ـ[تفسير الشيخ أحمد حطيبة]ـ
المؤلف: أحمد حطيبة
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
http://www.islamweb.net
[الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - ٥١٠ درسا]
نامعلوم صفحہ
تفسير سورة الأنبياء [١ - ٦]
سورة الأنبياء سورة مكية سرد الله فيها قصص كثير من الأنبياء تسلية لنبيه ﷺ، وقد ذكر الله في أول هذه السورة يوم القيامة محذرًا الناس من أن تبغتهم الساعة وهم في غفلتهم يعمهون، كما وصف حال كفار مكة وتعنتهم وإعراضهم عن البراهين الناصعة التي أتاهم بها النبي ﷺ.
1 / 1
مقدمة في تفسير سورة الأنبياء وذكر فضائلها
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله ﷿ في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء:١ - ٦].
سورة الأنبياء هي السورة الحادية والعشرون من كتاب الله ﵎، وهي من السور المكية التي نزلت قديمًا في مكة، ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله ﵎ عنه يقول: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي.
فـ ابن مسعود من المهاجرين مع النبي ﷺ وكان معه في مكة، فيذكر أن هذه السور من حفظه القديم لما كان في مكة.
وطالما أنها مكية فإن فيها خصائص السور المكية، من الاهتمام بأمر ترسيخ العقيدة ونفي الشرك بالله ﵎.
وبما أن اسمها سورة الأنبياء فسيكون فيها ذكر عدد من أنبياء الله ﷾، فقد ذكر فيها ستة عشر نبيًا من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، بالإضافة إلى ذكر مريم ﵍، فقد ذكر في هذه السورة موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون ويونس وزكريا ويحيى، ومريم عليهم الصلاة والسلام.
وهؤلاء الأنبياء ذكروا أيضًا في سورة الطور، فقد ذكر فيها موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون ويونس وزكريا ويحيى ومريم عليهم الصلاة والسلام.
كما أنهم ذكروا في سورة الأنعام وزيد عليهم إلياس واليسع، ولم يذكر ذو الكفل في الأنعام.
وذكر الله ﷿ هؤلاء الأنبياء للنبي صلوات الله وسلامه عليه ليبين له أنه ليس بدعًا من الرسل ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:٩]، فكلهم أرسلوا إلى أقوامهم، وكلهم ابتلاهم الله ﷿ ودافعوا عن دين الله، وكلهم دعوا قومهم إلى الله وكانت مواجهة قومهم لهم بالإعراض والتكذيب فنصر الله ﷿ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين على القوم الكافرين.
وقد ذكر الأنبياء للنبي ﷺ هنا حتى يطمئن قلبه ويزداد رسوخًا ويعلم أنه ليس أول من أوذي صلوات الله وسلامه عليه، فيتسلى بذكر الأنبياء، ولذلك جاء عن النبي ﷺ أنه كان يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) صلوات الله وسلامه عليه.
وحين ذكر يوسف على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام يقول: (رحم الله أخي يوسف! لو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الداعي لأجبته إذ جاءه الرسول فقال: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن).
فالنبي ﷺ يترحم على سيدنا يوسف ويذكر صبره حين كان في السجن، وحين جاءه داعي الملك ليخرجه من السجن، فقال له: ارجع إلى ربك، فيقول النبي ﷺ متواضعًا: إنه لو كان هو لبادر بالإجابة.
وقد ذكر الله لنبيه ﷺ سائر الأنبياء في سورة الأنعام فقال: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام:٨٣ - ٨٧].
وبعد أن ذكر له هؤلاء مجتمعين قال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام:٩٠]، أي: اقتد بهؤلاء.
وفي سورة الأنعام ذكر الله ﷿ نعمه على عبيده بالأنعام، والسورة أيضًا كسائر السورة المكية فيها ترسيخ أمر العقيدة وأمر الإيمان بالله سبحانه وتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، والأمر بالبعد عن الشرك بالله، وعن تشريع ما لم ينزل الله ﷿ به من سلطان، والبعد عن عبادة غير الله والذبح لغير الله سبحانه، على ما ذكر سبحانه في هذه السور.
1 / 2
تفسير قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)
قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:١].
بدأ الله هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:١]، وفيه التذكير باليوم الآخر كعادة السور المكية، فذكر اليوم الآخر حتى يستعد الإنسان للحساب.
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء:١]، اقتربت القيامة، كما ذكرهم بالآخرة في مواضع من القرآن كقوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر:١]، وقوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل:١]، وقوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:٩٩]، وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل:٣٣]، وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾ [الزخرف:٦٦].
فذكر هنا أنهم ينتظرون الساعة، وطالما أن ربنا أخبر أن الساعة آتية فلا شك أنها آتية، ومهما طال عمر الإنسان فهو لا شيء إذا ما قيس بأيام يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج:٤٧].
فالإنسان إذا عاش خمسين سنة يكون واحد على عشرين من يوم عند الله ﷾، وعلى ذلك فعمر الدنيا محدود وقليل وضئيل ويسير، فلما قال الله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) معناه: أن أمر الله قريب جدًا وإن لم تأت الساعة الكبرى فستأتي ساعتنا نحن.
قال تعالى: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:١] لأن أكثر الناس على هذه الغفلة.
وقال: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ» كعادة السور المكية في ذكر الناس، أما في السور المدنية فإنه يذكر الذين آمنوا، وذكر الناس في السور المكية بسبب أن أكثر الناس في هذا الوقت كفار، والله ﷾ يخاطب الجميع، أما السور المدنية لما كان فيها ذكر التشريعات، وأن هذه التشريعات لن يقوم بها إلا المؤمنون فكان يخاطب الذين آمنوا، فالمؤمن هو الذي سيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
أما في المرحلة المكية فكان النبي ﷺ يدعو كفرة، وكان المؤمنون في ذلك الوقت عددهم قليل، حتى أسلم سيدنا عمر ﵁ سنة ست من بعثة النبي ﷺ أو نحوها، فكان عدد المؤمنين ما بين أربعين إلى خمسة وأربعين من الرجال وعشر من النساء، فالخطاب لن ينزل لهؤلاء الأربعين أو الخمسين، ولكنه خطاب لجميع من يدعوهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالمعنى: اقترب لجميع الناس -مؤمنهم وكافرهم- الحساب، والغالب على حال الناس الغفلة والإعراض عن ذكر الله والإعراض عن اليوم الآخر، وكثير من الناس إذا جئت تذكره بالموت، يقول: لا تذكرني بالموت فأنا أخاف من الموت، والخوف من الموت ليس كلمة يقولها الإنسان، بل حقيقة الخوف من الموت أن يعمل الإنسان ويستعد لليوم الذي يموت فيه، والذي يجيب فيه عن أسئلة الملكين في قبره.
