الأمر، فإن لفظ "يحيى" غير ذات الرجل قطعًا، أي فينبغي أن يكون كذلك في حقيقة الدلالة.
وكأن غرض ذلك المبتدع أن يوصل بهذا القول إلى ترويج تأويلاتهم لنصوص الكتاب والسنة قائلًا: المعاني التي تحملون عليها النصوص ــ معشر أهل الحديث ــ كلها مجازات، والتي نحملها نحن عليها هي أيضًا مجازات، فلا مزية لكم علينا من هذا الوجه.
_________
(^١) حكى الأشعري في "المقالات" من جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة "أن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج" (٢٩٠) وأنهم "يقولون: أسماء الله هي الله" (٢٩٣). وانظر: "روح المعاني" (١/ ٥٢).
7 / 17
ثم يقول: لا ريب أنه لا يمكن تركيب جملة واحدة مفيدة سالمة عن المجاز، فثبت بذلك أنَّ جميع نصوص الكتاب والسنة مجاز، ووجوه المجاز
كثيرة، فقد يمكن احتمال عدة مجازات في الكلمة الواحدة، بعضها ينقض بعضًا. غاية الأمر أن مجازًا أقرب من مجاز، وهذا رجحان ظني، إنما يكفي فيما يكفي فيه الظن من فروع الأحكام. فأما ما يطلب فيه القطع ــ وهو العقائد ــ فلا، فدعوا نصوصكم، وهلموا إلى العقل.
فأجاب أهل السنة بقولهم: "الاسم عين المسمى" أي أن دلالته الحقيقية التي لا يجوز العدول عنها إلا بقرينة واضحة، هي دلالته على عين المسمى، أي والمعاني التي تحمل عليها النصوص هي حقائقها، وما يزعمه المبتدعة من قرينة العقل باطلة كما هو مبين في موضعه.
ثم كأن المبتدعة رأوا أنَّ دعواهم تلك واضحة البطلان، فحولوا العبارة إلى معنى آخر، وهو قولهم: إن المراد بالاسم هو الصفة التي يدل عليها بعض الأسماء كالعليم والقدير، فقالوا: مرادنا أن العلم والقدرة ونحوهما مما تثبتونه لربكم ﷿ هي غيره سبحانه، وأنتم تقولون: إنها قديمة، فقد أثبتم عدة قدماء غير الله تعالى. فأجابهم أهل السنة بالتفصيل المعروف.
هذا، والقول بأن الألفاظ إنما تدل حقيقة على أنفسها مختلٌّ كما مر، وقد ظهر من كلام ابن عبد السلام القول به، فلا بأس بأن نبين الحجة على بطلانه، فأقول:
قد تقرر أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وُضِعت له، والمجاز بخلافها، وقد وجدنا الألفاظ تستعمل للدلالة على معانيها، كقوله تعالى ﴿يا يَحْيَى﴾ وللدلالة على أنفسها، كقوله سبحانه ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾. فحاصل القول
7 / 18
المتقدم أن الواضع إنما وضع الألفاظ للدلالة على أنفسها، وأنها إنما استعملت للدلالة على معانيها على سبيل المجاز. فيقال لمن يلتزم ذلك القول: حاصل
قولك أن الواضع بدأ فركب الألفاظ ورتّبها، ثم استعملت في المعاني تجوُّزًا. وقد علمنا أن المجاز يعتمد العلاقة الواضحة، فأي علاقة بين المعاني وبين الألفاظ التي لا معاني لها إلا دلالتها على أنفسها.
وافرض أن أحدنا ركَّب ألف لفظ مخترع، ثم أراد أن يستعملها في المعاني تجوزًا، فأنّى ذلك، وما العلاقة؟
فإن تشبث بما يذكره المدققون في بعض الألفاظ الدالة على الأصوات، أو على ما يُفهم الصوت، من أنها مناسبة لتلك الأصوات، كما في: صرَّ، وصرصر، ودقَّ، وجرَّ؛ وفي بعض الألفاظ من مناسبة بين صفات حروفها من الشدة والهمس وغيرهما، وبين معانيها.
قيل له: إن الألفاظ التي يُدَّعى فيها ذلك قليلة جدًّا بالنسبة إلى غيرها، وتلك المناسبات تعتمد في الغالب التوهم والتخيل، وذلك مما يختلف باختلاف الناس، وأجمع الناس على أنه لا يجوز اعتماد هذه المناسبة في إثبات اللغة بدون سماع.
