[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
أعلموا - أيها المعتنون بفهم معاني الكتاب هداكم الله طريق الصواب - أن هاهنا أبحاثا لفظية بعضها متعلقة بنقوش الحروف وهيئآتها الكتبية، وصور الألفاظ وصفاتها السمعية، قد نصب الله لها أقواما من الكتاب والقراء والحفاظ، وجعل غاية سعيهم معرفة تجويد قراءتها وتحسين كتابتها وبعضها متعلقة بمعرفة أحوال الأبنية والاشتقاقات، وأحوال الإعراب والبناء للكلمات، وبعضها متعلقة بمعرفة أوائل مفهومات اللغات المفردة والمركبة.
وهذه كلها دون ما هو المقصد الأقصى والمنزل الأسنى. وقد بلغت في كل منها طائفة حد المنتهى، وعرجت فيها غاية المدى، قد نصبهم الله لكسب هذه العلوم الجزئية المتوقف عليها فهم حقائق القرآن، لتكون درجتهم درجة الخوادم والآلات لما هو بالحقيقة الثمرة والتمام، وما به كمال نوع الإنسان.
فاعلموا أن الكلام مشتمل على عبارة وإشارة، كما أن الإنسان متألف الوجود من غيب وشهادة، فالعبارة لأهل الرعاية، والاشارة لأهل العناية، فالعبارة كالميت المستتر فى طي الأكفان، والاشارة كاللطيفة الذاكرة العارفة التي هي حقيقة الإنسان، والعبارة من عالم الشهادة، والاشارة من عالم الغيب، والشهادة ظل الغيب، كما أن تشخص الإنسان ظل حقيقته.
أما أهل العبارة والكتابة، فقد صرفوا أعمارهم في تحصيل الألفاظ والمباني، وغرقت عقولهم في إدراك البيان والمعاني. وأما اهل القرآن والكلام وأهل الله خاصة بالمحبة الإلهية والجذبة الربانية والقرابة النبوية، فقد يسر الله لهم السبيل، وقبل منهم قليل العمل للرحيل، وذلك لخلوص نيتهم، وصفاء سريرتهم، فهم لا يحتاجون في فهم حقائق القرآن وغرائب معانيه إلى أن يخوضوا في البحث عن ظواهر ألفاظ الكلام وغرائب القرآن، وضبط هيئاته ومبانيه، وبصرف العمر في معرفة الاشتقاق والإعراب ليصيروا فرسانا في علم الإعراب، مقدمين في جملة الكتاب، ويفرغوا غاية جهدهم في الأوقات والأزمان في تحصيل ما يسمونه علم المعاني والبيان، وما يجري هذا المجرى في الرتبة والشأن، بل كفاهم طرف يسير من كل فن منها، وجرعة قليلة من كل دن من دنها، أخذا للزاد، وتعجيلا لسفر المعاد.
فمن أراد أن يقف على أنه لم طولت الباء في " بسم الله " ومدت السين؟ أو لم حذفت الألف في الخط هنا، واثبتت في قوله " باسم ربك " أو لم أسقطت الألف بعد اللام في " الله " أو هل تفخم لام الجلالة أم لا، فليرجع إلى أهل الخط والقراءة.
ومن أراد أن يقف على أن البسملة ما شأنها في أوائل السور الكريمة. هل هي هناك جزء من كل واحدة، أو أنها جزء من الفاتحة وحدها لا غير، أو أنها ليست جزء من شيء منها، بل هي آية فذة من القرآن، أو انزلت للفصل بها بين السور، أو أنها لم تنزل إلا بعض آية في سورة النمل، وليست جزء من غيرها، وإنما يأتي بها التالي والكاتب في أوائلهن تبركا باسمه تعالى.
أو أنها آيات من القرآن أنزلت بعدد السور المصدرة بها من دون الجزئية لهن، فليرجع إلى أصحاب النقل وأهل الرواية.
ومن أراد أن يعرف بم تعلقت الباء، وبأي محذوف ارتبطت، ولم قدر المحذوف متأخرا من قال: إن المراد بسم الله أقرأ أو أتلوا، وقد قدمه تعالى في قوله إقرأ باسم ربك وما معنى تعلق اسم الله بالقراءة. أو كيف يقدر كذلك والقائل هو الله أو كيف بنيت الباء على الكسرة ومن حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه، ولام الابتداء، وواو العطف، وفائه، وغير ذلك، وأن كلمة الجلالة إسم هي أو صفة مشتقة، أم جامدة، فليرجع إلى مطالعة التفاسير المشهورة، سيما الكشاف، فإنه كامل في بابه فائق على أترابه، وإن لكل طائفة فيما يعدونه تقربا إلى الله وعبودية له رأيا ومذهبا، والكل باختلاف مشاربهم ومذاهبم إياه يطلبون، ونحوه يقصدون، وبما لديهم فرحون، وبما جاء به غيرهم - وإن كان على بينة من ربه - يستهزئون " وللناس فيما يعشقون مذاهب " إلا أن مذهب أهل الله شيء آخر، ودينهم دين خالص، بل لا مذهب لهم إلا الله ولا دين لهم سواه:
ألا لله الدين الخالص
[الزمر:3].
مذاهب شتى للمحبين في الهوى
ولي مذهب فرد أعيش به وحدي
وهم عباد الرحمن بالحقيقة ، وغيرهم عبدة المذاهب والآراء، وطلاب النفس والهوى، لأن عبادة الرب وطاعته فرع معرفته، وطلب قربته، إذ طلب المجهول محال، فمن لم يكن عارفا بالله ولا عارفا بملكوته، فكيف يحبه ويطلبه ويقصد التقرب إليه ويتولاه. ولكن الحق لكمال رأفته ورحمته لعباده وشمول عاطفته وانبساط نور وجوده على الممكنات، وتجلي وجه ذاته لسائر الموجودات، جعل لكل منهم مثالا يحتذونه، ومثابة يقصدونها، ومنهاجا يسلكونه، ووجهة يتولونها، وقبلة يرضونها، وشريعة يعملون بها فقال:
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا
[البقرة:148]. وقال:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
[المائدة: 48]. الآية، وقال:
كل حزب بما لديهم فرحون
[الروم:32]. وهكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن، وتفاوت مراتبهم في بطونه وظهوره، ولبابه وقشوره، لأن كلام الله لمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف والتفاوت في مذاهب الخلق واعتقاداتهم لله بين مجسم ومنزه ومتفلسف ومعطل ومشرك وموحد، فكذا وقع الاختلاف والتفاوت بينهم في الفهوم، فهذا مما دل على كمال القرآن، لأنه بحر عميق غرق في تياره الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون، سواء وقع الوقف على الله أم لا، إذ الراسخون إذا علموا تأويله لم يعلموا إلا بالله، ولم يحيطوا به علما إلا بعد فناء ذواتهم عن ذواتهم، واندكاك جبل هوياتهم، ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء.
والغرض من هذا الكلام أن علم القرآن مختلف. والأذواق فيه متفاوتة حسب اختلاف أهل الاسلام في المذاهب والأديان، وكل حزب بما لديهم فرحون، إلا ان سائر المشتغلين به منهم في واد وأهل القرآن - وهم أهل الله وحزبه - في واد لأنهم من أهل القول والعبارة، وهؤلاء من أهل الكشف والاشارة، ومن أراد أن يتقحم لجة هذا البحر العميق، ويخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، كان يجب عليه أولا أن يطلع على سائر التفاسير، ويتفحص عن عقيدة كل فرقة من الفرق الإثنتين والسبعين. ويستكشف أسرار مذاهب كل طائفة من طوائف المسلمين، ليميز بين محق ومبطل، ومتدين ومبتدع، ويكون كما حكى الشيخ أبو حامد عن نفسه: لا يغادر باطنيا إلا ويريد أن يطلع على بطانته، ولا ظاهريا الا ويقصد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فيلسوفا إلا ويتحرى الوقوف على كنه فلسفته ولا متكلما إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا ويحرص على العثور على سر صفوته، ولا زنديقا أو معطلا إلا ويتجسس للتنبه لأسباب جرأته في زندقته أو تعطيله، وكان لم يزل التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبه وديدنه وغريزيا له، فطرة من الله في جبلته لا باختياره وحيلته، حتى انحلت عن قلبه رابطة التقليد، وانكسرت عليه سفينة العقائد الموروثة على قرب الصبى من الآباء والأساتيذ. إذ قد رأى صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم على الإسلام، كما دل عليه الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "
فإذا بلغ إلى هذا المقام من التحير والانضجار والانكسار، والتهبت نار نفسه الكامنة فيه لغاية الاضطرار، واشتعل كبريت قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص والاحتقار، وكان زيت نور الايمان في قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فوقع عليه نور الأنوار، وانكشف له سر من عالم الأسرار، رأى بذلك النور الجلى أصل كل نظر دقيق، وشاهد بذلك السر الخفي غاية كل شك وتحقيق، ونهاية كل مبحث عميق، وبه يحصل له الاقتدار على معرفة أسرار القرآن العظيم واستيضاح لطائف كتاب الله العليم، ومعجزة رسوله الكريم عليه وآله الصلاة والتسليم.
فعند ذلك يخوض فيه ويغوص في بحار معانيه، ويستخرج دررا ويواقيت ينعكس لمعانها على أعين الناظرين في سواحله، وأسماع الواقفين على حواليه، وما ينكشف منها للآدميين فهو قدر يسير بالاضافة إلى ما لم ينكشف، لأنه مما استأثره الله بعلمه، فربما تجد أيها الناظر بعين المروة والاشفاق من هذا الجنس في هذه الأوراق إن كنت من أهله، وإلا فغض بصرك عن ملاحظة أسرار معرفة الله، ولا تنظر إليها ولا تنسرح في ميدان معرفة معاني الوحي والقرآن، واشتغل بأشعار شعراء العرب وغرائب النحو وعلوم الأدب والفروع، ونوادر الطلاق والعتاق، وحيل المجادلة في البحث والمراوغة في الكلام، وسائر الحكايات والمواعظ التي فيها مصيدة العوام، ومجلبة الجاه والحطام، والغلبة في الخصام، فذلك أليق بك، فإن قيمتك على مقدار همتك، وقصدك على سمت رتبتك، ولا ينفعكم نصحي ان اردت ان انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم.
فصل
[الاسم]
إسم الإسم موضوع في اللغة للفظ دال على معنى مستقل، لأنه مشتق من السمة وهي العلامة، فكأنه كان منقولا لغويا نقل من مطلق العلامة للشيء إلى علامة خاصة، وهو اللفظ الدال عليه بالاستقلال، ولما كان نظر العرفاء إلى أصل كل شيء وملاك أمره من غير احتجابهم بالخصوصيات ومواد الأوضاع، كان الاسم عندهم أعم وأشمل من أن يكون لفظا مسموعا، أو صورة معلومة، أو عينا موجودا.
ويشبه أن يكون عرفهم يطابق عرف القرآن والحديث، فإن الاسم في قوله تعالى:
سبح اسم ربك الأعلى
[الأعلى:1]. وقوله:
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
[الرحمن:78]، مستبعد أن يكون المراد به الحرف والصوت وما يلتئم منهما، لانهما من عوارض الأجسام، وما هو كذلك يكون أخس الأشياء، فكيف يكون مسبحا مقدسا، والقول بكونه من قبيل مجاز الحذف، أو المجاز في التشبيه، بعيد من غير ضرورة داعية مع وجود معنى حقيقي، فاسم الله عندهم معنى مقدس عن وصمة الحدوث والتجدد، منزه عن نقيصة التكون والتغير، فلهذا وقعت الاستعانة والتبرك باسمه تعالى في مثل قولك: باسم الله اقرء وبسم الله اكتب، وجرت العادة بالتوسل إلى اسم الله لطلب الحوائج وكفاية المهمات، في مثل: بسم الله الشافي بسم الله الكافي، وفي الأدعية النبوية: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد ثبت عند محققي العلماء، أن المؤثر في جواهر الأكوان ليس إلا الباري جل اسمه، أو ملك مقرب من ملائكته بإذنه، فلا تأثير للعوارض الجسمانية في الأشياء الجوهرية ايجادا وإعداما، نعم الأذكار والأدعية إنما تؤثر من جهة معانيها واتصال النفس عند التذكر بمباديها الفعالة، فعالم الذكر الحكيم منبع إنجاح المهمات، ومبدأ استيجاب الدعوات، لا مقارعة الحروف والأصوات، وتحرك الشفتين بالالفاظ والعبارات، وقد مر في المفاتيح ما يكشف عن بعض الأسرار المتعلقة بأسماء الله.
فصل
[اسم الله تعالى]
فاسم الله عند أكابر العرفاء، عبارة عن مرتبة الالوهية الجامعة لجميع الشؤون والاعتبارات، والنعوت والكمالات، المندرجة فيها جميع الأسماء والصفات التي ليست إلا لمعات نوره وشؤون ذاته وهي أول كثرة وقعت في الوجود، برزخ بين الحضرة الأحدية وبين المظاهر الأمرية والخلقية، وهذا الاسم بعينه جامع بين كل صفتين متقابلتين أو اسمين متقابلين، لما علمت سابقا أن الذات مع كل صفة اسم، وهذه الأسماء الملفوظة أسماء الأسماء، والتكثر فيها بحسب تكثر النعوت والصفات، وذلك التكثر إنما يكون باعتبار مراتبه الغيبية وشؤونه الإلهية التي مفاتيح الغيب، وتقع عكوسها وأظلالها على الأشياء الكونية.
فكل ما في عالم الإمكان صورة اسم من أسماء الله، ومظهر شأن من شؤونه، فأسماء الله معان معقولة في غيب الوجود الحق، بمعنى ان الذات الأحدية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها، بحيث لو وجدت في العقل، أو أمكن له أن يلحظها، لكان ينتزع منها هذه المعاني ويصفها بها فالذات الأحدية مع أحديتها وبساطتها مصداق لحمل هذه المعاني عليها من غير وجود صفة زائدة كما مر.
وهذه المعاني - كسائر المفهومات الكلية - ليست من حيث هي هي موجودة ولا معدومة، ولا عامة ولا خاصة، ولا كلية ولا جزئية، وليست هي كالهويات الوجودية التي هي موجودات بذواتها، متشخصات بهويتها، لأنها بمنزلة الأشعة والروابط لوجود الحق، متى عقلت عقلت مرتبطة بذاته تعالى، موجودة بوجوده، واجبة بوجوبه، بخلاف المعاني الكلية، لأنها قد تصير كلية في الذهن جزئية في الخارج، وقد تكون موجودة في العقل معدومة في العين، ولها الحكم والأثر فيما له الوجود العيني، بل تنسحب عليها أحكام الوجود بالعرض، وتتنور بنوره، وتنصبغ بصبغه من الوجوب والوحدة والأزلية.
قال بعض أهل الله: الوجود الحق هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه، لا من حيث أسمائه، لأن الأسماء لها مدلولان: أحدهما: عينه، وهو عين المسمى. والآخر: ما يدل عليه مما ينفصل الإسم به عن اسم آخر ويتميز في العقل، فقد بان لك بما هو كل اسم عين الآخر وبما هو غيره، فبما هو عينه، هو الحق، وبما هو غيره، هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده، فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه، ولا يثبت كونه إلا بعينه - انتهى كلامه.
نقول: مراده من الحق المتخيل، ما لوحناه إليك، من أن كلا من مفهومات الأسماء الإلهية وإن كان بحسب نفس معناه معرى عن صفة الوجود الحقيقي من الوجوب والقدم والأزلية، إلا أنه مما تجري عليه في نفس الأمر تلك الأحكام، وينصبغ بنور الوجود الأحدي بالعرض، لأن صفاته عين ذاته، وهذا النحو من العينية والاتحاد بالعرض غير ما ألفه الجمهور وجرى عليه اصطلاحهم في الكتب العقلية فيما حكموا عليه بالاتحاد بالعرض، لان ذلك عندهم جار في اتحاد العرضيات والمشتقات المحمولة على موضوعاتها، كاتحاد مثل الأبيض والأعمى مع زيد مما يشترط فيه قيام معنى المشتق منه ووجوده حقيقة أو إنتزاعا.
ومعنى هذا الاتحاد أن الوجود المنسوب أولا وبالذات إلى زيد مثلا، هو بعينه منسوب إلى العرضي المشتق ثانيا وبالعرض، أي على سبيل المجاز، مع تجويز أن يكون لهذا العرضي نحو آخر من الوجود يوجد به بالذات غير هذا الوجود الذي قد وجد به بالعرض، فإن مفهوم الأبيض وإن كان متحدا مع زيد، موجودا بوجوده، إلا ان له نحوا آخر من الوجود الخاص به في نفسه، فإنه جوهر موجود بالعرض، وعرض موجود بالذات لما قد حقق في مقامه من ان العرضي عين العرض الذي هو مبدء اشتقاقه بالذات، فيكون موجودا بوجوده الجوهري بالعرض.
وليس من هذا القبيل اتحاد المعاني والأعيان الكلية بحقيقة الوجود، إذ لا يمكن لها ضرب آخر من الوجود معرى عن الوجود، أو منحازا عنه، لا في نفس الأمر، ولا عند العقل.
فالمعية بين ذات الله وأسمائه الحسنى ليست كالمعية بين العرضي والذاتي، فضلا عما هو بين العرض والجوهر، ولا كمعية الذاتيات في الماهيات الامكانية، لأن الحق ليس ذا مهية كلية، بل حقيقته ليست إلا وجودا مقدسا بسيطا صرفا، لا اسم له ولا رسم، ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان، ولا حد له ولا برهان عليه إلا بنور العيان، وهو البرهان على كل شيء والشاهد في كل عين، فمعنى كون أسمائه وصفاته عين ذاته كما مر أن الذات الأحدية بحسب نفس هويته الغيبية، ومرتبة إنيته الوجودية، مع قطع النظر عن انضمام أي معنى أو اعتبار أي أمر كان، بحيث تصدق في حقه هذه الأوصاف الكمالية والنعوت الجمالية، وتظهر من نور ذاته في حد ذاته هذه المحامد القدسية، وتتراءى في شمس وجهه هذه الجلايا النورية، والأخلاق الكريمة العلية، وهي في حدود أنفسها مع قطع لنظر عن نور وجهه وشعاع ذاته، لا ثبوت لها ولا شيئية أصلا، فهي بمنزلة ظلال وعكوس تتمثل في الأوهام والحواس من شيء، وكذلك حكم الأعيان الثابتة وحكم المعاني الذاتية لكل موجود.
فجميع الأعيان المعقولة والطبائع الكلية، ما هي عند التحقيق إلا نقوش وعلامات دالة على أنحاء الوجودات الإمكانية، التي هي من رشحات بحر الحقيقة الواجبية وأشعة شمس الوجود المطلق، ومظاهر أسمائه وصفاته، ومجالي جماله وجلاله، وأما نفس تلك الأعيان والماهيات منحازة عن الوجودات الخاصة، فلا وجود لها أصلا لا عينا ولا عقلا. بل أسماء فقط كما في قوله:
إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان
[النجم:23]. ولعل الكلام انجر إلى ما لا تطيق سماعه أسماع الأنام، ويضيق عن فهمه نطاق الأفهام.
فصل
[اسم الجلالة]
فإن قلت: هل لمعنى اسم الجلالة حد أم لا؟ قلت: الحد عند الحكماء قول دال على تصور أجزاء الشيء ومقوماته، فما لا جزء له ولا مقوم لذاته فلا حد له، وما لا حد له لا برهان عليه، لأن الحد والبرهان متشاركان في الحدود كما بين في علم الميزان، وإذا تقرر هذا فلا شبهة في أن ذات الباري لتقدسه عن شوائب التركيب أصلا، سواء كان من الأجزاء الوجودية أو الحملية أو غير ذلك - على ما اقتضاه برهان التوحيد والأحدية -، فلا حد له كما لا برهان عليه.
وأما ان مفهوم لفظ الله هل له حد أم لا؟ فالحق هو الأول، لأن معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكمالية، فكل معنى من معاني أسماء الله يكون جزءا لمعنى هذا الاسم عند التفصيل، وقد تقرر أن الفرق بين الحد والمحدود ليس إلا بالإجمال والتفصيل، وأن التفاوت بين المعنى الإجمالي والمعنى التفصيلي له ليس إلا بحسب الإدراك ومن جهة الملاحظة دون المدرك والملحوظ؛ فإن الألفاظ المذكورة في حد الشيء، تدل على ما دل عليه لفظ المحدود بعينه بدلالة تفصيلية.
وليس من شرط الحد أن يكون مؤلفا من جنس وفصل من أجزاء الشيء، سواء كان بعضها أعم من بعض مطلقا، أو من وجه، أو كانت متساوية، وسواء كانت أجزاء محمولة أو متباينة، إلا ان المشهور أن الحد لا يكون إلا من جنس وفصل لما رأو ان الطبائع النوعية الواقعة تحت إحدى المقولات العشر المشهور حدودها لا تكون إلا كذلك.
والحق أن كل اسم وضع لمعنى واحد جملي متألف من معان متعددة عند التفصيل بالفعل أو بحسب - التحليل، يدل عليها ألفاظ متعددة، يكون الأول محدودا والثاني حدا، وهكذا معنى اسم الله بالقياس إلى معاني جميع الأسماء الحسنى، فإن نسبتها إليه نسبة الحد إلى المحدود، إذ التفاوت ليس إلا بنحو الملاحظة مرة إجمالا ومرة تفصيلا، وهذا مما لا يخل ببساطة الذات المقدسة، وأحدية الوجود القيومي تعالى عن التصور والتمثل والتخيل والتعقل لغيره فإن كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية أو الإصطلاحية، فهي خارجة عن ساحة جناب العز والكبرياء، وانما يجد الذهن سبيلا إليها من ملاحظة مظاهرها ومجاليها، ومن مشاهدة مربوباتها ومحاكيها.
قال في الفص النحوي: إن للحق في كل خلق ظهورا خاصا. فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته. وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صورة العالم نسبة الروح المدبر للصورة، فيؤخذ في حد الإنسان - مثلا - باطنه وظاهره، وكذلك كل محدود، فالحق محدود بكل حد وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها، ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على حد ما حصل لكل عالم من صوره، فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم إلا من يعلم حد كل صورة، وهذا محال، فحد الحق محال.
ثم قال: فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز - انتهت ألفاظه.
ويتلخص من كلماته: أن مسمى لفظ الله هو المنعوت بميع الأوصاف الكمالية والنعوت الإلهية، لما تقرر عندهم، أنه ما من نعت إلا وله ظل ومظهر في العالم، وثبت أيضا أن الإشتراك بين معنى كل اسم ومظهره ليس بمجرد اللفظ فقط، حتى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر، وإلا لم تكن - هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحققها في الباري على وجه أعلى وأشرف، والمتحقق خلافه، فبطل كون الإشتراك لفظيا فقط، بل يكون معنويا، إلا ان هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص، وهناك في غاية العظمة والجلالة.
فتكون الأسماء الإلهية مع مظاهرها ومجاليها الكونية متحدة المعنى، سواء كانت المظاهر من الصور الحسية الموجودة في عالم الشهادة، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الإسم " الظاهر " كالسميع والبصير والمتكلم، ومظاهرها المختلفة المدركة بإدراك الحواس الظاهرة، أو كانت من الصور العقلية الموجودة في عالم الغيب العقلي، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الاسم " الباطن " كالسبوح والقدوس، ومظاهرها المتنوعة المندرجة في عالم الأمر، المدركة بالمدارك الباطنية العقلية.
وقد عرفت أن حد الشيء عبارة عن صور عقلية تفصيلية يدل عليها بألفاظ متعددة دالة على ما يدل عليه لفظ واحد، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان مثلا صورتان إدراكيتان، إحداهما موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى موجودة بوجودات متعددة تفصيلية، فيقال للمفصلة إنها حد، وللمجمل إنه محدود، فعلى هذا يلزم أن تكون مفهومات جميع الأسماء الإلهية ومظاهرها الكونية التي هي أجزاء العالم ظاهرا وباطنا على كثرتها حدا حقيقيا لمفهوم اسم الله، فيلزم أن يكون جميع معاني حقائق العالم حدا لاسم الله، كما ان جميع معاني الأسماء الإلهية حد له، إلا ان سائر الحدود للأشياء المحدودة يمكن إحاطة العقل البشري لأجزائها، بخلاف معاني أجزاء هذا الحد، لأنها غير محصورة، والمراد من لفظ الحق في قوله فالحق محدود بكل حد هو مفاد لفظ الله باعتبار معناه الكلي ومفهومه العقلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحدية وغيب الغيوب، إذ لا نعت له ولا حد ولا اسم ولا رسم ولا سبيل إليه للإدراك العقلي، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلا بعد فناء هويتهم واندكاك جبل إنيتهم.
ويؤيد هذا ما ذكره في الفص الاسماعيلي: اعلم أن مسمى لفظة الله أحدي بالذات، كل بالأسماء، وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة، يستحيل أن يكون له الكل.
وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم لا أنه ينال الواحد منها شيئا والآخر منها شيئا، لأنها لا تقبل التبعيض، فأحديته مجموع كله بالقوة.
انتهى.
فصل
[الانسان الكامل هو العبد الحقيقي]
اعلم يا وليي - نور الله قلبك بالايمان - أن أكثر الناس لا يعبدون الله من حيث هو الله، وإنما يعبدون معتقداتهم في ما يتصورونه معبودا لهم، فآلهتهم في الحقيقة أصنام وهمية يتصورونها وينحتونها بقوة اعتقاداتهم العقلية أو الوهمية، وهذا هو الذي أشار إليه عالم من أهل البيت (عليهم السلام) وهو محمد بن علي الباقر (عليه السلام): كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم - الحديث.
اي فلا يعتقد معتقد من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صور معتقدهم فقط إلها، إلا بما جعل في نفسه وتصوره بوهمه، فإلهه بالحقيقة مجعول لنفسه، منحوت بيد قوته المتصرفة، فلا فرق بين الأصنام التي اتخذت إلها وبينه في أنه مصنوع لنفوس، سواء كانت في خارجها أو في داخلها ، بل الأصنام الخارجية أيضا إنما عبدت من جهة اعتقاد الألوهية من عابدها في حقها، فالصور الذهنية معبودة لهم حينئذ بالذات، والصورة الخارجية معبودة لهم بالعرض، فمعبود عبدة الأصنام كلهم ليست إلا صور معتقداتهم وأهواء أنفسهم، كما أشير إليه في قوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23]. فكما أن أصحاب الأصنام الجسمية يعبدون ما عملته أيديهم، فكذلك أصحاب الإعتقادات الجزئية في حق الحق يعبدون ما كسبته أيدي عقولهم، فحق عليهم وعلى معبودهم قوله:
أف لكم ولما تعبدون من دون الله
[الأنبياء:67]. وكذا قوله: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم }.
وابن الزبعري لقصوره عن إدراك هذا المعنى، اعترض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه قد عبدت الملائكة والمسيح، ولم يعلم هو ومن في مرتبته إن معبود عبدة الملائكة والمسيح هو من عمل الشيطان، وأما الكمل من العرفاء، فهم الذين يعبدون الحق المطلق المسمى باسم الله من غير تقييد باسم خاص وصفة مخصوصة، فيتجلى لهم الحق المنعوت بجميع الأسماء، وهم لا ينكرونه في جميع التجليات الأسمائية والأفعالية والآثارية، بخلاف المحجوب المقيد الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه.
وذلك لغلبة أحكام بعض المواطن واحتجاب بعض المجالي عن بعض في نظره، ومن هذا الاحتجاب ينشأ الإختلاف بين الناس في العقائد، فينكر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وكل أحد يثبت للحق ما ينفيه الآخر، ويظن ما يراه، ويعتقد غاية الإجلال والتعظيم له تعالى وينكر غير ذلك، وقد أخطأ وأساء الأدب في حق الحق وهو عند نفسه أنه قد بلغ الغاية في المعرفة والتأدب، وكذلك كثير من أهل التنزيه، لغلبة أحكام التجرد عليهم، فهم محتجبون كبعض الملائكة بنور التقديس، وهم في مقابلة المشبهة المحتجبة بظلم التجسيم كالحيوانات.
وأما الإنسان الكامل، فهو الذي يعرف الحق بجميع المشاهد والمشاعر، ويعبده في جميع المواطن والمظاهر، فهو عبد الله يعبده بجميع أسمائه وصفاته، ولهذا سمي بهذا الاسم أكمل أفراد الإنسان محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن الاسم الإلهي، كما هو جامع لجميع الأسماء، وهي تتحد بأحديته الجمعية، كذلك طريقه جامع طرق الأسماء كلها وإن كان كل واحد من تلك الطرق مختصا باسم يرب مظهره ويعبد ذلك المظهر من ذلك الوجه، ويسلك سبيله المستقيم الخاص به، وليس الطريق الجامع لطرق سائر المظاهر إلا ما سلكه المظهر الجامع النبوي الختمي - على الشارع فيه وآله أفضل صلوات الله وتسليماته - وسلكه خواص أمته الذين هم خير الأمم، وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم أجمعين.
ويؤيد ذلك ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه لما أراد أن يبين ذلك للناس، خط خطا مستقيما، ثم خط من جانبيه خطوطا خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع، وجعل الخطوط الخارجة منها سبل الشيطان، كما قال تعالى:
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام:153]. يعني السبيل التي لكم فيها السعادة والنجاة، وإلا فالسبل كلها إليه لأن الله منتهى كل قصد وغاية كل مقصود، ولكن ما كل من رجع إليه وآب سعد ونجى عن التفرقة والعذاب فسبيل السعادة واحدة،
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108]
وأما سائر السبل، فغايتها كلها إلى الله أولا ثم يتولاه الرحمن آخرا ويبقى حكم الرحمن فيها إلى الأبد الذي لا نهاية لبقائه وهذه مسألة عجيبة لم أجد على وجه الأرض من عرفها حق المعرفة.
فصل
الله و " هو "
اعلم إن نسبة اسم " هو " إلى اسم " الله " كنسبة الوجود إلى المهية في الممكن إلا ان الواجب تعالى لا مهية له سوى الإنية وقد مر ان مفهوم اسم الله مما له حد حقيقي إلا ان العقول قاصرة عن الإحاطة بجميع المعاني الداخلة في حده لأنه إنما عرفت صورة حده إذا عرفت صور حدود جميع الموجودات، وإذ ليس فليس وأما إسم " هو " فلا حد له ولا إشارة إليه، فيكون أجل مقاما وأعلى مرتبة، ولهذا يختص بمداومة هذا الذكر الشريف الكمل الواصلون.
والنكتة فيه؛ أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته، لم يكن مستغرقا في معرفة الله، لأنه إذا قال " يا رحمن " فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها، فيكون طالبا لحظه، وكذا إذا قال: يا كريم يا محسن يا غفار يا وهاب يا منتقم. وإذا قال: يا مالك، فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم ولطائف القسم، فيميل طبعه إليها ويطلب شيئا منها، وقس عليه سائر الأسماء.
وأما إذا قال " يا هو " وانه يعرف انه تعالى هوية صرفة لا يشوبه عموم ولا خصوص، ولا تكثر وتعدد، ولا تناه وحد، فهذا الذكر لا يدل على شيء ألبتة، إلا محض الإنية التامة التي لا يشوبه معنى يغايره، فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله، وهنالك النور التام والكشف الكامل.
نكتة اخرى
[الاسم " هو " ]
ان جميع صفات الله المعلومة عند الخلق، إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام. أما الأولى: فكقولنا: إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا في مكان، وهذا فيه وقيعة، كمن خاطب السلطان بأنك لست أعمى ولا أصم ولا كذا وكذا وصار يعد أنواع المعائب والنقائص، فإنه ينسب إلى إساءة الأدب، ويستوجب الزجر والتأديب.
وأما صفات الإكرام: فككونه خالقا للخلائق، رازقا للعباد، وهذا ايضا فيه وقيعة من وجهين.
الأول: إن كمال الصانع أجل وأعلى من أن يوصف بصنعه، وخصوصا الفياض الذي ليس فعله إلا على سبيل الرشح والفيض.
والثاني: إن الرجل إذا أخذ يمدح سلطانا قاهرا يملك وجه الأرض برا وبحرا بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز وقطرة ماء، فإنه يستوجب المقت والزجر والحجر، ومعلوم ان نسبة جميع المخلوقات - من الفرش إلى العرش - إلى ما في خزائن الله - لكونها نسبة متناه إلى غير متناه - أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب، فهذا بالطريق الأولى، إلا ان هنا سببا يرخص في ذكر هذه المدائح، وهو ان النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال، وإذا اريد جذبها إلى عتبة عالم القدس، احتيج إلى أن يتنبه على كمال الحضرة المقدسة، ولا سبيل إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام.
ثم إذا واظب الإنسان على هذين النوعين من الأذكار حتى يعرض عن عالم الحس، ويستأنس الوقوف على عتبة القدس، فبعد ذلك تنبه لما في هذين النوعين من الاعتراضات المذكورة والحجب الظلمانية، فعند ذلك يترك الأذكار ويقول: يا هو، يا من لا هو إلا هو.
كأنه يقول: حضرتك أجل من أن أمدحك بشيء غيرك، فلا اثني عليك إلا بهويتك من حيث هي، ولا اخاطبك بلفظ أنت، لأنه يفيد الفخر والكبر، حيث تقول الروح: إني قد بلغت مبلغا صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكني لا ازيد على قولي: هو، ليكون إقرارا بأنه هو الممدوح لذاته في ذاته، وإقرارا بأن حضرته أعلى وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات، ولو فرض عند حضرته حضور عبد أو ملك مقرب أو نبي مرسل، فحيث يمتنع له الإحاطة والإكتناه به تعالى إذ بقدر قوة وجوده يشاهد ذاته تعالى، وذاته في شدة النورية فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، فما غاب عنه من ذاته أكثر بما لا يتناهى مما هو مشهود له، فهو سبحانه غائب بحقيقته التامة البسيطة عن الكل، مع فرض شهودها إياه، فلهذا يكون هذا الذكر أشرف الأذكار، لاحتوائه على هذه الأسرار لكن بشرط التنبه لها.
نكتة اخرى
يا من هو الا هو
إن المواظبة على هذا الذكر، يفيد العبد شوقا إلى الله تعالى، والشوق إليه تعالى أجل الأحوال لذة وأعظمها سببا للبهجة والسعادة، فإن الشوق إكسير الانجذاب والوصول، فالأشد شوقا أشد انجذابا، وذلك لأن كلمة " هو " ضمير الغائبين، فالعقل اذا ذكر هذه الكلمة، علم أنه غائب عن الحق سبحانه، ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست من قبل الله تعالى بسبب المكان والزمان، وإنما كانت بسبب انه موصوف بصفات النقصان ومثالب الحدثان، فإذا تنبه لهذه الدقيقة، علم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات على حسب تضاعف امكاناتها، وترادف نقائصها وأعدامها الحاصلة لها بحسب مراتب بعدها عن عالم الوحدة الخالصة، ونزولها عن ساحة الحق المحض، وعلم أن ما هو أقرب إلى الحضرة الواجبة كان النقائص والأعدام فيه أقل، فأخذ في طلب القرب إليه تعالى.
وكلما وصل العبد إلى مقام أعلى، كان شوقه إلى الترقى عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، كما تحكم به كل فطرة سليمة، وإذ لا نهاية لتلك المراتب والدرجات - كما سبق - فكذا لا نهاية لمراتب هذا الشوق، فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة " هو " تورث شوقا إلى الله، وأن الشوق إليه تعالى أجل الأحوال والمقامات بهجة وسعادة، لأنه ملزوم الوصول إليه تعالى.
ومما يدل على أن الشوق يستلزم الوصول، أن الشوق عبارة عن الحركة إلى تتميم الكمال، وما من موجود إلا وله ضرب من الخيرية والكمال، إذ له حظ من الوجود، والوجود قد ثبت أنه خير ومؤثر، ففي كل موجود عشق إلى ذاته، وما من موجود في عالم الإمكان إلا ولوجوده غاية كمالية، وشوق إلى تحصيل تلك الغاية، كما بين في مباحث الغايات في العلم الإلهي.
وقد ثبت أيضا هناك أن الله لا يودع في غريزة موجود من الموجودات وجبلته شيئا فيكون عبثا معطلا، فكل موجود وجد له شوق إلى كمال بالقياس إليه، فلا بد من أن يكون ممكن الحصول له، وكل ممكن الحصول لشيء بالإمكان العام، يجب حصوله له ووصوله إليه عند عدم الموانع ورفع العوائق والقواسر.
وثبت أيضا في مقامه، ان وجود الموانع والقواسر للأشياء الجبلية غير دائم ولا أكثري في هذا العالم الذي يوجد فيه بعض الشرور، وأما في العالم الأعلى وما فوق الكون، فالأشياء كلها على مقتضى دواعيها وأشواقها الأصلية، فكل مشتاق إلى شيء شوقا غريزيا سواء كان في فطرته الأولى أو في فطرته الثانية التي قد صار متجوهرا بها متصورا بصورتها الجوهرية، كالنبات إذا صار حيوانا، أو الحيوان إذا صار إنسانا، فهو واصل أو سيصل إليه وقتاما.
فثبت أن من أحب الله واشتاق إليه، فهو مما يصل إلى حضرته يوما، كما دل عليه قوله (عليه السلام): من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
نكتة أخرى
[في أن الذكر أشرف المقامات للسالك]
قال (صلى الله عليه وآله) [حكاية عن الله تعالى]:
" إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه "
فإذا ثبت هذا، فأفضل الأذكار ذكر الله الخالي عن ملاحظة الأغيار.
ثم إن العبد فقير كثير الحاجة، والمحتاج إذا نادى مخدومه المنعم بنداء يناسب الطلب والسؤال، كان ذلك محمولا على الطلب مشعرا بالسؤال، فإذا قال: " يا كريم " كان معناه: أكرم وإذا قال " يا رجيم " كان معناه: " إرحم ". وإذا قال " يا غفور، يا عفو " كان معناه: اغفر واعف. فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، فيجول في خاطره غير الله، وتتمثل له صور حاجاته فيكون مشغول السر بغير الله ولم يكن في خلاء، بل في ملأ، إذ الشاغل له عن ذكر الله عند المعاشرة مع الخلق أيضا الصور الحاضرة في نفسه، وهي الحاضرة بالذات، دون الصور الخارجية إلا بالعرض.
فمن حضرت عنده صور الأشياء والتفت إليها، فهو في صحبة الأغيار، سواء كان في بيته الخالي، أو في محتشد من الخلق. وقد بين ان الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليا من السؤال، ومن تصور الصور والأمثال، وذلك يتحقق عندما قال " هو ".
ومن نوادر الأذكار الشريفة الممدوحة في كتب أصحاب القلوب: يا هو يا من لا هو إلا هو. يا من لا إله إلا هو. يا أزل يا أبد. يا دهر يا ديهار. يا ديهور. يا من هو الحي الذي لا يموت.
قال النيسابوري في تفسيره: ولقد لقنني بعض المشائخ من الذكر: يا هو، يا من هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا هو بلا هو إلا هو. وقال:
فالأول فناء عما سوى الله.
والثاني فناء في الله.
والثالث فناء عما سوى الذات.
والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات.
وقال صاحب التفسير الكبير: ومن لطائف هذا ان الشيخ الغزالي رحمه الله كان يقول: " لا إله إلا الله " توحيد العوام، و " لا إله إلا هو " توحيد الخواص، و " لا هو إلا هو " توحيد أخص الخواص ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان.
أما القرآن فإنه تعالى قال:
ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو
[القصص:88]. ثم قال بعد ذلك
كل شيء هالك
[القصص:88] معناه " لا هو " ، وقوله
إلا وجهه
[القصص:88] " الا هو " فقد ذكر " لا هو إلا هو " بعد قوله: لا إله إلا هو، يدل على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة.
وأما البرهان: فهو أن من الناس من قال: تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها. فقلت: فالوجود أيضا ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعا بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفية الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوما مغايرا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلىالفاعل. وإن كان مفهوما مغايرا فذلك المفهوم لا بد وأن يكون له ماهية، وحينئذ يعود الكلام، فثبت ان المؤثر مؤثر في الماهية وكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات وصارت الحقائق حقائق. وقيل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجو ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: لا هو إلا هو. أي لا تقرر لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتحقيقه، فثبت أنه لا هو إلا هو.
أقول وبالله التوفيق:
اعلم أن مقام التوحيد الخاص الذي عليه الأولياء الكاملون والعرفاء المحققون، أعلى درجة وأشمخ شهوقا من أن يناله أرباب الأنظار الجزئية بقوة أنظارهم، وأصحاب المباحث الكلامية بدقة أفكارهم، ومن زعم أنه بقوة مهارته في تحرير المقالات، وتقرير الاشكالات والأجوبة عن بعض الايرادات، وبيان بعض المسائل والشبهات، يمكنه الوصول إلى فهم مسائل هذا التوحيد، ومكاشفات إخوان التجريد، فقد استسمن ذاورم، ومثله كالزمن إذا أراد أن يطير في الجو، ومثل من أراد أن يثبت هذا المقصد الغالي، ويصل إلى هذا المصعد العالي بمثل هذا القياس المرتب في زاوية قلبه من هذه المقدمات الواهية الواهنة الأساس، كمثل العنكبوت إذا أراد أن يصيد العنقاء بشبكة ينسجها في زوايا البيوت.
ولولا مخافة التطويل والاطناب، لاستقصينا الكلام في هذا الباب، فأخذنا أولا في إقامة البراهين القطعية على أن شيئا من الماهيات لا يمكن أن يكون أثرا للجاعل ومجعولة له، ثم على إثبات أن أثر الجاعل وما يترتب عليه في الخارج، هو نحو من أنحاء الوجودات الخاصة. ثم على أن ما ذكره هذا القائل، يناقض ويخالف عقلا ولفظا لما هو بصدده من إثبات هذا التوحيد، وأن كلمة " لا هو إلا هو " تدل عليه. ثم بعد ذلك نشير إلى لمعة من لوامع مسألة التوحيد الخاصي، وإلى كيفية استنباطها من هذه الكلمة ولكن جاء في المثل: " ما لا يدرك كله لا يترك كله " فلنذكر هذه المقاصد ها هنا على طريقة الاختصار، وطي بعض مباديها ومقدماتها البعيدة، ليكون الناظر في هذا المقام على بصيرة في طلب ما ادعيناه من غير تعب وكلال.
ويكون الاستقصاء البالغ مرجوعا الى مواضع اخرى من مسفوراتنا المطولة.
وهي مشتملة على فصول خمسة.
فصل
في أن الوجود هو المجعول بالذات
اعلم إن للوجود صورة في الخارج، وليس مجرد معنى مصدري انتزاعي - كما يقول الظالمون - إذ لا شك في أن للأشياء حقائق. وحقيقة كل شيء هي خصوص وجوده الذي تترتب عليه أحكامه المخصوصة وآثاره المطلوبة منه.
وكون الشيء ذا حقيقة، معناه انه ذا وجود، فحينئذ لا بد أن يكون في الأعيان ما يصدق عليه هذا المعنى، أي معنى الحقيقة، وليس مصداقه نفس الماهية من حيث هي، سواء كان بعد الصدور أو قبل الصدور، بل مصداقها إما نفس الوجود للشيء، أو الماهية الموجودة بما هي موجودة لا بما هي ماهية، فالوجود أولى بأن يكون حقيقة أو ذا حقيقة من غيره، إذ غيره به يكون ذا حقيقة. لست أريد من هذا أن مفهوم الحقيقة يجب أن يصدق عليه هذا العنوان، بل إن هنا شيئا يصدق عليه بحسب الخارج مفهوم الحقيقة وليس هو نفس الماهية الموجودة، بل وجودها.
فالوجود يجب أن يكون بنفسه موجودا في الواقع، لأنه يصدق عليه هذا المفهوم، فله لا محالة صورة عينية مع قطع النظر عن اعتبار العقل، وهو المعني بكون الوجود موجودا، لا أن له وجودا زائدا كما توهمه العبارة، حتى تلزم منه المحذورات المشهورة، فإذا كان الوجود موجودا، فهو إما واجب - إن كان غير متعلق بغيره - أو ممكن إن كان متعلقا بغيره، وهو المعني بكون الوجود مجعولا أو صادرا. هذا هو المطلوب.
حجة اخرى
لو لم يكن الوجود للاشياء موجودا أي واقعا في الأعيان، لم يوجد شيء من الأشياء، والتالي باطل فكذا المقدم.
بيان الشرطية: أن الماهية قبل انضمام الوجود إليها، أو اعتباره معها، أو ما شئت فسمه، غير موجود، وهو ظاهر، وكذلك أيضا إذا اعتبرت الماهية من حيث هي لا مع اعتبار الوجود، فهي غير موجودة ولا معدومة، فإذن لو لم يكن الوجود موجودا، لم يمكن ثبوت مفهوم أحدهما للآخر، فإن ثبوت شيء لشيء، أو إنضمامه إليه، أو اعتباره معه، أو انتزاعه منه، فرع لثبوت المثبت له، أو مستلزم له لا أقل، للمغايرة بينهما في الثبوت، وليس للماهية من حيث هي هي - مع قطع النظر عن الوجود - وجود وثبوت أصلا، فكيف يتحقق هناك اتصاف بالوجود وليست الماهية في نفسها موجودة، ولا الوجود في نفسه موجودا، فلا تكون الماهية معروضة للوجود - كما اشتهر وذهب إليه جمهور الحكماء - ولا عارضة له - كما ذهب إليه طائفة من العرفاء - إذ كل من راجع وجدانه وأنصف من نفسه، أدرك ان انضمام معدوم لمعدوم في الخارج، أو انضمام مفهوم لمفهوم من غير وجود أحدهما للآخر، أو قيامه به، أو قيامهما بموجود آخر، غير صحيح، ولا مما يجوزه العقل، بل يقضي بامتناعه، ولهذا قال بعض العلماء: إن الفطرة شاهدة بأن الماهية إذا كانت موجودة بنفس وجودها لا قبله، كان الموجود بالذات ها هنا هو نفس الوجود لا الماهية.
كما ان المضاف بالحقيقة نفس الإضافة لا ما هو المضاف المشهوري، فعلم ان المجعول الصادر من الفاعل هو الوجود، وما قيل من ان الماهية موجوديتها باعتبار انتسابها الى الجاعل التام، فهو هوس محض، فإن غير المنتسب الى شيء إذا انتسب فهو لا محالة بشيء يلحقه انتسب، فلا محالة يتغير عما كان ويستحيل إلى حالة وصفة لم تكن حاصلة له من قبل، فهو بذلك الشيء صار منتسبا، فيكون المنتسب بالحقيقة ذلك الشيء دونه، فعلى هذا يلزم أن يكون المنتسب إلى الجاعل التام هو وجود الماهية دونها.
برهان آخر
إن موجودية الأشياء، إما بانضمام الوجود الى الماهية، أو بصيرورتها موجودة، أو باتصافها به أو ما يجرى هذا المجرى كما هو المشهور من الحكماء المشائين، وإما بمجعولية نفس الماهيات جعلا بسيطا كما عليه أتباع الرواقيين، وتبعهم هذا القائل، والشيخ المقتول وجماعة من المتأخرين، وإما بنفس الوجودات الخاصة الفائضة عن الباري الحي القيوم كما ذهب هذه الفقراء، والأول مقدوح مردود بوجوه مذكورة في موضعها، والثاني أيضا؛ والإلزام أن لا يتحقق موجود ما في الخارج، والا لزم ظاهر البطلان، فكذا الملزوم، فبقي المذهب الثالث حقا.
وأما بيان الملازمة في هذه الشرطية، فبأن الوجود على هذا الرأي، إن كان نفس الماهية من غير اعتبار قيد زائد وشرط، فيكون كل من تصور الإنسان مثلا تصور أنه موجود، ولم يكن فرق بين كون الإنسان إنسانا وبين كونه موجودا، ولكان قولنا: الإنسان معدوم تناقضا، والتالي باطل فالمقدم مثله، وإن كان الوجود عبارة عن انتساب الماهية الى الجاعل، والنسبة لا تتحقق إلا بعد تحقق الطرفين فننقل الكلام في وجود معروضه، فيعود المحذور جذعا.
فإن قيل: موجودية الماهية ليست بانتسابها الى الجاعل، بل بكونها بحيث تنتسب اليه وترتبط به.
قلنا: فيكون المجعول وما هو أثر الجاعل هو كونها على هذه الحيثية لانفس الماهية بما هي هي، وهو خلاف المفروض، على أن المجعول ها هنا هو الكون المذكور. ونحن لا نعني بالوجود الا هذا الكون، فثبت المطلوب بالخلف والاستقامة معا .
الفصل الثاني
في أن الماهية يستحيل أن تكون أثرا للجاعل ومجعولة له، وعليه براهين:
الأول: أن أثر الفاعل لو كان ماهية شيء كماهية الإنسان من حيث هي دون وجودها، لما أمكن لأحد أن يتصور تلك الماهية قبل صدورها عن الفاعل، لما تقرر أن العلم بذي السبب لا يحصل إلا من جهة العلم بسببه، والمقدر خلافه إذ كثيرا ما نتصور الماهيات ولا يخطر ببالنا جاعلها أصلا، بل للعقل أن يتصور ماهية كل شيء من حيث هي هي، أو مجردة عن ما عداها، حتى عن هذه الملاحظة، فليست هي من هذه الحيثية - أي بما هي هي - موجودة ولا مجعولة، ولا لا موجودة ولا لا مجعولة.
وأيضا، فلو كانت هي بما هي هي مجعولة، لكان مفهوم المجعولية ذاتيا لها، ولكانت الماهيات كلها من مقولة المضاف، والتوالي بأسرها ظاهرة البطلان، فالمقدم مثله، والملازمة تظهر بالتأمل الصادق.
فإن قلت: هذا يلزمك على القول بمجعولية الوجود.
قلت: إن وجود كل شيء نفس هويته العينية وحقيقته الخارجية، فلا يمكن العلم بها إلا بالمشاهدة الحضورية والانكشاف النوري، إذ كل ما حصلت صورته في الذهن فهو أمر كلي، وإن تخصصت بمخصصات كثيرة. والوجود هوية عينية متشخصة بذاتها صادرة عن هوية جاعله إياها جعلا بسيطا، فلا يمكن انكشافه وحضوره إلا من جهة حضور هوية جاعله، وهذا المفهوم العام المشترك الانتزاعي الاثباتي، وجه من وجوهه، وهو بمعزل عن الهوية الخارجية، وهذه الهويات الوجودية مجعولات بأنفسها ومنتسبات بذواتها الى مفيضها التام، ومع ذلك، ليست واقعة تحت مقولة المضاف، لأن مقولة المضاف قسم من أقسام الماهيات التي هي زائدة على الوجود، أولا ترى أن الهوية الإلهية مع كونها مبدأ جميع الأشياء، ليست واقعة تحت مقولة المضاف؟ فكذا ساير الهويات الوجودية.
برهان آخر
لو كانت الجاعلية والمجعولية متحققتين بين الماهيات لا بين الوجودات، يلزم التشكيك بالأقدمية وعدمها بين أفراد مقولة الجوهر عند سببية جوهر لجوهر آخر، وهذا باطل عند محصلي الحكماء، حيث بينوا أن لا أولوية ولا تقدم لماهية جوهر على ماهية جوهر آخر ، لا في تجوهره، ولا في جوهريته، أي في كونه محمولا عليه معنى الجوهر الجنسي، فلا يتقدم الإنسان الذي هو الأب على الإنسان الابن في حده ومعناه، ولا في صدق الإنسانية عليه، بل تقدمه عليه إما بالوجود أو بالزمان.
برهان آخر عرشي
إن الصادر الأول مثلا له ماهية نوعية محتملة الصدق على كثيرين، وليس الصادر من الباري عندهم إلا شخصا واحدا من أعداد نوعه المشتركة فيه، فكون الصادر هذا الشخص الواحد دون غيره، لو كان بمجرد صدور ماهيته النوعية، يوجب الترجيح من غير مرجح؛ إذ الجاعل واحد والماهية واحدة، والنسبة بينها وبين اشخاصها متماثلة، فكونها هذا الفرد دون غيره، مما يتساوى نسبته، غير صحيحة، وكذا موجودية هذا الشخص دون سائر الأسخاص، بمجرد ابداع الباري نفس الماهية النوعية المتواطئة مع اشتراكها بين الجميع، غير صحيح.
فالحق الحري بالتحقيق والتصديق أن أول الصوادر هو هوية الصادر الأول المتشخصة بذاته، المتميزة بنفسه عن ما عداها، دون ماهيته، فهذه الهوية الوجودية هي المجعولة بالذات، والماهية تابعة لها اتباع الظل للشخص.
وهنا استبصارات كثيرة ذكرناها في كتبنا وجمعناها في رسالة مفردة:
منها: كون الوجود هو الخير بالذات، والعدم هو الشر، والصادر عن الخير الأول هو الخيرات، وهي وجودات الأشياء دون ماهياتها الكلية، إذ لا خيرية ولا كمال في مفهوم العلم والقدرة والصحة والجمال واللذائذ والشهوات الدنيوية والأخروية، بل في حقائقها الوجودية، وليس كل من تصور ماهية السعادة سعيدا، ولا كل من تصور ماهية البهجة مبتهجا، بل من نال وجود السعادة ووجود البهجة.
ومنها: أن الجاعلية والمجعولية لو كانتا بين المهيات، لكانت جميع الموجودات - ما سوى المعلول الأول - من لوازم الماهيات، وهي أمور اعتبارية كما حقق في مقامه؛ والتالي باطل بديهة واتفاقا، فإن أحدا لم يقل بأن السماء والأرض وما بينهما أمور اعتبارية، ونسبة هذا الأمر الشنيع الى العرفاء، افتراء محض تتحاشى عنه أسرارهم.
ومنها: أنه قد تقرر في علم الميزان، ان مطلب " ما " الشارحة، غير مطلب " ما " الحقيقية، وليست المغايرة بينهما في مفهوم الجواب، لأنه الحد التام عند المحققين، بل باعتبار الوجود في أحدهما وعدمه في الآخر، فلو لم يكن للوجود صورة في الخارج، لم يكن بين المطلبين والجوابين فرق يعتد به كما لا يخفى.
أوهام وتنبيهات
ثم إن للقائلين باعتبارية الوجود ومجعولية الماهيات شبها قوية فككنا عقدتها بحمد الله، وطردنا ظلمات هذه الأوهام بنور الهداية والإلهام، فلنشر الى أجوبة بعض منها، وهي هذه.
الأول: إن الوجود لو كان موجودا لكان له وجود، ولوجوده وجود. وهكذا الى غير نهاية.
والجواب: إن الماهية لما لم تكن في نفسها موجودة، فموجوديتها لا بد وأن تكون بأمر زائد عليها، وأما الوجود، فهو بنفسه موجود لا بأمر زائد عليه إلا بحسب الاعتبار العقلي، رعاية لمفهوم الاشتقاق، والتسلسل في الاعتباريات منقطع بانقطاع الاعتبار منها، ولهذا المعنى نظائر كثيرة، كالإضافة، فإنها بنفسها مضافة وغيرها بها مضاف، وكالنور، فإنه منير بذاته، وكاجزاء الزمان فإنها بذواتها متقدمة ومتأخرة.
والثاني: إن الوجود لو كان موجودا بذاته، لكان واجب الوجود بذاته، إذ لا معنى للواجب بالذات إلا ما يكون وجوده ضروريا لذاته، وأي ضرورة أشد من كون الشيء عين نفسه؟
والجواب: إن الوجود الإمكاني بحسب هويته متقوم بغيره، واجب به، وإذا قطع النظر عن موجده يكون باطلا محضا، ومعنى كونه ضروري الوجود، انه بعدما صدر ذاته عن العلة، لا يفتقر الى وجود زائد عليه في كونه موجودا، بخلاف الماهية، فإنها في حد ذاتها غير موجودة ولو في وقت صدورها عن الفاعل، ومعنى الإمكان في الوجودات، انها بأنفسها متعلقة الذوات بغيرها، وليست الماهيات متعلقة الذوات بغيرها، فإمكانها عبارة عن تساوي نسبتها الى الوجود والعدم، وبالجملة، هذه الشبهة إنما نشأت من الخلط بين معنى الضرورة الأزلية والضرورة الذاتية.
الثالث: إنه إن كان الوجود في الأعيان صفة للماهية وهي قابلة، فهي إما أن تكون موجودة بعد الوجود، فحصل الوجود مستقلا دونها، فلا قابلية ولا صفتية، أو قبله؛ فهي قبل الوجود موجودة؛ أو معه، فالماهية موجودة مع الوجود لا بالوجود، ولها وجود آخر، وأقسام التالي باطلة كلها، فالمقدم كذلك.
والجواب : إنا نختار أن الماهية موجودة معه في الأعيان، وما به المعية نفس الوجود الذي هي به موجودة، فلا يلزم الإحتياج الى وجود آخر، كما ان المعية الزمانية حاصلة بين الحركة والزمان الذي حصلت فيه بنفس ذلك الزمان بلا زمان آخر، حتى يكون للزمان زمان آخر على أن الحق ان اتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي، كاتصاف الموضوع بما يقوم به فلا قابلية في الحقيقة ولا اتصاف، بل ما في الواقع أمر واحد بلا تقدم بينها ولا معية بالمعنى المذكور، وتفصيل هذا الكلام مما يطلب في مقامه.
الرابع: إن الوجود لو كان في الأعيان، لكان قائما بالماهية، فقيامه إما بالماهية الموجودة، فيلزم وجودها قبل وجودها، أو بالمعدومة، فيلزم اجتماع النقيضين، أو بالماهية المجردة عن الوجود والعدم، فيلزم ارتفاع النقيضين.
والجواب: إنه إن أريد بالماهية الموجودة ما هي موجودة بحسب نفس الأمر، وبالمعدومة ما يقابلها، فنختار ان الوجود قائم بالماهية الموجودة بهذا الوجود، لا بوجود سابق عليه، كما ان البياض قائم بالجسم الأبيض بهذا البياض القائم به لا ببياض آخر، وإن أريد بالموجودة ما يكون الوجود مأخوذا في مرتبة الماهية من حيث هي، فنختار انه قائم بالماهية من حيث هي هي، بلا اعتبار شيء من الوجود والعدم، وهذا ليس بارتفاع النقيضين عن الواقع، بل عن تلك المرتبة. إذ الواقع أوسع من تلك المرتبة.
ولهذا الكلام زيادة تحقيق مذكور في حواشي التجريد، إذ الإشكال مشترك الورود، سواء كان الوجود حقيقيا أو انتزاعيا، ولهذا حكموا بأن لا اتصاف للماهية بالوجود، ولا قيام له بها في الخارج ولا في العقل، إذ لا بد في اتصاف شيء بشيء من المغايرة بينهما في ظرف الاتصاف، وإن لم يكن ثبوت الثابت فرع ثبوت المثبت له، وليس بين الماهية والوجود مغايرة، إلا ان للعقل أن يأخذ الماهية ويعتبرها وحدها مجردة عن جميع أنحاء الوجود، حتى عن هذا التجريد الذي هو أيضا نحو من أنحاء الوجود، فيصفها بالوجود، ففي هذا الظرف العقلي هي موصوفة بالوجود ومخلوطة به أيضا، رعاية لجانبي الخلط والتعرية على أنا نحن في متسع من هذا البحث إذ الموجود عندنا في الأعيان هو الوجود دون الماهية إلا بالعرض، وهي أمر انتزاعي متحدة بالوجود وليست متصفة به.
والخامس: إن الوجود لو كان حاصلا في الأعيان وليس بجوهر، فيكون هيئة قائمة بجوهر، فيكون كيفا لأنه هيئة قارة لا يوجب قسمة ولا نسبة الى امر خارج، وقد حكموا ان المحل متقدم على العرض، فيتقدم الموجود على الوجود، فيلزم تقدم الوجود. وأيضا يلزم أن لا يكون الوجود أعم الأشياء مطلقا، بل الكيفية والعرضية أعم منه من وجه. وأيضا إذا كان عرضا فهو قائم بالمحل، ومعنى أنه قائم بالمحل، أنه موجود فيه، مفتقر في تحققه إليه، ولا شك ان المحل موجود بالوجود، فدار القيام وهو محال.
والجواب: انهم حيث أخذوا في عنوانات المقولات كونها ماهيات كلية حق وجودها العيني كذا وكذا، فسقط كون الوجود في ذاته جوهرا أو كيفا أو غيرها، لعدم كونه كليا، بل الوجودات - كما سبق - هويات عينية متشخصة بأنفسها غير مندرجة تحت مفهوم ذاتي، فليس الوجود جوهرا في ذاته، ولا عرضا بمعنى كونه قائما بالماهية، وعلى تقدير كونه عرضا، لا يلزم كونه كيفية، لعدم كليته وعمومه، وما هو من الأعراض العامة والمفهومات الشاملة للموجودات، إنما هو الوجود الانتزاعي العقلي، ولمخالفته أيضا سائر الأعراض بأن وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها، ووجود الوجود عين وجود الماهية الموضوعة لها، لا وجود غيرها، ظهر عدم افتقاره في تحققه الى الموضوع، فلا يلزم الدور المذكور.
على أن المختار عندنا ان وجود الجوهر جوهر بجوهرية ذلك الجوهر، لا بجوهرية أخرى، وكذا وجود العرض، عرض بعرضية ذلك العرض لا بعرضية أخرى.
الفصل الثالث
في أن ما ذكره هذا القائل ينافي مذهب العارفين القائلين بهذا التوحيد عقلا ولفظا
أما الأول: فلأن من ذهب الى أن الماهيات مجعولة وحاصلة بالجعل، ولا شبهة في أن الماهيات أمور متخالفة المعاني، فتكون الموجودات عنده أمورا متكثرة متخالفة بالحقائق متمايزة بالذوات، إذ موجودية الماهية - على هذا المذهب - عبارة عن صدورها عن الفاعل أو انتسابها إليه، فيكون الوجود معنى مصدريا، والموجود أمرا حقيقيا متعددا حسب تعدد أفراد الماهيات الصادرة عن الفاعل، فأين هذا المذهب من مذهب التوحيد الذي عليه العرفاء.
وقريب من هذا ما ذهب اليه بعض المغترين بلامع السراب الوهمي عن مشرب التوحيد الأتمي، ان الوجود الحقيقي شخص واحد وهو ذات الباري، والموجود كلي له أفراد متعددة هي الموجودات، ونسب هذا المذهب الى أذواق المتألهين وزعم أن هذا هو مقصودهم في وحدة الوجود، وهو فاسد من وجوه:
الأول: إن أفراد الموجودات قد تكون متكثرة متقدمة بعضها على بعض في الوجود مع اتحادها في الماهية النوعية، فإذا كانت الماهية واحدة والوجود واحدا شخصيا، فكيف يتعدد الموجود ويتقدم بعضه على بعض؟!
والثاني: إنه يلزم على هذا القول أن يكون قولنا: وجود زيد ووجود عمرو، بمنزلة قولنا: إله زيد واله عمرو، وهذا لا يتفوه به عاقل.
والثالث: إن نسبة الماهيات الى الباري جل ذكره، إن كانت اتحادية، يلزم كون الواجب تعالى ذا ماهية غير الوجود، بل ذا ماهيات متعددة، وقد ثبت أنه صرف الإنية، وإن كانت نسبتها إليه تعالى تعلقية ارتباطية وتعلق الشيء بالشيء فرع على وجودهما وتحققهما، فيلزم أن يكون لكل من الماهيات وجود خاص متقدم على انتسابها إليه تعالى وتعلقها به، إذ لا شبهة في أن معانيها غير معنى التعلق بغيرها، فإنا كثيرا ما نتصور الماهيات ونغفل عن ارتباطها الى الحق، وهذا الكلام لا يجرى في الوجودات، إذ يمكن لأحد أن يدعى ان هوياتها تعلقية، كما سنكشف على من هو أهله.
الرابع: قوله: الوجود واحد والموجود كثير، هوس محض لأنه إذا كان معنى الوجود أمرا نسبيا عنده، فلا فرق بين مذهبه ومذهب من يرى ان الوجود أمر عام مصدري انتزاعي، إلا بأنه سمى المعنى الانتزاعي بالإنتساب الى الجاعل، فالقول بأن الوجود على هذه الطريقة واحد شخصي، والموجود كلي متعدد دون الطريقة الأخرى، تحكم محض.
وأما ان كلمة " لا هو إلا هو " لا يدل على ما قرره في مسألة التوحيد، فذلك بوجهين.
أحدهما: إن غاية ما ذكره، أن شيئا من الماهيات لم يكن ماهية قبل الجعل والتأثير، فبقدرته تعالى صارت الماهيات ماهيات، ولا تقرر لشيء منها إلا بتقريره كما ذكره وأين هذا المعنى من معنى " لا هو إلا هو " إلا أن يرتكب حذف وإضمار وقيل: معناه لا هو بلا جعل وتأثير إلا هو، وهذا أمر لا يحتاج الى مزيد تقرير، إذ لا شبهة لأحد من العقلاء المعتبرين فيه إلا المعتزلة القائلة بثبوت الماهيات بلا جعل، فإن الحكماء سواء ذهبوا الى أن أثر الفاعل هو الماهية، أو ذهبوا الى أنه الموجودية، متفقون على أن الماهية قبل الجعل غير حاصلة، إلا ان إحدى الطائفتين قالت: إن الماهية مجعولة أولا، والوجود تابع لها في الجعل، والأخرى قالت: إن صيرورة الماهية موجودة أثر الجاعل، والماهية تابعة له كما هو المشهور من توابع المشائين.
وما أورده هذا القائل عليهم من أن الوجود أيضا ماهية، فيجب أن لا يكون مجعولا واقعا بتأثير الفاعل، مما علمت حاله من تضاعيف أحوال الوجود وكذا قوله فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفية الماهية بالوجود، فهي إن لم تكن مفهوما مغايرا لهما امتنع استنادها الى الفاعل، وإن كان مغايرا فلا بد أن يكون له ماهية، فيعود الكلام انتهى.
وذلك لأن مذهب هؤلاء، هو إن مفاد الجعل وأثر الجاعل هو صيرورة الماهية موجودة، أي هذه الهيئة التركيبية، لا أن شيئا من الماهيات ولا الوجود أثره، ولا ماهية هذه الصيرورة أيضا اثره، لأنها مستغنية عن الجعل، وهذا مثل أن يقال: إن التصديق عبارة عن نحو إذعان أن زيدا قائم مثلا، فكما إن التصديق ليس بتصور المحكوم عليه، ولا تصور المحكوم به ولا تصور النسبة بل الهيئة الإذعانية على الوجه الذي يكون الموضوع متلبسا بالمحمول، فمفاد التصديق اعتقاد أن زيدا قائم، لا تصور هذا الإذعان، ولا تصور قيام زيد، لأنهما من باب التصور ولا تصور زيد قائم، لما ذكرنا، بل إدراك النسبة على أنها نسبة وعلى أنها معنى حرفي، لا على أنها معنى اسمي منسوب أو منسوب اليه.
فهكذا قولهم في كون أثر الجاعل اتصاف الماهية بالوجود، فمفاد الجعل في الخارج عندهم كمفاد التصديق في الذهن، فاندفع النقض الذي أورده عليهم عنهم، سواء كان مذهبهم صحيحا أو فاسدا.
الوجه الثاني: إن ضمير " هو " وسائر الضمائر كأنا وأنت وغيرها، ليس معانيها إلا أنحاء الوجودات، والدليل عليه أن كلمة " هو " - الذي كلامنا فيه - لو كانت موضوعة لغير الوجود الخاص فهي إما موضوعة لماهية مخصوصة، فيجب أن لا يطلق على غيرها وتتبادر هي الى الفهم عند الاطلاق بعد العلم بوضعها إياها، والواقع بخلافه؛ وإما موضوعة لجميع الماهيات بوضع واحد، فهو ظاهر البطلان، وإلا فينبغي أن يتبادر الى الذهن عند الإطلاق، وليس كذلك، وإما موضوعة لماهيات متعددة غير متناهية بأوضاع متعددة غير متناهية، وهو ظاهر البطلان أيضا، ولا انها موضوعة لماهية ما من حيث هي، وإلا لم يفهم منها ماهية مخصوصة، إذ العام لا دلالة له على الخاص، والواقع خلافه، ولا أيضا يصح أن يقال إنها موضوعة لماهية ما بشرط كونها غائبة، وإلا لزم أن لا يفهم من كلمة " هو " إلا هذا المفهوم، بل الحق ان الضمائر كلها: كهو وأنت وغيرهما، وكذا أسماء الإشارات كلها: كهذا وذلك وغيرهما، موضوعة لأنحاء الهويات الوجودية، إذ الوجود حقيقة واحدة، وله أفراد وأعداد متمايزة الأشخاص؛ يصح أن يتصورها الواضع من جهة وحدة حقيقتها المشتركة، ويضع الإسم لأفرادها الخاصة بحسب أوصافها الوجودية التي حكمها حكم أصل الوجود في وحدتها وتعددها.
وهذا معنى قولهم في أسماء الإشارة: إن الوضع فيها عام والموضوع له هو الخصوصيات؛ فعلى هذا " لا هو " لا يدل على نفي الماهية، بل على نفي الهوية.
لا يقال: الماهية مشتقة من الهوية، لأنها مأخوذة من " ما هو " وهو السؤال عما به الشيء هو هو، فيكون كلاهما مشيرا الى شيء واحد، فلا فرق بينهما بحسب جوهر اللفظ ومادته اللغوية.
قلنا: الفرق بأن " هو " عبارة عن الوجود الشخصي و " ما هو " سؤال عن طلب ذاتياته، وهي المعاني الكلية المتحدة به في مرتبة وجوده الذاتي، الصادقة عليه بحسب تلك المرتبة فيما له ماهية غير الهوية، فمدلول " هو " غير ما وقع في جواب " ما هو " ، لأنه من المطالب الكلية، فهما متغايران معنى، ولهذا افترقت الهوية عن الماهية في الواجب تعالى، وكذا في الهويات الوجودية بما هي هويات في العلم الحضوري الشهودي فافهم واغتنم.
الفصل الرابع
في الاشارة الى لمعة من لوامع علم التوحيد الخاصي
إن لنا بإعلام الله وإلهامه برهانا شريفا على هذا المطلب الشريف، الذي هو الوجهة الكبرى لأهل السلوك العلمي محكما في سماء وثاقته التي ملئت حرسا شديدا وشهبا، لا يصل إليه لمس شياطين الأوهام، ولا يمسه القاعدون منه مقاعد للسمع، إلا المطهرون من أرجاس الجاهلية المكتسبة من ظلمات الأجسام.
بيانه: أن الواجب تعالى، لما كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلقات، فليس وجوده متعلقا بشيء متوقفا على شيء، فيكون بسيط الحقيقة لا ينقسم في وجود ولا في عقل ولا في فهم، فذاته واجب الوجود من جميع الجهات، كما أنه واجب الوجود بحسب الذات، فليس فيه جهة إمكانية ولا امتناعية، وإلا لزم التركيب بوجه من الوجوه، المستدعي للإمكان. فإذا تقررت هذه المقدمة التي مفادها أن كل وجود وكل كمال وجود يجب أن يكون حاصلا لذاته، فايضا عنه، مترشحا على غيره، كما قال
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما
[غافر:7] وهما عين ذاته، فلو كان في الوجود إله غيره فيكون لا محالة منفصل الذات عنه، لاستحالة أن يكون بين الواجبين علاقة وجودية، وإلا لزم معلولية أحدهما، وهو خرق الفرض، فلكل منهما على الفرض المذكور مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر، ولا منبعثا منه، فايضا من لدنه، فيكون كل منهما عادما لكمال وجودي، فذاته حينئذ لا تكون محض حيثية الفعلية والوجوب، بل يكون ذاته بذاته مصداقا لحصول شيء وفقد شيء آخر، فلا يكون بسيط الحقيقة خالصا بل مزدوجا، والازدواج ينافي الوجوب الذاتي كما مر.
ومن هنا ظهر أن كل بسيط الحقيقة يجب أن يكون كل الوجود وكله الوجود، كما يعلمه الراسخون في العرفان.
وبالجملة، فواجب الوجود يجب أن يكون من فرط التحصيل وكمال الفعلية جامعا لجميع النشئآت الوجودية، فلا مكافئ له في الوجود، ولا ثاني له في الكون، ولا شبيه له ولا ندبل ذاته من تمام الفضيلة يجب أن يكون مستند جميع الكمالات، ومنبع كل الخيرات، فيكون بهذا المعنى تاما وفوق التمام، فهذا هو بيان التوحيد الخاصي، أي نفي المشارك في الوجوب، وقد انجر الى التوحيد الأخصي، وهو نفي المشارك في الوجود.
الفصل الخامس
في أن الباري هو الحق وكل ما سواه باطل دون وجهه الكريم
بيانه: أن العلية والمعلولية - كما ثبت وتقرر - لا يكونان إلا في نفس الوجود لما علمت ان الماهيات لا تأصل لها في الكون ولا في الجعل، وعلمت أيضا أن هوية الشيء وذاته هي عين نحو وجوده الخاص به، فالجاعل جاعل بنفس وجوده، والمجعول مجعول بنفس وجوده جعلا بسيطا، لا بصفة زائدة على نفس هويته الوجودية.
فإذا تقرر هذا فنقول: لما كان كل موجود معلول فهو في حد ذاته متعلق بغيره ومرتبط به، فيجب أن تكون ذاته الوجودية ذاتا تعلقية ووجوده وجودا تعلقيا.
لا بمعنى انه شيء وذلك الشيء موصوف بالتعلق، بل هو بما هو هو عين معنى التعلق بشيء والانتساب إليه، وإلا فلو كانت له هوية غير التعلق والافتقار الى الجاعل، ويكون التعلق والافتقار زائدين على ذاته، فلم يكن ذاته بذاته متعلقا بفاعله مجعولا له، فيكون المجعول بالذات شيئا آخر، وهو خلاف المقدر، ويكون هذا المفروض مجعولا مستقل الحقيقة غير متعلق الهوية بفاعله. فإذا ثبت أن كل علة علة بذاتها، وكل معلول معلول بذاته، وثبت ان ذات الشيء هي وجوده، وان الماهيات امور كلية اعتبارية منتزعة من أنحاء الوجودات بحسب هوياتها، فينكشف ان المسمى بالمعلول، ليست هويته أمرا مباينا لهوية علته المفيضة، ولا يمكن للعقل أن يشير في المعلول إلى هوية منفصلة عن هوية موجده، حتى يكون هناك هويتان مستقلتان في الإشارة العقلية إحداهما مفيضة والأخرى مفاضة، وإلا لم تكن ذاته بذاته مفاضة.
نعم للعقل أن يشير إلى المهيات والأعيان الثابتة، لعدم تعلقها بذواتها إلى علة فاعلة، فإذن المجعول بالجعل البسيط، لا ذات له مباينة لذات مبدعه، فإذا ثبت تناهي سلسلة الموجودات إلى حقيقة واحدة بسيطة، ظهر ان لجميع الموجودات حقيقة واحدة، ذاته بذاته وجود وموجد وهو بحقيقته محقق الحقائق، وبسطوع نوره منور ماهيات السموات والأرض، فهو الحقيقة والباقي شؤونه، وهو الذات وغيره أسماؤه، وهو الأصل وما سواه أطواره وفروعه وحيثياته.
فعلى هذا يتبين وينكشف معنى ما ورد في الأذكار الشريفة الإلهية: يا هو، يا من هو يا من لا هو إلا هو، إذ قد ثبت أن الهويات الوجودية التي بعد مرتبة الهوية الإلهية، كما لا يمكن حصولها في الخارج منحازة عن الذات الأحدية، بل هي مقومة قوامها ومقررة حقائقها، كذلك لا يمكن للعقل أن يشير إليها إشارة عقلية أو حسية، بحيث تنالها الإشارة منحازة عن الإشارة إلى قيومها الأحدي، بل هو المشار إليه في كل إشارة، ولا إشارة إليه فيكون محدودا وهو المشهود في كل شهود ولا شهادة، وهو المنظور بكل عين، ولا نظر إليه فيكون محاطا به، وهو المسموع بكل سمع، ولا جهة له، وهو المعقول بكل عقل ولا اكتناه به،
فأينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة:115]. فهو في كل مكان بلا مكان، وهو في كل زمان بلا زمان، فلا كيف لذاته، ولا علم بصفاته، ولا حين لزمانه، ولا كنه لشأنه، ولا حيث حيث هو، ولا أين أين هو، ولا متى حين هو، فهو هو، ولا هو إلا هو، ولا هو بلا هو إلا هو، ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو.
وصلى الله على سيد الورى محمد المصطفى وآله مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى.
فصل
[الرحمن والرحيم]
الرحمان؛ فعلان، من رحم، كغضبان وسكران من غضب وسكر والرحيم؛ فعيل منه ايضا، كمريض وسقيم من مرض وسقم، فهما اسمان بنيا على صيغتين من صيغ المبالغة. وفي الفعلان من المبالغة ما ليس في الفعيل، يدل عليه زيادته في البناء، كما في كبار وكبار وشقدف وشقنداف، ولذلك يقال تارة: يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا هذا بحسب الكيفية، ويقال تراة: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، هذا بحسب الكمية، لأن رحمة الدنيا تعم المؤمن والكافر، ورحمة الآخرة تخص المؤمن، والرحمن من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق والصعق ولهذا لم يستعمل في غير الله، كما ان الله من الأسماء الغالبة. وإطلاق بني حنيفة رحمن اليمامة على مسيلمة، وقع من باب التعنت في كفرهم، والسبب في ذلك أن معناه الحقيقي الأصلي: البالغ في الرحمة غايتها، وهذا المعنى لا يكون صادقا في حق غير الله، لأن ما سواه وإن فرض كونه راحما فليست رحمته بالغة حد الغاية، وهو ظاهر، لأن من عداه ناقص استفاض الرحمة منه أولا، ثم أعطى شيئا مما استفاضه، والحق الحقيق بالإذعان، إن اطلاقه على غيره مجاز رأسا بوجوه:
الأول: أن الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض، وكل أحد غير الله لا يعطي شيئا إلا ليأخذ عوضا. لأن الأعواض والأغراض بعضها جسمانية، وبعضها حسية، وبعضها خيالية وبعضها عقلية.
فالأول: كمن أعطى دينارا ليأخذ ثوبا.
والثاني: كمن يعطى المال لطلب الخدمة أو الإعانة.
والثالث: كمن يعطيه لطلب الثناء الجميل.
والرابع: كمن يعطيه لطلب الثواب الجزيل، أو لإزالة حب الدنيا، أو الرقة الجنسية عن قلبه. وهذه الأقسام كلها أعواض، فيكون ذلك الإعطاء بالحقيقة معاملة ومعاوضة ولا يكون جودا ولا هبة وإعطاء، وأما الحق تعالى، فهو لما كان كاملا في ذاته وصفاته، فيستحيل أن يعطي شيئا ليستفيد به كمالا، فهو الجواد المطلق والراحم الحق.
واعلم: أن هذا إنما يتم على مذهب أهل الحق، القائلين بأنه تعالى تام الفاعلية بحسب ذاته وصفاته، لا يعتريه قصد زائد ولا لفعله غاية سوى ذاته، وكان صدور الأشياء منه على سبيل العناية والفيض، دون القصد والروية، كما زعمه الأكثرون، تعالى عنه علوا كبيرا.
الثاني: إن كل ما سواه ممكن الوجود بحسب ماهيته، والممكن مفتقر في وجوده إلى إيجاد الواجب إياه ابتداء، إذ إمكان الشيء علة احتياجه إلى المؤثر الواجب، كما برهن عليه في مقامه، وكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بايجاد الله، لا بايجاد غير الله، إذ ليس لغيره صفة الايجاد، بل إنما شأن غيره الإعداد والتخصيص في الاستناد، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله.
الثالث: إن فلانا يعطى الحنطة مثلا ولكن لا يقع الانتفاع بها ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام، والشهوة الراغبة إلى أكله، والقوى الناهضة لذلك، والآلات المعدة لنقله وطحنه وعجنه وطبخه وغير ذلك، وما يتوقف عليها من الخشب والحديد والنجار والحداد، والأرض التي يقومون عليها، والهواء الذي يتنفسون به، والفلك الذي يحدد جهات أمكنتهم وأزمنتهم، والكواكب التي تنور في الليل والنهار بحركاتها أكنافهم، وتسخن أطرافهم، وتنضج حبوبهم وأثمارهم التي يتغذون بها، والملائكة الذين يدبرون السموات ويحركون الكواكب كالشمس والقمر وغيرهما على سبيل المباشرة، والملائكة العلوية الذين يدبرون هذه الملائكة على سبيل التشويق بالوحي والإعلام، فما دام لم يخلق الله هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة، فخالق الحنطة تلك والممكن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتى يحصل الانتفاع، هو الراحم.
فصل
[تقديم الرحمن على الرحيم]
قيل في تقديم " الرحمن " على " الرحيم " والقياس يقتضي في ذكر النعوت الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: فلان عالم نحرير، وفلان شجاع باسل، إنه لما صار كالعلم - كما مر - يكون أولى بالتقديم. أو لأن الرحمن لما دل على عظائم النعم وجلائلها وأصولها، ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف. وإنما وقعت التسمية بهذه الأسماء دون غيرها، ليدل على أن الحري بالاستعانة به في مجامع المهمات هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم ومبدأ الخيرات كلها عاجلها وآجلها، وجليلها وقيقها، ليتوجه العارف بجميع قواه ومشاعره إلى جناب القدس، وينقطع نظره عن ما سواه، ويشغل سره بذكر مولاه، والاستمداد به في مقاصد أولاه وأخراه.
واعلم: أن الأشياء أربعة أقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.
أما الأول: فهو إما في الدنيا فكالتنفس، فإنه لو انقطع منك لحظه واحدة مات القالب، وإما أن يكون في الآخرة، فهو معرفة الله، فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب العذاب الدائم.
وأما الثاني: فهو كالمال في الدنيا وساير العلوم في الآخرة.
وأما الثالث: فهو كالمضار التي لا بد منها، كالموت والمرض والهرم والفقر، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار.
واما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل، والعذاب في الآخرة.
إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أن النفس في الدنيا ضروري نافع، وبانقطاعه يحصل الموت، وكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنه لا يتألم فيه إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني، فإنه يبقى عذابه أبد الآباد.
وكما ان النفس له أثران: ادخال النسيم الطيب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراج الهواء الفاسد المحترق عن القلب، كذلك الفكر له أثران، أحدهما: ايصال نسيم البرهان إلى القلب الحقيقي، وإبقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة المتولدة من الشبهات عنه، وما ذلك إلا بأن يعرف ان هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها تنتهي بالأخرة الى الفناء بعد وجودها، وأن وراء هذا العالم عالم إليه مرجع نفوسنا المطهرة عن شوائب الأدناس والأرجاس، ليس في ذلك العالم دثور ولا فناء، بل كله حياة وبقاء. ومن وقف على هذه الأحوال بقي آمنا من الآفات، واصلا الى الخيرات والمبرات، وبكمال معرفة هذا الأمر، ينكشف لعقلك ان كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمة الله، وذرة من أنوار إحسانه، فعند ذلك ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحمانا رحيما، وانه مبدأ الخيرات كلها ومعطي جلائل النعم ودقائقها، وسوابق المنافع ولواحقها.
فصل
[اتصافه تعالى بالرحمة]
قد ذكر في توجيه وصفه تعالى بالرحمة، ومعناها التعطف والحنو، ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها، انه مجاز عن إنعامه على عباده، وقيل: إن أسماء الله تعالى إنما اخذت باعتبار الغايات التي هي الأفعال والآثار، لا باعتبار مباديها التي تكون انفعالات، هذا غاية ما حصل لأصحاب الأنظار من العلم بمثل هذه الأسماء والصفات.
واعلم ان هذا العلم أيضا مما خص الله به أهل الاشارة دون العبارة، إذ ما ذكروه يؤدي إلى فتح باب التأويل في أكثر ما ورد في أحوال المبدأ، وقد مر في مفاتيح الغيب شيء مما يتعلق بهذه المسألة.
واعلم أن جمهور أهل اللسان، لما صادفوا بالاستقراء جزئيات ما يطلق عليه اسم النار في هذه الدار حارة، حكموا بأن كل نار حارة، ولكن من انفتح على قلبه باب الى الملكوت، فربما شاهد نيرانات كامنة في بواطن الأمور، تسخن الأشياء تسخينا أشد من تسخين هذه النار المحسوسة، ومع ذلك ليست متسخنة ذات حرارة، وهي كقوة الغضب وما فوقها، كالنفس وما فوقها، كقهر الله، فالحكم بأن كل نار حارة على عمومه غير صحيح عنده، وكذلك لما شاهدوا في هذا العالم كل محرك لشيء متحركا، وكل فاعل لشيء متغيرا في فاعلية، حكموا بأن كل محرك متحرك، وكل فاعل لشيء فاعل بعد ما لم يكن، وعند التحقيق والعرفان، ظهر أن ما زعموه مخالف للبرهان، وكذلك أشياء كثيرة من هذا القبيل.
والسر في الجميع، ان موجودات هذا العالم كلها، لنقصانها في درجة الموجودية، ونزولها في أقصى مرتبة النزول والخسة تصحبها أعدام وقوى وانفعالات من جهة المادة الجسمية، فمبادي أفاعليها لا تنفك عن انفعالات، وليس هنا فاعل غير منفعل، ولا مؤثر غير متأثر، ولا معط غير آخذ، ولا راحم غير مرحوم، وهذا انما هو بحسب الاتفاق، لا أن هذه الأفاعيل داخلة في مفهوماتها تلك الانفعالات.
فقول أهل الحجاب وأصحاب الارتياب: كل كاتب متحرك الأصابع، وكل فلك متحرك، ليس عند أهل المشاهدة صحيحا، بل كلية هذه القضايا عندهم ممنوعة بل ممتنعة، إذ مفهوم الكاتب هو المصور للمعاني والمنقش للحقائق، وليست حركة الأصابع داخلة في مفهومه، ولا من شرطه تحريك الأنامل، فرب كاتب عندهم كالكرام الكاتبين لم تتحرك أصابعه عند الكتابة، بل ثم كاتب لم تتغير ذاته ولا صفاته ولا كتابته وفعله، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة، تعالى ذاته وصفاته وقضاؤه عن التبديل والتحويل، كما قال:
فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا
[فاطر:43]. وكذا في الوجود أفلاك نورية عقلية يعرفها أهل الله، غير متحركة ولا ذات وضع هي السموات العلى، وكذا في الوجود أرض بيضاء نيرة ليست كهذه الأرض. كدرة ثقيلة يابسة ذات لون غبراء يعرفها الربانيون من الحكماء، كما ورد في الحديث: إن لله أرضا بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما، هي مثل أيام الدنيا ثلاثون مرة، مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض، ولا يعلمون أن الله خلق آدم وإبليس.
وإليه الإشارة بقوله تعالى
يوم تبدل الأرض غير الأرض
[إبراهيم:48] فكذلك حكم الراحم حيث تصحبه ها هنا رقة القلب لخصوصية المادة، لا لضرورة المعنى الموضوع له، ألا ترى أن أفاعيل الإنسان - سيما النفسانية - صادرة من النفس، وإطلاق الأسماء المشتقة منها عليها على سبيل الحقيقة دون المجاز؟ فإذا نسبت الرحمة إلى النفس وحكم عليها بأنها راحمة، لم يكن عند أهل اللغة مجازا، مع أنها جوهر غير جسماني، فاستقم في هذا المقام، فإنه من مزال الأقدام، وكن متثبتا على صراط التحصيل، غير منحرف إلى جانبي التشبيه والتعطيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
مكاشفة
اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وماهية، فوجود الغضب ايضا من رحمة الله على عين الغضب، فعلى هذا سبقت رحمته غضبه، لأن الوجود عين الرحمة الشاملة للجميع، كما قال سبحانه:
ورحمتي وسعت كل شيء
[الأعراف:156] ومن جملة الأعيان والماهيات التي نالتها كلهال الرحمة الوجودية هو عين الغضب والانتقام. فبالرحمة أوجد الله عين الغضب فيكون أصله خيرا وكذا ما يترتب عليه من الآلام والأسقام والبلايا والمحن وأمثالها مما لا يلائم بعض الطبائع، وإليه أشار عليه وآله السلام بقوله: الخير كله بيديك والشر ليس اليك. ومن أمعن النظر في لوازم الغضب من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك، يجدها كلها بما هي أعداما أو أمورا عدمية معدودة من الشرور وأما بما هي موجودات فهي كلها خيرات فائضة من منبع الرحمة الواسعة والوجود الشامل لكل شيء فعلى هذا يجزم العقل بأن صفة الرحمة ذاتية لله تعالى وصفة الغضب عارضية ناشية من أسباب عدمية.
إما لقصور الوجودات الإمكانية عن الكمال بحسب درجات بعدها عن الحق القيوم أو لعجز المادة عن قبول الوجود على الوجه الأتم فينكشف عند ذلك ان مآل الكل إلى الرحمة كما ورد في الحديث فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين.
قال الشيخ العربي في الفتوحات المكية: واعلم أن الله يشفع من حيث أسماؤه، فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهار وشديد العقاب ليرفع عقوبته عن هؤلاء الطوائف. فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط، وقد نبه الله تعالى على هذا المقام فقال
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85] فالمتقي إنما هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد، فسمي جليسه متقيا منه، فيحشره الله من هذا الاسم إلى الاسم الذي يعطيه الأمان مما كان خائفا منه، ولهذا يقول (صلى الله عليه وآله) في باب الشفاعة: وبقي أرحم الراحمين. فهذه النسبة، تنسب الشفاعة الى الحق من الحق من حيث أسماؤه. انتهى كلامه.
حكى الشيخ العراقي في رسالته المسماة باللمعات انه: سمع أبو يزيد البسطامي هذه الآية:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85] فشهق شهقة وقال: من يكون عنده كيف يحشره إليه. وجاء آخر فقال: من اسم الجبار إلى اسم الرحمن ومن القهار الى الرحيم. انتهى.
أقول: إنما أشار العراقي بقوله: وجاء آخر: إلى الشيخ المذكور الذي نقلنا كلامه المشار إليه سابقا.
واعلم أن معرفة أسماء الله تعالى علم شريف ذوقي، ومشرب عظيم دقيق، قل من الحكماء من تفطن بعلم حقائق الأسماء، إلا من كوشف بكون وجوده تعالى بأحديته الجمعية كل الموجودات قبل حصولها، وان عالم أسمائه عالم عظيم الفسحة، فيه صور جميع الأعيان والماهيات، وسنذكر نبذا من هذا المقام في مستأنف الكلام، عند بيان قوله تعالى:
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31] فانتظره موفقا انشاء الله.
[1.2]
قوله جل اسمه:
{ الحمد لله }
قيل: الحمد والمدح والشكر ألفاظ متقاربة المعنى . كما ان مقابلاتها وهي الذم والهجاء والكفران كذلك. وقيل: الأولان مترادفان. وقيل: بل الحمد أخص منه لأنه مختص بالإختياري. وقيل: الأخيران مترادفان. فيقال: الحمد لله شكرا. فنصبه على المصدرية يقتضي وضع أحدهما موضع الثاني، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. والحق ان بين الحمد والشكر تعاكسا في العموم والخصوص بحسب المورد والمتعلق، فان مورد الحمد هو اللسان، سواء كان بازاء النعمة الواصلة أم لا. وأما الشكر فهو على النعمة خاصة، ومورده يعم الجنان واللسان والأركان كما قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
فالحمد إحدى شعب الشكر بوجه، وانما جعل رأس الشكر والعمدة فيه، كما في قوله (صلى الله عليه وآله): الحمد رأس الشكر. وقوله (عليه السلام): ما شكر الله من لم يحمده، لكونه أشيع للنعمة، وأدل على مكانها، وأنطق للإفصاح عن بعض خفياتها في عالم الحس، لخفاء عمل القلب وعقائده، ولما في آداب الجوارح من الإحتمال.
ولما كان الحمد من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا يكاد يستعمل معها، فأصله النصب، والجملة فعلية، وإنما عدل به إلى الرفع بالابتدائية، والظرف خبره، والجملة إسمية للدلالة على ثبات الحمد ودوامه دون تجدده وحدوثه، ومنه قوله تعالى:
فقالوا سلاما قال سلام
[هود:69] للدلالة على أن إبراهيم (عليه السلام) حياهم تحية أحسن من تحيتهم، لكون الإسمية دالة على معنى الثبات دون الفعلية.
وقرأ الحسن: الحمد لله باتباع الدال اللام، وابن عيلة بالعكس، والباعث لهما تنزيل الكلمتين المستعملتين معا منزلة كلمة واحدة.
فصل
[حقيقة العمد]
ما مر من تخصيص الحمد باللسان، وكون الثناء باللسان عمدة أفراد الشكر، إنما هو في نظر الحس - كما أومأنا إليه - وبحسب ما هو المتعارف عند المحجوبين، وأما في عرف المكاشفين، فالحمد نوع من الكلام، وقد مر ان الكلام غير مختص الوقوع باللسان، ولهذا حمد الله واثنى على ذاته بما هو أهله ومستحقه، كما قال النبي (عليه وآله السلام): لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
وكذا يحمده ويسبحه كل شيء، كما في قوله تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء:44]. فحقيقة الحمد عند العارفين المحققين، اظهار الصفات الكمالية، وذلك قد يكون بالقول كما هو المشهو رعند الجمهور، وقد يكون بالفعل، وهو كحمد الله ذاته، وحمد جميع الأشياء له، وهذا القسم أقوى، لأن دلالة اللفظ من حيث هو لفظ دلالة وضعية قد يتخلف عنها مدلولها، ودلالة الفعل - كدلالة آثار الشجاعة على الشجاعة، وآثار السخاوة على السخاوة - عقلية قطعية لا يتصور فيها تخلف، فحمد الله ذاته، وهو أجل مراتب الحمد، هو ايجاده كل موجود من الموجودات، فالله جل ثناؤه حيث بسط بساط الوجود على ممكنات لا تعد ولا تحصى، ووضع عليه موائد كرمه التي لا تتناهى، فقد كشف عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأظهرها بدلالات عقلية تفصيلية غير متناهية.
فإن كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارة مثل هذه الدلالات، كما وقع التنبيه عليه في الحديث المنقول سابقا.
فايجاده تعالى كل موجود، هو الحمد بالمعنى المصدري، بمنزلة التكلم بالكلام الدال على الجميل، ونفس ذلك الموجود هو الحمد بالمعنى الحاصل بالمصدر؛ فإطلاق الحمد على كل موجود، صحيح بهذا المعنى، وكما ان كل موجود حمد، فهو حامد أيضا لاشتماله على مقوم عقلي وجوهر نطقي، كأرباب الأنواع وملائكة الطباع وغيرهم، كما تقرر في موضعه، ولذلك عبر في القرآن عن تلك الدلالة العقلية منه بالنطق في قوله تعالى:
أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء
[فصلت:21].
وكذلك جميع الموجودات من حيث نظامه الجملي حمد واحد وحامد واحد، لما قد ثبت ان الجميع بمنزلة إنسان واحد كبير له حقيقة واحدة وصورة واحدة وعقل واحد، وهو العقل الأول الذي هو صورة العالم وحقيقته، وهو الحقيقة التمامية المحمدية، فأجل مراتب الحمد وأعظمها هي المرتبة الختمية المحمدية القائمة بوجود الخاتم (ص) من حيث وصوله إلى المقام المحمود الموعود في قوله:
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
[الإسراء:79]. فذاته المقدسة أقصى مراتب الحمد التي حمد الله بها ذاته، ولذلك خص بلواء الحمد، وسمي بالحماد والأحمد والمحمود من مشتقات الحمد كما قيل.
ولا يخفى عليك، أن القول بأن حقيقته (صلى الله عليه وآله) أقصى مراتب الحمد، لا ينافي كونه بحسب وجوده العنصري أحد أجزاء العالم الكبير، من حيث ان دلالة جميع الموجودات على جميل صفات الله تعالى أقوى من دلالة موجود واحد هو جزء العالم عليه، وذلك لأن الإنسان الكامل له أطوار متفاوتة ونشآت متنوعة، فله (صلى الله عليه وآله) جميع المقامات والنشآت، ففي وقت ومقام له أن يقول:
إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف:110]. وفي وقت ومقام له أن يقول: لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقوله: من أطاعني فقد أطاع الله ومن أبغضني فقد أبغض الله.
وكونه أقصى مراتب الحمد إنما يتحقق في مقامه الجمعي الأخروي الذي هو المقام المحمود، ولهذا قال - كما روي عنه (صلى الله عليه وآله) - فيلهمني الله محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد.
مكاشفة
لما تقرر ان جميع مراتب الموجودات روحا وجسما عقلا وحسا بجميع الألسنة قولا وفعلا وحالا، يحمدونه تعالى، ويسبحونه ويمجدونه في الدنيا والآخرة بحسب الفطرة الأصلية، ومقتضى الداعية الذاتية، ولا شك ان لكل فعل غريزي غاية ذاتية وباعثا أصليا، وقد تقرر ان ذاته تعالى غاية الغايات ونهاية الرغبات، فعلى هذا قوله: الحمد لله، يمكن أن يكون إشارة إلى مبدأ الوجود وغايته، سواء كانت اللام في " الله " للغاية أو للاختصاص، فمعناه على الأول: أن حقيقة الوجود وجنسه، إذا كان التعريف في الحمد للجنس، أو الوجود كله، إذا كان للاستغراق - كما قيل - لأجل استكمالها بمعرفته تعالى ووصولها إليه.
ومعناه على الثاني: ان حقيقة الوجود، أو جميع أفراده لله تعالى، وإذا كانت هي له تعالى كان هو تعالى لها أيضا، لقوله (صلى الله عليه وآله): من كان لله كان الله له، فذاته تعالى علة تمامية كل شيء، وغاية كمال كل موجود، إما بلا واسطة، كما للحقيقة المحمدية التي هي صورة نظام العالم وأصله ومنشأه، وإما بواسطة فيضه الأقدس، ووجوده المقدس، كما لسائر الموجودات. وفيه سر الشفاعة ولواء الحمد.
قوله جل اسمه:
{ رب العالمين }
الرب: إما صفة، وإما مصدر وصف به مبالغة كالعدل. سمي به السيد المطاع كقول لبيد: وأهلكن يوما رب كندة وابنه. أي سيد كندة. والمالك كقوله (صلى الله عليه وآله) لرجل: أرب غنم أنت أم رب إبل؟ فقال: من كل ما آتاني الله فأكثر وأطيب، والصاحب كقول أبي ذؤيب:
قد ناله رب الكلاب بكفه
بيض رهاب ريشهن مقرع
أي صاحب الكلاب. وغير ذلك.
واشتقاقه من " التربية " وهي: تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا، كقولهم: رب الدار، ورب الناقة. وقول الإشراقيين للصورة المفارقة للطبائع الجسمانية رب النوع. وقوله تعالى:
ارجع إلى ربك
[يوسف:50].
إنه ربي أحسن مثواي
[يوسف:23].
وقرأ زيد بن علي (عليه السلام) بالنصب، على المدح، أو النداء، أو بفعل مضمر دل عليه الحمد.
والعالمون: جمع عالم وهو جمع لا واحد له من جنسه كالنفر والرهط.
واشتقاقه: إما من العلامة، فهو اسم لما يعلم به كالخاتم لما يختم به، والقالب لما يقلب به، غلب فيما يعلم به صانعه، وإما من العلم لأنه يقع على ما يعلم وهو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العلماء من الملائكة والثقلين، وإنما جمع ليشمل كل جنس من مسماه. وغلب العقلاء فيهم، فجمع لمعنى وصفهم فيه بالواو والنون، وقيل: العالم، لنوع ما يعقل، وهم الملائكة والجن والإنس. وقيل هم العقلاء خاصة لقوله تعالى:
ليكون للعالمين نذيرا
[الفرقان:1]. وقيل: هم الإنس لقوله:
أتأتون الذكران من العالمين
[الشعراء:165].
وفي المتعارف بين الناس، هو عبارة عن جميع المخلوقات من الجواهر والأعراض وقد دلت عليه الآية
قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهمآ
[الشعراء: 23 - 24].
وفي تفسير البيضاوي: وقيل عنى به الناس ها هنا، فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع، كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير، ولذلك سوى بين النظر فيهما، وقال تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات:21] انتهى.
أقول: كون كل واحد من أفراد الناس أو أكثرهم مشتملا على نظائر ما في العالم الكبير كلا أو جلا، محل نظر، فرب إنسان لم يتجاوز عن حدود البهيمية إلى درجة العقل، واشتماله على بعض نظائره غير مختص بالإنسان. ويمكن أن يراد بالعالمين ههنا العلماء من الإنسان، أما على عرف أصل اللغة فظاهر، وأما على المعارف بين الناس، فلأن كل عالم - بالكسر - عالم - بالفتح - اما باعتبار ان فيه من كل ما في العالم الكبير شيء، لأن نشاته الكاملة مظهر جميع الأسماء والصفات الإلهية ومجمع كل الحقائق الكونية، كما يعرفه متتبعوا آيات الآفاق والأنفس، فيكون أنموذجا لجميع ما في العالم، فهو بهذا الاعتبار عالم صغير، ولذلك سمي بالعالم الصغير، فكأنه كتاب مختصر منتخب من جميع العالم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، كما ان القرآن مع وجازته مشتمل على جميع ما في الكتب السماوية، وإما باعتبار انه إذا برز باطنه إلى عالم الآخرة وحشر إلى ربه، يصير علمه عينا، وغيبه شهادة، فكل ما يخطر بباله من الأفلاك والعناصر والجنات والأنهار والحور والقصور وغير ذلك، يكون موجودا في الخارج من غير مضايقة ومزاحمة فله من كل ما يريده ويشتهيه، ولو كان أعظم من هذا العالم بكثير، فهو بهذا الاعتبار عالم كبير برأسه، ليس جزءا من أجزاء هذا العالم، ولهذا سمي بالعالم الكبير، بل بالعالم الأكبر أيضا نظرا إلى هذا.
وتسميته بالعالم الصغير، إنما وقع نظرا الى الاعتبار الأول، فعلى ما بينا زال الإشكال الذي ورد ها هنا من أن الإنسان من العالم، فكيف يزيد على الكل.