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:١] كان الصحابة يخافون من أن يغفلوا عن ذكر الله ﷾، وخاصة في الأوقات الفاضلة التي يستحب فيها ذكر الله ﷿ كذكر الله بعد الفجر، وبعد العصر -يعني: طرفي النهار- والقيام في السحر، فكانوا يحبون أن يذكروا الله ﷿ في جميع أوقاتهم وخاصة في مثل هذه الأوقات.
روى الإمام مسلم عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله بن مسعود ﵁ يومًا بعدما صلينا الغداة، -يعني: الفجر- قال: فسلمنا بالباب فأذن لنا، قال: فمكثنا بالباب هنيهة فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا، فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ قالوا: لا إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم، فقال ابن مسعود ﵁: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة، -يقصد نفسه- ثم أقبل يسبح.
والمعنى: أن أهل بيته لم يكونوا نائمين في هذا الوقت وهو وقت الفجر؛ لأن ابن مسعود يوقظ زوجته وعياله ليصلوا الفجر ويذكروا الله ﷿ في هذا الوقت، سواء جلس هو في المسجد أو ذهب إلى بيته يذكر الله ﵎.
ثم أقبل يسبح، يعني: مع أن الضيوف جاءوه إلا أنه اشتغل بالتسبيح، حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ قالت: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت، قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا.
يعني: أعطانا هذا اليوم نذكره فيه، والإقالة هنا بمعنى: أن ربنا ﷾ تكرم علينا وترك لنا هذا اليوم نعيش فيه، ونأخذ بذكره أجرًا وثوابًا.
قال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا ولم يهلكنا بذنوبنا.
كأنه يقصد أن كل إنسان يستحق أن يحاسبه الله ويعذبه على ذنوبه التي يفعلها، ولكن الله سبحانه يتكرم على عباده ويرجئهم ويعطيهم الفرصة ليتوبوا إليه فيتوب عليهم ﷾، ويذكرونه فيذكرهم ويشكرهم سبحانه.
قال: فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة.
يعني: ما بعد وقت طلوع الشمس إلى أن يصلي ابن مسعود صلاة الضحى بدأ يكلم الضيوف، فأخبره رجل منهم أنه قرأ المفصل البارحة، يعني: في قيام الليل.
والمفصل من أول قاف إلى آخر القرآن، أو من أول الحجرات إلى آخر القرآن، وهذا يعني أنه يقرأ أربعة أجزاء، وهذا شيء طيب.
فلما قال ذلك قال له ابن مسعود: أهذًّا كهذ الشعر؟ إني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله ﷺ ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم.
الشاهد: أن ابن مسعود كان في هذا الوقت يذكر الله ﵎، وأهل بيته أيضًا يذكرون الله ﷾ في هذا الوقت، وقال لضيوفه: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة.
فكانوا يخافون من الغفلة وإن كان أغلب الناس في غفلة، كما ذكر الله ﵎ ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:١]، أي: معرضون عن ذكر الله ﵎.
1 / 3
تفسير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)
1 / 4
إعراض المشركين عن القرآن حسدًا
ثم قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء:٢ - ٣].
سمى الله القرآن النازل من عنده ذكرًا؛ لأنه تذكرة للخلق، وكذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه وصفه الله ﷿ بأنه ذكر، لأنه يذكر الناس كما ذكر في سورة التغابن.
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء:٢] يعني هذا القرآن محدث في إنزاله، والقرآن كلام رب العالمين سبحانه ليس مخلوقًا، فهنا الذي حدث هو نزول القرآن من السماء إلى الأرض، وكل القرآن نزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة كما جاء في الأثر عن ابن عباس: أن الله ﷿ أنزل القرآن ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ونزل على النبي ﷺ بعد ذلك على حسب الحوادث.
فهنا الإحداث في القرآن معناه: أن مجيء القرآن من عند رب العالمين بحسب الحوادث التي تجد، ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنبياء:٢] يعني: كلما جاءتهم آية من الآيات من الله ﷿ استمعوا لهذه السور وهم يلعبون، واللعب هنا بمعنى اللهو، فهم يتلهون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ويعرضون عنه.
فحالهم ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنبياء:٣] وأصلها: قلوبهم لاهية، يعني: قلوب هؤلاء القوم في لهو وفي انشغال عن الله ﷿ وعن متابعة النبي ﷺ بما فيها من وساوس وبما فيها من هم الدنيا وبما فيها من إعراض وشرك بالله رب العالمين سبحانه.
﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنبياء:٣] الذي أسروا النجوى هم الذين ظلموا، يعني: الكفار.
(وأسروا): كتموا فيما بينهم.
(النجوى): يتناجون فيما بينهم ويكلم أحدهم الآخر سرًا: هذا ساحر هذا كذاب هذا كاهن أتانا بما يفرق بين المرء وزوجة والمرء وأبيه، فيكذبون على النبي ﷺ ويسرون النجوى بظلمهم.
فهم أسروا النجوى قائلين: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء:٣]؟ يعني: ما هذا إلا بشر مثلكم، فكيف ينزل عليه القرآن ولا ينزل علينا، وهو مثل قولهم: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف:٣١] يعني: بدل أن ينزل عليه كان سينزل على أحد من كبار القوم كـ الوليد بن المغيرة في مكة أو عروة بن مسعود في الطائف.
فكأنهم استكثروا على النبي ﷺ أن ينزل عليه ربه هذا القرآن غيرة وحسدًا، والإنسان عندما يرى أن غيره أحسن منه يغار منه ويحسده، وديننا ينهانا عن ذلك، وربنا ﵎ يذكر النبي ﷺ أن هذه نعمة أنعم بها عليه، فقال له: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:٣٣]، يطمئنه ربه سبحانه أنهم لا يكذبونه بل هم يعرفون أنه الصادق الأمين ﷺ؛ لكنهم يجحدون بهذه الآيات، فأنت تحكم على ظاهر ما يقولون إذ يقولون: كذاب، لكن الله ﷿ مطلع على ما في القلوب، فهم مصدقون بقلوبهم لكن ألسنتهم جاحدة: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:٣٣].