فإن قال: من أصلي في المعقولات أنه يستحيل الترجيح بدون مرجح، فإن لم تسلموا ذلك فناظروني فيه. وإنْ سلمتم، فمن قولكم إن الواضع إنما كان يتصور المعنى، ثم يضع له لفظًا، فيلزمكم أن تقولوا: إنه إنما رجح لفظًا على آخر لمرجِّح، فأنا أقول: إن ذلك المرجح هو العلاقة.
قلنا: إنه يمكن أحدنا أن يعمد إلى المعاني ويضع لها ألفاظًا مخترعة، فيجمع مائة لفظ لمائة معنى، أو يبدأ فيركب مائة لفظ مخترع ثم يعين لكل
7 / 19
لفظ معنى، ولعله يقضي عمله هذا في بضع دقائق، كل هذا بدون تصور مرجِّح في غالب تلك الألفاظ.
بل لو فكر بعد ذلك العمل أيامًا ليبين لكل لفظ من تلك الألفاظ مرجحًا لما أمكنه ذلك، والذي يمكنه من ذلك يغلب فيه التعسف بحيث يعلم قطعًا أنه عند التعيين لم يستحضر ذلك المرجح، وهذا أمر يمكنك أن تجربه إن شككت فيه، فماذا ترى في تفسير ذلك؟
[٤٤/ب] فإن قال: لابد من مرجح، إلا أنه في مثل هذا يكفي المرجح العارض والوهمي الذي يؤثر أثره في النفس بدون أن يثبته العقل.
قلنا: فلا علينا إن نسلم لك هذا، ثم نقول: إن هذه هي حال الواضع إذا كان من البشر في وضع الألفاظ للمعاني، ولا يمكنك أن تجعل ذلك علاقة للمجاز، لأنها غير معلومة ولا مستقرة. فلو اقتصر الواضع على تركيب الألفاظ وتعيينها، ثم قال للناس: يجوز لكم أن تستعملوها في المعاني للمناسبات، لما أمكنهم أن يعتمدوا ذاك المعنى في المناسبة لعدم العلم، وعدم استقراره، وغلبة الاختلاف فيه.
وبيان ذلك: أننا لو عيَّنَّا معنى، ثم قلنا لمائة رجل: ليضع كل منكم لهذا المعنى لفظًا مخترعًا لاختلفوا، حتى لقد يندر أن يتفق ثلاثة منهم على لفظ.
وكذلك لو اخترعنا لفظًا، ثم قلنا لهم: ليضعه كل منكم لمعنى.
فإن قال: أنا أقول إن الواضع لم يَكِلْ هذا التجوز إلى الناس، بل نص عليه، وقال: هذا اللفظ يصح أن يُتجوَّز به عن هذا المعنى، وهذا عن هذا، وهكذا.
7 / 20
قلنا: فإذا فعل الواضع هذا، فهذا وضع، لا تجوُّز.
فإن قال: لكني أسمِّيه تجوّزًا.
قلنا: سمِّه ما شئت، فقد ثبت وضع الألفاظ للمعاني، ولم يبق إلا دعواك أن الواضع بدأ فوضع الألفاظ لأنفسها، فنسألك: ما فائدة وضع الألفاظ لأنفسها، والناس لا يحتاجون إلى ذلك، وإنما احتاجوا إليه في الجملة بعد أن وضعت الألفاظ للمعاني؟ فإنه بعد أن تقرر أن لكل شجرة اسمها دعت الحاجة إلى أن يقال: ما اسم هذه الشجرة؟ فيقال: نخلة، وغير ذلك، فأما قبل أن تعرف علاقة ما بين الألفاظ والمعاني فأي حاجة بالإنسان إلى أن يقول لصاحبه: "نخلة"، ليعرف صاحبه أن لفظ "نخلة" يدل على هذا اللفظ "نخلة"؟
أولا ترانا لا نكاد نحتاج إلى ذكر الألفاظ المهملة؟ وهل تذكر أنك نطقت، أو سمعت من نطق بلفظ: "ضصقح"؟
ولهذا لما احتاج علماء اللغة إلى ذكر الألفاظ المهملة استعانوا بالمستعملة، فمثلّوها بقولهم: "ديز" مقلوب "زيد".
ثم أي حاجة بالألفاظ في دلالتها على نفسها إلى الوضع؟ فإن المقصود من الوضع إنما هو أن يعرف العلاقة بين الشيئين، حتى إذا أريد إحضار أحدهما في ذهن المخاطب توصل إلى ذلك بإحضار الآخر. وهذا إنما هو في وضع الألفاظ للمعاني، مثاله: أن الإنسان قد يحتاج إلى أن يخاطب صاحبه بشيء يتعلق بهذا الطائر الأسود، ولا يستطيع في كل وقت إحضار الطائر نفسه والإشارة إليه، فوضع له لفظ "غراب"، حتى إذا عرف ذلك كفاك أن تقول: "غراب" فيحضر ذاك الطائر في ذهن صاحبك.