وقد تكلف بعض أهل النظر، ممن يريد أن يطير مع الطيور السماوية بأجنحة عملية صنعها بيديه وألصقها بجنبيه في دفع هذا الإشكال بهذا المقال وهو: أن أهل الذوق يجعلونه من حيث الوجود الخارجي وما يشتمل عليه من الأجزاء والأحوال، جزءا من العالم حتى يكون العالم الصغير الذي يكون الإنسان كبيرا بالنسبة إليه هو الموجودات الخارجية ، والعالم الكبير هو الإنسان بجميع ما يشتمل عليه من الموجودات الخارجية والذهنية، فيزيد على العالم بالموجودات الذهنية، ثم اعترض على نفسه اعتراضا واردا لا مدفع له بقوله:
فإن قلت: العالم الكبير أيضا يشتمل على الموجودات الذهنية، إذ العقول والنفوس الفلكية ناطقة مدركة للأشياء كما هو المشهور بين الفلاسفة. فأجاب عنه بقوله: قلت: أما العقول فلا احساس لها مطلقا. وأما النفوس الفلكية فلا احساس لها بالحواس الظاهرة. انتهى.
أقول: ولا يخفى ما فيه من الركاكة، فإنه على تقدير صحته، لا يثبت إلا كونه كبيرا بالنسبة إلى العقول والنفوس، لا بالنسبة إلى مجموع العالم المشتمل على العقول والنفوس الكلية المدركة للكليات، وعلى النفوس الجزئية الحيوانية المدركة للجزئيات، فالحق ما ذكرنا، من أن الإنسان الكامل عند خروج روحه عن مشيمة هذه العالم، ونشر صحيفة ذاته، يكون كما أشار إليه أبو يزيد البسطامي بقوله: لو أن العرش وما حواه ألف مرة وقع في زاوية قلب العارف لما ملأه، وقد أشار بعض أكابر العارفين في نظمه إلى هذا المعنى حيث قال:
يا خالق الأشياء في نفسه
انت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه
فيك فأنت الضيق الواسع
من وسع الحق فما ضاق عن
خلق فكيف الأمر يا سامع
فقوله: من وسع الحق، إشارة الى الحديث القدسي المشهور، أعني
" قوله سبحانه: ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ".
تنبيه
[في ان العالم دائم الحدوث]
ذكر البيضاوي أن فيه دليلا على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها، فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقاءها، بناء على ما ذكر سابقا من ان معنى التربية تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا.
وأقول: ليس فيه دليل على ذلك، إذ الشيء التدريجي لما كان حصوله على هذا الوجه، فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه، فالنامي مثلا، زمان نموه من أول نشوه إلى منتهى كماله المقداري هو زمان حدوث مقداره الحاصل له شيئا فشيئا، وكفعل الصلاة فإن زمانه من لدن أول تكبيرة الافتتاح، إلى آخر تسليمة الاختتام، كله وقت الحدوث لا وقت البقاء. نعم، فيه دليل على أن العالم تدريجي الحصول، متدرج في التكون.
ونحن قد أثبتنا في العلوم البرهانية حدوث العالم، بإقامة البراهين القطعية على أن جواهر هذا العالم، والصور الطبيعية للأجرام السماوية والاسطقسية، كلها تدريجية الكون، سيالة الحصول، غير قارة الوجود، كالحركة المتصلة ومقدارها من الزمان، وهذا التحقيق من المطالب الشريفة، اختص بدركها القلوب المنورة بنور الايمان والتابعية، دون النفوس المقتصرة على الأنظار الكلامية والآراء الفلسفية، وبه يظهر السر وينكشف الأمر، في أن خلق السموات والأرض وما بينهما، لماذا كان في ستة أيام، كما سيجيء بيانه في موضعه.
[1.3]
قوله جل اسمه:
{ الرحمن الرحيم }
آية قد مضى تفسيرها. وإنما وقع ذكرها ثانيا للمبالغة والتأكيد. أو لأن في الأول ذكر الإلهية، فوصل بذكر النعم التي بها يستحق العبادة، وها هنا ذكر الحمد، فوصله بذكر ما يستحق به الحمد والشكر على النعم، فليس فيه تكرار.
[1.4]
قوله جل اسمه:
{ ملك يوم الدين }
قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب بالألف، والباقون بغيره. وقرئ بتسكين اللام. وقرئ بلفظ الفعل ونصب اليوم. وقرئ مالك - بالفتح - وملك - كذلك - على المدح أو الحالية، ومالك - بالرفع منونا ومضافا - على أنه خبر مبتدأ محذوف. وملك كذلك.
قيل: المختار بغير الألف لأنه أمدح، ولأنه قراءة اهل الحرمين، وقوله:
لمن الملك اليوم
[غافر:16]. ولقوله:
ملك الناس
[الناس:2]. ولأن الملك يعم والملك يخص. ولأنه لا يكون إلا مع القدرة الكثيرة والاحتواء على الجمع الكثير بالسياسة والتدبير.
ولمن قرأ بالألف أن يقول: إن هذه الصفة أمدح، لأنه لا يكون مالكا للشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون ملكا للشيء ولا يملكه. وقد يدخل في الملك ما لا يصح دخوله في الملك يقال: فلان مالك البهائم. ولا يقال: ملك البهائم.
ومن هذا ظهر ان الوصف بالملك أعم من الوصف بالملك، ولأنه تعالى مالك كل شيء وصف نفسه بأنه:
مالك الملك
[آل عمران:26].
والحق، أن لكل من الوصفين شيئا من الفضيلة بحسب المفهوم على الآخر، والله متصف بكمال كل من الملك والملك.
ويوم الدين، بمعنى يوم الجزاء، ومنه " كما تدين تدان، واضافة ملك إلى الزمان كما يقال: ملوك الزمان وملوك الدهر، وملك زمانه وسيد عصره، فهو في المدح أبلغ، ومعناه: ملك الأمور يوم الدين، إجراء للظرف مجرى المفعول به على الاتساع، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. ومن هذا القبيل
ونادى أصحاب الجنة
[الأعراف:44].
اعلم إن إضافة اسم الفاعل، إذا أريد به معنى الحال أو الاستقبال، لا تكون حقيقة معطية للتعريف، فلم يجز وقوعه صفة للمعرفة، فكان في تقدير الانفصال. وأما إذا اريد به معنى المضي أو الاستمرار كانت حقيقية، فالأوليان كقولك: مالك الساعة. ومالك غد. والأخيرتان كقولك: زيد مالك عبده أمس. وهو مالك العبيد. وهذا هو المراد في { مالك يوم الدين }.
مكاشفة
ايجاد الأشياء إما على سبيل التكوين، كخلق الأبدان وما في حكمها بحسب النشأة الأولى، وإما على سبيل الابداع، كانشاء الأرواح وما في حكمها بحسب النشأة الثانية. والله تعالى خالق الخلق والأمر جميعا، مالك الملك والملكوت، ملك الدنيا والآخرة، فلما أشار إليهما بذكر صفتي الرحمانية والرحيمية بعد الدلالة على اختصاص الحمد به، وانه به حقيق لاستجماعه جميع الصفات الكمالية، بين كيفية الخلق في الدنيا بقوله: { رب العالمين } ، لما مرت الإشارة إليه، من أن هذا العالم الدنيوي وجوده إنما يكون على سبيل التدرج والحدوث شيئا فشيئا. وبين كيفية إنشاء النشأة الأخرى بقوله: { مالك يوم الدين } ، إذ الملك الحق من له ذات كل شيء ولا يغيب عنه شيء أصلا. فيكون وجود الأشياء عنه وله دفعة من غير تراخ، وهذا معنى الابداع، والأول معنى التكوين.
وإنما سمي يوم الآخرة يوم الدين، لأن فيه وصول الأشياء إلى غاياتها الذاتية، وثمراتها التي هي بمنزلة الجزاء والأجرة على الأعمال لقوله تعالى:
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت
[غافر:17] ولهذا قيل: الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء، كما في قوله
هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق
[يونس:30] لأن الأولى عالم الحركات والإنقلاب في الأطوار، والأخرى هي الموطن والمأوى، وهي دار القرار ومنزل الأبرار والأشرار.
ولهذا قال أبو علي الجبائي: أراد بيوم الدين، يوم الجزاء على الدين وقال محمد بن كعب: أراد يوم لا ينفع إلا الدين.
نكتة اخرى
فيها الإشارة الى اختصاص يوم القيامة بذكر الملك فيه
يستدعي بيانه تمهيد مقدمة: هي أن
بعض الموجودات مما لا يتوقف وجوده إلا على فاعله وغايته، لكون امكانه الذاتي كافيا في فيضانه عن الفاعل الأول جل ذكره، ومنها ما هو متوقف الوجود على قابل مستعد واستعداد خاص قريب أو بعيد، مرهون بأوقاته المعينة. وله علل معدة مقربة بالمواد إلى فاعلها الحقيقي المتساوي نسبة جوده إلى الجميع في قبول الوجود منه، وكثير من الناس - حتى طوائف من المترسمين بالعلم والدراية - يزعمون أن الأسباب المعدة للأفاعيل المباشرة للتحريكات والتسكينات، إياها هي الفاعلة الموجدة لها، ويظنون لقصور النظر وكثرة الحجب وأغلاط الحواس، ان القدرة ثابتة لغير الله، لما يترائى لهم من جريان الأفاعيل على أيدي الأسباب، وظهور الأمور من الضرب والإحسان والجود والإمتنان والايلام والإنعام والقتل والتجاوز والرق والعتق وغيرها على أيدي ذوي الشوكة من الملوك والسلاطين والظلمة. ولم يعلم أحدهم - إلا العرفاء بالله خاصة - أن هذه الأسباب بمنزلة أعيان منصوبة مقرونة بما يجري عليها من صدور هذه الآثار بلا تأثير من قبلها، وأن زمام هذه الأمور كلها بيد مالك الملوك.
وإذا تقررت هذه المقدمة فنقول: لما كان هذا الاشتباه والاغترار بظواهر الآثار إنما اختص بدار الدنيا، ونشأ للناس من جهة غشاوة هذا الأدنى، وفي الآخرة يكشف الغطاء وترتفع الغشاوة عن وجوه البصائر والامتراء، ويظهر أن الكل لله ومن الله وإلى الله، قال: { مالك يوم الدين } وعلى طبق قوله:
يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا
[الدخان:41]. لا بمعنى انه يصير كذلك في ذلك اليوم بعد ما لم يكن، بل الأمر كذلك أبدا بحسب نفس الأمر، لكن لما لم يصر منكشفا على الخلائق إلا بعد بروزهم عن مكامن هذه الظلمات والغشاوات، ووصولهم إلى عالم الآخرة، فإذا برزوا من الدنيا وحشروا إلى الآخرة، شاهدوا بعين العيان ما سمعه بعضهم بسمع الإيمان، فالتفاوت إنما هو في الشعور لا في الأمر نفسه، كما توهمه العبارة، ولذلك قال قائلهم:
توهمت قدما ان ليلى تبرقعت
وان لنا في البين ما يمنع اللثما
فلاح ولا والله ثمة حاجب
سوى ان عيني كان عن حسنها أعمى
ولأن الاسباب هناك منحصرة في السبب الفاعلي والغائي - كما مر -، ولا وجود للقوى والاستعدادات في الآخرة، إذ كل ما بالقوة يصير هناك بالفعل، فالفعل لازم للفاعل بلا قابل، والله مسبب كل سبب موجود، وموجد كل فاعل لوجود؛ فقوته تعالى تقهر القوى كلها، وعند نوره ينكشف كل نور وضياء، فهو مالك جميع الأشياء، يوم يطوى فيه بساط الأرض والسماء - وها هنا تكون الأمور مرهونة بأوقاتها متعلقة الوجود بالقوابل واستعداداتها - كما قال
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر:16].
[1.5]
قوله جل اسمه:
{ إياك نعبد وإياك نستعين }
إيا ضمير منفصل للمنصوب، والروادف التي بعده من الحروف لبيان الخطاب والغيبية والتكلم، وليس لها محل من الإعراب، إذ ليست هي بأسماء مضمرة عند المحققين. وأما قول بعض العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب " فشاذ، وتقديم المفعول للدلالة على الاختصاص. فقولك للرجل: إياك أعني، معناه لا أعني غيرك: ولا شك في أنه أبلغ من أن يقول: أعنيك، كما في قوله تعالى:
قل أغير الله أبغي ربا
[الأنعام:164].
والمعنى: نخصك بالعبادة ونخصك بالاستعانة. وقرئ إياك بتخفيف الياء، وأياك بفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء وقرئ بكسر النون فيهما، وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة غير الياء إذا لم ينضم ما بعدها. والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع والتذلل، تدل على أعلى مراتب التعظيم ولا يستحقها أحد إلا باعطاء أصول النعم الذي هو خلق الحياة والقدرة والحس والشهوة. و لا يقدر عليه أحد إلا الله، فلذلك اختص سبحانه بأن يعبد، ولا تجوز العبادة لغيره، بخلاف الطاعة، فإنها قد تحسن لغيره، كطاعة الأب والمولى والسلطان والزوج، فمن قال: إن العبادة هي الطاعة، فقد أخطأ، لأنها غاية التذلل دون الطاعة، فإنها مجرد موافقة الأمر، ألا ترى أن العبد يطيع مولاه ولا يكون عابدا له؟ والكفار يعبدون الأصنام ولا يكونون مطيعين لهم؟ إذ لا يتصور من جهتهم الأمر.
فائدة
إن في تقديم إياك على نعبد وجوها:
منها: أن في هذا التقديم تنبيها منه للعابد على أن المنظور إليه في العبادة هو المعبود نفسه، لا شيء آخر، من طلب ثواب أو دفع عقاب.
ومنها: أنه قدم نفسه لتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله الحق، فلا يلتفت يمينا وشمالا، ولا يتكاسل في الطاعات، ولا يثقل عليه تحمل العبادات من الركوع والسجود، فإنه إذا ذكر قوله: إياك، يحضر في قلبه معرفة الرب تعالى، فبعده سهلت عليه تلك الطاعات، وهانت عليه مشقة العبادات، ومثاله: من أراد حمل جسم ثقيل، يتناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة. فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة، يتناول أولا معجون معرفة الربوبية من قوله اياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية.
ومنها: أنك إذا قلت: نعبدك، بتقديم ذكر العبادة منك، فقبل أن تذكر أنها لمن هي، فيحتمل أن الشيطان يقول: إنها للاصنام، أو للأجسام كالشمس والقمر: أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولا: إياك، ثم قلت ثانيا: نعبد. فلم يبق مجال لهذا الاحتمال، وكان أبلغ في التوحيد، وأبعد عن احتمال الإشراك.
ومنها: أن المعبود متقدم في الوجود والشرف على الممكن، وكان ينبغي أن يكون ذكره متقدما على ذكر غيره.
فائدة اخرى
[سر الالتفات من الغيبة الى الخطاب]
اعلم أن الدنيا لما كانت دار التعب والكلال، والسآمة والملال، فمن عادة فصحاء العرب التفنن في الكلام، والعدول من طرز إلى طرز، تنشيطا للسامع، وتنبيها لذهنه عند العدول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب الى التكلم، وبالعكس. وهذا أحسن من الجري على نسق واحد، واللزوم لمسلك متكرر ومع ذلك، قد تختص مواقع الالتفات بزوائد فوائد من النكات، لا تحصل بدونه. وها هنا من هذا القبيل، إذ قد تقرر في العلوم الإلهية، ان شدة الإدراك، وتأكد الصورة العلمية في الوضوح والانارة ، وقوة الشوق الى المدرك ورسوخه، يوجبان حضور المعلوم، ولهذا قيل: المعرفة بذر المشاهدة والرؤية ثمرة اليقين.
فلما ذكر الله تعالى، وأجريت عليه صفات كمالية ونعوت إلهية من كونه حقيقا بالحمد، رب العالمين، موجدا للكل، منعما عليهم بالنعم كلها، جليلها ودقيقها، دنيويها وأخرويها، محسوسها ومعقولها، مالكا لامورهم يوم الجزاء واللقاء، تميزت بها ذاته عن سائر الذوات، وتنور القلب بأنوار معرفة هذه الصفات، وفتحت البصيرة بكشف هذه الآيات، وتعلق العلم بمعلوم معين حاضر حضورا إشراقيا، فخوطب بالكلام: يا من هو بالحمد حقيق، وبهذه الصفات الكمالية يليق، نخصك بالعبادة والاستعانة. ليكون الخطاب أدل على هذا الاختصاص، ولاستجلاب مزيد قرب بعد قرب في هذا التذلل والانكسار، وطلب معونة من قربه على قربه، لأن ذاته غير متناه في شدة الوجود وقوة البهاء والعظمة، لا يمكن الاكتناه بنور وجوده، فكلما كوشف للسالك، كان المستور منه بستر الجلال وسرادق الكبرياء أعظم بما لا نسبة بينهما، إذ المنال والمشهود هناك بقدر قوة نظر الطالب ونور بصيرته، لا بحسب المطلوب نفسه، وكلما ازداد في القرب ازداد في الاشتياق، ويكون أحوج إلى طلب المعونة لزيادة المشاهدة وكسب الإشراق، فكان أول الكلام مبنيا على ما هو بداية أمر السالك من الأذكار والأفكار، والتأمل في الأسماء والنظر في الآلاء والنعماء، طلبا للاستبصار، وتقربا الى مشاهدة نور الأنوار، واستدلالا من صنائعه على أسمائه وصفاته، ومن أسمائه وصفاته على انوار جماله وأسرار جلاله ثم صار مؤديا إلى منتهى سيره وغاية سفره إلى الحق، وهو كونه ممن يخوض لجة الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عيانا، ويشاهده كفاحا، ويشافهه شفاها، كما أشار إليه صاحب الإشارات، المرتقي بصفاء ضميره عن درجة أهل العبادات، الواصل الى مقامات العارفين ودرجات المكاشفين، كما يفصح عنه قوله: " وهناك " أي عند الخوض في لجة الوصول والسفر في بحر الحقيقة بعد العبور على منازل العقول " درجات ليست أقل مما قبلها " بحسب كثرة العجائب، وفنون الغرائب، وتمادي الأسفار، وتباعد المراحل، وتفاوت المنازل، لأن كل حقيقة من الحقائق الكونية، وكل صورة من الصور الكمالية الوجودية، التي هي ثابتة للموجود بما هو موجود في شيء من العوالم، فهي هناك بالفعل على وجه أعلى وأشرف وأتم، من غير لزوم تكثر، وتطرق تغير في الحضرة الأحدية، فالذات الأحدية أرض كل الحقائق، وسماء أنوار الهويات، يقع فيه سير المسافرين، ويدور عليه أنوار السائرين، من الله مشرقها، وإلى الله مغربها، إذ ما شأنه أن يعاين بحق اليقين وعينه، فكيف يمكن أن يدرك بعلم اليقين أو دونه؟
إلا ان البيان قاصر عن وصفه، واللسان يكل عن نعته، ولهذا قال صاحب المقامات - اعتذارا عن بيان أحوال هذا المشهد-: " آثرنا الاختصار فإنها لا يفهمها الحديث ولا تشرحها العبارة ولا يكشف عنها المقال غير الخيال، من أحب أن يتعرفها فليتدرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة، ومن الواصلين إلى العين دون السامعين للاثر " انتهى كلامه.
ونحن أيضا قد آثرنا الاختصار في مقام خرست فيه السن الفصحاء، واتبعنا قول سيدنا ونبينا (عليه وآله الصلاة والدعاء): إذا بلغ الكلام إلى الله فامسكوا.
بصيرة
[سر تقدم اياك نعبد على اياك نستعين]
اعلم إن الانسان مركب من جسد كالمركب وروح كالراكب، وهو منذ خلقه الله في سفر الآخرة، وغاية سفره لقاء الله، لهذا خلق وعليه فطر وجبل، وهو المقصود من الروح، والمقصود من الجسد اكتساب المنافع واقتناء الخيرات والتخلص عن الشرور والآفات. وهو المعني بالعبادة والخدمة.
فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتيا بالأعمال المقربة للروح إلى الله، تعظيما للمعبود وخدمة له، وهو أول درجات السعادة للإنسان، وهو المراد بقوله تعالى: { إياك نعبد }.
وأفضل أحوال الروح أن يكون مرتبطا بالحق، متعلقا به، منقطعا عن غيره، متجردا عن الدنيا وما فيها، فإذا واظب على تحصيل هذه المرتبة، وداوم على تجريد ذاته وتخليصها عن العلائق المادية والغواشي الدنيوية، فعند ذلك يظهر له شيء من أنوار القدس ولوامع الغيب، فإذا تنورت ذاته بنور المعرفة والعبادة، يعلم أن مبدء شوقه إلى عالم الملكوت، ومحرك ذاته لطلب التقرب إليه تعالى، لم يكن ولا يكون إلا الله مقلب القلوب ومحرك النفوس، وأنه بنفسه لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والتدرج على هذه الدرجات، ولا يمكنه الإتيان بتحصيل شيء من الكمالات العلمية والعملية إلا بتوفيق الله وعنايته وعصمته، وهو المراد من قوله تعالى: واياك نستعين.
وفيه ايضا حجة لأهل التوحيد الأفعالي، قال بعض العرفاء الموحدين: ولولا أن العبد ادعى الاستطاعة في الأفعال والاستقلال بها، لما أنزل الله عليه تكليفا قط، ولا شريعة، ولهذا جعل حظ المؤمن من هذه الدعوى أن يقول: اياك نستعين، وحظ العفراء المكاشفين ممن وقع عنهم التبري من الأفعال الظاهرة وجودها منهم أن يقولوا: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، فهذا القول لا يصدر على وجه الصدق إلا عن اولئك الكاملين العارفين بها التوحيد الأفعالي، فهو لهم خاصة دون غيرهم، فكم بين الحالين من التبري والدعوى.
فالمدعي مطالب بالبرهان على دعواه، والمتبري غير مطالب بذلك. ولا تقل: إن التبري أيضا دعوى، فإن التبري لا يبقي شيئا، وعلى ذلك ينطلق إسم المتبري - انتهى كلامه.
وبالجملة فالمراد من قوله: اياك نستعين، طلب الهداية لأقرب المناهج وأقوم الطرق إلى الله، كما وقع الافصاح عنه بعد هذه الآية بما يتلوها.
بصيرة اخرى
[الإشارة إلى السفر الثالث من الأسفار الأربعة]
الضميران المستكنان في هذين الفعلين، إما للنبي (صلى الله عليه وآله) وأمته أو للإمام وحاضري صلاة الجماعة معه. أو للقاري ومن معه من الحفظة أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم، وخلط حاجته بحاجاتهم، لعلها تقبل ببركاتها وتجاب إليها؛ كادراج البائع غير الرائج في جملة الرائج في بيع الصفقة، ومن ها هنا يعلم سر شريعة الجماعات.
ولتقديم ضمير المعبود والمستعان به وجوه أخرى غير ما ذكر، كالتعظيم، وتقديم ما هو مقدم في الوجود، وللاشارة إلى أن نظر العابد والتفاته ينبغي أن يكون مقصورا على ذات المعبود أولا وبالذات، ثم إلى العبادة، لأنها وسيلة ووصلة بينه وبين الحق، فمن كان غرضه من المعرفة والعبادة نفسه أو نفس شيء منهما، فهو ليس من الموحدين ولا من العابدين، لأنه يعبد غير الله ، وهذه حال المتبجح بزينة ذاته، وإن كان بمعرفة الحق، وأما من عبد الله وغاب عن ذاته وعن عبادته، فهو مستغرق في العبودية لله بما هي عبودية له، وانتساب إليه، نسبة الفقر والحاجة التي هي من أشرف النسب. فإن قصارى مجهود العابدين تصحيح هذه النسبة ومن كانت هذه حالته في العبادة فهو من الواصلين لا محالة. اذ ملاحظة النسبة بما هي نسبة عين ملاحظة المنسوب إليه، فهو بالحقيقة مستغرق في ملاحظة جناب القدس وغائب عن ما سواه، حتى أنه لا يلاحظ نفسه، ولا حالا من أحوال نفسه إلا من حيث إنها ملاحظة له ومفتقرة إليه. ولهذا رجح قول حبيب الله:
لا تحزن إن الله معنا
[التوبة:40]. على قول كليمه:
إن معي ربي سيهدين
[الشعراء:62].
وبالجملة، أشرف منازل السالكين مقام الفقر ومنزل العبودية. والسبب العقلي فيه: ان جميع الموجودات قابلة للرحمة الإلهية، والكمال الوجودي بحسب فطرتها الإمكانية، وإنما المانع منها عن قبول الفيض الأتم والجود الأشمل، هو تقيده بقيد خاص وتصوره بصورة وجودية مخصوصة تضاد قيدا آخر وصورة وجودية أخرى، فبقدر تخلصه عن قيده الجزئي، وانخلاعه عن صورته المخصوصة، يستحق لكمال أتم وأعم، وصورة جودية اشمل وأكمل، فإذا تجرد عن كل ما سوى الله، وغاب عن كل اسم ورسم وحلية وصفة وحول وقوة، كان الله له بدلا عن جميع ذلك، فصار الحق حوله وقوته وسمعه وبصره ويده ورجله وجميع قواه وجوارحه - كما ورد في الحديث القدسي - من غير تغير وتكثر في ذاته وصفاته تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ولهذا أمثلة كثيرة:
منها: أن الهيولى الأولى للاجسام، لما كانت في ذاتها عارية عن كل صورة حسية وصفة جسمانية، قبلتها كلها، بخلاف المواد الثانوية لها، فإنها من حيث استعدادها الخاص لا تقبل إلا صورة واحدة، فكذلك النفس الإنسانية التي هي هيولى العقليات، من شأنها أن تقبل سائر الصور العقلية والكمالات الملكوتية والأخلاق الحسنة كلها، إلا ان تقيدها ببعض الصفات، واحتجابها بحجب بعض الملكات يمنعها عن الاتصال بما فوقها.
ومنها: أن العناصر إذا امتزجت وتفاعلت وانفعل كل منها عن صاحبه، انكسرت كيفياتها، وكادت تخلع عنها صورها المتضادة الجزئية، فعند انكسارها وشدة افتقارها إلى ما يحفظها عن الفساد، فاض عليها المبدأ الجواد بصورة كمالية جامعة لكمالات تلك الصور المتعددة بوحدتها الجمعية، وقس عليها حال النفوس المتعددة عند اجتماعها في بيوت العبادة ومجالس العلم والذكر، وتركها شواغلها الدنيوية، كيف تفاض عليها بركة الهيئة الجمعية، وتنكشف عليها صورة المسالة العلمية التي هي أشرف من تلك الشواغل.
ومنها: أن الجسم الملون الكثيف، إذا زال بالتصقيل لون سطحه وضوؤه، قبل بعد ذلك لون كل ما يقابله وضوءه وما ذلك إلا لأن الجسم الصقيل لا لون له ولا ضوء له بالفعل، مع أنه من شأنه أن يكون ذا لون وضوء لكونه كثيفا.
ومنها: أن الجسم المشف من شأنه قبول الألوان كلها، وإذا اتصف بلون خاص يمتنع عليه قبول غيره، يماثله أو يضاده، وأما أن الملون بغير السواد، يقبل لون السواد، فلأن غير السواد من الألوان بالقياس إلى السواد كاللالون بالقياس إلى اللون، وها هنا موضع تأمل.
ومنها: أن كلا من مواضع الشعور الخمسة خالية عن الكيفيات المحسوسة بتلك الآلة، فإن آلة البصر - وهي الجليدية - شفافة، وآلة الطعم - وهي الرطوبة اللعابية - عديمة الطعم، وآلة الشم عديمة الرائحة، وآلة السمع عديمة الصوت، وكذلك حكم آلة اللمس، فإنها وإن لم تكن خالية عن أوائل الكيفيات إلا انها متوسطة بينها، وقد تقرر إن التوسط بين الأضداد بمنزلة الخلو عنها، أو لا ترى أنك تقول للماء الفاتر: لا حار ولا بارد؟.
ولأجل خلو مادة كل من هذه القوى الحساسة عن جميع أفراد الصور التي هي واقعة تحت جنس محسوساتها، صارت قابلة للجميع من غير تأب وتعص عن قبول شيء منها، ما لم يعرض لها فساد أو مرض.
ثم إن مادة كل منها، وإن لم تكن مقيدة بصورة الكيفية التي يقع الإحساس بها من تلك الحاسة، ولكنها مقيدة بصور وكيفيات أخر من أجناس سائر المحسوسات، ولهذا اقتصر إدراكها على ما يخصها ولا يتجاوز عنه إلى المحسوسات الأربع الباقية، ولخلوص القوة المتخيلة عن هذه الكيفيات المحسوسة كلها، أدركت الجميع وأحضرتها، لأن جوهر النفس الخيالية غير مبصرة ولا مسموعة ولا مشمومة ولا مذوقة ولا ملموسة، ولها قوة قبول هذه الأشياء كلها، فلا جرم تقبلها كلها.
ومنها: أن ملكة العدالة النفسانية - التي هي عبارة عن توسط النفس الإنسانية في الشهوة بين الفجور والخمود، وفي الغضب بين الجبن والتهور، وفي القوة الإدراكية بين الجربزة والبلاهة - لما كانت بمنزلة كون النفس خالية عن الإتصاف بهذه الصفات الستة، التي كل منها هيئة نفسانية شاغلة إياها إذا كانت راسخة عن طلب الحق وسلوك الآخرة، صارت بسببها مستعدة للكمال العلمي، لأنها عند انكسار هذه القوى وانقهارها عن طلب مشتهياتها ومقتضياتها، تخلص عن انقيادها وطاعتها، فتقع لها بقوة عقلها الهيولاني، هيئة استعلائية عليها، وقوة نورية استعدادية لطاعة الحق وانقياده، وقبول أنوار المعارف الإلهية وأسرار المقاصد الربوبية، فيصير عقله المنفعل علامة بالحق، مطيعا لله تعالى.
فإذا علمت حال هذه الأمثلة، فقس عليها حال السالك العارف بالله عند عدم التفاته بما سواه، وعند كونه غير مشغول السر بغير الله، وغير متبجح بزينة ذاته من حيث هي ذاته، وإن كانت بصورة المعرفة وهيئة العبودية، بل مع غيبته عن ذاته، وغيبته عن غيبة ذاته، وفنائه عن فنائه، وحينئذ يكون باقيا ببقاء الله فوق ما كان باقيا بابقاء الله، كما كان قبل الوصول، وهذا هو مقام الفناء في التوحيد والمحو، وإليه الإشارة بقوله: { إياك نعبد }.
فإذا بقي في هذا المحو ولم يرجع إلى الصحو، كان مستغرقا في الحق محجوبا بالحق عن الخلق، كما كان قبل ذلك محجوبا بالخلق عن الحق، لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبوله التجلي الذاتي الشهودي فكذلك الموجود في مقام هذا التجلى والشهود احتجب التفصيل عن شهوده واضمحلت الكثرة في وجوده، ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وسبحات نور جلاله، لاستغراقه في بحر التوحيد، فلا ينظر إلى ما سواه ولا يستعين إلا إياه، فيقول عند ذلك: إياك نستعين. أي في مشاهدة آلائك بمشاهدة ذاتك وصفاتك فحينئذ يرجع من الحق بالحق إلى الخلق، وهذا هو السفر الثالث من الأسفار الأربعة الواقعة من الكاملين المكملين.
فإذا رجع بالوجود الحقاني الموهوب إلى حالة الصحو بعد المحو، وانشرح صدره ووسع الحق والخلق، صار منتصبا في مقام الاستقامة كما أمر الله به الرسول - صلى الله عليه وآله - في قوله:
فاستقم كمآ أمرت
[هود:112]، متوسطا في صراط الحق بين التشبيه والتعطيل، ناظرا بعين الجمع إلى التفصيل، وإليه الإشارة بقوله: { اهدنا الصراط المستقيم }.
وذلك هو الفوز العظيم، والمن الجسيم، فقوله: اياك نعبد، إشارة إلى مقام السلوك إلى الله والتقرب إليه بالعبودية التامة له، وهي مرتبة الولاية المشار إليها في قوله: لا يزال يتقرب العبد إلي النوافل حتى أحببته.
وقوله: واياك نستعين، إشارة إلى مقام الصحو بعد المحو، وهي مرتبة النبوة، المشار إليها في قوله تعالى: فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله - الحديث.
بصيرة
[سر تقديم العبادة على الاستعانة]
قيل: قدمت العبادة على الاستعانة، لتتوافق رؤوس الآي. وقيل: إن العبادة وسيلة لطلب الحاجة، وتقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأسرع للقبول.
وأقول: لما علمت أن أشرف مراتب الإنسان - بما هو إنسان - وأجل مقاماته، تحصيل نسبة الإمكان والافتقار إليه سبحانه بالعبادة والعبودية، ولهذا قدم ذكر العبودية على ذكر الرسالة في قولك: أشهد أن محمدا عبده ورسوله، وذلك لأن الأولى عبارة عن نسبة العبد إليه تعالى، والثانية عبارة عن نسبته إلى الخلق، فالأولى تكون أقدم من الثانية بالشرف، وإن كان الرسول أفضل من الولي، لكونه جامعا للمنزلتين جميعا، فكذلك الكلام ها هنا، فإن العبادة لكونها وسيلة إلى الحق، أشرف من الاستعانة لكونها وسيلة إلى الخلق.
واعلم أن في تقديم العبودية على الرسالة في التشهد وجها آخر، وهو: أن لكل من الولاية والنبوة حدوثا وبقاء، فالولاية أقدم حدوثا وأدوم بقاء من الرسالة، فناسب التقدم الوضعي للتقديم الزماني.
وجه آخر
قيل: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه، كأنه أوهم ذلك تبجحا بزينة ذاته من جهة نسبة العبادة، واعتدادا منه بما يصدر عنه، فعقبه بقوله: إياك نستعين، ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم ولا يستتب إلا بمعونة منه وتوفيق. وقيل: الواو للحال.
[1.6]
قوله جل اسمه:
{ اهدنا الصراط المستقيم }
الهداية لغة: الإرشاد بلطف، ولهذا يستعمل في الخير لا في الشر وقوله تعالى
فاهدوهم إلى صراط الجحيم
[الصافات:23]. يحتمل أن يكون على سبيل التهكم ومنه الهدية، وهوادي الوحش لمقدماتها، والفعل منه: هدى.
وقيل: معناه الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب. ونقض بقوله
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص:56].
وقيل: بل الدلالة الموصلة إلى المطلوب، وهو أيضا منقوض بقوله:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت:17].
والحمل على المجاز في كل منهما والحقيقة في الأخرى متصور.
وقيل: إنه تارة تتعدى بنفسها، وتارة باللام أو بإلى، كما في قوله تعالى:
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
[الإسراء:9]. وقوله:
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
[الشورى:52] ومعناه على الاول الايصال، وعلى الأخيرين إراءة الطريق.
وفي الكشاف: إن أصله ان يعدى باللام أو إلى، فعومل معاملة " اختار " في قوله تعالى:
واختار موسى قومه
[الأعراف:155].
والصراط: الطريق الواضح المتسع. وأصله السين. لأنه من سرط الطعام إذا ابتلعه. فكأنه يسرط السابلة، ولهذا سمي لقما، لأنه يلتقمهم، فمن قرأ بالسين - كابن كثير برواية قنبل ورويس عن يعقوب - راعى الأصل، ومن قرأ بالصاد، فلما بين الصاد والطاء من المواخاة في الاطباق والاستعلاء، كقولهم: مصيطر، في مسيطر.
وقرأ حمزة باشمام الصاد الزاي، ليكون أقرب الى المبدل عنه، إذ قد يشم الصاد صوت الزاي، وفصحاهن اخلاص الصاد وهي لغة قريش، ويجمع على " فعل " ككتاب على كتب، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، كالطريق والسبيل.
واعلم أن الأمر والدعاء يتشاركان صيغة ومعنى، لأن كلا منهما طلب، وإنما يتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، أو بالرتبة. وأما معنى هذا الدعاء ففيه وجوه:
منها: أن معناه: ثبتنا على الدين الحق، لأن الله قد هدى الخلق كلهم الى الصراط أي طريق الحق من ملة الاسلام، إلا ان الإنسان قد تزل قدمه عن جادته، وترد عليه الخواطر الردية فيحسن منه أن يسأل الله التثبت على دينه، والزيادة على هذا، كما قال الله تعالى:
والذين اهتدوا زادهم هدى
[محمد:17]. وهذا كقولك لمن يأكل الطعام عندك: كل، أي: دم على أكله.
ومنها: أن المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر، كما دللتنا عليه في الماضي. ويجوز الدعاء بالشيء الذي يكون حاصلا كقوله تعالى:
قال رب احكم بالحق
[الأنبياء:112]، وليس فيه تحصيل للحاصل.
ومنها: أن نفس الدعاء عبادة شريفة من جملة العبادات. وفيه اظهار للانقطاع إليه تعالى، ويجوز أن يكون لنا فيه مصلحة من الخضوع والخشوع والتذلل، وسائر ما يوجب تليين القلوب والتبتل إليه، فتحسن المسألة.
وقيل في معنى الصراط المستقيم وجوه:
أحدها: أنه كتاب الله وهو المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وعن علي (عليه السلام)، وابن مسعود.
وثانيها: إنه الإسلام، وهو المروي عن جابر وابن عباس.
وثالثها: إنه دين الله الذي لا يقبل غيره، عن محمد بن الحنفية.
والرابع: إنه النبي والأئمة القائمون مقامه، وهو المروي في أخبار أصحابنا والمأثور من أئمتنا وأنوارنا (عليهم السلام).
والأولى حمل الآية على العموم، ليكون أجمع وأشبه منه بكلام من له الأحدية الجمعية.
قال بعض المحققين: هداية الله تتنوع أنواعا لا يحصيها عد، لكنها في أجناس مرتبة.
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الإهتداء الى مصالحه. كالقوة العقلية، والحواس الباطنة، والمشاعر الظاهرة، كما في قوله:
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه:50].
والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل في الاعتقادات، والصلاح والفساد في الأعمال، حيث قال:
وهديناه النجدين
[البلد:10]. وقال:
فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت:17].
والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، واياها عنى بقوله:
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
[الأنبياء: 73]. وقوله:
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
[الإسراء:9].
والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء، وإياه عنى بقوله:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام:90]. وقوله:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين
[العنكبوت:69].
فالمطلوب ها هنا إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتبة عليه، فإذا قال العارف الواصل: اهدنا، عنى ارشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، وتميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك، فنراك بنورك.
مكاشفة
[الصراط ومرور الانسان عليه]
اعلم إن معرفة حقيقة الصراط واستقامتها والمرو عليه والضلال عنه، من المعارف القرآنية التي يختص بدركها أهل المكاشفة والمشاهدة، وليس لغيرهم من سائر المسلمين إلا مجرد التصديق والإذعان به تسليما وايمانا بالغيب، لا ببصيرة حاصلة من نور اليقين ونعم ما قيل: من لا كشف له لا علم له.
واللمعة اليسيرة من هذا العلم:
هي إن الموجودات الممكنة منقسمة إلى قائمة ومتحركة، والعبارة من الأولى؛ عالم الأمر والقضاء والإرادة:
ومآ أمرنآ إلا واحدة
[القمر:50]. ومنه نشأ الملائكة المقربون القائمون بأمره تعالى في منازلهم ومراتبهم، المفطورون على كمالهم الأصلي، لا يتعدونه، كل له مقام معلوم، منهم سجود لا يركعون، ومنهم ركوع لا يسجدون. والعبارة من الثانية؛ عالم الخلق والفعل والتقدير، قال:
كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين
[الأنبياء:104]. وعالم الخلق دائم الحركة والانتقال والحدوث والزوال، ونحن قد أقمنا البرهان على تجدد الطبائع الجسمية، وسيلان الجواهر المادية برهانا قطعيا، وبينا أن غاية جميع هذه الحركات والانقلابات الإرادية والطبيعية هو الله تعالى، وان جميع الموجودات العالية والسافلة بتوجهون نحوه ويولون شطره بما يسري إليهم من نور عشقه وفيض رحمته، وهذا المعنى مما يمكن إدراكه بالحدس والتجربة، لما نشاهد من كل موجود نراه شوقا إلى ما هو أعلى منه، وحركة إلى ما يشتاقه ويتمناه، ومعاد كل موجود إلى ما هو مبدأه، ومرجعه إلى ما هو منشأه، وكل ما هو أعلى مبدءا يكون أرفع غاية وأشرف مآبا ومرجعا، فمرجع العنصر إلى العنصر كماء المطر انفصل من البحر أولا واتصل به ثانيا كان بحرا ثم بخارا، ثم انعقد سحابا، ثم تقاطر أمطارا، ثم جرى عيونا وأنهارا، ثم اتصل بالبحر فصار بحرا كما كان بعد أن تطور أطوارا، وكذا مرجع النبات مع زيادة منزلة وبركة، كحال الحبة في تقاليب الأطوار إلى أن تبلغ مرتبة الثمار، فيبتدي أولها وهو لب يدفن في الأرض وكاد أن يفسد ويغيب عن ذاته في الأماكن الغريبة، ثم أفادها الله قوة محركة تستحيل بها من حال إلى حال حتى تنتهي إلى كمالها الأصلي، فتبلغ إلى درجة اللب الذي كانت عليه في بدؤ أمرها مع أعداد كثيرة من أفراد نوعه وفوائد زائدة من القشور والأنوار والأوراق والأزهار.
وكذلك حال الحيوان، فهو أعظم قوسا في العروج إلى الله وأبعد نزولا وصعودا من النبات وصورة الأركان:
ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ إن ربي على صراط مستقيم
[هود:56].
وأما الإنسان - أي الحقيقي لا الصوري - فهو الغاية والمقصود الأصلي من جميع الخلائق والأكوان، ولأجله خلقت المكونات وترتبت الموجودات ونشأت المواليد والآباء والأمهات، فمنازل سيره وصعوده إلى الله واقعة على النصف الصعودي لدائرة الإمكان، على عكس مراتب نزوله من عند الله الواقعة على النصف النزولي لهذه الدائرة، وذلك لأن الله مبدأه ومعاده، وهو المهتدي المنعم عليه المعتني به من أول الأمر إلى آخر العهد فلم يزل الإنسان الذي سبقت له المشية الأزلية أن يستعمله الله لسياقة حكمته الى غايتها، منظورا إليه في سائر مراتب الاستيداع من حيث أفراد الإرادة المنبعثة عن العلم الأزلي في مقام القلم الأعلى العقلي، ثم في مقام اللوح النفسي، ثم في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمتها في الأجسام، ثم في العرش المحدد للزمان والمكان مستوى الاسم الرحمن، ثم في الكرسي الكريم مستوى الاسم الرحيم، ثم في السموات السبع، ثم في العناصر، ثم في المواليد، وهلم إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع بعد استيفاء مراتب الاستيداع، مخصوصا بمزيد الاعتناء، موسوما بسمة التوفيق والهداية، مهتما به اهتمام تاما مراعى في كل عالم وحضرة يمر عليهما بحسن الرعاية، مخدوما بخدمة أهل ذلك العالم والمرتبة، ليتم به وبخدمته وإمداده وحسن تلقيه أولا، ومشايعته ثانيا، ذواتهم وصورهم بحسب ما يدركونه فيه من سمة العناية وأثر الإختصاص. وما من عالم من العوالم العلوية مر عليه إلا وهو بصدد التعويق في الإنحراف المعنوي، إن لم تتداركه العناية الإلهية، لغلبة أحكام بعض النشآت، أو صفة بعض الأرواح الذي يتصل به حكمه عليه، وكذلك بعض الأفلاك بالنسبة إلى البواقي، فيتعوق أو ينحرف عما يقتضيه حكم الاعتدال الجمعي، وصورة الصراط الوسطي الرباني الذي هو شأن من سبقت له العناية في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمة الكون إلى غايتها، ثم الأمثل فالأمثل.
وإذا دخل عالم المواليد وسيما من حين تعدى مرتبة المعدن إلى مرتبة النبات وعالمه، ثم منه إلى عالم الحيوان، إن لم تصحبه العناية الأزلية، ولم يصحبه الحق بحسن المعونة والحراسة والرعاية، وإلا حيف عليه، فانه بصدد آفات كثيرة، لأنه عند دخوله عالم النبات، إن لم يكن محروسا معتنى به، وإلا فينجذب ببعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيته إلى مزاج ردئ، ينحرف به عن صراط الحق فيخرج منه تارة أخرى إلى باب العناصر، ويبقى فيه حائرا عاجزا، حتى يعان ويؤذن له في الدخول مرة اخرى. فربما عرضت له آفة من العناصر، كبرد مسدد أو حر مفرط أو رطوبة زائدة، أو يبس غالب، فيتلف ويخرج ليستأنف دخولا آخر، وهكذا مرارا شتى حسب ما شاء الله وقضاه وقدره. ثم على تقدير سلامته أيضا في ما ذكرناه بنعمة الحراسة والرعاية وسائر النعم التي يستدعيها فقره، فإنه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوين النشأة الحيوانية منه، فإذا دخل في باب الحيوانية، تضاعفت حاجته إلى الحفظ والتربية والصيانة والحراسة من الآفات والمضادات لواحد واحد من أعضائه وقواه الحيوانية بعد قواه النباتية، فهو مفتقر الى الهداية والتوفيق، ونعمة السلامة والحراسة والرعاية في كل مرتبة وصورة صورة ونشأة نشأة، إلى حال مسقط النطفة وحال الولادة، فهو مفتقر إلى أن يخرجه الله مخرجا صدقا ويدخله مدخلا كريما من حيث ظاهره وباطنه.
فالمختصان بمسقط النطفة حال التوليد من أحكام الزمان والمكان، شاهدان طي كثير من أحواله البطانة، والمختصان بمسقط الرأس حال الولادة، شاهدان على معظم أحواله الظاهرة، وسر الابتداء في السلوك إلى جانب الحق، فالعادة الإلهية جارية بأن من اختص بمزيد العناية ونعمة الحراسة، وأثر الإختصاص من بداية أمره، وشروعه من منبع المشية الإلهية الى هذا المقام وهو مقام العقل والتكليف والدعوة أن يهديه إلى صراطه ويسوقه إلى تمام النعمة، وغاية الحكمة، وغاية الايجاد، وزينة المعاد، وصورة الكمال الوجودي، فأين من يكون أحدي السير من حين صدوره من غير الحق الى عرصة الوجود العيني والنزول الكوني، لم يتعوق من حيث حقيقته وروحانيته في عالم من العوالم، ونشأة من النشئآت، وحضرة من الحضرات ممن يتعوق ويتردد لتصادم الموانع والآفات، ويتكرر ولوجه وخروجه المقتضيان لكثافة حجبه، وكثرة تقلبه في المحن والعوائق - نعوذ بالله منها.
فقوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } ، بيان للمعونة المطلوبة في الآية السابقة، فكأنه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا فهذه الآية وما يتلوها كالأجوبة لأسئلة ربانية، كما قال بعض العرفاء: فكأن لسان الربوبية يقول عند قول العبد: اهدنا الصراط: أي صراط تعنى؟ فالصراطات كثيرة كلها لي، لما تقرر واشتهر ان الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فيقول لسان العبودية: اريد منها: المستقيم.
فيقول لسان الربوبية: كلها مستقيمة من حيث اتهج إلى غايتها كلها، وإلي مصير من يمشي عليها جميعا. فأي استقامة تقصد في سؤلك يا عبدي؟
فيقول لسان العبودية: اريد من بين الجميع: { صراط الذين انعمت عليهم }.
فيقول لسان الربوبية: ومن الذي لم أنعم عليه؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي ولم تشمله نعمتي؟ فيقول لسان العبودية: إن رحمتك واسعة ونعمك سابغة شاملة، لكني لست أبغي إلا صراط الذين انعمت عليهم النعم الظاهرة والباطنة الصافية من كدر الغضب ومحنته، وشائبة الضلال ونكبته، فإن السلامة من قوارع الغضب لا تقنعني، إذا لم تكن النعم المسدلة إلي مطرزة بعلم الهداية المخلصة من محنة الحيرة والضلالة، وبيداء التيه وورطات الشبهة والشك والتمويه، وإلا فأية فائدة في تنعم ظاهري بأنواع النعم مع تألم باطني بهواجم التلبيسات المانعة من الاطمينان والسكون، ورواجم الريب والظنون.
هذا في الوقت الحاضر - فدع ما تتوقعه من اليوم الآخر، فتذكر عند هذا قوله (صلى الله عليه وآله) حكاية عن ربه أنه قال:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فإذا قال العبد: { بسم الله الرحمن الرحيم } ، يقول الله: ذكرني عبدي، وإذا قال: { الحمد لله رب العالمين } ، يقول الله: حمدني عبدي. وإذا قال: { الرحمن الرحيم } ، يقول الله: عظمني عبدي، وإذا قال: { ملك يوم الدين } ، يقول الله: مجدني عبدي، وفي رواية فوض إلي عبدي. وإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، يقول الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ".
فاعرف كيف تسأل، تنل من فضل الله ما تؤمل.
فصل
[الانسان أشرف الخلائق]
واعلم أن الإنسان المهتدي بنور الله، أشرف الخلائق كلها، وأبدع ما في الإمكان، لأن الله اصطفاه لقربه، وأضافه إلى نفسه، من الله مبدأه وإلى الله منتهاه، قد باشر الحق ايجاده بنفخه فيه من روحه، وتخمير جسده بيديه، واختار لعبده الأسماء كما لنفسه، وآثر الخيرة له من لدن نزوله من عنده إلى حين صعوده إليه، في كل صورة يتلبس بها، أو مقام يمر عليه، أو نشأة يظهر بها نفسه، وموطن يتعين فيه النشأة، وزمان يحويه من حيث تقيده به وتغيره معه، ومكان يستقر فيه من حيث هو متحيز به وحاصل في دائرته. وأول كل ذلك ومبدأه هو من حال تعلق الإرادة الإلهية به عند تعينه بعينه الثابت في علمه الأزلي، ثم اتصال حكم القدرة به لإبرازه في أطوار الوجود، ومروره على المراتب الإلهية والكونية، وله في كل عالم وحضرة يمر عليه صورة تناسبه من حيث ذلك العالم أو الحضرة، ووديعة يأخذها من جملة النعم، من التعديل والتسوية، وتمامية الخلقة، وحسن الصورة، والاعتدال، وحسن الخلق والعدالة.
فكم بين من باشر الحق تسويته وتعديله، وجمع له بين يديه المقدستين، ثم نفخ بنفسه فيه من روحه نفخا استلزم معرفة الأسماء كلها، وسجود الملائكة له أجمعين، وإجلاسه مرتبة الخلافة عنه في التكوين، وبين من خلقه بيده الواحدة، أو بواسطة ما شاء من خلقه ولم يقبل من حكمي التسوية والتعديل ما قبله هذا النائب الرباني، وكون الملك ينفخ فيه الروح بالاذن.
كما ورد في الشريعة عنه (صلى الله عليه وآله) انه قال: يجمع أحدكم في بطن امه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد، ما رزقه، وما أجله، ما عمله؟ فالحق يملي والملك يكتب.
فأين هذا من قوله:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[الحجر:29]. شتان بينهما ها هنا أضاف المباشرة إلى نفسه بضمير الإفراد الرافع للاحتمال، ولهذا قرع بذلك المتكبر اللعين المتأبي عن السجود له، ولعنه وأخزاه بقوله:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص:75].
وقد وقع التأكيد في هذا المعنى منه (صلى الله عليه وآله) بأمور كثيرة، منها قوله: إن الله خلق آدم على صورته - وبرواية - على صورة الرحمن، ولقوله في التأكيد الرافع للاحتمال الذي ركن إليه أرباب العقول السخيفة، الجاهلون بأسرار الشريعة والحقيقة، في وصيته بعض أصحابه في الغزو: إذا ذبحت فاحسن الذبحة، وإذا قتلت فاحسن القتلة، واجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته.
وقال أيضا (صلوات الله عليه وآله): في هذا المعنى: إذا خلق خلقا للخلافة مسح بيمينه على ناصيته، فنبه على مزيد الاهتمام والخصوصية.
وأشار أيضا في حديث آخر ثابت: أن الذي باشر الحق سبحانه ايجاده أربعة أشياء ثم سردها فقال: خلق جنة الخلد بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده، وخلق آدم بيده.
وقال أيضا (صلى الله عليه وآله): الإنسان أعجب موجود خلق.
وكما أن هذه الخصائص والكرامات؛ من كونه مخلوقا على صورة الرحمن، منفوخا فيه من روحه تعالى، مكرما بكرامة تعليم الأسماء، محمولا في بر الأجساد وبحر الأرواح، مخمرا طينته العقلية والنفسية باليدين مخصوصا بخلافة الله تعالى في العالمين الكبير والصغير مسجودا لملائكة الله في النشأتين الجسمانية والروحانية، إنما هي للانسان المعنوي الحقيقي، لا لهذه الأشباه والأمثال من الأعداد الصورية، فكذلك الوصول إليه بالعروج الروحي والسفر المعنوي على صراط الله المستقيم، يختص به دون غيره، وإلا فكل ماش من الحيوان وغيره مار على صراطه الذي يخصه، متوجها شطر الحق.
وكما ان لكل جسم مكانا مخصوصا، وفيه معنى طبيعيا يحركه الى حيزه ويجره إلى مطلوبه ولا يقف به دونه، فكذلك كل نفس خرجت من معدن مخصوص من معادن الأرواح، ففيها معنى يحركها إلى معدنه الأصلي، ولا يقف بها دونه، واختلاف أحوال هذه النفوس البشرية من اختلاف مباديها المعبر عنها بالمعادن في قوله (صلى الله عليه وآله): الناس معادن كمعادن الذهب والفضة.
وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في هذا الكتاب المجيد بقوله تعالى
قد علم كل أناس مشربهم
[البقرة:60].
وحركات الجوارح آثار تلك المعاني التي أودعتها القدرة الأزلية في النفوس الآدمية، إتماما للحكمة، وتوسيعا للرحمة في سائر الأمة، واهتماما بهذا المعنى المجذوب المحبوب؛ فالنفوس التي لا يكون بينها وبين الحق واسطة، تنجذب إلى جنابه طبعا كانجذاب إبرة من حديد إلى مغناطيس لا تتناهى قوته، وهذه النفوس هي العرفاء بالله حقا، وقوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]، كناية عن أهل الله العارفين به.
وإنما عرفه هؤلاء معرفة حقيقية وايمانا كشفيا وإحسانا، لأنهم الذين وقع لهم التجلي في الأزل بالذات ولغيرهم بالعرض، فاستغرقوا بكليتهم في معرفته عند قوله:
ألست بربكم
[الأعراف:172]، وأجابوا بقولهم { بلى } ، ايمانا وايقانا لا تكلفا وتقليدا، أو مجازفة ونفاقا.
ولقد أفصح عن هذا المعنى شيخ الطائفة عبد الله الأنصاري حيث قال: " إلهي تلطفت لأوليائك فعرفوك، ولولا تلطفت لأعدائك لما جحدوك " فهذه حكم النفوس التي لم تكن بينها وبين الحق واسطة في البداية، فلا جرم هم المجذوبون إليه تعالى الواصلون إليه في النهاية، وغيرهم إما سالكون، أو واقفون بالعوائق البدنية، أو مردودون إلى أسفل سافلين بالعقائد المهلكة الشيطانية.
فقد قارن الحق سبحانه بين السالك والمجذوب في العطاء والنصيب، فقال عز من قائل:
الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب
[الشورى:13]. وقد وقع التنبيه منه (صلى الله عليه وآله) على هذا المعنى فقال في جنازة واحد من أصحابه:
" اهتز عرش الرحمن لموته "
، وقال في حق طائفة اخرى لما ذكر:
" إن الموت ينتقي خيار الناس، الأمثل فالأمثل، حتى لا يبقى إة حثالة كحثالة التمر أو الشعير، لا يبالي الله بهم ".
فأين من يهتز بموته عرش الرحمن ممن لا يبالي الله به أصلا، فكما هو الأمر آخرا فكذا هو الأمر أولا. بل الخاتمة عين الرجوع إلى السابقة، فافهم واغتنم.
فلنرجع متممين لما وقع الشروع فيه مستعينين بالله وهدايته.
تأييد استبصاري
ومما يؤيد ما أصلناه، ويؤكد ما قررناه من الحركة الجوهرية، والسلوك الباطني المستمر للانسان وغيره من الأكوان، قول الشيخ الإلهي والعارف الرباني في الفتوحات المكية في باب تقلب باطن الإنسان:
إن الحق لم يزل في الدنيا متجليا للقلوب دائما، فتتنوع الخواطر فيها لتجليه، وإن تنوع الخواطر في الإنسان عين التجلي الإلهي من حيث لا يشعر بذلك إلا أهل الله، كما انهم يعلمون ان الصور الظاهرة في الدنيا والآخرة في جميع الموجودات كلها ليس غير تنوع التجلي، فهو الظاهر، إذ هو عين كل شيء، وفي الآخرة يكون باطن الإنسان ثابتا، فإنه عين ظاهر صورته في الدنيا، والتبدل فيه حقي وهو خلقه الجديد في كل زمان، الذي هو في لبس منه، وفي الآخرة يكون ظاهره مثل باطنه في الدنيا، ويكون التجلي الإلهي له دائما بالفعل، فيتنوع ظاهره في الآخرة كما يتنوع باطنه في الدنيا في الصور التي يكون فيها التجلي الإلهي ينصبغ بها انصباغا، فذلك هو التضاهي الإلهي الخيالي، غير أنه في الآخرة ظاهر وفي الدنيا باطن، فحكم الخيال مستصحب للانسان في الآخرة وللحق.
وذلك هو المعبر بالشأن الذي هو فيه الحق من قوله:
كل يوم هو في شأن
[الرحمن:29].
ثم قال أيضا: فكل ظاهر في العالم صورة ممثلة كتابية مضاهية لصورة إلهية، لأنه تعالى لا يتجلى للعالم الا بما يناسب العالم في عين جوهر ثابت، كما أن الإنسان من حيث أصل جوهره ثابت أيضا، فترى الثابت بالثابت منك وهو الغيب منك ومنه، وترى الظاهر بالظاهر وهو الشاهد والمشهود والشهادة منك ومنه، وكذا تدركه، وكذا تدرك ذاتك، غير أنك معروف في كل صورة، أنك انت لا غيرك، كما انك تعلم أن زيدا في تنوعه في كيفياته من خجل ووجل ومرض وعافية ورضى وغضب، وكل ما يتقلب فيه من الاحوال، أنه زيد لا غير، وكذلك الامر في كل احد.
فصل
[في تحقيق الصراط واستقامته]
اعلم إن الصراط لا يكون صراطا إلا بمرور المارة عليه وقد مرت الإشارة إلى ان الخلائق كلها متوجهة شطر الحق توجها غريزيا وحركة جبلية نحو مسبب الأسباب، وفي هذه الحركة الجبلية لا يتصور في حقهم الضلال والانحراف عما عين الله لكل منهم، والله آخذ بناصيته، كما قال الله:
ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ إن ربي على صراط مستقيم
[هود:56].
وما من موجود في عالم الخلق إلا وهو حيوان ماش فيكون دابة. وكل دابة فالرب آخذ بناصيتها، وعليه رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كما قال تعالى:
وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين
[هود:6]، فتكون مفطورة على المشي على نهج الاستقامة من غير ضلال، وأما المسمى إنسانا، فلوجود الاختيار المخالف للطبع فيه، ومزاحمة قوة الوهم الذي يعتريه، يتصور في حقه الضلال والغواية والنكال والغباوة من جهة حركاته الإختيارية المورثة له قربا أو بعدا من الله، المثمرة له سعادة أو شقاوة في الدار الآخرة، فيحتاج الى من يهديه، ويذكر له العهد القديم، ويثبته على الصراط المستقيم.
فالهادي هو الله بالحقيقة بواسطة الكتاب والرسول (صلى الله عليه وآله)، من يقوم مقامه من الأئمة الهداة (عليهم السلام)، فيختص الإنسان من بين سائر المخلوقات، بأن هداه الله بالهدايتين الكونية والوضعية من جهة حركتيه الاضطرارية والاختيارية، وجمع لأجله بين الدعوتين العامة والخاصة، وشرع له الشريعتين، وساسه بالسياستين المطبوعة والمجعولة، وأوجب عليه طاعة الحكمين: التكويني والتدويني، وذلك لاشتماله على مبدأ الحركتين: الذاتية والإرادية.
أما الحركة الذاتية له، فهي حركة جوهرية، لها كسائر الحركات فاعل وقابل، ومسافة وبداية ونهاية، إلا ان الحركة في الجوهر تخالف غيرها في أمر، وهو أن مسافة هذه الحركة هي عين المتحرك حقيقة ووجودا وغيره كمالا ونقصا، بخلاف الحركة في سائر المقولات، فإن المسافة فيها تباين ذات المتحرك كما هو المقرر عند العقلاء. ونحن قد بينا صحة الحركة في مقولة الجوهر في أسفارنا ببيانات برهانية، يضطر أهل النظر على الاعتراف بها، والآيات القرآنية الدالة على هذه الحركة، وخصوصا ما للانسان كثيرة.
منها: في باب حركة الجواهر الأرضية في ذاتها، كقوله تعالى:
وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب
[النحل:88]. وقوله:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات
[إبراهيم: 48].
ومنها: في باب حركة الجواهر السماوية في ذاتها، كقوله
والسموات مطويات بيمينه
[الزمر:67]. وقوله:
يوم نطوي السمآء كطي السجل للكتب
[الأنبياء:104].
ومنها: في تقلب الانسان في أطوار الوجود، بقوله:
يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه
[الانشقاق:6]. وقوله:
وننشئكم في ما لا تعلمون
[الواقعة:61] وقوله:
وإنآ إلى ربنا لمنقلبون
[الزخرف:14].
ومنها: في انقلاب الكل إليه كقوله
الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون
[الروم:11]. وقوله:
كل إلينا راجعون
[الأنبياء:93]. وقوله:
بل هم في لبس من خلق جديد
[ق:15]. ففاعل هذه الحركة الذاتية الانسانية - أي محركها - هو الله وقابلها - أي موضوعها - هو النفس الإنسانية باعتبار قوتها الاستعدادية النفسانية، وعقلها المنفعل الهيولاني، وابتداعها من حين كونها ساذجة عن جميع الصور الإدراكية الجزئية والكلية، وإليه الإشارة في قوله:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا
[الإنسان:1]. وانتهاؤها حالته التي يكون عليها في القيامة. ومسافتها منازل الإنسان بحسب أكوانه الجوهرية التدريجية، ودرجاته الوجودية بحسب قربه وبعده من الله، فله تكون بعد تكون على نعت الاتصال التدريجي من الأكثف فالأكثف إلى الألطف فالألطف، فينتقل من كل ظاهر إلى باطنه، ومن كل صورة الى معناها، فيدخل من الجمادية والنباتية، ومن الحيوانية إلى البشرية، ومن التجسم الى التروح، وينقلب من الدنيا الى الآخرة. وبالجملة من نشاة إلى نشأة إلى أن ينتهي الى موطنه الذي تعين له عند الله.
وبهذا المعنى يكون الموت طبييعيا للإنسان، لا كما زعمه الأطباء وغيرهم من أنه بواسطة نفاد الحرارة الغريزية ، أو غلبة الرطوبة عليها، أو لاجل تناهي القوى البدنية لكونها جسمانية، إلى غير ذلك من آرائهم القاصرة.
وذلك لأن النفس الإنسانية - كما علمت - متقلبة في أكوانها الجوهرية وكلما انطوت لها نشأة دخلت في نشأة تتلوها. ففي هذه النشاة الدنيوية تطورت بجميع الأطوار الداخلة في عالم الشهادة، من الجسمية والجمادية والنباتية على درجاتها، والحيوانية على مراتبها، فإذا تم لها آخر هذه المراتب الواقعة في هذه النشأة، أخذت في الإنقطاع والولوج في النشأة الآخرة، وأطوارها الداخلة في عالم الغيب بحسب الطباع الأصلي لها، من غير قسر قاسر وسياق سائق خارجي، بل يسوقها سائق داخلي جبلي من جانب الله تعالى كما قال جل ذكره:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21]. وقوله:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42].
ومما يؤيد هذا ما ذكره الشيخ المحقق في الباب الرابع والثمانين ومأتين من الفتوحات حيث قال: اعلم أن الروح الإنساني أوجده الله منذ أوجده مدبرا لصورة طبيعية حسية له، سواء كان في الدنيا، أو في البرزخ، أو في الدار الآخرة، أو حيث كان.
فأول صورة لبسها، الصورة التي أخذ عليه فيها الميثاق بالإقرار بربوبية الحق عليه، ثم إنه حشر من تلك الصورة الى هذه الصورة الجسمية الدنيوية، وحبس بها في رابع شهر من تكوين صورة جسده في بطن أمه إلى ساعة موته، فإذا مات حشر الى صورة اخرى من حين موته إلى سؤاله، فإذا جاء وقت سؤاله، حشر من تلك الصورة الى صورة جسده الموصوف بالموت، فيحيى به، ويؤخذ بأسماع الناس وأبصارهم عن حياته بذلك الروح، إلا من خصه الله بالكشف على ذلك من نبي أو ولي من الثقلين.
وأما سائر الحيوان، فإنهم يشاهدون حياته وما هو فيه عينا، ثم يحشر بعد السؤال إلى صورة أخرى في البرزخ يمسك فيها، بل تلك الصورة [هي] عين البرزخ، والنوم والموت في ذلك على السواء إلى نفخة البعث، فينبعث من تلك الصورة ويحشر الى الصورة التي فارقها في الدنيا، إن كان بقي عليه سؤال. فإن لم يكن من أهل ذلك الصنف، حشر في الصورة التي يدخل بها الجنة.
والمسؤول يوم القيامة أيضا إذا فرغ من سؤاله، حشر الى الصورة التي يدخل بها الجنة أو النار.
وأهل النار كلهم مسؤولون، فإذا دخلوا الجنة واستقروا فيها، ثم دعوا الى الرؤية ونودوا، حشروا في صورة لا تصلح إلا للرؤية، فإذا عادوا حشروا في صورة تصلح للجنة، وفي كل صورة يحشر ينسئ الصورة السابقة التي كان عليها، ويرجع حكمه الى حكم الصورة التي انتقل إليها وحشر فيها.
فإذا دخل سوق الجنة، ورأى ما فيه من الصور، فأية صورة رآها واستحسنها حشر فيها، فلا يزال في الجنة دائما يحشر من صورة الى صورة إلى ما لا نهاية له ليعلم بذلك الاتساع الإلهي، فكما لا تتكرر عليه صورة التجلي، كذلك يحتاج هذا المتجلى له أن يقابل كل صورة تتجلى له بصورة اخرى ينظر إليه في تجليه، فلا يزال يحشر في الصور دائما يأخذها من سوق الجنة، ولا يقبل من تلك الصور التي في السوق ولا يستحسن منها إلا ما يناسب صورة التجلي الذي يكون في المستقبل، لأن تلك الصورة هي كالاستعداد الخاص لذلك التجلي - فاعلم هذا فإنه من لباب المعرفة الإلهية -.
ولو تفطنت لعلمت أنك الآن كذلك تحشر في كل نفس في صورة الحال التي أنت عليها، ولكن يحجبك عن ذلك رؤيتك المعهودة، وإن كنت تحس بانتقالك في أحوالك التي عنها تتصرف في ظاهرك وباطنك، ولكن لا تعلم انها صور لروحك تدخل فيها في كل آن، وتحشر فيها، ويبصرها العارفون صورا صحيحة [ثابتة] ظاهرة العين.
انتهى كلامه الشريف النوري، وفيه من الفوائد الكشفية مما لا يمكن وصفه فضلا وشرفا، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين.
وأما الحركة الإرادية للإنسان إلى الله، فهي حركة في الكيف النفساني، معدة له في سرعة اللحوق له إلى الله من جهة استكمال كلا جزئيه العلمي والعملي بواسطة الأفكار والأذكار الملطفة له والأعمال والأفعال المقربة إياه الى الله، وجنس هذه الحركة مما يتطرق فيه الصواب والخطأ، والاستقامة على الصراط والضلال ، بخلاف الحركة الأولى، لكونها جوهرية ذاتية متوجهة شطر كعبة الحق لا يتصور فيها الخطأ والانحراف، والانتكاس، ولا تكون إلا على وجه الصواب والاستقامة، كما في قوله:
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات
[البقرة:148]. فقوله: { ولكل وجهة هو موليها } إشارة إلى الحركة الغريزية الشوقية المفطورة عليها جميع المكونات، وقوله: { فاستبقوا الخيرات } إشارة إلى هذه الحركة الإرادية للإنسان، التي بها يقع الاستباق للخيرات، وسرعة الانسياق إلى الدار الآخرة، والالتحاق بملكوت ربنا الأعلى.
ولقائل أن يقول: إذا كان الكل متوجه إلى الله تعالى توجها غريزيا نحو الفطرة الأخروية والكمال الوجودي والفعلية، فأين الشقاوة للكفار وأهل المعاصي إذا كان الجميع من أحباء الله، المفطورة على طاعة الحق، والتقرب منه، فيلزم كون الناس كلهم سعداء مقربين؟
فنقول: اعلم أن هذا التوجه الغريزي للأشياء كلها نحو مسبب الأسباب، لا ينافي شقاوة الأشقياء وعذاب الكفار والمنافقين والعاصين، فإن السعادة شيء، والقرب من الله يرفع الوسائط شيء آخر، وكذا يجب أن يعلم أن الفعلية الوجودية وقوة التجوهر الحاصلة للنفوس الإنسانية من جهة انسلاخها من هذا البدن، وخروجها من القوة إلى الفعل، وحدة بصرها بسبب رفع الغواشي المادية، لا تنافي الشقاوة الأخروية، بل تؤكدها، فإن غمور النفس بهذا البدن الكثيف، يوجب لها حالة كالخدر والسكر لها، لأجل تلك الحالة، لا يمكنها إدراك الأمور الأخروية من المثوبات واللذات التي تكون للسعداء، والعقوبات والآلام التي تكون للأشقياء.
فإذا خرجت من غشاوة الدنيا، وزال عنها سكر الطبيعة وتخديرها، وحان وقت أن يقع بصرها إلى ذاتها، فإن كانت من جملة الأشقياء المردودين، واطلعت على ما اكتسبته من النقائص والآفات، تتألم بها أشد الآلام، وخروجها من القوة إلى الفعل، ووجود القوة الدراكة فيها، وزوال مانع الإدراك عنها، يوجبان أن تطلع على صحيفة ذاتها وما كسبته من السعادة أو الشقاوة، فتلتذ غاية التلذذ أو تتألم غاية التألم.
فقد ظهر أن فعلية الوجود وتأكده في الجملة، لا ينافيان الشقاوة بإدراك الآلام الحاصلة من الكفر والمعاصي، وكذا الرجوع الإضطراري إلى الحضرة الإلهية لا ينافي الشقاوة والعذاب، فإن أنوار النفوس الإنسانية، إنما هبطت كالكواكب الى هذا القالب الفاني مدة هذا الكون الجسماني وغربت فيه، وستطلع عند خراب القالب، وانقطاع عمره، وبوار نشأته من مغربها إلى مشرقها الأصلي، وخالقها وباريها، إما مظلمة منكسفة وإما زاهرة مشرقة.
والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن الحضرة الإلهية، والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة، إذ المرجع والمصير للكل إليه كما مر، إلا انها ناكسة الرؤوس عن جهة أعلى عليين الى جهة أسفل سافلين، منقلبة الوجود الى الدنيا ولذاتها وطيباتها التي هي بعينها منشأ آلام الآخرة وخبثياتها.
أو لا ترى النبات في نموه ونشوئه يتقارب الى عالم السماء والضياء، إلا انه منكوس الرأس، متوجه نحو السفل، ولذلك قال تعالى:
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة:12] فبين ان نفوس الأشقياء أيضا عند ربهم، إلا انهم منكوسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم الى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق الى جهة تحت، وذلك حكم الله وقضاؤه فيمن حرمه توفيقه ولم يهد له سلوك صراطه المستقيم، نعوذ بالله من الضلال، والعدول عن منهج أهل الكمال.
فإن قلت: إذا كان الكل مفطورا على حبه تعالى وطلبه والتشوق إليه، فما سبب تفاوت هذه النفوس الإنسانية في الهداية والضلال، والطاعة والمعصية؟
قلنا: لتفاوتها في الصفاء والكدورة، والقوة والضعف، والشرافة والخسة، وبحسب ما يتفق لها من الأسباب البدنية والأحوال الدنيوية من الاستعدادات المادية، والعوارض الإتفاقية المتسلسلة المنتهية إلى الأمور العلوية، والقضاء السابق الأزلي.
فالأرواح الإنسية متفاوتة بحسب أصل الفطرة الأولى، مختلفة في الصفاء والكدورة، والضعف والقوة، مترتبة في درجات القرب والبعد من الله تعالى، والمواد السفلية الواقعة بإزائها متباينة في اللطافة والكثافة، ومزاجاتها متفاوتة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي، فقابليتها لما يتعلق بها من الأرواح متفاوتة، وقد قدر الله تعالى في القضاء السابق بإزاء كل روح ما يناسبه من المود وبازاء كل معنى ما يحاذيه من الصورة، فألطف المواد والصور لأشرف الأرواح وأنوار النفوس.
وقد علمت سابقا، أن تفاوت النفوس البشرية - المتخالفة الحقائق - ، لتفاوت أصولها ومعادنها العقلية، ومفاتيح أبوابها الإلهية ، ومن أجلها ومن أجل تفاوتها في الإدراكات والإرادات والأشواق، وقع الاختلاف بينها في الهداية والضلال، والطاعة والعصيان، والتوفيق والخذلان، والسعادة والشقاوة، وحسن العاقبة وسوءها، والثواب والعقاب، والجنة والنار.
فإن قلت: ما الفائدة في التكليف بالطاعات، والدعوة بالآيات، والأمر والنهي، والترغيب والترهيب، إذا كان الجميع منتهيا الى قضاء الله وتقديره، وما تأثير السعي والجهد والطاعة والعبادة؟
قلنا: هذه الأمور من جملة الأشياء الواقعة بقضاء الله وقدره، والأسباب المقدرة التي جعلها الله تعالى مهيجات للأشواق والإرادات، ومحركات ودواعي الى طلب الخيرات، واكتساب الدرجات، ومحرضات على أعمال حسنة مورثة لعادات محمودة، وأخلاق جميلة، وملكات فاضلة مزكية للنفوس، منورة للقلوب، مقربة إياها الى الله، نافعة في معاشنا ومعادنا، يحسن بها حالنا في دنيانا، وتحصل بها سعادة عقبانا، أو محذرات من الشرور والقبائح، والذنوب والرذائل المكدرة للنفوس، المسودة للقلوب، مما يضرنا في العاجل ونشقى به في الآجل.
وكذلك السعي والجد والتدبير والحذر، مهيئة لمطالبنا، موصلة إيانا الى مقاصدنا، مخرجة لكمالاتنا من القوة الى الفعل، كما قال (صلى الله عليه وآله) لمن سأله: هل يغني الدواء والرقية من قدر الله؟ فقال:
" الدواء والرقية أيضا من قدر الله ".
ولما قال (صلى الله عليه وآله):
" جف القلم بما هو كائن ". قيل: ففيم العمل؟ فقال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
ولما سئل: أنحن في أمر فرغ منه أو في أمر مستأنف؟ فقال:
" في أمر مفروغ منه وفي أمر مستأنف ".
فإن قلت: لماذا وقع هذا التفاضل والتخالف في أصل الفطر والغرائز ولم تتساو في الشرف والخسة؟ فما بالنا كنا مختلفين في الجواهر بحسب الصفاء والكدورة، ولم نتشاكل في السعادة ولا نتعادل، فصار السعيد مبرورا والشقي محروما؟ وما سبب التفاوت في هذه القسمة من خزانة الغيب، الزيادة والنقصان في النصيب من الرحمة الإلهية؟ وما هذا الحيف والجور لنا؟ وأين عدل الله فينا وكلنا عبيده والمحتاجون إلى قسمته ورزقه وقد قال الله:
ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق:29].
فنجيبك: يا أخا الطريقة بعد ما زالت عنك الدهشة، وآب إليك القرار، ورجعت السكينة والوقار، فلست أول من زل في هذا المقام، واستنفر من هذا الكلام، ثم رجع وتاب وآمن وأناب، بمثل ما قال الشاعر:
هون على بصري ما شق منظره
فإنما يقظات العين كالحلم
أما كون الشريف شريفا والخسيس خسيسا، فليس بجعل جاعل وتأثير مؤثر. وأما السؤال بأنه لم خلق الله الشيء الخسيس في العالم، ولم يجعل الايجاد مقصورا على الأشرف؟ فجوابك؛ بأنه لو اقتصر على الممكن الأشرف في الايجاد، لبقيت كل الموجودات طبقة واحدة، بل انحصرت في العقل الأول، ولبقيت المراتب الباقية في كتم العدم مع إمكان وجودها، فكان حيفا عليها وجورا، لا عدلا وقسطا.
فالعناية الإلهية تقتضي نظم الوجود على أحسن ما يمكن، فلو أمكن أحسن مما هو عليه الآن، لوجد من جود الواهب المنان، ولو تساوت الموجودات في الشرف والكمال والنقص والتمام، لفات الحسن في ترتيب النظام، وارتفع الصلاح، ولو لم توجد النفوس الشقية والطبايع الغليظة لكان لا تتمشى أمورهم ولا تتهيأ مصالحهم، وبقي الاحتياج إليها في العالم مع فقدها.
كما لو كان البصل زعفرانا، والدفلى أقحوانا، أو لم يوجد البصل والدفلى أصلا لحرمت الناس من منافعها، وتضرروا في فقدها مع إمكان وجودها.
وكما لا يختلج في صدرك أن البصل لم لم يكن زعفرانا، والقيصوم ضيمرانا، والكلب أسدا والوهم عقلا؛ فيجب أن لن ينقدح في بالك أن الباقل لماذا لم يكن سحبانا، والفقير سلطانا، والشقي سعيدا، والجاهل الشرير عالما خيرا؟ إذ لو كان كذلك، لاضطر السلطان إلى صنعة الكنس، والحكيم المتأله الى مباشرة الرجس، فما بقي التناسل على تقدير التماثل، وبطل النظام، ووقع الهرج والمرج، فلم يكن ذلك عدلا بل كان ظلما وجورا.
ثم إن الدني لا يتألم من دناءته، والخسيس لا يتضرر من خسته، والجاهل جهلا بسيطا لا يتعذب بجهله، والعامي الأعمى البصيرة لا يشقى بعماه الأصلي، لكون كل منهم لم يغير ما هو عليه ليتألم بفقد كماله، ويتعذب بضد حاله، بل كل أحد يعشق ذاته ويحب نفسه، وإن كان خسيسا دنيا.
وفي المثل السائر: غثك خير من سمين غيرك. فمن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده، فإنما ظلم نفسه بظلمة جوهره وسوء استعداده، وكان أهلا للشقاوة، ينادي على لسان الحال، مهلا فيداك أوكتا وفوك نفخ، وإنما قصر استعداده وأظلم جوهره لعدم إمكان كونه أحسن مما وجد. كما لا يمكن أن يحصل من أعمى القلب البصيرة، وأن يلد القرد إنسانا في أحسن صورة وأكمل سيرة:
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود:118- 119].
وبالجملة، تفاوت الخلق في الكمال والنقص، والسعادة والشقاوة، إما بأمور ذاتية جوهرية، وإما بأمور عارضة كسبية بواسطة الأعمال والأفعال. فالاختلاف بحسب الأمور الذاتية بمحض العناية الإلهية المقتضية لحسن الترتيب وفضيلة النظام، وليس منشأ للإشكال أصلا كما علمت.
وإما بحسب العوارض اللاحقة، فهي من اللوازم والتوابع الحاصلة بمصادمات الأسباب، وكل آفة وشر يلحق الشيء بسبب أمر خارج إتفاقي، فليس مما يدوم عليه، بل يزول بزوال سببه، وسيعود الشيء الى ما كان عليه أولا من طبيعته الأصلية، والأسباب الإتفاقية غير دائمة ولا أكثرية الوجود. اللهم إلا أن تنقلب طبيعة الشيء الى طبيعة أخرى، فتكون هذه الثانية طبيعة أصلية، والكلام فيها عائد من أن ما يكون عارضا غريبا لها يزول عنها بسرعة، فعلم من هذا ان أكثر أحوال الشيء الخير والسلامة، وأن الآفة والشر من النوادر الاتفاقية.
وأما حديث الانتقام الإلهي بالغضب والعقوبات الدائمة للكفار، فسيأتي الكلام فيه في تحقيق قوله تعالى: { غير المغضوب عليهم }. ولنرجع إلى ما كنا بصدده إنشاء الله.
مشاهدة إشراقية
اعلم أن الصراط الذي إذا سلكت عليه، وثبت الله عليك أقدامك، حتى أوصلك إلى الجنة، صورة الهدى الذي أنشأته لنفسك في الدار الدنيا، بما هداك الله من الأعمال القلبية والبدنية، فهو في هذه الدار لا تشاهد له صورة حسية، وأما في القيامة، وعلى منظر أصحاب البصيرة الغالب عليهم شهود النشأة الآخرة، فقد مد لك جسرا محسوسا على متن جهنم، أوله في الموقف وآخره على باب الجنة، كل من يشاهده يعرف أنه صنعتك وبناؤك، ويعلم أنه قد كان في الدنيا جسرا ممدودا على متن جهنمك من نار طبيعتك التي فيها ظل حقيقتك.
ظل ذو ثلاث شعب، غير ظليل ولا يغنيها من اللهب بل هو الذي يقودها الى لهب الشهوات، ويضرم فيها نار النفس الحيوانية.
فالإنسان الكامل السالك الى الله، المهتدي بنوره، يعجل بقيامته بإطفاء نار جحيمه بنور ايمانه ونار توبته في الموطن الذي ينفعه لقيامته، ويقبل منه توبته، وهو موطن الدنيا، فإن بعد قيامه الدار الأخرى، لا ينفع فيها عمل، إذ لا تكليف فيها بعمل. لأنها موطن الجزاء.
والصراط قد علمت أنه صراطان: صراط الوجود، وصراط الايمان والتوحيد، فالمشرك لا قدم له على صراط الوجود، والمعطل لا قدم له على صراط الوجود أيضا.
ومن أشرك بالله فهو من الموقف الى النار مع المعطلة، ومن أهل النار الذين هم أهلها، إلا المنافقين، فلا بد لهم أن ينظروا الى الجنة وما فيها من النعيم، فيطمعون على حسب داعيتهم وشوقهم الى الكمال، فذلك نصيبهم من نعيم أهل الجنان، ثم يصرفون الى النار. وهذا من عدل الله فيهم فقوبلوا بأعمالهم.
وأما الموحد، فلا يخلد في النار، إنما يمسك ويسأل ويعذب على الصراط، والصراط على متن جهنم كما مر غائب فيها الكلاليب التي فيها، يمسكهم الله عليه.
ولما كان الصراط في النار، وما ثم طريق الى الجنة إلا عليه، قال تعالى:
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:71- 72] ومن عرف معنى هذا القول عرف أن مكان النار ما هو.
تصوير ايماني
قد ورد في صفة الصراط: أنه أدق من الشعر وأحد من السيف. وكذا علم حقيقة الايمان والتوحيد، والعمل بالأركان والتجريد، ولا تزال في كل ركعة من الصلاة تقول: { أهدنا الصراط المستقيم }. فلأمر ما أوجب الله عليك ذلك، فأعظم الأمور وأجلها منفعة لك، تحقيق هذا الصراط وعرفانه، فإنه أدق من الشعر وأحد من السيف، فظهوره في الدنيا ظهور عقلي، وفي الآخرة ظهور حسي أبين وأوضح من ظهوره في الدنيا، إلا لمن دعى الى الله على بصيرة كما قال تعالى:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108].
وقد جاء في الخبر أيضا: إن الصراط يظهر يوم القيامة منه للأبصار على قدر نور المارين عليه، فيكون دقيقا في حق بعض، وعريضا في حق آخرين، يصدق هذا الخبر قوله تعالى:
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12] والسعي مشي، وما ثم طريق الى الله إلا الصراط وإنما قال: بأيمانهم، لأن المؤمن في الآخرة لا شمال له، كما ان الكافر لا يمين له. هذا بعض أحوالك.
[1.7]
قوله جل اسمه:
{ صراط الذين أنعمت عليهم }
صفة للأول أو بدل عنه بدل الكل
والفرق بين الصفة والبدل، أن البدل في حكم تكرير العامل من حيث انه المقصود بالنسبة، كتكرير الجار في قوله تعالى:
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم
[الأعراف:75]. بخلاف الصفة، فكأنه قال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم. وفائدته التوكيد المنفهم من التثنية، والتنصيص على أن طريق المؤمنين هو المشهود عليه بالاستقامة المفضي لسالكه إلى المطلوب على أبلغ وجه وآكده، فإنك إذا قلت مثلا: " هل ادلك على أعلم الناس وأفضلهم؛ فلان " فكأنك قد ثنيت ذكره أولا إجمالا، وثانيا تفصيلا، وجعلت اسمه كالتفسير والبيان لنعته المذكور، أولا إشعارا بأنه من البين الذي لا خفاء فيه، فجعلته علما في العلم والفضيلة فيكون ذلك أبلغ من قولك: هل أدلك على فلان الأعلم الأفضل.
فها هنا قد وقع الإشعار بأن الطريق المنعوت بالاستقامة هو طريق المؤمنين المنعم عليهم على أبلغ الوجوه وآكده.
و " الذين " موصول و " أنعمت عليهم " صلته. وقد تم بها إسما مفردا يكون في موضع الجر باضافة صراط اليه، ولا يقال في موضع الرفع " اللذون " لأنه اسم غير متمكن.
وقد حكى ذلك شاذا، كما حكي " الشياطون " في حال الرفع، وقرأ عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد الله الزبيري: صراط من أنعمت عليهم، وهو المروي عن أهل بيت النبي عليه وعليهم السلام.
وقيل: المراد بالمنعم عليهم هم الأنبياء. وقيل: النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام). وعن ابن عباس: هم أصحاب موسى (عليه السلام). وقيل: أصحاب موسى وعيسى (عليهما السلام) قبل التحريف والنسخ.
وقرأ ابن مسعود: صراط من أنعمت عليهم.
وأصل النعمة، هي الحالة التي يستلذها الإنسان، فاطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين.
وفي مجمع البيان: أصلها المبالغة والزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقة.
وأما ما يراد في العرف من النعمة، ويسمى به، فكل خير ولذة وسعادة، بل كل مطلوب ومؤثر يسمى نعمة عند الناس، وهذه تختلف بالإضافة، فرب نعيم لأحد يكون أليما لآخر.
وأما النعمة الحقيقية، فهي السعادة الأخروية، وأصلها المعرفة بالله وملكوته، ولها صورة وروح وسر، فصورتها الإسلام والإذعان، وروحها الايمان والإحسان، وسرها التوحيد والايقان.
فحكم الاسلام متعلق بظاهر الدنيا، والايمان بباطنها وباطن النشأة الظاهرة، والإحسان للحكم البرزخي ونشأته، وإليه الاشارة بقوله (صلى الله عليه وآله):
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "
، هذا هو المشهود في الاستحضار البرزخي، وسر التوحيد وعين اليقين مختص بالآخرة، فافهم ما أدرجت لك من أسرار الشريعة في طي هذه الكلمات الوجيزة، تعلم أن كل شيء فيه كل شيء والله المرشد.
وقد يكون اسم النعمة لغيرها صدقا، ولكن من حيث يفضي إلى النعمة الحقيقية من الأسباب المعينة واللذات المسماة نعمة مما نوضحها ونشرحها بهذه التقاسيم.
القسمة الأولى: إن الأشياء كلها بالاضافة إلينا على أربعة اقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.
أما الأول: فهو إما في الدنيا، وهو كالنفس، فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة مات القلب. وإما في الآخرة، وهو معرفة الله فإنها إن زالت عن القلب المعنوي لحظة مات القلب واستوجب العذاب الابدي.
وأما الثاني: فهو كالمال في الدنيا، وسائر العلوم والمعارف في الآخرة.
وأما الثالث: فهو كالمضار التي لا بد منها، كالموت والهرم والمرض، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإن منافع تلك الدار لا يلزمها شيء من المضار.
وأما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل والعذاب في الآخرة.
إذا عرفت هذا التقسيم فنقول: أعظم نعم الله علينا الهداية بالمعرفة، فإنا قد ذكرنا أنه كما ان النفس في الدنيا ضروري نافع، وبانقطاعه يموت القلب، فكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنه لا يتألم فيه إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني فإنه يبقى أبد الآباد فأى نعمة أعظم وأشرف من نعمة الايمان.
ثم ها هنا دقيقة؛ لا تخفى عليك انه كما ان التنفس له أثران: إدخال النسيم الطيب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراج الهواء الفاسد الردي الحار المحترق عن القلب؛ كذلك الفكر، له أثران: أحدهما: ايصال نسيم الحجة وروح البرهان وبرد اليقين الى القلب الحقيقي، وابقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة والإعتقادات المؤلمة المتولدة من نيران الشبهات عنه، وما ذلك إلا بأن يعرف أن هذه المحسوسات الدنيوية فانية منتهية إلى الفناء بعد وجودها، فمن وقف على هذا علم إن أجل ما أنعمه الله على عبده، تجريده عن المحسوسات، وتنوير قلبه بالمعارف الإلهيات.
الثانية: إن الأمور كلها بالنسبة إلينا تنقسم الى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعا كالعلم وحسن الخلق، وإلى ما هو ضار فيهما كالجهل وسوء الخلق، وإلى ما ينفع في الحال ويضر في المآل كالتلذذ باتباع الشهوات، وإلى ما هو عكس ذلك كقمع الشهوات ومخالفة النفس.
الثالثة: إعلم أن النعم والخيرات باعتبار آخر، تنقسم الى ما هي مؤثرة لذاتها، وإلى ما هي مؤثرة لغيرها، وإلى ما هي مؤثرة لذاتها ولغيرها.
فالأول: كلذة النظر إلى وجه الله، وسعادة لقائه، وبالجملة سعادة الآخرة التي لا انقضاء لها، فإنها لا تطلب ليتوصل بها الى غاية اخرى مقصودة وراءها، بل تطلب لذاتها.
والثاني: كالدراهم والدنانير، إذ لا فائدة فيها إلا كونها وسيلة لأمر آخر.
الثالث: كالصحة والسلامة، فإنها تقصد ليقدر بسببها على التفكر والتذكر الموصلين الى لقاء الله، وليتوصل بها إلى الذات الدنيا، وتقصد أيضا لذاتها، فإن الإنسان وإن استغنى عن المشي الذي يراد سلامة الرجل لأجله، فيريد أيضا سلامة الرجل من حيث إنها سلامة، لأنها أمر وجودي بلا ضرر، فيكون مطلوبا، إذ الوجود الذي لا ضرر فيه خير محض مؤثر لذاته. فاذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقا، وما يؤثر لذاته ولغيره فهو نعمة أيضا، ولكن دون الأول، إذ المؤثر لأجل أمر آخر لا يخلو من نقص، لأن ما لا نقص له أصلا لو أريد لشيء آخر - ولو بوجه - لكان ذلك الشيء خيرا منه من ذلك الوجه، فلم يكن بريئا من كل نقص بكل وجه، وقد فرضنا كذلك وهذا خلف، وأما ما لا يؤثر إلا لغيره كالنقدين، فلا يوصفان في أنفسهما من حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة، بل من حيث هما وسيلتان، وربما لا يكونان وسيلة في حق بعض بل بلاء وآفة، فلا يكونان نعمة، وكذلك أمور هذا العالم.
الرابعة: إن الخيرات باعتبار آخر، تنقسم إلى نافع وجميل ولذيذ، فاللذيذ هو الذي تدرك راحته في الحال، والنافع هو الذي يفيد في المآل، والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال.
والشر أيضا قد ينقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم، وكل واحد من القسمين ضربان: مطلق ومقيد. فالمطلق؛ هو الذي اجتمعت فيه الأوصاف الثلاثة، أما في الخير فكالعلم والحكمة، فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة، وأما في الشر فكالجهل المركب، فإنه ضار وقبيح ومؤلم، وإنما لا يحس الجاهل بألم جهله، لشواغل الدنيا وغطاء الطبيعة. والمقيد؛ هو الذي فيه بعض هذه الأوصاف دون بعض.
فرب نافع مؤلم كقطع الإصبع المتآكلة، ورب نافع قبيح كالحمق، فإنه يوجب استراحة الأحمق في الحال إلى أن يجيء وقت هلاكه في المآل، ولذلك قيل: استراح من لا عقل له.
الخامسة: وهي الحاوية لمجامع النعم. اعلم أن النعم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هي مطلوبة لغيرها. أما الغاية فهي السعادة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لا جهل معه، وغنى لا فقر معه؛ وهي النعمة الحقيقية. وغيرها يراد لأجلها ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله):
" لا عيش إلا عيش الآخرة ".
وأما الوسائل؛ فتنقسم الى الأقرب الأخص، كفضائل النفس. وإلى ما يليه في القرب، كفضائل البدن. وإلى ما يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة. والى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة لها، كالتوفيق والهداية. فهي إذن من أربعة أنواع.
أما النوع الأول: فيرجع حاصلها - مع انشعاب أطرافها - إلى الايمان والعدالة. أما الايمان فهو العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأما العدالة وهي حسن صورة الباطن، فعبارة عن تهذيب الأخلاق، وتصفية القلب عن الرذائل، وصرف القوى الشهوية والغضبية والوهمية فيما خلقت لأجله حتى يكون شجاعا لا متهورا، ولا جبانا، ويكون عفيفا لا فاجرا ولا خاملا، ويكون حكيما لا مكارا ولا أبله، فالفضائل المختصة بالنفس المقربة الى الله علم مكاشفة وعلم معاملة، وحسن خلق وحسن سياسة. ولا تتم هذه النعمة في غالب الأمر إلا بالنوع الثاني وهي الفضائل البدنية. وهي أربعة: الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر، ولا تتهيأ هذه الأمور البدنية إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة: المال والأهل والجاه وكرم العشيرة. ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة البدنية إلا بالنوع الرابع من النعم، وهي أربعة: هداية الله ورشده وتسديده وتأييده.
فمجموع مجامع النعم ستة عشر، وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى الآخر، إما حاجة ضرورية، أو نافعة. ولو أخذنا في بيان الحاجة لطريق الآخرة إلى كل واحد واحد من الأقسام التي ذكرناها من النعم النفسية والبدنية والخارجة عنها كالمال والجاه والأهل والنسب، لطال الكلام، لكن أخفى النعم البدنية في كونها محتاجا إليها هو الجمال، وأخفى النعم الخارجة في ذلك هو النسب، فلنبين وجه الحاجة إليهما.
أما الجمال؛ فلا يخفى نفعه في الدنيا، فإن الطبائع من القبيح مستنفرة، وحاجات الجميل أقرب الى الإجابة، وجاهه أوسع في الصدور، وكل معين في الدنيا معين في الآخرة، ولأن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس، لأن نور النفس إذا تم اشراقه تأدى الى البدن، فالمنظر والمخبر كثيرا ما يتلازمان، ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن وقالوا: الوجه والعين مرآة الباطن، وقيل: الروح إن أشرق على الظاهر فصباحة، وإن أشرق على الباطن ففصاحة. ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" اطلبوا الخير عند حسان الوجوه "
وقال الفقهاء: إذا تساوت درجات المصلين، فأحسنهم وجها أولاهم بالامامة. وقال سبحانه ممتنا بذلك:
وزاده بسطة في العلم والجسم
[البقرة:247]. وليس المعنى ما يحرك الشهوة، فإن ذلك أنوثية، بل تناسب الأعضاء واعتدال الخلقة.
وأما النسب، فكرم العشيرة نعمة جليلة، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
" الأئمة من قريش "
، ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أكرم ارومة في نسب آدم. ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" تخيروا لنطفكم "
، وقال:
" وإياكم وخضراء الدمن فقيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء ".
فإن قلت: فما معنى النعم التوفيقية الراجعة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد؟. فنقول: التوفيق، عبارة عن التأليف بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدره، ويستعمل في الخير والسعادة، ولا خفاء في الحاجة إليه، ولذلك قيل:
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
وأما الهداية، فلا سبيل لأحد الى سعادة الآخرة إلا بها، لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته، ولكن إذا كان جاهلا به فمن أين ينفعه مجرد الإرادة؟ فلا فائدة في الإرادة والقدرة وسائر الأسباب إلا بعد الهداية، ولذلك قال تعالى:
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه:50]. وقال
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشآء
[النور:21].
وللهدى ثلاث مراتب:
الأولى: معرفة طريق الخير والشر المشار إليه بقوله تعالى:
وهديناه النجدين
[البلد:10]. وقد أنعم الله به على كافة الخلق، بعضه بالعقل، وبعضه على لسان الكتب والرسل ولذلك قال:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت:17]. فأسباب الهدى هي الكتب والرسل وبصائر العقول، وهي مبذولة للجميع، ولهذا كلفوا بتكليف واحد، وتساووا في أسباب سلوك طريق النجاة بهذه الهداية العامة.
المرتبة الثانية: هي التي يمد الله بها العبد حالا بعد حال، وهي ثمرة المجاهدة حيث قال:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت:69]. وهو المراد بقوله:
والذين اهتدوا زادهم هدى
[محمد:17].
والمرتبة الثالثة: وراء الثانية، وهي النور الذي يشرق في عالم الولاية بعد كمال المجاهدة، فيهتدي بها الى ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف، وامكان تعلم العلوم، وهو الهدى المطلق، وما عداه حجاب له، ومقدمات، وهو الذي شرفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه، وإن كان الكل من جهته فقال:
قل إن هدى الله هو الهدى
[البقرة:120]. وهو المسمى حياة في قوله:
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام:122]. وبقوله:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر:22].
ووجه انحصار مراتب الهدى في الثلاث: ان كل مقام من مقامات الايمان ومنزل من منازل السالكين ينتظم من أمور ثلاثة: أعمال، وأحوال، وأنوار هي معارف. ولا بد لكل منها من هداية تخص به.
وأما الرشد، فيعني به العناية الإلهية التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده فيقويه على ما فيه صلاحه، ويفتره عما فيه فساده، ويكون ذلك من جانب الباطن كما قال تعالى:
ولقد آتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين
[الأنبياء:51]. فالرشد عبارة عن هداية باعثة الى جهة السعادة، محركة للعبد إياها، فهو بهذا الاعتبار أكمل من مجرد الهداية الى وجوه الأعمال، وكم من مهتد غير رشيد، فهي نعمة عظيمة.
وأما التسديد؛ فهو توجيه حركاته الى صوب المطلوب، وتيسيرها عليه ليشتد في صوب الصواب في أسرع وقت، فكما أن أصل الهداية لا يكفي، بل لا بد من هداية محركة للداعية، وهي الرشد، فكذا الرشد، لا يكفي، بل لا بد من تيسير الحركات بمساعدة الآلات حتى يتصل بما انبعثت الداعية إليه، فالهداية محض التعريف، والرشد هو تنبية الداعية لتستيقظ وتتحرك، والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد.
وأما التأييد؛ فكأنه جامع للكل، وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج، وهو المعني بقوله تعالى:
إذ أيدتك بروح القدس
[المائدة:110].
وتقرب منه العصمة، وهي عبارة عن جوهر إلهي يسنح في الباطن، يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر، حتى يصير كمانع من باطنه غير محسوس، وإياه عنى بقوله:
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف:24].
فهذه هي مجامع النعم، ولن تستتب إلا بما يخوله الله من الفهم الثاقب، والذهنا الصافي، والسمع الواعي، والقلب البصير، والطبع المتواضع، والمعلم الناصح، والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته، القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته، والعز الذي يصونه عن سفه السفهاء وتسلط الأعداء، ويستدعي كل واحد من هذه النعم الستة عشر أسبابا، وتستدعي تلك الأسباب أسبابا، وهكذا إلى أن تنتهي بالآخرة إلى مسبب الأسباب ورب الأرباب، دليل المتحيرين ملجأ المضطرين.
وإذا كانت تلك الأسباب متسلسلة طويلة لا يمكن الاستقصاء فيها، فلنصرف عنان القلم عن ذكرها لخروجها عن الحصر والإحصاء، فإن صحة البدن من جملتها نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة، ولو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة، لم نقدر عليها، لأن الأكل مثلا، أحد أسباب الصحة، وهو متوقف على أسباب غير محصورة بها تتم نعمة الأكل، إذ لا يخفى ان الأكل فعل، وكل فعل من هذا العالم حركة إرادية، وكل حركة إرادية لا بد لها من جسم متحرك هو آلتها، ولا بد لها من قدرة على الحركة، ولا بد لها من إرادة والإرادة متوقفة على العلم بالمراد، والعلم صورة نفسانية ونقش باطني لا بد لها من قابل ومنقوش به، وهو لوح النفس، ومن فاعل ناقش، وهو ملك روحاني مستفيد من ملك فوقه، وهكذا إلى مالك الملكوت.
ثم لا بد للآكل من مأكول، وهو جسم مركب من أصول متخالفة الطبائع والأمكنة والأحوال، ولا بد لها من أسباب تجمعها وتجبرها على الالتيام، وتحفظها على مزاج تتهيأ صورة التمام، ولا بد لتلك الأصول من أمكنة تتكون فيها، وجهات تتوجه إليها عند خروجها، وأزمنة تتحرك فيها، ولا بد للأمكنة والأزمنة الموجودة للأجسام المستقيمة الحركة من محدد مطيف بها تتعين به جهات أمكنتها، وحدود أزمنتها، فيكون المحدد من جنس جملة الأجرام الأكرية الدائمة الحركة إلى أن يشاء الله.
ولا بد لها من أسباب محركة على سبيل المباشرة والمزاولة، ولأسبابها أسباب اخرى محركة على سبيل التشويق والامداد والعناية، إذ ليست حركتها شهوية أو غضبية لتكون حيوانية محضة، ولا مجازفة أو وهمية محضة طلبا لثناء أو حسن ذكر أو صيت، أو نفعا للسافل، بل حركة شوقية علوية، وخدمة إلهية، وطاعة ربانية، فلها ملائكة تديرها، وفوقها ملائكة أخرى تدبرها وتشوقها طلبا لبارئ الكل وتشوقا إليه، وطاعة له على وجه يلزمها رشح الخير الدائم على الأداني والأسافل.
ثم لا بد للمأكول من صانع يصلحه، ولا بد من أسباب لإصلاحه، من أرض ينبت فيها، وهواء يصلح لها، وحرارة تنضجها، وماء يسقيها، والماء لا يتحرك بنفسه من مكانه كالبحر، فلا بد لحركته من أسباب، بعضها طبيعية عنصرية، وبعضها نفسانية فلكية، وبعضها قدرية إلهية، كما يعلمه العلماء الإلهيون، ولذلك قال:
فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا المآء صبا
[عبس:24 - 25].