فأسر هؤلاء النجوى فيما بينهم حسدًا للنبي ﷺ على ما أتاه الله ﷿ من فضله، لأن كلًا منهم كان يتمنى أن يكون هو النبي، والعرب كانت عادتهم أن يغار بعضهم من بعض، وربنا ﷾ يقول: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء:٥٤] وكأن هذا اعتراض على الله سبحانه أن نؤتيه من فضله ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٥٤] يعني: ليست هذه أول مرة ينزل الله فيها كتابه ولا أول مرة يؤتي إنسانًا الحكمة من لدنه، ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٥٤].
وهنا الكفرة والظلمة يقولون عن النبي ﷺ: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ [الأنبياء:٣] يعني: كأنهم يريدون أن يرسل إليهم ملك من الملائكة، ولو جاءهم ملك لما أطاقوا ذلك، فالنبي ﷺ لما رأى جبريل بين السماء والأرض على هيئته الحقيقة فزع صلوات الله وسلامه عليه وهرب إلى بيته وقال لزوجته: (زملوني زملوني دثروني دثروني).
وجبريل ما رآه النبي ﷺ على حقيقته إلا مرتين، أما سوى ذلك فكان يراه على هيئة رجل من أصحابه اسمه دحية الكلبي، فكان يأتيه في منظره وجماله وهيئته.
ومن حكمة الله أنه ما أنزل القرآن مع ملك، وإلا لكان الإيمان جبرًا وقهرًا وقسرًا، ولكان قال قائلهم معترضًا: كيف نطيق ما يطيق الملائكة، فجبريل هذا أخذ قرى المؤتفكات ورفعها كلها إلى السماء وقلبها وأتبعها حجارة من السماء، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام:٨ - ٩].
يعني: لو جعلناه ملكًا في صورته الحقيقية لكان الإيمان جبريًا، بينما الله ﷿ يريد الإيمان الاختياري من أجل أن يحصل التكليف، ومن ثم الحساب على هذا الاختيار يوم القيامة، وإن كان علمه وقضاؤه وقدره غالبًا وسابقًا أن منهم كافرًا ومنهم مؤمنًا، لكن شاء أن يجعل لك اختيارًا وكسبًا ليحاسبك على هذا الذي كسبته يوم القيامة، وأنت تستشعر كمال هذا الاختيار فتختار الحق أو الباطل.
المقصود أن الله ﷿ لو أنزل ملكًا فإما أن ينزل الملك في صورته، وهم كانوا يخافون من العفاريت ومن الجن، حتى إنهم إذا مروا بصحراء في سفرهم قال الواحد منهم: أعوذ برب هذا الوادي، فكيف لو نزل ملك من السماء؟ لو نزل ملك لقضي الأمر ولكانوا آمنوا قهرًا، وهذا لا يريده الله ﷾.
أما الاحتمال الثاني فهو: أن ينزل الملك على هيئة البشر ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام:٩]، فإذا نزل على صورة إنسان لرجعوا إلى الاعتراض الأول، وهو أن الرسول بشر.
1 / 5
إعراض المشركين عن الحق بدافع المكابرة
قال: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء:٣]: (الذين ظلموا) على الوصل فيها كأنها بدل من الواو في (أسروا) أي: من الذين أسروا الذين ظلموا، والفعل مضمر تقديره: يقولون، أي: الذين ظلموا يقولون: هل هذا إلا بشر مثلكم.
وهي كقول الله ﷿: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ [الرعد:٢٣ - ٢٤] هنا الفعل مضمر تقديره: يقولون: سلام عليكم بما صبرتم.
فيجوز أن تقرأ على الوصل كما بينا، أو على الوقف: ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ [الأنبياء:٣] ونقف ثم نقرأ: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء:٣].
ويجوز أن نقرأ: ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء:٣] فنصل جميع الآية وهو الأفضل.
قال: ﴿أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء:٣] هذا من قول الكفار، فيقول بعضهم لبعض: ما دمنا قلنا على هذا القرآن: إنه سحر، فكيف تصدقون بالسحر وأنتم تبصرون؟ يعني: وأنتم تعقلون وتعرفون أنه سحر، وهذا من التلبيس؛ لأن القائل يعلم أنه ليس سحرًا وليس كذبًا، ولكنهم يخادعون بعضهم، وقد عرفنا كيف كان الوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهم من كبار المشركين يذهبون ليتسمعوا النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن عند الكعبة، وعند رجوعهم يجمعهم الطريق فيتعاهدون على ألا يستمعوا إليه، ثم إذا بهم يرجعون من الليلة التالية وهكذا.
ومن جمال هذا القرآن وحلاوته يقول عنه الوليد بن المغيرة: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وهو الذي قال فيه ربنا ﷾: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ [المدثر:١١ - ١٦] يعني: كان يعرف أن هذا هو الحق، ويعترف أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، ومع ذلك يعاند النبي ﷺ ويمنع الناس من الإيمان به.
وقد حصل مثل هذا من نساء المشركين حيث كن يذهبن إلى أبي بكر الصديق ويستمعن إليه وهو يصلي ويقرأ القرآن، حتى هم المشركون أن يطردوا أبا بكر الصديق ﵁ من البلد.
المقصود: أن القرآن له جمال وله حلاوة عظيمة عرفها المشركون وعرفها المؤمنون، فالمشركون عاندوا وجحدوا كلام رب العالمين سبحانه، فقالوا: إنه كذب وسحر من كلام البشر، وهم يعلمون أن الحق خلاف ذلك.
1 / 6
تفسير قوله تعالى: (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض)
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنبياء:٤].
يعني: أنتم تناجيتم فيما بينكم فأطلعني ربي على ما تقولون وفضحكم بذلك.
(قال ربي)، وهذه قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب.
ويقرؤها شعبة عن عاصم: (قل ربي يعلم)، وهذه أيضًا قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة والكسائي وخلف.
ومعنى هذا أن الله قال للنبي ﷺ قل لهم: إن ربي قد فضحكم، فهو يعلم ما تسرون من أقوالكم، فقال ﷺ: ربي يعلم القول في السماء والأرض، فما من قول في السماء أو في الأرض إلا وقد علمه الله سبحانه، ولا يخفى عليه شيء يسمع القريب والبعيد يسمع الخفي وما هو جلي يسمع حديث الإنسان مع غيره، بل ويعلم ما لا يقوله الإنسان وإنما يكنه في قلبه.
قال سبحانه: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنبياء:٤] العليم بأمور هؤلاء وبأحوالهم ﵎.