7 / 21
فأما اللفظ نفسه، فإنه يكفيك أن تنطق به، فيحضر في ذهن صاحبك. وها
نحن نحضر الألفاظ المهملة بذلك كما نقول: "ضصقح لفظ مهمل".
فإن قال: إنما أريد بوضع الألفاظ لأنفسها أولًا أن الواضع بدأ فانتقى الألفاظ، وركَّبها، وجمعها.
قلنا: فهذا ليس بوضع (^١)، فكيف يقتضي أن دلالتها على أنفسها هي الحقيقة؟ ثم ما الحاجة إلى أن يبدأ الواضع بجمع الألفاظ وهي عرضة له، يمكنه أن يكتفي بعمل واحد، هو أن يتصور المعنى، ثم يقتطع له لفظًا، وهكذا.
فإن قال: دعوا هذا، ولكني أقول: إن دلالة الألفاظ على أنفسها طبيعية، بمعنى أن الإنسان إذا نطق باللفظ حضر ذاك اللفظ في ذهن صاحبه بدون حاجة إلى شيء آخر. وهذه الدلالة مقدمة على الدلالة الوضعية، فأنا أسمي الدلالة الطبيعية حقيقة، والوضعية مجازًا.
قلنا: هذا خلاف ما عليه الناس في تعريف الحقيقة والمجاز. ثم قد بينَّا أن حاجة الناس إلى الألفاظ إنما هي من جهة دلالتها على المعاني، وأنه إنما احتيج إليها للدلالة على أنفسها للاستعانة بذلك على معرفة الدلالة على المعاني، كما في قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾. وإذا كان الأمر كذلك علم أن المعتمد في فهم كلام الناس وفهم دلالات الألفاظ إنما هو دلالتها على المعاني.
ومثال ذلك: المرايا، فإن المرآة تدل على نفسها، بمعنى أن الإنسان إذا
_________
(^١) في الأصل: "يوضع".
7 / 22
رآها علم أنها مرآة، ولكن هل تجد أحدًا يشتري مرآة لتكون عنده فقط، أو إنما يشتري الناس المرايا ليروا فيها صورهم؟
وإنما نزاعنا معك في فهم الألفاظ في كلام الناس، وقد عُلِم مما مرَّ أن الأصل في ذلك هو أن يفهم منها معانيها، فلا يضرُّها بعد ذلك أن تسميها مجازًا.
[٤٥/أ] واعلم أن المحققين من علماء الوضع اتفقوا على أن الواضع إنما قصد وضع الألفاظ للمعاني، ولكنهم اختلفوا في دلالة الألفاظ على أنفسها حيث وقعت في الكلام، كقول النحاة: "قام" فعل ماض، و"من" حرف جر، وأشباه ذلك، فقال السعد التفتازاني وجماعة: إنها دلالة وضعية وضعًا تبعيًّا. وأنكر السيد الشريف الجرجاني وجماعة ذلك، وقالوا: لا يدل صحة استعمالها في الكلام على الوضع لأنه يصح استعمال المهمل، كأن يقال: "ديز" مقلوب "زيد"، وأشباه ذلك.
والذي أراه أن الخلاف صوري، والتحقيق مع السعد، وذلك أن الواضع لما وضع الألفاظ للمعاني دعت الحاجة إلى استعمالها في الدلالة على أنفسها، فأقرَّها الواضع، ونطق بها العرب كذلك حيث احتاجوا إليها، فكان هذا وضعًا تبعيًّا.
أَوَلا ترى أن الإنسان إذا نطق باللفظ المستعمل كان متكلّمًا بالعربية، سواء أراد به معناه أم لفظه، كقول القائل: طلع القمر، وقوله: كتبت "قمر"؛ وأنه إذا نطق باللفظ الأعجمي كان خارجًا عن العربية، كقولك: طلعتْ "جانْدْ" (^١) (اسم للقمر بالفارسية)، وكتبت "جاند"؟
_________
(^١) كلمة "جانْدْ" بالجيم الفارسية وإخفاء النون: كلمة هندية تستعمل باللغة الأردية. أما اللغة الفارسية فيقال للقمر فيها: "ماه". ولا أدري لماذا أنَّث الفعل "طلعتْ"، فإن الاسم المذكور مذكر.
7 / 23