ثم لا يكفي وجود الماء والتراب والهواء، إذ لو تركت الحبة في أرض ندية صلبة لم تنبت، لفقد نفوذ الهواء في باطنها، فلا بد من أرض متخلخلة مشقوقة لدخول الماء فيها وخروج النبت منها، لا يتم شيء منها إلا بأسباب علوية وراء أسباب سفلية منتهية إلى الله، كما قال:
ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها
[عبس:26 - 27] الآية.
ولا بد أيضا لحركة الهواء في باطن الأرض من محرك شديد يحركه ويضربه بعنف على الأرض حتى ينفذ فيها، فيحتاج بمثل ما ذكرنا الى أسباب منتهية الى الله تعالى، كما أشار إليه بقوله:
وأرسلنا الرياح لواقح
[الحجر:22].
فانظر في نعم الله في خلق البحار والأمطار، وتحريك السحب إلى أرض الزراعة، ثم الأرض، ربما كانت مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها، فانظر كيف خلق الله الغيوم فسلط الرياح عليها ليسوقها بإذنه إلى أقطار العالم وهي سحب ثقال بالماء، ثم انظر كيف يرسله مدرارا على الأرض. ثم انظر كيف خلق الجبال حافظة للمياه تنفجر منها العيون والأنهار تدريجا، فلو خرجت دفعة، لخربت البلاد، وهلكت الزروع والمواشي.
وأما الحرارة، فإنها لا تنزل من الأثير بطبيعتها، ولا تحصل من الماء والأرض وهما باردان؛ فانظر كيف سخر الشمس، وكيف أسكنها الله في موضع لائق لا يتضرر أهل الأرض بقربها المفرط للتحليل والتسخين، ولا ببعدها المفرط للتجميد والتبريد، وجعلها دائرة حول الأرض شمالا في فصل، وجنوبا في فصل، ومتوسطا فيما بينهما في فصلين آخرين من الفصول الأربعة، لتنتفع بها جميع النواحي، وتتسخن بها في وقت دون وقت، فيحصل البرد عند الحاجة إليه، والحرارة عند الحاجة إليها، فهذه إحدى حكم الشمس، والحكم فيها أكثر من أن يحصى.
وكذا في القمر الذي هو كالخليفة لها، وكذا سائر الكواكب مع انها في أنفسها موجودات شريفة مطيعة لله تعالى، خلقت للخدمة والطاعة لله، والتقرب اليه في صلواتها الدائمة، وسجودها وركوعها، ولو لم تكن كذلك، لكان خلقها عبثا وباطلا، ولم يصح قوله تعالى:
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين
[الدخان:38]. وقوله:
ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
[آل عمران:191].
ولهذا لما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى السماء، قرأ هذه الآية ثم قال:
" ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته.. "
معناه أن يقرأها ويترك التأمل في أحوال ملكوت السماء، ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون الفلك وضوء الكواكب، وذلك مما يشترك في معرفته الدواب أيضا.
فلله في ملكوت السموات والأرض والآفاق والأنفس عجائب عظيمة يطلب معرفتها المحبون لله، المشتاقون إلى لقائه. فإن من أحب عالما فلا يزال مشغوفا بطلب تصانيفه ودقائق معانيه.
فكذلك الأمر في عجائب صنع الله وملكوت بدائعه، فإن العالم كله من تصنيفه، بل تصنيف المصنفين من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده، فلا يتعجب من المصنف بل من الذي سخره لتأليفه بما أنعم عليه من هدايته وتعليمه، وإرشاده وتسديده. فالمقصود؛ أن غذاء النبات الذي يتوقف عليه غذاء الإنسان، لا يتم بالعناصر الأربعة والشمس والقمر والكواكب، ولا تتم تلك إلا بالأفلاك التي مركوزة فيها، ولا تتم الأفلاك إلا بحركاتها. ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها، وكذلك يتمادى إلى أسباب بعيدة تركنا ذكرها تنبيها بما ذكر على ما اهمل.
روى الشيخ الجليل محمد بن علي بن بابويه القمي رحمه الله في عيون أخبار الرضا مسندا عن الإمام محمد بن علي، عن أبيه الرضا علي بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر بن محمد، عن جده (عليهم السلام). قال: دعا سلمان أبا ذر رحمة الله عليهما إلى منزله، فقدم إليه رغيفين، فأخذ أبو ذر الرغيفين يقلبهما، فقال سلمان: يا أبا ذر، لأي شيء تقلبهما؟ قال: خفت ألا يكونا نضيجين. فغضب سلمان من ذلك غضبا شديدا، ثم قال: ما أجرأك حيث تقلب هذين الرغيفين، فوالله لقد عمل في هذا الخبز الماء الذي تحت العرش، وعملت فيه الملائكة حتى ألقوه الى الريح، وعملت فيه الريح حتى ألقته الى السحاب، وعمل فيه السحاب حتى أمطره الى الأرض، وعمل فيه الرعد والملائكة حتى وضعوه مواضعه، وعملت فيه الأرض والخشب والحديد والبهائم والنار والحطب والملح وما لا أحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟ فقال أبو ذر: إلى الله أتوب، وأستغفر الله مما أحدثت، وإليك اعتذر مما كرهت.
فهذا من نعم الله في خلق الأسباب لأجل غذاء النبات، ولا يخفى أن ما ذكرناه بعض من أسباب غذائه الجلية منها، إذ قد طوينا ذكر تفاصيل القوى النباتية الباطنة عن الأبصار، كالغاذية مع فروعها - من الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة - وكالنامية مع خدمها، والمولدة مع جنودها ولواحقها. ولكل منها مواضع وأسباب وملائكة تسخره وتحركه لأجل فعله المخصوص، لو أردنا ذكرها لأدى الى التطويل قبل حصول الاستقصاء فيها، فلنصرف عن ذكرها، ولنذكر شيئا من نعمه تعالى في خلق الأسباب الموصلة للأطعمة إلى جوف الإنسان.
فمنها الإدراك والحركة، فمن نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر الى ترتيب حكمته في خلق الحواس الخمس التي هى آلة للادراك.
فأولها حاسة اللمس، التي تعم الحيوانات، لكونها واقعة في عالم الأضداد، فيقع بها الاحتراز عن الحر الشديد والبرد الشديد مثلا، وخصوصا في الأكل، وهذه لا تكفي لاقتصار إدراكها على القريب، ولا تقدر بها على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك. فافتقرت الى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق الله فيك حس الشم، إلا انك تدرك به الرائحة ولا تدري انها جاءت من أي ناحية، فتحتاج الى أن تطوف كثيرا من الجوانب، فخلق لك البصر لتدرك ما بعد عنك وجهته معا فتقصده، ولا تدرك به ما وراء الجدران والحجب، فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدار عند جريان الحركات، ولأنك لا تدرك بالبصر إلا موجودا حاضرا وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف وأصوات، فأنعم الله عليك بهذه الحاسة، وميزك بفهم الكلام عن سائر الحيوانات.
وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق لتدرك أن غذاءك موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك، ثم هذه كلها لا تكفيك لو لم يخلق في مقدم دماغك حس آخر يجتمع عنده مدركات هذه الخمس، فتحتاج الى هذا الحس، وإلى الحافظة لتحفظ عندك صورة ما ادخرته من الغذاء الى وقت الحاجة، وإلى مدرك للمعاني المتعلقة بأفراد نوعك وجنسك التي تحتاج الى صداقتها ودفع عداوتها في تحصيل الغذاء الذي يحصل لك بالصناعة لا بالطبيعة، وإلى حافظ لها، وإلى متصرف فيها وفي الصور المخزونة بالتفصيل والتركيب والاستحضار، وهذه كلها تشاركك فيها الحيوانات.
فلو لم يكن لك إلا هي لكنت ناقصا لعدم ادراكك عواقب الأمور، فميزك الله وأكرمك بصفة أخرى هي أشرف من الكل وهو العقل، فتدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها الجلية والخفية بحسب الحال والمآل جميعا.
وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وإصلاحها، وذلك أخس فوائد العقل، وأقل الحكمة في انشائه، بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله، ومعرفة أفعاله، ومعرفة الحكمة في عالمه.
وعند ذلك تنقلب فوائد الحواس في حقك إلى ما ينفعك في طلب الخير الأقصى، فتكون الحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكلين بنواحي المملكة لاقتناص الأخبار المختلفة من الأقطار، وتسليمها إلى الحس المشترك القاعد في سرير مقدم الدماغ، كصاحب القصص والكتب للملك، فيأخذها وهي مختومة إذ ليس له إلا اخذها وحفظها، وأما حقائق ما فيها فلا، ولكن الملك يسلم إليه هذه الإنهاءآت مختومة فيفتحها ويطلع منها على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام، وبحسب ما يلوح له يحرك الجنود.
فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات، ولا يمكن استيفاؤها وما يتوقف عليها من الأسباب، فإن الحواس الظاهرة بعض المدارك، والبصر واحد من جملتها، والعين آلة واحدة لها، وقد ركبت على عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية، وبعض تلك الأغشية كأنها نسج العنكبوت، وبعضها كالمشيمة، وبعض تلك الرطوبات كبياض البيض، وبعضها كأنه الجمد، ولكل منها صفة وصورة وهيئة وشكل وتدوير، ولكل منها أمساح وأجزاء وقوى وكيفيات، لكل منها أحكام من الصحة والمرض والسلامة والآفة لا يعلمها إلا الله.
ولو اختلت طبقة واحدة بل شيء من أسبابها، لاختل البصر وعجز عنه الأطباء والكحالون.
وقد صنفت في تشريح العين مجلدات كثيرة، مع ان حجمها لا يزيد على جوزة صغيرة، وأعجب من هذا دخول الأفلاك وطبقاتها وما تحويه من جملة العناصر في هذه الجوزة الصغيرة، من غير أن يتضايق ولا يتصاغر ذلك الكبير ويتعاظم هذا الصغير، وقس بما ذكر حاسة السمع وسائر الحواس الظاهرة، ولا نسبة لها في الصنع والحكمة إلى الحواس الباطنة، كما لا نسبة للباطنة إلى العقل الذي هو وراء كلها.
فهذه نعم الله في أسباب الإدراك، فقس عليها حال نعم الله في خلق أسباب التحريك الذي هو قرين الإدراك في كل نفس، كما قال تعالى:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21] فالسائق هو مبدء مبادي الإدراك، والشهيد هو مبدء مبادي التحريك، فإنك بعد خلق الإدراكات فيك لا يكفيك مشاهدة الطعام، بل تفتقر الى شهوة الأكل والميل إليه تستحثك على الحركة والطلب، فخلق الله فيك شهوة الطعام وسلطها عليك كالمتقاضي. ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة منك، أهلكت نفسك. فخلق فيك الكراهة عند الشبع. ثم خلق فيك شهوة المجامعة لبقاء نوعك ودوام نسلك، وفي خلق أسباب التوليد من الانثيين والرحم ودم الحيض والمني والمجاري والعروق والأوعية، وكيفية توليد النطفة وتشكلها، وكيفية إدارتها في أطوار الخلقة إلى تمام الأعضاء، من العجائب ما لا يحصى.
ثم الشهوة والغضب، لا يدعوان الا إلى ما ينفع ويضر في الحال. وهما لا يكفيانك، فميزك الله عن الحيوانات بقوة أخرى هي الإرادة العقلية إكراما لك وإفرادا عن البهائم، كما أفردك بمعرفة العواقب.
ثم هذه القوى لا تكفيك، فكم من زمن مدرك مشتاق إلى شيء بعيد منه لا يقدر على المشي إليه، فخلق لك قدرة على المشي والطلب لمشتهياتك، وآلات معينة عليهما، وعلى الدفع والهرب لما يمنعك وعما يضادك، وتلك الآلات بعضها طبيعية كالأعضاء، وبعضها خارجية كالاسلحة والمراكب والدواب والفن وآلات الزرع ومباديها وأسبابها وفواعلها من الصناع والمصلحين وغير ذلك.
وفي كل ذلك من نعم الله وحكمته ما لا يعد ولا يحصى، فلتعتبر رغيفا واحدا ولتنظر ما تحتاج إليه حتى يصلح للأكل من بعد إلقاء البذر إلى الأرض.
فانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار وحداد وغيره، وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس، وانظر كيف خلق الله الجبال والأحجار والمعادن، فإن فتشت علمت ان رغيفا واحدا لا يستدير ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، ابتداؤها من الملك الذي يزجي السحاب لينزل الماء، الى آخر الأعمال من جهة الملائكة، حتى تنتهي النوبة إلى الإنسان، فإذا استدير طلبه قريب من سبعة آلاف صانع، كل صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتم مصلحة الخلق، ثم تأمل في كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات.
حتى أن الإبرة الصغيرة التي فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع عنك البرد، لا يكمل صورتها إلا بعد أن تمر على يد الإبري خمسة وعشرين مرة.
ثم اعلم أن هؤلاء الصناع، لو تفرقت آراؤهم، وتنافروا تنافر طباع الوحش وتبددها بحيث لا يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد، فانظر كيف ألف الله بين قلوبهم، فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا، وبنوا البلدان والمدن، ورتبوا المساكن والدور والأسواق والخانات وما أشبهها مما يطول شرحه.
ثم هذه المحبة تزول بأغراض يزاحمون عليها، ويتنافسون فيها، حتى ينجر إلى الحسد والغيظ، وذلك يؤدي الى التقابل والتفاسد، فانظر كيف سلط الله عليهم السلاطين وأيدهم بالقوة والشوكة والعدة والأسباب، وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لها طوعا وكرها، وكيف هدى الله السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد، حتى رتبوا أجزاء المدينة كأنها أزاء شخص واحد تتعاون تلك الأجزاء على غرض واحد يتبع البعض منا بالبعض، ورتبوا الرؤساء والقضاة والحكام وزعماء الأسواق، واضطروا الخلق الى قانون العدل، وألزموهم للتساعد والتعاون بذلك القانون.
فانظر كيف بعث الأنبياء حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا، وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الخلق، وقوانين السياسة في ضبطهم، وكشفوا من أحكام الإمامة والإمارة وأحكام الفقه والقضاء ما اهتدوا به الى إصلاح الدنيا، فضلا عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين.
فانظر كيف أصلح الله الأنبياء بالملائكة، وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض، إلى أن ينتهي إلى الملك المقرب الذي لا واسطة بينه وبين الله، فينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل نظام، ومطلع كل حسن وجمال، ومنشأ كل كمال واعتدال.
وكل ذلك الذي عددناه قطرة من بحار كرمه ونعمه، ولولا فضله ورحمته إذ قال:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت:69]، لما اهتدينا إلى معرفة هذه النبذة اليسيرة. ولولا عزله إيانا لكمال رأفته عن أن نطمح بعين الطمع إلى الاحاطة بكنه نعمه، لتشوقنا إلى طلب الاحاطة والاستقصاء، لكنه عزلنا عن ذلك إذ قال:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم:34].
فبإذنه انبسطنا، وبمنعه انقبضنا، لأنه القابض والباسط لأزمة أفكارنا، وهو الممسك والمرسل لأعنة عقولنا واختيارنا.
فهذا ما أردنا ايراده من بيان حقيقة النعمة وتقسيمها، وذكر أقسامها ودرجاتها ومجامعها وأصنافها، والإشعار بأنها متسلسلة، وأن الإحاطة بها ليس بمقدور البشر وإنما هو شأن من خلق القوى والقدر.
وليعذرني إخوان الحقيقة في اطناب الكلام في هذا المقام، وايراد نكات لخصتها وجردتها من صحف الكرام، تكثيرا لفوائد هذا الباب، وتشبها بالبررة الكتاب، ومنه البداية وإليه المآب.
قوله جل اسمه:
{ غير المغضوب عليهم ولا الضآلين }
قرئ " غير " بالنصب في الشواذ ورويت عن ابن كثير وهي قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرئ " غير الضالين " وروي ذلك عن علي (عليه السلام).
وأما النصب فعلى الحالية عن الضمير المجرور، والعامل فيه " أنعمت " ، أو بإضمار " أعني " أو بالإستثناء، إن فسر النعم بما يشمل القبيلين ويعم.
وفي الجر ثلاثة وجوه: كونه بدلا من ضمير " عليهم " ، وكونه بدلا من الموصول، وكونه صفة له موضحة أو مخصصة على معنى كونهم جامعين بين أسباب النعمة والكمال، وبين أسباب السلامة من مظاهر الغضب والضلال، وإن كان الأصل في " غير " أن يكون صفة للنكرة فذلك إنما يستصح بأحد وجهين:
جعل الموصوف مجرى النكرة، بأن لم يقصد بهذا الموصول موقت معهود كالمحلى في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني.
أو جعل الصفة مجرى المعرفة لكون " غير " مضافا إلى ما له ضد واحد، فإن للمغضوب عليه ضدا واحدا هو المنعم عليه. فيكون متعينا معروفا عندك تعريف الحركة بغير السكون، فإذا قلت: عليك بالحركة غير السكون، فوصفت المعرفة بالمعرفة، بل وصفت الشيء بنفسه لأنها عينه، فكأنك كررت الحركة تأكيدا.
و " عليهم " الاول في محل النصب على المفعولية، والثاني في محل الرفع على الفاعلية بالنيابة.
و " لا " زائدة تأكيدا لما في " غير " من معنى النفي الحرفي، ولهذا تقول: أنا زيدا غير ضارب، كما تقول: أنا زيدا لا ضارب. ولا تقول: أنا زيدا مثل ضارب.
والغضب - ها هنا - بمعنى إرادة إنزال العقوبة على من يستحقها في صورة الانتقام حكمة من الله، لا بمعنى كيفية نفسانية توجب ثوران الدم للانتقام تشفيا عن حالة الغيظ كما في الحيوان . فاطلاق الغضب ونحوه على الله تعالى باعتبار غاياته الفعلية لا باعتبار مباديه الإنفعالية كما مر في معنى الرحمة. هذا ما أدى إليه النظر العقلي، وتحقيق ذلك ونحوه مما يحوج إلى نور المكاشفة كما وقعت الإشارة إليه.
والضلال؛ هو العدول والذهاب عن طريق التوحيد ومنهج الحق، وأصله الهلاك، ومنه قوله تعالى:
أإذا ضللنا في الأرض
[السجدة:10]. أي هلكنا، ومنه قوله تعالى:
وأضل أعمالهم
[محمد:8]. أي أهلكها.
وللعدول جهات وشعب كثيرة، ولكل منها عرض عريض، وبازاء كل ضرب من العدول ضرب من الغضب.
وعند المفسرين: المغضوب عليهم اليهود لقوله تعالى فيهم:
من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير
[المائدة:60]. والضالون النصارى لقوله تعالى:
ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل
[المائدة:77].
وقال الحسن البصري: إن الله لم يبرئ اليهود عن الضلالة بإضافتها الى النصارى، ولم يبرئ النصارى عن الغضب بإضافته الى اليهود، بل كل من الطائفتين مغضوب عليهم وهم ضالون، إلا انه تعالى قد خص كل فريق بسمة تعرف بها مع كونهم مشتركين في صفات كثيرة.
وقال عبد القاهر: حق اللفظ فيه خروجه مخرج الجنس وأن لا يقصد به قوم بأعيانهم كما تقول: اللهم اجعلني ممن انعمت عليهم ولا تجعلني ممن غضبت عليهم، فإنك لا تريد أن ها هنا قوما باعيانهم هذه صفتهم. وفيه موضع تأمل كما لا يخفى على من عرف العرف.
ويتجه لأحد أن يقول: إن المغضوب عليهم هم العصاة والفسقة، والضالين هم الجهال والكفرة، لأن المهتدى بنور الحق الى الصراط المسقيم، والفائز بكرامة الوصول الى النعيم، من جمع الله له بين تكميل عقله النظري بنور الايمان، وتكميل عقله العملي بتوفيق العمل بالأركان، فكان المقابل له في الجملة من اختل إحدى كريمتيه وقوتيه العاقلة والعاملة فالمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا:
غضب الله عليه
[النساء:93]. والمخل بالعلم والإدراك للحق جاهل كافر لقوله تعالى:
فماذا بعد الحق إلا الضلال
[يونس:32].
وإنما لم يقل: غير الذين غضبت عليهم، على وفاق: الذين أنعمت عليهم، ترجيحا لجانب النعمة على جانب النقمة، بنسبة الفعل إليه تعالى في الأولى صريحا، وفي الثانية بخلاف ذلك، كما هو دأب كرمه وجري عادته في سوق كلامه المجيد، مثل قوله تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد
[إبراهيم:7]. حيث لم يقل: لأعذبنكم في مقابلة: " لأزيدنكم " ، ومراعاة للأدب في الخطاب، واختيارا لحسن اللفظ المستطاب.
مكاشفة
[استعارة الالفاظ للايصال الى المعانى العرفانية]
اعلم أن تمام التحقيق في هذه الآية، يحتاج الى الاستمداد من بحر عظيم من بحار علوم المكاشفة، فنقول على طبق ما حققه صاحب البصيرة المكحلة بنور الهداية: إن لله في جلاله وكبريائه صفة بها يفيض على الخلق نور حكمته وجوده تكوينا واختراعا، يعبر عنها بلفظ، جلت عظمة تلك الصفة أن تكون في عالم الألفاظ عبارة تدل على كنه حقيقتها، لعلو شأنها، وانحطاط رتبة واضعي اللغات أن يمتد طرفهم إلى مبادي إشراقاتها، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم انخفاض أبصار الخفافيش عن ذروة الشمس، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها، إلى ان يستعيروا من حضيض عالم الظلمات عبارة توهم من مبادي أنوار حقيقتها شيئا ضعيفا جدا، فاستعاروا لها لفظ " القدرة " فتجاسرنا بتوقيف من جانب الشرع أن لله صفة يصدر عنها الخلق والاختراع، ثم الخلق ينقسم في الوجود تقسيما عقليا إلى أقسام، لتنوعات فصول ومبادي انقسام، فاستعير لمصدر هذه الأقسام ومبدء هذه التخصيصات بمثل تلك الضرورة الواقعة في عالم الألفاظ والأصوات عبارة " المشية " ، ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة المنبعثة عن المشية الناشية عن الحكمة التي هي علمه بالنظام الأكمل وهو عين ذاته، إلى ما ينساق الى المنتهى الذي هو غاية حكمتها الى ما يوقف به دون الغاية، وكان لكل منهما نسبة الى صفة المشية لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها يتم الاختلاف والقسمة، فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبوب، وهو المنعم عليه، ولنسبة الواقف دون غايته عبارة المكروه، وهو المغضوب عليه.
وقيل: إنهما جميعا داخلان تحت المشية، إلا ان لكل منهما خاصية أخرى في النسبة، يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمرا مجملا عند طلاب اكتساب العلوم من اطلاقات الألفاظ واللغات.
ثم نقول: لما كان لكل منهما خاصية لازمة تكون مقتضى ذاته من غير تخلل جعل مستأنف بينه وبينها، وهي مستدعية لأن تنزل إليه من سلطان الأزل لباسا يناسبه ويرد عليه من المشية السابقة كسوة ملائمة، فانقسم عباده الذين هم أيضا من خلقه واختراعه، إلى من سبقت له في المشية الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها، ويكون ذلك قهرا في حقهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم، وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته الى غايتها في بعض الأمور، ويكون ذلك لطفا في حقهم.
فكان لكل من الفريقين نسبة خاصة إلى المشية، فاستعير لإحداهما عبارة " الرضا " وللأخرى عبارة " الغضب ".
وظهر على من غضب عليه في الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها، فاستعير له " الكفران " ، واردف ذلك بنقمة اللعن زيادة في النكال.
وظهر على من ارتضاه في الأزل فعل انساقت به الحكمة الى غايتها، فاستعير له الشكر، واردف بخلعة الثناء زيادة في الرضاء والقبول.
فكان الحاصل انه أعطى الجمال ثم أثنى عليه، وأعطى النكال ثم قبح وأردى، فيكون بالحقيقة هو المجمل والمثني على الجمال، والمثنى عليه بكل حال.
وكأنه لم يثن إلا على نفسه، وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر، فهكذا كانت الأمور في أزل الآزال، وهكذا تسلسلت الأسباب بتقدير رب الأرباب، ولم يكن شيء من ذلك عن اتفاق وبخت كما زعمه أصحاب ذيمقراطيس. ولا عن إرادة بحت من دون غاية وحكمة كما عليه أصحاب الأشعري، بل عن إرادة وحكمة وحكم جزم، وأمر حتم، استعير له لفظ " القضاء ".
وقيل: إنه كلمح بالبصر، ففاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء المبرم بما سبق به التقدير، فاستعير لترتب آحاد المقدورات بعضها على بعض، لفظ " القدر " ، فكان لفظ القضاء بإزاء ذلك الأمر العقلي الكلي، ولفظ القدر بإزاء ذلك الأمر التفصيلي القدري المتمادي إلى غير النهاية.
وقيل: ليس شيء من ذلك بخارج عن قانون القضاء والقدر، فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل؟ وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت في الايجاد والتكميل؟
وكأن بعضهم لقصورهم لم يطيقوا ملاحظة كنه الأمر والإحتواء على مجامعه، فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع، وقيل لهم: اسكتوا، فما لهذا خلقتم " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " ، عليكم بدين العجائز والزمنى عن سلوك عالم السماء، وقصارى إيمانكم أن تؤمنوا بالغيب ايمان الأكمه بالألوان، اسكتوا، وأنى للعميان والسؤال عن حقائق الألوان.
وأما من امتلأت مشكاة عقلهم المنفعل من نور الله النافذ في السموات والأرض، وكان زيتهم أولا صافيا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسته نار العقل الفعال فاشتعل نورا على نور، فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها فأدركوا الأمور كما هي عليه، فقيل لهم: تأدبوا بأدب الله، واسكتوا، واذا ذكر القدر فأمسكوا فإن للحيطان آذان، وحواليكم ضعفاء الأبصار فسيروا بسير أضعفكم، ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش، فيكون ذلك سبب هلاكهم، فتخلقوا بأخلاق الله، وانزلوا إلى السماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء، ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم، كما يقتبس الخفاش من بقاء نور الشمس والكواكب في جنح الليل، فيحيى به حياة تحتملها شخصه وحاله لا حياة المترددين في كمال نور الشمس، وكونوا كما قيل:
شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة
وللأرض من كأس الكرام نصيب
تمثيل نوري
[بيان أن لا مؤثر في الوجود إلا الله، والحكمة في أفعاله]
وقد ضرب الله مثلا لهذا المرام تقريبا إلى أفهام الأنام، وقد عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون، وكانت عبادتهم ومعرفتهم غاية الحكمة في حقهم، فأخبر ان له عبدين يحب أحدهما واسمه جبرائيل وروح القدس والروح الأمين، وهو عنده محبوب مطاع مكين، ويبغض الآخر واسمه إبليس، وهو اللعين المنظر إلى يوم الدين.
ثم أحال الإرشاد والتعليم إلى جبرائيل فقال:
قل نزله روح القدس من ربك بالحق
[النحل:102]. وقال:
يلقي الروح من أمره على من يشآء من عباده
[غافر:15]. وقال:
علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى
[النجم:5 - 6].
وأحال الإغواء والإضلال على إبليس فقال: { ليضلهم عن سبيله }.
والهداية: تبليغ العباد وسياقتهم الى غاية الحكمة، فانظر كيف نسبها الى العبد الذي أحبه.
والإغواء: استيقافهم دون بلوغ غاية الحكمة، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه مع انه لا فاعل ولا حاكم إلا هو كما قال:
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس:7 - 8]. وهذا محض العدل وحسن الترتيب في النظام.
ولهذا الأمر، يوجد لك في الشاهد مثال، فالملك إذا كان له عبدان، ويريد أن يسقيه أحدهما، ويكنس الآخر فناء منزلة من القاذورات، لا يفوض سقي الشراب الطيب إلا إلى أحسنهما وأطيبهما منظرا وأحبهما إليه، ولا يعين للكنس إلا أقبحهما صورة وأخسهما، ولا ينبغي لك أن تقول: هذا فعلي، فلم يكن فعله على مذاق فعلي، فإنك أخطأت إذا أضفت ذلك الى نفسك، بل هو الذي صرفك وداعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه، والفعل الحسن بالشخص المحبوب، إتماما للعدل، فإن عدله تارة يتم بما لا مدخل لك فيه وتارة يتم فيك أو بمالك فيه مدخل فإنك ايضا من أفعاله.
فداعيتك وعلمك وقدرتك وسائر أسباب حركتك في التعيين هو فعله الذي رتبه بالعدل والحكمة ترتيبا تصدر منه الأفعال المعتدلة، إلا انك لا ترى إلا نفسك، فتظن إن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت، فلذلك تضيفه الى نفسك.
وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلا الى لعب المشعبذ الذي يخرج صورا من وراء حجاب، يرقص ويزعق ويقوم ويقعد، فيتعجب لظنه أن هذه الأفعال إنما تصدر من تلك الصور. ولم يعلم أنها لا تتحرك بأنفسها، وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر في ظلام الليل، ورؤوسها في يد المشعبذ، وهو محتجب عن الصبيان فيفرحون ويتعجبون.
وأما العقلاء، فإنهم يعلمون أن ذلك يحرك وليس يتحرك، ولكنهم ربما لم يعلموا تفصيله، والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلم المشعبذ الذي يعود الأمر إليه، والجاذبة بيديه، فكذلك صبيان الدنيا والخلق كلهم صبيان، إلا العلماء، إلا إنهم لا يعرفون كيفية التحريك، وهم الأكثرون، إلا الراسخون في العلم، فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطا ورباطات دقيقة معلقة من السماء، متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض، لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأنظار الظاهرة، ثم شاهدوا رؤوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة منها، ولها أيضا مقابض وعرى هي في أيدي الملائكة المحركين للسماوات، وشاهدوا أبصار ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل إليهم من الأمر من حضرة الربوبية، كي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون [ما يؤمرون].
وعبر عن هذه المكاشفات في القرآن:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون
[الذاريات:22]. وعبر عن انتظار الملائكة لما ينزل إليهم من الأمر والقدرة بقوله تعالى:
خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
[الطلاق:12].
مكاشفة أخرى
[مظاهر الرحمة والغضب]
إن لله مع تقدس ذاته وتنزه صفاته عن الأجزاء والأعضاء، يدين مقدستين كلتاهما يمين الله، وهما في الأفعال العالية بإزاء الصفتين المتقابلتين؛ كالرحمة والغضب، والرضاء والسخط في الصفات.
ولهما قبضتان، كما يدل عليه قوله تعالى:
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67].
وورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ".
وفي رواية يأخذهن بيده الأخرى ثم يقول: أين الجبارون، أين المتكبرون؟
وله أيضا عند إستوائه على العرش قدمان متدليتان إلى الكرسي، إحداهما ما يعبر عنه بقدم الصدق يعطي ثبوت أهل الجنات في جناتهم، والأخرى ما يعبر عنه بقدم الجبروت، يعطي ثبوت أهل جهنم في جهنم.
فهذه الأمور من المراتب الإلهية، ولوازمها من الأمور العامة، وهي التي تعرض للموجودات الإمكانية لقصور درجتها عن درك المراتب الإلهية.
فاعلم ان حكم الغضب الإلهي تكميل مرتبة قبضة الشمال، فإنه وإن كانت كلتا يديه المقدستين يمينا مباركة، لكن حكم كل واحدة منهما يخالف الأخرى، والشمالية واليمينية، باعتبار أصحابهما فلهذا قال:
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67]. فجعل الأرض مقبوضة والسماء مطوية، فافهم.
فلليد الواحدة - المضاف إليها عموم السعداء - الرحمة والجنان، وللأخرى العذاب والنيران.
ولكل منهما دولة وسلطنة يظهر حكمها في السعداء القائمين بشروط العبودية وحقوق الربوبية حسب المقدور، وفي الأشقياء المعتدين الجائرين المنحرفين عن سنن الاستقامة ومسلك الاعتدال، المفرطين في حقوق الإلهية، والمضيفين إلى أنفسهم ما لا يستحقونه.
وغاية حظهم من تلك الأحكام ما اتصل لهم بشفاعة ظاهر الصورة الإنسانية المحاكية لصورة الإنسان الحقيقي، وشفاعة نسبة الجمعية والقدر المشترك الظاهر بعموم الرحمة الظاهرة الحكم في هذه الدار، فلما جهلوا كنه الأمر فاغتروا وادعوا وأشركوا وأخطأوا في الإضافة، فلا جرم استعدوا بتلك الأحكام الغضب والانتقام، فالحق يطالبهم بحقه في القيامة.
ولولا سبق الرحمة الغضب، ما تأخرت عقوبة من شأنه ما ذكرناه، مع انه ما ثم من سلم من الجور بالكلية، ولو لم يكن إلا جورنا في ضمن أبينا آدم حين مخالفته فلكل منا نصيب من ذلك، يجني ثمرته عاجلا بالمحن، وآجلا بحكم:
وإن منكم إلا واردها
[مريم:71].
وإلى عموم الجور وقعت الإشارة في قوله:
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة
[النحل:61]. ولكن الرحمة العامة أخرت سلطنة الحكم العدل إلى يوم القيامة، الذي هو يوم الكشف، ويوم الفصل والقضاء، فهناك يظهر الأمر تماما، ولهذا قال: { مالك يوم الدين } ، لأنه يوم المجازات بالعدل الحقيقي، والسر فيه أنه لو ظهر الحكم العدل ها هنا، ما جار أحد على أحد ولا تجاسر على ظلمه، ولا افترى على الله وعلى غيره، ولكان الناس أمة واحدة، ولم تكمل مرتبة القبضتين وحكم القدمين ولا مظاهر الأسماء المتقابلة، فأين إذا:
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطآء ربك وما كان عطآء ربك محظورا
[الإسراء:20]، أي: ممنوعا، فالرحمة العامة تستلزم العطاء الشامل لكل شيء، لا جرم وقع الأمر هكذا، فحقت الكلمة، وعمت النعمة، وظهر حكم الغضب، ثم غلبت الرحمة، فلا يخلو منها شيء من الممكنات، كل منها على حسب حاله وقدر منزلته.
فكما ان رحمته تعالى شاملة واسعة لكل شيء، فكذلك غضبه، إلا ان جانب الرحمة ارجح لكونها ذاتية، والغضب عارض، لقصور الممكن لإمكانه عن قبول النور الأتم.
وإليه الإشارة في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): سبحان من أتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته، واشتدت نقمته لأعدائه في سعة رحمته.
وكذا الوعد والايعاد شامل للكل، إذ وعده في الحقيقة عبارة عن ايصال كل واحد منا إلى غايته وكماله المعين له أزلا، فكما ان الجنة موعود بها، كذلك النار. ووعيده هو العذاب الذي يتعلق بالإسم المنتقم، فأهل الجنة إنما يدخلونها بالايعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحن، كما ورد في الخبر عنه (صلى الله عليه وآله):
" أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل وقال أيضا: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ".
ثم فوق هذا سر عزيز جدا قلما يجد له ذائقا، وهو ان الكمل من أهل الله كالانبياء والأولياء ومن شاركهم في بعض صفات الكمال، إنما امتازوا عن من سواهم أولا بسعة الدائرة الوجودية، وصفاء جوهر الروح، والاستيعاب الذي هو من لوازم الجمعية، كما نبهت عليه في حقيقة الإنسان الكامل، الذي هو برزخ الحضرتين ومرآتهما، وحضرة الحق مشتملة على جميع الأسماء والصفات، بل هي منبع لسائر النسب والإضافات، والغضب من امهاتها، والمحاذاة الشريفة الصفاتية إنما قامت بين الغضب والرحمة.
فمن ظهر بصورة الحضرة الجمعية بتمامها، وكانت ذاته مرآة كاملة، لا بد وأن يظهر فيها كل ما اشتملت الحضرة، وما اشتمل عليه الإمكان على الوجه الأتم الأشرف، فلا جرم وقع الأمر كما مر من سر قوله: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت. وما يجري مجرى ذلك.
ولولا سبق الرحمة الغضب، كان الأمر أشد، فكما ان حظهم من النعيم أشد، فكذا في الطرف الآخر، لكن في الدنيا، لأن هذه النشأة هي الظاهرة بأحكام حضرة الإمكان المقتضية للنقائص والآلام، ولذا قال: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء في الدنيا.
ومن بعث رحمة للعالمين فدى بنفسه - في الأوقات الشديدة كالغزوات المقتضية عموم العقوبة لسلطنة الغضب - ضعفاء الخلق.
وكذا نبه على هذا السر (صلى الله عليه وآله) أهل الذوق، الأتم لما رأى جهنم وهو في صلاة الكسوف يتقي حرها عن وجهه وثوبه، ويتأخر عن مكانه، ويتضرع ويقول: ألم تعدني يا رب أنك لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم ألم حتى حجبت عنه فأفهم واغتنم.
وأهل النار إنما يدخلونها بالجاذب والسائق والجاذب إلى النار المناسبة الواقعة بينها وبين أهلها. والسائق لهم هو الشيطان، كما أن الجاذب لأهل الجنة إلى الجنة المناسبة بينهما، والسائق لهم الملك، فالوعد والوعيد كلاهما شاملان لكل العبيد وفيه سر قوله (صلى الله عليه وآله):
" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "
بل الجنة نفس المكاره عند من كره لقاء الله وكره الله لقائهم. والنار مبدأ الشهوات وصورتها الأخروية لمن يستحقها، وهي نعيمهم، كما أن الجنة نعيم أهلها، ويملأ الله جهنم بغضبه المشوب وقضائه، ويملأ الجنة برحمته المشوبة ورضاه، فيعم الوجود رحمة، ويبسط النعمة فيكون الخلق كما هم في الدنيا كل حزب بما لديهم فرحون، لأنهم أفعاله الصادرة منه.
وقد ورد في الخبر: إن الله جميل يحب الجمال، وهو صانع العالم وأوجده على شاكلته كما قال:
كل يعمل على شاكلته
[الإسراء:84] فربكم الغفور ذو الرحمة. فالعالم كله على غاية الجمال لأنه مرآة الحق. ولهذا هام فيه العارفون، وتحقق بمحبته المتحققون، لأنه المنظور إليه في كل عين، والمحبوب بكل محبة، والمعبود بكل عبادة، والمقصود في الغيب والشهود، وجميع العالم له مصل وحامد ومسبح.
فيتحولون لتحوله في الأحكام والآثار، وآخر صورة يتحول إليها في الحكم في عباده صورة الرضا. فيتحول الحق في صورة النعيم، فإن الرحيم والمعافي أول من رحم ويعفو وينعم على نفسه بإزالة ما كان فيه من الحرج والكرب والغضب على من أغضبه، ثم سرى ذلك في المغضوب عليه، فمن فهم هذا فقد أمن من غضبه، ولم يأمن من مكر الله، ومن لم يفهم، فسيعلم ويفهم، فإن المآل إليه.
هذا نظر البالغين من الرجال بنور الرياضة والمجاهدة الى مقام الولاية والمحبة والأحوال، وأما الذي وردت به الأخبار، وأعطاه الايمان والعلم، إنما هي أحوال تظهر ومقامات تتشخص ومعان تتجسد، ليعلم الله عباده معنى الإسم الإلهي الظاهر، وهو ما بدا من هذا كله، والإسم الإلهي الباطن، وهو هويته، وقد تسمى لنا بهما.
وأما قوله:
وإن منكم إلا واردها
[مريم:71]. فإن الطريق الى الجنة عليها، فلا بد من الورود.
ولما تقررت هذه المكاشفات فنقول: لما خلق الله العرش وجعله محل استواء الرحمة الوجودية، وأحدية كلمة الايجادية التي هي قول " كن " ، وخلق الكرسي وانقسمت فيه الكلمة إلى أمرين: أمر وخلق ليخلق من كل شيء زوجين. وظهرت الشفعية من الكرسي بالفعل، وكانت قبله بالقوة، وبحسب الوهم، إذ كل ممكن زوج تركيبي كما قالته الحكماء، وهما جهتا الإمكان والوجوب، أو الماهية والوجود، أو الفقر والمحبة، باختلاف العبارات، ليعلم أن الحق مستأثر بالأحدية وإن الموجد الأول وإن كان واحد العين فله حكم نسبة إلى ما ظهر عنه، فهذا أصل شفعية العالم، فتدلت إلى الكرسي القدمان حتى انقسمت فيه الكلمة الروحانية، لأنه الثاني بعد العرش في الصورة، والشكل فيه حصل شكلان في جسم العالم الطبيعي، فتدلت اليه القدمان، فاستقرت كل قدم في مكان، فسمي المكان الواحد جنة والآخر جهنما.
وليس بعدهما مكان تنتقل اليه هاتان القدمان، وهما لا يستمدان إلا من الأصل الذي ظهرتا منه وهو الرحمن، فلا يعطيان إلا الرحمة، فإن النهاية ترجع الى البداية بالحكمة، غير أن بين البداية والنهاية طريقا، وإلا لم يكن بدؤ ولا نهاية، والسفر مظنة التعب والشقاء واللغوب. فهذا سبب ظهور ما ظهر في العالم دنيا وآخرة، وبرزخا، من الشقاء، وعند انتهاء الاستقرار يلقي عصى التسيار، وتقع الراحة في دار القرار والبوار.
ولأحد أن يقول: فكان ينبغي عند الحلول في الدار الواحدة المسماة نارا أن توجد الراحة وليس الأمر كذلك.
فيقال له: صدقت، ولكن فاتك النظر التمام، وذلك ان المسافرين على نوعين: مسافر يكون سفره مما هو فيه مترفها، من كونه محبوبا مخدوما، حاصلا له جميع أغراضه في محفة محمولة على أعناق الرجال، محفوظا عن تغير الأهواء، فهذا مثله في الوصول الى المنزل، مثل أهل الجنة في الجنة.
ومسافر يقطع الطريق على قدميه، قليل الزاد، ضعيف المؤنة، إذا وصل إلى المنزل بقيت معه بقية التعب والمشقة زمانا، حتى تذهب عنه، ثم يجد الراحة، فهذا مثل من يتعذب ويشقى في النار التي هي منزله، ثم تعمه الراحة التي وسعت كل شيء.
ومسافر بينهما ليست له رفاهية صاحب الجنة، ولا عذاب صاحب النار التي منزله، فهو بين راحة وتعب، فهي الطائفة التي تخرج من النار بشفاعة الشافعين، وبإخراج أرحم الراحمين.
وهم على طبقات بقدر ما يبقى عنهم من التعب فيزول في النار شيئا فشيئا، فإذا انتهت مدته، خرج الى الجنة وهو محل الراحة.
وآخر من بقي هم الذين ما عملوا خيرا قط، لا من جهة الايمان، ولا بإتيان مكارم الأخلاق، غير ان العناية سبقت لهم أن يكونوا من أهل تلك الدار وهم من أهل الدار، الذين هم أهلها، فغلقت الأبواب، واطبقت النار، ووقع اليأس من الخروج، فحينئذ تعم الراحة لأهلها، لأنهم قد يئسوا من الخروج منها كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
وقد جعلهم على مزاج يصلح ساكن تلك الدار، فلما يئسوا فرحوا، فنعيمهم هذا القدر، وهو أول نعيم يجدونه، وحالهم فيها كما قدمنا بعد فراغ مدة الشقاء، انهم يستعذبون العذاب فتزول الآلام، ويصير العذاب عذبا كما يستحلي صاحب الجرب من يحكه، هذا ما أدى اليه نظر صاحب المشرب الختمي والمقام الجمعي، حيث ذكر بعد ما نقلناه من مكاشفاته. فافهم نعيم كل دار تستعذبه إنشاء الله.
ألا ترى صدق ما قلناه، النار لا تزال متألمة لما فيها من النقص وعدم الإمتلاء حتى يضع الجبار قدمه فيها كما ورد في الحديث، وهي إحدى تينك القدمين المذكورتين في الكرسي.
والاخرى التي مستقرها الجنة قوله:
وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم
[يونس:2] والاسم " الرب " مع هؤلاء، و " الجبار " مع هؤلاء الآخرين. لأنها دار جلال وجبروت وهيبة، والجنة دار جمال وانس ومنزل إلهي لطيف، وهما بأزاء القبضتين المذكورتين في الحديث القدسي: الواحد لأهل النار ولا يبالي، والآخرة لأهل الجنة ولا يبالي، لأن مآلهما الى الرحمة الواسعة.
ولو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة، ما وقع الأمر بالجرائم والحدود، ولا وصف نفسه بغضب، ولا البطش الشديد، فهذا كله من المبالاة والهم بالمأخوذ المحدود، إذ لو لم يكن له قدر ما عذب ولا استعذب، وقد قيل في أهل التقوى: إن الجنة اعدت للمتقين. وقال في أهل الشقاء:
أعد لهم عذابا أليما
[الإنسان:31] فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم.
فللأمور والأحكام مواطن عرفها أهلها، ولم يتعد بكل حكم موطنه، والعالم لا يزال يتأدب مع الله وبعالمه في كل موطن بما يريد الحق، ومن لا يعلم ليس كذلك، فبالقدمين أغنى وأفقر، وبهما أمات وأحيى، وبهما خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبهما أعز وأذل، وأعطى ومنع، وأضر ونفع، ولولاهما ما وقع في العالم شرك، فانهما اشتركتا في الحكم والعالم، فلكل منهما دار يحكم فيها، وأهل يحكم فيهم بما شاء الله من الحكم.
مكاشفة اخرى
[درجات غضبه تعالى]
اعلم أن النعيم والعذاب ثمرة الرضا والغضب، ولكل منهما ثلاث مراتب كما في باقي الصفات. فأول درجات الغضب يقضي بالحرمان وقطع الإمداد العلمي المستلزم لتسلط الجهل والهوى والنفس والشيطان. لكن كل ذلك موقتا إلى أجل معلوم عند الله في الدنيا، إلى النفس التي قبل آخر الانفاس في حق من يختم له بالسعادة الأخروية، كما ثبت في الحديث، سواء كانت سلطنة ما ذكر ظاهرا أو باطنا، أو هما معا. ولا شك في أن كلا من الأمور المذكورة مبادي كمالات دنيوية، ولذات عاجلية لمن في حزبها. والرتبة الثانية تقضي بانسحاب الحكم المذكور باطنا ها هنا، وظاهرا في الآخرة برهة من الزمان الأخروي، أو يتصل الحكم إلى حين دخول جهنم وفتح باب الشفاعة، وآخر مدة الحكم حال ظهور حكم أرحم الراحمين بعد انتفاء حكم شفاعة الشافعين.
والرتبة الثالثة تقتضي التأبيد ودوام حكم التبعيد، كما في قوله (صلى الله عليه وآله):
" ان الله لم ينظر الى الأجسام مذ خلقها "
، وكمال حكم هذا الغضب يظهر يوم القيامة، كما أخبر الرسل عن ذلك قاطبة بقولهم الذي حكاه نبينا (صلى الله عليه وآله) وعليهم: إن الله غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله، ولن يغضب بعده مثله. فشهدت بكماله شهادة يستلزم بشارة لو عرفت لم تيأس من رحمة الله، ولو جاز إفشاء ذلك، وكذا سر تردد الناس إلى الأنبياء (عليهم السلام)، وابتهالهم الى نبينا عليه وعليهم السلام، وسر فتح الله باب الشفاعة، وسر وضع الجبار قدمه فيها - يعني في جهنم - فينزوي بعضها الى بعض وتقول قط قط - أي حسبي حسبي - وسر السجدات الأربع، وما يخرج من النار كل دفعة، وما تلك المعاودة، وسر قول مالك خازن جهنم لنبينا (صلى الله عليه وآله) في آخر مرة يأتيه لاخراج آخر من يخرج بشفاعته: يا محمد ما تركت لغضب ربك شيئا، وسر قوله: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، وسر قوله سبحانه لنبيه عند شفاعته في أهل لا إله إلا الله: ليس ذلك لك.
الذي يقول في أثره شفعت الملائكة الحديث، وغير ذلك من الأسرار التي رمزت واجمل ذكرها مما يبهر العقول ويحير الألباب كما قيل:
وما كل معلوم يباح مصونة
وما كل ما املت عيون الظبا يروى
مكاشفة اخرى
[باطن الغضب]
وكل صفة إلهية واسم رباني - كما ان لها مظاهر ولوازم ايجادية - فلها أيضا غايات وحكم مترتبة عليها، وثمرات أخروية تنبعث عنها، فنقول: حكمة الغضب وباطنه الذي ينسحب عليه حكم الرحمة العامة، وتظهر منه الغاية الوجودية في المغضوب عليهم كما قال
باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
[الحديد:13] أمور ثلاثة: وقاية وتطير وتكميل.
اما النوع الأول: هو الوقاية، فكصاحب الآكلة إذا ظهرت في عضو، وقدر أن يكون الطبيب والده أو صديقه، فإنه مع فرط محبته يبادر لقطع العضو المعتل، لما لم يكن فيه قابلية الصلاح والمعالجة، فستراه يباشر الايذاء الظاهر، وهو شريك المتأذي، ولا مندوحة، لتعذر الجمع بين العافية وترك القطع، لما لم يساعد استعداد العضو على ذلك، وكذا في يد من لسعته الحية، والمعاصي بمنزلة الآلام والآفات الحاصلة لباطن الإنسان من لذع حية الهوى وعقارب الشهوات الكامنة، التي ستظهر بصورها الخاصة في نشأة القبر والبرزخ وغيرها، فافهم ذلك، وتذكر: " ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مسإته ولا بد له من ذلك " والوالد يظهر الغضب لولده رعاية لمصلحة، وهو في ذاته غير غاضب، وإنما يظن الولد والده مغضبا لما يشاهد من الآثار الدالة على الغضب عادة، والأمر بخلافه في نفس الأمر، وإنما ذلك لقصور نظر الولد، قال الله تعالى:
واتقوا النار التي أعدت للكافرين
[آل عمران:131].
فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة
[البقرة:24].
ألا ترى أن النار قد يتخذ دواء لبعض الأمراض في الدنيا، فهي وقاية وهو الداء الذي لا يشفى إلا بالكي من النار.
فكما جعل الله النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشد منها في حق المبتلى به فكذلك جعل في الآخرة النار دواء كالكي من داء، وأي داء أكبر من الكبائر، فدفع بدخولهم يوم القيامة داء عظيما أعظم من النار، وهو البعد عن حضرته، كما في الحدود الدنيوية وقاية من عذاب الآخرة.
وأما النوع الثاني، وهو التطهير، فمثاله لو أن ذهبا مزج برصاص ونحاس لمصلحة لا يمكن حصولها إلا بالمجموع ثم إذا انقضى الوقت المراد لأجله هذا الجمع والتركيب، وحصل المطلوب، وقصد تميز الذهب مما مازجه من غير جنسه، لا بد وأن يجعل في النار الشديدة لينفرد الذهب عن غير جنسه، ويظهر كماله الذاتي، ويذهب ما جاوره مما لم يطلب لنفسه وإنما اريد لمعنى فيه يتصل بالذهب، وقد اتصل، كماء الورد، كان أصله ماء فعاد الى أصله لكن بمزيد عطرية وكيفيات مطلوبة.
وهكذا الأمر في الغذاء، توصله الغاذية، وتضمه الى الإنسان، فإذا استخلصت الطبيعة منه المراد، رمت بالثفل إذ لا غرض فيه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون
[الأنفال:37].
وقال أيضا في هذا المعنى ببيان أوضح وأتم تفصيلا:
أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى
[الرعد:17 - 18]. الآيات، فتدبر.
ففيها تنبيهات شريفة على أحوال أهل قبضة الغضب وأهل قبضة الرحمة.
وأما النوع الثالث: وهو التكميل وهو الأصل في الغاية وما سبق من التوقي والتطهير كان لأجله، فمشار إليه في تبديل السيئات حسنات. وأنت إذا تدبرت وفتشت حال الموجودات عند شدائدها وآلامها، وانقلاباتها الطبيعية والذاتية، التي بحسب الأسباب الباطنة، لا تجد منها أحدا إلا وقد ولاه الله إلى ما هو خير له مما كان أولا، ووجهه إلى أصله وكماله.
هذا ما اقيم عليه البرهان كما أشرنا من قبل، وحكم به الاستقراء والتجربة والوجدان، وفيه سر الربوبية وأحدية الفعل من حيث الأصل والفاعل والغاية، مع أنه لا مكره ولا مغضب ولا مزاحم ولا راد له تعالى من خارج.
وكان أصل ايجاده للعالم على أكمل وجه اقتضته حكمته ومشيته، فليس في الوجود جهة من الجهات، ولا وجه من الوجوه الوجودية، إلا وهو أصله ومبدأه ومنشأه فافهم وارق، فإنك إن علوت من هذه النمط، استحليت بسر القدر المتحكم في العلم والعالم والمعلوم. ومن رقا فوق ذلك رأى غلط الإضافات الشائعة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال، وإن رقا فوق ذلك، رأى الجمال المطلق الذي لا قبح عنده، ولا شر فيه، ولا غلظ ولا نقص ولا تخويف.
وإن رقا فوق ذلك، رأى الجور والعدل، والظلم والحلم والتعظيم والإهانة، والكتمان والإبانة، والوعد الوعيد، كلها محترقة بنور السبحات الوجهية مستهلكة في عرصة الحضرة الذاتية الأحدية، فإن رقا عن ذلك، سكت فلم يفصح، وعمي فلم ينظر، وذهب فلم يظهر، فإن أعيد ظهر بكل وصف، وكان المعنى المحيط بكل حرف.
فصل
في بيان نبذ من فضائل سورة الفاتحة
اعلم أن المقصد الأقصى واللباب الأصفى من إنزال القرآن وتنزيله على أشرف خلق الله (صلى الله عليه وآله) أولا، وعلى أمته الذين هم خير الأمم ثانيا، هو هداية الخلق وإرشادهم وتكميلهم بسياقتهم إلى الله ودار كرامته، على أتم وجه وأشرفه.
وذلك إنما يحصل بتزيين نفوسهم بأنوار الحكمة والمعرفة، وتجريدها عن رق الطبيعة، وأسر قواها الشهوية والغضبية والوهمية، التي هي مداخل الشيطان في باطن الإنسان، وتطهيرها عن أرجاس العنصريات وقاذوراتها، وتخليصها عن مكائد الشياطين وجنودها الداخلية والخارجية.
فالقرآن مشتمل من الحكمة والمعرفة على عظائمها وأصولها، التي عجزت عن دركها أفهام السابقين واللاحقين، ومن الشريعة والطريقة على لطائفها ولبابها، التي خلت عنها زبر المتقدمين والمتأخرين.
ولعمري، إنه كصورة جمعية العالم المخلوق على صورة الرحمن، الدال بهيئته ونظامه، واشتماله على مظاهر الصفات الجمالية من الملائكة وأنوارها ومن ضاهاها، والصفات الجلالية من الأجسام وقواها وما شابهها، على وجود من له الخلق والأمر.
ونسبة سورة الفاتحة الى القرآن كله، كنسبة الإنسان - وهو العالم الصغير - إلى العالم - وهو الإنسان الكبير-.
وكما أن الإنسان الكامل كتاب وجيز ونسخة منتخبة، يوجد فيه كل ما في الكتاب الكبير الجامع الذي لا رطب ولا يابس إلا ويوجد فيه، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. كما قيل:
من كل أمر لبه ولطيفه
مستودع في هذه المجموعة
فكذلك فاتحة الكتاب، مع قصرها ووجازتها، توجد فيها مجامع مقاصد القرآن، وأسرارها وأنوارها، وليس لغيرها من سائر السور القرآنية هذه الجامعية، كما ليس لواحد من صور أجزاء العالم ما للإنسان من صورة الجمعية الإلهية على ما قيل:
ليس من الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
والعارف المحقق، يفهم من هذه السورة الواحدة جميع المعارف والعلوم الكلية المنتشرة في آيات القرآن وسوره، كما وقع التنبه عليه، ومن لم يفهم هذه السورة على وجه يستنبط منها عمدة أسرار العلوم الإلهية والمعالم الربانية؛ من أحوال المبدعو المعاد، وعلم النفس وما بعدها وما فوقها، الذي هو مفتاح سائر العلوم كلها، فليس هو بعالم رباني، ولا مهتد بتفسيرها على وجهه.
ولو لم تكن هذه السورة مشتملة كما قلنا على أسرار المبدء والمعاد، وعلم سلوك الإنسان إلى ربه، لما وردت الأخبار على فضلها، وأنها تعادل كل القرآن، إذ لا مرتبة ولا فضيلة لشيء بالحقيقة إلا بسبب اشتماله على الأمور الإلهية وأحوالها كما مر مرارا.
ولو أن إنسانا أراد أن يعلم ان أي الأشياء هو أفضل ما به يتقرب العبد الى الله تعالى، وأيها اكسير السعادة الأخروية التي يجعل حديد قلب الإنسان ذهبا خالصا وإبريزا صافيا يليق أن تتختم به يد الملك ويختم به خزائنه الشريفة، فليتأمل وليذعن ان ذلك يجب أن يكون من الأمور التي أنزلها الله على قلب بشر، ويجب أن يكون ذلك الشيء من قبيل ما يوجد في كتب الأنبياء سلام الله عليهم وخزائن أسرارهم، والذي أفاض على قلوبهم من العلوم والمعارف.
ولا بد أن يكون النبي الذي أوحى الله إليه بهذا الأمر الذي هو أشرف ما يستكمل به جوهر الإنسان، هو أشرف الأنبياء وأفضلهم وخاتمهم عليه وآله أفضل التحيات وأنور التحميدات.
ولا بد أن يكون المكان والزمان الذي وقع الايحاء والتكليم والهداية له (صلى الله عليه وآله) بهذا أعلى الأمكنة، وأسعد الأزمنة، فلا بد أن يكون ذلك الإنعام عليه عند عروجه إليه تعالى ليلة المعراج، والذي نزل ليلة المعراج على النبي (صلى الله عليه وآله) من السور والآيات، كان هذه السورة وخواتيم سورة البقرة.
فهذا مما دل على أن أفضل السور سورة الفاتحة، وأفضل الآيات خواتيم سورة البقرة، ولهذا لا بد وأن يكون كلا منهما مشتملا على غاية الكمال الإنساني.
وسبب ذلك، أن سعادة الدارين، إنما تتم بدعوة الخلق من قبله تعالى بواسطة متوسط مؤيد شريف مطاع أمين كما قال تعالى:
ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين
[التكوير:20- 21]. ولكل مؤيد مطاع في الروحانيات مطاع في الجسمانيات، بل المطاع في الروحانيات ثمرة المطاع في الجسمانيات، فإن الدنيا بحذافيرها مظاهر وفروع لما في الروحانيات، لأن نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة نسبة الأصل إلى الفرع، ونسبة النور الى الظل، فكل شاهد فله في الغائب أصل، وإلا لكان كسراب زايل وخيال باطل، وكل غائب فله في الشاهد مثال، وإلا لكان الشاهد كشجرة بلا ثمرة، ودليل بلا مدلول، فالمطاع ها هنا صورة المطاع هناك، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر، وبينهما ملاقاة واتصال، وبهما تتم سعادة الدارين، لأنهما يدعوان الى الله بالرسالة.
وحاصل الدعوة والرسالة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، منها أربعة متعلقة بأسرار المبدء وهي: معرفة الربوبية وعلم المفارقات من الحكمة الإلهية، أعني معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله
[البقرة:285].
ومنها ما يتعلق بالوسط وهو إثنان: أحدهما معرفة العبودية:
وقالوا سمعنا وأطعنا
[البقرة:285]. والثاني كمال العبودية، وهو الإلتجاء الى الله تعالى وطلب المغفرة منه:
غفرانك ربنا
[البقرة:285]، وواحد يتعلق بالمعاد، وهو الذهاب الى الملك الجواد:
وإليك المصير
[البقرة:285] فكذلك تشتمل هذه السورة على هذه الأمور السبعة:
فقوله: { بسم الله الرحمن الرحيم } ، مشتمل على توحيد الذات والصفات.
وقوله: { الحمد لله رب العالمين } ، فيه توحيد الأفعال وهي قسمان: عالم الأمر، وفيه الملائكة المقربون، وعالم الخلق، وأصله وصفوته الأنبياء والمرسلون ومن يتلوهم.
وقوله: { الحمد لله } ، إشارة إلى عالم التحميد والتقديس والتسبيح، وفيه الملائكة المسبحون بحمده تعالى.
وقوله: { رب العالمين } ، إشارة الى كمل أهل العلم والعرفان، وهم الأنبياء والأولياء ومن يتلوهم.
وقوله: { الرحمن الرحيم } ، أي رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فيه إشارة الى أهل الرحمة الإلهية في كلا العالمين، وهم الملائكة والرسل.
وقوله: { ملك يوم الدين } ، إشارة الى حقيقة المعاد، ورجوع الكل إليه تعالى، لأنه غاية الغايات.
وقوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، إشارة الى كيفية العبودية بتهذيب الأخلاق وتصفية الباطن، وإلى طلب الالتجاء الى الله، وهي حالة الإنسان فيما بين البداية والنهاية.
وقوله: { اهدنا الصراط المستقيم } ، إشارة الى العلم بكلمات الله وآياته.
وقوله: { صراط الذين أنعمت عليهم } ، إلى آخر السورة، إشارة الى القرآن المجيد الذي هو أشرف الكتب السماوية، وهي الألواح النفسية النازلة على الأنبياء السابقين، لأن الجوهر النفسي العقلي من النبي (صلى الله عليه وآله) الذي هو جوهر النبوة، كلمة إلهية بوجه، وكتاب مبين فيه آيات الحكمة والمعرفة بوجه، هو بعينه صراط الله العزيز الحميد، إذ لا يمكن وصول العبد الى الله إلا بعد الوصول الى معرفة ذاته، وكذا من ينوب عنه (ع)، كما دل عليه الحروف المقطعات القرآنية: " علي صراط حق نمسكه ".
وتنبعث من هذه المراتب سبع مقامات في المكالمة الحقيقية مع الله بالدعاء:
أولها: الذكر:
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا
[البقرة:286]. فضد النسيان وهو الذكر،
واذكر ربك إذا نسيت
[الكهف:24]. وهذا الذكر إنما يحصل بقوله: { بسم الله الرحمن الرحيم }.
وثانيها:
ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا
[البقرة:286]، ورفع الإصر والمشقة في الحمل يوجب الحمد: { الحمد لله رب العالمين }.
وثالثها:
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به
[البقرة:286]، وذلك إشارة الى كمال رحمته: { الرحمن الرحيم }.
ورابعها:
واعف عنا
[البقرة:286] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة يوم الآخرة: { ملك يوم الدين }.
وخامسها:
واغفر لنا
[البقرة:286]، لأنا التجأنا بكليتنا إليك، وتوكلنا في جميع الأمور عليك: { إياك نعبد وإياك نستعين }.
وسادسها:
وارحمنآ
[البقرة:286]، لأنا طلبنا الهداية منك { اهدنا الصراط المستقيم }.
وسابعها:
أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين
[البقرة:286]، { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين }.
فهذه المراتب ذكرها محمد (صلى الله عليه وآله) في عالم الأرواح عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج الجسماني السماوي، فاض أثر المصدر على المظهر، فوقع التعبير عنها بالمكالمة الصورية في عالم السماء الدنيا بينهما بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته، صعدت هذه الانوار من المظهر إلى المصدر، كما نزلت في عهد محمد (عليه وآله السلام) من المصدر الى المظهر، ولهذا السبب قال صلوات الله عليه وآله:
" الصلاة معراج المؤمن ".
وأما الاخبار الدالة على فضلها فكثيرة. منها ما روي مسندا الى أبي بن كعب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" أيما مسلم قرء فاتحة الكتاب، أعطي من الأجر كأنما قرء ثلثي القرآن. وفي رواية: كأنما قرء القرآن ".
وروي عنه بسند آخر قال: قرأت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاتحة الكتاب، فقال:
" والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها. هي أم الكتاب. وهي السبع المثاني. وهي مقسومة بين الله وبين عبده ولعبده ما سأل ".
وفي كتاب محمد بن مسعود العياشي، باسناده عن النبي (عليه وآله السلام) قال لجابر بن عبد الله:
" يا جابر، ألا اعلمك بفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟ قال: فقال له جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، علمنيها، قال: فعلمه الحمد، أم الكتاب، ثم قال: يا جبر، ألا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فأخبرني. فقال: هي شفاء من كل داء إلا السام "
، والسام الموت.
وعن جعفر الصادق (عليه السلام) قال: من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شيء.
وروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن الله عز وجل قال: يا محمد، { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم }. فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن "
وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإن الله خص محمدا وشرفه بها، ولم يشرك فيها أحدا من أنبيائه، ما خلا سليمان (عليه السلام)، فإنه أعطاه منها: { بسم الله الرحمن الرحيم } ، ألا ترى يحكى عن بلقيس حين قالت:
إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم
[النمل:29 - 30]. ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد وآله، منقادا لأمرها، مؤمنا بظاهرها وباطنها، أعطاه الله بكل حرف منها حسنة، كل واحد منها أفضل له من الدنيا بما فيها، ومن استمع الى قارئ يقرأها كان له قدر ثلث ما للقاري، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض له، فإنه غنيمة لا يذهبن أوانه فيبقى في قلوبكم الحسرة.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا، فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب: الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى، فيرفع عنهم العذاب أربعين سنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ أتاه ملك فقال: ابشر بنورين اوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن يقرأ [أحد] حرفا منها إلا اعطيته (ما يتضمنه - ن).
أقول: وفي طي هذه الأخبار - سيما هذا الأخير - إشارات علمية، وتعريفات سرية، ورموز معنوية، وتنبيهات عرفانية على جوامع الكمالات العقلية، والمعارج الإلهية المندرجة في هذه السورة، لا يعرف قدرها، ولا يفهم غورها إلا الراسخون في العلم والدين، والسالكون طرق الكشف واليقين. لا المتشبثون بذيل العبارات، والمترددون كالخفافيش في ظلمات هذه الاستعارات.
تتمة استبصارية
[جامعية السورة لأهم المعارف]
ومن فضائل هذه السورة، إنها جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدء والوسط والمعاد:
الحمد لله: إشارة الى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم، المستحق للحمد والتعظيم.
رب العالمين: يدل ان ذلك الإله واحد، وان كل العالمين ملكه، وليس في العالم إله سواه ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيرا:
قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت
[البقرة:258].
الذي خلقني فهو يهدين
[الشعراء:78].
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه:50].
ربكم ورب آبآئكم الأولين
[الشعراء:26].
اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
[البقرة:21]
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق
[العلق:1 - 2].
وهذه الحالة، كما انها في نفسها دليل على وجود الرب، فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء، لا يمكن، إلا إذا قصد الخالق ايجاد تلك الأجزاء على تلك الصور والطبائع، وكل منها مطابق للمطلوب، موافق للغرض، كما يشهد به علم تشريح الأبدان، فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم، الرحمن الرحيم، الي شمل إحسانه وعم امتنانه قبل الموت وبعد الموت.
مالك يوم الدين: يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته ، أن يقدر بعد هذا اليوم يوما آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء، وانتقام المظلوم من الظالم، وها هنا تمت معرفة الربوبية.
ثم من قوله: { إياك نعبد } ، اشارة الى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان: والآثار المتفرعة على الأعمال، كالأحوال، ثم الأعمال لها ركنان، أحدهما: الإتيان بالعبادة وهو قوله: { إياك نعبد } ، والثاني: علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله، وهو قوله: { وإياك نستعين }.
وأما الآثار والأحوال المتفرعة على الأعمال، فهي حصول الهداية، والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين، المستقيمة بين المنحرفين { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخره.
وفي قوله: { صراط الذين أنعمت عليهم } ، دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال وأهل الحق، خلة محمودة، وشيمة مرضية: هم القوم لا يشقى جليسهم.
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران:31].
وفي قوله: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، إشارة الى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء أمر واجب. شعر:
الجمر يوضع في الرماد فيخمده
فكل قرين بالمقارن يقتدي
فصل
في نظم هذه السورة وترتيبها
إن العاقل الفهم المميز، لما نظر في وجودات هذا العالم، علم بالمشاهدة والقياس افتقار بعضها إلى بعض، تحقق وتيقن أنها في سلسلة الحاجة منتهية الى موجود قديم قادر يفعل الخيرات كلها، ويرحم على خلقه في الآخرة والأولى، فابتدء بآية التسمية تبركا واستفتاحا باسمه، واعترافا بآلهيته، واسترواحا الى ذكر فضله ورحمته وكرمه ورأفته.
ولما كان الاعتراف بالحق، والعلم بالله الفرد الأحد الذي هو مبدء الخيرات كلها، وفاتح المهمات جلها، نعمة جليلة، اشتغل بالشكر له والحمد فقال: الحمد لله، ولما رأى سراية نور التوحيد ونفوذ رحمة الوجود على غيره واضحة بنور الحجة والبرهان، كما شاهد آثارها على نفسه لائحة بقوة الكشف والعيان؛ عرف انه رب الخلائق أجمعين فقال: رب العالمين.
ثم لما رأى شمول فضله للمربوبين ثابتا بعد إفاضة أصل الوجود عليهم، وعموم رزقه للمرزوقين حاصلا بعد إكمال الصورة في أطوار الخلقة لهم، قال: الرحمن
فلما رأى تفريطهم في حقه وواجب شكره ، وتقصيرهم في عبادته والانزجار عند زجره، واجتناب نهيه، وامتثال أمره، وأنه تعالى يتجاوز بالغفران، ولا يؤاخذهم عاجلا بالعصيان، ولا يسلبهم نعمه بالكفران، قال: الرحيم.
ولما رأى ما بين العباد من التباغي والتظالم، والتكالم والتلاكم، وأن ليس بعضهم من شر بعضهم بسالم، علم أن وراءهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال: { مالك يوم الدين }.
وإذا عرف هذه الجملة، فقد علم أن له خالقا رازقا رحيما، يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد وهو الحي الذي لا يموت، والإله الذي لا يستحق العبادة سواه والمستعان الذي لا يستعين بغيره من عرفه ووالاه، وعلم أن الموصوف بهذه الأوصاف كالمدرك بالعيان والمشهود بالبرهان، تحول عن لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب فقال: اياك نعبد.
ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات، وتعاور الآراء المختلفات، ولم يجد معينا غير الله، سأله الإعانة على الطاعات بجمع الأسباب لها والوصلات فقال: اياك نستعين. ولما عرف هذه الجملة، وتبين أنه بلغ في معرفة الحق المدى، واستقام على منهج الهدى، ولا يأمن العثرة لارتفاع العصمة، سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه، والثبات والعصمة من الزلات فقال: { اهدنا الصراط المستقيم }. وهذا لفظ جامع كما علمت، مشتمل على مجامع أسباب التوفيق والتسديد، ولطائف نعم الله في حق من يختاره للنهاية ويريد، وأوجب الله طاعتهم بعد طاعته من الأئمة الهادين والأولياء المرضيين.
وإذا علم ذلك، علم أن لله عبادا خصهم بنعمته، واصطفاهم على بريته وجعلهم حججا على عباده، ومنارا في بلاده، فسأله أن يلحقه بهم ويسلم به سبيلهم فقال: صراط الذين انعمت عليهم.
وسأله أيضا أن يعصمه عن مثل أحوال الذين زلت أقدامهم فضلوا، وعدلت أفهامهم فأضلوا، ممن عاند الحق وعمي عن طريق الرشد وخالف سبيل القصد، فغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا أليما وخزيا مقيما.
إذ قد شك في واضح الدليل فضل عن سواء السبيل، فقال: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.
منهج آخر
في نظم فاتحة الكتاب
وهو إن للإنسان أياما ثلاثة:
الأمس: والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدء واليوم الحاضر: والبحث عنه يسمى بالوسيط والغد : والبحث عنه يسمى بعلم المعاد. والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب وتعليم هذه المعارف الثلاثة التي كمال النفس الإنسانية منوط بمعرفتها، ونفس الأعمال البدنية إنما تراد لأجلها، لأن غايتها تصفية مرآة القلب عن الغواشي البدنية، والظلمات الدنيوية، لأن يستعد لحصول هذه الأنوار العقلية، وإلا فنفس هذه الأعمال الحسنة ليس إلا من باب الحركات والمتاعب، ونفس التصفية المترتبة عليها ليست إلا أمرا عدميا لو لم يكن معها استنارة صفحة القلب بأنوار الهداية، وتصورها بصورة المطالب الحقة الإلهية، والقرآن متضمن لها وهي العمدة الوثقى فيه لما ذكرنا.
ولما كانت هذه السورة مع وجازتها متضمنة لمعظم ما في الكتب الإلهية من المسائل الحقة، والمقاصد اليقينية المتعلقة بتكميل الإنسان، وسياقته إلى جوار الرحمن، فلا بد أن يتحقق فيها جميع ما يحتاج اليه الإنسان منها، فنقول هي هكذا.
أما اشتمالها على علم المبدء، فقوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } ، إشارة الى العلم بوجود الحق الأول، وأنه مبدأ سلسلة الموجودات، وموجد كل العوالم والمخلوقات.
وقوله: { الرحمن الرحيم } إشارة إلى العلم بصفاته الجلالية وأسمائه الحسنى.
وقوله: { مالك يوم الدين } هو إثبات كونه سببا غائيا للمخلوقات كلها، كما انه سبب فاعلي لها جميعا، ليدل على أن فاعليته على غاية الحكمة والتمام، ورعاية المصلحة للأنام.
وأما اشتمالها على علم الوسط فلأن قوله: { اياك نعبد واياك نستعين } ، إشارة الى الأعمال والأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عاملا بها ومديما عليها، ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا. وهي قسمان: بدنية وقلبية. فالبدني: تهذيب الظاهر عن النجاسة، وتزيينه بالعبادة، كالصلاة والصيام وغيرها.
والقلبي: تهذيب الباطن عن الغشاوات وخبائث الملكات، بإعانة الله وتوفيقه، لتستعد نفسه بذلك لأن تتنور بأنوار المعارف الإلهية، وتستكمل بالحقائق الربانية، ليتقرب بذلك الى الله ويحشر الى دار كرامته كما دل عليه قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } ، أي علمنا طريق الوصول إليك.
وأما اشتمالها على علم المعاد، وهو العلم بأحوال النفس الإنسانية الكاملة في العلم والعمل، المبرأة عن آفة الجهل ونقص العصيان، فقوله: { صراط الذين انعمت عليهم } إلى آخراها ؛ إشارة الى علم النفس، وهي صراط الله العزيز الحميد، وباب الله المؤتى منه الى الحق، فبالنفس الإنسانية العالمة العاملة المهتدية بنور الله، يساق الخلق الى الحق، ويدخل الخلائق كلهم في طريق العود من هذا الباب الى الخالق، فإن الوجود في صورة دائرة انعطف آخرها على أولها، فكما أن الوجود في الابتداء كان أولا العقل، ثم النفس الكلية، ثم الطبيعة الكلية، ثم الأبعاد والأجرام كلها، ففي الإنتهاء كان أولا جمادا، ثم نباتا، ثم حيوانا، ثم إنسانا، وله مراتب باطنية، كان أولا في مقام الطبيعة والنفس الكلية، ثم الطبيعة الكلية، ثم الأبعاد والأجرام كلها، ففي الإنتهاء كان أولا جمادا، ثم نباتا، ثم حيوانا، ثم إنسانا، وله مراتب باطنية، كان أولا في مقام الطبيعة والنفس، ثم في مقام القلب والعقل، ثم في مقام الروح والسر، وإذا بلغ الى هذا المقام، اتصل بغاية الكمال والتمام.
تذييل
ثم إن لهذه الكريمة نكات ووجوها أخرى من التأويل كثيرة، مذكور بعضها في التفاسير المعتبرة لأهل العلم والتحصيل، كالكبير والنيسابوري وغيرهما، اخترت منها وجوها ثلاثة فأردت ايرادها هاهنا تكميلا للكتاب، وتكثيرا للفوائد في هذا الباب.
الوجه الاول
إن آيات الفاتحة سبع، وأعمال الصلاة المحسوسة الواجبة بالإتفاق سبعة، إذ النية فعل القلب وليس بمحسوس، ومراتب خلقة الإنسان وأطوارها سبع، كما قال تعالى:
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
[المؤمنون:12 - 14].
وكذلك مراتب جوهر باطنه وأطواره سبع وهي الطبع والنفس والقلب والروح والسرو والخفي والأخفى، فنور آيات الفاتحة يسري من ألفاظها المسموعة الى الأعمال السبعة المحسوسة، ومنها الى هذه المراتب الخلقية، ومن معانيها الى النيات المتعلقة بتلك الأعمال، ومنها الى هذه المراتب الباطنية الأمرية، فيحصل للقلب أنوار روحانية ثم ينعكس منه الى ظاهر المؤمن: من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
الوجه الثاني
كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) معراجان من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ثم من المسجد الأقصى الى ملكوت السماء، هذا في عالم الحس، وأما في عالم الروح، فمن الشهادة الى الغيب، ثم من الغيب الى غيب الغيب، هذا بمنزلة قوسين متلاصقين. فتخطاهما محمد (صلى الله عليه وآله)، فكان قاب قوسين، وقوله: او ادنى، إشارة الى فنائه في نفسه.
والمراد بعالم الشهادة، كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات.
وبعالم الأرواح، ما فوق ذلك من الأرواح السفلية، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش، ثم الى حملة العرش من عند الله الذين طعامهم وشرابهم محبته تعالى، وانسهم بالثناء عليه، ولذتهم في خدمته، لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
وهكذا يتصاعد إلى نور الأنوار وروح الأرواح، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه.
والمقصود؛ أن نبينا (صلى الله عليه وآله)، لما عرج وأراد أن يرجع، قال رب العزة: المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه. وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين: الجسماني بالأفعال، والروحاني بالأذكار والنيات.
فليكن المصلي ثوبه طاهرا وبدنه طاهرا، لأنه بالواد المقدس طوى، ويصفي النفس عن الكدورات الشيطانية، والهواجس البشرية، لأنه بين يدي الله.
والصلاة هي التعبد للمعبود الأعظم، والتعبد هو عرفان الحق الأول بالسر الصافي والقلب النقي.
وأيضا، عنده ملك وشيطان ودين وعقل وهوى، وخير وشر وصدق وكذب، وحق وباطل، وقناعة، وحرص وحلم وطيش، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فلينظر أيها يختار، فإنه إذا استحكم المرافقة تعذرت المفارقة، قال تعالى:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين
[التوبة:119].
ثم إذا تطهر وتجرد، فليرفع يديه إشارة الى توديع الدنيا والآخرة، وليوجه قلبه وروحه وسره الى الله تعالى، ثم ليقل: الله أكبر، أي من كل الموجودات، بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره.
وقل: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا، فقولك: وجهت وجهي؛ هو معراج الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. كما ان قولك: سبحانك اللهم وبحمدك، معراج الملائكة حيث قالوا: نحن نسبح بحمدك ونقدس لك، وقولك : ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، معراج الحبيب محمد (صلى الله عليه وآله).
فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين، ومعراج عظماء الأنبياء المرسلين.
ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حذرا عن مكره وإغوائه، ودفعا لإعجابك عن نفسك، وفي هذا المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة.
وبقولك: { بسم الله الرحمن الرحيم } ، يفتح باب الذكر.
وبقولك: { الحمد لله رب العالمين } ، يفتح باب الشكر.
وبقولك: { الرحمن الرحيم } ، يفتح باب الرجاء.
وبقولك: { مالك يوم الدين } ، يفتح باب الخوف.
وبقولك: { اياك نعبد واياك نستعين } ، يفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية.
وبقولك: { اهدنا الصراط المستقيم } ، يفتح باب الدعاء والتضرع، ادعوني استجب لكم.
وبقولك: { صراط الذين أنعمت عليهم } إلى آخره، يفتح باب الإقتداء بالأرواح الطيبة، والإهتداء بأنوارهم.
فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة.
وأما الجسماني، فأولى المراتب أن يقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف:
إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض
[الكهف:14]، بل قيام أهل القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ثم اقرء: سبحانك اللهم وبحمدك، ثم وجهت وجهي، ثم الفاتحة، وبعدها ما تيسر لك من القرآن، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك، حتى تستحقرها، واياك وأن تنظر من عبادتك الى الله، فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين، وهذا سر قوله: { اياك نعبد واياك نستعين } ، كما ذكر.
واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال، فلانت، فاجعلها منحنية بالركوع، ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه بالرفق، فلا تبغض طاعة الله الى نفسك، فان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
فإذا عادت الى استقامتها فانحدر الى الأرض بغاية التواضع، واذكر ربك بغاية العلو وقل: سبحان ربي الأعلى، فإذا سجدت ثانية فقد حصل ثلاثة أنواع من الطاعة، ركوع واحد، وسجدتان، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات.
وبالسجود الأول من عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات.
وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي الى كل المضلات، فإذا تجاوزت عن هذه الدركات وصلت الى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيت الى عتبة باب الجلال والإكرام، مدبر عالمي النور والظلام، فقل: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لتتم لك بهذه الشهادة معرفة المبدأ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، لتتم لك معرفة المعاد، وليصعد إليه نور روحك، وينزل اليك روح محمد (صلى الله عليه وآله)، فيتلاقى الروحان، ويحصل هناك الروح والريحان، فقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فعند ذلك يقول محمد (صلى الله عليه وآله): السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ثم إذا ذكرت الله في صلاتك بهذه الأثنية والمحامد، ذكر الله اياك في محافل الملائكة كما قال .....................: من ذكرني في ملاء ذكرته في ملاء خير من ملائه.
وإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا الى العبد، فقال الله: إن الملائكة اشتاقوا الى زيارتك، وقد جاؤوك زائرين، فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كلام أهل الجنة الذين تحيتهم فيها سلام، فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة { يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }.
الوجه الثالث
إن آيات الفاتحة سبع، والأعمال المحسوسة في الصلاة غير القراءة والأذكار سبعة: القيام، والركوع، والانتصاب منه، والسجود الأول، والانتصاب منه، والسجود الثاني، والقعدة.
فهذه الأعمال كالشخص، والفاتحة لها كالروح، وإنما يحصل الكمال والحياة عند اتصال الروح بالجسد. فقوله: { بسم الله الرحمن الرحيم } ، بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم الله، لما اتصل باسم الله حصل قائما مرتفعا.
وأيضا، التسمية لبداية الأمور، كل امر ذي بال يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر والقيام أيضا أول الأعمال.
وقوله: { الحمد لله رب العالمين } ، بإزاء الركوع، لأن الحمد في مقام التوحيد نظرا إلى الحق وإلى الخلق، والمنعم والنعمة. لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والإستغراق، كما ان الركوع حالة متوسطة ين القيام والسجود، وأيضا ذكر النعمة الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني.
وقوله: الرحمن الرحيم، مناسب للانتصاب، لأن العبد لما تضرع الى الله بالركوع، فاللائق برحمته أن يرده الى الانتصاب، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله): إذا قال العبد: " سمع الله لمن حمده " نظر إليه بالرحمة.
وقوله: مالك يوم الدين مناسب للسجدة الأولى، لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء، وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع.
وقوله: { اياك نعبد واياك نستعين } ، مناسب للقعدة بين السجدتين، لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت، وإياك نستعين، إستعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية.
وقوله: { اهدنا الصراط المستقيم } ، سؤال لأهم الأشياء، فتليق به السجدة الثانية لتدل على نهاية الخضوع.
وقوله: { صراط الذين انعمت عليهم } إلى آخره، مناسب للقعود، لأن العبد لما أتى بغاية التواضع، قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه، وحينئذ يقرأ ما قرأه محمد (صلى الله عليه وآله) في معراجه، فالصلاة معراج المؤمن.
وجه رابع
إن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها ثلاثة: الشهوة والغضب والهوى والشهوة بهيمة والغضب سبع والهوى شيطان، فالشهوة آفة عظيمة، لكن الغضب أعظم منها. والغضب آفة عظيمة، لكن الهوى أعظم منه، قال سبحانه:
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
[النحل:90].
الفحشاء: الشهوة والمنكر: الغضب والبغي: الهوى. وبهذه الثلاثة وقع المسخ في أمة موسى (عليه السلام):
وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا
[المائدة:60].
فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه، وبالغضب ظالما لغيره، وبالهوى [ظالما] لربه، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله):
" الظلم ثلاثة ظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه ".
فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان:12]. والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا. والظلم الذي عسى الله أن يتركه، هو ظلم الإنسان نفسه.
ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العجب والكبر، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة، ويحصل من اجتماع هذه الستة في بني آدم خصلة سابعة، هي العدوان المستلزم للبعد عن رحمة الله، أي الاحتجاب عنه ، وهي نهاية الأخلاق الذميمة، كما ان الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومين.
فإذا تقرر هذا نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة.
بيان ذلك: ان من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23]. يا موسى، خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا هواك.
ومن عرف انه رحمن لم يغضب، لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن:
الملك يومئذ الحق للرحمن
[الفرقان:26].
ومن عرف انه رحيم، صحح نسبته إليه، فلا يظلم نفسه، ولا يلطخها بالأفعال البهيمية.
وأما الفاتحة، فإذا قال { الحمد لله } فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته. ومن عرف انه { رب العالمين } زال حرصه فيما لم يجد، وبخله فيما وجد، ومن عرف انه { مالك يوم الدين } بعد أن عرف انه { الرحمن الرحيم } زال غضبه.
ومن قال: { اياك نعبد واياك نستعين } زال كبره بالأول، وعجبه بالثاني.
وإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم } اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال: { صراط الذين انعمت عليهم } زال عنه كفره، وإذا قال: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } اندفعت بدعته، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة التي هي مجامع الشرور كلها، زال عنه حجابه وبعده عن جناب القدس.
[2 - سورة البقرة]
[2.1]
فصل
في نبذ من أسرار الحروف
لما ذكر الله عن نفسه أنه الظاهر وأنه الباطن وأنه المتكلم، وأن له كلاما وكلمات وكتبا، وذكر نبيه (صلى الله عليه وآله):
" أن له نفسا من الإسم الرحمن، الذي به استوى على العرش، وهو بمنزلة قلب الإنسان كما قال: قلب المؤمن عرش الله "
صح لنا الإيمان بهذه الأمور.
فلما علمنا أن له نفسا لا كأنفاسنا، بل على وجه يليق بذاته وصفاته أنه الباطن والظاهر كبطوننا وظهورنا، وأن له كلاما على وجه يناسب عظمته وجلاله، علمنا أن كلماته هي الموجودات الصادرة عنه، الناشية عن ذاته بذاته، من غير توسط مادة أو محل أو استعداد على مثال الحروف والكلمات الناشية من الإنسان التي يتشكل بها الهواء الخارج من باطنه؛ ولا كمثل أفعال الإنسان التي تتوسط فيها الآلات الجسمانية الخارجة عنه.
ولما علمت أن قلب الإنسان - لمكان الروح الحيواني الذي هو سبب حياة البدن، - بمنزلة عرش الرحمن ومحل الرحمة، وان صدره الواسع - لمكان الروح الطبيعي الساري في جميع البدن أعلاه وأسفله - بمنزلة كرسيه الذي وسع السموات والأرض؛ فاعلم أن الله جعل للهواء الخارج من الصدر بعد نزوله إليه من القلب ثمانية وعشرين مقطعا للنفس، يظهر في كل مقطع حرفا معينا ما هو عين الآخر، ميزه القطع مع كونه ليس غير النفس.
فالعين واحدة من حيث إنها نفس، وكثيرة من حيث المقاطع، وهي أمور عدمية كما ان امتياز الوجودات الخاصة ليست بأمر زائد على حقيقة الوجود الانبساطي الفائض من الحق تعالى. بل امتيازها عنها، وامتياز بعضها عن بعض، ليس إلا من جهة مراتب النقصانات والتنزلات اللازمة للمعلولية، فليس التفاوت بينها إلا من جهة الكمال والنقص، والتقدم والتأخر، والقرب والبعد من العلة الأولى.
فكذلك حال الحروف الصوتية الإنسانية، المنقسمة إلى ثمانية وعشرين حرفا. لأن الكرسي، وهو فلك المنازل - ومثاله الصدر فينا - منقسم باعتبار المنازل والأمكنة للسيارات الفلكية - من الكواكب وأرواحها ونفوسها المتحركة بأمر الله، المترددة على حسب ما حملها الله من أحكام الوحي والرسالة الى خلقه - الى ثمانية وعشرين منزلا.
ولك أن تستشكل هذا بما قد ورد في الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن المنزل عليه تسعة وعشرون حرفا، وما أنزل الله على آدم إلا تسعة وعشرين حرفا، وإن " لام ألف " حرف واحد قد أنزله الله عز وجل على آدم في صحيفة واحدة، ومعه ألف ملك، ومن كذب ولم يؤمن به فقد كفر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله)، ومن لم يؤمن بالحروف - وهي تسعة وعشرون فلا يخرج من النار أبدا.
فاعلم أن هذا غير مناقض لما ذكرنا، من كون الحروف ثمانية وعشرين، فإن الألف اللينة ليست كسائر الحروف متعينة بتعين خاص وحيز مخصوص ومخرج مشخص، بل هي بحقيقتها الهوائية سارية في جميع التعينات الحرفية، فكأنها ظل للوحدة الإلهية السارية في وحدات الأكوان الوجودية.
وقد مرت الإشارة إلى أنها عين النفس الإنساني، كالعقل الأول الذي مرتبته عين مرتبة الوجود الانبساطي المنبسط على هياكل الماهيات المتعينة، وهو الحق المخلوق به.
فللألف اعتباران: اعتبار اللاتعين، لكونها عين النفس الهوائي، واعتبار التعين الذي هو أول التعينات كالهمزة، فإنها من أقصى الحلق، إلا ان مخرج الهمزة كالهاء أول المخارج، ومخرج الألف الساكنة من الجوف وهو الفضاء الواقع في جهة العلو، وتغاير الحروف بتغاير المخارج.
ومن هذا الاعتبار يجب عد الألف المتحركة والساكنة حرفين، ولما كانت أسماء الحروف مصدرة بمسمياتها التي هي الزبر، وهذه القاعدة غير مطردة بالقياس إلى الألف لما فيه من سر الوحدة الإلهية التي لا اسم لها بخصوصية ذاتها، لاستحالة الابتداء بالساكن الحقيقي، فلم يكن بد من ارتدافها بحرف ينوب عن ذاتها سادا مسد التصدير بها.
وكانت " اللام " بحسب عددها - الذي هو بمنزلة روح الحرف - يساوي عدد الحروف كلها مع واحد، وكان فيها سر الجمعية الألفية، وأيضا كان عدد الحروف أعني التسعة والعشرين مقوم عدد لام، والألف الساكنة أيضا هي التاسعة والعشرون، كان ضم الألف إلى اللام هو الأحق بالاعتبار، فاعتبر " لا " في منزلة الألف اللينة، فجعل لام ألف اسما لها، والألف إسما للهمزة، فلا محالة صارت الحروف تسعة وعشرين.
ومن اعتبر الحروف ثمانية وعشرين - وهي عدد منازل القمر -، كان نظره إلى الحروف الصرفة المتعينة بالمخارج المتحيزة بالأمكنة من جهة قبولها للحركة والسكون، وهما من صفات الحدثان وسمات النقصان، والألف لسيت متحركة ولا ساكنة إلا بالمعنى السلبي التحصيلي، تقابل الحركة تقابل السلب والايجاب، لا تقابل العدم والملكة، فلا جرم جعل أمرا خارجا عن سلسلة الأكوان الحرفية، لأنها في الحقيقة فاعلها وراسمها ومقومها.
وفيها سر الإلهية وظل الربوبية، ونسبتها الى سائر الحروف، نسبة الحق المخلوق به إلى صور الموجودات العالمية.
ومما يؤيد هذا ما رواه [أبو] إسحق الثعلبي في تفسيره مسندا إلى علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: سئل جعفر الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: آلم، فقال: في الألف ست صفات من صفات الله عز وجل:
" الابتداء " ، فإن الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، والألف ابتداء الحروف. " والاستواء " ، فهو عادل غير جائر، والألف مستو في ذاته. " والانفراد " ، فالله فرد والألف فرد و " اتصال الخلق بالله والله لا يتصل بالخلق، وكلهم يحتاجون إليه والله غني عنهم ".
فكذلك الألف لا يتصل بالحروف والحروف متصلة به وهو منقطع من غيره، والله عز وجل بائن بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة، وكما أن الله عز وجل سبب ألفة الخلق، فكذلك الألف، علة تألف الحروف وهو سبب ألفتها.
بحث وتنبيه
[الالف وأسرارها]
إن ما ورد في الكشاف وغيره من التفاسير سيما الكبير من " أن هذه الألفاظ لما كانت أسماء لمسمياتها التي هي حروف يتركب منها الكلم، وكانت هذه الأسماء مؤلفات، ومسمياتها حروفا وحدانا، صدرت بتلك الحروف لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها " ففيه نظر.
لأن المراد من الألف المذكورة ها هنا، إن كان هي الهمزة، فقد وقع التصدير بالمسمى في اسمها، فإن أول حروف لفظ " الألف " هي الهمزة المفتوحة.
وإن كان المراد منه الألف اللينة التي هي من حروف العلة، ففيه حزازتان: تصدير الهمزة بغير مسماها وهو خرق القاعدة المذكورة، والترجيح من غير مرجح، فإن الهمزة أولى من الألف بأن يصدر اسمها بمسمى الهمزة.
بل الأولى أن يجعل القاعدة مطردة في الحروف الصحيحة الثمانية عشر كلها، ويجعل لفظ " الألف " اسما لما هو من جنس الحروف الصحيحة، أعني الهمزة على الحقيقة، كما هو الرسم في سائر الحروف، ويجعل " اللام ألف " اسما للألف اللينة بناء على ما ذكرنا سابقا.
ومن تأمل في أحوال الألف وأسرارها حق التأمل، انكشفت عليه أسرار شريفة من أحوال المبدإ وخصائصه الإلهية.
منها: إنه لا اسم لها من جهة ذاتها الأحدية ولا رسم.
ومنها: إنها الأول في تعداد الحروف من حيث تعينها بالهمزة.
ومنها: إنها بإزاء الواحد في الأرقام الحسابية.
ومنها: إنها ليست في ذاتها متحركة ولا ساكنة كما مر، بل سكونها على وجه آخر أعلى من سكون الهمزة وسائر الحروف.
ومنها: إنها لا مخرج لها على التعيين من جملة المخارج؛ كما لا حيز للبارى جل اسمه.
ومنها: إنها تقع أول الكلمات باعتبار تعينها الهمزي، وتقع غاية الكلمات لا آخر بعدها، كما ان البارى أول الأشياء لا أول له وغاية الأشياء لا غاية له.
ومنها: إنها أبسط من كل حرف في الوجود الهوائي السمعي، وشكلها أبسط أشكال الحروف في الوجود الكتبي البصري.
ومنها: ما مر ذكره في الوجود الستة من الصفات المذكورة في الحديث المروي عن جعفر الصادق (عليه السلام) وعلى آبائه التحية والإكرام.
كشف غطاء
[الروح البخاري مثال العماء]
ثم اعلم هداك الله طريق المعرفة والشهود، أن النفس الناطقة هي المدبرة باذن الله تدبيرا طبيعيا أو نفسانيا لهذا البدن الجسماني، الذي هو بجميع ما فيه من القوى والحواس والأعضاء والآلات، عالم صغير بمنزلة العالم الكبير بما فيه من الأفلاك والعناصر والبسائط والمركبات، الذي دبره الله تدبيرا إلهيا وتصرف فيه برحمته وعنايته.
ثم إن النفس لم تدبر لهذا البدن، ولم تتصرف في قواه وأعضائه، إلا بعد أن نزلت من علو تجردها وسماء تقدسها، وبرزت من مكمن ذاتها الروحانية، وباطن كينونتها العقلانية إلى عالم الحس والتجسم.
فتوسطت بين غيب هويتها ومظهر شهادتها، في ألطف ما يوجد من حدود عالم البدن من البخار اللطيف النفساني المتعلق بالقلب الصنوبري الشكل، المستدير الهيكل، المحدد لجهات البدن من أعلاه وأسفله.
فالنفس قبل تعلقها بالبدن وتصرفها فيه، وتدبيرها لقواه وحواسه التي هي كالسموات، وأعضائه التي هي كالأرضيات، نزلت وتجسمت بخارا لطيفا يتكون منه جميع لطائف البدن، وبسببه تقع الأفاعيل الإنسانية سيما المتكلم بالحروف والكلمات، التي هي أخص أفاعيل النفس الناطقة في هذا العالم.
وهذه اللطيفة البخارية، التي تنزل فيها النفس قبل تصرفها وفعلها في عالم البدن، مثال للعماء الذي جاء في الخبر وصفه بقوله: إنه كان ربنا قبل أن يخلق الخلق في عماء ما فوقه هواه وما تحته هواء.
فذكر ان له الفوق، وهو كون الحق فيه، والتحت، وهو كون العالم فيه.
والعماء يحدث عن بخار رطوبات الأركان الأربعة، والفلك أيضا دخان لطيف الطف من هذه الأبخرة الحاصلة من لطائف هذه العناصر، بل عناصره كائنة على وجه يناسب عالم السماء، وهي التي ينقسم بها الفلك أرباعا، مما يطول شرحه.
فالحاصل، إن العماء الذي ورد في الحديث، إن الله قبل أن يخلق، كان فيه مثاله اللطيفة الجسمانية الموجودة في خلقة الإنسان التي تعلقت بها اللطيفة القدسية النازلة فيها من نفخ الحق من روحه، وهي كلمة من كلمات الله، وينبعث منها النفس الهوائي المتصور بصور الحروف والكلمات الإنسانية المطابقة للحروف والكلمات الكائنة في النفس الرحماني والوجود الانبساطي، ليتحقق ويتنور على البصير المحدق بنور هذه المكاشفة البرهانية أن من عرف نفسه فقد عرف ربه.
فصل
في الإشارة الى سر هذه الصفوة من المفاتيح الحرفية الواقعة في فواتيح السور
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذه الكتاب حروف التهجي.
وعن الشعبي قال: لله تعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.
إعلم أن الذين اقتصرت علومهم على ما يتعلق بعالم الشهادة، وانحصرت عندهم معاني الموضوعات اللفظية فيما يوجد في عالم المحسوسات، قالوا: إن الألفاظ التي تتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، فإن الضاد مثلا لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه، من غير دلالة على الزمان المعين، وذلك المعنى هو الحرف الأول من " ضرب " فثبت أنها أسماء، لأنها مما يصدق عليها حد الاسمية، ولأنها أيضا يوجد فيها خواص الاسم - من كونها متصرفا فيها بالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والإسناد والإضافة - فكانت لا محالة أسماء، وبه صرح الخليل وأبو علي.
وأما ما رواه أبو عيسى الترمذي عن ابن مسعود أنه قال (صلى الله عليه وآله):
" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول الم حرف، بل الألف حرف واللام حرف، والميم حرف "
- الحديث، فقيل: إن المراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف جديد. بل المعنى اللغوي، ولعله سماه باسم مدلوله.
وأقول: يمكن أن يراد بهذه الأسماء الثلاثة المذكورة في الحديث مسمياتها من الحروف الوحدان.
قالوا: إن حكم هذه الألفاظ مع كونها معربة أن تكون ساكنة الأعجاز ما لم تلها العوامل كأسماء الأعداد، فيقال: ألف لام ميم، كما نقول: واحد إثنان ثلاثة، فهي معربة، وإنما سكنت سكون الوقف لا سكون البناء إذ لم تناسب مبني الأصل.
ولذلك لم تحد بحد ككيف وأين وهؤلاء ومنذ، بل جمع فيها بين ساكنين فقيل: ص ق. فسكونها سكون المعربات حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه وعامله، مع كونها قابلة للعمل، معرضة للإعراب.
ثم قالوا: إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي منها تركبت، افتتح الكلام في السور بطائفة منها ايقاظا لمن تحدى بالقرآن، وتنبيها على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه.
وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس. فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب، فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة، سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه. وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسما في نصف أسامي حروف المعجم - ان لم يعد الألف فيها حرفا برأسه - في تسع وعشرين سورة بعددها، إذا عد فيها الألف مشتملة على أنصاف أنواعها.
فذكر من المهموسة هي ما يضعف الاعتماد على مخرجه، ويجمعها: " فحثه شخص سكت " نصفها: الحاء والهاء والصاد والسين والكاف.
ومن البواقي المجهورة نصفها: " لن يقطع امر ".
ومن الشديدة، الثمانية المجموعة يجمعها: " اجد قط بكت " ، أربعة يجمعها " اقطك ".
والبواقي الرخوة عشرة، يجمعها: " حمس على نصره ".
ومن المطبقة، التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها، ومن البواقي المنفتحة نصفها. ومن القلقة: وهي حروف تضطرب عند خروجها، ويجمعها: " قطب جد " نصفها الأقل لقلتها. ومن اللينتين الياء، لأنها أقل ثقلا، ومن المستعلية - وهي التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى - وهي سبعة، يجمعها: " خص ضغط قض " - نصفها الأقل.
ومن البواقي المنخفضة نصفها.
ومن حروف البدل؛ وهي أحد عشر - على ما ذكره سيبويه واختاره ابن جني - ويجمعها: " اجد طويت " منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها: " اهطمين " ، ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب، وهي خمسة عشرة: الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو، نصفها الأقل.
ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية، نصفها الأكثر؛ الحاء والقاف والكاف والراء والسين واللام والنون، لما في الإدغام من الخفة والفصاحة، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها وتدغم فيما يتقاربها وهي: الميم والزاي والسين والفاء نصفها.
ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان، وهي ستة يجمعها: " رب منفل ". والحلقية التي هي: الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، كثيرة الوقوع في الكلام، ذكر ثلثيهما.
ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية، ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها: " اليوم تنساه " سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك.
ولو استقريت الكلم وتراكيبها، وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة. ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، ايذانا بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ومركبة من حرفين فصاعدا الى الخمسة.
وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور: " ص ن ق " ، لأنها توجد في الأقسام الثلاثة: الاسم والفعل والحرف.
وأربع ثنائيات: " حم يس طس طه " ، لأنها تكون في الحرف بلا حذف؛ كبل وفي الفعل بحذف: كقل. وفي الاسم بغير حذف: كمن، وبه: كدم، في تسع صور لوقوعه في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه. ففي الأسماء: " من " و " إذ " و " ذو ". وفي الأفعال: قل وبغ بع وخف، وفي الحروف: إن ومن ومذ، على لغة من جربها.
وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة، تنبيها على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال .
ورباعيتين وخماسيتين، تنبيها على أن لكل منهما أصلا، كجعفر وسفرجل، وملحقا كقردد وجحنفل.
ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة، مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنيبه والمبالغة فيه. والمعنى: هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، والمؤلف منها كذي.