1 / 7
تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام)
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء:٥].
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ﴾ [الأنبياء:٥] وأضغاث الأحلام معناها: الأحلام التي ليس لها تأويل، فالحلم إما أن يكون رؤيا حقيقة أو أضغاث أحلام.
والرؤيا ينزل بها ملك من الملائكة على الإنسان النائم، أما الضغث من الأحلام فهو الشيء الذي ليس له معنى ولا تفسير.
﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ﴾ [الأنبياء:٥] يعني: هذا الكلام الذي يقوله لكم هراء وليس له معنى كأضغاث الأحلام.
وهم يعرفون كذبهم في ذلك.
قال تعالى: (بل افتراه)، هنا يظهر تخبط المشركين، فهم أولًا قالوا: كلام محمد هو أضغاث أحلام، ثم رجعوا وقالوا: إنما هو قول افتراه، وهو شعر نظمه من عند نفسه، رغم أنهم أعرف الناس بأشعار العرب وأوزان الشعر، ويعرفون أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل.
قال تعالى: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء:٥] يعني: إذا أرادنا أن نؤمن له بآية مثل عصا موسى أو يد موسى أو ناقة ثمود.
1 / 8
تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)
قال ﵎: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء:٦] يعني: الأمم السابقة لما جاءتهم الآيات لم يؤمنوا فأهلكهم الله ﷿ بتكذيبهم، فهل هؤلاء سيؤمنون؟ وقد ذهب إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه مجموعة من الكفار منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وأبو البختري والوليد بن المغيرة، فطلبوا منه آيات ذكرها الله في قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه﴾ [الإسراء:٩٠ - ٩٣] يعني: لو ارتقيت فلن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب مختوم من عند ربنا أنك نبي من عند رب العالمين.
فلم يجبهم النبي ﷺ وأخبرهم أنه إنما بعث من عند الله بهذه الرسالة، وأنه قد أبلغهم ما أرسل به إليهم؛ فإن قبلوه فهو حظهم في الدنيا والآخرة، وإن ردوه عليه صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم.
وقد روي أن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وهو ابن عمة النبي ﷺ عاتكة بنت عبد المطلب، كان من أشد الناس عليه مع عمه أبي لهب، وكان معهم فلما قام النبي ﷺ عنهم قال له: (يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم)، يعني: طلبوا منك أن تأتيهم بآية من الآيات التي ذكروها فلم تجبهم، وكانوا قد طلبوا منه أن يدعو الله أن يوسع لهم الأرض بأن يزيل ما حول مكة من الجبال، وهذه كلها مطالب حقيرة تدل على قلة عقولهم، رغم أنهم يعرفون الحق الذي جاء من عند رب العالمين بشهادة ربهم عليهم: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:٣٣].
فهذا الرجل مثلهم في جهلهم فيقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه: (سألوك لأنفسهم أمورًا فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك، فلم تفعل)، يعني: ألم يطلبوا منك أن تسأل ربك أن يجعل لك بيتًا من زخرف، فأبيت، ثم سألوك أن تعجل لهم العذاب -وهذا من جهلهم وحماقتهم- فلم تفعل ذلك.
ثم قال له: (أما أنا فلن أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك رسول من عند رب العالمين).
ثم قال بعد ذلك: وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك! لذلك قال الله عن هؤلاء: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء:٦].
فلو أتاهم بهذه الآيات فوسع لهم الأرض -مثلًا- لقالوا: إنما هذا من سحره، وقد طلبوا منه في ليلة من الليالي أن يشق لهم القمر، فدعا ربه صلوات الله وسلامه عليه ذلك، ثم أشار بيده إلى القمر فانشق القمر نصفين، فكان نصفه قدام الجبل ونصفه الآخر وراء الجبل.
فلما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا من السحر، ثم قاموا يترقبون الواصلين إلى مكة من البوادي ليسألوهم عن رؤيتهم لانشقاق القمر، فكلما سألوا أحدًا أكد لهم رؤية انشقاق القمر، ومع ذلك لم يؤمنوا.
ولو كانت هذه الآية لجميع الناس لأهلكم الله سبحانه، لقوله تعالى لنبي إسرائيل لما أنزل عليهم مائدة من السماء: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة:١١٥]، وكما أهلك الله ثمود لما جاءتهم الناقة فقتلوها.
فكان من رحمة ربنا سبحانه أن هذه الآية كانت للبعض من الناس وليست آية عامة وإلا لأهلك الجميع.
وأثبت ربنا ﷾ هذه الآية في كتابه فقال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر:١]، ولعلكم سمعتم حديث الدكتور زغلول النجار في هذه المسألة، حيث قال: إنه كان يلقي محاضرة في أمريكا وأثناء ذلك قام رجل أمريكي مسلم وقال: إن قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر:١] هي سبب إسلامي، فقد تعرفت قبل فترة على مجموعة من المسلمين فأحببت أن أتعرف على الإسلام، فأهدى إلي أحد ترجمة للمصحف، فأخذت الترجمة وأول ما فتحتها ظهرت أمامي هذه السورة: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر:١]، فتوقفت عن القراءة ولم أتقبل هذا الكلام، وبعد زمن كنت أشاهد برنامجًا تلفزيونيًا فيه مقابلة مع أحد رواد الفضاء وإذا بالمذيع ينكر عليه صرف ألف مليون دولار من قبل الحكومة على مشروع من أجل وضع العلم الأمريكي فوق القمر.
فقال رائد الفضاء: إننا صعدنا إلى القمر لأهداف علمية، ويكفينا أننا أتينا للناس بمعلومة لم يكونوا ليعرفوها ولو صرفوا أكثر من هذا المبلغ لولا الصعود إلى سطح القمر، وهذه المعلومة هي أننا وجدنا شقًا طوليًا يطوق القمر كالسوار فأخذنا عينات من الشق والتقطنا الصور ثم بعثنا بها إلى علماء الجيولوجيا في الأرض، فقالوا: هذا دليل على حصول انفلاق للقمر في يوم من الأيام، ثم عاد والتحم ثانية.
قال الرجل: فلما سمعت هذا الكلام عرفت أن هذا هو الحق ورجعت للقرآن مرة ثانية فأسلمت.
وهذه القصة حكاها الدكتور زغلول النجار أكرمه الله في معرض كلامه عن هذه الآية.
