قال ابن جني: أي لما انتقلت خيله إلي رجت أن تستريح من طول كده إياها وليست ترى ذلك من جهتي مادمت أسير في بلاده، والعمل الذي يتولاه لسعة وامتداد الناحية التي تحت يده.
وقال أبو العلاء: يقول هذه سوابق رجت أن تستريح إذا صارت إلينا، لأنها كانت متعبة عنده بالطراد، ودعا عليها بألا تنال ذلك أي: إنا نتعبها لأنا نتبع سيرته، ونفعل كما يفعل من طراد الأعداء، وهذا معنى مستطرف لأنه كان ينبغي لهذه الخيل أن تستريح مادامت في بلاد الممدوح، إذ كانت آمنة من الأعداء، فإذا خرجت منها جاز أن يحتاج أربابها إلى القتال.
ومن أبيات له قوله:
ذَمّ الزَّمانُ إلَيهِ منْ أحبَتِهِ ... ما ذَمَّ مِنْ بَدرِهِ في حَمدِ أحمَدِهِ
قال ابن فورجة ما قال ابن جني: الهاء في) أحبته (عائد على العاشق، والهاء في) بدره وأحمده (جميعا عائدة على الزمان، والفاعل المضمر في) ذم (الثانية عائد على العاشق أيضا. والبدر هو المعشوق، وأحمد هو المتنبي جعل نفسه أحمد الزمان، أي ليس في الزمان أحمد آخر مثله.
وقال أيضا: فالزمان يذم معه هجر أحبته إياه ويحمده.
أي: يحمد أحمد لفضله ونجابته، وهذا البيت على ما فسره. إلا أنا نزيد وضوحا وبيانا. ونقول فيه غير ما قاله، غذ كان البيت مما يستصعب كثيرا على أفهام قوم) قوله ذم الزمان إليه (. هو من قولهم: أحمد إليك الله تعالى وأذم إليك زيدا كما قال أيضا: أَذُمُّ إلى هَذا الزَّمانِ أُهَيلَهُ وقوله) من أحبته (جائز أن تكون الهاء للعاشق على ما ذكره، والأولى عندي أن تكون عائدة على الزمان، يريد أحبة الناس فيه، أضافهم إلى الزمان لأنهم فيه، كأنه قال: الزمان له كل الأحبة في مذموم، كما قد ذممت بدرك، ثم قال في) حمد أحمده (يريد ذمهم الزمان مع حمده إياي ففي بمعنى مع كما تقول مر وهو يقرأ في سيره، أي مع سيره، ومثله قول الشاعر:
رأَيتُ اللَّيالي يَنتَهِبنَ شَبِيبَتي ... فأوضَعْتُ باللَّذاتِ في ذلك النَّهب
ومن التي أولها: نَسِيتُ ومَا أنسَ عِتابًا عَلى الصًّدِّ
وَمَنْ لي بيومٍ يَومٍ كَرِهتُهُ ... قَرُبتُ به عندَ الوَداعِ مِنَ البُعدِ
قال ابن جني: أي من لي بيوم مثل يوم الوداع، لأن المودع على كل حال يحظى بالنظر والتسليم، وهي الآن قد بعدت عني فلا نظر ولا عيان، وهو كقول الشاعر:
رُبَّ يَومٍ بكيتُ مِنهُ فَلَمَّا ... صِرتُ في غَيرهِ بكيتُ عَليهِ
وأنْ لا يَخُصَّ الفَقدُ شَيئًا فأنَّني ... فَقدْتُ فلم أفقِدْ دُموعِي ولا وَجدي
قال ابن جني: أي ومن لي بأن لا يخص الفقد شيئا، دون شيء، وإنما قلت هذا القول لأني فقدت محبوبتي ولم أفقد دموعي عليه ولا وجدي به.
وَمَن يَصحَبِ أسمَ ابن العَميدِ مُحَمَّدٍ ... يَسِرْ بينَ أنيابِ الأساوِدِ والأُسْدِ
قال ابن جني: يجوز محمد ومحمدا، والذي قاله بالجر وهو أمدح من أن ينصب، لأنه إذا نصب أبدله من اسم، وإذا جر أبدله من ابن العميد، أي هذه اللفظة أعني أن يقول ابن العميد يصير سببا للنجاة له ليركبها، وامتناع الأعداء من الإقدام على من يجري ذكره، وإنما صار أمدح لأن ابن العميد لا يشاركه فيه غيره، ومحمد اسم مشترك.
إذا ما استَحَينَ المَاءَ يَعرضُ نَفسَهُ ... كَرَعْنَ بِسبتٍ في إناءٍ من الوَردِ
قال أبو العلاء: استحين في معنى استحيين، يقول هذه الإبل غنية عن الورد وهن يعبرن بالمياه كثيرا، فالماء كالذي يعرض نفسه عليها فتستحي منه ألا تشرب فتكرع فيه، وأصل الكروع في الماشية التي تدخل في الماء حتى تغيب فيه أكرعها، ثم كثر ذلك حتى قيل كرع الشارب في القدح بمعنى شرب، يقول كرعت هذه الإبل بسبت لأن مشافرها تشبه بالسبت وهو نعال تدبغ بالقرظ، وقوله في إناء من الورد يريد أن الماء قد اجتمع في موضع منخفض وقد نبت الزهر حوله، وكل زهر يسمى وردا على الإستعارة، فكأن ذلك الموضع إناء من الورد، لأن الماء قد غطى ما ليس فيه ورد منه، فدق صار كالماء في القدح، وما حوله من زهر كفضلة الإناء التي ليس فيها ماء.
لَنا مَذهَبُ العُبَّادِ في تَركِ غَيرِهِ ... وإتبانِهِ نَبغِي الرَّغائِب بالزُّهدِ
1 / 35