هذا ما ذكره علماء اللسان في هذا الباب، وأما الذين ارتفعت درجتهم عن هؤلاء، فاختلفوا في معاني هذه الأسماء على قولين:
القول الأول: إن هذا علم مستور وسر محجوب وغيب مبطون ودر مكنون استأثر الله بعلمه، وعليه يحمل الخبران المذكوران سابقا.
وقال بعض العارفين: العلم بمنزلة البحر، فأجري منه واد ثم أجري من الوادي نهر، ثم اجري من النهر جدول، ثم اجري من الجدول ساقية، فلو اجري إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وافسده ولو سال البحر الى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى:
أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها
[الرعد:17].
فبحور العلم عند الله، وأعطى الرسل منها أودية، ثم أجرى الرسل من أوديتهم أنهارا [إلى العلماء]، ثم أعطت العلماء للعامة جداول صغارا على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهليهم بقدر طاقتهم.
ومن هذا روي في الخبر: للعلماء سر، وللخلفاء سر، وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله تعالى بعد ذلك كله سر، ولو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله، لطاحوا حائرين وبادوا بائرين.
والسبب في ذلك: أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية، كما لا يتحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش، ولما زيد الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة، ولما زيد العلماء في عقولهم قدروا على احتمال ما عجزت عنه العامة.
وكذلك علماء الباطن - وهم الحكماء - زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجز عنه علماء الظاهر.
وسئل الشعبي عن الحروف، فقال: سر الله لا تطلبوه.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس، قال : عجزت العلماء عن إدراكها، وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابهات.
تنبيه
[رد على القائلين بعدم امكان فهم تفسير الحروف المقطعة]
واعلم أن هذا القول ليس بسديد، لأنه لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يكون مفهوما للخلق، إذ هو مما أنزله لهداية الخلق وإرشادهم وتكميلهم وإخراج عقولهم عن القوة إلى الفعل، وسياقة نفوسهم عن ظلمات الحيرة والجهل والعمى إلى نور المعرفة والعلم والبصيرة، لتتنور ذواتهم بأنوار معارف القرآن، ويستعدوا للقاء الله في دار المثوبة والرضوان، ويتخلصوا عن آفات الجهالة الموجبة لكثير من الأمراض القلبية والآلام النفسانية المؤدية الى الهلاك، المستلزمة لعذاب البعد والاحتجاب، كما للمطرودين عن باب الرحمة الإلهية، المحترقين بنيران الجهالات المتراكمة، المتألمين بآلام الاعتقادات الردية الفاسدة، فلا بد أن يوجد في عباد الله من كان عنده علم الكتاب، وإلا لكان إنزاله عبثا.
نعم، درجات الناس بحسب العقول متفاوتة كما مر فيما ذكر من الخبر. فلا جرم حظوظهم من آيات كتاب الله مختلفة، كتفاوت أغذية الناس والأنعام مما ينبت في الأرض من سائر الطعام.
فلطائفة منها القشور، كالتبن والنخالة، ولطائفه اللبوب والأدهان كالحب من الحنطة والدهن من الزيتون:
متاعا لكم ولأنعامكم
[النازعات:33].
والحجة لنا في هذا المقصد من الآيات والأخبار كثيرة: أما الآيات:
فمنها قوله:
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالهآ
[محمد:24]. أمرهم بالتدبر في معاني القرآن، ولو كانت غير مفهومة لما أمرهم بالتدبر فيها.
ومنها قوله:
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين
[الشعراء:192-195]. فلو لم يكن مفهوما بطل كونه (صلى الله عليه وآله) منذرا به.
وأيضا فقوله { بلسان عربي مبين }. يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوما.
ومنها قوله:
لعلمه الذين يستنبطونه منهم
[النساء:83]. والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه.
ومنها قوله:
تبيانا لكل شيء
[النحل:89]. وقوله:
ما فرطنا في الكتاب
[الأنعام:38]. وقوله:
هدى للناس
[البقرة:185]
هدى للمتقين
[البقرة:2]. وغير المعلوم لا يكون هدى.
ومنها قوله تعالى:
حكمة بالغة
[القمر:5]. وقوله:
وشفآء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
[يونس: 57]. وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم.
ومنها قوله:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة:15]. وقوله:
قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا
[النساء:174]. فكيف يكون برهانا وكتابا مبينا ونورا مبينا مع انه غير مفهوم.
ومنها قوله تعالى:
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
[الإسراء:9]. فكيف يكون هاديا مع انه غير معلوم؟!
إلى غير ذلك من الآيات المشيرة الى كون الغرض من إنزال القرآن تعليم العباد.
وأما الأخبار، فمنها قوله (صلى الله عليه وآله):
" إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي ".
وروى العامة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
" عليكم بكتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ".
وأما ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن لكل كتاب صفوة وان صفوة هذا الكتاب حروف التهجي، فليس فيه ما يدل على أن معاني هذه الحروف غير مفهومة، وكذا ما روي عن الشعبي لا تزيد دلالته على أن هذه الحروف من أسرار الله الخفية التي لا يعلمها كل أحد، ولا يدل على أن الراسخين في العلم لا سبيل إلى إدراكها.
وكذا ما ذكره بعض العارفين، ليس فيه دلالة على عدم اطلاع الناس على سر هذه الحروف، بل فيه ما يدل على ضد ذلك كما لا يخفى.
واحتج المخالفون بوجوه من العقل والنقل كلها ضعيفة مدخولة:
منها: انه من المتشابه من القرآن وانه غير معلوم لقوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله
[آل عمران:7]، والوقف ها هنا لازم، إذ لو عطف عليه قوله:
والراسخون في العلم
[آل عمران:7]، لبقي قوله:
يقولون آمنا به
[آل عمران:7] منقطعا عنه، وهو غير جائز.
وهو مجاب - لا بأن " يقولون " حال. وإلا لكان حالا للمعطوف عليه كما للمعطوف، فيلزم أن يكون الله قائلا: { يقولون آمنا به كل من عند ربنا } وهو كفر - بل بأنه خبر مبتدأ محذوف بقرينة سابقة.
ومنها: أنه روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال:
" إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل العزة بالله "
ودلالة هذا الخبر على ثبوت هذا الجانب، أكثر من دلالته على ثبوت طرف المخالف.
ومنها: أن القول بان هذه الفواتح غير معلومة، مروي عن أكابر الصحابة، فوجب أن يكون حقا.
والجواب - بعد التسليم - أن دلالة ما روي عنهم على كونها غير معلومة لأحد من الناس مطلقا وإن كان من الراسخين، غير مسلم. وعلى كونها غير معلومة لجمهور الناس، لا تضرنا ونحن نقول به.
ومنها: أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان، منها ما يعرف وجه الحكمة فيها كالصلاة والصيام والزكاة.
ومنها ما لا يعرف وجه الحكمة فيها كأفعال الحج، فكما يحسن من الله الأمر بالنوع الأول، فكذا يحسن منه الأمر بالنوع الثاني، لأن الطاعة فيه تدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة، لم يكن إتيانه إلا لمحض الانقياد والتسليم، وإذا كان الأمر كذلك في الأفعال، فلم لا يجوز أيضا أن يكون الأمر كذلك في الأقوال، وهو أن الله يأمرنا تارة بأن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر.
أقول: وهذا أيضا ساقط، لأن كون الغاية في التكليف بالأعمال، التسليم والانقياد، وإن كان مسلما، لكن كون الغاية في العلوم كذلك، غير مسلم كما حقق في مقامه.
وبالجملة، المقصود من العلوم والمعارف ، تنوير القلب بأنوار الحقائق الإلهية، ومن الأعمال والأفعال، تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لئلا تزاحمها القوى الشهوية والغضبية وغيرها في السلوك إلى الله.
وأعجب من ذلك قولهم: بل فيه فائدة أخرى، وهو أن الإنسان إذا وقع على المعنى وأحاط به، سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع القطع بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين، فإنه يبقى ملتفتا إليه أبدا ومتفكرا فيه دائما، ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله والتفكر في كلامه.
أقول: ما أشبه هذا بكلام العوام والجهال، فإن التفكر ليس من الغايات المتأصلة، ليكون بقاء الإنسان في التردد الفكري أبدا سرمدا سعادة، على أن فيه تعبا ومشقة في الحال، وإنما الفائدة فيه انتقال الذهن الى ما هو المطلوب الأصلي، وهو الابتهاج بإدارك الحضرة الإلهية، والاستسعاد بالأنوار الملكوتية.
القول الثاني: قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم، وهم اختلفوا وفسروها على وجوه متخالفة.
أحدها: إنها أسماء السور عن الحسن وزيد بن أسلم، وهو قول أكثر المتكلمين.
الثاني: إنها أسماء الله، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق.
الثالث: إنها أسماء القرآن.
الرابع: إنها أبعاض أسماء الله. قال سعيد بن جبير قوله: " الر، حم، ن " مجموعها هو اسم الرحمن. ولكننا لا نقدر على كيفية التركيب في البواقي.
الخامس: أن تكون إشارة الى التي كانت هي منها، اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله: قلت لها: قفي. فقالت: قاف.
فيكون فيها دلالة على أسماء الله وأسماء صفاته، كما قال ابن عباس في الم: " أنا الله أعلم " ، وفي المر: " أنا الله أعلم وأرى " ، والمص معناه: " أنا الله أعلم وأفصل ".
وكما قال: " ألف ": آلاء الله. و " اللام ": لطفه. و " الميم ": ملكه. وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه.
السادس: إن بعضها يدل على أسماء الله، وبعضها يدل على أسماء غيره، فقال الضحاك: الألف من الله، واللام من جبرائيل، والميم من محمد، أي انزل الله الكتاب على لسان جبرائيل (عليه السلام) إلى محمد صلوات الله عليه وآله. وهو المروي عن ابن عباس.
السابع: قول أبي زيد وقطرب: إن الكفار لما قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه، وتواصوا بالإعراض عنه، فأنزل الله تعالى عليهم هذه الأحرف. فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: استمعوا الى ما يجيء به محمد، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا الى انتفاعهم.
والثامن: قول أبي العالية: إن كل حرف منها مدة أقوام وآجال آخرين بحساب الجمل، متمسكا بما
" روي انه (صلى الله عليه وآله) أتاه أبو ياسر بن أخطب وهو يتلو سورة البقرة، ثم جاء أخوه حيي وكعب بن الأشرف فسألوه عن الم، وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو، أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، كذلك نزل، فقال حيي: إن كنت صادقا، إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين. ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل أن تنتهي مدته إحدى وسبعون سنة؟ فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال حيي: هل غير ذلك؟ فقال: نعم " المص " فقال: هذا أكثر من الأول، فهل غير هذا؟ فقال (صلى الله عليه وآله): نعم. الر. فقال حيي: هذا أكثر من الأول والثاني. فنحن نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مأتين وإحدى وثلاثين سنة، فهل غير هذا؟ فقال: نعم " المر " قال نحن نشهد انا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي أقوالك نأخذ ".
التاسع: ما قاله الأخفش: إن الله أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه.
واقتصر على هذا البعض كما تقول: قرأت الحمد. وتريد السورة كلها، فكأنه تعالى أقسم بهذه الحروف ان هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ.
العاشر: قال أبو بكر الزهري: إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن، فذكر هذه الحروف تنبيها على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف؛ فيجب أن لا يكون قديما.
فهذه عشرة من الأقوال المذكورة في معنى هذه الفواتح وهي كثيرة اكتفينا بذكر هذه من غيرها، لأنها الأقرب إلى التصديق به، ومختار الأكثر هو كونها أسماء السور وعليه إطباق كثير من المفسرين منهم الإمام الرازي، واستدل عليه بأنها إن لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي، ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى، ولما أمكن التحدي به.
وإن كانت مفهمة، فإما أن يراد بها الأعلام أو المعاني. والثاني باطل، لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب، وظاهر أنه ليس كذلك. أو غيره، وهو باطل، لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى:
بلسان عربي مبين
[الشعراء:95]، فلا يحمل على ما ليس في لغتهم.
فثبت الأول، وهو كونها أعلاما للسور التي هي مستهلتها، سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب، فلو لم يكن وحيا من الله، لم تتساقط معذرتهم دون معارضتها.
والاعتراض عليه من وجوه:
أحدها: لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه والدلالة على انقطاع كلام واستيناف آخر كما قاله قطرب؟ أو يكون اختصار الكلام كما في القول الرابع والخامس؟ أو يكون إشارة الى عدد آجال كما قاله ابو العالية؟ وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية، لكن لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب، كانت كالمعربات كالمشكوة والسجيل والقسطاس والإستبرق. أو تكون قسما كما قاله الأخفش. أو تكون غير ذلك من الأقوال المذكورة؟
وثانيها: إن القول بأنها أسماء السور يخرجها الى ما ليس في لغة العرب. لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة عندهم.
وثالثها: إنها داخلة في السور وجزء منها، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عنه كذلك، فيلزم من تسمية الشيء بجزئه تقدم الشيء على نفسه، والمعارضة بتسمية الحروف بأساميها - كتسمية الجزء الأول من الجيم بالجيم - ساقطة، لأن المركب متأخر عن جزئه، والاسم متأخر أيضا عن مسماه، فلا يلزم إلا تأخر المركب عن جزئه بوجهين، ولا فساد فيه.
ورابعها: إنها لو كانت أعلاما للسور، لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر، لأن التسمية على هذا النحو ليس من دأب العرب، فتتوفر الدواعي على نقلها فوجب اشتهارها بها لا بسائر الأسماء، والواقع خلاف ذلك.
وخامسها: إن السور الكثيرة اتفقت في الم، حم، فالاشتباه حاصل، والمقصود من العلم إزالة الاشتباه، والمعارضة بتسمية كثيرين باسم محمد، مدفوعة بالفرق بين القبيلين، فإن (الم) لا يفيد معنى آخر على ما فرضتم، فلو جعل علما لم يكن فيه فائدة، بخلاف الأعلام المشتركة، فإن التسمية بها قد تتضمن فوائد اخرى غير الامتياز، كالتبرك ونحوه.
وسادسها: إنه لو كان كذلك، لوجب أن لا تخلو سورة من القرآن من اسم على هذا الوجه، وليس كذلك.
وقد يقال في الجواب:
أما عن الأول: فبأن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه، والدلالة على انقطاع كلام واستيناف آخر أمر لازم لها ولغيرها، من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضي ذلك أن " يكون لها معنى في حيزها ولم يستعمل للاختصار من كلمات معينة. أما الشعر فشاذ. وأما قول ابن عباس فتنبيه على أن الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير ولا تخصيص بهذه المعاني دون غيرها، إذ لا مخصص لفظا ومعنى، ولا بحساب الجمل فيلحق بالمعربات.
والحديث الذي نقله أبو العالية لا دلالة فيه. لجواز أن تبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعجبا من جهلهم.
وجعلها مقسما به، وإن كان غير ممتنع، لكنه يحوج الى إضمار أشياء لا دليل عليها.
وأما الحمل على شيء مما ذكره المفسرون، فغير لازم، لأنهم ذكروا وجوها مختلفة وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على غيره، فإما أن يحمل على الكل وهو متعذر للاجماع المركب، أو لا يحمل على شيء منها وهو الباقي.
وأما عن الثاني: فبأن التسمية بثلاثة أسماء إنما يمتنع إذا ركبت وجعلت إسما واحدا على طريق " بعلبك " ، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد، فذلك جايز، فإن سيبويه قد نص على جواز التسمية بالجملة، والبيت من الشعر، وطائفة من أسماء حروف المعجم.
وأما عن الثالث: فبأن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه، غير مقترن الدلالة بهيئته على زمان، ولفظ الإسم - كلفظ زيد مثلا - كذلك، فيكون الاسم إسما لنفسه، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء إسما له.
أقول: وهذا الجواب مما ذكره صاحب التفسير الكبير وهو كما ترى، فإن الكلام في الاسم الدال على معنى بالوضع، ودلالة الإسم على نفسه ليس بالوضع، وإن كان هو في نفسه موضوعا.
وقد يجاب - كما ذكر البيضاوي - بأن الجزء مقدم من حيث ذاته، ومؤخر باعتبار كونه إسما فلا دور.
أقول: هذا أيضا فاسد، فإن الكلام في أن هذه الألفاظ التي هي أجزاء السور، وهي من الموضوعات اللغوية، لا معنى لها إلا كونها أسماء للسور، فإذا كان تقدمها على السور من حيث ذاتها لا من حيث كونها أسماء، لكانت قبل تمام السورة غير موضوعة لمعنى أصلا فتكون مهملة، سيما وهذا التقدم زماني، لأن السور والآيات وسائر أقسام الكلام إنما هي تدريجية الوجود زمانية الحدوث.
وأما عن الرابع: بأنه لا بعد في أن يصير القلب أكثر شهرة من أصل الاسم فكذا ها هنا.
وأما عن الخامس: فبأنه لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد، ثم تمييز كل واحد منها بعلامة اخرى، حكمة خفية.
وأما عن السادس: فبأن وضع الإسم إنما بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الإسم لبعض السور دون بعض.
أقول: إذا كان الغرض من هذه الألفاظ مجرد التسمية للتمييز والتعيين، ولم يكن لها معنى آخر، يلزم الترجيح من غير مرجح في تسمية بعض السور ببعض هذه الحروف دون بعض.
ثم أقول: ويرد على أصل الدليل بحث آخر لم يكن مذكورا في التفاسير، وهو: إن قول المستدل: لو لم تكن هذه الألفاظ أعلاما، لكانت موضوعة للمعاني، وظاهر أنها ليست كذلك، ممنوع، والسند ما سنذكره عن قريب إنشاء الله.
حكمة قرآنية
[تفسير الحروف المقطعة حسبما قاله ابن سينا]
اعلم - هداك الله تعالى إلى فهم آياته - أن شيخ فلاسفة الإسلام ذهب في رسالة سماها بالنيروزية، إلى أن هذه الحروف أسماء للحقائق الذاتية، بعضها لذات الله تعالى مطلقا، وبعضها لذاته مضافة الى ما أبدعه، وبعضها لمبدعاته مطلقة، وبعضها لها مضافة على الوجه الذي سنذكره، وأقسم الله بهذه الأشياء العظيمة تكريما وتعظيما، ونحن اخترنا مذهبه وتتبعنا أثر كلامه في هذا المرام.
فنقول: لا شبهة أن الله قد أوجد الموجودات المتأصلة على ترتيب ونظام، الأول والثاني والثالث على ترتيب مراتب العدد. لأنه ليس في قوة الكثرة أن تظهر عنه تعالى أولا، كما ليس في قوة الزمان أن يوجد عنه في آن دفعة، ولا في استطاعة الجسم أن يتكون عنه مبدعا، فالترتيب يرتقي بالكثير إلى الواحد الحقيقي بحيث لا تنثلم به وحدته.
وكما ان الواحد مبدأ الأعداد والكثرات كلها على الترتيب الأبسط فالأبسط، فكذلك البار جل كبرياؤه، مبدع الأشياء كلها على ترتيب الأبسط فالأبسط، وهو فاعل الإنيات المتأصلة والأنواع الكاملة قبل شخصياتها الزمانية على الترتيب الإلهي الإبداعي، والنظم الرباني الأحدي أولا وثانيا وثالثا.
وكلما كان الوجود فيه أشرف، كانت الوحدة فيه أتم، وكان في درجة الاستفادة للوجود أقدم، وهكذا إلى أن ينتهي الترتيب النزولي إلى الموجودات الزمانية والمكانية من الجزئيات المتكثرة في التشخص، المتحدة في المعنى والحقيقة، وهي بمنزلة ظلال وأشباح لما في العالم الأعلى الإلهي من الحقائق المتأصلة التامة، التي لا ينفك تمامها عن بدوها.
وإذا سألت عن شيء منها بما هو ولم هو، كان الجواب عنهما واحدا، لأنه تام الوجود لا يعوزه شيء من وجوده، ومن كمال وجوده عنه.
فلكل منها مرتبة خاصة من الوجود لا يمكن أن يتعداه سابقا أو لاحقا، إذ كون كل منهما في مرتبته كالمقوم لذاته، وكما أن الأولية عين ذات المبدإ تعالى، فكذا الثانوية للموجود الذي بعده بعدية ذاتية والثالثية للموجود الذي بعده بوسط واحد، بعدية بالذات، وهكذا الرابع والخامس الى أقصى الوجود.
ثم إن أشرف الموجودات الواقعة بعد مرتبة الواحد الحق الأول، هو عالم العقل والملائكة المقربين.
وهذا العالم جملة مشتملة على موجودات قائمة بلا مواد خالية عن القوة والاستعداد، عقول قادسية طاهرة، وصور مجردة باهرة، ليس في طباعها أن تتغير أو تتكثر أو تتحيز، كلها كشخص واحد متصلة اتصالا روحانيا.
وكلها عشاق إلهيون، مشتاقون الى الأول والاقتداء به، والإظهار لأمره، والابتهاج به، والقرب العقلي منه.
وهم مبتهجون بذات الأول لا بذواتهم، شاعرون به ذاهلون عن ذواتهم، لاضمحلال ظلال إمكاناتهم تحت سطوح النور الأحدي وكبرياء جلاله.
ثم الواقع في ثالث المراتب العددية الذاتية، وجود العالم النفسي من لدن نفس الفلك الأعظم الى النفوس المتعلقة بالأبدان البشرية، والقوالب الإنسية.
فعالمها مشتمل على جملة كثيرة من ذوات معقولة، ليست مفارقة للمواد كل المفارقة، ولا مواصلة لها كل المواصلة، بل هي ملابستها ضربا من الملابسة، ومواد الصنف المتعلق منها بالسماويات، مواد دائمة الحرمة الدورية بإذن الله، وتسخيره للملائكة المدبرة إياها، الحافظة لصورها المحركة لها تشوقا الى الله، وتقربا منه وطاعة إياه.
ولها في طباعها نوع من التغير، ونوع من التكثر، لا مطلقا كالأجرام الاسطقسية.
ثم الواقع في رابع المراتب عالم الطبيعة، ويشتمل على قوى سارية في الأجرام ملابسة للمادة على التمام، وهي دائمة التجدد والزوال، سيالة الذوات متجددة الهويات، تفعل الحركات الذاتية والسكنات في إحدى المقولات من الأين والوضع والكم والكيف.
أما الحركة، فإذا لحقها ضرب من التغير من جهة عارض غريب، وأما السكون، فعندما لم يلحقها عارض غريب.
وبعد مرتبتها وجود العالم الجسماني المنقسم إلى أثيري وعنصري، وخاصية الأثيري؛ استدارة الشكل والحركة، واستغراق الصور للمواد، وخلو الجوهر عن التضاد. وخاصية العنصري؛ التهيؤ للأشكال المختلفة والأحوال المتغايرة، وانقسام بين صورتين متضادتين، أيهما كانت بالفعل كانت الأخرى بالقوة.
وليس وجود احداهما لها دائما، بل وجودا زمانيا ومباديه الفعالة فيه من القوى المساوية بتوسط الحركات، وبسبق كماله الأخير أبدا بالقوة.
ويكون ما هو أول فيه بالطبع، آخرا في الشرف والفضل، ولكل واحدة من القوى المذكورة اعتبار بذاته واعتبار بالإضافة الى تاليه الكائن عنه، ونسبة الثواني كلها إلى الأول بحسب الشركة نسبة الإبداع.
وأما على التفصيل، فيخص العقل نسبة الإبداع، ثم إذا قام متوسطا بينه وبين الثوالث صار له نسبة الأمر، واندرج فيه معه النفس، ثم كان بعده نسبة الخلق.
وللأمور العنصرية بما هي كائنة فاسدة نسبة التكوين والابداع، يختص بالعقل، والأمر يفيض منه الى النفس، والخلق يختص بالموجودات الطبيعية، ويعم جميعها، والتكوين يختص بالكائنة الفاسدة منها.
وإذا كانت الموجودات بالقسمة الكلية إما روحانية وإما جمسانية، فالنسبة الكلية للمبدإ الحق إليها، أنه الذي له الخلق والأمر، فالأمر متعلق بكل ذي إدراك، والخلق بكل ذي تسخير، وهذا هو الغرض في هذا الفصل.
فصل آخر
في الدلالة على كيفية دلالة الحروف على هذه المراتب الوجودية
إن من الضرورة أنه إذا أريد الدلالة على هذه المراتب بالحروف، أن يكون الأول منها في الترتيب القديم - وهو ترتيب " أبجد هوز " إلى آخره - دالا على الأول وما يتلوه، وأن يكون الدال على ذوات هذه المعاني من الحروف متقدما على الدال عليها من جهة ما هي مضافة، وأن يكون المعنى المرتسم من إضافة بين اثنين منها مدلولا عليه بالحرف الذي يرتسم من ضرب الحرفين الأولين أحدهما في الآخر، اعني ما يكون من ضرب عددي الحرفين أحدهما في الآخر، وأن يكون ما يحصل من العدد الضربي مدلولا عليه بحرف واحد مستعملا في هذه الدلالة مثل (ك) الذي هو من ضرب (ي) في (ب).
وما يصير مدلولا بحرفين - مثل (يه) من ضرب (ج) في (ه) ومثل (كه) الذي هو من ضرب (ه) في (ه) - مطرحا لأنه مشكك توهم دلالة كل واحد من (ي) و (ه)، ويقع هذا الاشتباه في كل حرفين مجتمعين لكل واحد منهما خاص دلالته في حد نفسه، وان يكون الحرف الدال على مرتبة من جهة أنها بواسطة مرتبة قبلها من جميع حروف المرتبتين.
فإذا تقرر هذا، فإنه ينبغي ضرورة أن يدل بالألف على الباري، وبالباء على العقل، وبالجيم على النفس، وبالدال على الطبيعة؛ هذا إذا أخذت بما هي ذوات، وبالهاء على الباري، وبالواو على العقل، وبالزاي على النفس، وبالحاء على الطبيعة، هذا إذا اخذت بما هي مضافة الى ما دونها.
وبقي الطاء لهيولى وعالمه، وليس له وجود بالإضافة الى شيء تحته، وينفد رتبة الآحاد ويكون الابداع، وهو من إضافة الأول الى العقل ذات لا مضاف الى ما بعده مدلولا عليه بالياء، لأنه من ضرب (ه) في (ب)، ولا يحصل من إضافة الباري أو العقل الى النفس عدد يدل عليه بحرف واحد، لأنه (ه) في (ج) يه، و (و) في (ج) يح، ويكون الأمر وهو من إضافة الأول الى العقل، مضافا مدلولا عليه باللام، وهو من ضرب (ه) في (و).
ويكون الخلق، وهو من إضافة الأول الى الطبيعة بما هي مضافة، مدلولا عليه بالميم، وهو من ضرب (ه) في (ح)، لأن الحاء دلالة الطبيعة مضافة.
ويكون التكوين، وهو من إضافة الباري إلى الطبيعة وهو ذات، مدلولا عليه بالكاف، ويكون جميع نسبتي الأمر والخلق - أعني ترتيب الخلق بواسطة الأمر، أعني اللام والميم - مدلولا عليه بحرف (ع)، وجميع نسبتي الخلق والتكوين كذلك - أعني الميم والكاف - مدلولا عليه بالسين، ويكون مجموع نسبتي طرفي الوجود - أعني اللام والكاف - مدلولا عليه بالنون، ويكون جميع نسبته الأمر والخلق والتكوين - أعني كاف ولام وميم - مدلولا عليه بصاد.
ويكون اشتمال الجملة في الابداع - أعني (ي) في نفسه (ق) - وهو أيضا من جمع (صاد) و (ي).
ويكون ردها إلى الأول، الذي هو مبدأ الكل ومنتهاه، على أنه أول وآخر - أعني فاعلا وغاية كما بين في الإلهيات - مدلولا عليه بالراء ضعف (ق)، وذلك هو الغرض في هذا الفصل.
فصل آخر في الغرض
فإذا تقرر ذلك فنقول: إن المدلول عليه (بالم) هو القسم بالأول ذي الأمر والخلق. و (بالمر) القسم بالأول ذي الأمر والخلق، وهو الأول والآخر والأمر والخلق والمبدأ الفاعلي والمبدأ الغائي جميعا، و (بالمص) القسم بالأول ذي الأمر والخلق والمنشىء للكل.
و (بص) القسم بالعناية الكلية. و (بق) القسم بالابداع المشتمل على الكل بواسطة الابداع المساوي للعقل.
و(بكهيعص) القسم بالنسبة التي للكاف - أعني عالم التكوين - إلى المبدء الأول، وبنسبة الإبداع الذي هو (ي )، ثم الخلق بواسطة الأمر وهو (ع)، ثم التكوين بواسطة الخلق والأمر وهو (ص)، فبين (ك) و (ه) ضرورة نسبة الإبداع، ثم نسبة الخلق والأمر، ثم نسبة التكوين والخلق والأمر.
و (يس) قسم بأول الفيض والابداع وآخره، وهو الخلق والتكوين.
و (حم)، قسم بالعالم الطبيعي الواقع في الخلق.
و (حم عسق) قسم بمدلول وساطة الخلق في وجود العالم الطبيعي، وما يخلق بينه وبين الأمر بنسبة الخلق إلى الأمر، ونسبة الخلق الى التكوين، وبأن يأخذ من هذا ويرده الى ذلك، فيتم به الإبداع الكلي المشتمل على العوالم كلها، فإنها إذا اخذت على الإجمال، لم يكن لها نسبة إلى الأول غير الابداع الكلي الذي يدل عليه (بق).
و (طس) يمين بعالم الهيولى الواقع في الخلق والتكوين.
و (ن) قسم بعالم وعالم الأمر، أعني لمجموع الكل.
ولا يمكن أن يكون للحروف دلالة غير هذا ألبتة، ثم بعد هذا أسرار تحتاج الى المشافهة. فهذا غاية الكلام الواقع في هذا المرام والله أعلم بأسرار كتابه وهو علام الغيوب.
فصل
في أحوال أواخرها من حيث الإعراب
قد مر ان أسماء الحروف - ما لم تلها العوامل - موقوفة خالية عن الإعراب، لفقد موجبه، لا لأنها ليست قابلة له، بل هي معربة معرضة للإعراب غير مبنية.
وأما هل لهذه الفواتح محل للإعراب أم لا فنقول: إن جعلت أسماء لذات الله وآياته - كما اخترناه - أو للسور، كان لها حظ من الإعراب المحلي، ويجري فيه الوجوه الثلاثة:
أما الرفع فعلى الإبتداء والخبر، وأما النصب فبتقدير فعل القسم على طريقة: " الله لأفعلن كذا " بالنصب، أو بتقدير فعل آخر: كاذكر ونحوه.
وأما الجر، فعلى إضمار حرف القسم، وهي في ذلك على ضربين: أحدهما: ما يتأتى فيه الإعراب لفظا، وهو إما أن يكون إسما فردا كصاد وقاف ونون، أو موازنا لمفرد وإن كان أسماء متعددة كحاميم وطاسين وياسين، فانها على زنة قابيل، وكذلك طسم تتأتى فيها أن يفتح نونها ويصير ميم مضمومة إلى طاسين، فيجعلا إسما واحدا كدار أجرد والثاني ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو: (كهيعص) و (المر).
أما النوع الأول فيسوغ فيه الأمران: الإعراب والحكاية، قال الشاعر:
يذكرني حاميم والرمح شاجر
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
فاعرب حاميم، ومنعها من الصرف لاجتماع السببين فيها: العلمية والتأنيث، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها.
وأما النوع الثاني، فهو محكي لا غير، وإن أبقيتها على معانيها الحرفية، فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء والخبر.
وإن جعلتها مقسما بها، تكون كل كلمة منها منصوبة أو مجرورة على اللغتين المذكورتين في (الله أفعلن كذا)، ويكون جملة قسمية بالفعل المقدر له.
وإن جعلتها أبعاض كلمات، أو أصواتا نازلة منزلة حروف التنبيه، لم يكن لها محل من الإعراب، كالجمل المبتدأة، والمفردات المعدودة، ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا يحتاج الى ما بعدها.
ولقائل أن يقول: فما وجه قراءة من قرأ: صاد وقاف ونون، مفتوحات.
قلنا: الأولى كون ذلك نصبا لا فتحا، وإنما لم يصحبها التنوين لامتناعها من الصرف على ما مر، وانتصابها بتقدير فعل القسم، كما هو المختار، أو بنحو: اذكر.
وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في حم وطس ويسلو قرأ به.
وحكى السيرافي إن بعضهم قرأ ياسين (بالفتح) ويجوز أن يقال: حركت لالتقاء الساكنين كما قرىء: ولا الضالين.
تنبيهات:
الأول: ما وجه ان هذه الأسامي مكتوبة في المصاحف على صور الحروف المسميات، مع ان الملفوظ والمكتوب من حقائق الأشياء، أسماؤها لا مسمياتها.
قلنا: لأن العادة جارية في أنها متى تهجيت أن تلفظ بالأسماء، ومتى كتبت أن تكتب بالحروف أنفسها، وقد اتقفت في خط المصحف أشياء خارجة عن مقائيس علم الخط والهجاء، ولا ضير في ذلك ولا نقص، لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ.
وكان اتباع خط المصحف سنة معمولا بها، على أن شهرة أمرها، وإقامة الألسن لها، وأن التلفظ بها لا على نهج التهجي، غير مفيد لمعنى، وان بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عيله من مورده، أمنت وقوع اللبس فيها.
الثاني: ليس شيء من هذه الفواتح آية عند من عدا الكوفيين ، وأما عندهم فبعضها آية واحدة كالم في مواقعها وهي ستة، والمص، وكهيعص، وطه، وطسم، وحم، ويس. وبعضها وهو حم عسق آيتان. والبواقي ليست بآيات، وهذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه.
الثالث: هل يجوز إرادة القسم في المحكية كما جاز في المعربة؟ نعم، ولك أن تقدر حرف القسم مضمرا في نحو قوله تعالى:
حم والكتاب المبين
[الدخان:1-2]. كأنه قيل: أقسم بهذه السورة وبالكتاب المبين، { إنا جعلناه... }
وأما قوله (صلى الله عليه وآله): حم لا ينصرون فيصلح أن يكون منصوبا ومجرورا، جميعها على حذف الجار وإضماره.
[2.2]
قوله جل اسمه:
ذلك الكتاب لا ريب فيه
" ذلك " اسم مبهم يشار به الى البعيد، فإن كان اشارة الى ما في اللوح المحفوظ أو الى القرآن باعتبار كونه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى:
وإنه في أم الكتاب لدينا
[الزخرف:4] سواء كان الم اسما للقرآن أو السورة، أو مقسما به، كما اخترناه، فيكون إشارة الى البعيد ما هو الرسم.
وأما إذا جعل إشارة الى الم وأول بالمؤلف من هذه الحروف، أو فسر بالسورة، أو القرآن الموجود بين أظهرنا، ففي الإشارة الى القريب الحاضر بما يشار الى البعيد الغائب لا بد من وجه.
وقد ذكروا فيه وجوها:
أحدها: إنه وقعت الإشارة الى الم بعدما سبق التكلم به وتقضى والمقتضي في حكم المتباعد.
وثانيها: إنه لما وصل من المرسل الى المرسل إليه وقع في حد البعد عنه.
وثالثها: إن القرآن وإن كان حاضرا الى ظاهره وصورته، لكنه غائب نظرا إلى أسراره ومعانيه، لاشتماله على علوم عظيمة وحكم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها، يل يتعذر في هذه النشأة فيجوز أن يشار إليه كما يشار الى البعيد الغائب.
ورابعها: إن الله تعالى وعد رسوله (صلى الله عليه وآله) عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، وهو (صلى الله عليه وآله) أخبر أمته بذلك، ويؤيده قوله:
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا
[المزمل:5] في سورة المزمل وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث.
وخامسها: إنه تعالى خاطب بني إسرائيل؛ لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على اليهود، وقد كانت بنو اسرائيل أخبرهم موسى وعيسى (عليهما السلام) أن الله يرسل محمدا (صلى الله عليه وآله) وينزل عليه كتابا، فقال تعالى: { ذلك الكتاب } ، أي الذي أخبر به الأنبياء المتقدمون أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل.
وسادسها: ما قاله الأصم: إن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وعلم المعاد، وعلم النفس، وإثبات النبوة، وأحوال الملائكة والجن، وعلم السماء والعالم وغير ذلك. فقوله " ذلك " إشارة الى تلك السور والآيات التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآنا كما في قوله تعالى:
وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا
[الأعراف:204] وقال تعالى: حاكيا عن الجن:
إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى
[الأحقاف: 30] وهم ما سمعوا إلا البعض.
واعلم أن أصل ذلك وهذا " ذا " وهي كلمة إشارة زيدت الكاف عليها للخطاب، واللام للتوكيد، والهاء للتنبيه، فأصلهما واحد، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: " هذا " اى تنبه أيها المخاطب، فيشبه أن يكون دلالة ذلك على البعيد عرفا طاريا على أصل الوضع للقرينة التي ذكرناها.
و " الكتاب " أصله: الكتب. وهو الجمع، ومنه " الكتيبة " للجند لانضمام بعضهم الى بعض، وهو مصدر بمعنى المكتوب، كالحساب، وقيل: سمي به المفعول مبالغة ثم عبر عن المنظوم لفظا قبل أن يكتب، لأنه مما يكتب، كما يقال للمكتوب: كلام، باعتبار انه ما كان قبل الكتابة.
وقد مر في المفاتيح إنهما واحد بالذات مختلفان بالإضافة وهو اسم للقرآن وله أسماء كثيرة: الكتاب، والقرآن، والفرقان والذكر:
وإنه لذكر لك ولقومك
[الزخرف:44].
والتذكرة:
وإنه لتذكرة للمتقين
[الحاقة:48].
والذكرى:
فإن الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات:55].
والتنزيل:
وإنه لتنزيل رب العالمين
[الشعراء:192].
والحديث:
الله نزل أحسن الحديث
[الزمر:23].
والموعظة:
قد جآءتكم موعظة من ربكم
[يونس:57].
والشفاء:
وشفآء لما في الصدور
[يونس:57].
والحكم:
وكذلك أنزلناه حكما عربيا
[الرعد:37].
والحكمة:
حكمة بالغة
[القمر:5].
والحكيم:
يس والقرآن الحكيم
[يس:1 - 2].
والحبل:
واعتصموا بحبل الله جميعا
[آل عمران: 103].
والروح:
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى:52].
والبرهان:
قد جآءكم برهان من ربكم
[النساء:174].
والكريم:
إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون
[الواقعة:77 - 78] والعظيم:
آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم
[الحجر:87].
والفصل:
إنه لقول فصل
[الطارق:13].
والهدى: { هدى للمتقين } (2).
والمهيمن:
وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
[المائدة:48].
وغير ذلك كثير كما يظهر بالمراجعة إلى القرآن.
فصل
في اتصال قوله: { الم } ، بقوله: { ذلك الكتاب } ، قال صاحب الكشاف: إن جعلت الم اسما للسورة، ففي التأليف وجوه: أن يكون الم مبتدءا وذلك متبدءا ثانيا؛ والكتاب خبره، والجملة خبر المبتدإ الأول. ومعناه: إن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وانه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال.
وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه: " هو ذلك الكتاب الموعود " ، وأن يكون " الم " خبر مبتدإ محذوف، أي: " هذه الم } ويكون " ذلك " خبرا ثانيا، أو بدلا على أن يكون " الكتاب " صفة.
وأن يكون " هذه الم " جملة، و " ذلك الكتاب " جملة أخرى وإن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان ذلك بمتدأ خبره " الكتاب " أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، او " الكتاب " صفته والخبر ما بعده. أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب.
وقرأ عبد الله الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه، وتأليف هذا ظاهر، انتهى كلامه.
وعلى ما اخترناه من كون " الم جملة قسمية إما أن يكون " ذلك " مبتدأ و " الكتاب " خبره، أو عطف بيان، أو صفة له، أو بدل منه، و " لا ريب فيه " جملة في مضوع الخبر، والمعنى أقسم بالله ذي الخلق والأمر ان ذلك الكتاب هو الكتاب الذي لا ريب فيه، لأن علومه برهانيات لا يعتريها تبديل وتغيير ولا نسخ وتحريف، ومقدماتها يقينيات لا يشوبها شك وشبهة ولا يشوشها وهم وريب.
وأما جعل " لا ريب " فيه في موضع الحال، وعاملها إسم الإشارة، وجعل " هدى " خبرا عن ذلك الكتاب، فلا يخلو عن بعد.
فصل
الريب: قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن بشيء، تقول: رابني أمر فلان، إذا طننت به.
ومنه قوله (صلى الله عليه وآله):
" دع ما يريبك الى ما لا يريبك ".
وأما قولهم: ريب الأمر، وريب الزمان لحوادثه، كقوله تعالى:
نتربص به ريب المنون
[الطور:30]، وقول الشاعر:
قضينا من تهامة كل ريب
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ وقلق النفس واضطرابها، فهما يرجعان أيضا إلى معنى الشك، لأن الشك ريبة، والعلم طمأنينة، وما يخاف به من ريب المنون أمر محتمل فهو كالمشكوك فيه. وكذلك ما اختلج فيه القلب وتعلقت به النفس فهو غير مستيقن.
أقول: إعلم أن الإمكان والشك يجريان مجرى واحدا، كما ان الوجوب والعلم اليقيني يجريان مجرى واحدا، إلا أن الأولين حال الوجود العيني، والأخيرين حال الوجود العلمي، وإذا كان الموجود عين المعلوم، فقد كان الوجوب عين العلم، كما في علم الباري بذاته، وبالأمور الصادرة عن ذاته من جهة علمه بذاته.
وكذلك قد يكون الإمكان عين الشك، كما في إدراكنا الأشياء المحسوسة والمتغيرة، فقوله لا ريب فيه، المراد منه نفي كونه مظنة الريب بوجه من الوجوه - لكونه من العقليات الدائمة الموجودة في علم الله وفي اللوح المحفوظ - من التغير والنسخ، وسائر الكتب ليست كذلك، لأنها ككتاب المحو والإثبات قابلة للنسخ والتبديل.
وإنما قلنا " لا ريب فيه " يراد منه نفي الريب بالكلية، لأن " لا " نفي لماهية الريب وجنسها، ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفرادها، لأنه لو ثبت فرد من أفرادها، لثبتت الماهية معه، وذلك يناقض نفيها بالكلية.
ولهذا السر كان قولنا: لا إله إلا الله، نفيا لجميع الآلهة سوى الله.
وأما قراءة " لا ريب فيه " بالرفع، نقيض قولنا: ريب فيه، كما قرأها ابو الشعثاء، فذلك النفي لا يوجب انتفاء جميع الأفراد، لأنه ليس لنفي الماهية، بل لنفي فرد من الأفراد، وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر.
واعلم أنه إذا جعل " ذلك الكتاب " إشارة الى القرآن الحاضر عندنا، فيكون معنى " لا ريب فيه ": أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد إمعان النظر الصحيح والفكر السليم في كونه وحيا من عند الله، بالغا حد الإعجاز، لا ان أحدا لا يرتاب فيه، فليس المراد نفي الريب على سبيل الاستغراق فيه، إذ كم من مرتاب فيه.
بل المراد نفي كونه مظنة للريب ومتعلقا له.
ألا ترى الى قوله:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
[البقرة:23] الآية، فإنه ما أبعد وجود الريب عنهم، بل بين لهم الطريق الى أزاحة ذلك عن أذهانهم، وهو أن يجتهدوا ويجربوا نفوس أمثالهم في معارضة نجم من نجومه، وهم أمراء الكلام وزعماء المحاورة، ويبذلوا غاية جهدهم في مقابلة سورة من سوره، وهم فرسان اللسان والمتهالكون على الافتنان في القصائد والرجز، حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس في كونه بالغا من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بذت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، محال للشبهة ولا مدخل للريبة.
ليعلموا أنه لم يتجاوز الحد الخارج من قول الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح عيون البصراء، إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر.
وقيل: معناه: لا ريب فيه للمتقين، و " هدى " حال من الضمير المجرور، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي.
أقول: وهذا كقولك لمن يباحثك في مقدمة علمية: ما قلته لك أمر بديهي عند من يهتدي به من العقول الصحيحة والقلوب السليمة.
وأما النكتة في تقدير " الريب " ها هنا على الظرف، وتأخير " الغول " عنه في قوله:
لا فيها غول
[الصافات:47]، فهي أن الأهم ها هنا نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب، لأوهم أن هناك كتابا آخر حصل فيه الريب، كما قصد في قوله: لا فيها غول، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما يغتال خمر الدنيا.
تنبيه
الوقف على " فيه " هو المشهور، وعن نافع وعاصم انهما وقفا على " ريب " ولا بد لهما أن ينويا خبرا، ونظيره قولك: لا ضير ولا بأس. فالتقدير: لا ريب فيه؛ فيه هدى.
قيل: إن القراءة المشهورة أولى، لأن كون الكتاب نفسه هدى أولى من أن يكون فيه هدى، وأوفق لما تكرر في تسمية القرآن من أنه نور وهدى. قوله جل اسمه:
هدى للمتقين
إعلم أنه من جملة الأوصاف التي امتاز بها القرآن عن سائر الكتب النازلة على الأنبياء السابقين - صلوات الله على نبينا وعليهم اجمعين - أن القرآن نفسه هدى ونور، لأن المراد منهما، الحاصل بالمصدر، وسائر الكتب فيها هدى ونور، كما في قوله تعالى:
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور
[المائدة:44]. وقال في حق القرآن:
قد جآءكم من الله نور وكتاب
[المائدة:15]. وقال:
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء
[الشورى:52].
وأما قوله:
وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس
[آل عمران:3 - 4]. فليس فيه نصوصية على كونها هدى، لاحتمال أن يكون " هدى " حالا من ضمير " أنزل ".
وكذا قوله:
قل من أنزل الكتاب الذي جآء به موسى نورا وهدى للناس
[الأنعام:91]. لاحتمال كونه حالا من فاعل أنزل أو جاء.
والفرق الآخر، أن القرآن هدى للمتقين، لم يكاشف بأسراره عند تجلي أنواره إلا الخواص والمقربون من عباده، وهم المحبوبون وأهل المشية الإلهية كما قال:
نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى:52].
وأما سائر الكتب فيشارك في هداها الجمهور من الناس لقوله:
هدى للناس
[البقرة:185]. والقرآن أيضا لاشتماله على الكتاب لما قد مر أنه كلام وكتاب جميعا، يشارك في هداه الناس، وكذا قال تعالى:
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات
[البقرة:185]. وقد مر في المفاتيح نظير هذا المرام.
والهدى في الأصل مصدر على وزن فعل كالسرى والبكا، ومعناه الدلالة. وقيل: بل الدلالة الموصلة الى المطلوب. والكلام من الجانبين مذكور والانتقاض بالآيتين مشهور.
قال صاحب الكشاف: هو الدلالة الموصلة الى البغية، واستدل عليه بوجوه ثلاثة:
بوقوع الضلالة في مقابله، قال تعالى:
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى
[البقرة:16]. وقال:
لعلى هدى أو في ضلال مبين
[سبأ:24]. وبأنه يقال " مهدي " في موضع المدح كمهتدي. ولو لم يكن من شرطه الايصال، لم يكن الوصف بالهدى مدحا لأحد، لاحتمال انه هدي فلم يهتد، وبأن " اهتدى " مطاوع " هدى " ، ولن يكون المطاوع على خلاف معنى أصله، كما يقال: كسرته فانكسر، وغممته فاغتم.
والجواب عن الأول: إن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم، فمقابل الهدى الإضلال، لا الضلال.
وعن الثاني: المنتفع بالهدى يسمى مهديا، لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود، كانت نازلة منزلة المعدوم.
وعن الثالث: بالنقض، فإن الإيتمار مطاوع للأمر، يقال: امرته فأتمر، وليس من شرط الأمر حصول الايتمار. وبالمعارضة بقولك: هديته فلم يهتد.
تحقيق فيه اشارة
[الهداية وكون القرآن هدى]
واعلم أن أفاعيل المبادي الذاتية والعوالي الفعالة، وإن كانت من قبلها عامة تامة لازمة الآثار والنتائج ليست فيها شائبة قوة ونقص وفتور، إلا أنها قد يتخلف عنها الأثر والنتيجة لا لقصور من جانب الفاعل وعدم تمامية وكمالية، بل لضعف القابل، أو لسوء استعداده، أو انحرافه عن جهة القبول.
ومنها الهداية، كإنزال القرآن ونحوه من الله والقرآن عين الهدى، بمعنى الحاصل بالمصدر كما مر، والله هو الهادي للعباد كلهم دائما بالذات، لأن شأنه الرحمة والجود، ودأبه إفاضة الخير والوجود على الجميع من غير فتور من قبله، إلا ان القوابل متفاوتة،
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
[البقرة:26].
إذ المراد من الهداية أو الهدى، ليس مجرد المعنى الإضافي العقلي الذي تحققه فرع تحقق الطرفين، بل المراد ما به يقع الاهتداء كالقرآن والنبي (صلى الله عليه وآله)، وكذا الكلام في نظائره كالنور والعلم والقدرة وأشباهها.
فالهداية بهذا المعنى ذاتية للقرآن، والإضلال عارض، وهذا كالشمس شأنها التنوير والإضاءة، ومع هذا قد يحصل من إضاءتها وتنويرها في بعض المواد ضد ذلك كالظلمة والسواد.
فمن قال: " إن الهدى معناه الدلالة الموصلة إلى البغية " أراد به فعل ما يوجب الوصول إلى المطلوب لمن هو أهله ومستحقه، ومن تعلقت المشية الإلهية بحصول السعادة الأخروية له، فقوله تعالى مخطابا لبينه (صلى الله عليه وآله):
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص:56] بمنزلة قوله تعالى:
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء
[الروم:52] وبمنزلة قوله: ان الشمس لا تنور أبصار الخفافيش.
وكذا قوله تعالى:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت:17]. بمنزلة قولك: شوقناهم فلم يشتاقوا وعلمناهم فلم يتعلموا، ليس بمناف لكون الهداية بمعنى الدلالة الموصلة على ما حققناه -.
فقوله: { هدى للمتقين } ، معناه إنهم المهتدون بأنوار الكتاب، والمنتفعون بآياته دون غيرهم، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم وكافر، وصالح وفاجر.
وبهذا الاعتبار قال: هدى للناس، أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه والتدبر في آياته إلا من صفت صفحة باطنه وتطهر وجه سره عن كدورات الأوهام الفاسدة، والآثام المظلمة، واستعمله في مطالعة الآيات الإلهية والأنوار الربانية، والنظر في المعجزات النبوية، والعلوم الوهبية لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة البدنية، فاذا تناوله البدن الذي ليس بالنقي، لا يزيده إلا شرا ووبالا وسقما ونكالا كما قاله بعض الأطباء.
وإليه أشار بقوله:
وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
[الإسراء:82].
فصل
في التقوى
أصله وقوى قلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث، فالأصل في المتقين: الموتقين، مفتعلين من الوقاية.
والاتقاء في أصل اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال اتقاه بالترس، أي جعله حاجزا بينه وبينه.
والوقاية: فرط الصيانة، سواء كان في أمر دنيوي أو أخروي، لكن لما وقع المتقي في عرف الشرع في معرض المدح، فلن يكون متقيا إلا من اتقى عما يضره في الآخرة. وله مراتب ثلاث:
إحداها: التوقي عن العذاب المخلد، بالتبري عن الشرك والجحود للحق والدين، والإنكار للعلم والحكمة واليقين، وعليه يحمل قوله تعالى
وألزمهم كلمة التقوى
[الفتح:26].
والثانية: الاجتناب عن المآثم والمعاصي في فعل أو ترك، حتى الصغائر عند القوم، فروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس "
، وهو المعني بقوله تعالى:
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا
[الأعراف:96] الآية.
والثالثة: أن ينزه عما يشغل سره عن الحق، ويجرد عما سواه ويتبتل اليه بشراشره، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله:
اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران:102].
واعلم أن التقوى جاءت في القرآن بمعان كثيرة، كلها ترجع الى هذه المراتب.
فمنها: الإيمان، كقوله تعالى:
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
[الفتح:26]. أي كلمة التوحيد وقوله:
أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى
[الحجرات:3].
وفي الشعراء:
قوم فرعون ألا يتقون
[الشعراء:11]. أي لا يؤمنون.
ومنها: الخشية، كقوله في أول النساء:
يأيها الناس اتقوا ربكم
[النساء:1]. ومثله في أول الحج: و[في] الشعراء:
إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون
[الشعراء:124]. أي ألا تخشون، وكذلك قول هود وصالح. ولوط وشعيب لقومهم. وفي العنكبوت:
وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه
[العنكبوت:16]. يعني: اخشوه.
ومنها: التوبة كقوله تعالى:
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا
[الأعراف:96] أي تابوا.
ومنها: الطاعة كقوله تعالى في النحل:
أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون
[النحل:2].
وفيه أيضا:
أفغير الله تتقون
[النحل:52]. وفي المؤمنون:
أنا ربكم فاتقون
[المؤمنون:52].
ومنها: ترك المعصية كقوله:
وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله
[البقرة:189]. أي ولا تعصوه.
ومنها: الإخلاص كقوله في سورة الحج:
فإنها من تقوى القلوب
[الحج:32]. أي من إخلاص القلوب.
تنبيه
[التقوى في الكتاب والسنة]
إعلم أن التقوى كنز عزيز، فلئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وعلق نفيس، وخير كثير، ورزق كريم، وفوز كبير، وغنم جسيم، وملك عظيم.
وكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فجعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى، وكم في القرآن من ذكرها، وكم علق بها من خير، وكم وعد عليها من أجر وثواب وكم أضاف إليها من السعادة، وسنذكر عدة من جملها.
أولها: المدحة والثناء، قوله:
وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور
[آل عمران:186].
وثانيها: الحفظ والحراسة من الأعداء، قوله:
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا
[آل عمران:120].
وثالثها: التأييد والنصرة، قوله:
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
[النحل:128]. وقوله:
والله ولي المتقين
[الجاثية:19].
ورابعها: النجاة من الشدائد، والرزق من الحلال، قوله:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب
[الطلاق:2 - 3].
وخامسها: اصلاح العمل، قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم
[الأحزاب:70 - 71].
وسادسها: غفران الذنوب، قوله تعالى:
ويغفر لكم ذنوبكم
[آل عمران:31].
وسابعها: المحبة، قوله تعالى:
إن الله يحب المتقين
[التوبة:7].
وثامنها: القبول، قوله:
إنما يتقبل الله من المتقين
[المائدة:27].
وتاسعها: الإكرام والإعزاز، قوله:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات:13].
وعاشرها: البشارة عند الموت، قوله تعالى:
الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة
[يونس:63 - 64].
وحادي عشرها: النجاة من النار، قوله:
ثم ننجي الذين اتقوا
[مريم:72] وقوله:
وسيجنبها الأتقى
[الليل:17].
وثاني عشرها: الخلود في الجنة، قوله:
أعدت للمتقين
[آل عمران:133].
فهذه كل خير وسعادة يتعلق بالتقوى، لكونه من شرائف المقامات القلبية.
وعن ابن عباس: قال النبي (صلى الله عليه وآله):
" من أحب أن يكون أكرم الناس، فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده ".
وروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة.
وقال الحسن: التقوى أن لا تختار على الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله.
وقال ابراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيبا، ولا الملائكة في أعمالك عيبا، ولا ملك العرش في سرك عيبا.
وقال الواقدي: التقوى أن تزين سرك للحق، كما زينت طاهرك للخلق.
ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك.
ويقال: المتقي من سلك طريق المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفاء، واجتنب الحرام والجفاء.
نكتة:
لو لم يكن للمتقين فضل إلا ما في قوله تعالى: { هدى للمتقين } ، لكفاهم، لأنه تعالى قد بين ان القرآن هدى للناس في قوله:
أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات
[البقرة:185]. ثم قال ها هنا في القرآن: { هدى للمتقين } ، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقيا كأنه ليس بإنسان.
وها هنا سؤالات:
أحدها: إن كون الشيء هدى ودليلا لا يختلف لشيء دون شيء؛ فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين؟ وقد سبق تحقيق الجواب.
وثانيها: إن المتقي مهتد؛ والمهتدي لا يهتدي ثانيا. فالقرآن لا يكون هدى للمتقين.
والجواب: إن المتقي مهتد بنفس ذلك الهدى، لا بهدى ثان، كما ان الموجود موجود بنفس الوجود القائم به حين كونه موجودا، وتحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل غير مستحيل، إنما المستحيل تحصيل الحاصل بتحصيل آخر، وايجاد الموجود بوجود آخر.
وثالثها: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم من المتشابه، والمبين من المجمل، فيكون الهدى في الحقيقة هو العقل لا القرآن، وعن هذا نقل عن علي (عليه السلام)، أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج: لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه حمال ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال (عليه السلام) ذلك، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوا، بعض آياته صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر، ولا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟
والجواب: إن ذلك المجمل والمتشابه، لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين، وهو إما دلالة العقل المنور بنور القرآن، وإما دلالة المبين والمحكم من الآيات، صار كله هدى.
وأما قوله: " لا يمكن التوفيق بين آيات الجبر وآيات القدر إلا بالتعسف الشديد " ، فليس كذلك عند من هو من أهل القرآن، وهم المتقون الراسخون في العلم والعرفان.
واربعها: كلما يتوقف صحة كون القرآن حجة عليه، لم يكن القرآن هدى فيه، فاستحال كون القرآن هدى في معرفة الله وصفاته، ومعرفة النبوة والمعاد، ولا شك أن هذه أصول المطالب، وهي أشرف العلوم، فإذا لم يكن القرآن فيه هدى، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟
والجواب: إن كمال المعرفة بالله ورسله وملكوته والنشأة الآخرة، لا يحصل إلا بالقرآن، وكذا العلم بالشرائع الإلهية، وسائر الحقائق النبوية، لا يستفاد إلا به، والمتوقف عليه صحة كون القرآن حجة هو أصل الاعتقاد بالله واليوم الآخر على وجه يشترك فيه أكثر الناس، ويذعن به أوائل العقول، من غير حاجة الى ممارسة القرآن ومطالعة الآيات.
والإيمان بالله واليوم الآخر مرتبة عظيمة ومنزلة شريفة، لا يوجد إلا في عرف القرآن وعلم آياته ومعانيه على وجه تتنور به قلوب أهل الحق، وهو غير الاعتقاد الذي قد يحصل بمجرد التقليد أو الرواية من غير بصيرة واهتداء، ويشترك أوائل الفطر ومبادئ العقول، وأما الإيمان الحقيقي، فالمؤمن به يحتاج الى فطرة ثانية، ونور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده.
وخامسها: إن الهدى، هو الذي بلغ في البيان والوضوح الى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين لا يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالا كثيرة متعارضة. وما يكون كذلك لا يكون مبينا في نفسه، فضلا عن أن يكون مبينا لغيره، فكيف يكون هدى؟
والجواب: من تكلم في التفسير، وشأنه نقل الأقاويل المتعارضة من غير بصيرة يقتدر بها على ترجيح واحد منها على الباقي، أو الاطلاع على فهم جديد أعطاه الله من لدنه، فهذا السؤال متوجه عليه، لا على أهل القرآن من أرباب التأويلات والعلوم الربوبيات والنبوات.
تتمة في الإعراب:
حكم صاحب الكشاف أولا أن محل " هدى للمتقين " الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف. أو خبر مع " لا ريب فيه " (لذلك). أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه، أو أنه منصوب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، أو الظرف كما مر.
ثم أضرب عن هذا المجال صفحا، وجعل " الم " جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، " وذلك الكتاب " جملة ثانية، و " لا ريب فيه " ثالثة، " وهدى للمتقين " رابعة، قائلا: إنه أرسخ عرقا في البلاغة وموجب حسن النظم حيث جيء بأربع جمل متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، تعزز اللاحقة منها السابقة.
بيانه: أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى [به]، ثم اشير اليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، ثم نص على كماله بنفي الريب عنه، إذ لا كمال أعلى مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة.
ثم اكد كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بأنه هدى للمتقين، وبعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السوي، حيث تستتبع كل واحدة منها ما يليها استتباع الدليل للمدلول، لم يخل كل واحدة من الأربع من نكتة جزيلة:
ففي الأولى: الحذف والرمز الى الغرض بألطف وجه.
وفي الثانية: ما في التعريف من الفخامة.
وفي الثالثة: تقديم الريب على الظرف حذرا عن ايهام خلاف المقصود.
وفي الرابعة: الحذف والتوصيف للبالغة بالمصدر، وايراده منكرا للتعظيم، وتخصيصه بالمتقين باعتبار الغاية، وتسمية المشارف بالتقوى متقيا ايجازا.
[2.3]
قوله جل اسمه:
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة
في الكشاف: الذين يؤمنون: إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو مدح، منصوب أو مرفوع، بتقدير: أعني الذين يؤمنون، أو: هم الذين يؤمنون.
وإما منقطع عن المتقين، مرفوع على الابتداء مخبر عنه بأولئك على هدى. فإذا كان موصولا، كان الوقف على المتقين حسنا غير تام، وإذا كان منقطعا كان وقفا تاما. انتهى.
واعلم أنه على تقدير كون " الذين " مع ما يليه متصلا بالمتقين وصفة له، فإن كان المراد بالتقوى ترك ما لا ينبغي، فهو يكون صفة مقيدة له، مترتبة عليه ترتب الفعل على القوة، وتوقف التحلية على التخلية، والتصوير على التطهير.
فإن النفس الإنسانية كاللوح القابل لنقوش العلوم الحقة؛ وهي الإيمان بالله واليوم الآخر والأخلاق الفاضلة التي هي مبادئ الأفعال الحسنة، كالصلاة والزكاة.
فيجب تطهره أولا بالتقوى عن النقوش الفاسدة حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه، ويستقر حصول الأوصاف الحسنة عليه، فلهذا السبب قدم ذكر التقوى وهي ترك ما لا ينبغي، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي وهو الإيمان والطاعة.
وإن فسر التقوى بما يعم فعل الطاعات وترك المعاصي، فيكون صفة موضحة للمتقين، وذلك لاشتماله على ما هو أصل الأعمال الصالحة، كالإيمان بالله وملكوته، فإنه من امهات الأعمال القلبية؛ وعلى أساس الحسنات كالصلاة والزكاة، فإنهما من أمهات العبادات البدنية والمالية، المستتبعة لسائر الطاعات، والتجنب عن المعاصي غالبا، ألا ترى الى قوله تعالى:
إن الصلوة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت:45].
وقوله عليه وآله السلام: الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام.
تنبيه
[التقوى والمتقين]
غاية التقوى، الاتصال بالحضرة الإلهية بترك الالتفات بغير الله، وقطع النظر سواه، وهذا هو غاية النشأة الآدمية ونهاية الكمال الأخروي للروح الإنساني، ولا يمكن تحصيله إلا بتكميل القوة العاقلة من النفس بالعلوم الحقة، وبتعديل القوة العاملة منها بالأعمال الحسنة، ليتحلى بالفضائل ويتخلى عن الرذائل.
فالمتكفل لتكميل الأولى، هو الإيمان بالغيب، وهو العلم بأحوال المبدإ وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال المعاد ومراتبه، وطبقات نفوس الإنسان بحسب درجات الجنان ودركات النيران.
والمتكفل لتكميل الثانية، هو العمل الصالح، وأصل الأعمال الصالحة الصلاة والزكاة، أما الأولى، فلاشتمالها على الأذكار والنيات الحسنة، وهيئات الخضوع والخشوع.
وأما الثانية، فلاستلزامها ترك التعلق باللذات النفسانية، والمحبوبات الدنيوية، لأن المال وسيلة لأكثرها. وقد قال سبحانه:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران:92].
فإذا تقرر هذا، فقوله: " الذين " مع ما يتلوه، بمنزلة تفسير كاشف للمتقين وحد مبين له.
[الأقوال في ماهية الإيمان]
ثم الإيمان بحسب اللغة - كما ذكره صاحب الكشاف - مأخوذ من الأمن؛ ثم يقال: آمنه إذا صدقه، كأن المصدق أمن من التكذيب والمخالفة.
وتعديته بالباء، لتضمنه معنى الاعتراف، وقد يطلق بمعنى الوثوق كما حكى أبو يزيد: ما آمنت أن أجد صحابة، أي ما وثقت فهو من حيث أن الواثق صار ذا أمن، وكلا الوجهين حسن في: { يؤمنون بالغيب }.
وأما بحسب الشرع فقد اختلف أهل القبلة في معنى الإيمان في عرف الشرع إلى اربعة مذاهب.
أحدها: إنه إسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان. وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية واهل الحديث، فهو اسم لمجموع أمور ثلاثة: اعتاقد الحق، والإقرار به، والعمل بمقتضاه، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالإقرار فهو كافر على رأي. ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا، وكافر عند الخوارج، خارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة.
وروى الخاص والعام عن مولانا علي بن موسى الرضا (عليه السلام): " إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان " وقد روي ذلك عنه أيضا على لفظ آخر: " الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول ".
ثم إن الخوارج اتفقت على أن الإيمان بالله متناول للمعرفة به، وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا او نقليا، ويتناول طاعته في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك، حتى الصغائر، فالإخلال بشيء من هذه الأمور كفر.
وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه على وجوه:
أحدها: إن الإيمان عبارة عن الإتيان بكل الطاعات، سواء كانت من الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات، وسواء كانت واجبة أو مندبة، وهو قول واصل بن عطاء وأبي هذيل والقاضي عبد الجبار.
وثانيها: إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل. وهو قول أبي هاشم وأبي علي.
وثالثها: إنه عبارة عن اجتناب كل ما جاء به الوعيد.
وأما أهل الحديث: فذكروا وجهين:
الأول: إن المعرفة ايمان كامل، وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة ايمان على حدة، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها ايمانا إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة، وكذا القياس في جانب مقابله: أعني الكفر، وهو قول عبد الله بن سعيد الكلاب.
الثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها، وهو إيمان واحد، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.
وثانيها: إن الإيمان بالقلب واللسان معا، وقد اختلف أهل هذا المذهب على أقوال.
الأول: إنه إقرار باللسان ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء. ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين.
أحدهما: في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقادا تقليديا، أو علما صادرا عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون أن المقلد مسلم، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال.
والثاني: في متعلق هذا العلم، فقال بعض المتكلمين: هو العلم بالله وصفاته على سبل الكمال والتمام.
ثم لما كثر الاختلاف بينهم في الصفات، واقدمت كل طائفة على تكفير من عداها، قال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة من دين محمد (صلى الله عليه وآله).
القول الثاني: إنه التصديق بالقلب واللسان معا، وهو قول أبي الحسن الأشعري، وبشر بن غياث المريسي، والمراد بالتصيدق بالقلب: الكلام القائم بالنفس.
القول الثالث: قول جماعة من الصوفية: إنه إقرار باللسان وإخلاص بالقلب.
وثالثها: إنه عبارة عن عمل القلب وأصحاب هذا المذهب اختلفوا على قولين:
أحدهما: إنه معرفة الله بالقلب، حتى ان من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل التوبة، فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صفوان، أما معرفة الكتاب والرسل واليوم الآخر فقد زعم إنها غير داخلة في حد الإيمان.
وحكى الكعبي عنه: أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة إنه من دين محمد (صلى الله عليه وآله).
وثانيهما: إنه مجرد التصديق بالقلب، وهو قول الحسين بن الفضل البجلي.
ورابعها: إنه إقرار باللسان فقط، وأصحابه فريقان:
الأولى: قالوا: إن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه ايمانا حصول المعرفة، فالمعرفة شرط لكون الإقرار باللسان ايمانا، لا انها داخلة في مسمى الايمان. وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولا لغيلان.
الفرقة الثانية قالوا: إن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المنافق مؤمن بالظاهر، كافر بالسريرة، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في الشرع حسبما وجد في كتب الكلام وغيره.
اشارة فيها انارة
[ماهية الإيمان وانه مجرد العلم والتصديق]
أعلم إن الإيمان وسائر مقامات الدين ومعالم شريعة سيد المرسلين (عليه وآله السلام)، إنما ينتظم من ثلاثة أمور: معارف وأحوال وأعمال. فالمعارف هي الأصول، وهي تورث الأحوال، والأحوال تورث الأعمال. أما المعارف، فهي العلم بالله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأما الأحوال، فكالانقطاع عن الأغراض الطبيعية، والشوائب النفسانية، والوساوس العادية، كالشهوة والغضب والكبر والعجب ، ومحبة الجاه والشهرة وغير ذلك. وأما الأعمال، فكالصلاة والزكاة والصوم والطواف والجهاد وفعل ما أمره الله به وترك ما نهى عنه.
فهذه الثلاثة إذا قيس بعضها الى بعض، لاح للناظرين الى الأشياء بالنظر الظاهر، المقتصرين على إدراك النشأة الحسية، أن العلوم تراد للأحوال، والأحوال تراد للأعمال، فالأعمال هي الأصل عندهم، والأفضل في نظرهم.
وأما أرباب البصائر، المقتبسين أنوار المعرفة من مشكاة النبوة لا من أفواه الرجال، المستفيضين أسرار الحكمة الحقة من معدن الوحي والرسالة، لا من مقارعة الأسماع بالقيل والقال، فالأمر عندهم بالعكس من ذلك، فإن الأعمال تراد للأحوال، والأحوال للعلوم، فالأفضل العلوم، ثم الأحوال، ثم الأعمال.
فإن لوح النفس كالمرآة، والأعمال تصقيلها وتطهيرها، والأحوال صقالتها وطهارتها، والعلوم صورها المرتسمة فيها.
فنفس الأعمال - لكونها من جنس الحركات والانفعالات - تتبعها المشقة والتعب، فلا خير فيها إذا نظر اليها لذواتها. ونفس الأحوال - لكونها من قبيل الأعدام والقوى - فلا وجود لها، وما لا وجود له فلا فضيلة فيه، وإنما الخير والفضيلة لما له الوجود الأتم والشرف الأنور، وهي الموجودات المقدسة والمعقولات الصورية المجردة عن التغير والزوال، والشر والوبال. كالباري وملائكته العلوية، والأرواح المطهرة الإنسية، والحضرة الإلهية، والحظيرة القدسية.
ففائدة إصلاح العمل إصلاح القلب. وفائدة إصلاح القلب، أن ينكشف له جلال الله في ذاته وصفاته وأفعاله.
فأرفع علوم المكاشفة هي المعارف الإيمانية ومعظمها معرفة الله ثم معرفة صفاته وأسمائه، ثم معرفة أفعاله، فهي الغاية الأخيرة التي يراد لأجلها تهذيب الظواهر بالأعمال، وتهذيب البواطن بالأحوال، فإن السعادة بها تنال، بل هي عين الخير والسعادة واللذة القصوى.
ومقابلها وهو الجهل بها، محض الشر والشقاوة والألم الشديد، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة، ولا قلب من اتصف بالجهل بحقائق الإيمان بأنه محض الشر والألم، وانما يقع الشعور بتلك السعادة وهذه الشقاوة في الدار الآخرة، التي فيها أعلنت السرائر، وأبطنت الظواهر، ونشرت الصحائف، وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور.
فالعلم بالإلهيات هو الأصل في الإيمان بالله ورسوله، وهو المعرفة الحرة التي لا قيد عليها ولا تعلق له بغيرها، وكل ما عداه عبيد وخدم بالإضافة، فإنما يراد لأجلها، وهي أيضا معطى أصولها، ومثبت موضوعات مسائلها ومحقق مبادئ براهينها وغايات مطالبها.
ولما كانت سائر العلوم لأجلها، كان تفاوتها في الفضيلة بحسب تفاوت نفعها بالإضافة الى معرفة الله، فإن بعض المعارف يفضي الى بعض إما بواسطة أو بوسائط، حتى يتوسل بها الى معرفة الله، كما ان الأعمال والأخلاق يفضي بعضها إلى بعض حتى ينجز الى تصفية الباطن بالكلية.
فمن العلوم كلما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله أقل، كان أفضل، كما ان من الأعمال كلما كانت الوسائط بينه وبين تصفية القلب أقل، كان أزكى.
وأما الأحوال - أعني صفاء القلب وطهارته من شوائب الدنيا وشواغل الخلق - فيعني بها استحقاقه لحصول نور المعرفة، واستعداده لانكشاف حقيقة الحق وصورة الحضرة الإلهية، حتى إذا تمت طهارته، وصقلت صفحة وجهه، واجهته أنوار الكبرياء، وحضرت عنده وانكشفت لديه حقائق الأشياء.
فقد ثبت ان وجوب الأعمال الصالحة وترك القبائح، لأجل إصلاح القلب وجلب الأحوال، وتفاوتها في الفضيلة إتيانا وتركا، بقدر تأثيرها في تطهير القلب وتهذيبه وإعداده لأن تحصل له المعرفة الإلهية والعلوم الكشفية.
وكما ان تصقيل المرآة يحتاج الى أعمال تتقدم على تمام أحوال المرآة في صفائها وصقالتها، وتلك الأعمال بعضها أقرب إلى الصقالة التامة من بعض، فكذلك الأعمال المورثة لأحوال القلب، تترتب في الفضيلة ترتب الأحوال، فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب، هي أفضل مما دونها لا محالة بحسب قربها من المقصود الأصلي.
فكل عمل، إما أن يجلب الى القلب حالة مانعة من المكاشفة، موجبة لظلمة القلب، جاذبة الى زخارف الدنيا. وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة للمكاشفة، موجبة لصفاء القلب وقطع علاقته عن الدنيا، واسم الأول في عرف الشرع: المعصية، سواء كان فعلا أو تركا، واسم الثاني: الطاعة، فعلا كان أو تركا.
والمعاصي، من حيث تأثيرها في ظلمة القلب وقساوته، متفاوتة، وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته، فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها. وذلك يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص. فربما كان قيام الليل لأحد أفضل من إيتاء الصدقات المتبرعة، وربما كان الأمر بالعكس من ذلك، وربما كان صوم ستين يوما أفضل في باب الكفارة من عتق رقبة، كما للسلاطين والأمراء من أهل الدنيا.
فإذا تقررت هذه المقدمات، فقد علم أن الأصل في الإيمان هو المعرفة بالجنان، وأما العمل بالأركان، فإنما يعتبر لتوقف المعرفة على إصلاح القلب، وتهذيب الباطن، وتلطيف السر، وتوقفها على فعل الحسنات وترك السيئات.
ومما يدل على أن الإيمان مجرد العلم والتصديق وحده أمور:
الأول: أنه تعالى أضاف الإيمان الى القلب فقال في حق المؤمنين:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22]. وفي حق المنافقين:
الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم
[المائدة:41].
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14] وقوله:
وقلبه مطمئن بالإيمان
[النحل:106].
وقال النبي (صلى الله عليه وآله)
" الإيمان سر - وأشار الى صدره - والإسلام علانية ".
الثاني: إنه تعالى كثيرا ما ذكر الإيمان وقرن به العمل الصالح، ولو كان داخلا فيه لكان ذكره تكرارا.
الثالث: إن كثيرا ما ذكر الإيمان وقرنه بالمعاصي قال:
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
[الأنعام:82]. وقوله:
وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي
[الحجرات:9].
واحتج ابن عباس على هذا المطلب بقوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى
[البقرة:178] من ثلاثة أوجه:
أحدها: إنما يجب القصاص على القاتل المتعمد، ثم إنه خاطبه بالإيمان، فدل على أنه مؤمن.
وثانيها:
فمن عفي له من أخيه
[البقرة:178]. وهذه الأخوة ليست إلا أخوة الإيمان لقوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة
[الحجرات:10].
وثالثها: قوله:
ذلك تخفيف من ربكم ورحمة
[البقرة:178] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن، ومن هذا القبيل قوله تعالى:
والذين آمنوا ولم يهاجروا
[الأنفال: 72] جعلهم مؤمنين مع عظيم الوعيد في ترك الهجرة بقوله تعالى:
الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم
[النساء:97]. إلى قوله:
ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا
[الأنفال:72].
ومنه ايضا قوله:
يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول
[الأنفال:27] وقوله:
يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا
[التحريم:8]. إلى غير ذلك من الآيات التي تجري هذا المجرى.
الرابع: إنه تعالى قال:
لا إكراه في الدين
[البقرة:256] يدل على أنه من الأمور الإعتقادية التي لا يمكن تحصيلها بالجبر والإكراه.
وكذا قوله (صلى الله عليه وآله):
" ليس الدين بالتمني "
يعلم أنه ليس أمر اختياريا، ولو كان من باب الأعمال البدنية كالصلاة والصيام، لأمكن تحصيله في شخص آخر بالجبر، وفي الشخص نفسه بالتمني.
الخامس: إن العلم والتصديق اليقيني غير قابل للزوال والتغيير، فهو المتعين بأن يكون أصلا في الإيمان.
السادس: إن الإيمان في أصل اللغة بمعنى التصديق والإذعان، فلو صار في عرف الشرع لغير هذا المعنى، لزم أن لا يكون عربيا، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيا.
وأيضا لو صار منقولا عن معناه ومسماه الأصلي، لتوفرت الدواعي على معرفة ذاك المسمى، ولاشتهر وبلغ الى حد التواتر، وليس كذلك فعلم أنه باق على أصل الوضع.
وأيضا: لا خلاف لأحد في أن لفظ الإيمان اذا عدي بحرف الباء، كان معناه التصديق، كما هو في اللغة، فوجب أن يكون المعدى كذلك، لا يقال: هذا إثبات اللغة بالقياس، وهو غير جائز، كما ثبت في علم الاصول، لأنا نقول: ليس كذلك، بل هذا استنباط المعنى الأصلي من موارد الاستعمال، إذ التعدية بالحرف لا تغير أصل المعنى المصدري بل تزيده كمالا وقوة.
وأما المعتزلة، فقد اعترفوا أن الإيمان اذا عدي بالباء. كان المراد به التصديق كما في أصل اللغة، ولذلك إذا قيل: " فلان آمن بالله وبرسوله " يكون المراد عندهم أيضا مجرد التصديق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال: " فلان آمن بكذا " إذا صام أو صلى، وأما إذا ذكر مطلقا بلا تعدية، فقد زعموا أنه منقول من المسمى اللغوي الى معنى آخر، وهذا تحكم محض كما لا يخفى.
فصل
[درجات الإيمان ومراتبه]
فالمذهب المنصور المعتضد بالبرهان، أن الإيمان في عرف الشرع هو التصديق بكل ما علم بالضرورة من دين نبينا (صلى الله عليه وآله). لكن قد يسمى الإقرار ايمانا كما يسمى تصديقا، إلا انه متى صدر عن شك أو جهل كان ايمانا لفظيا لا حقيقيا، ومن هذا القبيل تقسيم المنطقيين القضية - وهي الحكم بثبوت أمر لآخر - الى قضية معقولة، والى قضية ملفوظة.
وقد تسمى أعمال الجوارح ايمانا استعارة وتلويحا، كما تسمى تصديقا لذلك، كما يقال: فلان يصدق أفعاله مقاله " ، والفعل ليس بتصديق باتفاق أهل اللغة، فالإيمان من الألفاظ المشككة التي يتفاوت معناها في الشدة والضعف، والكمال والنقص، فهو منقسم الى حقيقي ومجازي، باطني وظاهري، بل ينقسم كما أشار اليه بعض العرفاء، الى لب ولب لب، وقشر وقشر قشر وهذا بعينه كانقسام الإنسان الى هذه المراتب، فإن الإيمان من مقامات الإنسان في إنسانيته.
وقد يمثل هذا تقريبا للأفهام الضعيفة بالجوز، فإن له قشرين؛ الأعلى والأسفل، وله لب وللب دهن، وهو لب لبه.
فالمرتبة الأولى من الإيمان: أن يقول الإنسان كلمة الشهادة، ويعترف باللسان وقلبه غافل عنه، أو جاحد له، كما للمنافقين.
والثانية: أن يصدق بمعنى هذه الكلمة، وبكل ما هو معلوم بالضرورة من الدين، كتصديق عامة المسلمين، وهذا اعتقاد ليس بيقين.
والثالثة: أن يعرف هذه المعارف الإيمانية، ويصدق بها عرفانا كشفيا، أو تصديقا برهانيا وعلما يقينيا بواسطة نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، وهو المشار اليه في قوله:
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12]. وهذا هو الإيمان الحقيقي، الذي سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حارثة الأنصاري عن بيان حقيقته لما قال: إني أصبحت مؤمنا حقا، فقال (صلى الله عليه وآله): لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك؟
فأجاب بقوله: عزفت نفسي عن الدنيا بما فيها، فاستوى عندي حجرها وذهبها. فكأني أرى أهل الجنة يتزاورون، وأهل النار في النار يتعاوون. وكأني أرى عرش ربي بارزا.
فصدقه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال: أصبت فالزم.
والرابعة: أن يستغرق الإنسان في نور الحضرة الأحدية بحيث لا يرى في الوجود إلا الواحد القهار، فيقول بلسان حاله وايمانه: لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب عنه بلغة توحيده وعرفانه: لله الواحد القهار. وهذا المقام لا يحصل لأحد ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا إلا للكمل من العرفاء والأولياء بواسطة غلبة سلطان الآخرة على بواطنهم.
فصاحب المقام الأول، مؤمن بمجرد اللسان في عالم الأجسام ونشأة الحواس، وفائدة ايمانه ترجع اليه في هذه النشأة، إذ يحقن دمه من السيف والسنان، ويعصم ماله وذراريه من النهب والسبي.
وصاحب المقام الثاني، مؤمن بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم هذا اللفظ، وقلبه خال عن التكذيب، وهو عقد على القلب وليس فيه انشراح القلب لنور المعرفة، ولا انفتاح روزنته لعالم الملكوت الغيبي المقابل لهذا العالم، عالم الملك والشهادة.
وفائدته انه يصير منشأ بعض الأعمال الصالحة، ومبدأ بعض الخيرات وأداء الأمانات وفعل الحسنات، التي ينجر تارة أخرى الى اصلاح القلب وتصفيته وليستعد لحصول المعرفة على وجه أكمل؛ حتى ينتهي الى الإيمان الحقيقي.
فعلى هذا صح القول بأن الإيمان هو المبدأ والغاية، فإن الإيمان والعمل الصالح كل منهما يدور على صاحبه، فكل إيمان موجب لصالح من العمل، وكل صالح من العمل ينجر الى حصول ضرب من الإيمان، فيدور كل منهما على نفسه دورا غير مستحيل، لتغايره بالعدد.
لكن الإيمان أول الأوائل في الحدوث، وهو أيضا آخر الأواخر في البقاء.
ثم لهذا العقد الإيماني الذي كلامنا فيه، شبه وحيل يقصد بها تحليله وتوهينه تسمى " بدعة " ، وله أيضا حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتوهين، ويقصد بها إحكام هذه العقدة وشدها على قلوب المسلمين، ويسمى كلاما والعالم بها متكلما.
وهو في مقابلة المتبدع، ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام.
وصاحب المقام الثالث مؤمن، بمعنى أنه بصير بحقائق الأمور الإيمانية بصيرة قلبية ومشاهدة عقلية. إذ قد انكشفت له أسرار الملكوت وخفايا عالم الغيب والجبروت. لا انه مكلف بعقد قلبه على مفهوم هذه الألفاظ، فإن ذلك رتبة العوام والمتكلمين، إذ لا يفارق المتكلم العامي في أصل الاعتقاد، بل في صنعة تلفيق الكلام الذي يدفع به حيل المبتدعة في تحليل هذه العقدة.
وصاحب المقام الرابع مؤمن، بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد القهار مبدأ الأشياء وغايتها، وأولها وآخرها، وظاهرها وباطنها، الذي إليه ترجع عواقب الأمور، وبه ينقطع سير السائرين وسفر المسافرين، وهذه المرتبة في الإيمان هي الغاية القصوى التي لا حد لها ولا منتهى.
والتمثيل لمراتب الإيمان والتوحيد بقشري الجوز ولبيه على هذا الوجه، ذكره صاحب كتاب إحياء العلوم بأدنى تغيير ثم قال:
فالأول كالقشرة من العليا الجوز، والثاني كالقشرة السفلى، والثالث كاللب، والرابع كالدهن المستخرج من اللب.
وكما أن القشرة العليا لا خير فيها، بل إن أكل فهو مر المذاق، وإن نظر الى باطنه فهو كريه المنظر، وإن اتخذ حطبا أطفأ النار وأكثر الدخان، وإن ترك في البيت ضيق المكان، فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى؛ فكذلك التوحيد بمجرد اللسان عديم الجدوى، كثير الضرر، مذموم الظاهر والباطن، لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى الى وقت الموت، والقشرة السفلى هي القالب والبدن وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة، فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب، والسيف انام يسلب الجسم وهو القشر، وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لإيمانه فائدة بعده.
وكما ان القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة الى القشرة العليا، فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد، وعند الادخار فإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطبا لكنها ناقصة القدر بالإضافة الى اللب، فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كاشف، كثير النفع بالإضافة الى مجرد نطق اللسان، ناقص القدر بالإضافة الى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه، وإشراق نور القلب فيه، إذ ذلك الشرح هو المراد بقوله تعالى:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام
[الأنعام:125]، وبقوله تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر:22].
وكما ان اللب نفيس في نفسه بالإضافة الى القشر، فكأنه المقصود، لكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة الى الدهن المستخرج منه. فكذلك ايمان الثالث مقصد عال للسالكين، ولكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة غير الله، والالتفات الى ما سواه بالإضافة الى حال من لا يشاهد سوى الواحد الحق.
تكميل فيه دفع
إذا تحققت ماهية الإيمان على هذا الوجه، من كونه ذا مراتب متفاوتة متدرجة في الشرف والخسة، فقد علم فائدة قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا آمنوا
[النساء:136]. فإن الأول ايمان صوري دنيوي، والآخر معنوي أخروي.
ولما ثبت مما قررناه ان مراتب الإيمان متعلقة بمراتب العلم، ومتعاكسة كل منهما على الأخرى، فإن استشكل أحد على ما هو المختار عندنا، من أن الإيمان هو عبارة عن نفس التصديق والعرفان، وأن الأعمال خارجة عنه؛ بأنا لو فرضنا أن أحدا عرف الله بالدليل والبرهان، ولما تم له العرفان مات ولم يجد من الوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة، أو وجد من الوقت شيئا لكنه لم يتلفظ فيه بها، ففي هاتين الصورتين إن حكمتم بأنه مؤمن، فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقق الإيمان، وهو خرق الإجماع.
وإن حكمتم بأنه غير مؤمن، فهو باطل لما بين، ولقوله (صلى الله عليه وآله):
" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "
وهذا قلبه طافح بالإيمان فكيف لا يكون مؤمنا؟
فالجواب: بمنع ثبوت هذا الإجماع، والحكم بايمانه كما فعله حجة الاسلام الغزالي، فإنه منع من هذا الإجماع في الصورتين، وحكم بكونه مؤمنا، وأن الامتناع عن النطق يجري مجرى الأعمال التي يؤتى بها مع الإيمان.
أقول: لا يخفى عليك - بعدما تقدم من الكلام - أن الإيمان القلبي - لكونه كمالا عقليا وصورة باطنية - لا يحصل إلا عقيب الأعمال الشرعية، والأفعال الدينية، والرياضات السمعية، من القيام والصيام والعبادات والقربات، وهذه الأمور منوطة بالتسليم والانقياد لمن عنده الحجج والبينات، والإذعان والاعتراف بما أتى به القادة والرؤساء، من أولي الشرائع والآيات.
فالصورة المفروضة مما لا يمكن وقوعها عقلا وعادة، فلا تقدح في الإجماع. بل نقول: الإجماع إنما انعقد على كفر من كلف بالإيمان وإظهاره فلم يقبل، ولم يظهر الكلمة، وهذا مما لا شبهة فيه، فإنه إما بصدد الجحود والفتنة في الدين، وإفساد قاعدة المسلمين، وإما بصدد الإباحة والتعطيل، والخروج عن التكاليف الدينية، فعلى أي الوجهين يكون كافرا ظاهرا و باطنا.
تنوير عقلي
إعلم أن الحقيقي من الإيمان، هو الذي به يصير الإنسان إنسانا حقيقيا عقليا بعدما كان إنسانا حيوانيا، وبه يخرج من القوة الى الفعل في الوجود البقائي الأخروي، ويتخلص عن ألم الجحيم والتعذب بالنار، ويتجرد عن الرق والحدثان، وتبدل الجلود والذوبان، كما قال تعالى في صفة أهل النار:
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
[النساء:56].
وهذه الحقيقة الإيمانية يعبر عنها بعبارات مختلفة تسمى بأسامي متعددة في لسان الشرع والعقل.
فتارة يعبر عنه بالنور:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40] وقوله:
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12].
وتارة بالحكمة:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269]. فكل إنسان حكيم مؤمن، وكل مؤمن حقيقي فهو حكيم. إذ الحكمة بالحقيقة هي معرفة الأشياء الموجودة كما هي بحسب الطاقة البشرية، وأصل الموجودات هو الباري وملائكته ورسله وكتبه.
وتارة بالفقه، قال تعالى:
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم
[التوبة:122].
وليس المراد منه معرفة الفروع الغريبة في الفتاوى الأحكامية، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ الأقوال المتعلقة بها، كما هو عرف أهل هذه الأزمنة والأعصار اللاحقة بزمان النبي (صلى الله عليه وآله)، وزمان الأئمة (عليهم السلام).
قال صاحب الإحياء: اسم الفقه كان في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة، ودقائق آفات النفس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع على السعادة الأخروية، واستيلاء الخوف على الشقاوة التي بازائها. والذي يوجب التشوق الى الدار الآخرة وسعادتها، ويقتضي الخوف والخشية في القلب عن الحرمان الأخروي والشقاوة الأبدية، ويوجب إنذار القوم وتخويفهم - كما أشير اليه في الآية المذكورة - هو هذا العلم وهذا الفقه، دون تفريعات الطلاق، واللعان، والسلم والإجارة.
فذلك لا يحصل به شيء من الرغبة والرهبة الأخرويتين، ولا الإنذار والتخويف، بل التجرد فيه على الدوام مما يقسي القلب، وينزع الخشية منه، كما يشاهد من المتجردين له.
وقال تعالى:
لهم قلوب لا يفقهون بها
[الأعراف:179] وأراد به معاني الآيات، دون الفتاوى والأقضية.
وقال (صلى الله عليه وآله):
" لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، وحتى يرى للقرآن وجوها كثيرة ".
وروي أيضا مرفوعا عن أبي الدرداء مع قوله: ثم يقبل على نفسه، فيكون لها أشد مقتا.
وسأل فرقد السبخي الحسن البصري عن شيء فأجاب، فقال: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمك، وهل رأيت فقيها بعينك؟ إنما الفقيه، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض الناس، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعته، ولم يقل في جميع ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى.
وتارة يسمى الإيمان بعلم الكتاب والسنة قال تعالى:
يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
[الجمعة:2].
ولفظ " العلم " أيضا مما وقع التصريف فيه على ما كان بإزائه، فإنه كان مطلقا على معنى العلم بالله وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، فكان مرادفا للإيمان والحكمة.
وقد تصرفوا فيه أيضا بالتخصيص، حتى اشتهر في الأكثر بصنعة المناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية والكلامية، فيقال: هو العالم على الحقيقة، وهو الفحل: لمن مارس هذا الفن، ومن لا يشتغل به يعدونه من ضعفاء العقول، ولا يعدونه في زمرة العلماء. ولم يعلموا أن ما ورد في فضائل العلم والعالم أكثره في العلماء بالله وصفاته، وبأحكامه في أفعاله.
فأطلقوا " العالم " على من لا يحيط من علوم الدين بشيء سوى رسوم جدلية ومسائل خلافية، فيعد من فحول العلماء، مع جهله بحقائق التفسير وغيرها، وصار ذلك فتنة عظيمة في الدين، مهلكا لخلق عظيم من الطلبة والمستعدين.
ومن أسمائه: التوحيد، وهو في اصطلاح الصوفية إسم لحقيقة الإيمان، وفي المشهور وعند الجمهور عبارة عن صنعة الكلام، ومعرفة المجادلة، والإحاطة بمناقضات الخصوم، والقدرة على تكثير الأسئلة وتقرير الإلزامات، وايراد الشبهات، وتأليف المناقضات والمدافعات.
ومن هذا المعنى لقبت طائفة من المتكلمين: أصحاب العدل والتوحيد: وسمي المتكلمون: العلماء بالتوحيد، ولعبت بهم الشكوك، وطعن كل لاحق منهم لسابقه مع انه أيضا لم يأت بشيء يزيد به على السابق.
على أن جميع ما هو خاصية هذه الصناعة، لم يكن يعرف شيء منها في العصر الأول. بل كان يشتد النكير من السلف على من يفتح أبواب الجدل والمماراة، كما يستفاد من أحاديث أئمتنا سلام الله عليهم أجمعين، حيث وقع منهم المنع من علم الكلام وصنعة المناظرة، إلا على سبيل الضرورة عند مكافحة المتبدعين.
وأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان الى قبولها في أول السماع، فلقد كان ذلك معلوما للكل، وكان علم التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر يستفاد من القرآن بنحو آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين.
وهذا مقام شريف إحدى ثمراته هي أن يرى الأمور كلها من الله رؤية يقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، ويترتب عليه التوكل والرضا والتسليم لحكم الله وترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم.
ومن أسمائه: العقل المستفاد، وهذا اصطلاح الفلاسفة الموحدين، والحكماء الإلهيين دون الطبيعيين والرياضيين والأطباء والمنجمين، فإنهم بمعزل عن هذا المقام ومعرفته.
واسم العقل، من الأسماء المشتركة التي تطلق على معان أخرى، إلا ان الذي استعملته الحكماء في علم النفس، ويعد من أسامي مراتب النفس في استكمالاتها من حد القوة الاولى الى حد الكمال الأخيرة، هو العقل بالمعنى المرادف فيه معه لفظ " الإيمان " في عرف شريعتنا، وذلك حيث ذكروا ان للنفس درجات في القوة والكمال:
إحداها: درجة استعدادها الأول عند خلوها عن العلوم كلها، كما للطفل بالنسبة الى الكتابة، وهي المسمى بالعقل الهيولاني، تشبيها لها بالهيولى الأولى، الخالية عن الصور كلها بحسب ذاتها.
والثانية: درجة استعدادها الثاني من جهة اطلاعها على البديهيات، واوائل العقليات، فيتهيأ لإدراك الثواني إما بالفكر، أو الحدس، ويسمى عندهم بالعقل بالملكة.
ثم يحصل للنفس بعدها قوة وكمال، أما القوة فهي أن يكون بحيث أن يطالع المعقولات المفروغ عنها متى شاءت من غير تعمل وطلب، وهذه هي القوة القريبة من الفعل، ويسمى عقلا بالفعل، وأما الكمال، فهو أن تكون المعقولات حاصلة بالفعل مشاهدة، ويسمى العقل المستفاد، وهذان العقلان متعاكسان في التقدم والتأخر من جهة الحدوث والاستمرار، وبقاء الأخير لا يكون إلا في الدار الآخرة، اللهم إلا لبعض الكاملين من إخوان التجريد.
وأما أنه كم ينبغي أن يحصل للنفس الإنسانية من تصور المعقولات حتى يقع عليه هذا الإسم، اي العقل بالفعل المساوق للعقل المستفاد من جهة الاستمرار الأخروي، ويرجو السعادة العقلية، ويتخلص من الشقاوة التي بإزائها لمن يتصف بالجهل المضاد للعلم اليقيني الإيماني، فقد قال صاحب الشفاء: إنه ليس يمكنني أن انص عليه نصا إلا بالتقريب، وأظن أن ذلك أن تتصور نفس الإنسان المبادي المفارقة تصورا حقيقيا، وتصدق بها تصديقا يقينيا لوجودها عندها بالبرهان، وتعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية، التي لا تتناهى، وتتقرر عندها هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها الى بعض، والنظام الآخذ من المبدإ الأول الى أقصى الوجودات في ترتيبه، وتتصور العناية وكيفيتها، وتتحقق ان الذات المفيدة للكل أي وجود يخصها وأية وحدة تخصها، وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه من الوجوه، وكيف تترتب نسبة الموجوات اليها.
ثم كلما ازداد الناظر استبصارا، ازداد للسعادة استعدادا، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه، إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم، فصار له شوق الى ما هناك وعشق لما هناك، فصده عن الالتفات الى ما خلفه جملة، ونقول أيضا: إن هذه السعادة لا تتم إلا بإصلاح الجزء العلمي من النفس. انتهى كلامه.
وهذه التي ذكرها من المعارف التي لا بد للانسان الكامل الإيمان أن يعرفها، هي بعينها من المقاصد التي يستفاد وجوب معرفتها عقلا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، على تغاير في الاصطلاح، لا في أصول المقاصد.
وكذا قوله: إن هذه السعادة لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي، يدل على أن الإيمان لا يتم إلا بأن يكون مشفوعا بالأعمال الصالحة، من الطاعات والعبادات. كالقيام والإمساك عن الطعام، وبذل المال للفقراء، والمجاهدة مع أعداء الدين، وزيارة بيت الله وحضور مناسك المسلمين، وغير ذلك مما ورد في الشريعة الحقة، فإن اصلاح الجزء العملي الذي غايته قطع علائق الدنيا والأغراض النفسانية، لا يمكن إلا بالعمل الصالح.
فالعمل الصالح وإن لم يكن داخلا في ما هو المقصود من الإيمان كما توهم، إلا انه لا بد منه في حصول حقيقة الإيمان، أي النور القلبي الذي إذا حصل للإنسان يصير بصيرا بالأمور الغيبية والحقائق الملكوتية الغائبة عن مشاهدة الحواس.
فصل
[الأقوال في المراد من الغيب]
فقوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } ، إشارة الى ما ذكر، أي أنهم يصدقون تصديقا بالأشياء المرتفعة عن هذا العالم، والخارجة عن مدركات الحس الظاهر، كوجود الباري، والملائكة، واللوح، والقلم، والأمور الأخروية من الجنة والنار، والصراط والحساب والميزان، وتطاير الكتب ونشر الصحف، وأحوال القبر والبعث، وأهوال المحشر وغير ذلك مما لا تستقل باثباته عقول الخلائق بأنظارهم الفكرية، ودلائلهم النظرية، وإنما تتكشف بنور متابعة الشريعة، والاقتباس من مشكاة الوحي والنبوة.
والغيب في اللغة: مصدر أقيم مقام اسم الفاعل، كالصوم بمعنى الصائم، والمفسرون ذكروا في قوله: { يؤمنون بالغيب } وجهين:
الأول:- وهو اختيار أبي مسلم الإصفهاني - أن يكون صفة للمؤمنين، معناه انهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون حال الحضور، لا كالمنافقين الذين
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
[البقرة:14].
ونظيره قوله:
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب
[يوسف:52] ويقول الرجل لغيره: نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب، فكل ذلك مدح للمؤمنين بأن ظواهرهم توافق بواطنهم، ومباينتهم لحال المنافقين الذين
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
[آل عمران:167].
أقول: هذا القول لا يخلو من ضعف وركاكة، فإن سوق الكلام في هذا المقام من التأكيد في بيان عظمة القرآن بكونه كتابا من عند الله، وعلما إلهيا لا يحويه الشك، وحقا لا يأتيه الباطل، ونورا يهتدي به المتقون في طريق الآخرة وسبيل النجاة، مما يدل دلالة واضحة على أن الخطب فيه أعظم من أن يوصف أهله، والحاملون لأسراره والمستبصرون بأنواره في عالم الملكوت، بأنهم ليسوا عند الاهتداء به والإيمان بحقائقه منافقين ولا مستهزئين، بل هم أجل قدرا وأعظم شأنا من أن يقال في مدحهم: إنهم ليسوا من حزب المنافقين والشياطين.
والقول الثاني: وعليه جمهور المفسرين: إن الغيب هو أن يكون غائبا عن الحاسة. والحق هو القول الثاني كما لا يخفى. لكن أصحاب هذا القول ذكروا ان الغيب ينقسم الى ما عليه دليل والى ما ليس عليه دليل، فالمراد من هذه الآية هو الثاني.
ويدخل فيه العلم بالله وبصفاته، والعلم بالآخرة، وبالنبوة، وبالشرائع والأحكام. وسبب كون العلم به مدحا للمؤمنين، أن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة، فيصلح أن يكون سببا للثناء والتعظيم.
أقول: وفيه ما لا يخفى من التعسف، لما علمت من أن اصل الإيمان الحقيقي نور من أنوار الله الفائضة على باطن الإنسان، وهو كمال حقيقي وسعادة حقيقية يوجب الثناء، لا لأن في تحصيل العلوم المتعلقة بها مشقة، بل لأنه الغاية التي لأجلها خلق الإنسان بل بني العالم والأكوان، وما يترتب عليه من الأجر والثواب مما لا يسع في الميزان ولا يحويه الحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين، بخلاف ثواب الأعمال وميراث الأفعال، فإن لها حدا معدودا، وثوابا معلوما، وقدرا موزونا يشاهده كل أحد في ذلك اليوم.
ظلمات وهمية تزاح بأنوار عقلية
إن القائلين بالقول الأول احتجوا بوجوه:
الأول: إن قوله:
والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
[البقرة:4] فيه ايمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله { يؤمنون بالغيب } ، هو الإيمان بالأشياء الغائبة، لكان المعطوف عين المعطوف عليه، وأنه غير جائز.
الثاني: إنه لو حملناه على الإيمان بالغيب، يلزم القول بأن الإنسان يعلم الغيب وهو خلاف قوله:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام:59]. وكذا الآيات النافية لكون الإنسان عالما بالغيب، أما لو فسرناه بما قلنا، فلا يلزم هذا المحذور.
الثالث: إن إطلاق الغيب إنما يجوز على ما يجوز عليه الحضور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله وصفاته، فلو كان المراد من الآية الإيمان بالغيب بهذا المعنى، لما دخل فيه الإيمان بالله وبصفاته، ولا يبقى فيه إلا الإيمان باليوم الآخر، وذلك باطل، لأن الركن العظيم في الإيمان، هو الإيمان بذات الله وصفاته. فحمل اللفظ على هذا المعنى فاسد.
والجواب أما عن الأول: فبأن قوله: { يؤمنون بالغيب } ، يتناول الإيمان بالغائبات إجمالا، وقوله: والذين، مع ما يتلوه، يتناول تفصيل بعضها؛ وهذا من باب عطف التفصيل على الجملة، كما في قوله:
وملائكته ورسله وجبريل وميكال
[البقرة:98].