فالأمريكيون صرفوا ألف مليون دولار من أجل أن يثبتوا آية أثبتها الله في كتابه وجعلها معجزة للنبي ﷺ، وصدق الله العظيم القائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت:٥٣].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 9
تفسير سورة الأنبياء [٧ - ١٥]
يبين الله تعالى في كتابه عناد الكافرين لرسول الله ﷺ، حيث ردوا دعوته بالتهم الباطلة، والأكاذيب والأراجيف، فهلا سألوا أهل العلم والمعرفة بالكتب السماوية ليعرفوهم حقيقة هذا النبي؟ ولكنهم لا يسألون إلا أهل الجهل والظلم، فضلوا بسببهم، فأصابهم ما أصاب الأمم من هلاك ودمار، وقصمهم الله ﷿ جزاء صنيعهم.
2 / 1
إهلاك القرى التي تكذب المرسلين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله ﷿ في سورة الأنبياء ﵈: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنبياء:٤ - ٩].
يخبرنا الله ﷾ في هذه الآيات وما قبلها عن تعنت المشركين مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكيف أنهم أنكروا أن يرسل الله ﷿ بشرًا رسولًا، فربنا ﵎ يرد على هؤلاء: لو جعلنا هذا الرسول الذي تريدونه ملكًا لقضي الأمر، فلو كان ملكًا كما تريدون لقضي الأمر ولم تنظروا بعد ذلك، قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام:٩].
فكون الرسول يكون بشرًا فهذا مقتضى حكمة الله ﷾، لو لم يكن الرسول بشرًا وكان ملكًا من الملائكة كما يريدون هم، فإذًا الملك سيبلغ الرسالة وهم من خوفهم من الملك سيستجيبون مباشرة لكلامه، وهذا غير ما أراده الله ﷾، فإنه أراد أن يكتسبوا أمر الإيمان ويستشعر أحدهم أنه مؤمن مكلف، وأن الله ﷿ جعل له الاختيار هل يأخذ هذا الدين فيثاب عليه أم يتولى فيعاقب عليه يوم القيامة، ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور:٢١]، أي: مرتهن بكسبه في اختياره لهذه الدنيا، فالله سبحانه ﵎ خلقهم، وجعل منهم مؤمنًا، وجعل منهم كافرًا، والله عليم حكيم سبحانه بمن يستحق أن يكون مؤمنًا ومن يستحق أن يكون كافرًا.
المشركون أسروا فيما بينهم هذا الكلام، فقالوا: إن هذا كاهن، وشاعر، ويتكلم بأضغاث أحلام ليس له معنى، وكذبوا في هذا الذي يقولونه على النبي صلوات الله وسلامه عليه وقد عرفوا ذلك.
ولذلك كان الكفار عندما يجلسون يتشاورون: ماذا نقول لهذه القبائل عندما تأتي؟ فيقول بعضهم لبعض: قولوا شاعر، فيرد الآخر ويقول لهم: لقد درسنا الشعر وقلناه وسمعناه فما هو بكلام الشعراء، قالوا: إذًا نقول عنه: كاهن، فهم كانوا يقترحون أشياء ويعتقدون أن ما يقولونه كذب، فهم كذابون فيما يقولون، فلذلك ربنا ﷾ قال عن هؤلاء: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء:٥].
قال تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء:٦].
يعني: هم قالوا هذا الكلام وهم يعرفون أنه كذب، فعندما يطلبون الآيات مع كذبهم وتخرصهم على النبي ﷺ فأي آية يطلبون؟ وهل هناك أعظم من هذا القرآن الذي أعجبهم وعرفوا أنه حق من عند الله، ومنعهم الحسد من أن يؤمنوا بالنبي ﷺ؟
2 / 2
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم)
2 / 3
محمد رسول الله ليس بدعًا من الرسل
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء:٧].
أوحى الله ﷿ إلى الأنبياء قبل النبي ﷺ كما أوحى إليه، فليس هو بدعًا من الرسل، ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ﴾ [الأحقاف:٩]، فالله ﷿ أرسل محمدًا ﷺ كما أرسل الرسل من قبله، وأوحى إليه، فنزل عليه جبريل بالوحي من السماء كما أنزل الله ﷿ على الرسل السابقين الوحي من السماء.
أتباع الرسل السابقين منهم من آمنوا فانتفعوا بإيمانهم، ومنهم من كفروا فأصابهم العذاب، فهؤلاء الكفار ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف:٥٣] أي: مجيء هذا العذاب الذي وعدهم الله ﷿ به، وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم، وذكر لنا ﷾ هذا المعنى، وتكرر في مواطن القرآن، في أربعة مواطن من القرآن.
قوله: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء:٧] فيها القراءتان: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء:٧]، و﴿يوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء:٧].
فالوحي من الله سبحانه ﵎ إلى أنبيائه ورسله، ما أرسل قبلكم رسولًا إلا يوحي إليه، فالأنبياء لا ينطقون عن الهوى، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤] أي: وحي من الله سبحانه ﵎ يوحيه إلى النبي ﷺ فينطق بالقرآن والسنة، فكله من عند الله رب العالمين سبحانه، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٤٣].
قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كذلك فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر)، وقراءة ابن كثير والكسائي وخلف: (فَسلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وهذه فيها معان كلها محتملة، فكأنه يريد أن يقول: يا أيها الكفار! اسألوا أهل الذكر، أي: أهل الكتب المنزلة سابقًا، وقد كان الكفار يسألون اليهود: هل هذا الرجل على حق أم لا؟ فأكثر اليهود كذابون، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء:٥١]، ولكن أهل العلم من اليهود الذين يعرفون النبي ﷺ بصفاته كـ عبد الله بن سلام وغيره، عرفوا النبي ﷺ وعرفوا الحق، فكأن القرآن يقول لهم: اسألوا هؤلاء السابقين عن هذا الذي جاءكم في القرآن هل هو حق أم باطل؟ اسألوا من يقرأ التوراة والإنجيل، فهم أعلم بالأنبياء السابقين منكم، فتعرفون صدق ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: إنه أراد بأهل الذكر أهل القرآن، فيكون المعنى: اسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن.
إذًا: هذا اللفظ عام، فإذا جهلت شيئًا في هذا القرآن أو في دينك فاسأل أهل الذكر والعلم، والآيات التي في يوسف والنحل وفي سورة الأنبياء فإنها تدل على هذا المعنى.