وأما عن الثاني: فبأنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا، وكان ذلك التخصيص لازما في الآيات الدالة على نفي العلم بالغيب عن الإنسان على أي وجه كان، فنقول: الغيب على ضربين: فمنه ما يتطرق إليه الدليل والبرهان، ومنه ما لا يكون كذلك، فللإنسان أن يعلم من الغيوب ما عليه برهان، بأن يهديه الله إليه بإقامة البراهين، أو يلهمه عليه بنور الحدس الشديد، كيف وقد شاع عند العلماء، أن الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.
وأما عن الثالث: فبمنع أن لفظ " الغيب " لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور، أو لا ترى ان المتكلمين يقولون: هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد، ويريدون بالغائب ذات الله وصفاته؟
وعنه جواب آخر لا نسمح به، لأنه مما تشمئز عنه قلوب جماعة كاشمئزاز المزكوم من رائحة الورد، فإن لاستشمام روائح رياحين العالم القدسي، لا بد من أدمغة صافية عن مضار الأهوية الردية، خالية عن عفونات أخلاط أهل الدنيا الدنية.
توجيهات نقلية
[المراد من الغيب]
قال بعض المفسرين: معنى { يؤمنون بالغيب } يصدقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه أو أباحه. وقال الحسن؛ معناه: يصدقون بالقيامة والجنة والنار، وعن ابن عباس: بما جاء من عند الله، وعن ابن مسعود وجماعة من الصحابة: ما غاب عن العباد علمه، وهذا اولى لعمومه. ويدخل ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي (عليه السلام) ووقت خروجه، وأكد كونه منتظرا بالقرآن والخبر:
أما القرآن
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
[النور:55]: الآية. وأما الخبر فقوله لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يوافق اسمه اسمي وكنيته كنيتي، به يملأ الله الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما.
وقيل: الغيب: هو القرآن وهو قول زيد بن حبيش، وكأنه أراد به أسرار القرآن وتأويلات الآيات.
وقيل: المراد بالغيب، هو القلب، والمعنى: يؤمنون بقلوبهم، لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويمكن حمل ما روي عن ابن مسعود من أنه قال: والذي لا اله غيره ما آمن أحد أفضل من ايمان بغيب - ثم قرأ هذه الآية -، على هذا المعنى. كما أمكن حمله على كل من الوجهين السابقين. أعني قول من جعل قوله: " بالغيب " ، صفة للمؤمنين، وحالا عن ضمير: يؤمنون، كما مر، أو عن: المؤمن به، وقول من جعله صلة للإيمان وأوقعه موقع المفعول به، فالباء إما للتعدية، أو للمصاحبة، أو للآلية.
قوله جل اسمه: ويقيمون الصلاة
أما معنى الإقامة للصلاة، فذكروا له وجوها:
أحدها: تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع في فرائضها خلل وفي آدابها زيغ، من أقام العود: إذا قومه.
وثانيها: إدامتها والمواظبة عليها، كما قال تعالى:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج:23]. من: قامت السوق: إذا نفقت، وأقمتها: إذا جعلتها نافقة قال الشاعر:
أقامت غزالة سوق الضراب
لأهل العراقين حولا قميطا
لأنها إذا اديمت وحوفظ عليها، كانت كالشيء النافق الذي يرغب فيه، وإذا أضيعت، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه.
وثالثها: التجلد لأدائها من غير تهاون ولا فتور، من قولهم: قام الأمر وقامت الحرب على ساقها، بل من قولهم: قام بالأمر وأقامة إذا جد فيه وتشمر له، وفي ضده: قعد عن الأمر وتقاعد عنه.
ورابعها: إقامتها؛ عبارة عن أدائها عبر عن أدائها بالإقامة لاشتمالها على القيام، وهو بعض أركانها، عبر عنها به، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح، قالوا: سبح إذا صلى، لوجود التسبيح فيها، قال تعالى:
فلولا أنه كان من المسبحين
[ص:143].
وإذا نظرت في هذه المعاني، وجدتها مشتركة في معنى الوجود والايجاد، مع تفاوت في مراتب الكمال والضعف.
فالأول إكماله، والثاني إدامته، والثالث تأكيده، والرابع تحصيل شيء منه، فالأولى حمل الكلام على ما هو أكمل في الثناء، وأشهر وأقرب الى الحقيقة، وأفيد لما هو المقصود بالذات، وهو الحمل على إدامتها من غير خلل في أركانها وشرائطها، ولهذا يوصف الباري، بأنه قائم وقيوم، لأنه يجب دوام وجوده للأشياء وإدامته للأرزاق.
فمن أدام فعلها، وراعى حدودها الظاهرة، - من الفرائض والسنن - وحقوقها الباطنة - من التوجه الى الله والعروج بقلبه الى حضرة القدس والخشوع بين يديه، لا كحال
الذين هم عن صلاتهم ساهون
[الماعون:5] - فهو حري بالمدح والثناء العظيم، والأجر الجسيم، ولذلك ذكر الله تعالى في سياق المدح:
والمقيمين الصلاة
[النساء:162]. وفي معرض الذم:
فويل للمصلين
[الماعون:4].
وأما معنى الصلاة في أصل اللغة فقيل: إنها الدعاء ومنه الحديث:
" إذا دعي أحدكم الى طعام فليجب، فإن كان صائما فليصل. أي: فليدع له بالبركة والخير ".
وقيل: مشتق من الصلى، وهي النار من قولهم: صليت العصا، إذا قومتها بالصلى، فالمصلي يسعى في تعديل ظاهره وباطنه، مثل من يحاول تقويم الخشبة وإصلاحها بعرضها على النار.
أقول: وها هنا سر لطيف لا يمكنني ضبط عنان القلم عن كشفه، وهو أن الإنسان في بداية الأمر في غاية الجمود والقساوة كالحجارة أو أشد قسوة منها، لعدم المناسبة له الى حضرة نور القدس، وإنما يلين جلده وقلبه لذكر الله على التدريج، بواسطة تلطف سره بالرياضات والتلطفيات، وذوبان لحمه وشحمه بإذابة التكاليف الدينية والعقلية، حتى يبلغ الى مقام يتسخن كبده بحرارة الشوق والمحبة، ثم يشتعل زيت قلبه بنار التوبة والندامة، ثم يتنور مصباح روحه بنور الإيمان والمعرفة.
وأصل الكلام وبناؤه؛ على أن الموجودات متفاوتة في الوجود وكماليته، وللإنسان أن يسلك في سبيل الله، ويتدرج في الدرجات، ويسير من أدنى منازل الوجود الى اعلاها، فيترقى من أول منازل الموجودات الأرضية والمائية الى آخر منازل الموجودات الهوائية والنارية كالجن والشياطين، ومنها يأخذ في سيره الى منازل الموجودات النورية، وهي مراتب الملكوت الأعلى، فلا بد من وروده في سيره الباطني أولا الى نشأة من نشئآت النيران، سواء كان في الدنيا أو في العقبى، كما قال تعالى:
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا
[مريم :71].
فإن ورد عليها في الدنيا، فيقع الخلاص منها، وإلا فسوف يعذب بها في العقبى، ووروده على النار في الدنيا، عبارة عن احتراق قلبه أولا بنار التوبة والندم، ثم ذوبان جسمه بنار الرياضات والتكاليف الشاقة، ثم اشتعال ذهنه بنار الحركات الفكرية والانتقالات النفسانية، وهكذا حتى يتجاوز من هذه المقامات بقوة البرهان ونور الإيمان، الى عالم الأنوار الملكوتية، ويتخلص عن عذاب النيران، ويحل في منازل الجنان ومجاورة الرحمن، كما قال تعالى:
ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:72].
فإذا تقرر هذا، فلعمري إن الصلاة أشد العبادات تأثيرا في تسخين الباطن، وتليين الجلود والقلوب لذكر الله، وتذويب ذهب الخلاص في كورة الامتحان، لاشتمالها على نار الإيمان والمعرفة ونار الخوف والخشية للقرب، ونار التوبة والندامة، ونار الفكر والرياضة النفسية والبدنية.
وفي الحديث:
" كان يصلي رسول الله وفي صدره ازيز، كأزيز المرجل ".
وقيل: إن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى:
تصلى نارا حامية
[الغاشية:4].
سيصلى نارا ذات لهب
[المسد:3] وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصليا.
وقال صاحب الكشاف: الصلاة فعلة من صلى، كالزكاة من زكى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة " صلى " حرك الصلوين، لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل للداعي: مصل، تشبيها له في تخشعه بالراكع والساجد.
واعترض عليه صاحب التفسير الكبير: بأن هذا يفضي الى طعن عظيم في كون القرآن حجة، لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة، وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا انها في الأصل ما ذكر، ثم خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه الآن إلا الآحاد، لكان مثله جائزا في سائر الألفاظ، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر إلى أفهامنا، لاحتمال أنه كانت موضوعة لمعان أخر في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان مراد الله تلك المعاني، لكنها خفيت واندرست هي في زماننا كما وقع مثله في هذه اللفظة.
ولما كان هذا باطلا بالاجماع، علمنا أن هذا الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل انتهى كلامه.
وفيه ما لا يخفى من التعسف، فإن اشتهار اللفظ في المعنى الاصطلاحي المنقول إليه دون اللغوي المنقول منه، لا يقدح في الحكم بكونه منقولا بحسب الرواية والضبط من أهل اللغة ولا يوجب ذلك عدم الاطلاع على معاني الألفاظ القرآنية في سابق الزمان، كزمان نزول القرآن، إذ بواسطة ضم القرآئن المعلومة لمن تتبع موارد الاستعمالات اللغوية، وتتبع معاني ألفاظ المفسرين وغيرهم الذين كانت أزمنتهم قريبة من زمان الوحي، يحصل اطلاع تام على معاني هذه اللغات في ذلك الزمان بلا شك.
والصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة، على وجوه وشرائط مخصوصة. وهذا يدل على أن هذا اللفظ منقول من اللغة الى الشرع.
وقيل: إن هذا ليس بنقل، بل تخصيص. لأنه يطلق على الذكر والدعاء في مواضع مخصوصة.
إشارة
[الصلاة]
إن الصلاة المعهودة، من أعظم العبادات الدينية والأوضاع الشرعية جلالة وقدرا، وأشدها قربانا الى الباري، وأوفرها تشبها بفعل المبادي المطيعة لله على الدوام، لاشتمالها على الأعمال العقلية والبدنية، واحتوائها على هيئات الخضوع والتذلل لله؛ ولهذا كانت واجبة في جميع الشرايع المعظمة والملل القديمة.
قال أفلاطون الرباني في المقالة الثانية من كتابه في النواميس: إن الصلاة تجمع الإقرار بالربوبية، وطاعة العقل في توجه النفس اليه، وتركها استعمال الحواس، ونهيها بذلك عن مقتضاها طلبا للروحانيات، وترك الاشتغال بطاعة الجسد والتخلي عن المعاصي، والإقرار بالذنب، والمسألة في الصفح.
ألا ترى الى الرجل كيف يرفع يديه بالتكبير، وإنما ذلك استعاذة من شيء خاف ايقاعه به عليه فطلب الاستقالة منه.
وكان ملك اليونانيين إذا دخل الأسرى الى بلدانهم، تقدموا اليهم أن يبسطوا أيديهم بسط التضرع، لترى العامة أنهم على الخوف والذعر من مسيرهم في المدينة.
فأما الركوع، فكتمكين الرجل من نفسه من حاول ضرب عنقه، فإنك لا تجد له حالة أمكن من الركوع.
وأما السجود ووضع الوجوه في مراتب الأقدام، فمن تعمد ذلك يمحق غضبه، فلهذا كانت فصول الصلاة أغض الأشياء من الغضب المؤذي، كما ان الصوم من أغض الأشياء لدفع آفة الشهوة.
انتهى كلامه.
مكاشفات عقلية متعلقة بأسرار الصلاة
الأولى: في حكمة وجوب الطاعات وسر التكليف بها:
إعلم أنه لما اقتضت الأسماء الحسنى الإلهية ظهور آثارها جميعا في المظاهر الكونية، لئلا يتعطل طرف من الألوهية، ظهرت في نوع الإنسان الذي هو أشرف الأكوان، وقد أوجده الله للعبادة كما قال:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56]. وطبايع أكثر الناس مجبولة على العدول عن منهج الحق، والانحراف عن سنن العدل، كما أشار اليه بقوله:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ:13]. وقوله:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103]. وقوله:
وأكثرهم للحق كارهون
[المؤمنون:70].
وقد تقرر بنيان هذا البيان في كثير من الأحاديث القدسية والنبوية، مثل قوله تعالى: كلكم ضال الا من هديته فاسألوني الهدى اهدكم، وكلكم فقير الا من أغنيته فاسألوني أرزقكم، وكلكم مذنب الا من غفرته فمن علم منكم مني اني ذو قدرة على المغفرة فاستغفر غفرت ولا ابالي.
فلو أن الناس أهملوا وطبائعهم وتركوا سدى، وخلي بينهم وبين طبائعهم، لتوغلوا في الدنيا، وانهمكوا في اللذات الجسمانية، وطلبوا دواعي القوى الظلمانية لضراوتهم واعتيادهم بها من الطفولية والصبى، حتى زالت استعداداتهم، وانسلخوا عن رتبة الإنسانية فمسخوا ومثلوا بالبهائم والسباع، كما قال تعالى:
وجعل منهم القردة والخنازير
[المائدة:60] وإن حوفظوا ودعوا بالسياسات الشرعية والعقلية، والحكم والآداب النبوية، ترقوا وتنورت بواطنهم بنور الملكية كما قال الشاعر:
هي النفس ان تهمل تلازم خساسة
وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج
فلهذا وضعت العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة، ليزول بها درن الطبائع المتراكمة في أوقات الغفلات، وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتخاذ اللذات، وارتكاب الشهوات، وتتنور بواطنهم بنور الحضور، وتنبعث قلوبهم بالتوجه الى الحق عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتنشرح صدورهم وتستريح بروح الروح، وحب الوحدة عن وحشة الهوى وتفرق الكثرة، كما قال (صلى الله عليه وآله):
" الصلاة الى الصلاة كفارة ما بينهما من الصغائر ما اجتنبت الكبائر ".
ألا ترى كيف أمرهم عند الحدث الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير البدن بالغسل، وعند الحدث الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيوية في ساعات الليل والنهار بالصلوات الخمس المزيلة لكدورات مدركات الحواس الخمس الحاصلة للنفس منها كل بما يناسبه.
وكذلك وضعوا بإزاء تفرقة الأسبوع، وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب والملابس البدنية والملاذ الجمسانية، اجتماع قوم على العبادة والتوجه، لتزول وحشة التفرقة بأنس الاجتماع والحضور، ويحصل بدل ظلمة النفرة نور المحبة الايمانية، ويرفع عنهم ظلمة الاشتغال بالأمور الجزئية، والإعراض عن الحق من جهة الأغراض المختصة الشخصية.
وهكذا الحال في أكثر التكاليف، إذ مرجع الغرض في أكثرها الى تصفية القلب عن ظلمة الدنيا، وتجريد الباطن عن كدورة الطبيعة ودرن اللذات الجسمانية، وتخليص العقل عن طاعة الهوى والشيطان بنور طاعة الحق بالايمان.
مكاشفة اخرى
في لمية وجوب الصلاة مطلقا من بين العبادات على عامة الناس بوجه عقلي
لما علم الشارع ان جميع أفراد الإنسان لا يرتفعون عن حضيض البشرية، ولا يرتقون في مدارج العقل الى درجة الملكية بحسب المعرفة والإخلاص، فلا جرم سوى لهم رياضة بدنية، وساسهم سياسة تكليفية، تخالف أهواءهم الطبيعية، وحفظ لهم الصورة الإنسانية، وراعى فيهم حكاية النسك العقلية، وهيكل العبادات الملكية.
فمهد لهم قاعدة في الأذكار والأوراد، وألزمهم ترك النسيان بتكرير الأعداد، وهي في الوجوب أعم وفي الحس أعظم، لترتبط بظواهر أشخاص الإنسان، وتمنعهم عن التشبه بسائر أفراد الحيوان، وأقر بهذا الهيكل الظاهر على كل بالغ عاقل، فقال (صلى الله عليه وآله):
" صلوا كما رأيتموني "
، ولو قال: صلوا كصلاتي، فمن الذي صلى مثل صلاته؟ لأنه كان يصلي وبصدره ازيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان في صلاته يرى من خلفه.
فقد ظهر أن في صلاة القالب مصلحة كثيرة لا تخفى على اللبيب العاقل، ولا يقر به لسان الجاهل العاذل. وهذا المعنى من الصلاة قد كانت واجبة على الأمم السابقة على أعداد اكثر من اعداد صلواتنا لعموم جدواها، وكانوا مكلفين بأعمال جسمانية كثيرة المشقة لغلبة القسوة والجسمانية عليهم، وقلة ظهور آثار الملكوتيين منهم.
وشريعتنا المحمدية - على الصادع بها وآله خير الصلاة والتحية - أقل تكليفا وأكثر منفعة، لصفاء القوابل، ولطافة القلوب، ورقة الحجاب في أمته بحمد الله، ولذلك قال: بعثت بالشريعة السهلة السمحاء.
مكاشفة اخرى
في لمية وجوب الصلاتين القلبية والقالبية.
إن الله قد بعث النبيين معلمين بالكتاب والحكمة، واضعين من قبل الله للشريعة والملة، مقيمين للعدل والقسط لقوله:
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
[الحديد:25].
فوضعوا للناس النواميس الإلهية ليخرجوهم عن حضيض البرزخ الظلماني، ويبلغوهم الى أوج العالم النوارني، لينخرطوا في سلك الملائكة المقربين، وينغمسوا في جوار القدس مع الأنبياء والصديقين، رحمة من الله وفضلا ونعمة منه.
فشرع كل منهم بإذن الله لأمته حسب ما أعطته العناية الإلهية، واقتضته الرحمة الأزلية في ذلك الوقت والزمان، من الأعمال القلبية والبدنية، ما تكمل به قوتاهم العلمية والعملية بحسب طاقتهم.
ولما كانت الحكمة المحمدية - على مقيمها وآله أفضل المحامد العلية -، حكمة فردة، لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، بل هو أكمل الممكنات علويها وسفليها، روحانيها وجسمانيها، وكان تأثير قوة نبوته في تكميل أرواح أمته، أبلغ وأتم كمالا وأقوم، وحكمته أحكم، وكتابه وشريعته أبلغ وأعم، كانت أمته خير الأمم وأعدلها، وأشرف الفرق وأكملها، كما قال تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران:110].
وإليه أشار صلى الله عليه وآله:
" بعثت لاتمم مكارم الأخلاق "
وبقوله:
" علماء امتي كأنبياء بني إسرائيل ".
فخص المحمديون بوجوب حقيقة الصلاة والذكر القلبي، والمعرفة الإلهية التي هي روح الصلاة، كما وجبت عليهم صورة الصلوات الخمس المكتوبة، وأمروا بالمواظبة عليها، والمحافظة لها، وتكريرها في كل يوم بهيئة مشتملة على سر إلهي في أوقات معينة له؛ وهي ذكر له تعالى، وقربة الى جناب الحق، ومناجاة معه، كما قال (صلى الله عليه وآله):
" المصلي مناج ربه ".
وروح الصلاة، وهي معرفة الحق وتعظيمه وتنزيهه عن نقائص الإمكان، أشد وجوبا على بواطن العقلاء الكاملين من صورتها، وهي القيام والقعود والقراءة والركوع وسائر الهيئات والأوضاع على ظوهر سائر الناس، وقال سبحانه:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
[طه:124].
مكاشفة اخرى
في تحقيق القول من سبيل آخر
قد بان لك ان في الإنسان شيئا من العالم الأسفل، وشيئا من العالم الأعلى، وأعني بالعالم الأسفل: الدنيا وما فيها، وبالعالم الأعلى: الآخرة وما فيها.
وكذلك في كل عمل من الأعمال الدينية قشر ظاهر ولب باطن، فالقشر متعلق بالدنيا، واللب متعلق بالآخرة، وكما ان مقصود الشارع من طهارة الثوب - وهو القشر الخارج - ومن طهارة البدن - وهو القشر القريب - إنما هو طهارة القلب - وهو اللب الباطن - وطهارة عن نجاسات الأخلاق كالكفر والحسد والنفاق والبخل والإسراف وغيرها.
فكذلك مقصود الشارع من صورة كل عبادة، هو الأثر الحاصل منه في القلب. ولا يبعد أن يكون لأعمال الجوارح آثار في تنوير القلب وإصلاحه، كما لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضا تأثير في إشراق نورها على القلب، فإنك إذا أسبغت الوضوء، واستشعرت نظافة ظاهرك، صادفت في القلب انشراحا وصفاء لا تصادفه قبله، كيف وإدراك النظافة يوجب حصول صورتها في القلب، وهذا ضرب من الوجود، وفعل الطهارة أوجب حصولها في القلب ولو بوجه ضعيف.
وذلك لسر العلاقة الواقعة بين عالم الشهادة وعالم الغيب، فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة والملك، والقلب من عالم الغيب والملكوت بأصل فطرته، وإنما يكون هبوطه الى هذا القالب، كالغريب عن موطنه الأصلي، ونزوله الى ارض عالم الشهادة عن الجنة التي هي موطنه وموطن أبيه المقدس، لجناية صدرت أولا عن أبيه.
وكما تنحدر من معارف القلب آثار الى البدن، فكلذلك ترتفع من أحوال الجوارح أنوار الى القلب، ولذلك أمر بالصلاة مع انها حركات للجوارح، وهي من عالم الشهادة.
وبهذا الوجه، جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا فقال:
" أحببت من دنياكم ثلاثا الحديث. وعد الصلاة من جملتها ".
ومن ها هنا قد شممت شيئا يسيرا من أسرار الطهارة والصلاة وسائر العبادات، وإذا تقرر هذا عندك، وعلمت بمثل هذا التقسيم في جميع العبادات، واتضح لك وتأكد عندك حسبما قدمنا اليك أن الصلاة منقسمة الى رياضي جسماني والى حقيقي روحاني، فاعلم أن نفوس الإنسان متفاوتة بحسب آثار القوى والأرواح والدواعي المتركبة فيها، فمن غلب عليه الروح الطبيعي والحيواني، فإنه عاشق البدن يحب نظامه وتزيينه وتعظيمه وأكله وشربه ولبسه وطالب جذب منفعته ودفع مضرته، فهذا الطالب من عداد الحيوانات وزمرة البهائم.
فأيامه مستغرقة باهتمام بدنه، وأوقات عمره مصروفة الى مصالح جثته وشخصيته.
فهو غافل عن الحق جاهل بأمره، فلا يجوز له التهاون بهذا الأمر الشرعي اللازم الواجب، وإن قعد عنه فبالسياسات والزواجر يكره عليه ويجبر، حتى لا يفوت عنه حق التضرع والاشتياق الى الله تعالى، ليفيض عليه بجوده، وينجيه من عذاب وجوده، ويخلصه من آمال بدنه، ويوصله الى منتهى أمله.
فإنه لو انقطع عنه قليل خير، لتسارع اليه كثير شر، ولكان أدنى درجة من البهائم، وأضل سبيلا من الأنعام.
ومن غلبت عليه قواه الروحانية، وتسلطت على هواه قوته الناطقة، وتجرد عن محبة الدنيا وعلائق العالم الأدنى، فهذا الأمر الحقيقي والتعبد الروحاني، وذكر الله بالقلب ومناجاته وقرباته، واجب عليه أشد وجوبا وأقوى إلزاما، كما قيل: الحكمة أشد تحكما على باطن العاقل من السيف على ظاهر الأحمق. لأنه استعد بطهارة نفسه وشرافة عقله ليفيض عليه ربه، فهو أقبل بمشقته، واجتهد في تعبده لتسارع إليه جميع الخيرات العلوية والسعادات الأخروية، حتى إذا انفصل عن جسمه وفارق الدنيا، يدخل عليه الملائكة من كل، باب ويشاهد مفيضه وموجده ومكمله رب الأرباب، ويجاور حضرته ويلتذ بمنادميه حينئذ ومجاوريه، وهم سكان ملك الملكوت وقطان عالم الجبروت.
مكاشفة اخرى
في سر الصلاة وروحها
من جهة اشتمالها على ظاهر جسماني وباطن نوراني
إعلم أن الصلاة عبارة عن تشبه ما للنفس الإنسانية بالأشخاص الكريمة الإلهية في تحريكها للأجرام الفلكية، فما أشد شباهة الإنسان حين التشغل بالصلاة الكاملة بتلك الأشخاص الكريمة بأرواحها الملكية، في تعبدها الدائم، وركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها طلبا للثواب السرمدي، وتقربا الى المعبود الأحدي.
ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" الصلاة معراج المؤمن. وقال: الصلاة عماد الدين ".
وأصل الدين، تصفية الروح عن الكدورات الشيطانية والهواجس النفسانية، والصلاة الحقيقية هي التعبد للمبدإ الأعلى والمعبود الأعظم، والخير الأشراف، والتعبد في الحقيقة ، عرفان الحق جل مجده، والعلم بآياته بالسر الصافي والقلب النقي والنفس الفارغة.
فسر الصلاة التي هي عماد الدين؛ هو العلم بوحدانية الله، ووجوب وجوده وتنزه ذاته، وتقدس صفاته، وإحكام أفعاله، ونفاذ أمره في خلقه، وجريان قضائه في قدره، وقلمه في لوحه، وتعلق عنايته ورحمته بعباده، وإنزال كتبه على رسله، ورجوع العباد في معادهم اليه، يوم مثول الأرواح والنفوس بين يديه، وقيام صفوف الملائكة والروح لديه. مع الإخلاص له بالعبودية. وأعني بالإخلاص؛ أن يعبد الله بلا مشاركة أحد، وأن يعلم ذاته وصفاته وأفعاله بحيث لا يبقى للكثرة فيه مشرعا، ولا للاضافة اليه مترعا.
ومن فعل هذا فقد أخلص وصلى، وما ضل وما غوى، ومن لم يفعل هكذا فقد افترى وعصى، والله أجل من ذلك وأعلى وأغنى.
مكاشفة اخرى
في مبدأ وجوب هذا التعبد الروحاني
إن هذه الصلاة قد وجبت على سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) في ليلة مباركة، قد صعد الى العالم العلوي، وتجرد عن بدنه، وتنزه عن أهله، ولم يبق معه من آثار الحيوانية شهوة، ولا من لوازم الطبيعة قوة، ولا من الدواهي النفسانية بقية.
فناجى ربه بقلبه وروحه عند طرح قالبه وبدنه في آخر منازل الجسمية، فقال - كما روي عنه (صلى الله عليه وآله):-
" إني وجدت لذة غريبة في ليلتي هذه، فأعطني يا رب هدى، ويسر علي طريقا يوصلني كل وقت الى لذتي، فأمره الله بالصلاة فقال: يا محمد، المصلي مناج ربه ".
ولا يخفى على العاقل المتأمل، ان مناجاة الله لا تكون بالأعضاء البدنية، ولا بالألسن الجمسانية، لأن هذه المكالمة إنما تصلح لمن يحويه مكان وتقترن به حركة وزمان، أما الواحد المقدس الخارج عن عالم المحسوس والحس الذي لا يحيط به مكان ولا يحويه زمان، ولا يعتريه تجدد وتغير، ولا يشار اليه بجهة من الجهات، ولا يختلف حكمه في صفة من الصفات، فكيف يعاينه الإنسان المشكل المجسم المحدود بجسمه، المقيد المحصور بحسب قوله وفعله وشعوره وحسه؟
وكيف يناجي في هذا العالم المركب الخروب، من لا يعرف حدود جهاته ولا يرى جناب صفاته.
فإن الوجود المطلق عن عالم المثل والمحسوسات، بل المرتفع عن إمكان الأرواح والعقليات، غائب عن الحواس، غير مشار إليه بالأخماس، ولا يدرك بالإلماس، ومن عادة الجسم والجسمي، أن لا يناجي ولا يجالس الا من يراه بالبصر، ويحسه بالحس، ويدركه بإحدى الخمس. وإذا لم ينظر إليه ولم يشاهده يعده غائبا، ويكون بفقده عن المشاعر خائبا.
فمن كان خارجا عن هذا الباب، مقدسا عن طرفي هذا النفي والإثبات جميعا، وعن المداخلة والمزايلة رفيعا، فمناجاته بإحدى الظواهر والآلات أمحل المحالات، وأفحش الخرافات الموهومات.
فاذن قوله
" المصلي مناج ربه "
محمول على عرفان النفوس العرافة العلامة المجردة عن جهات الجسم والمكان، وحوادث الحركة والزمان.
فهم يشاهدون الحق مشاهدة عقلية، ويبصرون الإله ويبصرونه بصيرة نورية، ويسمعون كلامه سماعا قلبيا روحانيا.
تفريع
فعلى هذا ظهر ان الصلاة الحقيقية هي التي تليق أن يمدح الله بها المؤمنين المتقين المهتدين بأنوار معارف هذا القرآن، وهي التي تنهى عن فحشاء القوة الشهوية، ومنكر القوة الغضبية، وبغي القوة الوهمية، ويدفع آفات هذه الثلاث التي أولاها كالبهائم، ووسطاها كالسباع، وأخراها كالشياطين.
وذلك لأنها كما علمت، مكالمة عقلية مع الله عند مشاهدة قلبية له، أو هي التضرع بالنفس الناطقة نحو الله الحق والموجود المطلق، وجعلها بمنزلة يد باسطة إليه تعالى.
ولأصحاب العلوم الظاهرة من هذا حظ ناقص، وإن ارتفعوا عن منزل الأنعام قليلا، وارتفعوا عن درجة العوام يسيرا، وللمحققين قسم وافر ونصيب كامل من هذا البحر الزاخر، ولهم قرة أعين في الصلاة أخفيت عن أعين الناس، ومن كان حظه أكمل، فثوابه أجزل.
فالعاقل الحكيم، يتأمل سلوك طريق التعبد والمداومة على الصلاة، ويلتذ بمناجاة ربه لا بشخصه، وينطقه لا بنطقه، ويبصره لا ببصره، ويحسه لا بحسه.
وأما الجاهل اللئيم، المغرور الممكور، المشعوف بما عنده من القشور، الطالب في مناجاته للذات عالم الزور، المتوجه الى تحصيل المنزلة والجاه عند أصحاب القبور، ومن آثر الهوى واتبع الشيطان، وانحرف عن الحق والهدى، حرم الله عليه لذة مناجاته، كما ورد في أخبار داود على نبينا وعليه السلام: يا داود إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي، أن احرم عليه لذيذ مناجاتي.
ومثل هذا الخبر ما ذكره مالك بن دينار من قوله: قرأت في بعض الكتب ان الله عز وجل يقول: إن أهون ما أصنع بالعالم اذا أحب الدنيا أن اخرج مناجاتي من قلبه.
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
قوله جل اسمه:
ومما رزقناهم ينفقون (3)
الرزق في كلام العرب، الحظ مطلقا قال تعالى:
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون
[الواقعة:82]. أي حظكم ونصيبكم.
والعرف خصصه بما ينتفع به الحيوان، يؤكل أو يستعمل، وقيل: هو ما يملك، وهو باطل. لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولدا صالحا، وزوجة صالحة. وهما مما ليسا بمملوكين له. وكذا يقول: اللهم ارزقني عقلا أعيش به. والعقل ليس بمملوك. وأيضا البهيمة لها رزق ولا يكون لها ملك.
وقيل: هو عبارة عن تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، وهذا مذهب أبي الحسين البصري وسائر المعتزلة، ولهذا ذهبوا الى أن الحرام لا يكون رزقا، وذلك لأنهم استحالوا من الله أن يمكن من الحرام، بدليل أنه منع من الانتفاع بالحرام، وأمر بالزجر عنه، وبما ذكره صاحب الكشاف في هذه الآية من قوله: " إسناد الرزق الى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف الى الله ويسمى رزقا منه ".
وبقوله تعالى:
قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا
[يونس:59]. إذ قد بين ان من حرم رزق الله فهو مفتر عليه، فثبت ان الحرام لا يكون رزقا.
وبما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن رجلا قال له:
" إن الله كتب علي الشقوة أفلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت يا عدو الله، لقد رزقك الله طيبا، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله، أم إنك لو قلت بعد هذه النوبة، ضربتك ضربا وجيعا ".
والجواب: أما عن الأول، فبأن المنع الشرعي للكل عن الحرام، لا يناقض السياق القدري لبعض الأشخاص إليه، وتحقيق هذا المقام يحتاج الى مسلك آخر غير علم الكلام.
وأما عن الثاني: فبأن إسناد الرزق الى الله على سبيل التشريف والتحريض على الإنفاق، وإن كان الحرام رزقا أيضا، كما يقال: يا خالق العرش والكرسي، [ولا يقال] يا خالق الكلاب والخنازير، وكقوله:
يشرب بها عباد الله
[الإنسان:6]. فخص العباد بالمتقين وإن الكفار من العباد.
وأما عن الثالث: فبأن الذم للمشركين لأجل انهم حرموا ما أحل الله من الرزق.
وأما عن الرابع: فبأن الخبر حجة عليكم لا لكم، لأن قوله (صلى الله عليه وآله):
" فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه "
، صريح في أن الرزق قد يكون حراما.
واستدل بعض الأشاعرة: بأن الحرام لو لم يكن رزقا، لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقا، وليس كذلك لقوله تعالى:
وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها
[هود:6].
وأقول: هذا الاستلال ضعيف، لمنع تحقق مادة النقض، إذ ما من حيوان إلا وله رزق من الحلال ولو في بعض الأوقات، كما عند كونه في بطن أمه.
والحق أن النزاع في هذه المسألة يرجع الى محض اللغة وهو: أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدليل العقلي في الألفاظ.
وأصل الإنفاق، إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقا إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، ومنه نافق الفأرة لأنها تخرج منها، ومنه النفق في قوله تعالى:
أن تبتغي نفقا في الأرض
[الأنعام:35].
وفي الكشاف: ان " أنفقه وأنفده " أخوان، و " نفق ونفد " واحد، وكلما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدال على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت.
تنبيه
في قوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون } فوائد لطيفة: إدخال " من " التبعيضية صيانة لهم عن الإسراف، وكفا عن التبذير المنهي عنه، وتقديم المفعول للاهتمام به كأنه قال: ويخصون بعض المال للتصدق به، والمحافظة على رؤوس الآي، وإطلاق الانفاق حتى يشمل الزكاة وغيرها.
ومن فسر الإنفاق بالزكاة، فقد ذكر أفضل أنواعه وما هو الأصل فيه، وإنما وقع التخصيص بها لاقترانه بما هو شقيقها.
ولا يخفى ان الإنفاق منه واجب ومنه مندوب. والإنفاق الواجب أقسام:
أحدها: الزكاة وهي قوله تعالى في آية الكنز:
ولا ينفقونها في سبيل الله
[التوبة:34].
وثانيها: الإنفاق على النفس والأهل ومن تجب عليه نفقته.
وثالثها: الإنفاق في الجهاد.
وأما الإنفاق المندوب، فهو ما سوى ما ذكرناه لقوله تعالى:
وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت
[المنافقون:10] وأراد به الصدقة، بدليل قوله تعالى:
فأصدق وأكن من الصالحين
[المنافقون:10]، فجميع هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح، فالأولى أن يراد به الإنفاق من جميع المعارف التي منحهم الله بها من النعم الظاهرة والباطنة، والمالية والعلمية، يؤيده قوله (صلى الله عليه وآله):
" إن علما لا يقال به، ككنز لا ينفق منه "
ولهذا المعنى ذكر بعض المحققين في تفسيره: ومما خصصناهم به من أنوار المعارف يفيضون.
واعلم أن الرزق كله من قبل الله لا من قبل غيره، لأنه من ضروريات بقاء الإنسان والحيوان. فهو مقدر بتقدير الله، مضمون بضمانه، والبرهان عليه من طريق العقل: أنه تعالى يعلم ذاته، وما توجبه ذاته على الترتيب الأقدم فالأقدم. وهكذا الى أدنى المراتب، فهو قد عقل جميع الموجودات من جهة عقله لذاته، لأن عقله لذاته علة لعقل ما يقتضيه ذاته وإن كان بالقصد الثاني، وكل ما يعقله لا بد وأن يوجده، لأن علمه علم فعلي لأجل كون علمه عين ذاته، فقد ترتب وجود جميع الموجودات عن علمه بذاته، وبما توجبه ذاته من المبدعات والكائنات، لأن الله تعالى علم وجود الكل من ذاته، فكما ان تعقله لذاته لا يجوز أن يتغير، فكذلك تعقله لكل ما يترتب عن ذاته.
فكل ما يعقل وجوده عن ذاته وعن عقله لذاته، لا يجوز أن يتغير، بل يجب وجود كل ذلك على الوجه الذي عقله، ووجود أنواع الحيوانات وبقاؤها متعقل له تعالى بلا شك فيه ولا خلاف من أحد من العقلاء، وخصوصا وجود النوع الإنساني وبقاؤه، فيجب وجود هذا النوع وبقاؤه، وكذا سائر الأنواع الحيوانية المتوالدة.
ولما كان وجود النوع إنما يبقى مستحفظا، إذا لم يمكن لواحد من أعداده الديمومة الشخصية بتعاقب أشخاصه، وبلوغ كل شخص منها الى كماله الذي يمكن به أن يلد شخصا آخر مثله، وبلوغه الى ذلك الكمال لا يمكن إلا ببقائه مدة يصل فيها اليه، وبقاؤه تلك المدة لا يمكن إلا بما به قوام حياة البدن من الرطوبات الغريزية التي هي أبدا في التحلل والذوبان والنقصان، بواسطة استيلاء الحرارات الداخلية والخارجية عليها، فيحتاج في تحللها وذوبانها ونقصانها كل لحظة الى البدل، وهو الرزق الصوري، فقوام الحياة البدنية بالرزق.
ولما تقرر أنه تعالى يعقل وجود الكل من ذاته، وينال أسبابها وعللها من ذاته، ووجود ما يعقله من ذاته واجب، ويعقل بقاء النوع الإنساني ببقاء الأشخاص وتناسلهم، ويعقل تناسلهم ببقاء كل شخص مدة، ويعقل بقاء كل شخص مدة بما به قوام حياته وهو الرزق، والرزق إنما يكون من النبات والحيوان كالخبز واللحم والفواكه والحلوى، فوجب أن يكون الرزق مضمونا بتقدير الرؤوف الرحيم، ولذلك قال:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون فورب السمآء والأرض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون
[الذاريات:22 - 23].
فقد علم أن الرزق، سواء كان حلالا بحسب الشرع، أو حراما، أو غيرهما، كرزق سائر الدواب، واجب من قبل الله وجوبا عقليا كما قال:
وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها
[هود:6].
حكاية في هذا الباب
ذكر في كتاب إخوان الصفا، أن بعض الخلفاء العباسيين رأى شيخا سقاء في داره فقال له: كم تعد من الخلفاء؟ قال: كثير، فقال له شبه المتعجب: ما بالكم طوال الأعمار ونحن قصارها؟ قال له السقاء: لأن أرزاقكم تجيء مثل أفواه القرب، وأرزاقنا تجيء مثل قطر الأجفان، فاستحسن الخليفة وأمر له بجائزة أغناه بها عن صنعه.
ثم سأل عنه بعد حين، فقيل: مات فقال: صدق لما جاءه الرزق مثل أفواه القرب قصر عمره، وهكذا الحكم والقياس، وقد جعل الله لكل إنسان نصيبا من السعادة وقسطا من النعيم، وجعل له قسطا في الدنيا وقسطا في الآخرة، كما قال تعالى:
وكل شيء عنده بمقدار
[الرعد:8]. وقال:
وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر:21].
فمقدار ما يأخذ الإنسان نصيبا وحظا من النعيم والتلذذ في الدنيا، فبذلك المقدار ينقص حظه ونصيبه من نعيم الآخرة.
وهذا وإن كان إقناعيا، فهو مما يحكم به صاحب الحدس الصحيح بضرب من الشواهد والآثار، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها
[الأحقاف:20] و:
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى:20].
قال النبي (صلى الله عليه وآله)
" نفث روح القدس في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ألا فاتقوا الله واجملوا في الطلب "
وقال امير المؤمنين (عليه السلام): اعلموا علما يقينا أن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته وقويت مكيدته واشتدت طلبته، أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم.
تذكرة فيها تبصرة
[الرزق وأقسامه]
إعلم أن الرزق عند أهل الحق، هو ما يتقوى به الشخص وينمو ويزيد في تجوهره، سواء كان من الجواهر الجسمانية، أو الروحانية، فللأرواح أيضا أغذية كما للأبدان.
وغذاء كل موجود من جنسه ومما يشابهه، فكما ان غذاء الأبدان من جنسها وهو نيل المطعومات المحسوسة، فغذاء العقول الإنسانية إدراك العلوم العقلية، إذ بها حياة تلك العقول، وبها تكمل وتزيد، وبفقدها تموت وتهلك، وبحسب نقصانها تذبل وتضعف، والى الرزق المعنوي العلمي وقعت الإشارة في قوله تعالى:
ورزق ربك خير وأبقى
[طه:13].
ولهذا المعنى أول رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللبن بالعلم، قال الفتح الموصلي: أليس الرجل إذا منع عنه الطعام والشراب يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلوب إذا منع عنها الحكمة والعلم ثلاثة أيام تموت، وغذاء الملائكة التسبيح والتقديس، وغذاء الفلكيات بما يرد عليها من الواردات والأنوار العلوية المتجددة على الاتصال بواسطة حركاتها المتصلة المستمرة.
وكذا غذاء كل قوة من القوى الباطنة والظاهرة، بنيل ما يشببها وإدراك ما يناسبها، فغذاء الوهم الموهومات، وغذاء الخيال المتخيلات، وغذاء قوة الباصرة إدراك الأنوار الحسية، وغذاء الجن بالنسيم والأرواح العبقة وسماع الأصوات، وعلى هذا القياس، فما من قوة إلا ولها رزق صوري أو معنوي من جنسها، وبه تحصل لذتها وبما يضاده ألمها.
وتحقيق هذا المقام من شمول رازقيته تعالى لجميع الموجودات العلوية والسفلية والروحية والجسمية والأخروية والدنيوية، مما يتوقف على الأصول التي وقع الاثبات لها في كتبنا الحكمية: كالشواهد الربوبية وغيرها فليراجع إليها من أراد الإطلاع على هذا المطلب.
[2.4]
يحتمل أن يراد بهؤلاء الموصوفين بالإيمان بما أنزل على جميع الأنبياء وباليوم الآخر، أعيان المذكورين سابقا، كلا أو بعضا وتوسيط العاطف ها هنا كتوسيط بين الصفات في قولك: هو الشجاع والجواد وقوله:
الى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
على معنى انهم الجامعون بين الإيمان العلمي ولوازمه - من التقوى عن محارم الله، والعمل بما فرضه الله عليهم من العبادات البدنية والمالية - وبين الإيمان الكشفي بما لا يستقل العقل بإثباته، من كيفية إنزال الوحي على الأنبياء، وأحوال البعث والحشر. أو انهم الجامعون بين المعقول والمسموع من الإيمان بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح. وكرر الموصول تنبيها على تباين المسلكين وتفاوت المنقبتين.
ويحتمل أن يراد بهم طائفة أخرى، وهم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأترابه، من الذين آمنوا بالله لا عن شرك. فاشتمل ايمانهم على كل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة ايمانا زال معه ما كانوا عليه من أنه: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، ومن اختلافهم في نعيم الجنة كالتلذذ بالمطاعم والمناكح؛ أهو على حسب مجراها في الدنيا أم غيره، واختلافهم في الدوام والانقطاع.
فعلى هذا، إما أن تكون هذه الجملة معطوفة على: { الذين يؤمنون بالغيب } فيكون هؤلاء داخلين مع المذكورين أولا في جملة المتقين، دخول أخصين متقابلين تحت أعم، وجهة التباين أن المراد بأولئك هم الذين آمنوا عقيب شرك وإنكار، وبهؤلاء مقابلوهم ممن ليس كذلك، وكانت الآيتان تفصيلا للمتقين.
وإما أن تكون معطوفة على المتقين، فكأنه قال: هدى للمتقين عن الشرك، وللذين آمنوا من أهل الملل. والطائفتان هما أهل التزكية وأهل التحلية.
وربما قيل: إن قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } وإن كان شاملا لأهل الكتاب وغيرهم، إلا ان دلالة العام على بعض ما دخل تحته، ليس في القوة كدلالة لفظ مخصوص به، إذ العام مما يحتمل التخصيص بما سوى هذا البعض، والخاص لا يحتمل ذلك، ولما كانت السورة مدنية وقد شرف الله المسلمين بقوله: { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } ذكر بعد ذلك مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ونظرائه في العلم واليقين بقوله: { والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك } - الى آخره - لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم، كما في ذكر جبرائيل وميكائيل بعد الملائكة، وترغيب لأمثالهم في الدين القويم والصراط المستقيم، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام.
فصل
المراد { بمآ أنزل إليك } ، صورة ألفاظ القرآن السمعية بأسرها، نزولا سمعيا في عالم الأشخاص والأجسام الغائبة عنا، وصورة معانيها العقلية عن آخرها، نزولا قلبيا في عالم الأرواح القدسية، وإنما عبر عن إنزالها بلفظ الماضي، وإن كان بعضها مما يترقب إنزاله؛ لأن الأشياء المتجددة في موطن الدنيا، المتعاقبة في أزمنة كثيرة منها، إنما هي مجتمعة ثابتة في المواطن العالية في زمان واحد دفعة واحدة، كما أشار اليه قوله تعالى:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج:47]. وقوله:
ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر
[القدر:3 - 4].
وقيل: لأن القرآن شيء واحد في الحكم، ولأن المؤمن ببعضه مؤمن بكله. وقيل: هذا من باب التغليب للموجود على ما لم يوجد، والتنزيل للمنتظر المتوقع وقوعه منزلة الواقع كما في قوله تعالى:
إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى
[الأحقاف:30]، إذ الجن لم يسمعوا جميع القرآن، ولم يكن الكتاب منزلا حينئذ كله.
والمراد بما { أنزل من قبلك }: سائر الكتب السماوية السابقة، والايمان بها جميعا على الجملة فرض عين، لعدم تحقق الفلاح بدونه كما يستفاد من قوله:
وأولئك هم المفلحون
[البقرة:5].
وأما الإيمان التفصيلي بالمعارف الإلهية المذكورة فيها، التي لا تتبدل بتعاقب الزمان من علم التوحيد وعلم الملائكة وعلم المعاد وعلم النفس وعلم النبوة والولاية والآيات وغيرها، فليس بواجب على كل أحد فرض عين، وإلا للزم الحرج وبطل النظام وتشوش أمر المعاش المتوقف عليه أمر المعاد. بل هو واجب على الكفاية، وعلى من هو ميسر له وخلق لأجله، وكذا العلم والإيمان بأحكام الأول دون الثاني تفصيلا من جهة كوننا متعبدين بتفاصيل أحكامه فرض على الكفاية لا غير لما ذكرنا.
فصل
في كيفية إنزال الوحي على الأنبياء (عليهم السلام)
كما يجب علينا الإيمان بالكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء (عليهم السلام)، فكذلك يجب على المؤمن ايمانا حقيقيا بما أنزل إليهم من حيث كونه منزلا إليهم، أن يعلم كيفية الإنزال والإيحاء، وكيفية إرسال الأنبياء (عليهم السلام)، وفي ذمة العالم بتأويل القرآن، أن يحاول هذا العلم ويتعاطاه، فمن الدائر على ألسنة جماعة من المفسرين وغيرهم من المتكلمين، ان المراد من إنزال الوحي ان جبرائيل (عليه السلام) سمع في السماء كلام الله تعالى، فنزل به على الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهذا كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر. والرسالة لا تنزل، ولكن المستمع سمع الرسالة في علو فينزل بها ويؤديها في سفل. وقول الأمير لا يفارق ذاته، ولكن السامع يسمعه ويؤدي بلفظ نفسه.
وربما استشكل بعضهم هذا - أي سماع جبرائيل كلام الله - سيما القائل بأن كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف، فأجابوا عنه:
أما المعتزلة: فبأنه يخلق الله أصواتا وحروفا على لسان جبرائيل. وهذا معنى الكلام عندهم.
وأما الأشاعرة فتارة بأنه يحتمل أن يخلق الله له سماعا لكلامه، ثم أقدرة على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام، وتارة بأنه يجوز أن يخلق الله في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص، فقرأ جبرائيل (عليه السلام) فحفظه، وتارة بتجويز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فتلقفه جبرائيل، ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم، هذا خلاصة ما ذكروه في هذا المقام.
وطائفة استدلوا على كون الملائكة أجساما متحيزة؛ بأن وصف القرآن بالنزول الذي لا يتصف به إلا المتحيز بالذات دون الأعراض، وسيما غير القار منها كالأصوات، إنما هو بتبعية محله، سواء اخذ حروفا ملفوظة، أو معاني محفوظة، وهو الملك الذي يتلقف الكلام من جانب الملك العلام تلقفا سماعيا، أو يتلقى القرآن تلقيا قلبيا، أو يتحفظه من اللوح المحفوظ ثم ينزل به على الرسول، ولا يتمشى ذلك إلا بالقول بتجسم الملائكة، وهذا هو مسلك أرباب الجدل والتخييل، دون أصحاب البصيرة والتحصيل.
وأما على مسلك هؤلاء وممشاهم من القول بما هو صريح الحق وما عليه كافة الحكماء الإلهيين، والربانيون من الإسلاميين، وهو ان الملائكة - كما مر - تطلق على قبائل علويات وسفليات، سماويات وأرضيات، قدسيات وجسمانيات، وفي القبائل شعوب بطبقات كالقوى المنطبعة والطبائع الجوهرية، والنفوس المفارقة، وأرباب الأنواع والصور المفارقة، والعقول القادسة بطبقات أنواعها. ومنها روح القدس النازل بالوحي النافث في أرواع اولي القوة القدسية بإذن الله وغير ذلك مما لا يعلم أعدادها ولا أنواعها إلا الله كما قال:
وما يعلم جنود ربك إلا هو
[المدثر:31].
وقال (صلى الله عليه وآله):
" اطت السماء وحق لها أن تئط. ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع ".
فالأمر غير مشتبه على الناهج منهجهم، والماشي ممشاهم، وقد مر منا القول بأن كلام الله ليس مقصورا على ما هو من قبيل الأصوات أو الحروف، ولا على ما هو من قبيل الأعراض مطلقا ألفاظا كانت أو معاني، بل كلامه ومتكلميته، يرجع الى ضرب من قدرته وقادريته، وله في كل عالم من العوالم العلوية والسفلية صورة مخصوصة.
وطائفة أخرى اقتصروا على القول بالتلاقي الروحاني والظهور العقلاني بين النبي (صلى الله عليه وآله) والملك الحامل للوحي، فسموا ظهوره العقلاني لنفوس الأنبياء (عليهم السلام) نزولا، تشبيها للهبوط العقلي بالنزول الحسي، وللاعتلاق الروحاني بالاتصال المكاني، فيكون قولنا: نزل الملك، استعارة تبعية، وقولنا: نزل الفرقان، مجازا بتبعية تلك الاستعارة التبعية. وهذا مما فيه إسراف في فحوله التنزيه، كما في القول الأول في انوثة التشبيه، وإن في كلا القولين زيغا عن طريق الصواب، وحيدا عما فيه هدى لأولي البصائر والألباب، وشقا لعصا الأمة لفرقها المتفرقة وأحاديثها النبوية المتواترة، وخرقا للقوانين العقلية المنضبطة، فالأمة مطبقة على أن النبي (صلى الله عليه وآله)، كان يرى جبرائيل وملائكة الله المقربين (عليهم السلام)، ببصره الجسماني، ويسمع كلام الله الكريم على لسانهم القدسي، بسمعه الجسداني الشخصي.
والبرهان العقلي قائم بالقسط، على أن مناط الرؤية والسماع الحسيين في الإنسان، وجود الصورة البصرية، كالألوان والأشكال وغيرهما، والصورة المسموعة كالأصوات والحروف والكلمات عند النفس بقوتها الباطنة المدركة للجزئيات الصورية، ومثولها بين يدي الحس الباطن لها، الذي هو مجمع الحواس الظاهرة، وإنما المبصر بالحقيقة والمسموع بالحقيقة من الشيء الماثل بين يدي الحس الظاهر؛ هو صورته الحاضرة في ساحة النفس النطاقة وصقع ملكوتها.
وأما وجود ذي الصورة بهويته الخارجية ومادته الوضعية، فهو مدرك بالعرض وبالقصد الثاني، وليس المثول الخارجي للمبصر المادي بنسبته الوضعية المادية بالقايس الى الآلة الجسمانية الداثرة وجليدتيها اللتين هما مسلكا التأدية، وليستا لوحي الانطباع، من الشرائط الضروية للإبصار، الذي هو قيام الصورة المبصرة في حضرة النفس، بل ذلك طريق واحد من طرق الحصول للصورة والمثول الإنكشافي النوري لها عند النفس، ما دام كونها في هذه النشأة الداثرة وعظيمة التعلق بها وتمكن حصولها بطريق آخر للنفس، كما في النوم، حيث لا يكون وجود الصورة في مادتها المخصوصة شرطا لانكشافها وحضورها للنفس، وعلى هذا القياس شاكلة السمع أيضا.
ومبدأ حضور الصورة مطلقا، هو واهب الصور، والإفاضة من تلقائه. وللنفس في ذاتها سمعا وبصرا وشما وذوقا ولمسا وإن انسلخت عنها هذه الآلات العنصرية الداثرة البائدة، وإنما الحاجة لها الى هذه الداثرات، ما دام كونها الناقص الدنيوي، وعدم خروج قواها وحواسها الباطنية من القوة الى الفعل.
فعند خروجها من ظلمات هذه الحواس، وغبار هذا العالم الداثر ، وبروزها لله من زيارة هذه المقابر، تشاهد المحسوسات بقوتها المتخيلة.
ونحن قد أقمنا البرهان العرشي على جوهرية القوة الخيالية وتجردها عن المادة البدنية في الشواهد الربوبية عند البحث عن تحقيق المعاد الجسماني، فمن كانت نفسه واغلة الهمة في الجنبة السافلة، طفيفة الانجذاب الى الجنبة العالية، قليلة التوجه الى يمين الحق وعالم القدس، لم يكن لجوهر قلبه سبيل الى مطالعة الصور الغيبية إلا من مسلك الحاسة الظاهرة، والاتصال بالآلة البدنية، وحضور المادة الخارجية.
فأما إذا كانت نفسه قوية العزيمة، مجموعة الهمة، قدسية الفطرة، نقية الجوهر بحسب جبلتها المفطورة، أو بحسب ملكتها المكسوبة، وبالجملة، شديدة الاستحقار لعالم الحس، قاهرة القوة على تسخير القوى وضبطها، ذات سلطنة على خلع البدن ورفض الحواس الظاهرة، والانصراف عنها الى صقع الملكوت بإذن ربها؛ فهو مستغن بقوة نفسه المتخيلة اللامنغمسة في قوى البدن عن استعمال الحواس الظاهرة.
فله أن يتلقى الصورة الجزئية من معادنها الأصلية من غير استعانة بهذه الآلات، ويقتدر على تصوير المعاني بصورها المقدارية في عالم الصور الخالصة عن هذه المواد متى شاء وحيث شاء.
فمهما وجدت نفسه فرصة عن هذه الشواغل العارضة في اليقظة، تخلص بقوتها المتخيلة عن جانب الطبيعة، راجعة الى عالمها، متصلة بأبيها المقدس وهو روح القدس، وبمن شاء الله تعالى من الأرواح المقدسة، ويستفيد من هناك العلم والحكمة بالانتقاش على سبيل الرشح، أو العكس، كمرآة مجلوة حوذي بها شطر الشمس.
ولكن حيث إن النفس تكون بعد في دار غربتها بالطبع، ولم تنسلخ ولم ترتفع أذيالها بالكلية عن علاقتها التدبيرية لقواها البدنية وجنودها الحسية، أو انها لم تتجرد عن عالم التمثل بالكلية وإن تجردت عن عالم المادة بالكلية، فيكون منالها فيما تناله بحسب ذلك الشأن وتلك الدرجة، تحول الملك الحامل للوحي على صورة متمثلة في شبح شخص بشري ناطق بكلمات إلهية منظومة مسموعة، كما قال تعالى:
فتمثل لها بشرا سويا
[مريم:17] يعني بذلك ارتسام الصورة عنده لا في لوح بنطاسياه - كما زعمه الظاهريون من الحكماء ممن لا تحقيق له في علم النبوات -، ولا من سبيل الظاهر والأخذ عن مادة خارجية، بل بالانحدار إليه من العالم الأعلى، والنزول اليه من جانب اليمين وصقع الإفاضة.
فإن الشأن في السماع والإبصار المشهورين انه ترتفع صورة المسموع والمبصر من المواد الخارجية الى لوح الانطباع، ثم منه الى عالم الخيال والمتخيلة. ثم يصعد الأمر الى النفس الناطقة، كما هو المعروف عند الجمهور، والمثبت منهم في الكتب.
وعندنا: النفس ترتفع من المحسوس الى المتخيل، ومنه الى المعقول، والصور ثابتة في أحيازها وعوالمها.
وفي إبصار الملك وسماع الوحي - وهما الإبصار والسماع الصريحان - ينعكس الشأن، فينزل الفيض من عالم الأمر الى النفس، فهي تطالع شيئا من الملكوت مجردة غير مستصحبة لقوة حسية أو خيالية أو وهمية. ثم يفيض من النفس الى القوة الخيالية فتمثل لها الصورة بما انضم اليها من الكلام في الخيال من معدن الإفاضة وصقع الرحمة، ثم تنحدر الصورة المتمثلة والعبارة المنظومة من الخيال والمتخيلة الى الحس الشاهد، بل النفس تنزل من العالم الأعلى الى الأوسط، ثم الى الأدنى، فتشاهد في كل عالم ما يتعارف لها ويناسبها على عكس الحالة الأولى، لأن تلك الحركة عروجية وهذه نزولية، فتسمع الكلام وتبصر الصورة في كل عالم من العوالم الثلاثة.
وهذا أفضل ضروب الوحي والإيحاء، وله أنحاء مختلفة ومراتب متفاضلة بحسب درجات النفس.
وقد يكون في بعض الدرجات لا يتخصص المسموع والمبصر بجهة من جهات العالم بخصوصها، بل الأمر يعم الجهات بأسرها في حالة واحدة، وقد يكون بخلاف ذلك.
وفي الحديث:
" إن الحارث بن هاشم سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يمثل لي الملك رجلا فيكلمني، فأعي بالقول ".
وربما تكون صقالة النفس النبوية أتم، وتجردها في بعض الأحايين أقوى، وسلطانها على قهر الصوارف الجسدانية والشواغل الهيولانية أعظم، فيكون عند الانصراف عن عالم الحس والاتصال بروح القدس، استيناسها بجوهر ذاته المجردة، أشد منه بالشبح المتمثل، فتشاهد ببصر ذاتها العاقلة الصائرة عقلا بالفعل، معلمها القدسي ومخرجها من حد القوة النفسانية الهيولانية الى حد الكمال العلمي والعقل الصوري، وتستفيد منه وهو في صورة القدسية، العلوم والأحوال، كما قال تعالى:
علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى
[النجم:5 - 8].
وربما وصل النبي (صلى الله عليه وآله) الى مقام أعلى من أن تتوسط بينه وبين المبدأ الأول والمفيض على الكل واسطة، فسمع كلام الله بلا واسطة، كما قال تعالى:
ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم:8 - 10].
وقد ذكر ان النبي (صلى الله عليه وآله) إنما رأى جبرائيل (عليه السلام) بصورته الحقيقية مرتين وكان بحيث طبق الخافقين. والى مثل هذه الرؤية له (عليه السلام) أشار تعالى بقوله:
ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى
[النجم:13 - 14].
ثم دون هذا الضرب بسائر درجاته، مما يتفق لمن له من القوة القدسية نصيب أن يرى ملائكة الله، ويسمع كلام الله، ولكن في النوم لا في اليقظة، وسبيل القول أيضا ان الأمر ها هنا ينتهي الى القوة المتخيلة، ويقف عندها بمحاكاتها وتفصيلها وترتيبها لما قد طالعته النفس من عالم الملكوت، من دون أن تتمثل الصورة بألفاظها المعبرة بين يدي الحس، وذلك لضعف القوة الخيالية، أو لقوة العائق وكثافة المادة، فإن القوة الخيالية عندنا تفعل فعل الحواس الظاهرة كلها عندما تكون قوية والعائق البدني ضعيفا، فلها أن تعزل الحواس عن أفاعيلها.
وبهذا يتحقق الفرق بين مطالعة الأنبياء (عليهم السلام) للصور الباطنة، وبين مطالعة غيرهم إياها كالأولياء والحكماء.
فالرؤيا الصالحة لنفوس العرفاء والصالحين، إنما هي واقعة في هذا الطريق غير واصلة الى درجة النبوة وبلوغ الغاية، ولهذا ورد في الحديث انها جزء من ستة وأربعين جزءا، أو من خمسة وأربعين، أو من سبعين جزءا - على اختلاف الروايات -.
وقصارى مرتبة الرؤيا وأقصاها كمالا ما وقع للمحدثين - بفتح الدال المشددة وهم الذين يرفضون عالم الشهادة، ويصعدون الى عالم الغيب، فربما يسمعون الصوت في اليقظة من سبيل الباطن، ولكنهم لا يعاينون شخصا متشبحا كما مر ذكره في المفاتيح الغيبية.
وفي كتاب الحجة من كتب الكليني رحمه الله باب في الفرق بين الرسول والنبي والمحدث، والأئمة (عليهم السلام) كلهم محدثون مفهمون.
فصل مشرقي
متعلق بقوله: { وبالآخرة هم يوقنون }
إعلم ان اليقين هو العلم بالشيء بعد أن يكون صاحبه شاكا فيه، ولذلك لا يقول القائل: تيقنت ان السماء فوق الأرض، وان الكل أعظم من الجزء، فيقال ذلك في العلم الحادث والمكتسب، وستعلم أن العلم بالآخرة وما فيها، لا يحصل الا من جهة العلم بما في الدنيا.
ثم إنه تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أن مجرد الإيقان بها لأحد لا يوجب استحقاق التمدح، بل لا يستحق المدح إلا من تيقن بوجود الآخرة مع ما فيها من الحشر والنشر والحساب والميزان والجنة والنار، وما فيهما من نعيم السعداء وجحيم الأشقياء.
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو قد يرى خلقه. وعجبا ممن يعرف النشأة الأولى وينكر النشأة الآخرة. وعجبا ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم وليلة يموت ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجبا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ويسعى لدار الغرور، وعجبا للمتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة ".
وإنما قال صلى الله عليه وآله: عجبا ممن يعرف النشأة الأولى وينكر النشأة الآخرة، لأنهما متضايفتان، والمتضايفتان معان في التعقل. فمن أنكر الآخرة فكأنه لم يعرف الدنيا بحسب التعقل بل بالحس فقط.
وتحقيق هذا المقام: أن الآخرة صفة للنشأة أو الدار، وإنما وصفت بها لأنها متأخرة عن النشأة الأولى والدار الدنيا.
وإنما سميت الدنيا بالدنيا، لأنها أدنى من الآخرة بالقياس إلينا لا بحسب الترتيب الوجودي، فإن هذه الدار آخر العوالم والنشآت طبعا وشرفا، لأن موجوداتها آخر الموجودات وأبعدها في سلسلة الاستناد الى المبدإ الأول وبارىء الكل، والإنسان في مبدإ كونه وحدوثه هو من جملة الموجودات الواقعة في هذه الدار، لأنه في أول الوجود من حزب الحيوانات، ونشأة الحيوان - بما هو حيوان - نشأة الحس والمحسوس، ولهذا حد بأنه جوهر ذو بعد حساس. والحساس تمام حقيقته، وكمال أول لجنسه به يتم نوعه ويكمل جنسه.
فما من حيوان إلا وله قوة الحس، أي حس كان، وإن كان مجرد قوة اللمس، وهذا أنزل مراتب الحيوانات كالدود والخراطين، وآخر مراتب الحيوانية يتحقق فيما له الحواس الظاهرة والباطنة جميعا، فإن كان مع ذلك يستعد لإدراك المعقولات بالقوة فهو الواقع في آخر الدرجات الحيوانية وأول النشآت الإنسانية ومنازله، فأول منزل من منازل الإنسان الذي يشارك معه سائر الحيوان، هو نشأة الحس، ويقال لها: الدنيا، وعالم الشهادة، وتقابله الآخرة وعالم الغيب، وهذا العالم هو منزل الأبدان والقوالب الحسية، والآخرة منزل النفوس، وبعدها منزل الأرواح القدسية.
وللإنسان أن ينتقل من منزل الى منزل، فالمحسوسات منزله الأول، والمتخيلات منزله الثاني، والمعقولات منزله الثالث، وهذا الانتقال هو بعينه من قبيل الانتقالات الفكرية الواقعة له من المحسوس الى المتخيل، ومنه الى المعقول.
فالدنيا نشأة الحس وعالم الشهادة، والإنسان ما دام كونه في هذه النشأة بحسب الطبع، غير مرتق الى ما وراءها، فهو بعد من جملة البهائم والدواب والأنعام، وإذا انتقل الى نيل المتخيلات والوهميات مقتصرا عليهما، فهو من قبيل الجن، إذ الجن والشياطين إدراكاتها مقصورة على المتخيلات والموهومات، وليس يفتح لهم باب الملكوت الأعلى.
وبعد هذا المنزل يترقى الإنسان الى إدراك الأمور التي لا تدخل في حس ولا تخيل ولا وهم، فيشاهد الأمور المستقبلة الدائمة، ويكشاف الصور العقلية، ويتهيأ لادراك الحقائق الاخروية والسرور الأبدي، ويصل الى السعادة القصوى التي ليس وراءها سعادة، وهذا هو آخر درجات الإنسان، وبه يتم حقيقة الإنسانية، لأن تمام حقيقته هي الروح المنسوبة الى الله تعالى في قوله:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29].
وإذا علمت هذه المقدمات، فاعلم أن الإيقان بالآخرة الذي مدح الله به طائفة من العرفاء والمحققين من أهل الإيمان، المهتدين بنور الله؛ هو مكاشفة أحوال الآخرة ومشاهدة الأرواح المجردة عن غشاوة هذه القوالب بواسطة انفتاح باب الملكوت على روزنة القلوب، وأعني بهذه الأرواح؛ الحقائق المحضة والصور المجردة عن كسوة التلبيس وغشاوة الأشكال.
وهذا العالم لا نهاية له، بخلاف عوالم المحسوسات والمتخيلات، فإنها متناهية، وأكثر الناس إدراكهم مقصور على عالم الحس والتخيل من الطبيعيات والمقداريات، ولم يؤمنوا بما وراء المحسوس والمتخيل، ولم يعلموا علم ما قبل الطبيعة، ولم يذعنوا بها كما قال تعالى:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103].
وهذان المنزلان هما النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت، سيما عالم المحسوس، فإنه القشر الأقصى من اللباب الأصفى، ومن لم يجاوز هذه الدرجة، فكأنه لم يشاهد من مراتب الجوز إلا قشرته، ومن عجائب الإنسان إلا بشرته. ومقام كل أحد ومحله ومنزله ومعاده في العلو والسفل، بقدر إدراكه، وهو معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " الناس أبناء ما يحسنون " أي يعلمون وبه يعملون.
فالإنسان بين أن يكون بهيمة أو جنيا أو ملكا؛ وللملائكة درجات، فالسير في عالم الملكوت - وفيه منبع الحياة الأبدية - مثاله المشي على الماء، ثم يترقى منه الى المشي في الهواء، ولذلك لما قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إن عيس (عليه السلام) كان يمشي على الماء، قال: لو ازداد يقينا لمشى في الهواء.
وأما التردد على المحسوسات، فهو كالمشي على الأرض؛ وبينها وبين الماء - أي عالم الملكوت - عالم يجري مجرى السفينة، والمعبر من عالم الملك الى عالم الملكوت الأعلى، وفيها تتولد درجات الجن والشياطين.
فمتى تجاوز الإنسان عالم البهائم، ينتهي الى عالم الجن والشياطين، ومنه يسافر الى عالم الملائكة، وقد ينزل فيه ويسعى، وشرح ذلك يطول.
وهذه العوالم كلها منازل للهدى، ولكن الهدى المنسوب الى الله يوجد في العالم الأخير، وهو عالم الأرواح، وهو قوله:
قل إن الهدى هدى الله
[آل عمران:73].
[2.5]
ولهذا قد وصف تعالى اولئك الموقنين بالآخرة على طريقة المدح بقوله عز وجل: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } معنى هذا الاستعلاء، بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه تشبيها بحال من اعتلى الشيء وركبه، واستعارة لعلى الموضوعة للثاني للأول، ونظيره: فلان على الحق وفلان على الباطل.
وربما وقع التصريح به كما في قولهم: ركب على متن الجهل وجعل الغواية مركبا والجهل مطية. وامتطى الباطل.
وتحقيق القول في كونهم على الهدى تكرر الإدراكات للأمور العقلية، وتكثر الاشتغال بملاحظة الأشياء الملكوتية، والمواظبة على الأفكار الصحيحة، ودفع الشكوك والشبهات عن المقاصد الحقة، وطرد شياطين الأوهام والخيالات بنور المعرفة واليقين، حتى تحصل للنفس ملكة الاتصال بعالم الملكوت متى شاءت من غير تجشم وكثير تعمل.
فكأنه تعالى، لما مدحهم بالإيمان بما أنزل على الأنبياء (عليهم السلام)، والاطلاع على ما في الصحف النازلة من السماء، مدحهم بالإقامة على ذلك وإدامة النظر فيها، والمواظبة على حراستها عن شبه الضالين، وأوهام المعطلين وذلك واجب على كل عاقل إذا كان متشددا في الدين، خائفا وجلا محاسبا نفسه في علمه وعمله بمقتضى البراهين، وإذا حرس نفسه عن الزيغ والضلال، وداوم على العمل للآخرة من غير إخلال، كان ممدوحا بكونه على هدى وعلى بصيرة.
وتنكير " هدى " ، للدلالة على ضرب مبهم لا يبلغ كنهه ولا يعلم غوره ولا يعرف قدره قال بعض الأكابر: الهدى من الله كثير لا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير ألا ترى ان نجوم السماء يبصرها كل بصير ولا يهتدي بها إلا عالم خبير.
واعلم أن الوجه في انتظام هذه الآية وتعلقها بما قبلها، ان الجملة في محل الرفع بالخبرية، إذا جعل أحد الموصولين مفصولا عن " المتقين " ، فوقع الابتداء إما ب { الذين يؤمنون بالغيب } ، أو بالذين الثاني مع صلته، وذلك لأنه لما قيل: { هدى للمتقين } ، فكأنه سئل: ما بالهم خصوا بذلك؟ فوقع الجواب بقوله: { الذين يؤمنون } ، الى قوله { وأولئك هم المفلحون } ، معناه أن الموصوفين بهذه الصفات أحقاء بأن يكونوا مختصين بالهدى والفوز على الفلاح.
ويحتمل الاستيناف، فلا يكون لها محل من الإعراب. فكأنه نتيجة للأوصاف والأحكام المتقدمة، أو جواب عن سؤال كأنه قيل: ما بال الموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ فاجيب بأن مثلهم حقيق دون غيرهم بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا.
وايراد اسم الإشارة في هذا المقام ابلغ من أن يستأنف بإعادة الإسم وحده، لأن ذلك بمنزلة إعادة الموصوف بجميع صفاته المذكورة، فكان فيه ذكر المقتضي للحكم بخلاف هذا. وفي تكريره تنبيه على أن اتصافهم بالصفات المذكورة، يقتضي كل واحد من الأمرين: الهدى والفلاح، على سبيل الاستقلال، وأن كلا منهما كاف في تميزهم عن غيرهم.
وتوسيط العاطفة ها هنا وعدم توسيطها في قوله تعالى:
أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون
[الأعراف:179] لاختلاف الحكمين ها هنا واتحادهما هناك، فإن التسجيل عليهم بالبهيمية وبالغفلة شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة للاولى، فهي من العطف بمعزل.
و " هم " إما فصل، وله فائدتان: تمييز الخبر عن الصفة وتخصيص المسند بالمسند إليه، أو مبتدأ و " المفلحون " خبره، والجملة خبر " اولئك ".
ومعنى التعريف في " المفلحون " الدلالة على أن المتقين الموصوفين بتلك الصفات، هم الذين بلغك انهم من اهل الفلاح، والمفلح هو الظافر بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، وكذا المفلح - بالجيم - وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين دال على معنى الفتح والشق، نحو فلق وفلد وفلى، ولهذا يسمى الزارع فلاحا، ومشقوق الشفة السفلى أفلح. وفي المثل: الحديد بالحديد يفلح.
مبحث كلامي
[الجواب عن احتجاج الوعيدية والمرجئة]
احتجت كل واحدة من الفرقتين الوعيدية والمرجئة بهذه الآية على حقية مذهبها: أما الوعيدية فبأن الحصر المستفاد من { أولئك هم المفلحون } ، وتعليق الحكم على الوصف السابق المشعر بكونه علة، كل منهما يدل على أن الإخلال بشيء من الإيمان والصلاة والزكاة يوجب عدم الفلاح، وهو بعينه وعيد مرتكب الكبيرة كتارك الصلاة والزكاة وإن تحقق فيه أصل الإيمان.
وأما المرجئة، فبأنه بمقتضى الآية، وجب أن يكون الموصوف بهذه الصفات، مفلحا وإن زنى وسرق، وإذا تحقق الفلاح في هذه البعض، تحقق في غيرهم ضرورة إذ لا قائل بالفرق.
والجواب عنهما: أولا: بالمعارضة على كل منهما بالآخر فيتساقطان.
ثم عن حجة الوعيدية: بأن المراد من قوله تعالى: { أولئك هم المفلحون } أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون غيرهم - كصاحب الكبيرة - غير كامل في الفلاح، ونحن قائلون بموجبه، إذ الفلاح التام ما لا يكون معه خوف العقاب الدائم، وتجويز عدم الخلاص، وبأن نفي السبب الواحد لا يوجب نفي المعلول إذا كان له سبب آخر، وعندنا عن أسباب الفلاح عفو الله.
وعن حجة المرجئة: بأن وصفهم بالتقوى والإيمان الكامل، يكفي سببا للفلاح وحصول الثواب، لتضمنه انتفاء المعاصي وانتفاء ترك الواجبات.
تحقيق عرشي
[هل توجب الكبيرة الخلود في النار]؟
اعلم أن سبب خلود أهل النار في النار وحرمانهم من النجاة، هو الملكة الراسخة للنفس بواسطة الأفاعيل الموجبة لحصول ما هو فيها، بمنزلة الطبع والرين في المرآة المقتضي لعدم قبولها للتصقيل والتصفية، سواء كان منشأها الكفر والجحود، أو المعاصي والسيئات.
فإن النفس الإنسانية في الفطرة الأولى، قابلة لقبول آثار الملائكة، وآثار الشيطانية، وآثار البهائم والسباع قبولا متساويا، وإنما يقع المنع لها عن قبول بعض تلك الآثار بواسطة حصول بعض آخر لها، ومتى اشتد حصول البعض فيها بحيث صار ملكة راسخة فيها، منع بالكلية عن قبول آثار الغير، فمتى رسخت للقلب صفات البهيمية أو السبعية أو الشيطانية، بحيث أنها صارت ملكة كالطبع والرين لمرآة القلب، فكدرتها وظلمتها، صارت مانعة له عن قبول صورة الرحمة الرحموتية والهيئة الملكوتية منعا كليا أبديا، لكون المانع هناك صفة ذاتية جوهرية، كما حقق في مجال أوسع من هذا المجال.
وقد مرت الإشارة الى أن الإنسان في أول أمره، بين أن يكون بهيمة أو سبعا أو شيطانا أو ملكا، وفي الآخرة لا يكون إلا أحد هذه الأمور لأجل غلبة بعض الصفات المختصة به على قلبه من جهة تكرر أفاعيل تناسبها، والى نحو هذا المعنى أشير في قوله:
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون
[التوبة:87] وقوله:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14].
فإذا تقرر هذا، قرب كبيرة من المعاصي يوجب تكرر فعلها عن النفس خلودها في النار لضعف الإيمان وقوة العائق عن الخلاص، ورب كبيرة لا تكون كذلك لقوة الإيمان وضعف العائق فيحتمل العفو عنها، والله أعلم بأحوال قلوب العباد. فعلى هذا لا تناقض بين الآيات الدالة على ثبوت الوعيد من الله على صاحب الكبيرة، والآيات الدالة على ثبوت العفو عمن يشاء، وسنزيد لهذا وضوحا في موضع آخر إنشاء الله تعالى.
[2.6]
" إن " من الحروف، والحروف بما هي حروف، لا أصل لها في العلم، إلا ان " إن " وأخواتها لما شابهت الفعل - في عدد بسائطها، وبنائها على الفتح، ولزوم الأسماء، وإعطاء معانيه وخصوصا المتعدي في دخولها على اسمين - عملت عمله الفرعي، وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني ايذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه. ومعناها؛ تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يتلقى بها القسم، وتصدر بها الأجوبة، وتذكر في معرض الشك.
روى الأنباري: ان الكندي المتفلسف ركب الى المبرد وقال: إني أجد في كلام العرب حشوا؛ أجد العربي يقول: عبد الله قائم، ثم يقول: إن عبد الله قائم، ثم يقول؛ إن عبد الله لقائم، فقال المبرد: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ.
ففي الأول: إخبار عن قيامه، وفي الثاني: جواب عن سؤال سائل، وفي الثالث: جواب عن إنكار منكر لقيامه.
وتعريف الموصول إما للعهد، إذا كان إشارة الى جماعة معينة كأبي جهل وأبي لهب والوليد بن مغيرة وأحبار اليهود، أو للجنس، إذا أريد به المتناول للمصممين على الكفر وغيرهم، فخص عنهم غير المصرين بما اسند إليه.
والكفر في اللغة: إخفاء حق النعمة. وهو منقول لغوي عن الكفر بالفتح، وهو الستر، ولهذا يقال للزارع: الكافر، وكذا الليل. ولكمام الثمرة: كافور.
وفي عرف الشريعة: إنكار ما علم بالضرورة من دين نبينا (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن كل ما نقل عنه (صلى الله عليه وآله) انه ذهب اليه وقال به، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة، أو بالاستدلال، أو بخبر الواحد.
أما القسم الأول - هو الذي علم بالضرورة مجيء الرسول (صلى الله عليه وآله) به - فمن صدقه في جميع ذلك فهو مؤمن، ومن لم يصدقه في كل ذلك، فإما بأن لا يصدقه في جميعها، أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض، فذلك هو الكافر، إذا الكفر عدم تصديق الرسول (صلى الله عليه وآله) في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به.
ومثاله من أنكر وجود الصانع، أو كونه عالما قادرا مختارا، أو كونه واحدا منزها عن النقائص والآفات، أو أنكر صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، أو صحة القرآن، أو الشرائع التي علم كونها من دين نبينا (صلى الله عليه وآله) كوجوب الصلاة والزكاة، وحرمة الزنا والخمر، فهو كافر لإنكاره ضروريا من هذا الدين.
فأما الذي يعرف بالدليل انه من الدين، مثل عينية الصفات له تعالى، أو زيادتها، وكونه تعالى جائز الرؤية أم لا، وكون كلام الله قديما أو محدثا، وكونه خالق أفعال العباد أم لا مما لم ينقل بالتواتر القاطع أحد طرفيه، فليس إنكاره ولا الإقرار به داخلا في ماهية الإيمان، ولا موجبا للكفر.
والدليل عليه؛ انه لو كان جزءا لماهية الإيمان، لوجب أن لا يحكم النبي (صلى الله عليه وآله) بايمان أحد إلا بعد أن يعرف انه هل يعرف الحق في تلك المسألة؛ ولو كان كذلك، لاشتهر قول النبي (صلى الله عليه وآله) في تلك المسألة بين جميع الأمة، ولكان منقولا بالتواتر، وليس الأمر كذلك، ونفي التالي يوجب نفي المقدم، فوجب أن لا تكون معرفتها من أجزاء الإيمان ولا إنكارها موجبا للكفر. وأما المنقول بخبر الواحد، فالأمر فيه أظهر.
فهذا تحقيق ماهية الكفر على قاعدة الإستدلالات الكلامية، وظهر منه انه يرجع الى الإنكار الباطني، أو عدم التصديق القلبي، فيكون من أعمال القلب كالإيمان، لكونهما متقابلان إما تقابل التضاد، أو تقابل العدم والملكة كالعلم والجهل، فعلى هذا لبس الغبار وشد الزنار ونحوهما إنما يسمى كفرا، لأنها تدل على تكذيب الرسول (صلى الله عليه وآله)، فإن من آمن بالله وصدق الرسول، لا يجترئ عليها ظاهرا لا أنها كفر في نفسها كما ان التزيي بشعار المسلمين دال على الإيمان، لا أنه إيمان.
وأما تحقيق حقيقة الكفر عند العرفاء الذين يعرفون الأمور بالبصيرة الباطنية لا بالاستدال الكلامي، فهو انه عبارة عن الاحتجاب عن نور الإيمان، لما علمت ان الإيمان الحقيقي نور فائض من الله على القلب، به تنكشف أحوال المبدأ وأسرار المعاد، ولهذا الإيمان قشر وهو إيمان المتكلم، ولقشرة قشر وهو إيمان العوام.
فالكفر الذي يقابله، هو الستر والاحتجاب عن ذلك النور بالكلية، وهو على ضربين: لأن هذا الاحتجاب: إما بأمر وجودي كالظلمة التي تضاد ذلك النور، وهو الجحود للحق والانكار له عدوانا وعنادا، للجهل المركب الراسخ في النفس، أو بأمر عدمي، هو عبارة عن عدم الإيمان، للجهل البسيط المقابل للعلم تقابل العدم للملكة.
وقد وقع الفرق بين القسمين في كلام الله كثيرا، كما في هذه الآية، والآية التي تتلوها، ولهذا قيل: إن المراد ها هنا بقوله: { الذين كفروا } مشركو مكة، وصناديد قريش من الذين غلظت طبائعهم، وغلبت الكثافة والجسمية على نفوسهم، والختم على قلوبهم، فقلوبهم في أكنة ونفوسهم لم تخرج بعد من القوة الى الفعل، لعدم المسع الباطني والبصر الباطني لهم.
ونظيره ما قال تعالى:
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون
[يس:9] الآية.
وقوله:
فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر
[فصلت:4 - 5].
والمراد بقوله:
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر
[البقرة:8] رؤساء اليهود وأحبارهم، الذين عاندوا الحق وأنكروا الآيات وجحدوها، وكانوا يخادعون الله ورسوله، وهؤلاء أسوأ حالا وأردأ مآلا من المشركين، وسنزيدك ايضاحا إنشاء الله.
فصل
[الأقوال في حدوث كلامه تعالى]
احتجت المعتزلة على حدوث كلامه تعالى - سواء كان ألفاظا بهذه الحروف والأصوات أو شيئا آخر - بالإخبارات الواقعة في القرآن بصيغة الماضي، الدالة على تقدم الواقعة المخبر عنها بهذه الصيغة عليه، اذ القديم لا يكون مسبوقا بغيره.
وأجابت الأشاعرة عنه بما هو المشهور عنهم بأن التجدد والمضي والانقضاء وغيرها، كلها صفة تعلق الكلام، وحدوث التعلق لا يوجب حدوث الشيء المتعلق، نظيره في صفة العلم، أن الله تعالى كان في الأزل عالما بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علما بأنه قد وجد في الماضي. ولم يلزم حدوث علم الله، فكذا ها هنا بأن يقال أخبر الله تعالى في الأزل بأنهم سيكفرون فلما وجد كفرهم صار ذلك خبرا عن أنهم قد كفروا ولم يلزم حدوث.
وكلمات الفريقين في هذه المسألة كثيرة مما لا طائل تحتها، ولا يزيد الخوض فيها إلا بعدا عن الحق وقساوة في القلب، والصواب الرجوع عنها الى طريقة أهل الله، والاقتباس عن مشكاة النبوة بحق المتابعة للرسول وآله عليهم السلام.
فصل
قوله: سواء عليهم، هو اسم بمعنى الاستواء. وصف به كما وصف بالمصادر، ومنه قوله تعالى:
تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم
[آل عمران:64] وقوله:
في أربعة أيام سوآء للسآئلين
[فصلت:10]. بمعنى مستوية وهو مرفوع إما بأنه خبر لإن وانذرتهم ام لم تنذرهم في موضع المرتفع به على الفاعلية، كأنه قيل: إن الكافرين مستو عليهم إنذارك وعدمه.
أو بأنه خبر لأنذرتهم ام لم تنذرهم، وانذرتهم ام لم تنذرهم في موضع المبتدإ المقدم عليه خبره، والجملة خبر لإن، بمعنى إنذارك وعدمه سيان عليهم.
والثاني أولى، لأن " سواء " اسم، فتنزيله منزلة الفعل ترك للظاهر بلا ضرورة، فأما صيروة الفعل مبتدأ مخبرا عنه ها هنا - مع انهم اتفقوا على أن الفعل لا يكون مخبرا ولا مخبرا عنه - فمن قال: (ضرب خرج) لم يكن آتيا بكلام منتظم، فالوجه في صحته: ان الفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا كان على صرافة حاله وتمام مفهومه الموضوع له من حيث اشتماله على المعنى النسبي الممتنع الحكم عليه وبه. وأما لو أطلق واريد به اللفظ كما في قولك: " ضرب على وزن فعل " أو مطلق المعنى الحدثي الدال عليه الفعل ضمنا على سبيل الاتساع، فهو كالاسم فيما يختص به من الإضافة والإسناد اليه كما في قوله تعالى:
وإذا قيل لهم آمنوا
[البقرة:13]، وقوله:
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه
[يوسف:35]. وقوله:
يوم ينفع الصادقين صدقهم
[المائدة:119]. وقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
ولأنا إذا قلنا الفعل لا يخبر عنه، فهذا خطأ، إذ قد صار الفعل مخبرا عنه، ولأن المخبر عنه بأنه فعل، لا بد وأن يكون فعلا، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل.
فإن قيل: المخبر عنه تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم، قلنا: إذا كان اسما كان الإخبار عنه بأنه فعل، كذبا.
والتحقيق: ان المخبر عنه بأنه فعل لا يخلو، إما أن يكون اسما، أو فعلا فإن كان اسما، فقد حكمت على الاسم بأنه فعل، فيكون كاذبا، وإن كان فعلا فقد وقع الإخبار عن الفعل، وهو المطلوب.
وهذا الوجه الأخير الذي قلته مما ذكره صاحب التفسير الكبير.
وأقول: هذه شبهة كشبهة المجهول المطلق، لا يجوز التمسك بها في هذا المقام ونظائره، لأنها منحلة العقدة بما حقق في الحكمة الميزانية، وهو أن الحمل - أي الحكم العقلي بالاتحاد بين شيئين بهو هو - على ضربين:
أحدهما: الحمل الشائع، كما في قولك: زيد حيوان، في الذاتيات وزيد كاتب، في العرضيات، ومفاده ومصداقه كون الموضوع من أفراد المحمول، سواء كان فرده بالذات أو بالعرض، وسواء كان الحكم على أفراد الموضوع كما في القضية المحصورة، أو على نفس مفهومه، كما في القضية الطبيعية.
وثانيهما: الحمل الذاتي الأولى، ومفاده: كون أحد المفهومين عنوانا للآخر سواء كان نفسه، كما في حمل المترادفين أحدهما على الآخر كقولك: الإنسان بشر، أو كان بينهما تفاوت بالإجمال والتفصيل، كما في قولك: الإنسان حيوان ناطق، إذا حكمت على نفس المفهوم في المثالين.
فإذا تقرر هذا فنقول: كل شيء فهو يصدق على نفسه بالحمل الأولي، لاستحالة سلب الشيء عن نفسه؛ وإن بعض الأشياء مما لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع، بل نقيضه يصدق عليه بهذا الحمل، وبعضه يصدق على نفسه بكلا الحملين.
فالأول: كالجزئي، فإنه ليس بجزئي، لأن مقهومه كلي، وكاللامفهوم، فإنه مفهوم، والثاني: كالكلي والمفهوم ونظائرهما.
فقولك: الجزئي جزئي. والجزئي ليس بجزئي، كلاهما صحيح صادق من غير تناقض عند اختلاف الحملين.
ولهذا اعتبر في شرائط التناقض بين القضيتين، وحدة الحمل، سوى الوحدات الثمان المشهورات
ثم إن جملة الأشياء التي يصدق ويكذب على نفسها وعينها مفهوم الفعل ومفهم الحرف، فإن كلا منهما يصدق على نفسه ويكذب عنها أيضا من غير تناقض، فمفهوم الحرف مفهوم الحرف بأحد الحملين، بمعنى انه عين مفهوم ما دل على معنى في غيره، كعينية الحد مع المحدود وغيره بالحمل الآخر، إذ يصدق عليه حد الإسم.
وكذا لفظ " الحرف " حرف واسم باعتبارين: باعتبار انه بعينه لفظ الحرف، وباعتبار انه يصدق عليه حد الإسم، أي كلمة دلت على معنى في نفسه، وعلى هذا فقس الفعل.
فقد ثبت وتحقق بما ذكرنا، أن الفعل إذا أريد به المفهوم العنواني، يجوز الحكم عليه وبه بالاتفاق من أفراد الإسم، كقولك: الفعل ما دل على معنى مقترن بالزمان، وهذا غير ما نحن فيه، إذ لا بحث عنه ها هنا ولم ينقل خلاف لأحد فيه، إنما الكلام في أفراد هذا المعنى، وهي التي يصدق عليها حد الفعل ومفهومه - كضرب وعلم وأمثالهما-، هل يصح الإخبار عنها أم لا؟ وهذا هو محل البحث وموضع الخلاف.
وبما ذكره لم يثبت صحة الإخبار عن ما يصدق عليه الفعل، فالوجه كما ذكر أولا من جواز ذلك عند الضرورة، وعلى سبيل التجوز، أو الحكاية لكن بقي ان يقال: ما الفائدة في العدول ها هنا عن الحقيقية؟ فنقول: قد عدل من المصدر الى الفعل تنبيها على التجدد، لأن القوم كانوا قد بلغوا في الاصرار واللجاج والإنكار للحق، والإعراض عن الآيات والنذر، الى حالة ما بقي منهم رجاء القبول ألبتة، وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال: " سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك " لم يفد تجدد هذه الحالة في هذا الوقت دون ما قبله.
واعلم أن " الهمزة " و " أم " ها هنا عاريتان عن معنى الاستفهام، وإنما هما لتقرير معنى الاستواء وتأكيده فقط، قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، فإنها لمجرد الاختصاص.
ومعنى الإنذار: هو التخويف عن عقاب الله وإنما اقتصر عليه دون البشارة، لأن تأثيره أوقع في القلب وأشد من جهة ان دفع المضرة أهم من جلب المنفعة.
وفي " أأنذرتهم " ست قراءات: تحقيق الهمزتين بينهما ألف أولا، وتخفيف الثانية بين بين، وبينهما ألف أولا، وحذف الاستفهامية والقاء حركته على الساكن، وقرئ بتخفيف الأولى وإبدالها هاء، وهو شاذ.
وقوله: { لا يؤمنون } جملة مفسرة لما قبلها لإجماله في ما فيه الاستواء، فلا محل لها من الإعراب، أو حال مؤكدة له، أو بدل عنه، أو خبر إن وما قبلها، اعتراض بما هو سبب الحكم.
فصل
[احتجاجات الأشاعرة والمعتزلة بهذه الآية ونظائرها]
ومما احتج به أهل السنة على صحة القول بالتكليف بما لا يطاق عليه، هذه الآية ونظائرها. كقوله:
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
[يس:7] وقوله:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103]. وقوله:
سأرهقه صعودا
[المدثر:17]. وقوله:
تبت يدآ أبي لهب
[المسد:1].
وبيانه من جهة الكلام: أنه تعالى أخبر عن شخص معين انه لا يؤمن قط، فلو صدر منه الإيمان، يلزم الكذب على الله في كلامه. ومن جهة العلم، أنه تعالى علم منه في الأزل أنه لا يؤمن. فلو آمن يلزم انقلاب علمه جهلا وذلك محال؛ فكذا ما يستلزمه فصدور الإيمان منه محال وقد كلف به.
وأيضا: الإيمان يعتبر فيه التصديق بكل ما اخبر الله عنه، ومن جملته: أنهم لا يؤمنون، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات.
فهذه عمدة الوجوه التي تمسك بها السلف من الأشاعرة في دفع أصول المعتزلة وهدم قوانينهم.
وهم تفصوا عن هذه الاحتجاجات إجمالا وتفصيلا.
أما المقام الأول: فبيان أن علم الله تعالى وخبره عن عدم الايمان، لا يجوز أن يكون مانعا من الإيمان لوجوه:
الأول: أن القرآن مملوء من الآيات على أن لا مانع لأحد من الإيمان، كما قال تعالى:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى
[الإسراء:94]. والكلام إنكار بصورة الاستفهام، دال على أن المانع من أن يؤمنوا منتف في الواقع. وكقوله لإبليس:
ما منعك أن تسجد
[ص:75]. وقوله:
فما لهم لا يؤمنون
[الانشقاق:20]
فما لهم عن التذكرة معرضين
[المدثر:49].
والثاني: أن الله تعالى قال:
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
[النساء:165]. وقال:
ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك
[طه:134]. فقد تبين انه ما أبقى لهم عذرا إلا وقد أزاله عنهم. فلو كان علمه تعالى بكفرهم مانعا لهم عن الإيمان، لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة لاستقحاقهم للعقاب. والتالي باطل، فكذا المقدم.
والثالث: انه ذكر في مقام الذم والزجر والتقبيح قوله: { إن الذين كفروا سوآء عليهم } الآية، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه، لما استحقوا التقبيح البتة، بل كانوا معذورين كالأعمى في أن لا يرى.
والرابع: إن القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله عليهم، لا أن يكون حجة لهم على الله وعلى رسوله، فلو كان العلم والخبر مانعين، لكان لهم أن يقولوا: إنما كفرنا لسبق القضاء على كفرنا، وترك المقضي مستحيل، فلم يطلب المحال منا ولم يأمرنا بالمحال؟!
والخامس: إنه لو كان علمه السابق بعدم الإيمان مانعا عن الإيمان، لوجب أن لا يكون الله قادرا على شيء أصلا. والتالي باطل فكذا المقدم بيان الملازمة: أن الذي علم وقوعه واجب والذي علم عدم وقوعه ممتنع، وشيء من الواجب والممتنع لا يكون مقدورا، إذ المصحح للمقدورية هو الإمكان، دون قسيميه.
والسادس: إن الأمر بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به، لجاز وروده بكل أنواع السفه، فما كان يمنع وروده باظهار المعجزة على يد الكاذب، فلا يبقى وثوق بصحة النبوات ولا بصحة القرآن وسائر الكتب، بل يجوز أن يكون الكل سفها وباطلا.
والسابع: لو جاز ورود الأمر بالمحال، لجاز الأمر للأعمى برؤية النجوم في السماء، والزمن بالطيران في الهواء، ولو جاز ذلك، لجاز بعثة الأنبياء (عليهم السلام) الى الجمادات والعجماوات، وإنزال الكتب والملائكة عليها لتبليغ التكاليف حالا بعد حال، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين.
قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه منه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه؟ وكيف يصرفهم عن الإيمان ثم يقول:
أنى يصرفون
[غافر:69]. ويخلق فيهم الإفك ثم يقول:
أنى يؤفكون
[المائدة:75]. وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول:
لم تكفرون
[آل عمران:98]. وخلق فيهم لبس الحق بالباطل، ثم يقول:
ولا تلبسوا الحق بالباطل
[البقرة:42]. وصدهم عن السبيل ثم يقول:
لم تصدون عن سبيل الله
[آل عمران:99]. وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال:
وماذا عليهم لو آمنوا
[النساء:39]. وذهب بهم عن الرشد ثم قال:
فأين تذهبون
[التكوير:26]. وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال:
فما لهم عن التذكرة معرضين
[المدثر:49].
والثامن: من الآيات الدالة على أن التكليف بما لا يطاق لم يقع قال سبحانه:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
[البقرة:286]. وقال:
وما جعل عليكم في الدين من حرج
[الحج:78]. وقال:
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم
[الأعراف:157]. وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال.
أما المقام الثاني، فهو الجواب على سبيل التفصيل فللمعتزلة فيه طريقان:
أحدهما: طريقة أبي هاشم، وأبي علي الجبائي، والقاضي عبد الجبار: قالوا لمن قال: " لو وقع خلاف علم الله، لانقلب علمه جهلا " إنه قد أخطأ من قال: " إنه لانقلب علمه جهلا " ، وأخطأ أيضا من قال: " إن علمه لا ينقلب جهلا " ولكن يجب الإمساك عن القولين.
وثانيهما: طريق الكعبي، واختيار أبي الحسين البصري والمتأخرين منهم: ان العلم تبع للمعلوم، فإذا فرضت الواقع من العبد هو الايمان؛ عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى العلم بالإيمان ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الإيمان؛ عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلا عن الإيمان، فهذا فرض علم بدلا من علم آخر، لا انه انقلاب في العلم وتغير له.
تبصرة مشرقية
[الجبر والتفويض]
إعلم أن مسألة الجبر والاختيار من المسائل العظيمة المهمة في الاسلام، وهي مما لم تتنقح بعد الى الآن بين جمهور أهل الكلام، مع أنهم صرفوا عمرهم في تحرير الدلائل والمناقضات، وتقدير المباحث والمناظرات، وتطويل الكلام وكثرة الرد والإحكام والنقض والإبرام، حتى صارت معارك للآراء ومصادم للأهواء، ولم يبق لأحد من الجانبين منزعة في كان فكره إلا ورماها الى صاحبه في ميدان المجادلة والمناظرة، ومع ذلك لم يأت أحد منهما بحاصل في الدين، ولم يظفر بطائل في سلوك طريق اليقين.
بل ما زادتهم هذه إلا استكبار وجحودا وعنادا، ولم تزدهم إلا نفرة عن الحق وبعادا، وذلك لاشتغالهم بالفروع عن الأصول، واهتمامهم عن الواجب المهم بالفضول، واستغراقهم في المجادلة بالرد والقبول، ولذلك حرموا عن الوصول، ومنعوا عن معاينة المعاني، لا بفكر ونظم قياسي، ويئسوا عن مشاهدة الحقائق لا باعتمال ونصب تعريف حدي أو رسمي، بل بأنوار شارقة متفاوتة، وإلهامات بارقة متتالية، تزيد في العمر والبقاء، وتطلق الروح عن المهوى، وتسلب النفس عن هذه القوى وترغبها عن الدنيا، وتسوقها الى العقبى، وتشوقها الى لقاء الرب تعالى.
واعلم أن أكثر أصحاب البحوث، قد تركوا وصية ربهم ونصيحة نبيهم سلام الله عليه وآله فيما أمروا، من تزكية نفوسهم، وتصفية بواطنهم، وإصلاح قلوبهم، وتعديل قواهم، وتهديب أخلاقهم، وتصقيل، مرآة قلوبهم لتتجلى فيها خبايا عالم الملكوت، وتنكشف لديها خفايا أسرار الجبروت، وادركوا الأشياء كما هي، كما وقع دعاء نبيهم (صلى الله عليه وآله) له ولأمته: " اللهم أرنا الأشياء كما هي ".
فرفضوا طريق الهداية والسعي في بلوغ النهاية، ولم يقرؤوا صحيفة الملكوت من كتابها، ولم يأتوا البيوت من أبوابها، فاغتروا من حقائق الدين بلوامع سرابها، وقنعوا فيه من أنوار وجوه الحكمة واليقين بظلمات نقابها، فاشتغلوا بما قد نهوا عنه بذكر عيوب بعضهم بعضا، وشنعة بعضهم على بعض، فصاروا فرقا ومذاهب وشيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، وهم في العذاب مشتركون، إلا من آمن منهم بالله واليوم الآخر ببصيرة صافية عن غشاوة الشك والامتراء، وقلب فارغ عن مرض العناد والمراء.
ولما تركوا وصية ربهم، ونصيحة رسولهم، ونسوا يوم الآخرة، وركنوا الى الدنيا، توقدت بينهم نيران العداوة والبغضاء الى يوم القيامة، فيلعن بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم بعضا، ويطعن بعضه على بعض، بحرقة في قلوبهم، وألم في نفوسهم، كما حكى الله عن أهل الجحيم بقوله:
كلما دخلت أمة لعنت أختها
[الأعراف:38 - 39]. وقالوا:
ربنا هؤلاء أضلونا
[الأعراف:38 - 39] يعني: من كان بينهم رئيسا ومقتدى في رأيهم في الضلال، وقيل لهم:
فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون
[الأعراف:38 - 39].
وبظهور هذه الآراء الفاسدة، والبدع الخبيثة، والأهواء الردية، انطمس أهل الحق وضاعت السير الفاضلة، وغابت العلوم الإلهية من بين الخلق، وصارت كأن لم تكن شيئا مذكورا.
وهذه الآراء والأهواء كثيرة كلها من هذا القبيل، وستعلم وجه بطلانها مع هذه الشهرة العظيمة للقائلين بها، والرواج لها، حيث ترى الكتب الكلامية وغيرها مشحونة بذكرها وذكر نظائرها، ونسبة قائلها الى الفضل والبراعة، والخوض في تحقيق أصول الشريعة وفروعها بهذه الكلمات الواهية والآراء العاطلة.
فكانوا يتصدون في المجالس، ويتفاخرون على الأماثل، ويعينون بالأنامل، وبضاعتهم في العلم والمعرفة، ورأس مالهم في الفضيلة أمور لا تفيد علما ولا تنتج فائدة. مثل كلامهم في الطفرة والتفكيك، وسكون المتحرك، والتداخل، وشيئية المعدوم وإعادته، ونفي الجزء وإثبات الخلاء، وإنكار الروح، ونفي التوحيد، وإثبات الكثرة على الله، وتجويز الرؤية له، وخلق الأعمال، ونفي القدرة عن العبد، ونفي الوجود الذهني؛ وانكار عالم الملكوت والنشأة الباقية، وجوهرية الطعوم والروائح بل رؤيتها، الى غير ذلك من المسائل المموهة المزخرفة التي لا حقيقة لها ولا وجود إلا في الأوهام الكاذبة، لا تصح لمدع فيها حجة ولا لسائل عنها برهان.
وثلة من الأولين منهم قد بقوا في هذا الزمان، شاهدناهم يخوضون في الثواني والمعقولات، وهم لا يعرفون الأوائل والمحسوسات، ويتعاطون البراهين من غير ممارسة علم المنطقيات، ويتكلمون في الإلهيات، وهم يجهلون الطبيعيات، وإذا سئلوا عن أشياء مقرون بها عند أكثر الناس، لا يحسنون أن يجيبوا عنها.
وإذا استقصى عليهم السؤال والبحث، فكلامهم فيها أوهن من بيوت العنكبوت، ويأبون أن يقولوا: لا ندري، الله ورسوله وأولياؤه أعلم، بل يلجون في خيالاتهم الواهية وهي طغيانهم يعمهون.
فلنرجع الى تحقيق القول في هذه المسألة، وتوهين ما قرروه، والجواب عما ذكروه وكشف الفضيحة عما تصوروه، في فصلين نذكر فيهما فساد القولين وبطلان المذهبين: الجبر والاختيار.
فصل
[رد احتجاجات المجبرة]
أما قول المجبرة بجواز تكليف المحال، والجبر للعبد في الأفعال من جهة علم الله بحقيقة الأحوال، أو إخباره عن كفر طائفة ونكالهم في الآخرة والمآل، ففي غاية السخافة والوهن ، فإن العلم والجبر لا يسلبان عن العباد القوى والقدرة، بل القدرة ثابتة للعبد، والتمكن من أفعاله وأقواله مبذول له، والتصرف في قواه الإدراكية - كالمسع والبصر - وأعضائه التحريكية - مثل اليد والرجل - متى شاء وكيف شاء مفوض إليه ميسر له، والعلم بوجوه النفع والضر، والخير والشر ممنون عليه من قبل الله، لأن هذه المبادي والقوى القريبة خلقت موجبة لأفاعيله وحركاته، مقتضية لآثاره وتبعاته، جعلها الله خادمة للقلب، مسخرة له، وهو المتصرف فيها بقوته المدبرة، وهي مجبولة على طاعة القلب، لا يستطيع له خلافا ولا عليه تمردا.
وفائدة التكليف له والإنذار كالابتلاء وغيره، عائدة إليه ولو قليلا، وإلى غيره كثيرا، ولا يلزم أن تكون فائدة التكليف لأحد بشيء، نفس ذلك الشي؛ إذ ربما يترتب على التكليف فائدة اخرى، غير ما كلف به، فلي لهم أن يقولوا بنفي الأعراض وبطلان الدواعي واثبات التعطيل، والعبث في فعل العبد، ذلك ظن الذين كفروا من المجوس والثنوية، النافين لاختيار العبد، المثبتين لإجباره، ولهذا المعنى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" القدرية مجوس هذه الأمة ".
ومن الحكايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك، ما رواه جماعة من علماء الإسلام أنه قال (صلى الله عليه وآله):
" لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا، قيل: ومن القدرية يا رسول الله؟ قال: قوم يزعمون ان الله سبحانه قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها ".
ومنها أيضا ما رواه صاحب الفائق محمود الخوارزمي وغيره من العلماء، عن محمد بن علي المكي باسناده قال:
" إن رجلا قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أخبرني بأعجب شيء رأيته، قال: رأيت قوما ينحكون أمهاتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم: لم تفعلون؟ قال: قضى الله تعالى وقدره. فقال: سيكون في أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أولئك مجوس أمتي ".
ومنها أيضا ما ذكره صاحب الفائق وغيره من علماء الاسلام، عن جابر بن عبد الله أنه قال: يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ويقولون: إن الله قد قدرها عليهم ، الراد عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله.
ومن الحكايات في هذا الباب ما يروى من ان أبا حنيفة اجتاز على موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) فقال سائلا: المعصية ممن؟ فقال له موسى الكاظم (عليه السلام): اجلس حتى اخبرك، فجلس أبو حنيفة، فقال (عليه السلام): لا بد أن تكون المعصية من العبد أو من الله تعالى أو منهما جميعا، فإن كانت من الله تعالى، وهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده الضعيف، ويؤاخذه بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما، فهو شريكه، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت المعصية من العبد وحده؛ فعليه وقع الأمر وإليه توجه النهي، وله حق الثواب والعقاب، ووجبت له الجنة والنار، فقال أبو حنيفة: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
وقد نظم هذا بعض شعرائهم:
لم تخل أفعالنا اللاتي نلام بها
إحدى ثلاث خصال حين نأتيها
إما نفرد بارينا بصنعتها
فيسقط اللوم منا حين نبديها
أو كان يشركنا فيها، فيلحقه
ما سوف يلحقه من لائم فيها
أولم يكن لإلهي في جنايتها
ذنب، فما الذنب إلا ذنب جانيها
ومنها ما رواه جماعة من العلماء، أن الحجاج بن يوسف كتب الى الحسن البصري والى عمرو بن عبيد والى واصل بن عطاء والى عامر الشعبي: أن يذكروا ما عندهم وما وصل اليهم في القضاء والقدر. فكتب اليه الحسن البصري: إن من أحسن ما انتهى الينا ما سمعت عن امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: أتظن أن الذي نهاك دهاك؟ إنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله بري من ذاك.
وكتب إليه عمرو بن عبيد: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): لو كان الوزر في الأصل محتوما، كان الوزر في القصاص مظلوما.
وكتب إليه واصل بن عطاء: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق؟
وكتب إليه الشعبي: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي يبن أبي طالب (عليه السلام): كلما استغفرت الله منه فهو منك، وكلما حمدت الله تعالى عليه فهو منه، فلما وصلت كتبهم الى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها عن عين صافية. هذا مع ما كان عنده من الفضاضة والأمور الواهية.
ومما روي أيضا أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) عن القضاء والقدر؟ فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه، فهو فعل الله يقول الله للعبد: لم عصيت لم فسقت لم شربت الخمر لم زنيت؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول: لم مرضت؟ لم قصرت؟ لم ابيضضت؟ لم اسوددت؟ لأنه من فعل الله في العبد.
ومن الحكايات أيضا: أن الفضل بن سهل سأل علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بين يدي المأمون؛ فقال: يا أبا الحسن، الخلق مجبورون؟ فقال: الله تعالى أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم، قال فمطلقون؟ قال: الله تعالى أحكم من يهمل عبده ويكله الى نفسه.
ومنها: أن رجلا وقف على جماعة من المجبرة فقال لهم: أنا ما أعرف المجادلة والإطالة في الكلام؛ لكني أسمع في القرآن قوله تعالى:
كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله
[المائدة:64]. ومفهوم هذا الكلام عند كل عاقل، أن الموقد للنار غير المطفئ. فانقطعوا ولم يردوا جوابا.
وقيل لجبري: نرى الله يقول:
قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
[الشمس:9 - 10] من هذا الذي قد خاب؟ فلم يكن له من ذلك جواب.
وقال معتزلي لجبري: ممن الحق؟ فقال: من الله. قال له: فمن المحق؟ قال: هو الله قال له: فممن الباطل؟ قال: من الله. فقال له: فمن هو المبطل؟ فانقطع المجبر ولم يقدم على أن يقول: إن الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا- هو المبطل. وكان يلزمه ذلك على مذهبه.
ومن عجائب ما يعتقده المجبرة ويلزمهم أيضا، أنه يجوز من الله في عقولهم مع عدله وحكمته، أن يجمع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعباده الصالحين، فيخلدهم في الجحيم والعذاب الأليم أبد الآبدين، ويجمع الكفار والملحدين والزنادقة والمنافقين وإبليس والشياطين، ويخلدهم في الجنة والنعيم دهر الداهرين، وزعموا ذلك إنصافا منه وعدلا، وركبوا في ذلك مكابرة وجهلا ولعله قد كان لهم سلف صدرت منهم كلمات على سبيل الزمر والإشارة وما بلغت عقول هؤلاء على كنه أقوال أولئك الأوائل، أو كان في عقول طائفة من رؤسائهم جهل وسفه أوجب مثل هذا الاعتقاد، وجاء الخلف مقلدا للسلف، محبا للمنشأة وسنة الآباء، كما حكى الله عن أشباههم من الأخلاف الذين قلدوا آراء الأشياخ والأسلاف، حيث ذكر:
إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون
[الزخرف:22]
أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون
[البقرة:170].
وإن كان ذلك كذلك، فأي عذر بقي للمتأخرين من الأحياء والأبناء في اتباع السلف والآباء على الضلال في أمر لا يخفى على أدنى العقلاء؟ فما أحسن ما يقرؤونه في كتابهم:
وما قدروا الله حق قدره
[الأنعام:91] لا والله ما قدروا الله حق قدره، ولا هذا قدر جلالته وعظمته، ولا جزاء إحسانه ونعمته.
والعجب، أنهم زعموا أن هذا ما عليه أكابر العرفاء ومحققو الصوفية من القول بالتوحيد الأفعالي، وليس كذلك، كما يظهر من تتبع كلماتهم وتصفح مقالاتهم، قال الشيخ العظيم محيي الدين الأعرابي في الباب التاسع عشر وثلاثمأة من الفتوحات المكية: " إن رافع الأسباب سيء الأدب مع الله، ومن عزل من ولاه الله تعالى فقد أساء الأدب وكذب في عزل ذلك الوالي، فانظر ما أجهل من كفر بالأسباب وقال بتركها، ومن ترك ما قرره الحق، فهو منازع لا عبد، وجاهل لا عالم واني أعظك أن تكون من الجاهلين، وأراك في مذهب الجبر تكذب نفسك في ترك الأسباب، فإني أراك في وقت حديثك معي في تركها ورميها يأخذك العطش، فتترك كلامي وتجري الى لماء فتشرب منه لتدفع بذلك الم العطش، وكذلك إذا جعت تناولت الخبز، وغايتك أن لا تتناوله بيدك حتى تجعل في فيك، فما حصل في فمك مضغته وابتلعته فما اسرع ما اكذبت به نفسك بين يدي.
وكذلك إذا أردت أن تنظر الى شيء افتقرت الى فتح عينك، فهل فتحها إلا سبب، فكيف تنفي الأسباب بالأسباب؟ أترضى لنفسك بهذه الجهالة؟ فالأديب الإلهي العالم من اثبت ما اثبته الله في الموضع الذي أثبته، وعلى الوجه الذي أثبته، ثم تكذب نفسك في عبادة ربك. أليست عبادتك سببا في سعادتك وأنت تقول بترك الأسباب؟ فلم لا تقطع العمل.
أرأيت أحدا من رسول ولا نبي ولا ولي ولا مؤمن ولا كافر ولا شقي خرج قط عن رق الأسباب مطلقا، أدناها التنفس؟ فيا تارك السبب لا تتنفس؛ فإن التنفس سبب لحياتك فأمسك نفسك حتى تموت فتكون قاتل نفسك فتحرم عليك الجنة. وإذا فعلت هذا فأنت تحت حكم السبب... "
" فما اظنك عاقلا إن كنت تزعم أن ترفع ما نصبه الله وأقامه علما مشهودا، ودع عنك ما تسمع من كلام أهل الله، فإنهم لم يردوا بذلك ما توهمته، بل جهلت ما أرادوا بقطع الأسباب، كما جهلت ما أراد الحق بوضع الأسباب، ولقد ألقيت بك على مدرجة الحق، واتيت لك الطريقة التي وضعها لعباده وأمرهم بالمشي عليها فاسلك:
وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر ولو شآء لهداكم أجمعين
[النحل:9].
وقال في الباب السادس والتسعين ومائتين: " ولقد نبهني الولد العزيز العارف شمس الدين إسماعيل بن سودكين التوري على أمر كان عندي من غير الوجه الذي نبهنا عليه هذا الولد؛ وهو التجلي في الفعل، هل يصح أو لا يصح؟ فوقتا كنت أنفيه بوجه، ووقتا كنت اثبته بوجه يقتضيه التكليف، إذ كان التكليف بالعمل لا يمكن أن يكون من حكيم يقول: " اعمل وافعل " لمن يعلم انه لا يعمل ولا يفعل، إذ لا قدرة له عليه.
وقد ثبت الأمر الإلهي بالعمل للعبد، مثل قوله تعالى:
وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة
[البقرة:43] و
اصبروا وصابروا ورابطوا
[آل عمران:200]
وجاهدوا
[التوبة:41].
فلا بد أن يكون له في المنفعل عنه تعلق من حيث الفعل فيه، فيسمى به فاعلا وعاملا، وإذا كان هذا، فبهذا القدر من النسبة يقع التجلي فيه، فبهذا الطريق كنت أثبته، وهو طريق مرضي في غاية الوضوح، يدل على أن القدرة الحادثة لها نسبة تعلق بما كلفت عليه لا بد من ذلك، ورأيت حجة المخالف واهية في غاية من الضعف والاختلال.
ولما كان يوما فاوضني في هذه المسألة هذا الولد فقال لي: وأي دليل أقوى على نسبة الفعل إليه والتجلي فيه، إذا كان من صفته من كون الحق خلق الإنسان على صورته، فلو جرد عنه الفعل، لما صح أن يكون على صورته، ولما قبل التخلق بالأسماء، وقد صح عندكم وعند أهل الطريق بلا خلاف، أن الإنسان مخلوق على الصورة، وقد صح التخلق بالأسماء؟
فلا يقدر أحد أن يعرف ما يدخل علي من السرور بهذا التنبيه، فقد يستفيد الاستاذ من التلميذ أشياء من مواهب الحق تعالى لم يقض الله للاستاذ أن ينالها إلا من التلميذ، كما يعلم قطعا انه قد يفتح للإنسان الكبير في أمر يسأله عنه بعض العامة، فيرزق العالم في ذلك الوقت لصدق اللسان علم تلك المسألة، ولم يكن عنده قبل ذلك عناية من الله بالسائل ان حصل للمسؤول علما لم يكن عنده، ومن راقب يجد ما ذكرناه. فالحمد لله استفدنا من أولادنا مثل ما استفاد منا شيوخنا أمورا كانت أشكلت عليهم " انتهى كلامه.
فصل
فيما يرد على المعتزلة
القائلين باستقلال العبد في أفعاله وحركاته
فمما يرد عليهم أنهم اشركوا بالله في أفعاله، ولم يتفق لهم التوحيد الأفعالي، كما لم يبق للأشاعرة - المثبتين للصفات - التوحيد الوصفي.
ويرد عليهم أيضا؛ انهم منكرون لقضاء الله وقدره في كل شيء، ولم يذعنوا ان الخيرات والشرور كلها بقضائه وقدره. أما الخير فهو مقضي بالذات، وأما الشر فهو مقضي بالعرض. ومذهبهم في صدور الأفاعيل من العباد قريب من مذهب بعض الطبيعيين والأطباء الذين جعلوا مبدأ فعل الآدمي طبيعته ومزاجه، ولم يرتفع نظرهم الى ما فوق الدهر والطبيعة من الملكوت الأعلى والأسباب القصوى، ولم يعلموا أن كل ما يقع في هذا العالم من الحوادث والأكوان والأفعال والإرادات والحركات والسكنات، مقدر بهيئته وزمانه في عالم آخر قبل؛ كما دلت عليه البراهين العقلية والمشاهدات الذوقية والمنامات الصادقة، والإلهامات، والكلمات الإلهية، والأحاديث النبوية، منها قوله تعالى:
وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر
[القمر:52-53].
ومنها قوله تعالى:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
[الأنعام:59]. ومنها قوله تعالى:
ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين
[يس:12]. وكذا قوله:
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
[الجاثية:29]. وقوله:
مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ
[الحديد:22]. الى غير ذلك من الآيات.
ومن الأحاديث النبوية قوله عليه وآله الصلاة والتحية:
" جف القلم بما هو كائن "
" اعلموا فالكل ميسر لما خلق ".
ومنها قوله:
" إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله ملكا فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم الله له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار حتى [ما] يكون ما بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم الله له بعمل أهل الجنة فيدخلها ".
وقريب من هذا ما ورد من طريق أهل البيت (عليهم السلام)، رواه رئيس المحدثين محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله عن عدة من أصحابه، مسندا الى أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: " يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثم تتداركه السعادة. وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم، بل هو منهم. ثم يتداركه الشقاء. إن من كتبه الله سعيدا وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة ".
ونقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " اعلموا علما يقينا أن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته وقويت مكيدته واشتدت طلبته ، أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم ".
وفي طريقتهم أيضا رواه الكليني عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن مما أوحى الله الى موسى (عليه السلام) وأنزل عليه [في] التوراة: إني أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب فطوبى لمن أجريته على يديه، وأنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده، فويل لمن أجريته على يديه " وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " ما من قبض وبسط إلا ولله فيه [مشيئة وقضاء وابتلاء ".
وعنه (عليه السلام): " إنه ليس شيء فيه] قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه، إلا وفيه لله عز وجل ابتلاء وقضاء ".
وعنه (عليه السلام) أيضا في كتاب الكافي انه قال: " لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة، وإرادة، وقدر، وقضاء، وإذن، وكتاب وأجل؛ فمن زعم انه يقدر على نقض واحدة فقد كفر ".
وعنه أيضا (عليه السلام) مثله بسند آخر. وفيه أيضا عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: " لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بسبع: بقضاء، وقدر وإرادة، ومشيئة، وكتاب وأجل، وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله ".
ومن طريقه فيه باسناده عن محمد بن عبد الرحمن [عن أبيه] رفعه الى من قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
" قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة ".
ومن طريقه رحمه الله في كتاب من لا يحضره الفقيه مسندا الى اسماعيل بن مسلم انه سأل جعفر الصادق (عليه السلام) عن الصلاة خلف رجل يكذب بقدر الله عز وجل؟ قال: " ليعد كل صلاة صلاها خلفه ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:
" خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي يده كتابان، فقال للذي في يده اليمنى: " هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم اجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا " ثم قال للذي في شماله " هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم اجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ". ثم مال بيده فنبذهما ثم قال: " فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير " ".
ومن الحكايات التي نقلها أهل الإسلام في كتب الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مناظرة آدم وموسى (عليهما السلام)، وهي انه قال (صلى الله عليه وآله): " احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في الجنة، ثم أهبطت الناس بخطيئتك الى الأرض فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوارة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم قال: أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فحج آدم موسى (عليه السلام) ".
والمعتزلة طعنوا في هذا الحديث من وجوه:
أحدها: أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آدم على الصغيرة، وذلك يقتضي الجهل في حق موسى (عليه السلام)، وذلك غير جايز.
وثانيها: إن الولد كيف يشافه الوالد بالقول الغليظ؟
وثالثها: إنه قال: " أنت أشقيت وأهبطت الناس من الجنة " وقد علم موسى أن شقاء الناس وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم، بل الله أخرجه منها.
ورابعها: إن آدم احتج بما ليس حجة. إذ لو كان حجة، لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا به، ولما بطل ذلك، علمنا فساد هذه الحجة.
وخامسها: إن الرسول صوب آدم في ذلك، مع أنا بينا أنه ليس بصواب، إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه:
أحدها: إنه (صلى الله عليه وآله ) حكى ذلك عن اليهود - لا انه حكاه عن الله أو عن نفسه - واشتبه على الراوي.
وثانيها: انه قال: " فحج آدم - منصوبا - أي: إن موسى جعله محجوجا.
وثالثها: وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية، ولا الاعتذار منه بعلم الله، بل موسى سأله عن السبب الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة، فقال آدم: إن خروجي منها لم يكن بسبب تلك الزلة، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب علي أن أخرج إلى الأرض وأكون خليفة فيها، وهذا المعنى كان مكتوبا في التوارة، فلا جرم كانت حجة آدم قوية، وصار موسى في ذلك كالمغلوب.
واعلم أن الكلام يؤدي الى التطويل، وإلا لأجبت عن تلك الوجوه الخمسة متفصيا، ولناقضت لهذه الوجوه الثلاثة مفصحا عن فسادها، فاضحا لقصور قائلها، كاشفا عن اختلال أحواله، وبطلان مقاله، واعوجاج سبيله، وانبتات سلوكه لفقدان دليله، حيث لا حجة ولا برهان، ولا حديث ولا قرآن، ولا عقل ولا ايمان.
قال بعض أكابر الحكماء في وصفهم عندما نقل بعضا من الآراء السخيفة عنهم في إثبات شيئية المعدوم وثبوت الأحوال: " وهؤلاء قوم نبغوا في ملة الإسلام وما كانت لهم أفكار سليمة، ولا حصل لهم ما حصل للصوفية من الأمور الذوقية، ووقع بأيديهم مما نقل جماعة في عهد بني امية، من كتب قوم كانت أساميهم تشبه أسامي الفلاسفة، فظن القوم أن كل اسم يوناني [هو] اسم فيلسوف، فوجدوا فيها كلمات استحسنوها وذهبوا عليها وفرعوها رغبة في الفلسفة، وانتشرت في الأرض وهم فرحون بها، وتبعهم جماعة من المتأخرين وخالفوهم في بعض منها، إلا ان كلهم إنما غلطوا بسبب ما سمعوا أسامي يونانية لجماعة صنفوا كتبا يتوهم ان فيها فلسفة - وما كان فيها شيء منها - فقبلها متقدموهم، وتبعهم فيها المتأخرون، وما خرجت الحكمة عن يونان، إلا بعد انتشار أقاويل عامة اليونان وخطبائهم وقبول الناس لها.
ولنرجع الى طريق العقل في هدم قاعدة الاعتزال، بعد أن ذكرنا من طريق السمع ما يليق بذلك من الأقوال.
تبصرة عقلية
[علمه تعالى وقضاؤه]
قد علمت أن جميع الأشياء صادرة من الله تعالى وهو عالم بصدورها عنه راض بذلك غير كاره، وهذا معنى مختاريته الخالي عن النقص والقصور والتغير. وقد ثبت في العلوم اليقينية: أن العلم بالسبب التام يستلزم العلم بالمسبب، فإذا كان تعالى عالما في الأزل بجميع الموجودات الروحانية والجسمانية، والعلوية والسفلية على ما هي دفعة واحدة من غير تجدد وانفعال في علمه - وهو معنى قضائه - ويكون مخرجا إياها من القوة الى الفعل شيئا بعد شيء على سبيل التجدد والانقضاء على التفصيل - وهو معنى قدره -، وقد ثبت أن كلما لم يجب لم يوجد، فقضاؤه نافذ في قدره، حاكم على كل أحد من هذا العالم في نفعه وضره وخيره وشره، فالإيمان بالقدر واجب من هذه الجهة، والرضا بالقضاء فرض متحتم من هذا البرهان.
كما ورد في الحديث الإلهي:
" من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليبعد ربا سوائي وليخرج من أرضي وسمائي ".
ومن الأحاديث المستفيضة الشائعة بين طوائف العلماء المتفق عليها، ما رواه محمد بن عقوب الكليني رحمه الله في باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين منه عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، وإسحق بن محمد، وغيرهما رفعوه، قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن مسيرنا الى أهل الشام، أبقضاء من الله وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر، فقال له الشيخ، عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له: مه يا شيخ، فوالله لقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون. ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليه مضطرين.
فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال: أو تظن أنه كان قضاء حتما وقدرا لازما إنه لو كان ذلك كذلك، لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي، والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد. فلم يكن لائمة للمذنب، ولا محمدة للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، وكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وخصماء الرحمن، وحزب الشيطان، وقدرية هذه الأمة ومجوسها، إن الله تبارك وتعالى كلف تخييرا، ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يعط مكرها ولم يملك النبيين مبشرين ومنذرين عبثا:
ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار
[ص:27]. فانشأ الشيخ:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته
يوم النجاة من الرحمن غفرانا
أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا
جزاك ربك بالإحسان إحسانا
ومما رواه أيضا عن علي بن إبراهيم [عن أبيه] عن اسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يا يونس، لا تقل بقول القدرية، فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة، ولا بقول أهل النار، ولا بقول إبليس؛ فإن أهل الجنة قالوا:
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
[الأعراف:43]. وقال أهل النار:
ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين
[المؤمنون:106]. وقال إبليس:
قال رب بمآ أغويتني
[الحجر:39]. الحديث.
وروى أيضا عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشا، عن حماد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله. ومن زعم أن الخير والشر إليه فقد كذب على الله " - الظاهر أن الضمير في " إليه " راجع الى الموصول.
وعن الحسين، عن معلى، عن الحسن بن علي الوشا، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال: الله أعز من ذلك، قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك، ثم قال الله: يا ابن آدم، أنا أولى بحسناتك منك. وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتك التي جعلت فيك.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله، فقد أخرج اله من سلطانه. ومن زعم أن المعاصي بغيره قوة الله، فقد كذب على الله.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) سأل عنه رجل قال: قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، قال: قلت: ففوض إليهم الأمر؟ قال: لا، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك.
عقدة وحل
[اختيارنا في أفعالنا]
ولما ثبت وتحقق مما ذكر من الكلام أن كل ما يقع في هذا العالم أو سيقع مقدر مكتوب بهيئته وزمانه ووضعه ومكانه في عالم آخر، فإن اشتبه عليك أيها القدري حال الأفعال المنسوبة الى الاختيار، وتخيل لك أنها على هذا التقدير واقعة بالاضرار والإجبار؛ فما بالنا نتصرف فيها بالتدبير والتغيير، ونصرفها بالتقديم والتأخير، ونجد الفرق بين المجبور عليه والمخير، والمختار والمضطر في جريان الأمر الإلهي في مجاري القضاء والقدر.
وتفكر في ترتيب سلسلة الأسباب والعلل، واعلم أن قدرة العبد وإرادته وعلمه وشوقه من الأسباب القريبة لفعله، وهي مستندة بأسباب أخرى متوسطة، وأخرى بعيدة، حتى تنتهي الى قدرة الله وعلمه وإرادته ومشيئته وقضائه وقدره.
فالقضاء والقدر، إنما يوجبان ما يوجبان بتوسط أسباب وعلل بعضها مقدمات مدبرات، كالملائكة السماوية، عقلية كانت أو نفسية، قلمية كانت أو لوحية وبعضها فاعلات محركات وموجبات مقتضيات، كالمبادي العالية من الجواهر الفلكية والصور المنطبعة، وبعضها قوابل واستعدادات ذاتية وعارضية.
والصور اللاحقة المادية والأوضاع الفلكية والأمور الاتفاقية كالإدراكات والإرادات الإنسانية، والحركات والسكنات الحيوانية، تختص بحال دون حال، وبصورة دون صورة، ترتبا وانتظاما معلوما في القضاء السابق.
فاجتماع تلك الأسباب والشرائط، مع ارتفاع الموانع، سبب تام يجب بها وجود ذلك الأمر المدبر المقضي المقدر، وعند تخلف شيء منها، أو حصول مانع، يبقى في حيز الإمكان أو الامتناع، فإذا كان من جملة الأسباب - وخصوصا القريبة - وجود هذا الشخص الإنساني وعلمه وإرادته وقدرته وتشوقه وتفكره وتخيله اللذان هما مختار أحد طرفي الفعل والترك، كان ذلك الفعل اختياريا واجبا وقوعه بجميع تلك الأمور التي هي علة تامة لوجود المقدور، ممكنا بالنسبة الى كل واحد منها، فوجب الفعل لا ينافي اختياريته. كيف! وقد مر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
فإن قلت: مع حصول القدرة والإرادة إن كان الترك ممكنا، لم يكن الفعل واجبا، وإن لم يكن ممكنا لم يكن العبد مختارا؟
قلت: الترك غير ممكن، ولا يلزم من ذلك أن يكون مختارا، فإن الفعل الاختياري ما يكون الاختيار من جملة أسبابه، ويكون صدوره موقوفا بالاختيار، لا ما يكون ممكنا على تقدير تحقق علته التامة التي من جملتها الإرادة.
عقدة وحل
[لمية التكليف]
ثم إذا رجعت إلينا ثانيا وقلت: فما فائدة التكليف على هذا التقدير؟ لأنه إذا كانت الأسباب العالية مقتضية، والقوابل السفلية حاملة، والاستعدادات المادية مهيئة، أو متأبية معوقة؛ فصدور الفعل إما واجب او مستحيل، وعلى أي الوجهين فالتكليف بالأفاعيل عبث.
وأي فائدة للتكليف بالطاعات، وبعثة الأنبياء بالمعجزات والآيات، وأي تأثير للسعي والجهد وأي توجيه للوعيد الوعد، وما معنى الابتلاء في قوله:
ليبلوكم أيكم أحسن عملا
[هود:7] إذا كان الكل بالتقدير والقضاء؟ إذ مدار التكليف والسعي والجهد والوعيد والوعد على الاختيار، لا على الإجبار والاضطرار.
قلنا: فائدة التكليف والوعد الوعيد، تحصيل الشوق الذي هو مبدأ الإرادة للأفعال الجميلة، فإن المراد ها هنا بالإرادة: هي العزيمة الثابتة الباعثة الجازمة على الفعل أو الترك، فإذا أدركنا شيئا وعلمناه؛ فإن اعتقدنا ملائمة أو منافرة لنا دفعة بالتوهم أو ببديهة العقل، انبعث منه شوق الى جذبه او دفعه يتبعه إرادة، فإذا انضمت الى المقدرة، انبعثت تلك القوة لتحريك الأعضاء ليحصل الفعل بالاختيار، وإن لم نعتقد بالضرورة، الملائمة والمنافرة، أعملنا الروية، واستعملنا القوى الدراكة لطلب الترجيح بإرادة عقلية أو وهمية.
فربما كان ملائما ببعض الوجوه، غير ملائم ببعضها، أو ملائما للحس، غير ملائم للعقل، أو بالعكس، أو نافعا في العاجل غير نافع في الآجل، أو بالعكس، ويحدث بسبب كل ملائمة داع، وبحسب كل منافرة صارف، ويترجح عزم أحد طرفي الفعل والترك بحسب ترجيح دواعيه، وعند تعارض الدواعي وتكافؤ الأشواق، يقع التحير، ونستعمل القوة الفكرية حتى يسنح ما يرجح أحد الطرفين، فنفعل بحسبه.
فنقول: كما تفطنت أن الأشياء الداخلة في وجود الإنسان كالعلم والقدرة والإرادة من جملة أسباب الفعل، فاحدس أن هذه الأمور الخارجة أيضا من جملتها، فالدعوة والتكليف، والإرشاد والتهذيب، والوعد والترغيب، والإيعاد والتهديد، أمور جعلها الله مهيجات الأشواق، ودواعي الى الخيرات والطاعات، واكتساب الفضائل والكمالات، ومحرضات على أعمال حسنة، وعادات محمودة، وملكات مرضية، وأخلاق فاضلة نافعة لنا في معاشنا ومعادنا، يحسن بها حالنا في دنيانا ويحسن بها سعادة عقبانا.
أو محذرات عن أضدادها من الشرور والقبائح والذنوب والرذائل، مما يضرنا في العاجل، ونشقى بها في الآجل.
وكذلك السعي والجد والتدبير والحذر، إذا قدرت مهيئة لمطالبنا، موصلة إيانا الى مقاصدنا، مخرجة لكمالاتنا من القوة الى الفعل، فجعلت أسبابا لما يصل إلينا من أرزاقنا، وما قدر لنا من معايشنا، أو هيىء لنا في آخرتنا، أو لما يصرفه الله عنا من المكاره ويدفع عنا من المضار والمفاسد، لم يحصل ذلك إلا بها، وكانت تلك الوسائط أيضا مقدرة لنا، واجبة باختيارنا، كما قال عليه وآله السلام لمن سأله:
" هل يغني الدواء والرقية من قدر الله؟ قال: الدواء والرقية أيضا من قدر الله ".
ولما قال (عليه السلام): جف القلم بما هو كائن، قيل: ففيم العمل؟ فقال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق.
ولما سئل: أنحن في أمر فرغ منه؟ قال: في أمر مفروغ منه وفي أمر مستأنف.
ومن هذا علم أن كل ما يصدر عنا من الحركات والسكنات، والحسنات والسيئات، محفوظة مكتوبة علينا، واجب صدورها عنا مع كونها باختيارنا، كما قال:
وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر
[القمر:52 - 53] وغير ذلك من الآيات التي نقلناها.
فهذه معرفات لسعادتنا وشقاوتنا في العقبى، ليست بموجبات، وكذلك ما يصل الينا من الرغائب والمكاره، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله):
" واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ".
تحقيق حكمي
[لا جبر ولا تفويض]
وإذا ثبت وتحقق ان جميع الممكنات، وسلسلة الأسباب التي من جملتها قدرة العبد وإرادته وعلمه، وشوقه ومشيئته، مستندة الى مشيئة الله وعلمه، مثبتة في قضائه وقدره، وأن من الأسباب القريبة الظاهرة لأفاعيلنا إنما هي قدرتنا وإرادتنا فمن نظر اليها قاصرا نظره الى هذه الأسباب القريبة، قال بالقدر والتفويض، أي واقعة بتقديرنا، مفوضة الى تدبيرنا.
قال النبي (صلى الله عليه وآله):
" القدرية مجوس هذه الأمة "
، لأنهم يثبتون مبدأين كالمجوس القائلين بيزدان، , وأهرمن.
ومن نظر الى السبب الأول، وعلم كون تلك الأسباب والوسائط بأسرها مستندة على الترتيب المعلوم في سلسلة العلل والمعلولات الى الله استنادا واجبا وترتيبا معلوما على وفق القضاء والقدر، وقطع النظر عن الأسباب القريبة مطلقا، قال بالجبر، وخلق الأفعال، ولم يفرق بينها وبين أفعال الجمادات.
وكلاهما أعور يبصر بإحدى عينيه. أما القدرية فبالعين اليمنى - أي النظر الأقوى الذي به يدرك الحقائق - وأما الجبرية فباليسرى - أي الأضعف الذي به يدرك الظواهر - فأما من نظر حق النظر فأصاب، فقلبه ذو عينين، يبصر الحق باليمنى فيضيف الأفعال إليه خيرها وشرها، ويبصر الخلق باليسرى فيثبت تأثيرهم في الأفعال به سبحانه لا بالاستقلال، ولا بمعنى الاشتراك كما توهم بل بمعنى آخر يعلمه العارف الحكيم، وأشار اليه الصادق (عليه السلام) " لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين " ، فيذهب اليه ويتذهب به وذلك هو الفضل الكبير.
روى صاحب الكافي رحمه الله، عن علي بن ابراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس عبد الرحمن [عن غير واحد] عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون.
قال: فسئلا (عليهما السلام): هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض.
وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن صالح بن سهل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام): سئل عن الجبر والقدر؟ فقال: لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما، فيها الحق التي بينهما؛ لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم.
وأما من أضاف الأفعال الى الله تعالى بنظر التوحيد، وإسقاط الإضافة، ومحو الأسباب والمسببات كما هي عليها عند الغايات، وعند فناء الممكنات، لا بمعنى خلق الأفعال فينا، أو خلق قدرة وإرادة جديدتين مستقلتين عند صدور الفعل عنا - كما عليه المجبرة -، فهو الذي طوى بساط الكون، وخلص عن مضيق البون، وخرج من البين والأين وفني في العين، لكنه تروح في المحو، ولم يجئ الى الصحو، مستغرقا في عين الجمع، محجوبا بالحق عن الخلق، ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وسبحات وجهه وذاته، الى ملاحظة صفاته، فاضمحلت الكثرة في شهوده، واحتجب التفصيل عن وجوده، وذلك هو الفوز العظيم.
فإذا رجع الى الصحو بعد المحو، نظر الى التفصيل في عين الجمع، غير محتجب برؤية الحق عن الخلق، ولا بالخلق عن الحق، ولا مشتغلا بوجود الصفات عن الذات، ولا بالذات عن الصفات، فذلك هو الولي المحق، والصديق المحقق، صاحب التمكين والتحقيق، ينسب الأفعال الى الله بالايجاد، ولا يسلبها بالكلية عن العباد، كما في قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17]. وذلك هو الفوز العظيم والمن الجسيم.
عقدة وحل
[بماذا يتفاضل السعيد على الشقي]
ولعلك تضطرب أيها القدري وتصول، فتقول: إذا كانت الفضائل والرذائل والمحاسن والقبائح، والطاعات والمعاصي، وبالجملة الخيرات والشرور كلها مقدرة مكتوبة علينا قبل صدورها منا، معجونة فينا، مربوطة بأوقاتنا التي تصدر فيها عنا، فما بالنا لا نتساوى فيها ولا نتعادل؟ ولم لا نتشاكل فيها ونتماثل؟ وكيف نحترز عما يجب الاحتراز عنها، فننجو من وبالها وتبعاتها؟ وبأي شيء يتفضل السعيد على الشقي وقد تساويا فيما قدر لهما؟ وأين عدل الله فينا وقد قال تعالى:
ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق:29].
فنجيبك أيها القدري بما قد مر ذكره في تفسير قوله تعالى:
اهدنا الصراط المستقيم
[الفاتحة:6] من أن الاستعدادات مختلفة، والصور النوعية الفائضة عليها من جهة الوسائط العقلية التي (هي) مظاهر الأسماء الإلهية متنوعة، فالأرواح الإنسية بحسب الفطرة الأولى متباينة، وفي درجات القرب والبعد من الله تعالى متفاوتة، وفي مراتب الصفاء والنورية والكدورة والظلمة متخالفة.
والمواد السفلية التي هي بإزائها أيضا متفاوتة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي، فقابليتها لما يتعلق بها من الأرواح متباينة، وقد قدر الله بإزاء كل روح فيضها في قضائه، ما يناسبها من المواد، وحصل من مجموعها استعدادات مناسبة لبعض العلوم والادراكات دون بعض، موافق لبعض الأعمال والصناعات دون بعض، على ما قدر لها في العناية الأولى والقضاء السابق، كما قال: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وتتفاوت العقول والإدراكات، والأشواق والإرادات، بحسب اختلاف الطبائع والغرائز، فينزع بعضهم بطبعه الى ما ينفر عنه الآخر، ويستحسن أحدهما بهواه، ما يستقبحه الثاني. والعناية الإلهية تقتضي نظام الوجود على أحسن ما يمكن.
وأما كيف السبيل الى الاحتراز عما يجب الاحتراز عنه، فإن شريف النفس، نجيب الجوهر، طيب الأصل؛ قلما يهم بشيء مما ليس في فطرته، ولم يقدر له من الفواحش والرذائل لعدم المناسبة، وإذا هم نادرا لغلبة صفة من صفات نفسه وقواه، ولاستيلاء داعية من دواعي الوهم وهيجان من شهوة، زجره زاجر من عقله. وهذا كما قال تعالى في حق يوسف (عليه السلام):
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف:24].
فإذا كان دون ذلك في صفاء الاستعداد، فلا ينزجر الا بزجر زاجر من الشرع والسياسة، والناصح والأديب وغير ذلك، ويستحيي منه، وإذا هم بشيء مما فطربه من المحاسن، وجد باعثا من عقله ودرايته، وناصرا من توفيقه وهدايته، فيقدر عليه بشوقه وشغفه لمناسبته إياه، لا ينتهي عنه بدفع دافع ولا يمنعه منع مانع، وإن كان دون ذلك، احتاج الى محرض باعث ومشوق من خارج.
والخسيس النفس، الخبيث الجوهر، الردي الأصل، بالعكس، وكل يشتاق الى ما يفعله بطبعه وبحبه ويستحسنه، وإن كان الثاني يعمل أن ضده أجود وأحسن، كمحبة الزنجي ولده مع قبحه، دون الغلام التركي مع علمه بحسنه، وأما حديث السعادة والشقاوة فيسأتي تحقيقه.
عقدة اخرى وحل
[لماذا الثواب والعقاب]
ثم لعلك تعود وترجع الى حال الثواب والعقاب فتقول: إذا كان الكل بقضاء الله وكتابه، فلماذا يعاقب من ساقه القدر الى ارتكاب خطيئة أو اقتراف سيئة؟
فنجيبك يا أخا القدري: بأن العقاب على فعل السيئات والخطيئات، ليس لمنتقم خارجي غضبان يريد أن ينتقم من عدوه نيلا لما يطلبه من إزالة ألم الغيظ؛ أو التشفي عن حرقة لهب الغضب، بل النفس العاصية الخاطئة، هي حمالة حطب نيرانها الى يوم القيامة.
فإنها ستحترق بنيران عقائدها الباطلة، وشهواتها الكامنة، وتلتدغ بحيات وعقارب منبعثة عند الآخرة من سموم أخلاقها وعاداتها الردية.
فمن ساء عمله، وأظلم جوهر نفسه، وكدر مرآة فطرته، وأخطأ في اعتقاده واحتجب عن مراده بحسب ما اقتضاه في أصل استعداده، فقد ظلم نفسه بظلمة جوهره، وبطلان استعداده، فكان أهلا للشقاوة في مرجعه ومعاده، ينادى على لسان المالك: " مهلا، فيداك أوكتا وفوك نفخ " كما قال سبحانه:
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
[البقرة:225] وقوله:
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[النحل:33].
فثبت وتحقق، أن ترتب العقوبات ومقابلاتها من المثوبات، هي ثمرات ولوازم، وتبعات وعوارض لأمور موجودة فينا بالقوة، تخرج اليوم الآخر من القوة الى الفعل، بل هي مطوية في نفوسنا في هذه النشأة، مكمونة في مكامن الطبيعة وغشاوات المادة، فإذا قامت القيامة وكشف الغطاء، وحشرت النفوس، ونشرت الصحائف، أظهرها الله وأبرزها، بحيث تترتب عليها المثوبة والعقوبة، وتنبعث منها النعمة والنقمة، والراحة والمصيبة، والنعيم المقيم والعذاب الأليم.
عقدة اخرى وحل
[الخلود في النار]
ولك أن تقول: إن الذي بقي من الإشكالات المتعلقة بهذا المقام، والعقود المفصلة الغير المنحلة الى الآن عند جمهور العلماء وأهل النظر والكلام - إلا من نور الله بصيرته بنور الكشف - إعضال خلود الكفار في النار بالعذاب الدائم، فإن شيئا مما ذكر من الأسباب الفاعلة، والمدبرات العالية، لا يوجب ذلك - لأنها مبرأة عن الشرور والنقائص - ولا شيئا من القوابل المادية يحتمل التعذيب الدائم والانفعال الغير المتناهي - كما بين في مقامه - والرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء تنافي التعذيب الدائم - كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى:
غير المغضوب عليهم ولا الضآلين
[الفاتحة:7].
وهذه إحدى المسائل التي من مواضع الخلاف بين علماء الكشف وعلماء الرسوم، بل هي موضع الخلاف بين علماء الكشف بعضهم مع بعض أيضا، فإنهم اختلفوا على يسرمد العذاب عليهم الى ما لا نهاية له، أو يكون لهم نعيم بدار الشقاء، فينتهي عذابهم الى أجل مسمى؟ مع الاتفاق للجميع على عدم خروج الكفار من دار البوار ومحل الأشرار، وأنهم ماكثون.
قلنا: كل ما ذكرت في باب الاستحالة في صدور التعذيب الأبدي والايلام السرمدي، وقبولهما من الجهات الفاعلة والقابلة، ومخالفة ذلك للرحمة والعناية المقتضيتين لحفظ النظام، وإقامة القوام، وإبقاء الأنواع بالديمومة السرمدية بتعاقب الأفراد وتوارد الأعداد، إنما يقتضي الاستحالة والامتناع، إذا كان المعذب واحدا شخصيا، على صورة واحدة، واستعداد واحد لقابل واحد.
وأما إذا كانت الصور متواردة على قابل واحد، والاستعدادات متعاقبة لمادة واحدة ضعيفة الوحدة واهنة الوجود ما بين صرافة الوجود الفعلية، ومحوضة العدم والقوة، كما فصح عنه قوله تعالى:
لا يموت فيها ولا يحيى
[طه:74] فتوارد العقوبات الإلهية، وتعاقب التعذيبات والنقمات الجبارية، على حسب توارد الصور المستقبحة، وتعاقب الاستعدادات الظلمانية في أزمنة متمادية الى ما لا نهاية له، كما قال تعالى:
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
[النساء:56]. مما لا ينافي شيئا من الأصول الحكمية والقواعد العقلية والسمعية.
فأهل الحجاب الكلي والشقاء الطبيعي، مما لا طريق لهم إلا طريق جهنم، ومسلك الطبيعة والهوى، وانسدت عليهم سبل الاهتداء والاتقاء من هذه الهاوية السفلى، ولا يفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة والمنزل الأعلى، والأصول الحكمية دالة على أن القسر لا يدوم على طبيعة واحدة، وأن لكل موجود غاية يصل اليها يوما، وأن الرحمة الإلهية نائلة لكل أحد، واسعة على كل شيء، كما قال تعالى:
عذابي أصيب به من أشآء ورحمتي وسعت كل شيء
[الأعراف:156].
وعندنا أيضا أصول دالة على أن الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها، كما أن الجنة ونعيمها وخيراتها دائمة بأهلها، إلا ان الدوام في كل منهما على معنى آخر، ولكل من الدارين عمار من أهلها. ولهذا المقام شروح كثيرة وتحقيقات لطيفة واستبصارات شريفة، ذكرنا طرفا منها في آخر سورة الفاتحة، وشطرا صالحا في كتاب الشواهد الربوبية، وسنستقصي القول فيها في مواضع متفرقة من هذا التفسير، إن ساعدتني المشية الإلهية النافذة في التقدير، وفيما ذكرنا كفاية ها هنا، ولنرجع الى ما نحن بصدده، مستعينين بالله وتوفيقه وتسديده.
[2.7]
لما وصف الله تعالى الكفار بأخص صفاتهم التي كانوا عليها، وهو عدم تأثرهم عند الانذار والنصيحة، والتهذيب والتعليم للإيمان، بين في هذه الآية السبب الذي لأجله لا ينجع فيهم الانذار ولا يؤثر فيهم التعليم، وهو الختم على القلوب، للقساوة والفظاظة الأصلية، والغشاوة على الأسماع والأبصار، للصمم والبكم الفطرية. وأنت تعلم أن نظام الدنيا لا ينصلح إلا بنفوس غليظة، وقلوب قاسية، وطبائع جاسية.
فلو كان الناس كلهم سعداء بنفوس خائفة من عذاب الله، وقلوب خاشعة خاضعة لآياته، وطبائع لطيفة منفعلة، لاختل النظام بعدم القائمين بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ الشداد، كالفراعنة والدجاجلة، والنفوس المكارة كشياطين الانس، والنفوس البهيمية كجهلة الكفار.
وفي الحديث الرباني: إني جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم، وقال سبحانه:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[السجدة:13].
فكون الناس على طبقة واحدة، ينافي الحكمة والعناية، وهو إهمال سائر الطبقات الممكنة الوجود في مكمن الإمكان، من غير أن تخرج من القوة الى الفعل، وخلو أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها، فلا يتمشى النظام، ولا تنصلح العمارة إلا بوجود الأمور الخسيسة والنفوس الدنية المحتاج اليها هذه الدار، التي يقوم بها أهل الظلمة والحجاب ويتنعم بها أهل الذلة والقسوة وسائر الأنعام والدواب، المبعدين عن دار الكرامة والنور، المطرودين عن عالم المحبة والسرور.
فوجب في العناية الأولى والحكمة الكبرى، التفاوت في الاستعدادات لمراتب الدرجات، في الشرف والخسة، والصفاء والكدورة، والعلو والدناءة.
وثبت بموجب القضاء اللازم النافذ في القدر المتحتم، الحكم بوجود السعداء والأشقياء جميعا، والمؤمنين والكفار والمنافقين كلا.
قال بعض المكاشفين: يدخل أهل الدارين؛ السعداء بفضل الله في دارهم، وأهل النار بعدل الله فيها، وينزلون فيهما بالأعمال، ويخلدون فيهما بالنيات. وفي المقام أسرار أخرى تركناها الى مقام آخر.
تبصرة
[الختم وقول الأشاعرة فيه]
الختم والكتم؛ أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له، والغشاوة: الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه. وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.
واختلف الناس في هذا الختم، أما القائلون بالقضاء والقدر في الكل، فهو من فعل الله من جهة خصوصية بعض القوابل المتخالفة الطبائع والصور كما مر، ولهم قولان:
منهم من قال: إن الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار، ومنهم من قال: خلق الداعية التي إذا انضمت الى القدرة، صار مجموع القدرة معها سببا لوقوع الكفر.
والحق، أن الختم موجود لبعض الكفار لا للجميع، وهو بمنزلة طبيعة جبلية لذلك البعض، مستحيل الانفكاك عنه، وتقريره: أن الذي يحصل منه الكفر، إما أن لا يكون قادرا على تركه، أم يكون.
فعلى الأول، كان مبدأ الكفر صفة لازمة لا من غير اختياره وعلى الثاني كانت نسبة قدرته الى فعل الكفر وتركه على السواء، فإما أن تكون صيرورتها مصدرا لأحد الطرفين دون الآخر، يتوقف على انضمام مرجح أولا، وعلى الثاني، يلزم صدور الممكن من غير مرجح، وتجويزه يؤدي الى القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر، وينسد منه باب اثبات الصانع، وذلك باطل.
وعلى الأول: إما أن يكون المرجح من فعل الله، أو من فعل العبد. وعلى الثاني يلزم التسلسل في الأفعال الاختيارية للعبد، وهو محال، وعلى الأول، وهو كون المرجح - ولنسمه الختم - من فعل الله، يلزم المطلوب.
فنقول: إذا انضم ذلك المرجح الى تلك القدرة، فإما أن يصير صدور الكفر واجبا، أو جائزا، أو ممتنعا. والأخيران باطلان، فتعين الأول. أما بطلان كونه جائزا: فلأنه لو كان جائزا، لكان يصح صدوره في وقت وتركه في وقت آخر. فلنفرض وقوعه - إذ المفروض جوازه والجائز ما لا يلزم من فرض وقوعه محال - فذلك المجموع، تارة يترتب عليه الأثر، وأخرى لا يترتب عليه، واختصاص أحد الوقتين بترتبه عليه، إما أن يتوقف على انضمام قرينة إليه أولا يتوقف، فإن توقف، كان المرجح هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة، لا ذلك المجموع، والمفروض خلافه، هذا خلف.
وايضا، فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني، فإن توقف على قيد آخر، لزم التسلسل، وهو محال، وإن لم يتوقف، حصل ذلك المجموع، بحيث يكون مصدرا تارة للأثر، وأخرى لا يكون كذلك مع انه لم يتميز أحد الوقتين بأمر لا يكون في الوقت الآخر عنه، فيكون هذا قولا بترجح الممكن لا عن مرجح، وهو محال.
فثبت أن عند حصول ذلك المرجح، يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزا، وأما انه لا يكون ممتنعا فظاهر، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحا للعدم، وهو محال. وإذا بطل القسمان فثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من تلك القدرة ومن ذلك المرجح.
وإذا عرفت هذا، كان خلق الداعية موجبة للكفر، أو الأمر الجبلي الموجب له، ختما على القلب، ومنعا عن قبول الإيمان، فهذا هو السبب الفاعلي، والذي ذكرنا في الفصل المتقدم هو السبب الغائي لوجود الختم وأشباهه، كالطبع والرين والغشاوة والصمم والبكم وغيرها، فإنه تعالى لما حكم بأنهم لا يؤمنون، ذكر عقيبه ما يجري مجرى السبب الموجب له، لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول، والعلم بذي السبب لا يكمل إلا من جهة العلم بسببه، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات الى الله على ترتيب الأسباب والمسببات، وأما الأشاعرة، فهم بمعزل عن ذكر المرجح والعلة ها هنا؛ لانكارهم القول بالعلة والمعلول مطلقا.
فصل
[اقوال المعتزلة في المراد من الختم]
وأما المعتزلة، فلما لم يجوزوا بناء على أصولهم خلق الكفر وما يشبهه وما يستدعيه من قبل الله تعالى، لا يجوز عندهم إجراء هذه الآية على ظاهرها من المنع من الإيمان، سيما وقد ذم الله كفارا قالوا: إن على قلوبنا أكنانا وغطاء وفي آذاننا وقر، فقد التجأوا الى حمل الختم والغشاوة على أمور أخرى. قالوا: لأن إسناد الختم الى الله - مع كونه دالا على المنع من قبول الحق والتوصل اليه بطرقه - إسناد أمر قبيح اليه تعالى، والله يتعاظم عمن فعل القبيح علوا كبيرا، لعلمه بقبحه، وعلمه بغناه عنه، وقد نص على تنزيه ذاته عنه بقوله:
ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق:29].
ولكن كانوا هم الظالمين
[الزخرف:76].
إن الله لا يأمر بالفحشآء
[الأعراف:28]. ونظائر ذلك. فذكروا في الآية وجوها من المحامل والتأويلات:
أحدها: القصد الى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها، وأما إسناد الختم الى الله، فللتنبيه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها، كالشيء الخلقي غير العرضي، ولهذا قال:
بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون
[النساء:155]. ألا ترى الى قولهم: فلان مجبول على كذا، مفطور عليه؟ يريدون أنه بليغ في الثبات عليه.
وثانيها: إنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، والشيطان هو الخاتم بالحقيقة، أو الكافر. إلا ان الله تعالى لما كان هو الذي أقدرهم على ذلك، أسند اليه الختم كما يسند الفعل الى المسبب.
قال صاحب الكشاف: إن للفعل ملابسات شتى، يلابس الفاعل والمفعول به، والمصدر والزمان والمكان والمسبب، فإسناده الى الفاعل حقيقة، والى غيره استعارة، لمضاهاتها الفاعل في ملابسته، فيقال: عيشة راضية، وشعر شاعر، ونهاره صائم، وطريق سائر، وبنى الأمير المدينة.
وثالثها: إنهم أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا الى الذكر، وكان ذلك عند إيراد الله تعالى الدلائل، فأضيف ما فعلوا الى الله تعالى، لأن حدوثه إنما اتفق عند ايراده تعالى دلائله عليهم، كقوله تعالى في أهل التوراة:
فزادتهم رجسا إلى رجسهم
[التوبة:125]. أي ازدادوا بها كفر الى كفرهم.
ورابعها: أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما به في قولهم:
قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب
[فصلت:5].
ونظيره في الحكاية والتهكم قوله:
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة
[البينة:1].
وخامسها: إن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله خالية عن الفطن، أو قلوب مقدرة ختم الله عليها. ونظيره: سال به الوادي: إذا هلك، وطارت به العنقاء: إذا طالت غيبته.
وسادسها: إن المراد من الختم من الله على قلوب الكفار، وهو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي الى الحق، كما يقول الرجل لصاحبه: أريد أن يختم على ما يقوله فلان أي يصدقه ويشهد بأنه حق، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية أنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم.
وسابعها: ما قال بعضهم: إنها جاءت في قوم مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقابا لهم في العاجل، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا، كما قال تعالى:
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين
[البقرة:65]. وقال تعالى
قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
[المائدة:26].
ونحو هذا من العقوبات المعجلة، لما علم الله فيها من العبرة للعباد والمصلحة لهم. فيكون من هذا ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع. إلا أنهم إذا صاروا بذلك الى أن لا يفهموا، سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ. وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ. ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعا يمنعهم عن الفهم والاعتبار، إذا علم أن ذلك أصلح لهم، كما يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم، ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين.
وثامنها: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه، كما قد أخبر أنه يعميهم، قال:
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما
[الإسراء:97]. وقال:
ونحشر المجرمين يومئذ زرقا
[طه:102]. وقال:
لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون
[الأنبياء:100].
وتاسعها: ما حكوه عن الحسن البصري، - وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي-: أن المراد بذلك علامة وسمة وسم بها قلوبهم وسمعهم، يعرفها الملائكة ويعرفونهم بها أنهم كفار، فيبغضونهم وينفرون عنهم، كما لا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة يعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله، كما قال تعالى:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22] وحينئذ يحبونهم ويستغفرون لهم، والفائدة في تلك العلامة، مصلحة تعود الى الملائكة.
وقالوا: وإنما خص السمع والقلب بذلك، لأن أحدهما للأدلة السمعية، والأخرى للعقلية.
وهؤلاء لم يحملوا الغشاوة في البصر أيضا على معنى العلامة والسمة، كما حملوا الختم عليه، محافظة على مقتضى اللغة من غير مانع في الختم، إذ لا مانع من حمله على معناه، بخلاف الغشاوة، لأنها الغطاء المانع عن الإبصار، ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك، فلا بد فيه من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية.
وعاشرها: إن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت، بحيث لم يبق لهم طريق الى تحصيل ايمانهم سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يقع الإلجاء والقسر إبقاء على غرض التكليف، عبر عن تركه بالختم، فإنه سد لإيمانهم وفيه إشعار على ترامي أمرهم في الغي والضلال، وتناهي انهماكهم في البطلان والوبال.
فهذا مجمع ما ذكروه في هذا المقام.
فصل
[وعلى سمعهم وعلى أبصارهم...]
أكثر المفسرين على أن قوله: { وعلى سمعهم } معطوف على قوله: { على قلوبهم } ، وفاقا لقوله تعالى:
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة
[الجاثية:23], ولما مر من أن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من طريق السمع، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من طريق القلب، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب، جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما، الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابل، جعل المانع عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة.
والفائدة في تكرير الجار في قوله: { وعلى سمعهم } ، لاستقلال كل منهما بالحكم، ولأنها لما اعيدت في السمع، كان أدل على شدة الختم في الموضعين، وإنما وحد السمع للأمن من اللبس، كما يقال: أتاني برأس كبشين، وكقوله (عليه السلام): " كلوا في بعض بطنكم " ولأن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع، فروعي الأصل، دل عليه جمع الأذن في قوله:
وفي آذاننا وقر
[فصلت:5].
ووجه ثالث: وهو تقدير مضاف محذوف، أي وعلى حواس سمعهم، ووجه رابع إنه محفوف بين الجمعين فيراد به الجمع أيضا، كما قال تعالى:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257].
عن اليمين وعن الشمال
[ق:17]. وقرأ ابن أبي عبلة: وعلى أسماعهم.
والأبصار: جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق على القوة الباصرة، وعلى العضو، كما يطلق العقل - وهو إدراك الكليات - على القوة الناطقة، وعلى الشخص المحسوس، وهذا ليس من باب المجاز كما زعموه، بل لعلاقة اتحادية بين الفعل والفاعل، والقوة وذي القوة، كما بين العقل والعاقل، والنفس والبدن، كما ذهب اليه بعض أعاظم الفلاسفة المسمى " بفرفوريوس " ، ودل عليه كلام استاذه معلم الفلسفة القديمة " أرسطاطاليس " في كتابه الموسوم بمعرفة الربوبية.
وكذا الكلام في السمع، حيث يطلق على الإدراك وقوته ومادته، واختلف الناس في كون أيهما أفضل، فقيل: السمع، لأن الله حيث ذكرهما، قدمه على البصر، والتقديم علامة التفضيل، ولأنه شرط النبوة بخلاف البصر، ولهذا ما بعث نبي أصم، وقد كان فيهم مبتلى بالعمى، ولما مر من كونه متصرفا في الجهات دون البصر، ولأنه متى بطل، بطل النطق، والعين إذا بطلت لم يبطل النطق، ولأن بالسمع تصل نتايج العقول بعضها الى بعض، فهو كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات.
أقول: وفي هذا الوجه محل نظر، وكأن مراد القائل، إن الواسطة بين السمع والعقل أقل مما بين البصر والعقل، فإن العقل يفهم المعاني من النقوش والكتابة بواسطة دلالتهما على الألفاظ، ودلالة الألفاظ على الصور العقلية، ويفهمهما من النقوش السمعية لدلالتها على الصور العقلية بلا واسطة، وكأن الهواء بما فيه من صور الألفاظ صحيفة مكتوبة يدل على المعاني من غير توسط الألفاظ، لأنها نفس الألفاظ.
وقيل: بأن البصر أقدم، لأن آلة القوة الباصرة أشرف، ولهذا يقال لهما: كريمتان. وفي الحديث:
" من أحب كريمتاه لا يكتبن بالعصر "
، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلق القوة السامعة هو الريح.
أقول: ولأن البصر يعم إدراكه القريب والبعيد الى فلك البروج، والسمع لا يتعدى إدراكه عن كرة البخار، ولأن إدراك البصر دفعي وإدراك السمع زماني تدريجي، والأول أشرف، لكونه يشبه إدراك العقل والثاني يشبه الحركة والاستحالة، ومعلوم أن العقل أشرف من الحركة، لأنه أشرف الجواهر، وهي أخس الأعراض، والشبيه بالأشرف أشرف من الشبيه بالأخس، فالبصر أشرف من السمع.
فصل فيه ذكر مشرقي
[السمع أشرف من البصر]
لعلك كنت ناظرا فيما ذكرنا من قبل في المفاتيح الغيبية، الفرق بين كلام الله وكتابه، وان احدهما - لكونه من عالم الأمر والإبداع - أشرف من الآخر - لكونه من عالم الخلق والتقدير -.
فاعلم أن للنفس الإنسانية المخلوقة على صورة الكمال، وهي على بينة من ربها، كتابا وكلاما وهما يدلان على كلام الله وكتابه، يشهدان عليهما، الكلام على الكلام والكتاب على الكتاب، وكل منهما غير صاحبه بوجه، وعينه بوجه آخر، كما مر بيانه.
فكلام الحق يدرك بالسمع الباطني، وكتابه يدرك بالبصر الباطني.
وأما كلام النفس وكتابها، فهما يدركان بهذا السمع وهذا البصر الحسيين الظاهرين.
فإذا تقرر هذا، ظهر وجه كون السمع أقدم من البصر في الشرف والفضيلة، ولهذا قدم ذكره على ذكر البصر في القرآن كما مر.
ومما يزيدك استيضاحا، أن النفس الإنسانية متى استيقظت من نوم الجهالة وسنة الغفلة، وتجاوزت حدود البهيمية، فأول ما أدركته هو العدد، وبه صارت عادة ماسحة، والعدد والمساحة من الخواص الشاملة للنفس الناطقة، لارتفاع الملائكة العقلية عنها، وانحطاط النفوس الحيوانية عن نيلها.
فالنفس الآدمية هي العادة الماسحة، كما تقرر عند القوم؛ فهي في بداية أمرها عرفت مراتب العدد، لتعلم بها مراتب الملكوت الباطنة، ولكل مرتبة منها اسم يخصه، فتولدت من مراتب العدد أساميها، لكن بحكم أن الكلام إنما يتأتى من جهة السمع، فالحروف والأصوات صارت محصلة لتلك الأسامي تحصيل البسيط للمركب، فكما أن الأسامي المركبة دالة على أشخاص وأعداد مركبة، سواء كان في عالم الحس كزيد وعمرو، أو في عالم العقل كالمعقول من الإنسان، والفرس والياقوت والعسل وغيرها، فكذا الحروف المبسوطة، دالة على أعداد بسيطة، كالعقل والنفس والطبيعة والهيولى.
وأسبق الحروف هي حروف المد سيما الألف، فلذلك صارت حرف أول الموجودات البسيطة الذوات، ثم تحصل المركبات من هذه البسائط، كما تتألف الأسامي من الحروف الوحدان، وأسامي المفردات وأرقامها من أرقام المفردات بتركيب مفردات كل من هذه العوالم العقلية العددية، والسمعية اللفظية، والحسية الرقمية.
فالأعداد دلائل على عالم العقل، والحروف بأصواتها دلائل على عالم المثال البرزخي، والأرقام المادية دلائل على عالم الحس والشهادة.
فالعدد وجوده في لوح النفس، والحروف وجودها في صحيفة الهواء النفسي المتحرك بسبب قوة التكلم، وإنما يدركها السمع لا البصر. والبصر يدرك نقوشا كتابية للحروف والأسامي الدالة عليها، وعلى ما في النفس، فللأشياء وجود في النفس، ووجود في النفس الإنساني، وهو الهواء اللطيف الخارج من باطنه، بإزاء النفس الرحماني المبعث من فيض وجود الحق، المنبسط على هياكل الماهيات وصحائف القابليات، ووجود في الكتابة.
فالأول ليس بمداخلة وضع وتعمل، بخلاف الأخيرين، والأول قول النفس، والثاني كلامها والثالث كتابها.
فعلى ما قررنا من المقدمات، ثبت أن الكلام أشرف من الكتابة، كما أن القول أشرف من الكلام، فقد تحقق وتبين أن السمع أشرف من البصر.
فصل
[اللغة والقراءة]
ذكر صاحب الكشاف: قرأ " غشاوة " بالكسر والنصب، و " غشاوة " بالضم والرفع، و " غشاوة " بالفتح والنصب، و " غشوة " بالكسر والرفع، و " غشوة " بالفتح والرفع والنصب، و " عشاوة " بالعين غير المعجمة والرفع من " العشاء ".
والغشاوة: هي الغطاء، ومنه الغاشية، ومنه غشي عليه، أي زال عقله، والغشيان: كناية عن الجماع.
والعذاب: مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول: أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: نكل عنه، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف الملح فإنه يزيده، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لانه ينقخ العطش، أي: يكسره، وفراتا، لأنه يرفته عن القلب. ثم اتسع فيه فسمي كل ألم قادح عذابا، وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
والفرق بين العظيم والكبير: أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا تقول: رجل عظيم وكبير، تريد جثته أو خطره، ومعنى التنكير: أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.
فصل
[عذاب الكفار وخلودهم في النار]
اتفق أهل الإسلام، على أنه يحسن من الله تعذيب الكفار وقال بعضهم: لا يحسن، أما الفرقة الأولى، فمستندهم ادلة سمعية كالكتاب والخبر والإجماع، وأما الفرقة الثانية فمستندهم دلائل عقلية.
الأول: انه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، وذلك لحكمة النظام ومصلحة الخلائق، لما مر من أن الناس لو كانوا كلهم صلحاء مؤمنين خائفين من عقاب الله، لاختل نظام الدنيا، وبطلت أسباب المعيشة، ولما بينا ان صدور الفعل عن قدرة العبد، يتوقف على انظمام الداعية من العلم والإرادة وغيرها، وبعد انضمام الداعي يجب صدور الفعل، وحصول الداعي ليس بقدرته، وإلا لكان للداعي داع آخر، ويعود الكلام جذعا فيتسلسل، وهو محال، أو ينتهي الى داع حصل بخلق الله لا بقدرة العبد، فإذا كان الله هو الخالق للدواعي الشيطانية التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها.
وربما قرروا هذا بوجه آخر وقالوا: إذا كانت التكاليف الشرعية قد جاءت الى شخصين، فقبلها أحدهما فأثيب، وخالفها الآخر فعوقب، فإذا سئل: لم أطاع هذ وعصى الآخر؟
فيجاب: لأن المطيع أحب الثواب وحذر العقاب، والعاصي لم يحب ولم يحذر، أو لأن هذا أصغى الى من وعظه وفهم عنه مقالته، فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم، فعصى.
فيقال: ولم أحب الخير هذا وأصغى وفهم، ولم يكن الآخر كذلك ولم يفهم؟
فيجاب: لأن هذا حازم لبيب فطن، وذاك أخرق جاهل غبي.
فيقال: ولم خص هذا بالعقل والفطنة دون ذاك؟ ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية، فإذا تناهت التعليلات الى أمور خلقها الله اضطرارا، فعلم أن سبب الطاعة والعصيان، والتوفيق والحرمان، من الأشخاص، أمور واقعة عليها بقضاء الله وتقديره.
وعند هذا يقال: أين من العدل والرحمة أن يخلق في عبد من الفظاظة والقساوة والغباوة والطيش والخرق ما يوجب عنه صدور العصيان، ثم يعاقب عليه، وهذه مما هو مجبول عليه، كما جبل على أضدادها الطائع.
وأين من العدل أن يسخن قلب العاصي ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه، ولا يرزقه ما يرزق المطيع من أستاذ سليم، ومؤدب عليم، وواعظ مبلغ، وناصح شفيق، بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم، فيكتسب منهم ما يكسبه المطيع، ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم العالم، البارد طبيعة الراس، الصبور، المعتدل مزاج القلب، الزكي، اللطيف الروح، الدراك، يقظان النفس، الحازم. ما هذا من العدل والكرم والرحمة، فثبت بهذا أن القول بالعقاب على خلاف قضية العقول.
الثاني: أن التعذيب في الآخرة ضرر خال من جهات المنفعة، أما أنه ضرر فظاهر، وأما انه خال عن جهات النفع، فلأن تلك المنفعة إما عائدة الى الله او الى غيره، والأول باطل، لتعاليه عن وسمة التغير والانفعال. والثاني أيضا باطل، لأنها إما عائدة الى المعذب، أو الى غيره، أما اليه فهو محال، لأن الإضرار لا يكون عين الانتفاع وأما الى غيره فهو محال، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من ايصال النفع، فايصال الضرر الى شخص لغرض ايصال النفع الى آخر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو باطل.
وأيضا، فلا منفعة يريد الله ايصالها الى أحد إلا وهو قادر عليه بوجوه شتى، فالإضرار عديم الفائدة.
فثبت أن التعذيب ضرر خال عن جميع جهات المنفعة، وأنه معلوم القبح بديهة، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الغير الضار، والجهل الغير الضار، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار؛ لأن الكذب الضار وسيلة الى الضرر، وقبح وسيلة الضرر دون قبح نفس الضرر.
وإذا ثبت قبح التعذيب، امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم، والحكيم لا يفعل القبيح.
الثالث: انه كان عالما بأن الكافر لا يؤمن، كما اخبر عنه في الآية السابقة، فمتى كلف لم يظهر منه إلا العصيان، وهو يكون سببا للعقاب فكان ذلك التكليف مستعقبا لاستحقاق العذاب، أما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطرها. فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحا لكونه مستعقبا للضرر الخالي عن النفع، والحكيم لا يفعل القبيح، فوجب أحد الأمرين: إما عدم التكليف أو عدم العقاب وعلى أيهما فالمطلوب حاصل.
الرابع: إنه سبحانه، إنما كلفنا النفع لعوده إلينا، لأنه تعالى قال:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
[الإسراء:7]. فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنسانا ويقول: إني أعذبك العذاب الشديد لأنك فوت على نفسك بعض المنافع، فإنه يقول له: إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة الى دفع الضرر، فهب اني فوت على نفسي أدون المطلوبين، فأنت تفوت علي لأجل ذلك أعظمها، أو هل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول: إنك قدرت على أن تكتسب دينارا لنفسك لتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه شيء ألبتة، فلما لم تفعل، فأنا أعذبك وأقطع اعضاءك إربا إربا. لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين؟!
ثم قالوا: هب أنا سلمنا هذا العقاب، فمن أين القول بالدوام، وذلك لأن أقسى الناس قلبا وأشدهم غلظة وبعدا عن الخير والرحمة؛ إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه عذبه يوما أو شهرا أو سنة، ثم إنه يشبع منه ويمل، ولو بقي مواظبا عليه يلومه كل أحد ويقال: هب أنه بالغ في الإساءة والإضرار بك، ولكن الى متى هذا التعذيب؟ فإما أن تقتله وتريحه، وإما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال؟!
الخامس: أنه تعالى نهى عباده من استيفاء الزيادة، فقال تعالى:
فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا
[الإسراء:33].
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى:40].
ثم إن العبد هب أنه عصى طول عمره، فأين عمره من الأبد، فيكون العذاب المؤبد ظلما؟
السادس: إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات؛ عفى الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته. أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول اولئك المعذبين ما بقيت، فلم يتوبون عن معاصيهم، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله توبتهم؟ ولم لا يسمع دعاءهم ولم يخيب رجاءهم، ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم الى حيث قال:
ادعوني أستجب لكم
[غافر:60].
أمن يجيب المضطر إذا دعاه
[النمل:62]. وصار في الآخرة بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد، فانه لا يخاطبهم إلا بقوله:
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون:108]؟!
قالوا: فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب.
واعلم أن أكثرها مبنية على أصول المعتزلة من التحسين والتقبيح العقليين، وأن الأصلح واجب على الله، ولا محيص لهم عنها من جهة العقل.
والأشاعرة أجابوا عن هذه الشبه بمنع صحة تلك الأصول، وبما تواتر من الآيات والأخبار المنقولة من الرسول (صلى الله عليه وآله)، الورادة في باب خلود الكفار في عذاب النار.
وأما على أصولنا الحكمية الإيمانية، فالجواب عنها بما مر من أن العقوبة إنما لحق الكفار، لا من جهة انتقام منتقم خارجي، يفعل الإيلام والتعذيب على سبيل القصد وتحصيل الغرض، حتى يرد السؤال في الفائدة وعدم الفائدة او في كون المنفعة عائدة إليه تعالى أو الى العبد، بل العقوبة إنما تلحقهم من باب اللوازم والتبعات والنتايج والثمرات، فهذا هو الجواب بحسب الأصول الحقة عن الإشكال الوارد على أصل العقاب.
وأما الإشكال الوارد على دوام العذاب وأبديته للكفار، فوروده من جهة أخرى غير جهة التحسين والتقبيح، فلذلك كان موجب تحير الحكماء ودهشة أفاضل العرفاء، حتى أن الشيخ العارف السبحاني محيي الدين الأعرابي وتلميذه الشيخ صدر الدين القونوي قدس سرهما، صرحا القول بانتهاء مدة العقاب وعدم تسرمد العذاب، وتبعهما غيرهما من شراح الفصوص ومن يحذو حذوهم.
قال في الفص الإسماعيلي: " الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز:
فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله
[إبراهيم:47]. ولم يقل: ووعيده: بل قال:
ونتجاوز عن سيئاتهم
[الأحقاف:16] مع انه توعد على ذلك.
وقال في الفص اليونسي من فصوص الحكم بعدما بين فضيلة الإنسان وشرفه بهذه العبارة: " ولا بد أن يكون في الإنسان جزء يذكر الحق به، ويكون الحق جليس ذلك الجزء، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية، وما يتولى الحق هدم هذه النشأة بالمسمى موتا، فليس بإعدام، وإنما هو تفريق، فيأخذ اليه وليس المراد إلا أن يأخذه الحق اليه، واليه يرجع الأمر كله، فإذا أخذه الحق اليه، سوى له مركبا من جنس الدار التي ينتقل اليها، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال، فلا يموت أبدا، أي لا تفترق أجزاؤه، وأما أهل النار، فمآلهم الى النعيم، ولكن في النار، إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العذاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها، وهذا نعيمهم، فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله (عليه السلام) حين ألقي في النار " - انتهى.
وقال في الباب الثامن والخمسين " وأما كتاب الفجار ففي سجين، وفيه أصول السدرة التي هي شجرة الزقوم فهناك تنتهي أعمال الفجار في أسفل السافلين، فإن رحمهم الرحمن من عرش الرحمانية بالنظرة التي ذكرناها، جعل لهم نعيما في منزلهم فلا يموتون فيه ولا يحيون، فهم في نعيم النار دائمون مؤبدون كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور، وربما يكون في فراشه مريضا ذا بؤس وفقر، ويرى نفسه في المنام ذا سلطان ونعمة وملك.
فإن نظرت الى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذ به، قلت: إنه في نعيم وصدقت، وإن نظرت إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشن ومرضه وبؤسه وفقره وكلومه، قلت: إنه في عذاب.
هكذا يكون أهل النار، (لا يموت فيها ولا يحيى) أي لا يستيقظ أبدا من نومته، فتلك (هي) الرحمة التي يرحم الله بها أهل النار الذين هم أهلها وأمثالها، كالمحرور منهم يتنعم بالزمهرير، والمقرور منهم يجعل في الحرور.
وقد يكون عذابهم توهم وقوع العذاب بهم، وذلك كله بعد قوله:
لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون
[الزخرف:75] ذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمة التي سبقت الغضب الإلهي، فإذا اطلع أهل الجنان في هذه الحالة على أهل النار ورأوا منازلهم في النار، وما أعد الله فيها، وما هي عليه من قبح المنظر، قالوا: معذبون، وإذا كوشفوا على الحسن المعنوي الإلهي في خلق ذلك المسمى قبحا ورأوا ما هم فيه من نومتهم، وعلموا أحوال أمزجتهم، قالوا: منعمون، فسبحانه القادر على ما يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فقد فهمت قول الله تعالى:
لا يموت فيها ولا يحيى
[طه:74].
وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" أما أهل النار الذين هم أهل فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون "
انتهى.
وقال في الباب الثامن والخمسين وثلاثمائة من الفتوحات المكية: اعلم - أسعدنا الله وإياك بسعادة الأبد - أن النفس الناطقة سعيدة في الدنيا والآخرة، لا حظ لها في الشقاء، لأنها ليست من عالم الشقاء، إلا ان الله ركبها هذا المركب البدني المعبر عنه بالنفس الحيوانية، فهي لها كالدابة، وهي كالراكب عليها، وليس للنفس الناطقة في هذا المركب الحيواني إلا المشي بها على الصراط المستقيم الذي عينه لها الحق، فإن أجابت النفس الحيوانية لذلك، فهي المركب الذلول المرتاض، وإن أبت، فهي الدابة الجموح، كلما أراد الراكب أن يردها الى الطريق، جمحت وحرنت عليه، وأخذت يمينا وشمالا لقوة رأسها، وسوء تركيب مزاجها.
فالنفس الحيوانية، ما تقصد المخالفة ولا تأتي المعصية انتهاكا لحرمة الشريعة، وإنما تجري بحسب طبعها، لأنها غير عالمة بالشرع، واتفق انها على مزاج لا يوافق راكبها على ما يريد منها.
والنفس الناطقة، لا يتمكن لها المخالفة، لأنها من عالم العصمة والأرواح الطاهرة، فإذا وقع العقاب يوم القيامة، فإنما يقع على النفس الحيوانية، كما يضرب الراكب دابته إذا جمحت وخرجت عن الطريق الذي يريد صاحبها أن يمشي بها عليه.
ألا ترى الحدود في الزنا والسرقة والافتراء، إنما محلها النفس الحيوانية البدنية، وهي التي تحس بألم القتل وقطع اليد وضرب الظهر، فقامت الحدود بالجسم، وقام الألم بالنفس الحساسة الحيوانية التي يجتمع فيها جميع الحيوان المحس للآلام.
فلا فرق بين محل العذاب من الإنسان، وبين جميع الحيوان في الدنيا والآخرة.
والنفس الناطقة على شرفها مع علمها في سعادتها دائمة، ألا ترى أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قام لجنازة يهودي فقيل له: إنها جنازة يهودي؟! فقال: أليست نفسا فما علل بغير ذاتها، فقام إجلالا وتعظيما لشرفها ومكانتها.
وكيف لا يكون لها الشرف وهي منفوخة من روح الله، فهي من العالم الأشرف الملكي الروحاني، عالم الطهارة. فلا فرق بين النفس الناطقة الموجودة لكل أحد، وانها ما عصت، وإنما النفس الحيوانية ما ساعدتها على ما طلبت منها، وان الحيوانية خوطبت بالتكليف فتتصف بطاعة أو معصية.
فاتفق أن كانت جموحا اقتضاه طبعها لمزاج خاص، فاعل ذلك. وان الله يعم برحمته الجميع لأنها سبقت غضبه لما تجاريا الى الانسان " انتهى كلامه.
وقال في الباب الخامس وثلثمائة من الفتوحات أيضا: واعلم أن من الأحوال التي هي الأمهات من هذا الباب.... أحوال الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، وهو أن لا يعبدوا إلا الله، كما قال:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
[الإسراء:23] فبقوا على تلك الفطرة في توحيد الله، فما جعلوا مع الله مسمى آخر هو الله بل، جعلوا آلهة على طريق القربة الى الله، ولهذا قال:
قل سموهم
[الرعد:33]، فإنهم إذا سموهم بان أنهم ما عبدوا إلا الله، فما عبد عابد إلا الله في محل الذي نصب الألوهية له، فصح بقاء التوحيد لله الذي أقروا به في الميثاق، وان الفطرة مستصحبة.
والسبب في نسبة الألوهية لهذه الصور المعبودة؛ هو أن الحق لما تجلى لهم في أخذ الميثاق، تجلى لهم في مظهر من المظاهر الإلهية، فذلك الذي أجرأهم على أن يعبدوه في الصور.
ومن قوة بقائهم على الفطرة، أنهم ما عبدوه على الحقيقة في الصور، وإنما عبدوا الصور لما تخيلوا فيها من رتبة التقرب كالشفعاء، وهاتان الحقيقتان إليهما مال الخلق في الدار الآخرة، وهما الشفاعة والتجلي في الصور على طريق التحول.
فإذا تمكنت هذه الحالة في قلب الرجل، وعرف من العلم الإلهي ما الذي دعى هؤلاء الذين صفتهم هذا وانهم تحت قهر ما إليه يؤولون، تضرعوا الى الله في الدياجير، وتملقوا له في حقهم وسألوه أن يدخلهم في رحمته إذا أخذت منهم النقمة حدها، وإن كانوا عمار تلك الدار فيجعل لهم فيها نعيما به إذا كانوا من جملة الأشياء التي وسعتهم الرحمة العامة، وحاشى الجناب الإلهي من النقمة وهو القائل بأن رحمته سبقت غضبه، فلحق الغضب بالعدم فإن كان شيئا فهو تحت إحاطة الرحمة الإلهية الواسعة.
وقد قال (صلى الله عليه وآله):
" إن الأنبياء (عليهم السلام) يوم القيامة إذا سئلوا في الشفاعة قالوا: إن الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله "
، وهو من أرجى حديث يعتمد عليه في هذا الباب أيضا، فإن اليوم المشار اليه - وهو يوم القيامة - هو يوم قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، وفيه يكون الغضب من الله على أهل الغضب، وأعطى حكم ذلك الغضب الأمر بدخول النار، وحلول العذاب والانتقام من المشركين وغيرهم من القوم الذين يخرجون بالشفاعة، والذين يخرجهم الرحمن كما ورد في الصحيح، ويدخلهم الجنة إذا لم يكونوا من أهل النار - الذين هم أهلها - ولم يبق في النار إلا أهلها الذين هم أهلها، فعم الأمر بدخول النار كل من دخل فيها من أهلها ومن غير أهلها لذلك الغضب الإلهي الذي لن يغضب مثله بعده، فلو سرمد عليهم العذاب لكان ذلك عن غضب أعظم من غضب الأمر بدخول النار.
وقد قالت الأنبياء: إن الله لا يغضب بعد ذلك مثل ذلك الغضب، ولم يكن حكمه إلا الأمر بدخول النار، فلا بد من حكم الرحمة على الجميع، ويكفي من الشارع التعريف بقوله: " وأما أهل النار الذين هم أهلها " ولم يقل أهل العذاب.
ولا يلزم من كان من أهل النار الذين يعمرونها أن يكونوا معذبين بها، فإن أهلها وعمارها مالك وخزنتها، وهم ملائكة، وما فيها من الحشرات والحيات وغير ذلك من الحيوانات التي تبعث يوم القيامة - ولا واحد منها يكون النار عليه عذابا - كذلك من يبقى فيها، لا يموتون فيها ولا يحيون، وكل من ألف موطنه كان به مسرورا، وأشد العذاب مفارقة الوطن، ولو فارق النار أهلها، لتعذبوا باغترابهم عما أهلوا له، وأن الله قد خلقهم عل نشأة تألف ذلك الموطن.
فعمرت الداران، وسبقت الرحمة الغضب، ووسعت كل شيء - جهنم ومن فيها - والله أرحم الراحمين كما قال في نفسه.
وقد وجدنا في نفوسنا ممن جبلهم الله على الرحمة، أنهم يرحمون جميع عباد الله، حتى لو حكمهم الله في خلقه لأزالوا صفة العذاب من العالم، مما تمكن حكم الرحمة من قلوبهم، وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالي - ونحن مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض - وقد قال عن نفسه جل علاؤه: انه ارحم الراحمين، فلا يشك أنه أرحم منا بخلقه، ونحن عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة في الرحمة فكيف يتسرمد العذاب عليهم وهو بهذه الصفة العامة؟ إن الله أكرم من ذلك، ولا سيما وقد قام الدليل العقلي على أن الباري لا تنفعه الطاعات ولا تضره المخالفات، وأن كل شيء جار بقضائه وقدره وحكمه، وأن الخلق مجبورون في اختيارهم.
وقد قام الدليل السمعي على أن الله يقول في الصحيح: " يا عبادي " فأضافهم الى نفسه، وما أضاف قط العباد الى نفسه إلا من سبقت له الرحمة، وأن لا يؤبد عليهم الشقاء فقال:
" يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا ".
فقد أخبر بما دل عليه العقل، أن الطاعات والمعاصي ملكه، وأنه على ما هو عليه لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص ملكه مما طرأ عليه وفيه، فإن الكل ملكه وملكه .
ثم قال من تمام هذا الخبر الصحيح: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد منكم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. الحديث.
وما نشك انه ما من أحد إلا وهو يكره ما يؤلمه طبعا، فما من أحد إلا وقد سأله أن لا يؤلمه، وأن يعطيه اللذة في الأشياء، ولا يقدح ما أومأنا اليه في الحديث إذا تعلق به المنازع في المسألة إدخال " لو " في ذلك، فإن السؤال من العالم قد علم وقوعه بالضرورة من كل مخلوق، فإن الطبع يقتضيه، والسؤال قد يكون قولا، وحالا، كبكاء الصغير الرضيع وإن لم يعقل عند وجود الألم الحسي بالوجع أو الألم النفسي لمخالفة الغرض إذا منع من الثدي، وقد أخذت المسألة حقها. والأحوال التي ترد على قلوب الرجال لا تحصى كثرته، وقد أعطيناك منها في هذا الباب أنموذجا على هذا الأسلوب ". انتهى كلامه.
وقال العلامة القيصري في شرح الفص الهودي من الفصوص: اعلم أن من اكتحلت عينه بنور الحق، يعلم أن العالم بأسره عباد الله، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلا بالله وحوله وقوته، وكلهم محتاجون الى رحمته، وهو الرحمن الرحيم، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات، أن لا يعذب أحدا عذابا أبديا، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضا إلا لأجل ايصالهم الى كمالاتهم المقدرة لهم، كما يذاب الذهب والفضة بالنار لأجل الخلاص مما يكدره وينقص عياره، وهو متضمن لعين اللطف والرحمة كما قيل:
وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى
وقطعكم وصل وجوركم عدل
والشيخ - رضي الله عنه - إنما يشير في أمثال المواضع، الى ما فيه من الرحمة الحقانية، وهو من المطلعات المدركة بالكشف، لا انه ينكر وجود العذاب وما جاءت به الرسل من أحوال جهنم، فإن من يبصر بعينه أنواع التعذيب في النشأة الدنيوية بسبب الأعمال القبيحة، كيف ينكر في النشأة الأخروية، وهو من أكبر ورثة الرسل صلوات الله عليهم، فلا ينبغي أن يسيء أحد ظنه في حق الأولياء الكاملين الكاشفين لأسرار الحق بأمره ".
انتهى.
وقال في موضع آخر من شرحه للفصوص: اعلم أن المقامات الكلية الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاثة، وإن كان كل منها مشتملا على مراتب كثيرة لا تحصى وهي: الجنة والنار، والأعراف الذي بينهما، على ما نطق به الكلام الإلهي.
ولكل منها اسم حاكم عليه يطلب بذاته أهل ذلك المقام لأنهم رعاياه، وعمارة الملك بهم، والوعد شامل للكل، إذ وعده في الحقيقة عبارة عن ايصال كل واحد منا الى كماله المعين له أزلا، فكما أن الجنة موعود بها، كذلك النار والأعراف موعود بهما. والإيعاد أيضا شامل للكل؛ فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بالجاذب والسائق، قال تعالى:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21]. والجاذب: المناسبة الجامعية بينهما بواسطة الأنبياء والأولياء، والسائق: هو الرحمن بالإيعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحن.
كما ان الجاذب الى النار: المناسبة الجامعة بينها وبين أهلها، والسائق: الشيطان، فعين الجحيم موعود لهم لا متوعد بها.
والوعيد: هو العذاب الذي يتعلق بالاسم المنتقم، وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير. لأن أهل النار إما مشرك أو كافر أو منافق أو عاص من المؤمنين، وهو ينقسم بالموحد العارف الغير العامل والمحجوب. وعند تسلط سلطان المنتقم عليهم، يتعذبون بنيران الجحيم كما قال تعالى:
أحاط بهم سرادقها
[الكهف:29] وقالوا:
يمالك ليقض علينا ربك
[الزخرف:77].
فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون
[البقرة:86] وقال:
إنكم ماكثون
[الزخرف:77].
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون:108]. فلما مرت عليهم السنون والأحقاب، واعتادوا بالنيران ونسوا نعيم الرضوان، قالوا:
سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص
[إبراهيم:21] فعند ذلك تعلقت الرحمة بهم ورفع عنهم العذاب.
مع أن العذاب بالنسبة الى العارف الذي دخل فيها بسبب الأعمال التي تناسبها، عذب من وجه، وإن كان عذابا من آخر كما قيل: وتعذيبكم عذب - البيت.
لأنه يشاهد المعذب في تعذيبه، فيصير التعذيب سببا لشهود الحق، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذ في حقه.
وبالنسبة الى المحجوبين الغافلين عن اللذات الحقيقة أيضا، عذب من وجه، كما جاء في الحديث: إن بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار. والملاعبة لا تنفك عن التلذذ وإن كان معذبا، لعدم وجدانه ما آمن به من جنة الأعمال التي هي الحور والقصور.
وبالنسبة الى قوم يطلب استعدادهم البعد من الحق والقرب من النار - وهو المعني بجهنم - أيضا عذب وإن كان في نفس الأمر عذابا، كما يشاهد ها هنا ممن تقطع سواعدهم وترمى أنفسهم من القلاع مثل بعض الملاحدة.
وقد شاهدت رجلا سمر في أصول أصابع إحدى يديه خمسة مسامير، غلظ كل مسمار مثل غلظ القلم، واجتهد المسمر ليخرجه من يده فما رضي بذلك، وكان يفتخر به وبقي على حاله الى أن استدركه الأجل.
وبالنسبة الى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال واستعداد النقص وإن كان أليما لإدراكهم الكمال وعدم إمكان وصولهم إليه، ولكن لما كان استعداد نقصهم أغلب؛ رضوا بنقصانهم، وزال عنهم تألمهم بعد انتقام المنتقم منهم بتعذيبهم، وانقلب العذاب عذبا، كما يشاهد ممن لا يرضى بأمر خسيس أولا، ثم إذا وقع فيه وابتلي به وتكرر صدوره منه، تألف به واعتاد فصار يفتخر به بعد أن كان يستقبحه.
وبالنسبة الى المشركين الذين يعبدون غير الله من الموجودات، فينتقم منهم لكونهم حصروا الحق في ما عبدوه، وجعلوا الإله المطلق مقيدا، وأما من حيث ان معبودهم عين الوجود الحق الظاهر في تلك الصورة، فما يعبدون إلا الله، فرضي الله عنهم من هذا الوجه، فينقلب عذابهم عذبا في حقهم.
وبالنسبة الى الكافرين أيضا، وإن كان العذاب عظيما، لكنهم لم يتعذبوا به لرضاهم بما [هم] فيه، فإن استعدادهم يطلب ذلك كالأتوني الذي يفتخر بما هو فيه، وعظم عذابه بالنسبة الى من يعرف ان وراء مرتبتهم مرتبة، وان ما هم فيه عذاب بالنسبة إليها.
وأنواع العذاب غير مخلد على أهله من حيث إنه عذاب، لانقطاعه بشفاعة الشافعين، وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين، كما جاء في الحديث الصحيح، ولذلك ينبت الجرجير في قعر جهنم لانطفاء النار وانقطاع العذاب، وبمقتضى " سبقت رحمتي غضبي " فظاهر الآيات التي جاءت في حقهم بالتعذيب، كلها حق، وكلام الشيخ لا ينافي ذلك، لأن كون الشيء من وجه عذابا لا ينافي كونه من وجه آخر عذبا. وإنما بسطت الكلام لئلا ينكر على هذا الخاتم المحمدي فيما أخبر، فإن الأولياء - رضوان الله عليهم - ما يخبرون إلا ما يشاهدونه يقينا من أحوال الاستعدادات في الحضرة العلمية، وعوالم الأرواح والأجساد، لعلمهم بالحقائق وصورها في كل عالم. والله أعلم " انتهى كلامه بألفاظه.
ومما يدل أيضا على نفي تسرمد العذاب، حديث: سيأتي على جهنم زمان ينبت في قعرها الجرجير، وذكر البغوي المشهور بمحيي السنة، في معالم التنزيل، في تفسير قوله تعالى:
الذين سعدوا
[هود:108] أنه قال ابن مسعود: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.
فصل
[احتجاجات القائلين بالخلود في النار والنافين له]
واعلم أن القائلين بنفي تخليد الكفار في العذاب، زعموا أن لا دليل يفيد القطع واليقين في تخليدهم في العذاب، أما التمسك بالدلائل اللفظية، فلا يفيد اليقين، بل يفيد الظن. والدلائل العقلية في مقابلها تفيد اليقين، والمظنون كيف يعارض المقطوع؟ وإنما قلنا: " إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين " لأنها مبنية على أصول كلها ظنية، والمبني على الظني لا يكون إلا ظنيا.
وإنما قلنا إنها ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف. ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم الى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة.
وأيضا، فهي مبنية على عدم الاشتراك، وعدم التخصيص، وعدم الاضمار بالزيادة والنقصان، وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضا فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإن بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معا، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل، لأن العقل أصل النقل، فالطعن في العقل يوجب الطعن في النقل والعقل معا، لكن عدم المعارض العقلي مظنون. هذا إذا لم يوجد، فكيف [وقد] وجدنا ها هنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر.
فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية، وأما أن الظني لا يعارض فلا شك فيه.
الثاني: هو إن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين كما مر في كلام صاحب الفصوص، قال الشاعر:
فإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف معيادي ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يعد لؤما. وإذا كان كذلك وجب أن لا يقبح من الله تعالى وهذا بناء على حرف، وهو أن كثيرا من أهل الإسلام جوزوا نسخ الفعل قبل مضي مدة الامتثال، وحاصل حرفهم فيه، أن الأمر يحسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإن السيد قد يقول لعبده: إفعل الفعل الفلاني غدا وإن كان يعلم في الحال انه سينهاه غدا، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده، ويوطن نفسه على طاعته، وكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غدا، فإنه يحسن عند هؤلاء القوم أن يقول: صل غدا إن عشت. ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل الأمور به لأنه ها هنا محال، بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط. وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد.
وإذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال: الخبر أيضا كذلك، فتارة يكون منشأ الحكمة من الإخبار هو الشيء المخبر، وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر، لا المخبر عنه؛ كما في الوعيد، فإن الإخبار على سبيل الوعيد، مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حسن هذا المقصود، جاز أن لا يوجد المخبر وعند هذا قالوا: إن وعد الله الثواب حق لازم، أما توعيده بالعقاب فغير لازم، وإنما قصد به صلاح المكلفين، مع رحمته الشاملة لهم كوالد يهدد ولده بالقتل والسل والقطع والضرب، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع، وإن لم يقبل؛ فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته.
فإن قيل: فعلى جميع التقادير ذلك كذبا، والكذب قبيح.
قلنا: لا نسلم أن كل كذب قبيح، بل القبيح هو الكذب الضار، أما الكذب النافع فلا، ثم - إن سلمنا - لكن لا نسلم انه كذب.
أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا نسمي ذلك كذبا؟ أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها وعند الأكثر لا يسمى ذلك كذبا؟ فكذا ها هنا.
الثالث: أليس أن آيات الوعيد في حق الكفار مشروطة بعدم التوبة، وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا في صريح النص، فهي أيضا عندنا مشروطة بعدم العفو، وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا.
أو نقول: معناها: أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب، فيحمل الإخبار عن الوقوع الى الإخبار عن استحقاق الوقوع، فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب.
وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب، فقالوا: إنه نقل إلينا على سبيل التواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقوع العقاب، فإنكاره يكون تكذيبا للرسول صلوات الله عليه وآله، وتفتيحا لأبواب القدح في نصوصية القرآن، فغير مسموع، والله الهادي الى سبيل الصواب وبيده مفاتيح الأبواب.
[2.8]
اتفق المفسرون على أن ذلك وصف المنافقين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
واعلم أن الناس بحسب العاقبة، ستة أصناف، لأنهم إما سعداء؛ وهم أصحاب اليمين، وإما أشقياء وهم أصحاب الشمال، وإما السابقون المقربون. قال الله تعالى:
وكنتم أزواجا ثلاثة
[الواقعة:7]. الآيات.
وأصحاب الشمال: إما المطرودون الذين حق عليهم القول، وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي، المختوم على قلوبهم أزلا كما قال تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها
[الأعراف:179]، الآية.
وفي الحديث الإلهي الرباني المتفق عليه نقلا:
" هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي ".
وأما المنافقون الذين كانوا مستعدين بحسب الفطرة، قابلين للنور في الأصل والنشأة، لكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل، وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيمية والسبعية، ومزاولة المكائدة الشيطانية، حتى رسخت الهيئات الغاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم، فبقوا شاكين حيارى تائهين، قد حبطت أعمالهم، وانتكست رؤوسهم، فهم أشد عذابا وأسوأ حالا من الفريق الأول، لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم، والفريقان هم أهل الدنيا.
وأصحاب اليمين، إما أهل الفضل والثواب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة، راجين لها راضين بها، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم مما عملوا.
ومنهم أهل الرحمة، الباقون على سلامة نفوسهم وصفاء قلوبهم، المتبوئون درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.
وإما أهل العفو، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهما قسمان: المعفو عنهم رأسا لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلة مزوالتهم اياها، أو لمكان توبتهم عنها:
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان:70].
والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي، حتى خلصوا عن درن ما كسبوا فنجوا، وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا، لكن الرحمة تتداركهم وتنالهم بالآخرة.
والسابقون وهم العرفاء بالله واليوم الآخر خاصة اما محبون وإما محبوبون، فالمحبون؛ هم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وأنابوا اليه حق إنابته، فهداهم سبله.
والمحبوبون؛ هم أهل العناية الأزلية، الذين اجتباهم وهداهم الى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله ومآلهما واحد، لأن أهل المحبة الخاصة ينجر سلوكهم بالأخرة الى الجذبة، ولهذا جعلناهما في التقسيم قسما واحدا.
اذا علمت هذا، فاعلم أن الله سبحانه لما افتتح بشرح حال الكتاب، وأشار الى أنه منزل من عالم الكرامة والغيب، مشتمل على العلوم التي لا تعتريها وصمة شك وريب، وموجب للهداية لمن وفق له بالتقوى، وساق لبيانه ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، واندرج فيهم الأقسام الخمسة، سوى الفريقين اللذين هما من قسم الأشقياء.
فإن القرآن ليس هدى للفريق الأول من الأشقياء، لامتناع قبولهم للهداية، لعدم استعدادهم، ولا للثاني، لزوال استعدادهم، ومسخهم وطمسهم بالكلية لفساد اعتقادهم، فهما جميعا أهل الخلود في النار.
ولفظ " هدى للمتقين " ، وإن عم الأصناف الخمسة - لأن المراد بهم في هذا الموضع هم المستعدون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وبقاء نورهم الفطري فلم ينقضوا عهد الله في الميثاق، فلهم نصيب من القرآن كل بوجه - إلا أنه تعالى خص بالإشارة صنفين منهم الى أحوالهما، لمزيد منزلتهما وحالهما.
أحدهما: أهل الفضل والثواب من أصحاب اليمين المشار إليهم بقوله:
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
[البقرة:3].
والثاني : السابقون المقربون، المشار اليهم بقوله:
والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
[البقرة:4]، فقد علم من أحوالهم أنهم من أهل الرسوخ العلمي.
ولما ذكر المؤمنين بقسيمه - أي العاملين والعالمين - ثناهم بأضدادهم الذين محضوا الكفر لسانا وضميرا، ظاهرا وباطنا، ولم يلتفتوا لغة الايمان رأسا بقوله:
إن الذين كفروا
[البقرة:6] -الآيتين.
وهم الفريق الأول من الأشقياء، الذين هم أهل القهر الإلهي، لا ينجع فيهم الإنذار، ولا ينفع لهم التذكار، ولا خلاص لأحدهم من النار،
كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون
[يونس:33].
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار
[غافر:6]. سدت عليهم الطرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهام، ومنزل الكرامة، فحجبوا عنه بختمه.
والسمع والبصر هما مشعران للإنسان، اللذان هما بابا الفهم والاعتبار، فحرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما الى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن القلبي الى عالم العلم الإلهي الكشفي، ولا في الظاهر السمعي والبصري الى الباطن القلبي والعلم التعليمي الكسبي.
فحبسوا في سجون الظلمات، وحبوس التعلقات، وقيود الجحيم والسلاسل والأغلال، والعذاب المقيم، فما أشد عذابهم.
ولما ذكر تعالى أوصاف القسمين، أعني المؤمنين والكافرين مطلقا، ثلث بذكر القسم الثالث، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، تكميلا للتقسيم، وهم أخبث قلبا من الكفرة، وأبغضهم الى الله لأنهم موهوا الكفر بالإيمان، فخلطوا به خداعا واستهزاء، ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم، وتهكم بأفعالهم، وسجل على عمههم وطغيانهم، وضرب فيهم الأمثال وأنزل فيهم:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار
[النساء:145] لأنهم مع ادعائهم للإيمان بقولهم: { آمنا بالله وباليوم الآخر } سلب عنهم الايمان وما هم بمؤمنين.
لأن حقيقته العلم بحقائق الأمور الإلهية، ومحله هو القلب لا اللسان:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14]. ومعنى قولهم: { آمنا بالله وباليوم الآخر } ادعاؤهم لعلمي التوحيد والمعاد للذين هما أصل الدين وأساسه، أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق، ولا من أهل الكتاب المحجوبين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب ليس مطابقا للحق والصواب.
واعلم أن الكفر هو الاحتجاب كما مر، والاجتجاب إما عن الحق، فهو كما للمشركين، وإما عن الدين، كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق الوصول اليه بالضرورة.
وأما المحجوب عن الدين، فقد لا يحجب عن الحق، فهؤلاء ادعوا رفع الحجابين، فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم لمخادعتهم لله وأوليائه، ومماكرتهم وزيادة المرض في قلوبهم مع الهلاك الأخروي، فهؤلاء أسوأ مآلا وأشد نكالا من عامة الكافرين.
ولهذا فرق الله بين العذابين بالعظم والألم، لأن عذاب المطرودين في الأزل - وإن كان أعظم - لنزولهم في مهوى الحشرات والدواب والأنعام، فلا يدركون شدة عذابهم، ولا يجدون غمهم وألمهم لعدم صفاء إدراك قلوبهم بواسطة كثافة الحجاب، وغلظة النقاب، كحال العضو الميت أو المفلوج أو الخدر بالنسبة الى ما يجري عليه من القطع والكي وغير ذلك من الآلام.