وهنا حادثة وقعت في زمن النبي ﷺ، لما أفتى بعض الصحابة رجلًا أصابته شجة في رأسه أن يغتسل فمات منها بسبب الماء، فقال النبي ﷺ: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا إنما شفاء العي السؤال) وهنا يقول لنا: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٤٣] فالإنسان الجاهل شفاؤه السؤال، فيسأل ويتعلم ويعرف ولا يفتي نفسه، ولا يستفتي جاهلًا فيضيعه كما فعل الناس بهذا الرجل المشجوج.
2 / 4
سؤال أهل الذكر والحذر من اتباع الجهلة
قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا﴾ [الأنبياء:٧] يعني: أشخاصًا من البشر، وليسوا ملائكة، ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:٧].
يقول الإمام القرطبي: لم يختلف العلماء في أن العامة عليهم تقليد علمائهم، والمعنى: أن الإنسان العامي إذا جهل شيئًا من أمر الدين يسأل عالمًا من العلماء، لكن لا يذهب ليبحث عن العلماء ويقعد ليرجح بينهم، وإنما يسأل من يطمئن إلى علمه ثم يعمل به ويلزمه تقليده في ذلك إذا سأله، فلا يرجح بين أقوال العلماء، فهو ليس عنده مقدرة على الترجيح، واحتج العلماء بقول الله ﷿: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:٧].
كذلك أجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بتمييزه، يعني: في أمر القبلة، ولا يجوز له أن يتجه أي اتجاه، وإنما عليه السؤال.
كذلك الإنسان الذي ينزل في بلد ولا يعرف اتجاه القبلة فيها ليس من حقه أن يصلي في أي مكان، ولكن يجب عليه أن يسأل، قال الله ﷿: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:٧]، فلو فرضنا أنه صلى إلى أي اتجاه من غير أن يسأل ومن دون اجتهاد منه فصلاته باطلة، فلا بد أن يسأل، ولا يصلي إلى جهة يشك فيها، ولكن إن جهل ولم تتبين له الجهة ولم يجد من يسأله يجتهد قدر المستطاع، وصلاته صحيحة حتى ولو صلى عكس اتجاه القبلة.
كذلك لم يختلف العلماء في أن الإنسان العامي الجاهل لا يجوز له أن يفتي نفسه ولا يفتي غيره، فلابد أن يسأل ويتبع ما قيل له في ذلك.
وكثير من الناس تجد أنه تنزل به النازلة فإذا به يفتي لنفسه في الحال، ويقول لك: أنا اجتهدت وعملت، فنقول: في أي شيء اجتهدت وأنت لم تطلع لا على الكتاب وتفسيره، ولا على السنة وشروحها، ولم تعرف الفقه ولم تقرأ فيه؟! وما أكثر من يجتهد كذبًا من الناس! بعض الجهلة من الناس يدخل مسجدًا من المساجد وإذا به يقول: الإمام يخطئ، فيقوم يصلي ركعة خامسة مثلًا أو ينسى فيصلي ثلاث ركعات ويسلم، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هؤلاء، فتجد بعض الناس إذا نسي الإمام ركعة من الركعات يقول: أعيدوا الصلاة، والأمر لا يحتاج إلى إعادة صلاة، ولكن نسي فصلى ثلاث ركعات، إذًا بقيت ركعة فيصليها ويسجد للسهو، والأمر لا يحتاج إلى كثير كلام، فقد سها رسول الله ﷺ وصلى ركعتين في صلاة رباعية وسلم منها ﷺ، فقال له رجل كان يلقب بـ ذي اليدين: (يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال له: لم أنس ولم تقصر، ثم نظر إلى الصحابة وقال: أكذلك؟ قالوا: نعم) مع أن من الصحابة من خرج من المسجد، ولكن بقي الأكثرون، فقام النبي ﷺ وصلى الركعتين الباقيتين، ثم سجد سجود السهو وانتهى الأمر.
ونسي صلوات الله وسلامه عليه التشهد الأوسط فقام ﷺ وأكمل صلاته، ثم سجد للسهو ولم يحدث شيء.
وقام إلى الخامسة في صلاته ﷺ فصلى بهم الرباعية خمس ركعات، وسجد السهو ولم يحدث شيء.
فالحقيقة إذا سألت أهل العلم أجابوك فكان الأمر سهلًا، أما إذا استفتى الجهال بعضهم بعضًا فما أسهل ما يصعب على أنفسهم أمر دين الله سبحانه ﵎، لكن قد يعيد الصلاة مرة ومرتين وثلاثًا لجهله في ذلك.
وقد يأتي إنسان عنده سلس بول ويستفي جاهلًا، فيقول له: أعد الصلاة إذا أحسست بقطرة الماء قد خرجت منك وسط الصلاة، فيخرج من الصلاة ليتوضأ مرة ثانية، ثم يرجع يصلي فإذا به تنزل منه قطرة ماء مرة أخرى، فيخرج ليعيد الصلاة، وهذا بسبب جهله وبجهل من استفتاه، مع أن الدين ليس فيه ذلك، فإذا توضأت للصلاة فصل، حتى ولو نزلت هذه القطرة وأنت في الصلاة، فصلاتك صحيحة، بل ويجوز لك أن تصلي بعدها النافلة وأنت على حالك هذه طالما أنك مريض بسلس البول.
فلا يفتي في هذه المسائل إلا أهل الذكر والعلم، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [يوسف:١٠٩].
فأرسل الله سبحانه ﵎ رسلًا بوحي من السماء ليعلموا الناس، حتى يعلم الرسول ﷺ الخلق ما علمه الله سبحانه، فقال في سورة النحل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ [النحل:٤٣ - ٤٤]، فإن كنت لا تعرف الكتب المنزلة ولا الحجج التي جاءت من عند الله، فاسأل أهل الذكر ولا تستكبر عن السؤال.
وهنا قال لنا سبحانه ﵎: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٤٣] فلا تستكبر ولا تأنف من السؤال إن كنت جاهلًا، أو اقرأ وارجع إلى كتب أهل العلم وستعرف الحكم الشرعي.
2 / 5
تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام)
قال الله ﷿: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ [الأنبياء:٨].
ما جعلنا هؤلاء الرسل عليهم صلوات الله وسلامه جسدًا لا يحتاجون إلى الطعام، بل هم يأكلون ويشربون، ولم يكن هؤلاء الرسل خالدين، بل جعلهم أجسادًا وجعل فيها أرواحًا، وجعلهم يحتاجون إلى الطعام والشراب وإلى إخراج ذلك في بول وغائط ونحو ذلك، فيعتريهم ما يعتري المخلوق من أعراض الدنيا، من برد وحر، ومرض وتعب ونصب، فمثلهم كمثل غيرهم من الخلق، فالله ﷿ يخبر عن هؤلاء الرسل أنهم بشر من البشر.