وأما المنافقون، فلثبوت استعدادهم في الأصل، وبقاء إداركهم، يجدون شدة الألم، فلا جرم كان عذابهم أليما مسببا عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب والخديعة والحسد والنفاق، والجهل المشفوع بالإصرار واللداد وغيرها، وإذا نهوا عن الفساد في الجهة السفلية، أنكروا وبالغوا في إثبات الصلاح والإصلاح لأنفسهم، كما حكى الله عنهم فيما بعد، إذ يرون الصلاح في تنظيم أسباب المعيشة وتيسير أمور الدنيا لأنفسهم خاصة، وإن كان مؤديا الى خسران العاقبة، لتوغلهم في محبة الدنيا وميل الجاه والثروة، وانهماكهم في اللذات والراحات البدنية، واحتجابهم بالمنافع الجزئية والملاذ الحسية عن المصالح العامة واللذات العقلية، وهم لا يشعرون بذلك، وإن كان معلوما بالمشاهدة الحسية، لأن محبة الدنيا سلبت عقولهم وأعمت قلوبهم، واصمت نفوسهم، ولذا قيل: " حبك للشيء يعمي ويصم ".
فصل
[المنافق والكافر أيهما أسوأ حالا]
قد علمت تحقيق الفرق بين المنافق والكافر الأصلي، تصريحا وتلميحا في مواضع متعددة، لكن القوم اختلفوا في أن أيهما أسوأ فعلا وأقبح حالا.
قال قوم: قبح الكافر الأصلي أقبح، لأنه جاهل بالقلب، كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب، صادق باللسان.
وقال آخرون، بل المنافق أيضا كاذب باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع انه ليس عليه، ولذلك قال تعالى:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
[الحجرات:14]. وقال:
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
[المنافقون:1]. ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة:
الأول: إنه قصد التلبيس، والكافر ما قصد ذلك.
الثاني: إن الكافر على طبع الرجال، والمنافق على طبع الخنوثة.
أقول: الكائن على طبع الرجال هم المؤمنون حقا، لا الكفار، فالأولى أن يقال: الكافر على طبع الأنوثة والمنافق على طبع الخنوثة. وطبع الخنوثة أقبح من الأنوثة. وذلك لأن الآخرة دار المبادئ الفعالة، والدنيا موضع القوابل المنفعلة، فموطن المؤمن - أي عالم القدس - موطن الرجال، وموطن الكافر - أي الدنيا وهي عروسه غدارة رعناء - موطن النسوان.
والمنافق ذو الوجهين لا من هذا ولا من ذاك، فعاقبته البوار والهلاك، وانقطاع النتيجة والبقاء النوعي العقلي في النشأة الدائمة.
الثالث: إن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه، ولم يرض إلا بالصدق، والمنافق رضي بذلك.
الرابع: إن المنافق ضم الى كفره الاستهزاء، بخلاف الكافر. ولأجل غلظ كفره قال:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار
[النساء:145].
الخامس: قال مجاهد: إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثنى بذكر الكافرين في اثنتين، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية. وذلك يدل على أن المنافقين أعظم جرما.
وهذا بعيد لأن كثرة الاقتصاص بخيرهم لا يوجب كون جرمهم أعظم؛ فإن عظم فلغير ذلك، وهو ضمهم الى الكفر وجوها من المعاصي؛ كالمخادعة، والاستهزاء، وطلب الغوائل الى غير ذلك.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم يدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار، وذلك يدل على أنهم أعظم جرما من الكفار.
فصل
يستفاد من هذه الآية أمران:
أحدهما: إن من لا يعرف الله لا يكون مؤمنا وإن أقر به لسانا، لقوله تعالى: { وما هم بمؤمنين } خلافا للكرامية.
والثاني: بطلان قول من زعم من المتكلمين، إن جميع المكلفين عارفون بالله، وإن من لم يكن عارفا به لا يكون مكلفا، وذلك لأن غير العارف لو كان معذورا لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان، فبطل قولهم: إن من لا يعرف هذه الأمور فهو معذور، وهذا المقام يحتاج الى تحقيق عميق لا يسع هذا الوقت ذكره.
فصل
اختلفوا في اشتقاق لفظ " الإنسان " الى وجوه:
الأول: ما يروى عن ابن عباس: إنه من النسيان. لأنه عهد إليه فنسي.
قال أبو الفتح البستي:
نسيت وعدك والنسيان مغتفر
فاغفر فأول ناس أول الناس
الثاني: إنه من الأنس، لاستيناسه بمثله.
الثالث: إنه سمي إنسانا لظهورهم وأنهم يؤنسون - أي يبصرون - قال تعالى:
آنس من جانب الطور نارا
[القصص:29]. أي: أبصر. كما سمي " الجن " لاجتنانهم.
واعلم أنه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا من لفظ آخر، وإلا لتسلسل الى ما لا نهاية.
والناس أصله اناس، بدليل قولهم: إنسان وإنسي وأناسي، فحذفت الهمزة تخفيفا كما حذف في لوقة لأن أصلها ألوقة. وعوض عنها حرف التعريف، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما إلا شذوذا كقوله: إن المنايا تطلعن على الاناس الآمنينا.
وناس: اسم جمع على زنة فعال. لأن الوزن يكون على الأصول، ولذلك تقول في وزن قه افعل وليس معك إلا العين وحدها، وهو من أسماء الجمع كرجال، وأما نويس، فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كانيسيان ورويجل - كذا في الكشاف.
فصل
لام التعريف في " الناس " إما للجنس أو للعهد، والمعهود هم الذين كفروا، المار ذكرهم، و " من " على الأول تكون موصوفة كأنه قيل: ومن الناس ناس يقولون آمنا. كقوله:
من المؤمنين رجال
[الأحزاب:23].
وعلى الثاني؛ تكون موصولة، كقوله:
ومنهم الذين يؤذون النبي
[التوبة:61] أي ومن هؤلاء الذين كفروا من يقول - وهم عبد الله بن أبي وأصحابه ومن في طبقتهم - فإن وقوعهم لأجل النفاق تحت جنس الكفار المختوم على قلوبهم، ودخولهم في أبواب الكفر، لا ينافي اختصاصهم بزوائد زادوها على أصل الكفر؛ من الخديعة والاستهزاء والأمراض القلبية وغيرها، ولا يخرجهم عن حده وإن يكونوا بعضا من جنسه، فإن الأنواع إنما تنوعت بزوائد على طبيعة الجنس بما هي مجرد طبيعته، أي بالمعنى التي هي مادة، وتلك الزوائد لا تأبى الدخول مع ما يزيد عليه تحت الجنس، وصدقه على المجموع بالاعتبار الذي هو به جنس، وإن لم يصدق بالمعنى الذي هو به مادة فتفطن.
فصل
اعلم أن اختصاص (بالله وباليوم الآخر) بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم والكمال الأتم, وهو العلم بأحوال المبدأ والعلم بأسرار المعاد، وتسجيل بأنهم مع خستهم ودناءة طبعهم، ادعوا إثبات أمر شريف عال لأنفسهم. وهو الحيازة للإيمان من جانبيه، والإحاطة بكلا قطريه.
وها هنا دقيقة اخرى؛ وهي الكشف عن إفراطهم في خبث الباطن وفساد الضمير، وتماديهم في قبح الباطن وسوء السريرة، حيث كان قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، خبثا متضاعفا، وكفرا متراكما، لأن القوم كانوا يهودا، وكانوا يعتقدون في الله التشبيه واتخاذ الولد، وفي اليوم الآخر أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة - الى غير ذلك - فإيمانهم بالله واليوم الآخر كلا إيمان، فهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون، فكيف بما يقصدون به النفاق ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم، فهم في خبث الباطن وسوء الضمير بحيث لو صدر منهم هذا القول لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم، لم يكن ايمانا، فلم يكونوا صادقين، كيف وقد صدر منهم تمويها على المسلمين وتهكما بهم.
ولفظة " من " صالحة للجمع كما للواحد. كقوله تعالى:
ومنهم من يستمعون إليك
[يونس:42]، فإنه موحد اللفظ مجموع المعنى، والعائد إليه يرجع عند التوحيد الى اللفظ وعند الجمع الى المعنى، ففي قوله: من يقول آمنا، حصل فيه الأمران.
وتكرير الباء يدل على أن علم المبدأ وعلم المعاد كلا منهما علم شريف برأسه، ولا يلزم أن يكون داخلا في مقول قولهم، وإن كان داخلا، فالمعنى ادعاؤهم الإيمان بكل واحد مفصلا على الاستحكام.
و " القول " مصدر معناه التلفظ بما يفيد، وقد يطلق على القضية الملفوظة، وعلى صورتها الذهنية، وعلى الرأي والمذهب.
وفي ايراد { وما هم بمؤمنين } ، بدل " وما آمنوا " كما يستدعيه المقابلة من التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لا العكس، انكار لما ادعوه وردع لما انتحلوه بأبلغ وجه وآكده في التكذيب لهم، حيث أخرج ذواتهم من عداد المستعدين لاقتناء أنوار الإيمان واليقين مطلقا.
ولذلك أكد النفي بالباء، ونحوه قوله تعالى:
يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين
[المائدة:37]. وترك تقييد الايمان في الثاني بما قيد به في الأول، إما لأنه دل عليه المذكور أولا، لأن هذا جوابه، وإما للإشعار بأنهم ليسوا من الايمان في شيء أصلا.
تنبيه فيه تذكير
[اليوم والليلة]
والمراد من اليوم، إما الزمان الذي لا حد له، وهو الأبد الدائم الذي لا مقطع له، وإما الوقت المحدود من النشور الى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة وما بعده فلا حد له.
وانما سمي زمان الآخرة يوما، لظهور شمس الحقيقة حينئذ، وطلوعها من أفق الأكوان ومطالع الحقائق الروحية، كما انه قد اختفى ما دام الكون الدنيوي في مغارب الصور الحسية، وفي القيامة تصير تلك الصور بعينها مظاهر أنوار الإلهية، ومشاهد أسرار الربوبية. فكأن مدة الدنيا ليل نهاره يوم الآخرة، وصباحه عند قيام الساعة، والله أعلم بأسراره.
[2.9]
إن للمنافقين قبائح كثيرة من رذائل القلب وخبائث النفس، ذكر الله أربعة منها في هذه الآيات: أحدها: ما ذكره في هذه الآية وهي المخادعة مع الله والمؤمنين.
والخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه في نفسك من المكروه، لتصرفه عما هو بصدده من قولهم: خدع الضب: إذا توارى في جحره وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ثم خرج من باب آخر.
وأصله الإخفاء. ومنه المخدع: للخزانة. والأخدعان: لعرقين خفيين في العنق. فهو ضرب من النفاق والغرور والرياء في الأفعال الحسنة. وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه دين الله وطريقه، لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والتدليس والمكر والإساءة، كما يوجب الاخلاص:
ألا لله الدين الخالص
[الزمر:3].
وأما أنهم كيف خادعوا الله ولا تخفى عنه خافية ، وكيف خادعهم الله، والمؤمنون - كما تقتضيه صيغة المفاعلة - والخدعة صفة مذمومة؟ فالمراد من الأول أحد أمور خمسة:
أولها: أن يكون ذلك على معتقدهم وظنهم أن الله ممن يرضى عنهم بصورة الأعمال الصادرة عنهم سمعة ورياء، مع أن القصد منهم بما لم يكن إلا أغراض النفس والهوى، ومحبة الجاه والثروة ومتاع الدنيا؛ وذلك لاغترارهم وجهلهم بأن الناقد بصير، والطريق اليه خطير، والبضاعة معيبة مموهة، ولا يقبل عند الله إلا العمل الخالص، وكيف، ومن كان ادعاؤه الإيمان بالله واليوم الآخر نفاقا، لم يكن قد عرف الحق وصفاته، وأن له تعلقا بكل معلوم، وله غنى عن كل ما سواه. فلم يبعد عن مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعا من وجه خفي، وربما يوجد في الناس - بل في أكثر الأكياس منهم - من كان هذا شأنهم مع الله، وقد شاهدناهم وصحبناهم كثيرا.
وثانيها أن يقال: صورة صنيعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان ويستبطنون الكفر - صورة صنيع الخادعين.
وثالثها: أن المراد من " يخادعون الله " ، المخادعة مع رسول الله، إما على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، وهو مع ذلك خارج عن مقام بشريته، ذاهب الى الله وملكوته، واصل بكليته في بحبوحة قربه ومطالعة جماله وجلاله، مستغرق في شهود إلهيته، كما قال تعالى
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80]. وقوله:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح:10]. وقال (صلى الله عليه وآله):
" من رآني فقد رأى الحق "
وفي الحديث القدسي:
" من بارز وليا فقد بارزني. ومن عاداه فقد عادني ".
ورابعها: ما ذكره صاحب الكشاف، وهو أن يكون من قبيل قولهم: " أعجبني زيد وكرمه " فيكون المعنى: يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة، قوة الاختصاص.
وله نظائر ذكرها.
وخامسها: ما في الكشاف أيضا، وهو أن يقال، عنى به " يخدعون " إلا انه أخرج في زنة المفاعلة للمبالغة، لأن الزنة في أصلها للمبالغة، والفعل متى غولب فيه فاعله كان أبلغ وأحكم منه إذا زاوله من غير مقابلة معارض، ويعضده قراءة من قرأ " يخدعون " ، ولأنه بيان: ليقول، ويحتمل الاستيناف، لذكر ما هو الغرض من دعواهم الإيمان كذبا.
والمراد من الثاني هو أن صورة صنع الله معهم صورة صنع الخادع، حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار، وأهل الدرك الأسفل من النار، استدراجا لهم، وتلطفا في إغفالهم عما أعد لأوليائه، وردعهم وطردهم من جناب قدسه ومحل كرامته من حيث لا يشعرون، مجازاة لهم بمثل صنيعهم.
وكذا صورة صنع الرسول والمؤمنين معهم من حيث امتثالهم أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء الإسلام عليهم، وربما كانوا ولاة في البلاد، وقضاة في دار الإسلام يحكمون على أموال المسلمين وفروجهم ودمائهم، ويجب على الناس الاقتداء بهم في الصلاة، والامتثال لأمرهم ونهيهم تقية ومداراة معهم، كما أخبر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: سيكون بعدي اثرة، وقال للاصحاب: إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟ قلت: أما والذي بعثك بالحق، أضع سيفي على عاتقي، ثم أضرب به حتى القاك، قال: أولا أدلك على خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني ".
فصل
الداعي لهم على الخديعة مع المؤمنين يحتمل مقاصد وأغراضا شتى:
منها: أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار؛ من قتل نفوسهم، ونهب أموالهم، وسبي ذراريهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ".
ومنها: قبولهم عند أهل الاسلام وإجراؤهم مجرى المؤمنين في التعظيم والإكرام.
ومنها: أنهم ربما التمسوا من النبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إفشاء أسراره واسرارهم لينقلوها الى أعدائهم من الكفار.
ومنها: أنهم طمعوا الاقتسام من أموال الغنائم - الى غير ذلك من المقاصد والأغراض. وليس لك أن تقول: لما كان الله قادرا على أن يوحي الى نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) جميع ما قصدوه وأضمروه في نفوسهم ليدفع شرهم وخداعهم وإفسادهم، فلم لم يفعل ذلك ولم يهتك أسرارهم؟
قلنا: وإنه أيضا قادر على استيصال إبليس وذريته أجمعين، ولكنه أبقاهم وقواهم وأجراهم مجرى الدم في عروق الآدميين، لأن في ذلك الحكمة والمصلحة ما لا يعلم غوره إلا الله ومن اهتدى بنوره، واطلع على وحيه من أهل الرسالة والولاية.
فصل فيه حكمة مشرقية
[كيف يخدع الانسان نفسه]
قوله: { وما يخدعون إلا أنفسهم } ، أي خداع المنافقين لا ينجع إلا في أنفسهم بإهلاكها وتخسيرها، وايراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق، واجتماع أسباب البعد من الله والشقاء عليها، كما في قوله تعالى:
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
[فاطر:43].
وكذا خداع الله المتسبب عن خداعهم، يؤثر في أنفسهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق لقوله تعالى:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
[آل عمران:54]. وهم من غاية تعمقهم في جهلهم، ما يحسون بذلك الأمر المكشوف الظاهر، إذ الشعور: علم الشيء إذا حصل بالحس، من الشعار، - ومشاعر الإنسان حواسه - عنى به أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة، كالذي به خدر لا يحس، والمراد من النفس: ذات الشيء وحقيقته، ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى:
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك
[المائدة:116]. وقد يطلق على جوهر مفارق عن الأجسام ذاتا وحقيقة، مقارن لها فعلا وتأثيرا، ثم قيل للقلب: نفس، لأنه خليفة النفس في البدن، كما ان الصدر خليفة الطبيعة.
ويقال للدم: نفس، لأن قوام حياتها البدنية بالدم، وللماء: نفس لفرط حاجتها إليه، قال تعالى:
وجعلنا من المآء كل شيء حي
[الأنبياء:30]. وللرأي في قولهم: فلان يوامر نفسه: إذا تردد في الأمر واتجه له رأيان وداعيان، كأنهم أرادوا داعيي النفس وناجييها، فسموهما نفسين، لصدورهما عن النفس، أو تشبيها لهما بمبشرين يأمر أحدهما وينهى الآخر، وستطلع على هذا السر.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: وما يخادعون. والباقون: يخدعون، وحجة الأولين التطابق في اللفظ بين الكلامين.
وحجة الباقين: أن المخادعة إنما تكون بين اثنين، فلا يكون الإنسان الواحد مخادعا لنفسه.
أقول: وكذلك الخداع لا يكون إلا بين اثنين. والفرق بينهما: بأن الفعل في الأول من الجانبين، وكذا الانفعال، وفي الثاني: الفعل من جانب، والانفعال من جانب آخر، فالإنسان الواحد، كما لا يخادع مع نفسه، كذلك لا يخدع نفسه أيضا، فما هو الجواب لذاك، فهو الجواب لهذا.
فالأولى أن يراد حقيقة المخادعة، أي وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأماني الباطلة، ويحدثونها بالأكاذيب، من الإيعاد بالخير، والوعد بالشر، وغير ذلك، وكذلك أنفسهم تعدهم وتمنيهم وتحدثهم بالأماني.
وتحقيق ذلك يبتني على معرفة النفس الإنسانية وهي: أن للنفس الإنسانية نشآت ومقامات متعددة، كالحسية والخيالية والعقلية، ولها مراحل ومنازل متفاوتة، كالدنيا والبرزخ والآخرة، وأكثر الناس ما داموا في الدنيا، فمقام نفوسهم بالفعل عالم الحس، ولها بالقوة نشأة الروح والعقل، وذلك إذا لم يبطل استعدادها لحصول النشأة الباقية، وأما إذا بطل ذلك، بمسخ باطنهم وطمسه بالكلية، فليست نفوسهم هي أرواحا ولا عقولا لا بالفعل ولا بالقوة، ولا لها نشأة إلا نشأة الحس فقط كنفوس سائر الحيوانات.
وبعض الناس، ممن خرجت نفسه من القوة الى الفعل في نشآته الثلاث - كالكمل من العلماء الإلهيين والأولياء - فلهم من الأحدية الحقة ما حازوا به الأكوان الثلاثة، ولا يشغلهم شأن عن شأن ولا يمنعهم موطن عن موطن.
فإذا تقرر هذا فنقول: النفس بحسب كل مقام ونشأة، هي غيرها بحسب مقام آخر ونشأة أخرى، وبواسطة مزاولة أفعال تناسب النشأة الدنيوية وتكريرها تقوي الجنبة السافلة منها وتضعف الجنبة العالية، وبالعكس عند مزاولة أفعال تناسب النشأة الآخرة وتكريرها.
وعند الرسوخ في الأفعال الشهوية والغضبية، والأعمال البهيمية والسبعية، تبطل النشأة العقلية والحياة الملكية بالكلية، بحيث لا يرجى إمكان عودها، وذلك هو الخسران المبين، لأن النفس خسرت ذاتها الباقية ونشأتها العقلية، وعوضت عنها بهذه النشأة الفانية والحياة الحسية كما قال:
خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون
[الأنعام:12]. بتضييع رأس مالهم، وهو الفطرة السليمة والعقل السليم.
ومن هذا القبيل، وقوع المخادعة بين النفس وذاتها، لكونها ذات وجهين: وجه الى الحس والشهوة والدنيا والشيطان، ووجه الى العقل والعدالة والعقبى والملك، ولكل من الوجهين أسباب ومهيجات، ودواعي وأغراض، وأشخاص من جنود الشيطان وجنود الملك، والمنازعة [بين القبيلين] والمطاردة قائمة في عرصة باطن الإنسان وميدان صدره، ومعركة قلبه عند بلوغ الإنسان الى مرتبة التمييز وصيرورته مكلفا، والمملكة الإنسانية - وهي البنية بما فيها من القوى والمشاعر والأجزاء - مشتركة بين الخصمين الى أن ينفتح لأحدهما ويتخلص عن الآخر.
وأكثر الناس ممن انفتحت عرصة باطنه ومملكة ظاهره للهوى والشيطان، وبقي لمقابلهما من العقل والملك اجتياز واختلاس وعبور فيها على الندرة، إلا من عصمه الله وقوى الملكية على نفسه الشيطانية.
فإذا ثبت حكم المحاربة بين النفس وذاتها باعتبار كونها ذات الوجهين، فكذلك حكم المخادعة بينها وبين ذاتها. كيف والحرب خدعة، فالمحاربة لا تخلو عن المخادعة، ومن هذا الباب حكم الآيات الدالة على مغايرة النفس لذاتها كقوله:
أن الله يحول بين المرء وقلبه
[الأنفال:24] وقوله:
ونهى النفس عن الهوى
[النازعات:40]. وقوله:
قوا أنفسكم وأهليكم نارا
[التحريم:6]. وقوله:
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم
[المائدة:105]. وقول موسى:
ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم
[البقرة:54] الآية، وقوله:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة:111].
فاعلم ما ذكرنا، فإنه مفتاح من مفاتيح معرفة النفس، التي بها تفتح أبواب خزائن علم القرآن إنشاء الله.
وقرئ: " وما يخدعون " بالتشديد من خدع، ويخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون، ويخدعون ويخادعون على صيغة المجهول.
[2.10]
إعلم أنه كما ان للأبدان صحة ومرضا ودواء وغذاء، فكذلك للقلوب صحة ومرض ودواء وغذاء. وذلك لأن الصحة عبارة عن صفة توجب صدور الأفعال عن موضوعها مستقيمة سليمة، والمرض له صفة توجب وقوع الأفعال عنه مختلة؛ ولما كنت حياة القلب إنما هي بنور الإيمان بالله واليوم الآخر، كما ان حياة البدن بقوة الحس والحركة، وكان الفعل الخاص به: إنما هو ذكر الله وطاعته وعبوديته، كما إن الفعل الخاص بالبدن: الحس والحركة - كالأكل والشرب والجماع والمشي وغيرها - فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعا له من هذه الآثار، كانت تلك الصفات أمراضا، وتلك الصفات بعضها سموم قتالة: كالجهل المركب ، والنفاق، والجحود، والشك، والعناد، والحسد، واللداد وغير ذلك من الصفات المهلكات، فإنها اذا استحكمت ورسخت في القلب، فهي غير قابلة للعلاج.
وبعضها ليست كذلك، كالصغائر من السيئات، والتفاريق من الخطئيات.
واعلم أن الدنيا دار المرض، وليس على ظهر الأرض إلا المرضى، كما ليس في بطنها إلا الأموات، وإنما توجد الصحة والسلامة المطلقة في العالم الأعلى من طبقات الجنان، قال تعالى:
إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء:89].
ومرضى القلوب ها هنا أكثر من مرضى الأبدان، والعلماء أطباء القلوب، وحكام الشريعة قوام دار المرضى. وكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم، سلم الى الحاكم ليكف شره عن باقي الناس، كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي، أو الذي غلب علي الجنون الى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال، ويكف شره عن سائر الناس.
وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل:
أحدها: أن صاحب القلب المريض لا يدري أنه مريض.
وثانيها: أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم، بخلاف مرض البدن فإن عاقبته - وهي موت البدن -، مشاهدة تنفر الطباع منه، وما بعد الموت غير مشاهد لقلة النفرة عن موت القلب الذي هو عاقبة مرضه، وإن علمها مرتكب الأمراض القلبية والكبائر الموبقة، فلذلك نراه يتكل على فضل الله، ويجتهد في علاج البدن.
وثالثها: وهو الداء العضال، وهو إما فقد العلماء الذين هم الأطباء، كما في هذه الأعصار، أو فقد الإيمان بما يقول الطبيب، كما في عصر النبي (صلى الله عليه وآله)، وأعصار ورثته (عليهم السلام).
فنقول: يحتاج المريض الى التصديق بأمور:
الأول: أن للمرض والصحة أسبابا يتوصل اليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب. وهذا هو الايمان بأصل الطب، فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج، فيزداد مرضه الى أن يلحق به الهلاك، وهذا وزانه في مرض القلوب هو الإيمان بأصل الشريعة، وهو أن للحياة الأخروية والسعادة الدائمة سببا هو الطاعة، وللموت الأخروي والشقاوة الأبدية سببا هو المعصية، وهذا - وهو الإيمان بأصل الشرايع - لا بد من حصوله إما عن تحقيق أو تقليد، وكلاهما من جملة الإيمان.
الثاني: أنه لا بد أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب، حاذق فيه، صادق فيما يخبر به ويعبر عنه، لا يلبس ولا يكذب. فإن ايمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان. ووزانه فيما نحن فيه: العلم بصدق الرسول (صلى الله عليه وآله)، والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق، ولا كذب فيه ولا خلف.
الثالث: أنه لا بد أن يصغي الى الطبيب فيما يحذره من تناول الفواكه والأشياء المضرة على أكله، حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء، فتكون شدة الخوف باعثا له على الاحتماء، ووزانه من الدين: الإصغاء الى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى، والترهيب من ارتكاب الذنوب واتباع الهوى، والتصديق بما يلقى الى سمعه من ذلك من غير شك وريبة، حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر، الذي هو الركن في العلاج.
والركن الآخر: هو العلم بما ذكره الطبيب، فإن الشفاء لا يحصل إلا بالدواء، ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء، فكل داء حصل من سبب، فدواؤه رفع ذلك السبب وحله وإبطاله، ولا يبطل الشيء إلا بضده، والضدان متساويان في المعرفة والجهالة، فلا سبب للإصرار بالمعاصي إلا الجهل والغفلة، والشهوة والهوى، ولا يضاد الغفلة إلا العلم، ولا يضاد الهوى إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للهوى، والغفلة رأس الخطايا، قال الله تعالى:
وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون
[النحل:108 - 109].
فلا دواء إذن لأمراض القلوب إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر، كما يجمع في السكنجبين بين حلاوة السكر وحموضة الخل، ويقصد بكل واحد منهما غرض آخر في العلاج، بمجموعهما تنقمع الأسباب المهيجة للصفراء، فهكذا ينبغي أن يفهم علاج القلب عن مرضه، فإنه لا بد فيه أصلان: العلم والتقوى، والقرآن كله في بيانهما كما لا يخفى على أهل البصيرة.
وقد مر أن فائدة الأعمال الشرعية كلها - وجودية كانت أو عدمية - تصفية القلب عما يكدره ويمرضه ويحجبه عن مطالعة الحق والعلم بالله وصفاته وأفعاله، هي الغاية القصوى لوجود الانسان وسائر الأكوان.
فصل
[مبدأ الخير والشر]
لما كانت الزيادة من جنس المزيد عليه، وقد علمت أن مرض القلب هو الصفات المضادة لأفعاله وآثاره الخاصة، التي أصلها الإيمان بالله، والمعرفة بآياته وكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر، فرئيس الأمراض القلبية هو الكفر بالله، والجهل بهذه الأمور، فقوله: { فزادهم الله مرضا } محمول على الكفر والجهل؛ فيلزم أن يكون الله فاعلا للكفر والجهل.
وهذا مما استشكله جماعة كالثنوية والمجوس، الذين جعلوا فاعل الشرور مبدعا آخر غير فاعل الخيرات، وقالوا بأصلين قديمين، هما عندهم: النور والظلمة، أو يزدان وأهرمن. لأن هذا الإشكال بعينه هي الشبهة المشهورة، وهي: أن في العالم خيرات وشرورا، والموجود الممكني لا بد فيه من مؤثر، وينتهي الى مؤثر قديم دفعا للدور والتسلسل؛ والمؤثر في الخيرات والشرور لا يمكن أن يكون مبدأ واحدا، وإلا لكان أمر واحد خيرا وشريرا معا.
فخالق الأنوار والخيرات هو القديم المسمى بالنور عندهم، أو يزدان، وخالق الظلمات والشرور، هو القديم المسمى بالظلمة عندهم، أو أهر من وقال تعالى دفعا لهذا الاعتقاد:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور
[الأنعام:1]. وهكذا قالت القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة أن في هذا العالم يوجد الكفر والمعاصي كما يوجد الإيمان والطاعات، والله تعالى منزه أن يكون خالق الكفر والمعصية، فكل معصية وكفر فمنشأ صدروها وفاعلها وخالقها هو الشيطان أو العبد، وإن الله تعالى هو فاعل الإيمان والطاعات، وقال تعالى ردا عليهم:
والله خلقكم وما تعملون
[الصافات:96]. وقوله:
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس:7 - 8].
وأما حل الشبهة فهو أن الفائض من الباري جل اسمه ليس إلا نور الوجود والرحمة، وهذا النور ينقلب ظلمة من جهة خصوصية بعض القوابل المظلمة بواسطة هيئات ردية غاسقة، كالشمس التي شأنها الإضاءة والتنوير للأشياء المحاذية لها، وإفادة الحياة وإنعاش الحرارة الغريزية للمركبات، لكنها قد توجب اسوداد بعض الأجسام، وتعفين بعض المواد الفاسدة، لخصوصية عروض الهيئات المفسدة العائقة لها عن قبول الصلاح والاعتدال، والحكماء ذكروا في رفع شهبة الثنوية ان الأشياء على خمسة احتملات.
أحدها: الخير الذي لا شر فيه أصلا.
والثاني: الشر الذي لا خير فيه أصلا.
والثالث: ما تكون خيريته غالبة على الشرية (فيه).
والرابع: عكس ذلك.
والخامس: ما يتساوى فيه الأمران. وذات الواجب الخير، لما لم يجز أن يصير مبدءا للشرور، وجب أن لا يصدر عنه من هذه الأقسام إلا قسمان، أي الأول الذي لا شرية فيه، والقسم الثالث الذي خيريته غالبة على شريته، لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.
فنقول: الثنوية القائلة بأن الله لا يصير مبدءا لما فيه شر، أمكن إلزامهم، وقد تفاخر أرسطو وزير إسكندر الرومي الملقب عندهم بالمعلم الأول بذلك الكلام.
فإن قال قائل: انه فقد جاز أن يصدر عن الأول تعالى خير محض مبرأ عن الشر؟
فيقال: إن هذا لم يكن جائزا في مثل هذا القسم من القسمين المذكورين، وإن كان جائزا في الوجود المطلق، على أنه ضرب منه غير هذا الضرب، وذلك مما قد فاض عنه تعالى: كالموجودات العلوية، والملائكة السماوية، والنفوس الشريفة، والعقول القادسة، وبقي هذا النمط في الإمكان، ولم يمكن ترك ايجاده لأجل ما يخالطه من الشر، لما علمت من أن تركه شر الشرين، فكونه خير الشرين فالكل من عند الله.
وقد مر في المفاتيح انه من الواجب في الحكمة أن يكون في العالم مظاهر جميع الصفات الإلهية، فلا بد لكل من الوصفين المتقابلين من مظهر، فالكفر ونتائجه ومباديه: كالشياطين ومن ضاهاهم من الأشرار، مظاهر القهر والغضب، والإيمان ونتائجه ومباديه: كالملائكة ومن والاهم من الأخيار، ومظاهر اللطف والمحبة. ثم لا اعتراض في تخصيص كل بما يخصه، لأن هذا الترتيب من لوازم الوجود والإيجاد.
فإن قلت: ما ذكرته من التوحيد في الأفعال متحقق ظاهر مهما ثبت ان الوسائط والأسباب مسخرات، وكل ذلك ظهر إلا في أفاعيل الإنسان وحركاته، فإنه يتحرك إن شاء، ويسكن إن شاء، فكيف يكون مسخرا في فعله؟
فنقول: اعلم أنه لو كان الإنسان مع هذا بحيث يشاء إن شاء، ولا يشاء إن لم يشأ، لكان هذا مزلة القدم وموضع الغلط، ولكن علمته أنه يفعل إذا شاء، وما يشاء يشاء، شاء أم لم يشأ فليست المشية إليه إذ لو كانت إليه لافتقرت الى مشيئة أخرى وتسلسل الأمر الى غير النهاية، وإذا لم تكن المشية اليه، بل مهما وجدت المشية التي شأنها تصريف القدرة الى مقدورها، انصرفت القدرة لا محالة؛ ولم يكن لها سبيل الى المخالفة، فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة، والقدرة محركة ضرورة عند انجزام المشية، والمشية تحدث ضرورة في القلب، فهذه ضروريات مترتبة بعضها على بعض، وليس للعبد أن يدفع وجود المشية، ولا انصراف القدرة وانبعاثها الى المقدور بعدها، ولا وجود بعث المشية للقدرة، فهو مضطر في الجميع.
فإن قلت: فهذا جبر محض، والجبر يناقض الاختيار، وأنت لا تنكر الاختيار وكونه سببا للفعل، لا كما زعمته الأشاعرة القائلين بوجود الاختيار من غير أن يكون سببية، وهو المسمى عندهم بالكسب.
قلت: لو انكشف لك الغطاء، لعرفت أن الإنسان في عين الاختيار مجبور، فهو إذن مجبور على الاختيار، وأنه مضطر في صورة مختار. وهذا كما ورد في الحديث الذي مر ذكره عن الصادق (عليه السلام): " لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين " وهذا معنى ما قيل: الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار، بل يؤكده، يعني: أن الاضطرار في الاختيار يؤكد وجود الاختيار؛ لأن الشيء ما لم يجب وجوده لا يوجد، فالاختيار أيضا من جملة الأشياء الممكنة التي في وجودها أن تصير أولا واجبا حتى تتحقق، وإذا وجب الاختيار حتى يوجد، فقد سبقه الاضطرار المؤكد لوجوده.
وإن أردت أن تفهم معنى الاختيار؛ - فإن أكثر الناس جاهلون بمعناه - فلنشرح إياه شرحا وجيزا فنقول: لفظ الفعل يطلق في الإنسان على ثلاثة أوجه، إذ يقال: الإنسان يكتب بالإصبع، ويتنفس بالرئة والحنجرة، ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه، فهذه أنحاء من أفاعيله في هذا العالم - عالم الشهادة - وله ضروب أخرى من الفعل في عالم الغيب، ليس هذا المقام موضع بيانه ، فإذن ينسب اليه ها هنا الخرق في الماء، والتنفس والكتابة، وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحد، ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور أخرى، فأعرب لذلك عنها بعبارات ثلاث: فسمي خرقه للماء - عند وقوعه على وجهه - فعلا طبيعيا، وسمي تنفسه فعلا إراديا، وسميت كتابته فعلا اختياريا، والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي، لأنه مهما وقف على وجه الماء انخرق لا محالة، فيكون الخرق بعد التخطي من سطع الماء الى الماء ضروريا، والتنفس في معناه، فإن نسبة حركة الحنجرة الى ارادة التنفس كنسبة خرق الماء الى ثقل البدن، فمهما كان الثقل موجودا وجد الانخراق بعده، وليس الثقل اليه، فكذلك ليست الإرادة، ولذلك إذا قصد عين الإنسان بابرة طبق الأجفان بالاضطرار، ولو أراد أن يتركها مفتوحة لا يقدر، مع ان تغميض الأجفان فعل إرادي، لأنه مسبوق بشعور وإرادة، ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك، حديث الإرادة للتغميض ضرورة، وحدثت الحركة بها، ولو أراد أن يترك، لم يقدر عليه مع انه فعل بالقدرة والإرادة، فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضروريا.
وأما الثالث: وهو المسمى بالاختياري - ويقال له القصد - فهو مظنة الالتباس كالكتابة والمشي. وهو الذي يقال فيه: إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وتارة يشاء وتارة لا يشاء.
فيظن من هذا أن الأمر إليه، ومبناه الجهل بمعنى الاختيار، فليكشف عنه، وبيانه أن الإرداة مع العلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك، فإن الأشياء تنقسم الى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير تردد وتحير، والى ما يتردد العقل فيه، فالذي يقطع به من غير تردد - كما يقصد عينك بابرة أو بدنك بسيف - فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير وموافق لك، فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم، والقدرة بالإرادة، وتحصل حركة الأجفان بالدفع، وحركة اليد بدفع السيف، وذلك من غير روية وفكر.
ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه، فلا يدري أنه موافق أم لا، فيحتاج الى روية وفكر حتى يتبين أن الخير في الفعل أو الترك، فإذا حصل بالفكر ان أحدهما خير، التحق ذلك بالذي يقطع به انه خير من غير روية وفكر، وانبعثت الإرادة ها هنا كما تنبعث لدفع حوالة السيف والسنان من غير روية وفكر.
فإذا انبعثت الإرادة للفعل الذي ظهر للعقل انه خير، سميت هذه الإرادة اختيارا، مشتقا من الخير، أي هو انبعاث الى ما ظهر للعقل انه خير، وهو عين تلك الإرادة ولم ينتظر في انبعاثها إلا الى ما انتظرت تلك الإرادة، وهو ظهور خيرية الفعل في حقه، إلا أن الخيرية في دفع السيف، ظهرت من غير روية بل على البديهة، وهذا افتقر الى الروية.
فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة، هي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إداركه توقف، ولا يمكن أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل، كما في القسم الأول منها، أو بحكم جزم من العقل كما في الثاني، فداعية الإرادة - وهي كون الفعل موافقا - مسخرة لحكم العقل أو الحس، والقدرة مسخرة للداعية، والحركة مسخرة للقدرة، والكل يصدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري، فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور، فأما أن يكون فاعلا فكلا.
فإذا معنى كون الإنسان مجبورا؛ أن جميع ذلك وارد عليه حاصل فيه من غيره لا منه، ومعنى كونه مختارا؛ أنه محل الإرادة لا غير، فاذا هو مجبور على الاختيار. ففعل النار جبر محض، وفعل الله اختيار محض، لأن الاختيار والداعي فيه عين ذاته، وفعل الإنسان منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار.
[التوحيد الافعالي]
فإن قلت: فهل تقول: إن العلم ولد الإرادة، والإرادة ولدت القدرة، والقدرة ولدت الحركة، وإن كل متأخر حدث من المقدم؟
فإن قلت ذك، فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله، وإن أبيت ذلك، فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض.
فاعلم أن الفرق حاصل بين ما منه الشيء وما به الشيء، فإن أجزاء الحركة والزمان حصل بعضها من بعض، ولم يحصل بعضها بسبب بعض، وكذلك المركب - كالمعجون - حاصل من أجزائه، وليس بحاصل بسبب أجزائه .
فالقول بأن بعض تلك الأمور حصل بسبب بعض آخر منها، جهل محض، سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره، بل حوالة جميعها على المعنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية، وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق على كنه معناه إلا الراسخون، وليس عند غيرهم منه إلا مجرد لفظه، مع نوع تشبيه له بقدرتنا، وهو بعيد عن الحق، وبيان ذلك يطول ولكن لا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم فكذلك جميع أفعال الله المترتبة، فإن لها ضربا آخر من التقدم لبعضها على بعض، غير التقدم المسمى عند الفلاسفة بالتقدم بالطبع، وغير الذي سموه التقدم بالعلية، فإنهما متحققان بين المهيات بعضها مع بعض بواسطة، وهذا الذي كلامنا فيه، تقدم وتأخر بين الموجودات التي هي أنوار مترتبة في الإفاضة عن الحق، أو بين مراتب تنزلات الحق الأول، وقد سميناهما التقدم والتأخر بالحقيقة بالاعتبار الأول، والتقدم والتأخر بالحق بالاعتبار الثاني، وهذا مما لا يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق، ولا ينفع ذكره للحمقى الجاهلين المجانين، إلا فتنة وتحريكا لسلسلة جنونهم، وحلا لعقائد ظواهر الشريعة عن ألسنتهم وأيديهم.
وبالجملة، فلولا الترتيب بين الموجودات، لبطل النظام، ولم تكن الغايات مترتبة على الأشياء، ولكان فعل الله على ذلك التقدير الذي توهمه جماعة من الناس - كأصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم - عبثا وتهذارا وهباء ولعبا، قال تعالى:
وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهمآ إلا بالحق
[الدخان:38 - 39].
فكل ما بين السماء والأرض على ترتيب واجب وحق لازم، لا يتصور أن يكون إلا كما حدث، وعلى الترتيب الذي حدث، فما تأخر متأخر إلا لانتظار ما يتوقف عليه ويشترط به، والموقوف بعد الموقوف عليه، والشرط قبل المشروط.
وعكس هذا الترتيب وخلافه محالان، والمحال لا يوصف بكونه مقدورا، فلا يتأخر العلم عن النظر إلا لفقد شرط الحياة، ولا تتأخر عنها الارادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم، وكل ذلك على منهاج الواجب وترتيب الحق، ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق، بل كل ذلك بحكمة وتدبير.
وتفهيم ذلك عسير ، على الأفهام غير يسير، وللفرق بين سبب به وسبب منه، وإطلاق الفاعل على كل من هذين المعنيين، نسب الله الأفعال في القرآن مرة الى الملائكة، ومرة الى العباد، ونسبها مرة الى نفسه، فقال في الموت:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة:11] ثم قال:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42]. وقال:
فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا
[مريم:17]. ثم قال:
فنفخنا فيها من روحنا
[الأنبياء:91]. والنافخ جبرائيل. وقال:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29]. وقال:
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة:14]. والتعذيب هو عين القتل، بل صرح وقال:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
[الأنفال:17]. ثم قال:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17]. وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهرا، لكن معناه: رميت بالمعنى الذي يكون العبد راميا، وما رميت بالمعنى الذي يكون الحق راميا، إذ هما معنيان مختلفان. وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصف ملك الأرحام أنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده: ثم يصورها جسدا، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى أسوي أم معوج؟ فيقول الله ما شاء، ويخلق الملك.
وفي لفظ آخر: ويصور الملك فيها الروح بالسعادة والشقاوة.
وقال بعض السلف: إن الملك الذي يقال له الروح، هو الذي يولج الأرواح في الأجسام، وإنه يتنفس بوضعه، فيكون كل نفس من أنفاسه روحا تلج في جسم.
وقال بعض العرفاء: ما ذكره من مثل هذا الملك صفته، فهو حق بمشاهدة أرباب القلوب ببصائرهم، وأما كون الروح عبارة عنه، فلا يمكن أن يعمل إلا بالنقل. والحكم به تخمين مجرد.
وكذلك ذكر الله في القرآن الأدلة والآيات في الأرض والسموات وقال:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53].
ثم قال:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53].
وقال:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران:18].
فبين أنه الدليل على نفسه.
وليس ذلك بمتناقض، بل طرق الاستدلال، فكم من طالب عرف الحق بالنظر الى الموجودات، وكم من طالب عرف الحق بالنظر إليه، وبه كل الموجودات. كما قال بعضهم: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي.
وقد وصف الله نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوض الموت والحياة الى ملكين، ففي الخبر: إن ملك الموت وملك الحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أميت، وقال ملك الحياة: أنا أحيي الأموات. فأوحى الله إليهما: كونا على عملكما وما سخرتما له من الصنع. فإني أنا المميت وأنا المحيي. لا مميت ولا محيي سواي.
فالمحقق أضاف الكل الى الله، لأنه عرف الحق والحقيقة.
ولما جرى بيت لبيد على لسان بعض الأعراب، قصدا أو اتفاقا، صده الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: أصدق بيت قاله شاعر، قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أي كل ما لا قوام له بنفسه، وإنما قوامه بغيره، فو باعتبار نفسه باطل، وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذا لا حق بالحقيقة إلا القيوم الحق الذي ليس كمثله شيء، فإنه قائم بذاته، وكل ما سواه قائم بقدرته، فهو الحق وما سواه باطل، ولنرجع الى ما كنا بصدده.
فصل
[رد احتجاجات المعتزلة]
إعلم أن المعتزلة لما كان أصل اعتقادهم أن فاعل الكفر والجهل والظلمة وسائر الشرور الواقعة في هذا العالم هو غير الله؛ أشكل عليهم قوله: { فزادهم الله مرضا } ، قالوا: لا يجوز أن يكون مراد الله منه الكفر والجهل لوجوه مذكورة في التفسير الكبير من غير جواب، ونحن نذكرها ونجيب عنها:
الأول: أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك، لقالوا للنبي (صلى الله عليه وآله): إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف يأمرنا بالإيمان؟
والجواب: أولا: بالنقض، لأن ما ذكروه جار بعينه في مثل قوله:
وأضله الله على علم
[الجاثية:23]. وقوله:
يضل من يشآء ويهدي من يشآء
[فاطر:8] وقوله:
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا
[الكهف:57]. إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنه تعالى أبعد الكفار والمنافقين عن دار كرامته، وصدهم عن سبيله، وجنبهم عن الجنة.
وثانيا: إن المنافقين إذا قالوا ذلك، فللبني (صلى الله عليه وآله) أن يقول: إنما طرأ عليكم من الله الظلمة والحجاب، لشؤم ما فعلتم أولا من الانكار والجحود والتمادي على الجهل والكفر، كما قال تعالى:
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة
[البقرة:74]. وقوله:
بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
[النساء:155]. وقوله:
فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية
[المائدة:13].
الثاني: إنه تعالى لو كان فاعلا للكفر، لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة.
والجواب: منع هذه الملازمة. وأي علاقة لزومية بين ايجاد الكفر في النفوس المظلمة الجاحدة لآيات الله، وبين اظهار المعجزة على يد الكاذب؟
الثالث: إنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم، فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم؟
والجواب: إن هذا بعينه مصادرة على المطلوب الأول، فإن أصل الكلام في أن الله فاعل الكل أم لا.
الرابع: قوله تعالى: { ولهم عذاب أليم } ، فإن كان تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم؟
والجواب: بما مر سابقا، أن العقوبات للجرائم، من باب التوابع والثمرات لبذور المعاصي والسيئات، والله منزه عن الانفعال والتغير في الصفات، كالغضب ونحوه، فكان حاصل الجواب عن قول من قال " إذا كان الكل به ومنه وإليه، فكيف غضب على نفسه وذم فعله "؟ ما قد ذكر سابقا من تقسيمه عباده وبحسب المشية الى ما سبق لغاية الحكمة، والى من استوقف دونها، فاستعير للنسبة الأولى اسم الرضاء، وللثانية عبارة الغضب، وأردف الأول بخلعه الثناء زيادة في القبول والرضاء. وأردف الثاني بنقمة اللعن والذم زيادة في النكال، فهو المعطي للجمال والمثني، وهو المعطي للنكال والمردي، فيكون بالحقيقة هو المجمل والمثني والمثنى عليه في جميع الأحوال، والحمد لله على كل حال.
الخامس: إنه تعالى أضافه اليهم بقوله: { بما كانوا يكذبون } ، وعلى هذا وصفهم تعالى بانهم مفسدون في الأرض، وأنهم هم السفهاء، إذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم، فدل على أن المراد منه شيء آخر.
والجواب: بمثل ما مر، وهو أن إظلام قلوبهم وتسويدها بالكفر، مسبب عن كذبهم وتكذيبهم للرسول (صلى الله عليه وآله)، وإفسادهم في الأرض، واستهزائهم بالمؤمنين، وهذه أيضا أسباب لاشتداد مرضهم وازدياد كفرهم.
فصل
[تأويلات المعتزلة]
ثم قالت المعتزلة: إذا ثبت أن المراد ليس ما هو الظاهر من قوله تعالى: { فزادهم الله مرضا } ، فلا بد من التأويل فيه، وهو من وجوه:
الأول: بحمل المرض على الغم لأنه يقال: مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى: أن المنافقين لما رأوا ثبات أمر النبي (صلى الله عليه وآله) واستعلاء شأنه يوما فيوما وذلك كان يؤثر في زوال رياساتهم، فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك، أي زادهم غما على غمهم بما يزيد في أمر الرسول وتعظيم شأنه.
الثاني: إن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، وتكرير الوحي، وتضاعف النصر، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة:
فزادتهم رجسا إلى رجسهم
[التوبة:125]. والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم ازدادوا رجسا عند نزولها لما كفروا بها قبل ذلك. وكقوله:
وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا
[المائدة:64]. وقوله:
فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا
[فاطر:42]. وكقولك لمن نصحته فلم يقبل وتمادى في فساده: ما زادتك نصيحتي الا شرا وفسادا.
فكذا هؤلاء المنافقين، لما كفروا وازداد كفرهم عند التكليف والدعوة من الله الى شرائع دينه، اضيفت زيادة كفرهم إليه تعالى.
الثالث: أن يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخوف لأن قلوبهم كانت قوية، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به ان ريح الإسلام تهب حينا ثم تسكن، ولواءه يخفق أياما ثم يقر، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر، وإظهار دينه الحق على الدين كله. وإما لجرأتهم وجسارتهم في الحرب فضعفت جبنا، حين قذف في قلوبهم الرعب، وشاهدوا شوكة المسلمين وامد الله لهم بالملائكة.
ومعنى الزيادة: أنه كلما زاد الله رسوله نصرة وتبسطا في البلاد، ازدادوا حسدا وبغضا، وازدادت قلوبهم ضعفا ويأسا عما طمعوا فيه ، وجبنا وخورا، وأن يحمل المرض على تغير مزاج القلب وتألمه، وذلك لأن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك؛ فربما صار ذلك سببا لتغير مزاج قلبه ومرضه، قالوا: وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه.
فصل فيه حكمة عرشية
[اللذة والألم]
قوله: { ولهم عذاب أليم } ، قال صاحب الكشاف: يقال: ألم فهو اليم، كوجع فهو وجيع، وهذا على طريقة قولهم، جد جده، والألم في الحقيقة للمؤلم، كما أن الجد للجاد.
أقول: إن المؤلم بالحقيقة، هو الألم الحاصل في القلب دون السبب الخارجي، كما ان صورة اللذة الحاصلة في النفس عند إدراك الملائم النفسي أو البدني، هي الملذة بالحقيقة، لا ما خرج عن التصور، وليس الملذ والمؤذي بالحقيقة إلا المرتسم في القلب، - أعني النفس - لا الموجود في الخارج، وكلما ارتسمت في النفس صورة العذاب أو مقابلها يفعل فعلها وإن لم يكن سبب من خارج، فإن السبب الذاتي هو هذا المرتسم، والخارج سبب بالعرض، أو سبب السبب، فالأول: كما في اليقظة، فإن الصور الملذة أو المؤذية المرتسمة في النفس تبتدئ من الصور المادية الخارجية، وقد ثبت في العلوم الحقيقية، أن تأثيرها على سبيل الاتفاق والإعداد، وانها أسباب بالعرض، والثاني: كما في النوم، فإن الصور الملذة أو المكرهة قد تبتدئ من داخل باطن النفس إليها حتى تنتهي الى مشهد الحس المشترك، فتدركها النفس، وقد لا تكون كذلك، بل تنتقل صور مخزونات النفس بعضها الى بعض، فإذا ابتدأت من داخل النفس، فيكون سبب ارتسامها من عالم الغيب، والأسباب الموجودة في عالم الغيب سببيتها تكون ذاتية، فيكون الملذ والمؤذي في النوم أو ما يجري مجراه كالموت والبرزخ، هي الصورة المرتسمة في النفس، وسبب ارتسامها ملذ ومؤلم بالواسطة.
فصل
[في قوله تعالى: بما كانوا يكذبون]
قوله: { بما كانوا يكذبون } ، صريح في أن عذابهم الأليم معلل بكذبهم، على قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب قبيحا حراما.
وفيه رمز آخر الى قبحه، حيث علل به استحقاق العذاب، وترتب عليه دون الكفر مع وجوده، ونحوه قوله تعالى:
مما خطيئاتهم أغرقوا
[نوح:25]. وانهم كانوا كفرة إلا انه خصت الخطيئات بالسببية، استعظاما لها، وتنفيرا عن ارتكابها.
والكذب: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وهو حرام كله، أما ما يروى عن إبراهيم (عليه السلام) أنه كذب ثلاثة كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به.
والمراد بكذبهم قولهم:
آمنا بالله وباليوم الآخر
[البقرة:8]، والجاحظ لا يسميه كذبا إلا إذا علم كون المخبر عنه على خلافه، وهذه الآية حجة عليه.
وقرأ الباقون: يكذبون، من كذبه، نقيض صدقه، لأنهم كانوا يكذبون الرسول (صلى الله عليه وآله) بقلوبهم، وإذا خلوا الى شياطينهم.
أو من كذب الذي هو مبالغة كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدق مشددا، ونظيرهما: بان الشيء وبين. وقلص وقلص، أو بمعنى الكثرة كقولهم: موتت البهائم وبركت الإبل.
[2.11]
الجملة معطوفة إما على: " يكذبون " ، وإما على: " يقول آمنا " ، فيكون التقدير: ومن الناس من إذا قيل لهم، والأول أولى، والقائل هو الله تعالى، أو الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو بعض المؤمنين، ولكل قائل، والكل محتمل.
والأقرب أن القائل لهم من شافههم ممن يختص بالدين والنصيحة، وكثيرا ما كان المنافقون إذا عوتبوا عادوا الى إظهار الإسلام والندم، وكذبوا الناقلين عنهم، وحلفوا بالله عليه، كما أخبر تعالى عنهم في قوله:
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر
[التوبة:74] وقال:
يحلفون لكم لترضوا عنهم
[التوبة:96].
وما وري عن سلمان " إن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد " ، فلعله أراد به أن أهلها ليس مقصورا على الذين كانوا فقط، بل وسيكون من بعد من كان حالهم هذا الحال، لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها.
والفساد: عبارة عن خروج الشي عن كونه منتفعا به، ونقيضه: الصلاح، وقد يطلق على زوال الصورة، ونقيضه: الكون، وأما كون الفساد فسادا في الأرض، فيستدعي أمرا زائدا وفيه أقوال:
أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: إن المراد به إظهار معصية الله. وتقريره ما ذكره القفال، وهو أن إظهار معصية الله إنما كان فسادا في الأرض، لأن الشرائع الإلهية سنن وطرق موضوعة بين العباد، فإذا تمسكوا بها زال العدوان، ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، فكان فيه صلاح الأرض، وأما إذا تركوا التمسك بالشرائع، وأقدم كل أحد على ما يهواه بطبعه، لزم الهرج والمرج والاضطراب، ويهيج الحروب والفتن والفساد في الزروع والمواشي، وانتفاء المنافع، الدينية والدنيوية، ولذلك قال الله تعالى:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم
[محمد:22] وقال:
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
[البقرة:205]. نبأهم الله تعالى على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة، لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به.
الثاني: أن يقال: ذلك الفساد، هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنهم لما مالوا الى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون، أوهم ذلك ضعف الرسول (صلى الله عليه وآله) وضعف أنصاره، وكان ذلك يجرئ الكفار على عداوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونصب الحرب لهم وطمعهم في الغلبة، فلما كان صنيعهم ذلك مؤديا الى الفساد، قيل لهم: لا تفسدوا، كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم الى أمر هذه عاقبته.
الثالث: إن المنافقين كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين، بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، وذلك مما يؤدي الى هيج الفتن بينهم، وفيه فساد عظيم في الأرض.
الرابع: قال الأصم: كانوا يدعون في السر الى تكذيبه، وجحد الإسلام، وايقاع الشبه في قلوب الناس من ضعفاء العقول والإيمان، فيرتدون على أعقابهم.
فصل
وقوله: { قالوا إنما نحن مصلحون } ، كالمقابل لما ذكر، وهو جواب ل " إذا " ، ورد للقائل الناصح على سبيل المبالغة، لأن " إنما " لقصر الحكم على شيء كقولك: إنما يكتب زيد، ولقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب، فالمعنى أن صفة الإصلاح مقصورة عليهم متمحضة لهم، وعند ذلك يحتمل وجهان:
أحدهما: إنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جرم قالوا: { إنما نحن مصلحون }.
وثانيهما: إن مداراتنا مع الكفار سعي في الإصلاح بينهم وبين المسلمين، وذلك كما حكى الله عنهم أنهم قالوا:
إن أردنآ إلا إحسانا وتوفيقا
[النساء:62].
[2.12]
رد لما ادعوه، وإنكار لما صوروه من الانتظام في جملة المصلحين، بأبلغ رد وأشد إنكار، وأدله على سخط عظيم، حيث وقع الاستيناف والتصدير: (بألا) و (إن) حرفي التأكيد والتحقيق، وعرف الخبر ووسط الفصل مع الاستدراك " بلا يشعرون " ، فإن الأولى منهما مركبة من حرفي الاستفهام والنفي لافادة التحقيق كقوله:
أليس ذلك بقادر
[القيامة:40] ولكونها في هذه المرتبة من التحقيق، لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، واختها " أما " التي هي من طلائع اليمين ومبادئ القسم، والثانية هي المقررة للتنبيه والتحقيق.
تنبيه
[الجهال المنتسبون الى العلم]
إعلم أن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله، كانوا من المنتسبين ظاهرا الى العلم والصلاح، مع وفور الجهل، وقلة الورع، ورداءة الاعتقاد، وسوء الخلق، وعند أنفسهم - لغاية الحمق والسفاهة - أنهم من أهل الصلاح والاصلاح لنفسهم ولغيرهم، ونظائرهم موجودون في كل زمان، مضادون في أطوارهم وآرائهم لأهل الحق في كل أوان، واكثرهم من مجادلة أهل الكلام، والمتعصبة لمذاهب أخذوها تلقفا وتقليدا من غير بصيرة. وليس من الطوائف المنتسبة الى العلم والأدب شر على العلماء المحقين، ولا أضر على الأنبياء الهادين، ولا أشد عداوة للمؤمنين بالحقيقة، ولا أفسد للعقول السليمة، من كلام هؤلاء المجادلة، وخصوماتهم وتعصباتهم في الآراء والمذاهب.
وذلك لأنهم إن كانوا في زمن الأنبياء (عليهم السلام)، فهم الذين لا يصدقون ولا يؤمنون كسائر الناس، بل يطالبونهم بالحجج والمعجزات، ويعارضونهم بالخصومات، ويشوشون عقائد المسلمين بابداء الشبهات، ويزيفون قلوبهم بالضلالات، مثل ما قالوا لنبينا (صلى الله عليه وآله):
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا *] أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا
[الإسراء:90 - 92] وما قالوا لنوح:
وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي
[هود:27].
وهم الذين كانوا إذا مروا بالمؤمنين يتغامزون، وقال تعالى في ذمهم وتوبيخهم:
ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون
[الزخرف:58]. فهذه حال من كان منهم في زمان الأنبياء (عليهم السلام).
وأما إذا كانوا في غير أزمانهم، فهم الذين يجادلون أهل الدين والورع بالشبهات، وينبذون كتب الله وراء ظهورهم، ويفرغون الى الآراء والمذاهب بعقولهم السخيفة، وآرائهم الفاسدة، ويضعون لمذاهبم قياسات متناقضة، واحتجاجات مغالطية مموهة، فيضلون العقول السليمة عن سنن الحق ومسلك الدين، والعلة في ذلك أسباب شتى:
منها: شدة تعصبهم فيما اعتقدوه تقليدا من غير بصيرة، وأخذوه من آبائهم وأسلافهم في أوائل العمر.
ومنها أعجابهم بأنفسهم في حالهم وعلمهم.
ومنها: اعتقادهم لأصول خفي فيها خطأوها عليهم وهي ظاهر الشناعة فيما يترتب عليها ويتفرع عنها، فيلتزمون تلك الشناعات في الفروع، مخافة أن تنتقض عليهم الأصول، ويطلبون لها وجوها من المراوغة من التزام الحجة، تارة بالشغب، وتارة بالتمويه، وتارة بالمنازعة هربا عن الجواب والإقرار بالحق، وتأنفا عن أن يقولوا: لا ندري الله وروسوله أعلم، إقتداء بأدب الله كما قال:
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله
[الشورى:10]
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم
[النساء:83].
وانك لتجد من فيهم جودة عبارة، وفصاحة بيان، وسحر كلام، ما يقدر أن يصور الباطل في صورة الحق بالوصف البليغ، ويصور الحق في صورة الباطل، وهو مع ذلك جاهل القلب، ميت النفس عن إدراك حقائق الأشياء، بعيد الذهن عن فهم المعارف العقلية، كما قال تعالى: { ولكن لا يشعرون }. وقوله:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل:80].
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يقول:
" أخوف ما أخاف على أمتي منافق القلب، عليم اللسان، غير حكيم القلب، يغترهم بفصاحة بيانه، ويضلهم بجهله ".
وتجد فيهم من يجادل ويحتج وهو عاقل في أشياء كثيرة من أمور الدنيا، فإذا فتشت عن اعتقاده في أشياء اعتقادية متعلقة بأمور الدين، وجدت رأيه واعتقاده أسخف وأقبح من رأي كثير من الصبيان والعلة ما ذكرنا أولا.
[2.13]
ومن قبائح أعمال المنافقين: أنهم يستنكفون عن قبول التعليم ، وعن التقليد للغير، والتسليم لأمره، ولا يرضون بمشاركة الناس ترفعا لمقامهم، ومقامهم أدنى من كل أحد، ممن يقبل التعليم والتأديب والإرشاد والتهذيب.
ولما كان كمال الإنسان منوطا بمجموع أمرين: ترك ما لا ينبغي، وإتيان ما ينبغي. لذلك نهاهم الله في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض، وأمرهم في هذه الآية بالإيمان ولفظة قوله: " آمنوا " مفعول لم يسم فاعله؛ لمعنى قوله: " قيل " ، والإسناد الى صورة الفعل ولفظه جائز، والممتنع هو الإسناد الى معناه، فهو مثل قولك: ركب " ضرب " من ثلاثة أحرف.
وقوله: { آمنوا كمآ آمن الناس } ، في حيز النصب على المصدرية، و " ما " مصدرية، مثلها في " بما رجعت " ، أو كافة مثلها في " ربما ".
والتعريف في " الناس " للجنس، أي كإيمان سائر الناس، واستدل به على قبول توبة الزنديق، وان الإقرار باللسان إيمان، وإلا لم يفد هذا التقييد.
أو المراد به الكاملون في الإنسانية، العاملون بمقتضى العقل، فإن اسم الجنس كما يطلق على مسماه مطلقا، كذلك يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة، والمعاني المختصة بالإنسان التي يمتاز بها عن سائر الأكوان وسائر الحيوان، هي الإيمان والمعرفة والعفة والعدالة والصبر والتقوى والرضا بما أمر الله، وغير ذلك، فكل من أخل بشيء من ذلك، فقد نقص في الإنسانية بحسبه، وكل من قصر عنها فصح سلب الانسانية عنه فيقال: زيد ليس بإنسان، وإن كان في قالب الإنسانية، ومن هذا الباب قوله تعالى:
صم بكم عمي
[البقرة:18]، ونحوه، وقد جمع الشاعر بين المعنيين في قوله:
إذ الناس ناس والزمان زمان
ويمكن أن يكون للعهد، والمراد به الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن معه أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه والمعنى: آمنوا كسائر الناس، أو كإيمان الخواص ايمانا مقرونا بالإخلاص، متمحضا عن شوائب النفاق.
والقائل: إما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو بعض المؤمنين. وكان من جوابهم أن سفهوا الناصح لفرط سفههم، وجهلوه لتمادي جهلهم وغرورهم.
ومنشأ غرورهم وتسفيههم لأهل الدين أحد أمرين؛ لأن الكفار على ضربين، فمنهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غره بالله الغرور.
أما الذين غرتهم الحياة الدنيا، فهم الذين لهم زينة في الحياة الدنيا، ورياسة في قومهم وجمعية ويسار، ورأوا أكثر المؤمنين فقراء تحت ذل المسكنة واليأس والبؤس، فاغتروا بالدنيا وقالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، فتكون خيرا من الآخرة لأنها نسية، فلا بد من ايثارها.
وربما قالوا أيضا: اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا يترك اليقين بالشك، فهو هو الباعث لهم على نسبة السفاهة الى المؤمنين.
وهذه أقيسة فاسدة، دالة على أن الملفق لها المعول عليها سفيه العقل جاهل القلب، ولهذا أظهر الله تعالى حال باطنهم وسفاهة عقلهم بقوله: { ألا إنهم هم السفهآء ولكن لا يعلمون }.
وذلك لأن قياسهم فاسد يشبه قياس إبليس، ولكنهم وقعوا فيه واغتروا به لأنهم ما علموا وجه فساده.
وعلاجه أحد أمرين: إما بالبرهان. وإما التصديق بمجرد الايمان بما أخبره الله تعالى من قوله:
وما عند الله خير وأبقى
[القصص:60]
والآخرة خير وأبقى
[الأعلى:17].
وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور
[آل عمران:185]. ونحو ذلك.
وأما المعرفة بالبرهان، فهو أن يعرف وجه فساد قياسهم الذي يظنه الشيطان وفيه أصلان: الأول؛ صحيح والآخر: وهو قوله: النقد خير من النسية، محل التلبيس، إذ لو كان النقد مثل النسية في القدر والشرف والمنزلة، فهو خير وإلا فلا. وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر، وهو أكثر فسادا من الأول، لأن كلا أصليه باطل، إذ اليقين خير من الشك إذا كان مثله في المقصود، وإلا فإن التاجر في تعبه ومشقته على يقين، وفي ربحه على شك، والمتفقه في اجتهاده وتعبه على يقين، وفي ادراكه رتبة العلم على شك، وكذا سائر النظائر في هذا الباب.
فكذلك من شك في الآخرة، ينبغي له بحكم الجزم أن يقول: " الصبر أياما قلائل قريب بالاضافة الى ما يقال من أمر الآخرة، فما قيل فيه إن كان كذبا فلا يفوتني إلا التنعم اليسير في أيام حياتي، وإن كان صدقا فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق ". ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض الملحدين: " إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا، وإن كان ما قلنا حقا، فقد تخلصنا وهلكت ".
وما قال (عليه السلام) هذا عن شك في أمر الآخرة، ولكن كلم الملحد على قدر عقله، فبين أنه مغرور سفيه.
وأما الأصل الثاني: وهو أن الآخرة شك، فهو أيضا خطأ، بل ذلك يقين عند العارفين والمؤمنين، وليقينه مدركان:
أحدهما: الإيمان والتصديق تقليدا للأنبياء والأولياء، وذلك أيضا يزيل السفه والغرور، وأكثر أهل الدين اطمأنوا به كما تطمئن نفس المريض الى تصديق قول الأطباء الحذاق في الدواء، ولو اعتمد أحد قوله وترك قول الأطباء، كان سفيها معتوها، وهذا القدر من الإيمان كاف لجملة الناس، لأنه اعتقاد جازم يستحث على العمل، وإليه الإشارة بوجه في قوله: { آمنوا كمآ آمن الناس }.
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة: فالوحي للأنبياء، والإلهام للأولياء، ولا تظن أيها الحبيب - هداك الله - ان معرفة النبي (صلى الله عليه وآله) لأمر الآخرة ولأمر الدين ولسائر المعارف الإلهية، كانت تقليدا لجبرائيل بالسماع منه والرواية، كما ان معرفتك تقليد للنبي تكون معرفتك كمعرفته، وانما يختلف المقلد فقط.
هيهات، فإن التقليد ليس معرفة، بل هو اعتقاد صحيح، والأنبياء عارفون. ومعنى معرفتهم أنهم كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها، فشاهدوها بالبصيرة الباطنة، كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر، فيخبرون عن مشاهدة، لا عن سماع وتقليد.
وأما الذين غرهم بالله الغرور، فمنشأ اغترارهم بالله ما قال بعضهم في أنفسهم أو بألسنتهم: إنه إن كان لله تعالى معاد ولنا عود إليه، فنحن أحق به وبالسعادة عنده من غيرنا، لأنا أعظم منزلة وأوفر حظا وأسعد حالا، كما أخبر الله تعالى من قول الرجلين المتحاورين في القرآن بقوله:
ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا
[الكهف:36]. وقال تعالى ردا على أمثاله:
أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا
[مريم:78]. كلا فهذا من الغرور بالله.
ويشبه القياس من أقيسه إبليس، وذلك بأنهم ينظرون مرة الى نعم الله تعالى عليهم في الدنيا ، ويقيسون نعم الآخرة عليه، وينظرون مرة الى تأخير الله العذاب عنهم فيقيسون عذاب الآخرة عليه، ومرة ينظرون الى الفقراء المؤمنين وهم شعث غبر وكان منهم في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) موالي كصهيب وبلال وخباب، فيزدرونهم ويستحقرونهم، ويسفهونهم، وكان بعض المنافقين يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بين فلان؟!
وكانوا يقولون:
أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ
[الأنعام:53]. ويقولون:
لو كان خيرا ما سبقونآ إليه
[الأحقاف:11]. وهذا كله أيضا لحمقهم، وسفه عقولهم، وجهلهم بأحوال الدنيا والآخرة، فإن ترتيب القياس الذي رتبه إبليس في قلوبهم انهم قالوا: قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب لأحد فهو يحسن إليه في المستقبل أيضا كما قال الشاعر:
لقد أحسن الله فيما مضى
كذلك يسحن فيما بقي
والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب، لا بل تحت ظنه أن انعامه عليه في الدنيا إحسان، فقد اغتر أنه كريم عند الله بدليل لا يدل على الكرامة، بل عند ذوي البصائر يدل على الهوان، لأن نعيم الدنيا مهلكات مبعدات من الله، وإن الله يحمي عبده الدنيا وهو يحبه، كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب وهو يحبه.
وفي الخبر: إن أرباب البصائر، إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا: ذنب عجل لنا عقوبته، ورأوا إمارة المقت والإهمال، وإذا أقبل الفقر قالوا: مرحبا بشعار الصالحين.
والسفيه المغرور بوساوس الشيطان بعكس ذلك، كما اخبر الله تعالى بقوله:
فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن
[الفجر:15 - 16].
فبين ان ذلك لجهله وسفاهته.
فكذلك المراد بقوله: { ألا إنهم هم السفهآء } ، يجوز أن يكون ذلك بيانا لغرورهم وجهلهم بفساد ما تخيلوه من صورة أقيستهم الفاسدة الأصول، الباطلة النتيجة، فإن من باع آخرته بدنياه بقياس مغالطي ألقاه الشيطان، فهو السفيه، ومن خالف طريق الأنبياء والأولياء كلهم، فهو السفيه.
وإنما قال في هذه الآية: " لا يعلمون " ، وفيما قبلها: " لا يشعرون " ، لأن الوقوف على أن طريق الإيمان حق وطريق الكفر باطل، أمر عقلي نظري، وأما الوقوف على النفاق وما فيه من البغي والفساد في الأرض، فأمر ضروري يجري مجرى المحسوس، لأنه يشاهد من أقوالهم وأفعالهم، ولأن ذكر السفه - وهو نقص العقل وخفته - مكان ذكر العلم، أحسن طباقا من مكان ذكر الشعور.
واصل السفه الخفة. يقال: سفهت الريح الشيء: إذا حركته، قال ذو الرمة:
جرين كما اهتزت رياح تسفهت
أعاليها مر الرياح الرواسم
وفي الآية تسلية للعالم فيما يلحقه في التعليم والنصيحة من سفاهة الجاهل وصوته المستنكر، وقوله الباطل، واعتقاده الفاسد، وإعجابه بنفسه.
[2.14]
هذا هو النوع الرابع من أنواع الأفعال والأقوال القبيحة للمنافقين المذكورة في هذه الآيات، ولهم أنواع كثيرة من القبائح مذكورة في مواضع من القرآن.
منها: ما ذكره بقوله:
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون
[الزمر:45]. وبقوله:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا
[الحج:72].
ومنها ما وصفهم الله به في قوله:
وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم
[البقرة:206].
ومنها: تقليدهم للآباء والمشايخ وإن كانوا على الباطل، كما وصفهم الله في مواضع بمثل قوله:
وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير
[لقمان:21].
ومنها: اتباعهم للهوى:
واتبع هواه
[الكهف:28]. الآية.
ومنها: انكارهم واستكبارهم عن طلب الحق وقبوله:
فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون
[النحل:22].
ومنها: غمزهم للمؤمنين:
وإذا مروا بهم يتغامزون
[المطففين:30].
ومنها: الهمزة واللمز:
ويل لكل همزة لمزة
[الهمزة:1].
ومنها: تنابزهم بالألقاب:
ولا تنابزوا بالألقاب
[الحجرات:11].
ومنها: تفاخرهم بالأنساب:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات:13].
ومنها: تزكيتهم أنفسهم:
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشآء
[النساء:49].
ومنها: افتراؤهم على الله:
ومن أظلم ممن افترى على الله
[الأنعام:93].
ومنها: كتمانهم ما أنزل الله:
إن الذين يكتمون مآ أنزلنا
[البقرة:159] الى قوله:
ويلعنهم اللاعنون
[البقرة:159].
ومنها: أكلهم أموال اليتامى ظلما:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
[النساء:10]. الآية.
ومنها: أكلهم الأموال بالباطل من جهة التشبث بالدين:
إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل
[التوبة:34].
ومنها: غرورهم بالدين:
وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون
[آل عمران:24].
ومنها:
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها
[آل عمران:120].
ومنها:
والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس
[النساء:38].
ومنها:
الذين يتخذون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا
[النساء:139].
ومنها:
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية
[الأنفال:35].
ومنها:
اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله
[التوبة:9].
ومنها:
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون
[التوبة:109].
ومنها: إنهم يجعلون لله ما يكرهون من الصفات التشبيهية، والانفعالات، كالغضب والانتقام على النحو الذي تخيلوه.
ومنها: سعيهم في تحصيل العلوم الظاهرية طلبا للدنيا والاشتهار، وانكارهم للعلوم الخفية الإلهية:
الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
[الكهف:104 - 105].
ومنها: مجادلتهم في الله من غير معرفة وبصيرة:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير
[الحج:3 - 4].
ومنها: انهم زين لهم سوء عملهم:
أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم
[محمد:14].
ومنها: ارتدادهم عن الهدى بحسب سرهم:
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم
[محمد:25] الى قوله:
والله يعلم إسرارهم
[محمد:26].
ومنها: استنكافهم عن صحبة الصلحاء:
يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
[المنافقون:8].
ومنها: كثرة يمينهم وحلفهم في إثبات الدواعي والدعاوي:
ولا تطع كل حلاف مهين
[القلم:10]. الآيات. قال تعالى:
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم
[البقرة:224]. وقيل: إيمان المرء يعرف من أيمانه.
ومنها : توليهم عن ذكر الله الى الدنيا:
فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم
[النجم:29 - 30].
ومنها: الاستدارج من الله لهم:
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين
[القلم:44 - 45].
ومنها: إعراضهم عن الآيات والحكمة، ونسيانهم ذكر الله:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
[طه:124 - 126]. وقوله:
فأنساهم ذكر الله
[المجادلة:19]. وقوله:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة:67].
ومنها: انهم يضحكون من طور أهل العلم والورع، وينسبونهم الى الضلال، قوله تعالى:
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون
[المطففين:29 - 32]. إلى غير ذلك من أقوالهم القبيحة، وأطوارهم النكيرة، وآرائهم المردية، وأهوائهم الشيطانية التي يطول الكلام بذكرها، بل هي خارجة عن الضبط.
وقرئ: " إذا لاقوا ". وقوله: { آمنا } المراد به أخلصنا بالقلب، وما صدرت به القصة كان بمعنى " أقررنا " ، فلا تكرار. والدليل على ما ذكرنا أمران:
أحدهما: أن الإقرار باللسان كان معلوما منهم فما احتاجوا الى بيانه، انما المشكوك فيه منهم هو الإخلاص بالقلب، فاحتاجوا الى إظهاره.
وثانيهما: أن قولهم للمؤمنين: { آمنا } يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، فادعاؤهم هناك كان تكذيبا قلبيا، فها هنا ينبغي أن يكون تصديقا قلبيا.
وقيل: هذا بيان معاملتهم مع الطرفين، والذي ذكر في صدر القصة، فلبيان مذهبهم وتمهيد كفرهم ونفاقهم، فليس بتكرير.
وقوله: { وإذا خلوا } ، في الكشاف: إنه من " خلوت بفلان، وإليه ": إذا انفردت معه، أو من " خلا " بمعنى: مضى. و " خلاك ذم " أي: عداك ومضى عنك. ومنه " القرون الخالية ". أو من " خلوت به " اذا سخرت منه. وعدي ب " إلى " لتضمين معنى الانتهاء، والمراد أنهم انهوا السخرية بالمؤمنين الى شياطينهم كما تقول: أحمد إليك فلانا وأذمه اليك.
فصل فيه إشراق
وأما: { شياطينهم } ، فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وعصيانهم واستبدادهم بالرأي، وإنكارهم للحق، وإبرازهم الباطل بصورة الحق.
واعلم أن كل منافق فهو شيطان بالحقيقة وبحسب الباطن، وإن كان ظاهره ظاهر الإنسان، إذ لا عبرة به، إنما العبرة بالقلب وأحواله، وما حشر إليه في يوم الآخرة، ويكون حشر المنافقين يوم القيام من قبورهم الى الشياطين، لغلبة صفة الشيطنة على قلوبهم، من المكر والحيلة والخديعة، وسوء الاعتقاد، والإغواء للخلق، وحب الاستيلاء والتمرد والتجبر، وغير ذلك.
بيانه: أن في الإنسان قوة علمية وقوة عملية. والعلمية منقسمة الى عقلية ووهمية. والعملية منقسمة الى شهوية وغضبية، وسعادته منوطة بتكميل القوة النظرية والبصيرة الباطنية بتكرير النظر الى حقائق الأشياء، والمطالعة للأمور الإلهية على وجه الحق والصواب، وبتسخير قواه الإدراكية والتحريكية وسياستها إياها لتصير مقهورة تحت أمرها ونهيها، ولا تكون متمردة عاصية، ولتلك القوى رؤوسا ثلاثة:
الوهم للادراكية، والشهوة والغضب للتحريكية، إذ كل منها متشعبة الى فروع كثيرة، وخوادم هي جنودها، ففي الإنسان ما دام كونه الدنيوي أربع شوائب: العقل والوهم والشهوة والغضب.
والأول ملك بالقوة. والثاني شيطان بالقوة. والثالث بهيمة بالقوة. والرابع سبع بالقوة.
وكل منها إذا قوي بتكرير أعمال وأفعال تناسبه، يصير ذلك الشيء الذي كان هو هو بالقوة، بالفعل، ويكون الحكم له في الإنسان ويحشر إليه.
فمن غلب عليه في الدنيا إدراك المعارف، والميل الى الطاعات، والتجرد عن الوساوس والعادات، والتوحش عن الدنيا والخلائق، يكون معاده الى عالم الملكوت الرباني صائرا ملكا ربانيا محشورا اليه مع الملائكة المقربين، قال تعالى:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85].
ومن غلب عليه إدراك الوهميات الباطلة، وإبداء الشبهات والأقيسة الفاسدة، والميل الى المكر والحيلة والخديعة، والسمعة والرياء، والاستهزاء والسخرية للعباد، والشهرة في البلاد، والاستبداد بالرأي، والاتباع للهوى، ومخالفة أهل الحق، والإغواء للناس، فيكون معاده الى عالم الشياطين، صائرا شيطانا مريدا ملعونا محشورا مع الشياطين، كما قال تعالى:
فوربك لنحشرنهم والشياطين
[مريم:68].
ومن غلب عليه حب الشهوات؛ من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وغير ذلك من مشتهيات البطن والفرج، فمعاده الى عالم البوار، وحشره الى الحشرات كما قال:
وما من دآبة في الأرض
[الأنعام:38] الى قوله:
ثم إلى ربهم يحشرون
[الأنعام:38].
وكذا من غلبت عليه صفات السبعية من التهجم والايذاء، والعداوة والبغضاء، والظلم والوقاحة، وغير ذلك، فيحشر مع السباع والوحوش كما قال:
وإذا الوحوش حشرت
[التكوير:5].
فعلم ان حشر الخلائق إلى أحد هذه الأجناس الأربعة، التي لا يخلو عنها شيء من الجواهر الحية المدركة والمحركة.
فقد ثبت وتحقق بهذا البيان والبرهان، أن اطلاق الشياطين على المنافقين، بالحقيقة واليقين، لا بالمجاز والتخمين، لأن مدار نفاقهم على المكر وايهام الحق، وترويج الباطل، والتشبه بأهل الإيمان والعلم، وادعاء الصلاح، فقد صارت بواطنهم، بكثرة أعمالهم الشيطانية الوهمية، انقلبت الى حقيقة الشياطين بالفعل، وخرجت عن القوة والاستعداد لها ولغيرها، وتمني الرجوع منهم الى اصل الفطرة كما في قولهم:
ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا
[السجدة:12] تمني امر مستحيل الوقوع، فلأجل ذلك قال تعالى: { وإذا خلوا إلى شياطينهم } ، إذ المراد بهم أكابر المنافقين، والراسخون في الكفر والنفاق، وهؤلاء المترددون اليهم تارة والى المؤمنين أخرى من الأصاغر.
فصل
قوله: " إنا معكم " ، أي في الضمير وعقيدته، وقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وخاطبوا الشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة " بإن " لأنهم قصدوا بالأولى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأن أنفسهم لا تساعدهم على أن يكون ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بكونه أقوى الكلامين؛ لركونهم الى أهل البطالة والشهوة؛ وكراهتهم بالطبع عن لقاء الله وأهله والقول الصادر عن الكراهة والنفاق. قلما تحصل معه المبالغة، فادعوا عندهم حدوث الإيمان لإكمال تحققه، بخلاف ما صدر عنهم عند إخوانهم، لعلمهم أيضا بأن ادعاء الكمال في الإيمان، لا يروج على المؤمنين.
وأما كلامهم مع إخوانهم في إنكار الشريعة، فعلموا انه مقبول عندهم بأي وجه كان من التأكيد، فأكدوا القول فيه.
قوله جل اسمه: إنما نحن مستهزئون
كأنه جواب عن سؤال الشياطين بأن قالوا إنا معكم: إن صح ذلك منكم، فما بالكم تترددون الى المؤمنين وتوافقونهم في الكلام، وتدعون الإسلام؟
فأجابوا بأنا مستهزئون بهم . أو تأكيد لما قبله؛ لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه. أو بدل منه، لأن من حقر شيئا فقد عظم نقيضه.
والاستهزاء: هو السخرية والاستخفاف يقال: هزأت واستهزأت بمعنى واحد، كأحببت واستجبت. وأصله الخفة، من الهزء. وهو القتل السريع يقال هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقته تهزأته أي تسرع وتخف.
[2.15]
قوله تعالى: الله يستهزىء بهم
ذكروا في تأويل نسبة الاستهزاء إليه تعالى حيث لا ينفك معناه عن التلبيس - وهو على الله محال - وعن الجهل لقوله تعالى:
قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
[البقرة:67]. والجهل على الله محال، وجوها خمسة:
أحدها: إنه من باب صنعة المشاكلة. فسمي ما يفعله الله جزاء لاستهزائهم، استهزاء، كما في قوله:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى:40]. وقوله:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
[البقرة:194].
وفي الحديث عنه (عليه السلام) أنه قال: تكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا وأنه قال (عليه السلام) ايضا اللهم إن فلانا هو يعلم أني لست بشاعر فاهجه اللهم والعنه عدد ما هجاني.
وثانيها: إن ضرر استهزائهم راجع اليهم غير ضائر بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
وثالثها: إن آثار الاستهزاء من الهوان والحقارة لحقت بهم من الله، فذكر اللازم وأريد به الملزوم تجوزا.
ورابعها: إن الله ينعمهم في الدنيا بأنواع النعم، ويظهر عليهم منه تعالى خلاف ما يفعل بهم في الآخرة، كما انهم أظهروا للنبي (صلى الله عليه وآله) أمرا كان الحاصل معهم في السر خلافه، وفيه نظر.
وخامسها: إنه تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ، أما في الدنيا فلأنه يطلع الرسول (صلى الله عليه وآله) على أسرارهم، مع أنهم بالغوا في كتمانها عنه، ويجري عليهم أحكام المسلمين، ويستدرجهم من حيث لا يشعرون، ويمهلهم مدة في النعمة والتمادي على الطغيان.
وأما في الآخرة، فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار، فتح الله تعالى من الجنة بابا الى الجحيم الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب المفتوح، أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون الى الجنة ، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا الى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى:
فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون
[المطففين:34]. وهذا هو الاستهزاء.
وإنما استؤنف الكلام ولم يعطف، ليدل على أن الله تعالى هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين الى أن يعارضوهم باستهزاء مثله، وللإشعار بأن استهزاءهم بالمؤمنين لا يعبأ به في مقابلة ما يفعل الله بهم.
وإنما لم يقل: " الله مستهزئ بهم " ليطابق قولهم، لأن المضارع يفيد الحدوث وقتا فوقتا، والتجدد حينا بعد حين، وهكذا كانت نكايات الله فيمن سلك النفاق وباع آخرته بالدنيا، كما قال:
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين
[التوبة:126].
وأيضا، فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستارهم، وتكشف أسرارهم، واستشعار خوف وحذر من أن يرد عليهم عذاب، أو تنزل فيهم آية تفضحهم كما قال:
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون
[التوبة:64].
بصيرة
إعلم أن للإيمان مراتب متفاوتة في الكمال والنقص، فرب مؤمن يكون له من المعرفة بالله وباليوم الآخر، ما لا يمكن له إظهاره وكشفه للمؤمنين؛ كما لا يمكن للكافرين، فهو يداري مع الطرفين، ويعمل على التقية في الجانبين، فيتكلم مع كل منهما على قدر عقولهم، وهو مع الله لا يبرح ناظرا في عباده بعين الرضا، وهذا ضرب من النفاق، لكنه غير مذموم، بل واجب كما دل عليه قوله (صلى الله عليه وآله):
" كلموا الناس على قدر عقولهم ".
قال بعض العرفاء: إعلم أن الإنسان ذو وجهين: وجه الى ذاته، ووجه الى ربه، ومع أي وجه توجه غاب عنه وجهه الآخر، وكل منهما غير وجه ربك ذي الجلال والاكرام، فكل من وجهيه هالك داثر إذا لم يستحكم علاقته مع وجه ربه، فإذا انقلب إليه، فني عنه وجهه فصار غريبا في الحضرة، يستوحش فيها، ويطلب وجهه الذي كان يأنسه به فلا يجده، فيبقى في عذاب وحسرة.
وأما إذا استحكمت علاقته مع الحق تعالى ، فإذا توجه الى وجه ربه؛ أقبل عليه ولم يكن له مؤنس سواه، ولا مشهود إلا إياه، فصار الحق له وجها وسمعا وبصرا، ففرح لبقائه وعاد الأنس الأعظم، ويتذكر الأنس الماضي به، فيزيد أنسا الى أنس، ويرى عنده وجه ذاته ولا يفقده، لأنه أصله، فيجمع بين الوجهين في صورة واحدة، فيجد الأنس لاتحاد الوجهين فيعظم السرور والابتهاج، وهذه حالة جمعية برزخية، لكونها جمعت بين الطرفين، فمن جمع بينهما في الدنيا، حرم ذلك في الآخرة كالمنافق، فإنه يريد أن يكون برزخا جامعا بين المؤمن والكافر، فإذا انقلب، تخلص الى أحد الطرفين وهو طرف الكفر، إذ لم يستحكم علاقته بالإيمان، ولم يتخلص له؛ فلو تخلص هنا الى الإيمان ولم يكن برزخا، كان إذا انقلب، انقلب الى الله كما ذكرناه من جمعه بين الطرفين، فاحذر ها هنا من صفة النفاق فإنها مهلكة، ولها في سوق الآخرة نفاق اقتضى ذلك الموطن، وما أخذ المنافق ها هنا إلا لأمر دقيق لا يشعر به كثير من العلماء، وقد نبه الله لمن ألقى السمع وهو شهيد، وذلك ان المنافقين ها هنا:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا
[البقرة:14]، لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا. لكنهم قالوا لا عن حقيقة واعتقاد.
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
[البقرة:14]، لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثر فيهم الذم الواقع. وانما زادوا:
إنما نحن مستهزئون
[البقرة:14] فشهدوا على أنفسهم انهم كانوا كافرين.
فما أخذوا إلا بما أقروا به، إذ بناء المؤاخذة والعذاب على ضرب من الاستعداد والشعور به، وبه تتم الحجة لله. وإلا لو أنهم بقوا على صورة النفاق من غير زيادة في البغي وتماد في العصيان، لسعدوا.
ألا ترى الله لما أخبر عن نفسه في مؤاخذته إياهم كيف قال: { الله يستهزىء بهم } ، فما أخذهم بقولهم:
إنا معكم
[البقرة:14]، وانما أخذهم بما زادوا على النفاق. وهو قوله:
إنما نحن مستهزئون
[البقرة:14].
وما عرفك الله بالجزاء الذي جازى به المنافق، إلا لتعلم من أين أخذ حتى تجتنب موارد الهلاك.
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن مداراة الناس صدقة، فالمؤمن يداري الطرفين مداراة حقيقية ولا يزيد على المداراة، بخلاف المنافق، فإنه يجني ثمرة الزائد - كان ما كان - فتفطن.
فقد نبهتك على سر عظيم من أسرار القرآن وهو واضح ووضوحه أخفاه، وانظر في صورة كل منافق تجده ما أخذ إلا بما زاد على النفاق، وبذلك قامت عليه الحجة، ولو لم يكن كذلك، لحشر على الأعراف مع أصحاب الأعراف.
والمؤمن المداري منافق، وهو ناج، وهو فاعل خير، فإنه إذا انفرد مع أحد الوجهين أظهر له الاتحاد ولم يتعرض لذكر الوجه الآخر الذي ليس بحاضر معه، فإذا انقلب الى الوجه الآخر كان معه أيضا بهذه المثابة، والباطن في الحالتين مع الله، فإن المقام الإلهي هذه صورته، فإنه لعباده بالصورتين، فنزه نفسه وشبه، فالمؤمن الكامل بهذه المثابة، وهذا عين الكمال، فاحذر من الزيادة، وكن متخلقا بأخلاق الله.
وقد قال تعالى ممتنا على رسوله (صلى الله عليه وآله):
فبما رحمة من الله لنت لهم
[آل عمران:159]. واللين: خفض الجناح والمداراة ألا ترى الى الحق تعالى يرزق الكافر على كفره ويمهل له في المؤاخذة عليه؟
وقال عز وجل لموسى وهارون في حق فرعون:
فقولا له قولا لينا
[طه:44]. وهذا عين المداراة. ومن هذا المقام:
قوله جل اسمه:
{ ويمدهم في طغيانهم يعمهون } (15)
في الكشاف: من مد الجيش وأمده: إذا زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض، اذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدة الشيطان في الغي وأمده: إذا واصله بالوسواس حتى يتلاحق غيه ويزداد انهماكا فيه وقال بعضهم: مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير، قال الله تعالى:
ونمد له من العذاب مدا
[مريم:79]. وقال في النعمة:
وأمددناكم بأموال وبنين
[الإسراء:6]. وقال:
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين
[المؤمنون:55].
ومن الناس من زعم انه من المد في العمر والإملاء والإمهال ويخدشه أمران: قراءة ابن كثير وابن محيص: ويمدهم، وقراءة نافع:
وإخوانهم يمدونهم في الغي
[الأعراف:202] فإنه يدل على أنه من المدد دون المد، وكون الذي بمعنى " أمهله " إنما هو " مد له " ك " أملى له ".
والطغيان، هو الغلو في الكفر وتجاوز الحد في العتو، قال تعالى:
إنا لما طغا المآء
[الحاقة:11]. أي: جاوز قدره. وقال:
اذهب إلى فرعون إنه طغى
[طه:24]. أي أسرف. وقرئ: طغيانهم " بالكسر ".
والعمه: كالعمى، لكنه عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير.
وعند المعتزلة لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها لوجوه:
أحدها: انه اضيف مثل هذا الفعل الى الشيطان في قوله:
وإخوانهم يمدونهم في الغي
[الأعراف:202].
فكيف يضاف الى الله؟
وثانيها: أن الله ذمهم على هذا الطغيان، فكيف يذمهم الله على ما هو فعل له بالحقيقة؟
وثالثها: أنه لو كان فعلا له، لبطلت النبوة والإنذار، وبطلت فائدة نزول القرآن، فكان الاشتغال بتفسيره عبثا.
ورابعها: أنه أضاف إليهم الطغيان بقوله: { في طغيانهم يعمهون } ، فدل على أنه ليس مخلوقا لله، ومصداقه انه حين اسند المد الى الشياطين، اطلق " الغي " ولم يقيده بالإضافة اليهم في قوله:
وإخوانهم يمدونهم في الغي
[الأعراف:202] فذكروا للآية تأويلات اعتزالية:
الأول: لما منحهم الله تعالى الطاقة التي يمنحها المؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، وسد على أنفسهم طرق التوفيق، فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة، كما تزايدت قلوب المؤمنين انشراحا ونورا، وهذا تأويل الكعبي وأبي مسلم الإصفهاني.
الثاني: انه لما مكن الشيطان من إغوائهم وخلى بينه وبين إغواء عباده، فزادهم طغيانا، اسند ذلك إليه تعالى إسناد الفعل الى المسبب، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة.
والثالث: أن يحمل على منع القسر والإلجاء، كما قيل: السفيه متى لم ينه فهو مأمور.
والرابع: أن يكون يمدهم معناه: يمد عمرهم وهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون.
أقول: جميع ما ذكروه في الاشكال والتأويل ضعيف قاصر عن الصواب، أما الوجوه المذكورة في الإشكال،
فالجواب عن الأول منها: أن نسبة كل فعل الى مصدره المباشر، غير نسبته الى المبدإ الفياض، والله خالق كل شيء ومع هذا ينسب البعض الى غيره، كالإحراق الى النار، والتبريد الى الماء، والإضاءة الى الشمس، والمطر الى السماء، أولا ترى انه نسب الإضلال الى الشيطان في مواضع من القرآن، ثم قال:
وأضله الله على علم
[الجاثية:23]. وقوله:
ومن يضلل الله فما له من هاد
[الزمر:23]. وكذا نسب الوسواس الى الشيطان في قوله:
يوسوس في صدور الناس
[الناس:5]. وكذلك الهداية منسوبة اليه في آيات كثيرة مثل قوله:
والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم
[البقرة:213]. وقد ينسب الى غيره كما في مثل قوله:
وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف:181]. وكذا نسب التوفي تارة الى ملك الموت كما في قوله:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة:11]. وتارة الى نفسه مثل قوله:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42]. وكذا في كثير من النظائر. فليكن ها هنا من هذا القبيل. والوجه في الجميع واحد كما سنذكره.
وعن الثاني: أن الذم في الفعل القبيح يرجع الى المباشر: لانفعاله به وتأثره عنه، ولا يرجع الى فاعل الكل، لتقدسه وبراءته عن الانفعال والتغير، ولكونه يفعل الأشياء لأجل الخير والحكمة والرحمة الواسعة، من غير أن يعود إليه خيرها أو شرها.
ومما يبين ويحقق هذا، أن نسبة السواد مثلا الى الفاعل الموجد له، آكد وأشد من نسبته الى القابل لأن نسبته الى الفاعل بالإيجاب والإقتضاء، ونسبته الى القابل بالإمكان والصحة، ومع ذلك لا يقال لموجد السواد: إنه أسود، كما يقال لقابله، وذلك لوجود التأثر والانحصار ها هنا دون هناك، وكذا لا يطلق على موجد اللون والطعم الصابغ والطاعم بالمعنى الذي يطلق على المباشر. فلا يقال للباري: إنه صباغ مع أنه موجد جميع الأصباغ والألوان على أحسن الوجوه، كما في قوله:
ومن أحسن من الله صبغة
[البقرة:138]. وكذا لا يقال للباري جل اسمه: إنه نجار أو بناء بالمعنى الذي يقال للإنسان، وذلك لأنه يفعل النجر والبناء على وجه أعلى وأشرف مما يفعله النجار والبناء، لأن الفعل وقع منهما على سبيل المباشرة، ومنه تعالى على وجه الابداع والعناية. ومثال ما ذكرناه النفس الإنسانية، فإنها على بينة من ربها، من عرفها فقد عرف ربه، أولا ترى ان النفس مع تجردها ووحدتها، وكونها من عالم علوي، تفعل في البدن جميع الأفاعيل المنسوبة في غيره من الأجساد النباتية والجمادية الى القوى الجسمانية، مثل الهضم والطبح والنضج، ودفع الفضلات وسائر الاستحالات، وسائر الأفاعيل الجمادية والنباتية، ومع ذلك ليست بجماد ولا نبات؟
وكذلك تلمس وتشم وتذوق وليست لامسة ولا شامة ولا ذائقة، بل هي خارجة عن عالم البصر والسمع، بل عن عالم التخيل والوهم، ولا يخلو عنها عضو من الأعضاء وقوة من القوى.
وهناك يظهر معنى قوله (صلى الله عليه وآله):
" إنه فوق كل شيء وتحت كل شيء، قد ملأ كل شيء عظمته، فلم يخل منه أرض ولا سماء، ولا بر ولا بحر ولا هواء، هو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء؛ وهو الظاهر ليس فوقه شيء وهو الباطن ليس دونه شيء، فلو دلى على الأرض السفلى لهبط على الله ".
وسر قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هو عين كل شيء لا بمزاولة وغير كل شيء لا بمزايلة.
وعن الثالث: ما مر أن فائدة البعثة والإنزال ترجع الى اهل الإيمان بالتنوير والتكميل لقلوبهم الصحيحة، والى المنافقين بتنقية قلوبهم المريضة والتبعيد والطرد لهم، وتبليغ الحجة عليهم، كما أن فائدة ضوء الشمس إنما ترجع الى العيون السليمة، ولا تزيد الخفافيش إلا فرارا ووحشة ونفورا، ثم تكون عليهم حسرة وعلى نفورهم حجة.
وعن الرابع: بمثل ما مر.
وأما الوجوه التي ذكروها في التأويل، فالجواب عن أولها: أنه إذا اعيد السؤال بأنه ما السبب المرجح في تخصيص اللطف منه تعالى للمؤمنين والمنع له عن المنافقين، مع أن اللطف واجب عليه تعالى على اصولهم بالنسبة الى الجميع؟ فإن أجابوا عنه بأن سبق الكفر والإصرار أوجب ذلك من الله عليهم، فلقائل أن يقول: ما الباعث لهؤلاء على الكفر والإصرار دون المسلمين، مع تساوي غرائزهم وفطرهم، وتساوي نسبة اللطف والإنذار والتخويف والإرشاد والنصيحة وجميع ما هو من قبل الله وآياته وكتبه ورسله لهم ولغيرهم؟
فلم يبق لهم مهرب إلا الرجوع الى الأمور الإلهية، من اختلاف الغرائز بسحب الفطرة الأولى، وأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وأن الشقي منهم شقي في الأزل، والسعيد منهم سعيد لم يزل، كما قال تعالى:
فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار... خالدين
[هود:105 - 107]. الآية.
وعن ثانيها: أن تمكين الشيطان من إغوائهم، والتخلية بينه وبينهم دون غيرهم، مع أن الكل عباد الله محتاجون الى رحمته في الدنيا والآخرة، ينافي أصولهم، كوجوب الألطاف، واستحالة الترجيح من غير مرجح، وفيه من النظر والجواب ما مر.
وعن ثالثها: أن تفسير الإمداد في العمى والطغيان بعدم القسر والإلجاء على فعل الخير والطاعة، في غاية البعد، فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة ها هنا كما علمت.
وعن رابعها: انه بعيد من وجهين:
الأول: عدم مساعدة اللغة كما مر من أن تفسير يمدهم بالمد في العمر، خطأ.
والثاني: انه على تقدير صحته من جهة اللغة يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون، فيعود الإشكال..
وأجاب بعضهم - كالقاضي - عن ذلك بأنه ليس المراد ذلك، بل المراد أنه يبقيهم ويلطف لهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا.
وقد علمت أن مثل هذا الكلام في اختلاف صنع الله مع عباده مع تساوي الكل في الغرائز والفطر في قبول اللطف من الله، لا يفي بدفع الإشكال على من التزم المحافظة على قضايا العقل التي عليها، يعني إثبات الواجب تعالى، وإثبات الشريعة فلا بد للعاقل في دفع هذا ونظائره إما الى الرجوع الى مسلك أهل الله والراسخين في العلم، حتى ينكشف عليه سر المقال وحقيقة الحال، وإما الى صريح مخالفة العقل وإنكار الحكمة، والقول بالسبب والعلة والغاية، وأنه سبحانه بحيث لا يسئل عما يفعل - تعالى عن فعل المجانين والسفه والتعطيل كما زعموا علوا كبيرا-.
إضاءة واشراق
قال الشيخ العارف في الفتوحات: " اعلم أن الكل من عند الله، ولكن لما تعلق ببعض الأفعال لسان ذم، فما كان في الأفعال من باب شر وقبح فدينا بنفوسنا ما ينسب الى الحق من ذلك، وقاية وأدبا مع الله. وما كان من خير وحسن رفعنا نفوسنا من البين وأضفنا ذلك الى الله، حتى يكون هو المحمود بكل ثناء. أدبا مع الله وايقاعا لحقوقه. فإنه لله بلا شك مع ما فيه من الاشتراك، كما دل عليه قوله:
والله خلقكم وما تعملون
[الصافات:96]. وقوله:
مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك
[النساء:79]. مع قوله:
قل كل من عند الله
[النساء:78]. فأضاف العمل وقتا إلينا، ووقتا إليه، فلهذا قلنا: فيه رائحة اشتراك. قال تعالى:
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
[البقرة:286]. فأضاف خيرنا وشرنا إلينا. وقال:
فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس:8]. فله الإلهام وقد خلق العمل.