2 / 6
تفسير قوله تعالى: (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنبياء:٩].
وعدناهم بالنصر فنصرناهم كما وعدناهم، وإن كانوا قبل أن ينصروا قد ابتلوا ابتلاءً شديدًا، وأوذوا في الله ﷿ أذىً شديدًا، ثم صدقهم الله ﷿ بعد ذلك.
وقد أخبر الله تعالى في سورة يوسف فقال: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف:١١٠]، أي: أن الرسل يئسوا من إيمان قومهم، دعوا قومهم ولا أحد يجيب، وقد يلبث فيهم النبي فترة طويلة يدعوهم إلى الله فلا يستجيبون، كما فعل سيدنا نوح، فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، قال تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت:١٤] وقال الله ﷿: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود:٤٠] أي: عدد قليل من قومه، فيأتي الأنبياء يوم القيامة، النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الجماعة، والنبي ومع الرجل الواحد، والنبي وليس معه أحد عليهم الصلاة والسلام، فهذه هي دعوة الأنبياء لأقوامهم، فهم بشر يدعون بشرًا قد يؤمنون وقد لا يؤمنون، ولكن يأتي النبي بما يدل على نبوته، فيأتي بالمعجزة من عند رب العالمين سبحانه، فالله ﷿ قال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر:٥١].
ففي الدنيا ويوم القيامة ينصرهم الله ﷿، ولكن قد يتأخر هذا النصر لحكمة من الله ﷿، والنبي ﷺ وعد بأنه ينتصر على المشركين، وقد مكث في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعوهم إلى الله تعالى، وقد خرج عليهم مرة فآذوه وصبر، ثم خرج مرة أخرى فآذوه إيذاءً شديدًا فصبر، ثم خرج في المرة الثالثة فوقف على الكفار منهم أبو جهل وغيره فقال: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ والله لقد جئتكم بالذبح).
قال هذا وكان مستضعفًا ومعه القليل من المؤمنين، والأكثرون هم الكفار، ومع ذلك يقف لهم بكل شجاعة ويقول: (والله لقد جئتكم بالذبح) يعني: جئتكم بالسيف من أجل أن أقطع رقابكم، وفعلًا كان هؤلاء ممن قتلوا في يوم بدر، فلما هاجر ﷺ بعد ذلك إلى المدينة جاء نصر الله في يوم بدر، لما قتل هؤلاء المشركون وألقوا في قليب بدر، وقف النبي ﷺ على القليب ينادي على أهل القليب: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا وليد بن عتبة!) وينادي على أبي جهل وغيرهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟) كانوا قد استأخروا النصر الذي يدعيه محمد، وتطاولوا على النبي ﷺ.
ويقول لنا ربنا: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ [يوسف:١١٠] وهذه لها معان منها: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، أو حتى إذا استيأس أتباع الرسل من أمر النصر ومن أمر هؤلاء الكفار أنهم لا يؤمنون، أو استيأس الكفار من كلام الرسل من أنكم تقولون لنا كلامًا وتعدوننا ثم لا يحصل.
﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ [يوسف:١١٠] ينجي الله سبحانه ﵎ من يشاء من عباده، وهنا قراءتان: ﴿فَنُجِّيَ﴾ [يوسف:١١٠]، و(فَنُنْجي مَنْ نَشَاءُ) بنون العظمة.
الله ﷿ ينجي من يشاء من عباده، ولا مانع من أن يقتل كثير من المؤمنين، فالله ﷿ ما قال ننجي المؤمنين جميعًا، ولكن قال: ﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ [يوسف:١١٠] فمنهم من نجا ومنهم من أخذه الموت أو استشهد في سبيل الله ﷿.
﴿وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف:١١٠] الغرض أن الله سبحانه ﵎ وعد الرسل، ولا بد أن يتحقق وعد الله سبحانه الذي وعد به المرسلين.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنبياء:٩] فأنجى الرسل وأنجى من يشاء سبحانه ﵎، وأهلك من يشاء، فمن هؤلاء الذين ماتوا الكفار، ومنهم المؤمنون الذين ماتوا، فالمؤمنون شهداء، والكفار في نار جهنم خالدين فيها.
قال سبحانه: ﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنبياء:٩].
يعني الذين أسرفوا على أنفسهم، وضيعوا دنياهم وأخراهم.
2 / 7
تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم)
ثم قال: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] فنكر الكتاب لتعظيمه أي: أنزلنا إليكم كتابًا عظيمًا فيه ذكركم، أي: فيه شرفكم، فتتشرفون بهذا الكتاب الذي هو بلسان عربي مبين.
فقال: ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] وهنا الذكر بمعنى الشرف، أي: أنزلنا عليكم كتابًا باللغة العربية ليكون شرفًا لكم على غيركم من الأمم.
فمن المفترض أنه إن جاءنا كتاب يشرفنا بلغتنا أن نفرح بهذا الكتاب، ونفرح بهذه المنزلة التي أنزلنا الله ﷿ إياها، ولكنهم غاروا على النبي ﷺ وحسدوه.
قال: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء:١٠] أين عقولكم؟ هل تتركون هذا القرآن حتى يأخذ به الأعاجم؟! وقد قال النبي ﷺ: (لو كان هذا العلم في الثريا لناله رجال من هؤلاء)، يعني: أمثال سلمان الفارسي وغيره رضوان الله ﵎ عليهم.
وصدق النبي ﷺ، فقد نال العجم أشياء كثيرة ما نالها العرب، حتى إنه يأتي الخليفة في زمن من الأزمنة ويسأل: من العالم في أرض مصر؟ فيقولون: فلان، فيقول: عربي أم أعجمي؟ قالوا: أعجمي، من العالم في أرض الشام؟ يقولون: فلان، فيقول: عربي أم أعجمي؟ قالوا: أعجمي، من العالم في المدينة ومكة في كذا في كذا حتى قالوا له: عالم عربي، فقال: لقد كادت روحي أن تزهق حتى ذكرتم عالمًا واحدًا.
المقصود: أن القرآن ذكر للعرب وشرف لهم وتذكرة لهم، فالمفترض أن يعقلوا ما فيه فيعملون به، فيدفعهم إلى التقدم والرقي، ويدفعهم إلى أن يسودوا غيرهم من الأمم، ولكنهم تركوه وراءهم ظهريًا فعاقبهم الله سبحانه بما هم فيه.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] أي: فيه شرفكم، فهذا هو المعنى الأوجز في هذه الآية ورجحه الكثير من المفسرين كـ الطبري وغيره.
وقيل: ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] أي: فيه ذكر أمر دينكم، يعني: الأحكام الشرعية ونحوها.
أو ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] فيه ذكر ما تصيرون إليه يوم القيامة من جنة أو نار.
﴿أو فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] بمعنى: فيه حديثكم الذي تنسجونه فيما بينكم وتسرونه، فيذكره الله ﷿ لنبيه ويدافع عن دينه وعن نبيه ﷺ، ويفضح هؤلاء المتكلمين.
وقيل: ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] بمعنى: فيه مكارم الأخلاق، ولا شك أن هذا كله في هذا القرآن العظيم.
ولكن أوجه المعاني ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء:١٠] أي: فيه الشرف لكم بما يحمل من مكارم الأخلاق، وبما يحمل من إعجاز وتعجيز لخلق الله ﷿.
وجاء في حديث النبي ﷺ: (القرآن حجة لك أو عليك) هذا القرآن العظيم الذي هو شرف لك إما أن تأخذه فيكون حجة لك، وإما أن تتركه وراءك فيكون حجة عليك.
وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها).
فالغرض بيان أن هذا القرآن إما حجة لك وإما حجة عليك، قال تعالى: ﴿كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء:١٠].
2 / 8
تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)
ثم ذكر الأمم السابقة فقال: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ [الأنبياء:١١].
(كم) فيه إشارة إلى أن الأمم الذين قصمناهم كثير، فإذا قصم الشيء فلا رجوع، ولا ينفع التصليح فيه، فقد قصمهم الله سبحانه ﵎ وأبادهم وأهلكهم، قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:٤٠]، ومنهم من سلط الله ﷿ عليه عباده المؤمنين، أو الكفار يسلطون على المسلمين العصاة.
ولما تسبب اليهود في قتل يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام سلط الله على أرضهم بختنصر، الكافر فأبادهم، وهذا من تسليط الله ﷿ على العصاة، فيسلط عليهم المؤمنين، وقد يسلط عليهم الكفار فيقتلونهم ويبيدونهم.
إذًا: الإنسان المستقيم على التوحيد والذي يعرف حدود الله ويطيع ربه، فإن الله يكون معه وينصره، والإنسان الذي عرف الدين وتركه وراءه ظهريًا استحق أن يقصمه الله سواء بآية من الآيات من السماء أو على يد مؤمن أو على يد كافر، قال تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الأنبياء:١١] يعني: كثيرين، فهناك قرى ظالمة أشركوا بالله ﷿ فأهلكهم الله، وبعدما أبادهم أنشأ قومًا آخرين.
2 / 9
تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون حتى جعلناهم حصيدًا خامدين)
ثم رجع لمثل هؤلاء الذين قصمهم، قال: ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ [الأنبياء:١٢].
أي: القوم المشركون لما جاء عذاب الله بواحدة من هذه الصور التي ذكرناها فـ ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ [الأنبياء:١٢] فإذا بالملائكة تنادي عليهم: ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا﴾ [الأنبياء:١٣] أي: ارجعوا مرة أخرى، على وجه السخرية، وإلا فأين سيسير؟ لن يفلت من الله سبحانه فتسخر منه الملائكة قائلة: ﴿وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:١٣].
كنتم أنتم مالكين كل الديار ثم ركضتم تاركين البساتين والحقول والأنهار والأموال، فارجعوا لعلنا نسألكم عن هذا المال فتعطون زكاة أموالكم.
فكانت السخرية منهم في وقت نزول العذاب عليهم، قيل لهم: ﴿لا تَرْكُضُوا﴾ [الأنبياء:١٣] لا تسرعوا، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، وأصل الركض الضرب بالرجل أو الضرب على الشيء، ومنه ركض فرسه، بمعنى: أنه ضرب برجليه على جانبي الفرس من أجل أن يجري الفرس، ويقول لنا هنا: ﴿لا تَرْكُضُوا﴾ [الأنبياء:١٣] فالمكان الذي كنتم أعزة فيه، والمكان الذي فيه أموالكم وأخذتم فيه من زخارف الدنيا وزينتها، ارجعوا ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:١٣] أي: عما نزل بكم من العقوبة، واسألوا الأمم من قبلكم كيف أهلكهم الله سبحانه ﵎.
وقيل: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:١٣] أي: أن تؤمنوا مرة ثانية، فيطلب منكم الإيمان، وإذا نزل العذاب لا ينفع الإيمان، فكأن كلام الملائكة سخرية من هؤلاء، فكما كانوا يسخرون من الرسل سخرت منهم الملائكة في وقت نزول العذاب، وكأنهم سمعوا هذا النداء: ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا﴾ [الأنبياء:١٣]، فبحثوا عمن يقول هذا الكلام فلما لم يروا أحدًا علموا أنه خطاب من السماء، وعلموا أن الملائكة تناديهم فأيقنوا بالعذاب، ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء:١٤].
وهذا نداء، كأنه يقول: الويل لي والهلاك، ينادي على نفسه بالهلاك، ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء:١٤]، اعترفوا في وقت لا ينفعهم فيه الاعتراف، وندموا حين لا ينفع الندم، فانتهى أمر الله سبحانه، وجاء العذاب من عند ربنا فما قدروا على شيء، فقولهم: ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ [الأنبياء:١٤] لا ينفعهم بشيء.
قال تعالى: ﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ [الأنبياء:١٥].
أي: حصدناهم جميعًا كالزروع أو الثمار التي تجنى وتحصد، فخمدت أنفاسهم، وضاعوا بتضييعهم رسل ربهم وبتضييعهم كتب الله سبحانه ﵎، ففيها عظة عظيمة لكل إنسان مؤمن، أنه إذا اتبع رسول الله ﷺ واتبع كتاب الله الذي جاء به النبي ﷺ كان القرآن معه في الدنيا ومعه يوم القيامة، فانتفع هذا الإنسان، وإذا جعل القرآن وراء ظهره دفعه إلى نار جهنم، ففي الدنيا يسلط الله ﷿ عليهم من يشاء من مؤمنين أو كفار فيبيدونهم في الدنيا، ويوم القيامة يعذبهم الله العذاب الأكبر.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
2 / 10