فهذه مسألة لا يتخلص فيها توحيد أصلا، لا من جهة الكشف ولا من جهة الخبر، فالأمر الصحيح من ذلك، انه مربوط بين حق وخلق، غير مخلص لأحد الجانبين، فإنه على ما يكون من النسب الإلهية أن يكون الحق عين الوجود الذي استفادته الممكنات، فما ثم إلا وجود عين الحق، والتغيرات الظاهرة في هذه العين، أحكام أعيان الممكنات، فلولا العين ما ظهر الحكم، ولولا الممكن ما ظهر التغيير، فلا بد في الأفعال من حق وخلق ". انتهى كلامه.
أقول: ليس مراده " قدس سره " من قوله: " فلهذا قلنا فيه رائحة اشتراك " انه يعتقد أن فاعل أفاعيل العباد مركب من أمرين: حق وخلق، وكذا قوله: " فهذه مسألة لا يتخلص فيها توحيد أصلا " الى قوله: " غير مخلص لأحد الجانبين " ، ليس المراد ما توهمه ظاهر العبارة، وكذا ما ورد في أحاديث أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) " إنه أمر بين أمرين " ليس المعنى ما توهمه المحجوبون: أن الفعل واقع بين الرب والعبد غير مخلص لأحدهما، كيف وهذا شرك محض، وظلم عظم يخالف البرهان والكشف والنقل عن أئمتنا (عليهم السلام)، بل مقصوده " قدس سره " مما ذكره، ومرادهم (عليهم السلام)، من قولهم بأنه أمر بين أمرين: ان الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى من غير اشتراك أصلا؛ وكذا الفعل الصادر عن العبد، هو بعينه صادر عن الحق من غير اشتراك، بل لأن وجود العبد بعينه شأن من شؤون الله، وقد ذكرنا فيما مر أن للفعل نسبة الى الفاعل المزاول، وله بعينه نسبة الى الفاعل المفارق، والذمائم والنقائص في الأفعال، راجعة الى نسبة المزاول لا نسبة المفارق، والمذكور ها هنا أدق وأعلى في التحقيق، وأغمض وأدق في المسلك، لا يفهمه إلا ذو بصيرة ثاقبة، وكشف تام، ويد باسطة في الغيب.
فالفعل، من حيث هو واقع بقدرة العبد، واقع بعينه بقدرة الله بلا اشتراك، تعالى الله عنه علوا كبيرا، وهذا هو مراده " قدس سره " من الاشتراك لا غير، حاشاه عن ذاك وسائر الأولياء الموحدين، ناهيك به قوله: فإنه أعلى ما يكون من النسب الإلهية أن يكون الحق هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات، ثم قال: وفي مذهب بعض العامة، أن العبد محل ظهور أفعال الله وموضع جريانها، فلا يشهدها الحس إلا من الأكوان ولا يشهدها ببصيرتهم إلا من الله من وراء حجاب، هذا الذي ظهرت على يدي المريد لها، المختار فيها، فهو لها يكتسب باختياره.
وهذا هو مذهب الأشاعرة.
ومذهب بعض العامة؛ أن الفعل للعبد حقيقة، ومع هذا فربط الفعل عندهم بين الحق والخلق لا يزول، وإن هؤلاء يقولون: القدرة الحادثة في العبد التي يكون بها هذا الفعل من الفاعل، أن الله خلق له القدرة عليها، فما يخلص الفعل للعبد إلا بما خلق الله فيه من القدرة عليه، فما زال الاشتراك، وهذا مذهب أهل الاعتزال، فهؤلاء ثلاثة: أصحابنا والأشاعرة والمعتزلة ما زال منهم وقوع الاشتراك، وهكذا أيضا حكم مثبتي العلل، لا يتخلص لهم اثبات المعلول الذي لعلته التي هي معلولة لعلة اخرى فوقها الى أن تنتهي الى الحق في ذلك الذي هو عندهم علة العلل، فلولا علة العلل، ما كان معلول عن علة، إذ كل علة دونه معلولة، والاشتراك ما ارتفع على مذهب هؤلاء وما عدا هؤلاء الأصناف من الطبيعيين والدهريين، فغاية ما يؤل اليه أمرهم، أن الذي نقول نحن فيه إنه الإله، يقول الدهرية: إنه الدهر، والطبيعية إنه الطبيعة، وهم لا يخلصون الفعل الظاهر منا دون أن يضيفوا الى الدهر أو الطبيعة، فما زال وجود الاشتراك في كل نحلة ومذهب، وما ثم عقل يدل على خلاف هذا، ولا خبر إلهي في شريعة يخلص الفعل من جميع الجهات الى أحد الجانبين فلنقره كما أقره الله على علم الله فيه، وما ثم الا كشف وعقل وشرع، وهذه الثلاثة ما خلصت ولا تخلص أبدا دنيا وآخرة جزاء بما كنتم تعملون، فالأمر في نفسه - والله أعلم - ما هو إلا كما وقع ما يقع فيه تخليص، لأنه في نفسه غير مخلص، إذ لو كان في نفسه ملخصا لا بد أن كان يظهر على بعض الطوائف، ولا يتمكن لنا أن نقول: الكل على خطأ. فإن في الكل الشرائع الإلهية، ونسبة الخطأ اليها محال، وما يخبر الأشياء على ما هي عليه الا الله، وقد أخبر، فما الأمر إلا كما أخبر، فاتفق الحق والعالم في هذه المسألة على الاشتراك، فهذا هو الشرك الخفي والجلي وموضع الحيرة، انتهى كلامه.
أقول: حاشا الجناب الإلهي عن الشرك في الأفعال، كما حاشاه عن الشرك في الذات والصفات، بل الأمر ما قررناه وذكرناه مرارا، وما نقله من اولئك الطوائف، فصادق أن فيها دلالة على الاشتراك، لكن قوله: " فما زال وجود الاشتراك في كل نحلة ومذهب وما ثم عقل يدل على خلاف هذا ولا خبر إلهي في شريعة " الى آخره، غير موجه بظاهره ولا مسلم، فها هنا مذهب أولياء الله الموحدين، الذين لم يروا في الوجود إلا الله وأسماءه وأفعاله. وأما الخبر الإلهي، وهو المشار اليه في مثل قوله:
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
[البقرة:286] وما جرى مجراه، فالمراد منه ما يوافق مسألة التوحيد الخاصي، لا ما هو الظاهر، على ما يستفاد من مثل قوله تعالى:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
[الأنفال:17] وقوله:
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة:14] وليس المراد أن الحق والعبد متشاركان في الفعل، ولا أن العبد بمنزلة الآلة كالسيف القاطع للحق، أو اليد الضاربة له ، لاستغنائه عن الآلة في فعله، ولا أن العبد علة متوسطة بين الباري وفعل العبد، كما زعمه الظاهريون من الفلاسفة، وما يجري مجراهم في إثبات الوسائط في الإيجاد، ولا ما زعمه الخاصون منهم، كأتباع الرواقيين، من أن الوسائط شروط معدة لا دخل لها في الإيجاد بل في الإعداد، بل الحق في هذه المسألة مما لا يدرك إلا بنور البصيرة المستفاد من عالم الملكوت لمن انفتحت كلا عينيه، عينه اليمنى لمشاهدة فعل الحق، وعينه اليسرى لمشاهدة الخلق، فيشاهد فعل الحق في عين يشاهد فعل الخلق فيتحقق له سر قوله:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17]. وسر قوله:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80]. ومعنى قوله:
ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون
[الأنفال:21]. مع كونهم سمعوا.
فانظر الى هذا الذم كيف أشبه غاية الحمد فيمن كان الحق سمعه وبصره، فمن كان الحق سمعه، فقد سمع ضرورة، إلا انه لم يسمع الا به، فهو سامع لا بنفسه بل به، ومن لم يكن كذلك، فهو سامع بنفسه لا بالحق، فوقع الذم عليه والمدح على الأول، مع أن الفعل في كل منهما لا يصدر إلا من شخص امكاني.
وهذا التفاوت فيهما راجع الى الشهود وعدمه دون الوجود، إذ الوجود في الواجب كما هو هو، كان لم يزل ولا يزال، وفي الممكن كما هو هو في التجدد والزوال، وكلمة " كنت " في الحديث الإلهي
" فإذا أحببته كنت سمعه "
الى آخره، تدل على أن الأمر كان على هذا وهو لا يشعر، وكانت الكرامة التي أعطاها هذا التعريف، الكشف والعلم، بأن الله كان سمعه، فهو كان يتخيل انه يسمع بسمعه، وهو يسمع بربه، كما كان يسمع الإنسان في حال حياته بروحه وهو يظن انه يسمع باذنه الغضروفي لجهله؛ وفي نفس الأمر إنما يسمع بربه، فالحق يسمع كلامه بالسمع المعنوي دون غيره من غير تجدد ولا زوال في حقه، وإن كانت الحروف والأصوات متجددة زائلة، وكذا الكلام في البصر والكلام والقدرة وغير ذلك، ولنمسك عنان الكلام عن زيادة التجوال في هذا المقام، ولنرجع الى ملاحظة كلام الله المفضل المتعال.
[2.16]
تحقيق الآية يبتني على مقدمات:
إحداها: أن الإنسان ما دام كونه الدنيوي بمنزلة مسافر يسافر للتجارة، أما كونه مسافرا، فأمر قد جبل عليه كل ما هو متعلق الوجود بالطبيعة الجمسانية والكون الدنيوي، إذ قد حقق في مقامه بالبرهان الذي لاح لنا بفضل الله، أن الطبائع الجسمانية أبدا في التحول والانتقال والتجدد والزوال من حال الى حال، استحالة جوهرية وانتقالا ذاتيا وتوجها جبليا الى نشأة اخرى، وأما كونه تاجرا فمما فيه لاختياره مدخل، إذ الفائز بسعادة الربح الأخروي، إنما يفوز به بأعمال صحالة اختارية، والممنو بشقاوة الخسران الأبدي، إنما يبتلى به بأعمال فاسدة اختارية، كما قال تعالى:
جزآء بما كانوا يكسبون
[التوبة:95]. وقوله:
فبما كسبت أيديكم
[الشورى:30]. وقوله:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة:7-8].
المقدمة الثانية: انه لما كان كل مسافر للتجارة لا بد له من رأس مال، وقد ثبت أن الإنسان مسافر للتجارة، فلا بد له من رأس مال، ورأس ماله هو الفطرة الأصلية التي قد فطره الله عليها، وهي القوة الاستعدادية لأجل الوصول الى الدرجات العاليات، والفوز بالمنازل والسعادات، وهذه القوة الفطرية، هي المعبر عنها في هذه الآية بالهدى، إذ الهدى عبارة عن كون السالك على الطريق الذي يؤدي الى مطلوبه ويقابله الضلال، وهو كونه جائرا منحرفا عن ذلك الطريق، فعلى ما فسرنا الهدى به، ليس لأحد أن يقول: كيف اشتروا الضلالة بالهدى، وما كانوا على هدى قط؟
لأن كل واحد من الناس، في أول نشأته وحداثة وجوده على رأس الطريق منه الى الله، فهو على هدى بحسب الفكرة، وإنما يقع الجور بحسب ما يكتسبه من الأفعال والاعتقادات، كما ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ".
المقدمة الثالثة: أن الربح والخسران ليسا بأمرين عارضين لغاية هذا السفر، ممكني الانفكاك عن منازل هذه الحركة، بل الوصول الى كل منزل من منازل الآخرة يلزمه ما يخصه من ربح أو خسران، أو نعيم أو حرمان، أو راحة أو عذاب، بل الربح هنا بنفس الوصول الى المنزل الأسنى والمقام الأعلى، وكذا الخسران بنفس الوصول الى الهوى الأدنى.
سئل بعض أهل الله عن عذاب القبر، فقال: القبر كله عذاب، إشارة الى أن العذاب عبارة عن الانحباس في مضيق البرازخ السفلية، والتقيد بقيود المؤذيات الحيوانية، والتألم بآلام العقارب والحيات النفسانية، كما أن النعيم والراحة بالخلاص عنها والفوز بالدرجات العاليات، لأن ما فيها كله روح وريحان وجنة ورضوان، وما في البرازخ السفلية كله آلام ومحن ومؤذيات وعقارب وحيات وسموم ونيران وحميم وزقوم.
فإذا تقررت هذه المقدمات، فنقول: قد حكى الله تعالى عن المنافقين والمغترين بلوامع سراب الدنيا من أهل الكتاب وغيرهم، الذين تفقهوا لغير الدين، وعملوا بغير عمل أهل اليقين، طلبا للحطام ومصيدة للعوام؛ بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا الآخرة بالأولى والدرر الفاخرة بالثمن الأوكس الأدنى، واستبدلوها به حيث إنهم أخلوا بالهدى الذي جعلهم الله في أصل الفطرة التي فطر الناس عليها، محصلين الضلالة التي ذهبوا اليها، واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى، فجاورا عن القصد وفقدوا الاهتداء.
وأصل الاشتراء: بذل الثمن أو ما يجري مجراه، لتحصيل ما يطلب من الأعيان، سواء كان عينا محسوسا أو غيره كما في قوله:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا جيدرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
فإن كان أحد العوضين ناضا، تعين من حيث انه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن، فباذله يكون مشتريا وآخذه يكون بائعا، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد.
وقوله: { فما ربحت تجارتهم } ، ترشيح للمجاز، لما استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلا لخسارتهم كما قيل:
ولما رأيت النسر عرى ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
وأما إسناد الربح الى التجارة - والحال انه لأربابها - فهو على سبيل الاتساع، لتلبسها بالفاعل، أو لمشابهتها اياه من حيث إنها سبب الربح والخسران.
فصل
وأما قوله: { وما كانوا مهتدين } ، فمعناه: أن الذي يقصده التاجرون في أسفارهم ومتصرفاتهم أمران: سلامة رأس المال، والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين وفاتوا المقصدين؛ لأن رأس مالهم هو الفطرة الصافية عن المزاحمات، واللوح الصافي النفساني، والعقل الهيولاني، فلما اعتقدوا هذه الآراء الخبيثة، وانتقشت نفوسهم بهذه النقوش المزخرفة، وانفعلت عقولهم عن هذه العقائد الباطلة. فخرجت فطرتهم عما كانت عليها، وبطل استعدادها لتحصيل ما هو موجب حياتها في معادها، وزينة ذاتها وسبب عيشها في الآخرة، فهؤلاء مع انهم لم يربحوا فقد خسروا، وأفسدوا رأس مال العقل السليم المهتدي الى طريق الحق، والفوز بالنعيم، فلهم الحسرة والعذاب الأليم.
وقال قتادة في معنى هذه الآية: انتقلوا من الهدى الى الضلال، ومن الطاعة الى المعصية، ومن الجماعة الى الفرقة، ومن الأمن الى الخوف، ومن السنة الى البدعة.
أقول: والكل صحيح، لأنها من لوازم الخروج عن الفطرة الساذجة بالعقيدة الفاسدة في باب المبدإ والمعاد، فإن بناء الحسنات والخيرات كلها على معرفة الحق والسلوك بما يوجبه، وبناء السيئات والشرور على الجهل به والحيد عن صراطه.
[2.17-18]
تحقيق الآية يستدعي تمهيد مقدمات.
إحداها: هي إن العوالم متطابقة والنشآت متحاذية، نسبة الأعلى إلى الأدنى كنسبة الصافي إلى الكدر، ونسبة اللب الى القشر. ونسبة الأدنى إلى الأعلى كنسبة الفرع إلى الأصل، ونسبة الظل إلى الشخص، ونسبة الشخص إلى الطبيعة، ونسبة المثال إلى الحقيقة.
فكل ما في الدنيا لا بد له في الآخرة من أصل، وإلا لكان كسراب باطل وخيال عاطل، وكل ما في الآخرة لا بد له في الدنيا من مثال، وإلا لكان كمقدمة بلا نتيجة وشجرة بلا ثمرة، وعلة بلا معلول، وجواد بلا جود، لأن الدنيا عالم الملك والشهادة، والآخرة من عالم الغيب والملكوت، ولكل إنسان دنيا وآخرة، وأعني بدنياك: حالتك قبل الموت، وبآخرتك: حالتك بعد الموت.
فدنياك وآخرتك، من جملة أحوالك ودرجاتك، يسمى القريب الداني منها دنيا، وما بعده المتأخر آخرة، وكون الدنيا متقدمة على الآخرة، ليس بحسب الأمر في ذاته، بل بالإضافة إلينا، من جهة أن الإنسان أول ما يحدث، يكون في عالم الحس والشهادة، ثم يتدرج قليلا قليلا في قوة الوجود، حتى ينتقل من هذا العالم إلى عالم الغيب والآخرة عند قيامة.
فبالقياس إليه، تكون الدنيا أولاه والآخرة أخراه، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في رتبة الوجود، وثانية لها، وهي وإن كانت ثانية في رتبة الوجود؛ فإنها أول في حق رؤيتك؛ فإنك لا ترى نفسك، وترى صورتك في المرآة أولا، فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانيا على سبيل المحاكاة، فانقلب التابع في الوجود متبوعا في حق المعرفة، وانقلب المتأخر متقدما.
وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس، ضرورة هذا العالم، وكذلك عالم الشهادة محال لعالم الغيب والملكوت.
ومن الناس من يسر له نظر الإعتبار، فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت، فيسمى عبوره عبرة؛ وقد أمر الخلق به، قال سبحانه:
فاعتبروا يأولي الأبصار
[الحشر:2] ومنهم من عميت بصيرته فلم يعبر، فاحتبس في عالم الملك والشهادة، وتنفتح إلى حبسه أبواب جهنم، وهذا الحبس ممتلئ نارا شأنها أن تطلع على الأفئدة، إلا أن بينه وبين إدراك المها حجاب، فإذا رفع الحجاب بالموت، أدرك.
وعن هذا أظهر الله الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا: الجنة والنار مخلوقتان. ثم إنا نحن الآن: نتكلم أو نخاطب في الدنيا من في الآخرة.
والغرض من إنزال القرآن، أكثره شرح أحوال الآخرة، وخصوصا في هذه الآية، فإن الغرض شرح أحوال طائفة من المنافقين بحسب باطنهم وآخرتهم، والآخرة من عالم الملكوت، ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال، ولذلك قال سبحانه:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت:43].
وهم الذين جردوا صور المحسوسات عن قشورها المادية، وأحضروها عند عقولهم العابرة عن عالم الأمثلة الحسية إلى عالم الحقائق والملكوت، وعالم الأمثلة الحسية بالقياس إلى عالم الحقائق، كنشأة النوم بالقياس إلى عالم الملكوت، ولذلك قال عليه السلام: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ".
وما سيكون في اليقظة لا يبين لك في النوم إلا بضرب الأمثال المحوجة إلى التعبير، وكذلك ما سيكون في يقظة يوم القيامة، لا يبين لك في ليالي حجب الدنيا إلا في كسوة الأمثال، وأعني بكسوة الأمثال، ما تعرفه من علم التعبير، فإن شأن علماء التعبير أن يعبروا من الأمثلة إلى الحقائق.
ولنذكر لك ثلاثة أمثلة من تعبيرات ابن سيرين تكفيك إن كنت فطنا لفهم معنى المثال ونسبته إلى الحقيقة.
فقد جاء رجل إليه وقال: رأيت كأن في يدي خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء. فقال: إنك مؤذن توذن في رمضان قبل الفجر فقال: صدقت.
وجاء آخر فقال: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون. فقال: إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإنها أمك، لأن الزيتون أصل الزيت، فهو رد إلى الأصل، فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سبيت في صغره.
وقال آخر له: كأني أعلق الدر في أعناق الخنازير، فقال: إنك تعلم الحكمة غير أهلها - وكان كما قال -.
فالتعبير من أوله إلى آخره مثال لعرفان طريق الأمثال، وليس للأنبياء عليهم السلام أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال، لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، وقدر عقولهم أنهم في النوم، كما ورد: " الدنيا دار منام، والعيش فيها كأحلام ".
والنائم لا ينكشف له شيء إلا بصورة المثل، فإذا ماتوا انتبهوا ووصلوا إلى تعبير منامهم، وعرفوا أن المثل المضروب لهم كان صادقا كله.
وإنما نعني بالمثل؛ أداء المعنى، أو وجوده في صورة إن نظر إلى معناه وباطنه وجد صادقا، وإن نظر إلى صورته وظاهره وجد كاذبا.
المقدمة الثانية: إن موجودية الممكنات بحقيقة الوجود الفائض من الحق الأول، وقد علمت فيما سبق، أن الوجود في كل شيء هو نحو وجوده، وهو صورة ذاته دون المسمى بالماهية، إلا أن صورة الوجود في بعض الأشياء كالمفارقات، وضرب من الملائكة والمدبرات العلوية، قائمة في أنفسها بذات باريها وموجدها. وفي بعض الأشياء كالطبائع وضرب من الملكوت والمدبرات السفلية، قائمة لا في أنفسها، بل بتبعية المحال والمقادير، وكل من قسمي الوجود، أعني القائم بالذات والقائم بالمقدار ، نور من أنوار الله الفائضة عنه في سموات الأرواح وأراضي الأشباح، وهو من إسمه: العليم والنور، إذ هو عالم الغيب والشهادة، والله نور السموات والأرض، بل الوجود على مراتبه كله نور والله نور الأنوار.
والإنسان بالقوة، مشتمل على كل قسم من النور، وأشرف أنواره المكمونة بالقوة في ذاته بحسب أصل الفطرة، هو النور العقلي المدرك للحقائق، الفعال للصورة العقلية والنفسانية والحسية عند تفرده بذاته، وخروجه من القوة إلى الفعل، واتصاله بحضرة الحق الأول، وإنما يخرج من القوة إلى الفعل، عند استكماله بسلوك سبيل الحق وانقياد الشريعة الإلهية بالإيمان والعمل الصالح، وصرف قواه الإدراكية؛ كالحواس الظاهرة والتحريكية، كالقدرة والإرادة والشهوة والغضب، فيما خلقت هي لأجله.
وهذه القوى أيضا ضروب من الأنوار الوجودية التي أنعمها الله علينا للإستعمال في التوصل بها إليه تعالى والتقرب منه، وهي أيضا في أول النشأة، ضعيفة خامدة في مادة البدن، سيما الباطنية منها، كالوهم والخيال من القسم الأول، والهوى وحب الجاه والرياسة من القسم الثاني، وهذه الأنوار الحسية، وكذا محسوساتها ومتعلقاتها، صور مكمونة في مواد الأجسام، سيما العنصرية، كالصورة النارية في الفحم، إذ جميع هذه الأجسام التي تلينا وما حولنا بمنزلة الفحم والزغال، وأنوار صور الحقائق مندمجة فيها، وإنما تظهر من البطون وتبرز من الكمون لنا بسبب حركات ورياضات في كورة الدنيا وعالم الطبيعة، هي بمنزلة النفاخات الواقعة في كورة الحدادين.
وأول ما يخرج إلى الفعل من القوة، وإلى البروز من الكمون، هو صورة الحس والمحسوس، إذ كل إدراك، سواء كان حسا أو تخيلا أو وهما أو تعقلا أو تألها، فهو بضرب من التجريد، ومراتب التجريدات في الشدة والضعف، كمراتب الإدراكات في الكمال والنقص، فأقل التجريدات، التجريد الحاصل في الحس، فإن الحس يجرد الصورة القائمة بالمادة المغشاة بالغواشي المادية من أصل تلك المادة، ولكن لا يجردها من الغواشي، بل هي معها، مع اشتراط أن يكون لمحلها من الحس نسبة وضعية جسمانية إلى تلك المادة المنتزعة هي عنها، حتى أنه لو غابت تلك المادة غابت الصورة أيضا عن الحس.
وأما الخيال، فيجرد الصورة عن المادة تجريدا أتم، وإلى أفق المفارقات تقريبا أشد، فإنه يجردها عن المادة، وعن ملابسها وغواشيها الجسمانية من غير اشتراط حضور المادة أيضا، لكن بشرط بقاء تخصصها وتعينها المشابه لتعينها المادي في عالم التمثل الخيالي.
وأما الوهم، فيجرد الصورة تجريدا أتم من تجريد الحس والخيال جميعا بحيث يتصور المعاني الحاصلة في الأجسام، ويجردها عن المواد وعن صفاتها المكتنفة بها، لكن لا يمكن للوهم تجريد المعنى بالكلية عن المواد الشخصية، وعن صفاتها جميعا حتى عن اضافتها إلى الشخص، بل يتصور كلا من المعاني مضافا إلى شخص بعينه، إذ الوهم نفسه أيضا كذلك، لأنه عبارة عن قوة عقلية مضافة إلى جوهر جسماني، حتى لو تجرد عن هذه الإضافات، صار الوهم عقلا، والشيطان ملكا، والجزبرة حكمة.
وأما العقل فشأنه تجريد الصور عن المواد تجريدا أتم وأقوى من جميع ما سبق، لأنه كما يجردها عن المواد وملابسها، يجردها عن أنحاء التعلقات والإضافات كلها، فيصيرها لبا خالصا صافيا مقدسا مطهرا عن الأرجاس والأدناس، لائقا بحضرة القدس وحظيرة الإنس، وذلك ما أردناه.
المقدمة الثالثة: إن هذه القوى من الإنسان من فروعات جوهره العقلي، بمنزلة أشعة وأنوار لازمة لجوهر نواني متعلق بالبدن، كمصباح في بيت تقع منه أنوار وأشعة على جدرانه وسقوفه وزواياه وأكنافه وكل من هذه القوى، ينفعل ويستنير ويخرج من القوة إلى الفعل بواسطة صور محسوسة تخصها، فالبصر بالمبصرات كالألوان، والسمع بالمسموعات كالأصوات.
وبالجملة، الحس بالمحسوس يستنير ويخرج وجوده من القوة إلى الفعل، والخيال بالصور المتخيلة، يستنير ويقوى ويصير من حد النقص إلى حد الكمال، وقد علمت أن كل كمال ونور إنما يحصل بضرب من التجرد والبعد عن المادة، وكل نقص وظلمة إنما يحصل بواسطة لصوق بالمادة وقرب منها.
وعلمت أن مراتب الكمالات حسب مراتب التجريدات، ووجود هذه القوى متقدم بحسب الحدوث على وجود القوة العقلية تقدما زمانيا وبالطبع، ووجود القوة العقلية متقدم بقاء على وجودها تقدما ذاتيا وبالعلية والشرف، لأنها من فروعها ومعاليلها عند تجوهر العقل وحصوله بالفعل، فالعاقلة مفتقرة إليها في أول النشأة، وعند أوان الاستكمال والحركة إلى المبدء الفعال، وهي مفتقرة إليها في النشأة الثانية وبقاء الآخرة.
فمن استكمل ذاته ما دام الكون الدنيوي بنور الإيمان واليقين، قامت مع روحه جميع قواه، وتنورت بنوره يوم الدين، وحشرت معه يوم حشر الخلائق أجمعين.
ومن لم يستكمل ذاته ههنا بنور الإيمان، ولم تنفتح بصيرة باطنه إلى عالم الروح والريحان، لفرط جهالته، وتراكم غشاوته، وكثرة حجابه، وكثافة نقابه، سلبت في الآخرة عنه قواه وحواسه، وبقيت نفسه في ظلمات الهاوية وأدخنة السعير أصم وأبكم وأعمى قائلا بلسان الحال:
لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
[طه: 125 - 126].
المقدمة الرابعة: إن الوجودات الفائضة من الحق، بعضها من عالم النور، وبعضها من عالم النار، وبعضها من عالم الظلمة والدخان.
أما التي هي من عالم النور، فهي العقول القادسة، والنفوس الزكية، والملائكة العلوية، والأخيار من الجن.
وأما التي هي من عالم النار، فهي النفوس الخبيثة، والشياطين والأشرار من الجن.
وأما عالم الظلمة والدخان، فهي مواد هذا العالم من الأفلاك، ولهذا قال تعالى:
يوم تأتي السمآء بدخان مبين
[الدخان:10]. وقال:
ثم استوى إلى السمآء وهي دخان
[فصلت:11]. وقال:
والفجر وليال عشر
[الفجر:1 - 2]. إشارة إلى مواد الأفلاك التسع ومادة العناصر. وقال:
جعل الشمس ضيآء والقمر نورا
[يونس:5]. وقال:
ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح
[الملك:5]. فلولا ضوء الشمس ونور القمر ومصابيح الكواكب، لكان هذا العالم في ظلمة محضة لا أوحش منها.
فاستنار هذا العالم بتلك الأنوار الحسية المتعلقة، وأما عالم الآخرة، فلا يمكن أن يستنير بشيء من هذه الأنوار الحسية، بل لا بد في استنارته من نور آخر من ضروب الأنوار المعنوية.
إما العلمية فكما للمقربين. وإما العملية فكما لأصحاب اليمين. كما قال تعالى:
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12]. وقال:
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
[الحديد:13].
وأما عالم النار، فليست ناره من جنس هذه النارالتي في الدنيا، فإن هذه ليست نارا محضة، بل نارا مع مادة مقدارية كالحطب ونحوه، ومع هيئة نورية حسية، ووضع وشكل محسوسين، وأما النار المحضة، فلا يكون معها هذا الصفاء والإشراق والتلألؤ واللمعان، فإن هذه كلها مسلوبة عن نار جهنم، بل هي سوداء مظلمة كما ورد في الخبر.
وإنما تثبت هذه الأوصاف لهذه النيران الدنيوية، لأنها ليست نيرانا محضة، بل في مادتها نار ونور سانح كما مر، وأما التي هي نار محضة، فتمامها أنها صورة جوهرية حارة بالذات، محركة للمواد، محللة مذيبة للأجساد، محرقة مؤذية مهلكة، قطاعة نزاعة مفسدة للصور الإتصالية، وفساد الصور بوارها، فدار البوار هي محل ظهور سلطان النار.
وأما عالم النور، فهو محل ظهور الحقائق من حيث إنها حقائق وبقاؤها وسلطانها، والأبواب إليها منسدة إلا من قبل آثارها، ومن ناحية صورها المحسوسة، ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما.
ومن تأمل علم إن النيران التي عندنا، فمحل ناريتها الحقيقية في الحقيقة دار البوار لا دار القرار، لأن النار هي المحللة المفرقة، وهذا المحسوس من النار ليس محرقا حقيقة، والذي يباشر الإحراق والتفريق حقا وحقيقة هي نار مستورة عن هذه الحواس، خارجة عن فكر الناس والقياس، مرتبطة بهذا المحسوس وبغيره ارتباطا، وهذا شيء يوافقنا فيه علماء النظر، لاعترافهم بأن الأثر لا يبقى بعد وجود ما هو الفاعل له حقيقة، وإنما الذين يبقى بعده الأثر فهو فاعل في علم الطبيعة، وباصطلاح الطبيعيين، وذلك يسمى في علم ما بعد الطبيعة وباصطلاح الإلهيين: " معدا " ، لا فاعلا مفيدا.
فقد تبين واتضح أن نارية النار - أي كونها محللة مزيلة للصورة - ليست حاصلة فيما يفارقه، وأن نار الله الكبرى لا مستقر لها سوى دار البوار، لأن حقيقتها منبعثة عن تنزلات الأنوار الإلهية والعقلية عند هبوطها عن عالم النور إلى عالم الاستحالة والدثور، فالطبيعة النارية سارية في كل المستحيلات الجوهرية.
وعندنا أن جميع الجواهر المادية - سماوية كانت أو أرضية - سيالة في ذاتها، قابلة للاستحالة الجوهرية والتجدد والذوبان بتأثير نيران الطبائع الغير المحسوسة، وهي نيران أخروية كامنة في بواطن الأجسام الدنيوية، والنفس الأمارة بالسوء أيضا نار موقدة تطلع على الأفئدة، وهي كلها مؤلمة، إلا أن بين الناس وبين إدارك المها حجابا.
والجحيم، وجودها معلوم لبعض العلماء، يدرك مرة بإدراك يسمى: " علم اليقين " ، ومرة بادراك يسمى ب " عين اليقين " ، وعين اليقين لا يكون إلا في الآخرة، وعلم اليقين قد يكون في الدنيا، ولكن للذين وفي حظهم من نور اليقين، فلذلك قال تعالى:
كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم
[التكاثر:5 - 6]. أي: في الدنيا،
ثم لترونها عين اليقين
[التكاثر:7]. أي: في الآخرة.
والدليل على كون النار الأخروية كامنة في جميع الأجرام الدنيوية التي هي بمنزلة الوقود والحشيش لها - سواء كانت حارة يابسة كالنار، أو باردة رطبة كالماء - قوله تعالى:
أغرقوا فأدخلوا نارا
[نوح:25]. وقوله:
والبحر المسجور
[الطور:6]. وقوله:
فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة
[البقرة:24].
والأحاديث في هذا الباب كثيرة:
منها: ما يروى أنه قال صلى الله عليه وآله:
" لا يركبن رجل بحرا إلا غازيا أو معتمرا، فإن تحت البحر نارا. أو تحت النار بحرا ".
ومنها: أنه قال صلى الله عليه وآله:
" البحر كله نار في نار ".
وعن ابن عباس: إن النار تحت سبعة أبحر مطبقة.
ومنها:
" ما ورد في حديث المعراج أنه رأى في السماء الدنيا آدم أبا البشر، وكان عن يمينه باب يأتي من قبله ريح طيبة، وعن شماله ريح منتنة، فأخبره جبرئيل أن أحدهما هو الجنة والآخر هو النار ".
ومنها: ما في حديث الكسوف، أنه قال صلى الله عليه وآله:
" ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من نفخها (الحديث) ".
ومنها أيضا ما يدل على أن النار في السماء كما ذكره مجاهد والضحاك في قوله تعالى:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون
[الذاريات:22] أن المراد هو الجنة والنار، وكما يروى في حديث المعراج أيضا: إنه صلى الله عليه وآله رأى في السماء الدنيا مالكا خازن النار، وفتح له طريقا من طرق النار لينظر إليها حتى ارتقى من دخانها وشررها وما عن يساره من الباب.
إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول: إن الله تعالى أراد أن يكشف عن حال المنافقين الذين كانوا مشتغلين باكتساب الظواهر، والإغترار ببعض الآثار، ولم يباشر الإيمان قلوبهم، واقتصروا على البحث والتكرار، وصرفوا كدهم في الصرف والنحو والأشعار، وحفظ قوالب الأحاديث والأخبار، طلبا لحطام هذه الدار، وتقربا إلى السلاطين والأشرار، بحال من استوقد نارا، وهي نار النفس الوقادة، التي تستوقد أولا من أشعة المدارك الحسية المتنورة بنور الصور المحسوسة، وهذه الأنوار الحسية التي تنفعل منها الحواس، وتخرج بها من القوة إلى الفعل، أنوار حادثة متجددة زائلة عند فتور القوى ودثورها حين استيلاء المرض والهرم عليها، وإنما الفائدة فيها تنبه النفس بصور هذه المدركات، لتنتقل منها إلى إدراك صورها العقلية وأنوارها المعنوية الحاصلة في عالم الأنوار، وبها تخرج قوتها العاقلة إلى الفعل، وتستسعد بالسعادة الأخروية.
فمن اقتصر حاله في استعمال هذه القوى لا لأجل تحصيل المعارف الإلهية والتنور بأنوارها الدائمة، فهو كمن استوقد نارا واستضاء ما حول نفسه بتلك النار، وهي القوى الحساسة والمحركة، وحين أضاءت النار ما حوله من القوى والمدارك الخارجة عن ذاته قبل أن يبلغ أثر الضوء إلى نفسه، ذهب الله بنورهم، أي بنوره وبنور من يحذو حذوه، لأن الأنوار المحسوسة كلها زائلة داثرة تنقص وتندثر، عند عروض الشيب والموت، ثم لم يبق لهم نور أصلا، لا نور الحواس لزوالها عند الموت؛ ولا نور الإيمان والمعرفة، لعدم اكتسابهم له، فلا جرم تركوا في ظلمات الموت والجهالة وغيرها، كظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة الضلال، وظلمة سخط الله، وظلمة يوم القيامة وظلمة عذاب السرمد، كأنها ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، فلا يبصرون شيئا، وسلبت قواهم وجوارحهم كلها، فلا سمع ولا نطق ولا بصر، كما لا أذن ولا لسان ولا عين، فهم صم بكم عمي لا يرجعون، لأن الرجوع إلى الفطرة الأولى من الممتنعات، والممتنع لا يكون مقدورا أصلا.
فالآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد وسعادة السرمد، فبقي متحيرا متحسرا في ظلمة لا أوحش منها، مسلوب الحواس والآلات تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى.
ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقين، وكل من آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة الأولى، ويمكن أن يكون المراد من قوله: { فلما أضاءت ما حوله } ، أن الرجل المنافق قد يكون من أهل الوعظ والتذكير، يستضيء بنور وعظه وتذكيره حواليه من المستمعين، وهو نفسه لا ينتفع بما يقوله ولا يعمل به، كما قيل: " مثل العالم بأمر الله غير العالم بالله، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء غيره " وفي الحديث عنه:
" إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ".
فهذا ما تيسر لنا في فهم هذه الآية بفضل الله، ولنرجع إلى حل الألفاظ وما ذكره المفسرون إنشاء الله.
فصل
ما هو ضرب المثل
قالوا: إن المقصود من ضرب المثال أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض (من المثل) تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقا للعقل، وذلك هو النهاية في الايضاح، ألا ترى إن الترغيب بالإيمان والتزهيد عن الكفر مجردين عن ضرب المثل، لا يتأكد تأثيرهما في القلب، وإذا مثل الإيمان بالنور، والكفر بالظلمة، يتأكد تأثير حسن الإيمان وقبح الكفر في القلب؟
ولهذا أكثر لله في كتابه المبين وفي سائر كتبه ضرب الأمثال، وقال:
وتلك الأمثال نضربها للناس
[العنكبوت:43] ومن سور الإنجيل: " سورة الأمثال ".
أقول: قد علمت أن حقيقة التمثيل ما هو، ودريت أن الغرض ليس مجرد التأثير والوقع في النفس، بل بيان حقيقة الأمر وملاكه وروحه، أو لا ترى أن الألفاظ المذكورة في هذه الآية، من النار والاستيقاد والإضاءة والنور والذهاب والظلمات وغيرها، كلها محمولة على الحقيقة، مشهودة بنظر البصيرة، بل هي حقيقة أحوالهم الباطنة، والتي هم عليها من الأحوال والأفعال الظاهرة هي مثال لتلك الأحوال، كما قررنا من أن ما في الدنيا أمثلة لما في الآخرة، لكن المماثلة لما كانت من الجانبين، يجوز استعمالها في كل من الطرفين، إذ المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل، وهو النظير، يقال: مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل، وربما اشترط أن يكون قولا فيه غرابة بوجه.
ثم ذكروا في الآية سؤالات وأجوبة.
أحدها: إن مستوقد النار اكتسب لنفسه نورا، والله تعالى أذهب بنوره وتركه في ظلمات، والمنافق لم يكتسب خيرا، وليس له نور، فما وجه التشبيه؟
والجواب بوجوه:
الأول: بما قال السدي: إن ناسا دخلوا في الإسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة، ثم نافقوا، فهم بايمانهم اكتسبوا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة عظيمة.
أقول: وهذا ليس بشيء، لأن الإيمان إن كان مجرد الإقرار باللسان، فليس بنور، وإن كان العرفان الحقيقي الحاصل بالبرهان، فليس بقابل للزوال.
والثاني: بما ذكره الحسن: وهو انهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم، وسلامة أموالهم عن الغنيمة، وأولادهم عن السبي، وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين، عد ذلك نورا من أنوار الإيمان، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليل القدر، شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوءها قليلا، ثم سلب ذلك، فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءت في أعقاب النار. وكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور، وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة.
الثالث: أن يقال ليس وجه الشبه أن للمنافق نورا، بل شبه حاله في تحيره وظلمته في القيامة، بحال المستوقد الذي زال نوره وبقي متحيرا في طريقه المظلم.
الرابع: أنه صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلا بالنور، وذهابه هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق، وإنما سمي مجرد القول بتلك الكلمة نورا، وإن كان القائل بها أظهر في تلك الساعة خلافها، لأنه قول حق في نفسه.
الخامس: أنه سمي إظهار الكلمة نورا، لأنه يتزين به ظاهره، ويصير ممدوحا بسببه فيما بينهم، ثم إن الله ذهب بذلك النور، بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه صلى الله عليه وآله والمؤمنين حقيقة أمره، فيظهر له اسم النفاق، فبقي في ظلمة لا يبصر ، إذ النور الذي كان قد زال بما كشف الله تعالى أمره.
السادس: إن المشبه به هو مستوقد نار لا يرضاها الله، فشبه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، لأن فتنتهم كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله:
كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله
[المائدة:64].
السابع: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى الله عليه وآله، واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، فكان انتظارهم لخروجه صلى الله عليه وآله كإيقاد النار، وكفرهم به بعد خروجه كزوال ذلك النور.
السؤال الثاني: إن الآية تقتضي تشبيه المثل بالمثل، فما مثل المنافقين ومثل المستوقد نارا حتى شبه أحدهما بالآخر.
الجواب: إنه قد استعير " المثل " للقصة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: " قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد نارا ". وكذا قوله:
مثل الجنة التي وعد المتقون
[الرعد:35].
ولله المثل الأعلى
[النحل:60]. والمعنى: وصفهم وشأنهم المتعجب كحال من استوقد نارا.
السؤال الثالث: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟
والجواب عنه بوجوه:
أحدها: إنه يجوز وضع " الذي " موضع " الذين " كقوله:
وخضتم كالذي خاضوا
[التوبة:69]. إن جعل مرجع الضمير في قوله: { بنورهم } وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع " القائم " موضع " القائمين " ، لكون " الذي " وصلة إلى ما بعده من الجملة التي هي صلته، فلا قصد إلى مطابقته بالموصوف جمعا وإفرادا، ولكثرة وقوعه في كلامهم، وكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف، ولذلك بولغ فيه، فحذف ياؤه ثم كسرته، ثم اقتصر على " اللام " في أسماء الفاعلين والمفعولين، ولأنه ليس باسم تام، بل هو كجزء منه، فحقه أن لا يجمع، كما لا تجمع اخواتها وليس " الذين " جمعه المصحح، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى، ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل.
الثاني: إن المراد جنس المستوقدين: أو بتأويل الجمع، أو الرهط الذي استوقد نارا.
الثالث: إن المراد من " مثلهم " ، مثل كل واحد منهم، كقوله تعالى:
نخرجكم طفلا
[الحج:5]. أي نخرج كل واحد منكم.
الرابع:- وهو الأصوب والأقوى - إن التشبيه وقع بين القصة والقصة، لا بين الذوات والذوات. وهذا كما قال تعالى:
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
[الجمعة:5]. وكقوله:
ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت
[محمد:20].
السؤال الرابع ما الوقود؟ وما النار؟ وما الإضاءة؟ وما النور؟ وما الظلمة؟.
الجواب: وقود النار سطوعها وارتفاع لهبها. والنار جوهر لطيف، مضيء، محرق، حار، واشتقاقها من " نار، ينور " إذا نفر، لأن فيها حركة واضطرابا.
والنور: مشتق منها، وهو ضوءها. والمنار: العلامة. والمنارة: هي الشي الذي يؤذن عليه. ويقال أيضا لما يوضع السراج عليه. ومنها النورة، لأنها تظهر البدن.
والإضاءة: هي فرط الإنارة، ومصداقه قوله تعالى:
جعل الشمس ضيآء والقمر نورا
[يونس:5].
والظلمة: عدم النور عما من شأنه أن يستنير. والظلم في أصل اللغة بمعنى النقصان.
قال تعالى:
آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا
[الكهف:33] أي: لم تنقص. وفي المثل: " من أشبه أباه فما ظلم " ، أي ما نقص حق الشبه. والظلم: الثلج، لأنه ينقص بسرعة. والظلم: ماء السن وطراوته وبياضه تشبيها له بالثلج. قال ابن الفارض:
عليك بها صرفا وإن شئت مزجها
فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم
و { أضاءت } ، يجوز كونها متعدية ولازمة، والأقرب ههنا هو الأول، وعلى الثاني تكون مستندة إلى: " ما حوله " ، والتأنيث، للحمل على المعنى، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء. ويعضده قراءة ابن عبلة " ضاءت ".
ويجوز إسنادها إلى ضمير: " النار " ، وتكون: " ما " موصولة منصوبة على الظرفية، أو مزيدة، و " حوله " ظرفا.
والحول: الدور المتصل. وتأليفه للدوران. وقيل للسنة: حول. لأنها تدور. والحوالة: إنقلاب الحق من شخص إلى آخر. والحول: إنقلاب العين. والمحاولة: طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبا له.
وقوله: { ذهب الله بنورهم } جواب " لما " ، والضمير للذي، وإنما جمع حملا على المعنى، ولم يقل: " ذهب الله بنارهم " ، لكون النور هو المراد من ايقادها.
ويحتمل أن يكون الجواب محذوفا كما في قوله:
فلما ذهبوا به
[يوسف:15] لاستطالة الكلام مع أمن الالتباس للدلالة عليه، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار.
وعلى هذا يكون: { ذهب الله } كلاما مستأنفا أجيب به اعتراض سائل: " ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد انطفت ناره؟ " ، أو يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان؛ والضمير على هذين الوجهين، للمنافقين، وعلى الأول، للموصول، لكونه في معنى الجمع، وأما توحيده في: { حوله } فللحمل على اللفظ.
السؤال الخامس: هلا قيل: " ذهب الله بضوئهم " لقوله: { فلمآ أضاءت ما حوله }.
الجواب: هذا أبلغ، إذ في الضوء زيادة، والغرض إزالة النور بالكلية، ونفي الأشد لا يوجب نفي الأضعف، أو لا ترى كيف عقبه بقوله: { وتركهم في ظلمات } والظلمة عدم النور وانطماسه بالكلية، وقد جمعت ونكرت ثم اتبعت زيادة في التأكيد بقوله: { لا يبصرون }.
تنبيه:
إسناد الإذهاب إلى الله تعالى؛ أما في الممثل له: فلأن الكل واقع بقضائه وقدره، أو لأن الاطفاء وقع بسبب أمر خفي، أو أمر سماوي كريح أو مطر.
وأما في الممثل: فقد علمت مما ذكر، أن ذهاب أنوار الحس والخيال والوهم وسائر القوى من النفس الغير المنورة بنور الإيمان، أمر ضروري حاصل عند الموت بقضاء الله - لا صنع لأحد غيره فيه -، ولهذا قال: { ذهب الله بنورهم } ، ولم يقل: " أذهب الله نورهم " ، لما في الأول من الاستصحاب والاستمساك.
كما في قوله تعالى:
إذا لذهب كل إله بما خلق
[المؤمنون:91]. يقال: " ذهب السلطان بماله " إذا أخذه وأمسكه، " وما يمسك الله فلا مرسل له " ، فهو أبلغ من الإذهاب. وفيه ستر آخر.
وقرء اليماني: " أذهب الله نورهم ".
و " ترك " في الأصل، بمعنى طرح وخلى، وله مفعول واحد، وإذا ضمن معنى " صير " علق بشيئين فجرى مجرى أفعال القلوب. ومنه قوله { وتركهم في ظلمات } أصله: " هم في ظلمات " ثم دخل " ترك " فنصبهما.
ومفعول: { لا يبصرون } ، من قبيل المتروك المطرح، لا من قبيل المقدر المنوي، إذ الغرض سلب الإبصار، لا سلب تعلقه بشيء، كما في قوله:
ويذرهم في طغيانهم يعمهون
[الأعراف:186].
تذكرة فيها تبصرة
قد علمت تباين المسلكين في تحقيق الآية، وتفارقهما في تبيينها من حمل الألفاظ في أحدهما على الحقيقة الباطنية، وفي الآخر إما على التجوز أو الاستعارة. وكذلك قالوا جريا على طريقتهم في قوله تعالى: { صم بكم عمي } ، إنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون، امتنع حمل الآية على الحقيقة، فلم يبق إلا تشبيه حالهم - لشدة تمسكهم بالعناد، وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن، وما يظهره الرسول صلى الله عليه وآله من الأدلة والآيات - كمن هو أصم في الحقيقة، فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم، وإذا لم ينتفع بالأدلة، ولم يبصر طريق الرشد، فهو بمنزلة الأعمى، فحملوا هذه الألفاظ الثلاثة في حقهم على المجاز والتشبيه لحالهم بحال من أيفت مشاعره وانتفت قواه كقوله:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذن
وكانت على طريقة قولهم: " هم ليوث " للشجعان، " وهم بحور " للأسخياء؛ وما حملوها على الحقيقة لكونهم مسلوبي القوى والمشاعر الأخروية التي هذه المشاعر الدنيوية قشورها وظواهرها، فإن للنفس في ذاتها سمعا وبصرا ونطقا وغير ذلك، أولا ترى أن الإنسان عند نومه - الذي هو أخو موته - يسمع ويبصر وينطق.
والمسلوب عن الكفار والمنافقين، هو مشاعر الآخرة، لأن وجودها تابعة لوجود العقل المنور بنور الإيمان كما مر.
ثم اختلفوا في أن إطلاقها عليهم استعارة أو تشبيه بليغ، فالمحققون منهم على أنه تشبيه بليغ وليس باستعارة، لأن من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة، كقول زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
ومن ثمة ترى المفلقين السحرة منهم يتناسبون التشبيه، ويضربون عن توهمه صفحا، كما قال أبو تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول
بأن له حاجة في السماء
وها هنا - وإن طوي ذكره - لكنه في حكم المنطوق به، ونظيره:
أسد علي وفي الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر
وقيل: هذا إذا جعل الضمير للمنافقين على أن الآية فذلكة للتمثيل ونتيجة له، وإن جعل للمستوقدين، فهي على حقيقتها، والمعنى: أنهم لما أوقدوا نارا، ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائلة أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم وانقضت قواهم.
وقرئت الثلاثة بالنصب على الحال من مفعول تركهم.
[2.19-20]
قد مثل الله تعالى حال المنافقين والكافرين بهذين التمثيلين باعتبار فساد القوتين.
أما التمثيل الأول، فهو باعتبار فساد قوتهم العلمية التي من شأنها مشاهدة أنوار الحقائق، وأما هذا التمثيل، فهو باعتبار بطلان قوتهم العملية التي من شأنها سلوك طريق الحق بها.
فقوله: { كصيب من السمآء } إما عطف على: الذي استوقد أي كمثل ذوي صيب، بقرينة قوله { يجعلون أصابعهم } أو عطف على المثل، أي مثلهم وحالهم كصيب، فلا بد من تقدير ضمير يعود إليه.
وكلمة " أو " في الأصل، للتساوي في الشك، ثم اتسع فيها فاستعمل للتساوي من غير شك، مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، ومنه قوله تعالى:
ولا تطع منهم آثما أو كفورا
[الإنسان:24]. والمراد منع الخلو دون منع الجمع، فالمعنى: أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين، وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما باعتبار الجهتين، وأنت مخير في التمثيل بهما جميعا، أو بأيهما شئت، وكان الممثل له في التمثيل الأول، حال المنافقين المنتسبين بأهل العلم لحفظ ظواهر الأقوال، المغترين بإبداء الشبهات، وهم الذين إذا جاءتهم البينات يفرحون بما عندهم من العلم. وفي هذا التمثيل حال المنافقين الذين هم من أهل النسك وأهل التقليد من غير بصيرة تامة وإياهما عني في قوله صلى الله عليه وآله:
" قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك ".
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: قطع ظهري رجلان من الدنيا: رجل عليم اللسان فاسق، ورجل جاهل القلب ناسك، هذا يصد بلسانه عن فسقه، وهذا بنسكه عن جهله، فاتقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبدين، أولئك فتنة كل مفتون... "
فوجه المماثلة ههنا؛ أن المراد من المطر هو الإيمان، أو القرآن لكونه منشأ الحياة المعنوية والأرزاق الأخروية. والظلمات هي الشبهات والمتشابهات التي يخفى وجهها على الجهال والأرذال ويضلون في إدراكها، كما قال:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين
[البقرة:26].
والرعد والبرق والصواعق ، هي التكاليف الشاقة، بعضها من باب الأعمال وبعضها من باب الاعتقادات، كفعل الصلاة وال صيام والحج، وترك الرياسات، والمجاهدة مع الآباء والأمهات، وترك الأديان القديمة، والاعتقاد بحقية هذا الدين والانقياد له.
فكما أن الإنسان يبالغ في الإحتراز عن المطر الصيب، الذي هو أشد الأشياء نفعا بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافق الجاهل، يحترز عن الإيمان أو القرآن بسبب هذه الأمور، زعما منه أن الغرض منها ايلامه وتخويفه وتشديد الأمر عليه، بحيث تكاد توجب هلاكه، ولم يعلم أن فيها شفاء لما في الصدور، وتنويرا للقلوب، وإحياء للنفوس المريضة بداء الجهالة، ورحمة للذين آمنوا، وهدى للعالمين.
والمراد من قوله: { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } أن الجاهل المنافق كثيرا ما يتصامم عن ذكر الآيات والحجج والبينات، حذرا عن سماع ما يوجب فساد عاقبتهم، ويظهر عليهم مآل ما هم عليه من النفاق والفسق ولا يعلم السفيه الأحمق أن التصامم والتعامي لا يدفع الداهية والموت، كما أن الصاعقة لو أتت إلى شخص لا يمكن له دفعها بجعل إصبعيه في أذنيه.
وقوله: { يكاد البرق يخطف أبصارهم }: إشارة إلى أن لمعات القرآن أو الإيمان، وأنواره الباهرة، تكاد تخطف أبصار بصائر الناظرين فيه، حتى كأنهم لضعف بصائرهم عن احتمال شوارقها ولوامعها، كالمبهوتين المتحيرين.
والمراد من قوله: { كلما أضآء لهم مشوا فيه } أنه متى ظهر لهم، أو نقل إليهم شيء من خوارق العادات والكرامات، أو متى حصل لهم شيء من المنافع كحصول الغنائم، أو التوقير والتقديم في المجالس، أو تولية الأمور كضبط الأموال وحفظ الأمانات، وسعاية الزكوات والحسبة والشهادة وغيرها، فإنهم يرغبون في الدين ويجهدون في العمل. وإذا أظلم عليهم، أى متى لم يجدوا شيئا من الكرامات أو من المنافع، فحينئذ يقفون عن العمل، ويكرهون الإيمان، ولا يرغبون فيه. هذا ما ظهر في معنى الآية.
ويقرب منه ما قيل: شبه الايمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي به حياة الأرض، وما ارتكبت بها من الشبه المبطلة، واعترضت دونها من الاعتراضات المشكلة لأهل البدع بالظلمات، وما فيها من الوعد والوعيد بالرعد، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق، وتصاممهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنه عنها، مع أنه لا خلاص لهم منها، وهو معنى قوله: { والله محيط بالكافرين }. واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم، وتوقفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم، وأشير بقوله: { ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } إلى أنه سبحانه جعل لهم السمع والأبصار ليتوسلوا بهما إلى الهدى والفلاح ويتسببوا بهما إلى تحصيل السمع المعنوي والبصيرة الباطنية، لدفع الشبهات وإزالة الظلمات في طريق الهداية، وسلوك الآخرة، طلبا للحياة الباقية، وتقربا إلى الله معطي الخيرات الأبدية، ثم إنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة، وسدوها عن الفوايد الآجلة، وهذه المدركات مع مداركها، أمور ذاهبة زائلة، ولو شاء الله لجعلهم عادمين للسمع والأبصار كما هم عليه في القيامة يوم لا نور إلا نور المعرفة والإيمان.
فصل
[التشبيه هنا مركب، أم مفرق]
قد يقال: وقع في التمثيلين تشبيه أشياء بأشياء؛ فأين ذكر المشبهات فيهما؟ وما المشتبه بالصيب، والظلمات، والرعد، والبرق، والصواعق ههنا؟ وهلا صرح بها، كما في قوله:
وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور
[فاطر: 19 - 21]. وكقول امرؤ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
فيجاب: بأنه يجوز كون المشبه في المفردات مطويا ذكره على سنن الإستعارة من قوله تعالى:
وما يستوي البحران هذا عذب فرات سآئغ شرابه وهذا ملح أجاج
[فاطر:12].
ولعلماء البيان في هذا الموضع قولان:
أحدهما: ما سلكنا سبيله وأوضحنا طريقه، وهو تشبيه مفرق معناه أن يكون الممثل مركبا من أمور، والممثل له أيضا كذلك، ويكون كل واحد من آحاد أحدهما شبيها بما يوازنه من الآخر، من غير اشتراط أن يكون جميع أعداد المركب للمشبه مذكورا صريحا، كما علمت من التطبيق الذي مر ذكره.
والثاني: ما اختاره صاحب الكشاف قائلا: إن الصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه إن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة، دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، أراد به أن يشبه كيفية منتزعة من مجموع أمور تضامت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى مثلها، كما في قوله تعالى:
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
[الجمعة:5] مثل حال اليهود في حملهم بما معهم من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا، فلا، فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم، بما يكابد من طفيت ناره بعد ايقادها في ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.
والبحث فيه من وجهين:
أحدهما: إن الهيئة الإنتزاعية الحاصلة من أمرين أو أمور، إذا كانت واحدة يجب أن تكون الأمور المنتزعة هي منها أيضا متماثلة متشابهة من الوجه الذي به يصلح للانتزاع. لما تقرر في العلوم العقلية، أن المعنى الواحد، لا يمكن أن ينتزع من أشياء متخالفة الحقائق من جهة يخالفها، سواء كانت بسائط أو مركبات، مثلا: الهيئة الإنسانية المحسوسة المنتزعة من تركيب أجزاء الإنسان، لا يكمن أن تنتزع من تركيب أجزاء الفيل وغيره إلا على نحو ضعيف المشابهة لها.
وثانيهما: إن المواضع التي ذكرها من القرآن وغيره، وادعى فيها تشبيه المركب بالمركب من دون تشبيه الأفراد، لا نسلم أن الأمر فيها كما زعمه، بل لا تخلوا المواضع عن المشابهة بين الأفراد، ففي قوله تعالى:
مثل الذين حملوا التوراة
[الجمعة:5] الآية، كما حصل تشبيه حال اليهود - وهو جهلهم بما في التوراة - بحال الحمار - وهو جهله بما حمل عليه، فكذلك قد حصلت المشابهة بين اليهود والحمار في الحمق والجهالة، فإن حقيقة الحمارية وروحها هي الجهالة المفرطة، سواء كانت مقترنة مع شكل الحمار أو شكل الإنسان، وليس الإنسان إنسانا بشكله وصورة خلقته، بل بمعنى الإنسانية، وروح الناطقية التي هي عبارة عن إدراك المعارف.
وكذا بين التوراة وأسفار الحكمة، لاتحادهما فيما يؤدي إلى التعليم والهداية من العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية، وكذا وقع تشبيه حمل. الألفاظ والظواهر وعدم حمل الأسرار والمعاني منهم، بحمل أوقار الصحف، وعدم الشعور بما فيها. ثم لا يخفى على ذوي النهى، أن هذا القسم ألطف وأحكم وأبلغ فيما هو المقصود من التمثيل وأدل على القدرة؛ فينبغي حمل الآيات عليه مهما أمكن، ونحن لا ننكر وجود القسم الثاني في القرآن وغيره.
فصل
[نظر في العلة الفاعلية]
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: من السمآء، مع أن الصيب لا يكون إلا من السماء؟
قلنا فيه فائدتان:
الأولى: ما مر من دلالة تعريف السماء وتنكير الصيب على أنه مطبق آخذ بآفاق السماء.
والثانية: إن من الناس من قصر نظره عن الأسباب العالية المنبعثة من قدرة الله وحكمته فقال: إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فتنعقد هناك من شدة البرودة الزمهريرية، ثم تنزل مرة أخرى على هيئة القطرات، فذاك هو المطر، ثم إن الله أبطل ذلك المذهب ههنا بأن ذلك الصيب نزل من السماء.
وكذلك قوله تعالى:
وأنزلنا من السمآء مآء طهورا
[الفرقان:48].
وينزل من السمآء من جبال فيها من برد
[النور:43]................................ لأن أسباب هذه الأمور منبعثة من عالم السماء.
واعلم أن العلم بحقائق الموجودات بعضها فوق بعض، وكذا العلماء بحسبها، ذوو درجات متفاضلة متعالية، كما قال تعالى:
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف:77]. وقال:
ورفع بعضكم فوق بعض درجات
[الأنعام:65].
مثاله: أن الطبيعي والحكيم قد يتشاركان في النظر في كثير من الأشياء؛ لكن الطبيعي يأخذ الأوسط في حجته من الطبيعة السارية في الأجسام بأمر الله، والحكيم يأخذ العلة من العالم العلوي والمفارق المحض، والعلة الغائية التي هي الخير الأعلى والعلة القصوى للوجود، فالطبيعي يعطي برهانا لميا، ما دامت المادة القابلة والطبيعة الفاعلة موجودتين ، والحكيم يعطي البرهان اللمي مطلقا.
وبالجملة، فإذا أعطي البرهان من الأسباب المقارنة، كان من العلم الأسفل، وإن أعطي من العلل المفارقة العالية، كان من العلم الأعلى، والعلل المقارنة هي الهيولى والصورة، والعلل المفارقة هي الفاعل والغاية.
وأما العارف المتألة، فنظره أدق وأبصر، وعلمه أعلى وأشرف من جميع العلوم، حيث يقع نظره في معرفة كل الأشياء الى الحق الأول، ويأخذ علة مقاصده ووسط براهينه من أسماء الله الحسنى وآياته الكبرى، وليس لغيرهم هذا الشأن، ولا برهانهم هذا البرهان، وأكثر الناس مقصور النظر؛ إما على عالم الشهادة كالظاهريين، أو على عالم الباطن كالباطنيين، وكلاهما ينظران بالعين العوراء.
مثال ذلك العلم بمنشأ الرعد والبرق.
فالرعد، هو الصوت الذي يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تصطدم وتضطرب وترتعد إذا جذبها الريح، فتصوت عند ذلك من الارتعاد، والبرق: الذي يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقا.
واللفظان مصدران في الأصل، ولذلك لم يجمعا.
وقيل: " الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح " روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام.
وقيل: " إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب ". روي: " إنه يزعق كما يزعق الراعي بغنمه ".
وقيل: " البرق مخاريق الملائكة من حديد، تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار " وهو المروي عن علي عليه السلام.
وقيل: " سوط من نور يزجر به الملك السحاب " عن ابن عباس.
وقيل: " هو مصع ملك " عن مجاهد. والمصاع. المجالدة بالسيوف وغيرها.
وقيل: إنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام. والكل صحيح حسب مراتب المشاهدة لمراتب العوالم.
فإذا سمعت أيها العاقل الطبيعي، أن ملكا يسوق السحاب بالزجر والصوت زجره يسمع زجل الرعود، وإذا سجت به خفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، وأنت تحكم بعقلك أنه اصطكاك الأجرام من الحرارة الدخانية والبرودة البخارية الواقعة فوقها، فالذي أدركته بعقلك قضية صحيحة، لو لم تنكر ما فوقها، ولكن حرمت القضية الأخرى، أنه ملك يسوق السحاب ولم تكد تراها لأنه يدرك بنور البصيرة، وأنت في ظلمة الغشاوة وبك زمانة الجهالة، لا سبيل لك إلى سلوك عالم النور.
وقس عليه سائر التأثيرات العلوية في الأمور السفلية، كالزلازل والهدات وغيرها، فأما ما ورد في باب الخسوف والكسوف، أنه من تخويف الله عباده، وإظهار قدرته، مع ما ثبت بالهندسة لك أن خسوف القمر لحجب نور الشمس عن جرمه لحيلولة الأرض، وأن كسوف الشمس يكون بحجاب جرم القمر نورها عن الأبصار، فأهل الإيمان لا ينكرون ما دلت عليه البراهين الهندسية، ولكن الجاحدين لأنوار الشريعة، ينكرون أحكام الغيب ولم يتفكروا في قوله تعالى:
يؤمنون بالغيب
[البقرة:3]. وقوله:
ولله غيب السموات والأرض
[هود:123] وقوله:
عالم الغيب والشهادة
[الأنعام:73].
يحرفون الكلم عن مواضعه
[النساء:46].
فما بالك أيها الأعور، هلا نظرت بالعينين وأثبت العالمين، فالله أظهر الملك والشهادة لقضية اسمه الظاهر، والغيب والملكوت لقضية اسمه الباطن، فلو كنت أدركت العالمين، لجمعت بين الفلك والملك، وأثبت المعقول والمنقول. على أن في نظر العارف المحقق، الفلك ملك متمثل، والمنقول معقول ينتقل إلى عالمك الذي أنت فيه، والشرع عقل ظاهر، والعقل شرع باطن، فالجسماني للفلك والروحاني للملك، فمن حكم بأن الفلك له إرادة وقدرة فلم يدر أن الإرادة والقدرة للملك الموكل به، وصورة الفلك من عالم التقدير والتسخير، لا من عالم الحكمة والتدبير، وهكذا الكواكب وما يضاف إليها من التأثيرات والتدبيرات، هو من الملائكة الموكلين بعالم السماء، وهي في ذواتها موات.
فصل
قوله: { فيه ظلمات } ، إن أريد بالصيب المطر، فظلماته تكاثفه أي تتابعه وظلمة غمامه مضمومة إليهما ظلمة الليل.
وإن أريد به السحاب، فظلمته سحمته وتطبيقه إذا كان اسحم مطبقا.
وارتفاعها بالظرف - وفاقا - لاعتماده على موصوف، وكون الصيب - بمعنى المطر - مكانا للرعد والبرق، لأنهما في أعلاه وأسفله. ولأن التعلق بين المطر والسحاب قوي كالتداخل، جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر فيما هو من باب الوضع.
وقيل: ضمير { فيه } راجع إلى " السماء " ، لأن المراد بها السحاب وهو مذكر.
وإنما لم يقل: " رعود وبروق " ، كما قيل: { ظلمات } لأن أنواعا متخالفة من الظلمة قد اجتمعت، فاحتيجت إلى صيغة الجمع بخلاف صاحبيها.
وإنما جاءت الثلاثة منكرات، لأن المراد ضروب خاصة منها، كأنه قيل: " ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف ".
والضمير في: { يجعلون } لأصحاب الصيب، والمرجع وإن كان محذوفا لفظا لكنه باق معنى، فيجوز أن يعول عليه. والجملة استيناف كأنها وقعت في جواب من قال: " فكيف حالهم مع مثل هذه الشدة والهول؟ ".
وإنما ذكر: " الأصابع " موضع " الأنامل " للمبالغة، أو لأن المراد بعضها، وقوله: { من الصواعق } متعلق ب " يجعلون " أي: من أجلها.
والصاعقة: قصفة رعد شديد معها جوهر ناري قوي النارية، لا تمر بشيء إلا أتت عليه، بقي بحاله إن كان متخلخلا لطيفا، وأذابته أو دكته بسرعة إن كان متكاثفا صلبا. وهي مع قوتها سريعة الخمود والجمود، و " التاء " فيها للمبالغة كالراوية، أو مصدرية كالعاقبة.
وقوله: { حذر الموت } نصب على العلة. والموت: زوال الحياة وعدمها عما فيه قوة قبولها. وقيل: صفة تضاد الحياة، تمسكا بقوله:
خلق الموت والحياة
[الملك:2].
ودفع: بأن " الخلق " ههنا بمعنى التقدير، والأعدام مقدرة وإن لم تكن مجعولة.
ومعنى إحاطته تعالى بالكافرين: شمول قدرته عليهم وإحاطة أمره ونقمته بهم لقوله:
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54].
وقيل: المعنى إنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط، لا يخلصهم الخداع والحيل. والجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب.
و " الخطف ": الأخذ بسرعة. وقرء مجاهد: " يخطف " - بكسر الطاء - والفتح أفصح؛ وعن ابن مسعود والحسن: " يخطف " - بفتح الياء والخاء - على أنه " يختطف " فأدغمت التاء في الطاء بعد نقل حركتها إلى ما قبلها. وعنه " يخطف " - بكسر الخاء - لالتقاء الساكنين واتباع الياء لها.
وعن زيد بن علي عليه السلام: " يخطف " من خطف. وعن أبي: " يتخطف " من قوله:
ويتخطف الناس من حولهم
[العنكبوت:67].
وقوله: { كلما أضآء لهم مشوا فيه } استيناف ثالث، كأنه جواب لمن يقول: " كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه "؟ فأجيب بذلك.
و { أضآء } إما متعد، والمفعول محذوف. بمعنى: " كلما نور لهم ممشى أخذوه " ، أو لازم بمعنى: " كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره " ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة " كلما ضاء ".
وكذلك { أظلم } فإنه جاء متعديا إلى مفعول من " ظلم الليل " ، ويشهد له قراءة " أظلم " على البناء للمفعول.
وإنما قال مع الإضاءة " كلما " ، ومع الإظلام " إذا " ، لكونهم حراصا على المشي. فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك الوقوف، ولو شاء الله في قصف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم.
ومفعول { شآء } محذوف لدلالة الجواب عليه، ولقد تكاثر حذفه في " شاء " و " أراد " حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب كقوله: " ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ".
تنبيه:
قال في التفسير الكبير: " إن المشهور أن كلمة " لو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك، وزعم أنها لا تفيد إلا الربط، واحتج بالآية والخبر.
أما الآية:
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال:23]. فلو أفادت ذلك لزم التناقض، لأن قوله:
لو علم الله فيهم خيرا
[الأنفال:23] مقتضاه أنه ما علم فيهم خيرا، وقوله:
ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال:23] مفاده أنه تعالى ما أسمعهم، وهم [ما] تولوا، لكن [عدم] التولي خير، فيلزم أن يكون قد علم الله فيهم خيرا؛ وما علم فيهم خيرا.
وأما الخبر: فقوله (صلى الله عليه وآله):
" نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه "
فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه، وذلك متناقض.
فعلمنا أن كلمة " لو " لا تفيد ألا الربط " - انتهى كلامه.
وفائدة هذه الشرطية على المذهب المشهور، إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم الظاهريتين مع قيام ما يقتضيه، والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشية الله تعالى وإن كان وجودها مرتبطا بأسبابها منوطا بآجالها وأوقاتها والكل واقع بقدرته. وقوله: { إن الله على كل شيء قدير } كالتصريح به، والتقرير له، وفائدتها على المذهب الأخير، الإخبار عن ذهاب الحاستين عنهم في الحقيقة، مع أن الناس يزعمون أنهما موجودتان لهم، فهم صم وعمي في الحقيقة.
وعند أهل الكشف، مع وجود الآلتين فيهم كأنهم أموات لا يشعرون عند الله وعند أوليائه، كما قال:
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء
[النمل:80]، مع أنهم يحسون ويتحركون كالأحياء، وهذا من عجائب قدرة الله تعالى في خلق الآدمي .
فصل
اعلم إن الشيئية وإن كانت بحسب المفهوم أعم من الوجود، إلا إنها تساوق الوجود بحسب التحقق، وجماعة ممن جعلها أعم تحققا منه، خرجوا إلى خيالات عجيبة فقالوا: المعدوم الممكن شيء، وهو ثابت، لكونه محكوما عليه بأحكام صادقة توجب تمييزه عن غيره، وليس بموجود فيكون ثابتا، وسلموا أن المحال منفي، وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات، وربما أثبتوا واسطة بين الموجود والمعدوم مما سموه حالا، وبناء هوساتهم على الغفلة عن عالم الغيب وما فيه من الأمور الذهنية الغائبة عنهم، ولم يعلموا أن التفرقة بين المعدومين عن الأعيان، باعتبار ما أضيف إلى المتصور الموجود في الذهن من مفهوميهما، فإن ما ليس له وجود لا في الذهن ولا في العين، فالتصديق عليه تحكم وهذيان، والإخبار عنه ممتنع.
ومما يفتضحون به أن يقال لهم: إذا كان الممكن معدوما، فوجوده هل هو ثابت أو منفي، فإنه باعترافهم لا يخرج الشيء عن النفي والإثبات، فإن كان منفيا - وكل منفي عندهم ممتنع - فالوجود الممكن يصير ممتنعا، هذا خلف، وإن كان ثابتا، وكل صفة ثابتة للشيء يجوز أن يوصف بها الشيء، فالمعدوم يصح أن يوصف في حال عدمه بالوجود، فيلزم التناقض، وهو محال.
ثم من العجب أن الوجود عندهم يفيده الفاعل، وهو ليس بموجود ولا معدوم، فلا يفيد الفاعل وجود الوجود - مع أن الكلام يعود إليه - ولا يفيد ثباته، فإنه كان ثابتا بامكانه في نفسه، فما أفاد الفاعل للماهيات شيئا فهؤلاء عطلوا العالم عن الصانع.
ومنهم من استدل بهذه الآية على أن المعدوم شيء، قال: لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه، لاستحالة ايجاد الموجود وتحصيل الحاصل، فالذي عليه القدرة معدوم، وهو شيء، فالمعدوم شيء.
والجواب: بالحل والنقض. أما الأول؛ فلأن ايجاد الموجود بنفس هذا الايجاد، وكذا تحصيل الحاصل بنفس هذا التحصيل، غير مستحيل، بل هو واقع، لأن الإيجاد هو الاستتباع في الوجود، والممكن يفتقر في بقائه إلى العلة، كما يفتقر في حدوثه.
وأما الثاني؛ فلأنه لو صح هذا الكلام، لزم أن ما لا يقدر الله عليه أن لا يكون شيئا، فالموجود لما لم يقدر الله عليه، وجب أن لا يكون شيئا، وهو شيء عندهم.
واحتج جهم بهذه الآية على أن الله تعالى ليس بشيء. قال: " لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله تعالى، و " الله " ليس بمقدور له، فوجب أن لا يكون شيئا " واحتج أيضا بقوله:
ليس كمثله شيء
[الشورى:11]. قال: " لو كان شيئا لكان مثل نفسه، فكان يكذب قوله، فوجب أن لا يكون شيئا لئلا يتناقض كلامه.
والجواب: إن هذه اطلاقات عرفية، وتجوزات لا يجوز التعويل عليها في أصول الإيمان والاعتقاد، فبطل ما صنعوه وتخيلوه.
وهو كما استدل بعض الأشاعرة على أن الشيء يختص بالموجود، لأنه في الأصل مصدر " شاء " أطلق تارة بمعنى " شاء " - اسم الفاعل - وحينئذ يتناول الباري تعالى، كما قال:
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله
[الأنعام:19]. وتارة بمعنى مشيء - اسم مفعول - أي مشيء وجوده، وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة، وعليه يحمل قوله: { إن الله على كل شيء قدير } [البقرة:20]
الله خالق كل شيء
[الزمر:62]. فهما على عمومهما بلا مثنوية.
فصل
القدرة هي التمكين من ايجاد الشيء. وقيل: صفة تقتضي التمكين. وقيل صفة تؤثر وفق الإرادة فخرج ما لا تأثير له من الصفات، وإن توقف تأثير القدرة عليها كالعلم في بعض القادرين، وما يؤثر لكن لا على وفق الإرادة كالطبائع المسخرة العنصرية مثل صورة النار في إحراقها.
وقيل: قدرة الحيوان، كيفية نفسانية بها يتمكن من الفعل والترك، وهي في الحقيقة قوة إمكانية نسبتها إلى الطرفين سواء، وقدرة الله، كون ذاته تعالى من غير اعتبار الإرادة أو انضمامها بحيث يصح عنه صدور الفعل وعدمه، والمشهور عن الحكماء، أن الله قادر على كل شيء، بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، سواء شاء ففعل، أو لم يشأ فلم يفعل، إذ ليس صدق الشرطية متعلقا بصدق طرفيها.
والإرادة صفة ترجح تعلق القدرة بأحد طرفي المقدور، وهي تنبعث عن الداعي، فقيل إنها شوق متأكد، وقيل إنها مغايرة للشوق، لأنها هي الإجماع وتصميم العزم، إذ قد يشتهي الإنسان ما لا يريده، كالمحرمات الشهوية عند المؤمن العفيف، وقد يريد ما لا يشتهيه، كالأدوية البشعة النافعة. وربما يفرق بينهما، بأن الإرادة ميل اختياري، والشوق ميل طبيعي ولهذا يعاقب المكلف بإرادته المعاصي، ولا يعاقب بإشتهائها، وفي كون الإرادة من الأفعال الإختيارية نظر. وإلا لأدى إلى التسلسل، لاحتياجه إلى إرادة أخرى، هكذا قيل، وللكلام عليه مجال ليس ههنا موضعه.
واعلم أن الداعي على فعل الباري عند المحققين، ليس بأمر زائد على ذاته وقدرته، كالإرادة، لأنه عندهم عبارة عن كون ذاته عالما بالنظام الأعلى للعالم، والأشاعرة لم يقولوا بالداعي، لتجويزهم ترجيح المختار أحد مقدوريه بالإرادة من غير مرجح، وتخصيص أحد المتساويين من غير مخصص، والمعتزلة، وكذا أصحابنا الإمامية، قائلون بالداعي، لشهادة عقولهم باستحالة الترجيح بلا مرجح مع استلزامه للترجيح بلا مرجح إذا نقل الكلام في تحقق الإرادة وعدمها، وذلك بديهي الإمتناع عند كافة العقلاء، لكن المعتزلة قالوا بزيادة الداعي على ذاته تعالى وعلى علمه، فمنهم من يقول - موافقا لبعض أصحابنا - إنه مصلحة راجعة إلى شخص شخص من أشخاص الموجودات، ومنهم من يقول: إنه ذات الوقت، ومنهم من يقول بامتناع وجود العالم في غير ذلك الوقت، إذ لا وقت قبله، وهذا المقام مما لم تثبت فيه قدم راسخ إلا لمن نور الله بصيرته، فإنه من مزال أقدام الأقوام.
واشتقاق " القدرة " من " القدر " ، لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته، أو مقدار ما تقتضيه مشيته.
واستدل بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور الله تعالى؛ لأن مقدور العبد شيء، وكل شيء مقدور له تعالى - خلافا لأبي هاشم وأبي علي -، وعلى أن المحدث حال حدوثه مقدور. لأن المحدث حال حدوثه " شيء " ، وكل شيء مقدور - خلافا للمعتزلة - فإنهم قائلون: بأن الاستطاعة قبل الفعل محال.
واستدل من قال بتقدمها على الفعل بوجهين:
أحدهما: أنه لو تحقق قبل الفعل، لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليف العاجز، وهو غير واقع بالإتفاق، كما قال تعالى:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
[البقرة :286].
وثانيهما: أن القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها في الفعل، ومع الفعل لا يبقى الاحتياج، وقد مر وجه اندفاعه، لأن الحصول لا ينافي الحاجة إلى العلة.
وأجيب عن الأول: بأن تكليف الكافر بايقاع الإيمان في ثاني الحال، أعني وقت حصول الاستطاعة، وهي مع الفعل.
ويرد عليه أنه لو استمر على الكفر، لم تتحقق القدرة أصلا بناء على أنها مع الفعل، والتالي باطل بالاتفاق.
تتمة:
من كان المؤثر في وجود الأشياء ليس عنده إلا الباري تعالى كالمحققين من الحكماء، حيث يجعلون غيره من الأسباب من قبيل الشروط والمعدات والروابط والمقدمات. وكذا الأشاعرة القائلون بنفي العلية والمعلولية والتقدم والتأخر بين الأشياء، فالآية باقية على عمومها لجميع الممكنات، سواء كانت موجودة بالفعل أو معدومة.
وأما المعتزلة، فمنهم من عممها وقال إن قدرته على ثلاثة أوجه: على المعدومات بأن أوجدها، وعلى الموجودات بأن يفنيها؛ وعلى مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه.
ومنهم من خصصها في مقدوراته دون مقدور غيره، لاستحالة كون مقدور واحد بين قادرين، لأنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما وهو تناقض محال، وتخصيص العام جائز في الجملة، وواجب بدليل العقل، لأن قوله:
والله على كل شيء قدير
[البقرة:284]، يقتضي أن يكون قادرا على نفسه، ثم خص بدليل العقل، وذلك لا يوجب الكذب على الله والطعن في القرآن، لأن لفظ الكل، كما انه مستعمل في المجموع، فقد يستعمل في الأكثر، وذلك مجاز مشهور في اللغة، لم يكن استعمال اللفظ كذبا.
وههنا تحقيق آخر، وهو أن الشيئية معناها غير الوجود، فإن كل ممكن موجود فللعقل أن يحلله إلى وجود هو له في غيره، وإلى مهية هي له في نفسه؛ فالشيئية غير الوجود، إلا أنها لا تنفك عن الوجود كما مر، خلافا للمعتزلة، أما الباري جل ذكره، فإذ لا مهية له سوى الوجود البحت، فلا شيئية له غير شيئية الوجود.
فإذا تقرر هذا فنقول: نسبة الباري جل ذكره إلى المهيات كلها بالقدرة، وإلى الوجودات بالإيجاد والإضافة بالفعل، لأن معنى القدرة؛ صحة الفعل والترك، والمهية في نفسها قابلة للوجود والعدم على التساوي دائما، سواء كان حين الوجود أو قبله أو بعده، فالمقدورية ثابتة لها دائما.
وأما الوجودات، فحقيقتها أنها موجودة بالفعل بايجاد الله، وليست هي في أنفسها جائزة العدم، لأنها عين جهات رحمته وجوده، وامكاناتها عبارة عن كونها مفتقرة الذوات إليه تعالى، مجعولة بجعله وابداعه، والضرورة الوجودية الثابتة لها ضرورات ذاتية ما دامت الذات، وليست ضرورة أزلية، والفرق بين الوجوبين ثابت عند أهل الميزان المستقيم، فالله على كل شيء قدير، فاعلم هذا فإنه من العلوم الشريفة المحرمة على غير أهلها.
[2.21-22]
إعلم أن في هذه الآية نكات لطيفة، ومسائل غامضة، وعلوما شريفة، وحكما عقلية، وأنوارا إلهية، وأسرارا ربوبية:
أما النكات:
فأولاها: إن من عادة الله سبحانه في هذا الكتاب، أن يخاطب جمهور المكلفين ب " يا أيها الناس " ، وأهل المعرفة والإيمان منهم ب " يا أيها الذين آمنوا " ، وأهل الولاية والقرب ب " يا عبادي " ، تنبيها على تفاوت الدرجات، وتباين الرتب والمقامات؛ فإن لنوع الإنسان درجات متفاوتة في الحقيقة والذات عند أهل الشهود.
فمن الناس من هو في طبقة النفس الحيوانية، إلا أنه قابل للترقي بالتكليف - وهم أكثر الناس -، ومنهم من تجاوزها وبلغ حدود النفس الناطقة، - وهم العلماء - ومنهم من بلغ إلى مرتبة العقل بالفعل، - وهم عباد الله الربانيون -، فهذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس مؤمنهم وكافرهم - إلا من هو خارج عن حدود التكليف من الأطفال والمجانين، لأن حالهم أنزل من حال الحيوان الغير المكلف.
ويؤيد ذلك، ما روي عن ابن عباس والحسن: إن ما في القرآن من: { ياأيها الناس } فإنه نزل بمكة، وما فيه من: { ياأيها الذين آمنوا } فإنه نزل بالمدينة.
وذلك لا يوجب تخصيص الخطاب بالكفار والجاهلين، ولا أمرهم بالعبادة دون غيرهم، فإن الأمر متوجه إلى الكل ما داموا في دار التكليف، لعدم خلوهم عن نفس حيواينة حرية للحمل والتكليف والرياضة والتأديب، وإلا لجمحت.
والمأمور به، هو المشترك بين بدء العبادة وزيادتها، والمواظبة عليها وأصلها وكيفيتها، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها، بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع، فإن من لوازم وجوب الشيء مطلقا، وجوب ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا، وكما أن تحقق الحدث لا يمنع وجوب الصلاة، فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه، والمطلوب من المؤمنين ازديادهم كما وكيفا فيها، وثباتهم ودوامهم عليها.
وثانيها: إن الله تعالى لما قدم أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأفعالهم البدنية والقلبية، ومجاري أمورهم العاجلية والآجلية، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من جملة الإلتفات التي تورث الكلام رونقا وبهاء، وتزيد السامع هزة ونشاطا.
وما يختص منه بهذا المقام من اللطائف؛ إنه كما انك تشكو من أحد - مخاطبا لصاحبك -: " إن فلانا فعل كذا وكذا " ، ثم تتوجه إليه مخاطبا إياه: " يا فلان ألزم الطريقة الحسنة، واكتسب السيرة المرضية " ، فهذا الانتقال منك، والالتفات من الغيبة إلى مواجهة المقال، يؤثر في قلبه ما لا يؤثر فيه استمرارك على لفظ الغيبة.
ومنها: كأنه تعالى يقول: إني قد جعلت واسطة بيني وبينك أولا، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة، وفيه إشعار بأنه لنفوذ نوره ورحمته، أقرب من كل قريب بالشخص - وإن كان الشخص بعيدا منه لحجابه -.
ومنها: أنه مشعر بأن العبد إذا اشتغل بالعبادة، زاد قربا وحضورا وأنسا وحبورا، وذلك لوقوع الانتقال من الغيبة إلى الخطاب.
ومنها: إن في العبادة كلفة ومشقة فلا بد من راحة، وهي تحصل بأن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين، ويخاطبهم بذاته ويقول: " أريد منكم الخدمة " ، فيستطاب التكليف وتستلذ العبودية.
ومنها: ما لأهل الإشارة أن يقولوا في تحقيق ذلك، وهو أن الله يخاطب ناسي عهوده يوم الميثاق والإقرار بربوبيته وشهوده ومعاهدته: " أن لا تعبدوا إلا إياه " ، فخالفوا، ونقضوا عهده، وعبدوا الطواغيت من الأصنام، والدنيا، والنفس، والهوى، والشيطان، فزل قدمهم عن جادة التوحيد، ووقعوا في ورطة الشرك والهلاك. فبعث إليهم الرسول وكتب إليهم الكتاب، وأخبرهم عن حالهم، وشكى عن فعالهم، ثم واجههم بالخطاب من الغيبة، ودعاهم إلى التوحيد والعبودية كفاحا، لعلهم يتقون عن شرك عبادة الغير، ويوفون بعهد الربوبية وينجون من عذاب الدركات.
وثالثها: " يا " حرف وضع لنداء البعيد، وقد ينادي به القريب تنزيلا له منزلة البعيد، إما لعظمته - كقول الداعي: " يا رب " و " يا الله " ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد - أو لغفلته وسوء فهمه، أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه.
وهو مع المنادى جملة مفيدة، لأنه نائب مناب فعل ك " أدعو " ونحوه، وليس بمعنى " أدعو زيدا " ، أو " أنادي زيدا " - كما توهم - لفساده من وجوه:
أحدها: إن ذلك خبر يحتمل الصدق والكذب، وهذا لا يحتملهما لكونه إنشاء.
وثانيها: إن النداء يقتضي صيرورة " زيد " في الحال، وقولنا: " أنادي زيدا " لا يقتضي ذلك.
وثالثها: إن " يا زيد " يقتضي صيرورة " زيد " مخاطبا بهذا الخطاب، و " أنادي زيدا " لا يقتضي ذلك، لجواز أن يخبر إنسانا آخر بأني أنادي زيدا.
رابعها: إن " أنادي زيدا " إخبار عن النداء، والإخبار عن النداء غير النداء كما لا يخفى.
نكتة ههنا لأهل الإشارة:
وهي أن أقوى الكلمات مرتبة الاسم، وأضعفها الحرف، فظن قوم انه لا يأتلف الاسم بالحرف، فكذا أعظم الموجودات هو الحق الأول، وأضعفها البشر، حيث قال:
وخلق الإنسان ضعيفا
[النساء:28]. فقالت الملائكة: أي مناسبة بينهما:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة:30]. فقيل: قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء، فكذا البشر يصلح لخدمة الرب حال النداء والتضرع:
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم
[غافر:60].
واعلم أن " أي " إسم مبهم يقع على أجناس كثيرة، لكنه لابهامه لا يتم إلا بأن يوصف، كما أن المعنى الجنسي لا يتم إلا بفصل من الفصول، وصفته لفظة دالة على ما دل عليه " أي " مخصصة له، اتحادهما في المعني كاتحاد المبهم والمحصل، فلا بد وأن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به، حتى يصير وصلة إلى ندائه، فالذي يعمل فيه حرف النداء " أي " ، فهو منادى مفرد معرفة، إلا انه يبنى لأنه وقع موقع حرف الخطاب.
وإنما بني على الحركة - مع أن الأصل في البناء السكون - ليعلم أنه ليس بعريق في البناء، وإنما حرك بالضم، لأنه كان في أصله التنوين، فلما سقط التنوين في البناء أشبه " قبل " و " بعد " من الأسماء المقطوعة الغايات، فارتفع، وفيه وجوه أخر توجد في مظانها.
والإسم التابع له صفته، فهو مرفوع تبعا له على حركة لفظه، ولا يجوز ها هنا النصب - وإن كانت أوصاف المنادى المفرد المعرفة يجوز فيها الوجهان - لأن ههنا المنادى هو الصفة في الحقيقة، و " أي " ذريعة إليه لتعذر الجمع بين حرفي التعريف، فإنهما كمثلين - إلا عند المازني وذلك خطأ منه كما قيل -، يدل على ذلك لزومها حرف التنبيه قبل الصفة، فصار ذلك كايذان باستيناف نداء، وأن لا يجوز الاقتصار على المنادى قبله - كما جاز في غيره -، فالتزم رفعها، وأقحمت بينهما " هاء " التنبيه تأكيدا وتعويضا عما يستحقها " أي " من المضاف إليه.
وإنما كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة، للايذان بهذه التأكيدات والمبالغات بأن كل ما نادى الله به عباده من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، واقتصاص أخبار المتقدمين أمور عظام وأشياء مهمة يجب التفطن لها والاهتمام باستماعها والإقبال عليها بقلوبهم، وأكثر الناس عنها غافلون أحقاء بأن ينادى بآكد النداء.
ورابعها: إن الجموع وأسمائها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد، واستدلوا عليه بصحة الإستثناء منها، والتوكيد بما يفيد العموم، كقوله تعالى:
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
[الحجر:30]. وباستدلال الصدر الأول بعمومها شائعا ذائعا من غير نكير؛ فثبت أن الناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا، ومن سيوجد معنى لما تواتر من دين محمد (صلى الله عليه وآله)، ان مقتضى خطابه وأحكامه شامل للعصر الأول ولمن سيوجد إلى قيام الساعة، وإن قلنا: إن الخطاب لمشركي مكة - كما وقع الإسناد عن ابن عباس أو علقمة، فيدخل سائر الناس بالتبيعية.
تبصرة:
وفي هذا المقام كلام محقق، وهو أنه قد ثبت بالبراهين النيرة وشواهد أهل البصيرة، إن الكمية الإتصالية الزمانية، وهوياتها الامتدادية، وما يطابقها وما يوازيها من الحوادث والزمانيات، وما معها من الجواهر والأعراض، والصور والأشخاص، كلها حاضرة عند الباري جل اسمه وأهل القرب منه، وكلها مساوية الحضور لديه، متوافقة المثول بين يديه، لا تقدم ولا تأخر ولا تفاوت لها في القرب والبعد الزمانيين، ولا في الحضور والغيبة المكانيين، فكل ما ثبت مالها بقياس بعضها إلى بعض، بالقياس إلى علمه المحيط بالكل الموجب لحضور الجميع عنده على نسبة واحدة، فالخطاب منه تعالى موجه إلى الجميع (و) إن كان ظهوره بلسان جبرئيل عليه السلام مختصا بزمان الرسول (صلى الله عليه وآله) - وهذا مما لا يكشف إلا لأهل البصيرة -.
فصل
وأما المسائل:
الأولى: إن قوله تعالى: { ياأيها الناس اعبدوا } أمر للكل بالعبادة، فهل هو أمر بكل العبادة - أم لا؟
المختار عندنا أنه أمر بما تيسر من العبادة، كما قال:
فاقرءوا ما تيسر من القرآن
[المزمل:20]. وهو متفاوت حسب تفاوت المكلفين قوة وضعفا، لقوله تعالى:
ليس على الضعفآء ولا على المرضى
[التوبة:91] - الآية. وقوله:
ليس على الأعمى حرج
[النور:61] - الآية.
" ولوجوب صلاة الليل على النبي (صلى الله عليه وآله) واستحباب صوم الوصال له دون غيره، لقوله (صلى الله عليه وآله): " لست كأحدكم " ".
واستدل على عدم دلالة الأمر على وجوب كل المأمور به، بأن معنى " اعبدوا " مثلا ادخلوا هذه الماهية في الوجود، لأن الفعل يتضمن مفهوم الحدث ومعناه لا غير، فإذا أتى المكلف بفرد من أفراد المهية، فقد أدخل المهية في الوجود، لأن كل فرد مركب من المهية مشتمل عليها، لأن كل فرد مركب من المهية وقيد، ومتى وجد المركب فقد وجد جزءآه، فالآتي بفرد من العبادات آت بالعبادة، فهو آت بما اقتضاه قوله: { اعبدوا } فقد خرج عن العهدة فيما هو مقتضى هذا الأمر بحسب الدلالة عليه.
ولك أن تقول - إن أردت تعميمه حسبما مرت الإشارة إليه -: إن الأمر بالعبادة لا بد وأن يكون لأجل كونها عبادة، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، لا سيما إذا كان مناسبا للحكم، كإظهار الخضوع والتعظيم لله ههنا المناسب لهذا الحكم، فإذا ثبت عليه الوصف، فأينما حصل وجب حصول الحكم لا محالة.
المسئلة الثانية
إن الحكم بدخول الكفار تحت الأمر بالعبادة فيه إشكال، وهو أن كون الإنسان عابدا متوقف على كونه مؤمنا، فالتكليف بالعبادة للكفار متوقف على كونهم مأمورين بالإيمان، لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة، وذلك ممتنع، والموقوف على الممتنع ممتنع أيضا، فكونهم مأمورين بالعبادة ممتنع. أما وجه امتناع الأول، فلأن الأمر بمعرفة الله لهم، إما حال كفرهم وجهلهم، أو حال عرفانهم؛ فالأول يوجب التناقض، والثاني تحصيل الحاصل - وكلاهما محالان.
أما وجه امتناع الثاني، فهو ظاهر، لتحقق الملازمة بينهما.
وأيضا، يستحيل أن يكون هذا الخطاب مع المؤمنين لأنهم يعبدون الله، فأمرهم بالعبادة تحصيل الحاصل.
والجواب: إن مراتب الإيمان مختلفة متفاوتة كمراتب العبادة، وأقلها ما هو حاصل لكل أحد بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، وذلك يكفي لتوجه الخطاب وورود التكليف وقيام الحجة، فالأمر التكليفي بالعبادة متوجه إلى الكفار مشروطا بتقديم المعرفة المستأنفة، كاشتراط الصلاة للمحدث بتقديم الطهارة، واشتراط أداء الدين للمديون بالسعي إليه، فكما أن الطهارة والسعي واجبان على من وجب عليه الصلاة محدثا، وأداء الدين ساكنا، فكذا الكافر، يصح أن تجب عليه العبادة بهذا التكليف، وشرط الإتيان بها الإيمان أولا، ثم الإتيان بها.
وكذا هذا الأمر متوجه إلى المؤمنين بفعل الزيادة لها، والاستمرار فيها، والمواظبة عليها، والاجتهاد في استخراج أدلتها، والتوسل بها إلى زيادة المعرفة والقرب، ومعلوم أن كل ذلك عبادة.
المسئلة الثالثة
إن لمنكر التكاليف وجوها من الشبه، ها نحن نذكرها مع الإشارة إلى الجواب عنها:
الأولى: إن التكليف (إما أن يتوجه) حال استواء دواعي العبد إلى الفعل والترك، أو حال رجحان دواعي أحدهما؟ فعلى الأول، يستحيل وقوع المأمور به، والتكليف غير واقع ولا جائز عند الأكثر، لأن الممكن ما لم يترجح وجوده لم يقع، إذ من تجويز الترجيح من غير مرجح ينسد اثبات الصانع، وعلى الثاني، فالمرجوح ممتنع الوقوع، وإلا لزم ترجيح المرجوح، فالراجح واجب الوقوع، فالتكليف بالراجح تكليف بايجاد ما يجب وقوعه، وبالمرجوح بما يمتنع وقوعه، وكلاهما مستحيلان.
والثانية: أن المكلف به، إن علم الله في الأزل وقوعه، فخلاف معلومه محال، فلا فائدة في ورود الأمر، وإن علم لا وقوعه، فالتكليف به تكليف بالمحال، وكلاهما عبث وسفه، والله منزه عنهما، وإن لم يعلم - لا هذا ولا ذاك - فهو قول بالجهل في حقه، فهو باطل.
والثالثة: إن ورود الأمر بالتكليف إما لفائدة، أو لا لفائدة؛ فإن كان الأول، فهي عائدة إلى المعبود، أو إلى العابد؛ والأول محال، لأنه كامل الذات بذاته لا بغيره؛ وإن كان الثاني، فهي إما عاجلة أو آجلة؛ والأول باطل، لأن التكاليف كلها مشاق وآلام في الدنيا؛ والثاني عبث، لأن جميع الفوائد محصورة في دفع الألم وحصول اللذة، والله قادر على تحصيلهما للعبد ابتداء من غير توسيط العبادة والمشقة، فيكون توسيطها عبثا، وهو ممتنع على الحكيم؛ وكذلك حكم الشق الثاني.
والرابعة: إن العبد غير موجد لأفعاله، لما تقرر أن المؤثر في الوجود هو الله، ولأن العبد غير عالم بتفاصيل ما يفعله، ومن لا يعلم شيئا بتفاصيله لا يكون موجدا له، فالأمر له بذلك تكليف بالممتنع، وهو محال.
ولكل من هذه الشبه جواب تحقيقي عقلي مذكور في طي مسائل أخرى سابقة، فعليك باستخراجه.
والأشاعرة أجابوا عن الكل، بأنه يحسن عندنا من الله كل شيء سواء كان تكليفا بما لا يطاق أو غيره، لأنه خالق مالك، والمالك يتصرف في عبده حيث يشاء، ولا اعتراض لأحد عليه في ملكه.
وأجيب أيضا: بأن أصحاب هذه الشبه أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكليف، فهذا تكليف بعدم التكليف، وإنه متناقض.
الخامسة: إن المقصود من التكليف، إنما هو تطهير القلب - على ما دلت عليه ظواهر القرآن - فلو قدرنا إنسانا مشتغل القلب دائما بالله تعالى، بحيث لو اشتغل بهذه التكاليف الظاهرة لصار ذلك عائقا له عن الاستغراق في معرفة الله تعالى، وجب أن يسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة، فإن الفقهاء القياسيين قالوا: إذا لاح المقصود والحكمة في التكاليف، وجب اتباع الحكم المعقول، لا اتباع الظواهر.
والجواب عنه: أن المقصود من التكليف، وإن كان تطهير القلب وجلاءه لتجلي صورة المعرفة الإلهية، إلا أن الإنسان لا سبيل له إلى ذلك إلا بسبق أفعال وأعمال دينية توجب ذلك، وكل أحد نفسه مغمورة في أول الكون في عمق بحر الطبائع، والجة في غياهب ظلمات الدنيا، مغشاة بأغشية الحجب الجسمانية، ملطخة بالأخباث النفسانية، كالشهوة والغضب والأكل والجماع والنوم والهم والغم، وما يجري مجراها من خطرات الوهم وهواجس النفس، وغير ذلك.
وليس أيضا اشتغال القلب بالله، والتشوق إليه، مما يمكن حصوله إلا عقيب العبادات، وبعد إطالة النظر في تحصيل المعارف الإلهية، لا كما زعمه عوام الصوفية وغيرهم، فأنى يتيسر ذلك إلا بعد إقامة مراسم العبودية، وإطاعة أوامر الشريعة ونواهيها.
المسئلة الرابعة
إن مخالفة التكاليف وترك العبادات من العبد، لماذا يصير منشأ للعذاب وباعثا له تعالى على العقاب، مع أن ذاته مستغن عن طاعة العبد، منزه عن لذة الإنتقام، متعال عن الغرض الحاصل له من تعذيب المجرم والإيلام؟
والجواب: إن تكليف الله عباده، يجري مجرى تكليف الطبيب، فإذا غلبت عليه الحرارة أمره بشرب المبردات، وهو غني عن شربه، لا يضره مخالفته ولا ينفعه موافقته، كما اعترف به المعترض، ويساعدنا عليه، ولكن النفع والضر يرجعان إلى المريض ويلزمان لأفعاله، وإنما الطبيب مرشد فقط، فإن وفق المريض حتى وافق الطبيب، يشفى ويتخلص من ألم المرض، وإن لم يوفق وخالف، تمادى به المرض وهلك؛ وبقاؤه وهلاكه سيان عند الطبيب لاستغنائه عن بقائه وفنائه.
فكما أن الله خلق للشفاء سببا مفضيا إليه، فكذلك للسعادة الأخروية سببا وهو الطاعة، ونهي النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائل الأخلاق، ورذائل الأخلاق مشقيات للنفس، مهلكات في الآخرة، كما أن رذائل الأخلاط ممرضات للبدن في الدنيا، والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة، كالسموم بالإضافة إلى الحياة الدنيا، وللنفوس طبيب كما أن للأجساد طبيبا، والأنبياء عليهم السلام أطباء النفوس، يرشدون الخلق إلى طريق الفلاح بتمهيد التكاليف المزكية للقلوب، كما قال تعالى:
قد أفلح من زكها وقد خاب من دسها
[الشمس:9 - 10].
ثم نقول: إن المريض إذا خالف أمر الطبيب وتمادى به المرض، فبالحقيقة لم يتماد مرض الممراض بمخالفة الطبيب لأجل عين المخالفة، بل لأنه سلك غير طريق الصحة الذي أمره الطبيب به، فكذلك التقوى التي أشار إليها قوله تعالى: { لعلكم تتقون } هي الاحتماء الذي ينفي عن القلوب أمراضها، وأمراض القلوب تفوت حياة الآخرة، كما تفوت أمراض الأجساد حياة الدنيا.
فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكاليف، فإن الطاعات أدوية نافعة، والمعاصي سموم ناقعة، وتأثيرها في القلوب كتأثير هاتين في الأبدان، لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. كما لا يسعد ههنا إلا من أتى بمزاج معتدل، وكما يصح قول الطبيب للمريض: " قد عرفتك ما يضرك وما ينفعك، فإن وافقتني فلنفسك، وإن خالفتني فعليها " ، كذلك قال تعالى:
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها
[الإسراء:15].
وأما العقاب على ترك الأوامر وارتكاب الخطيئات، فليس ذلك من الله غضبا وانتقاما على نحو غضبنا وانتقامنا، بل لأنه رتب الأسباب على المسببات، فخلق نفس الإنسان على وجه تكملها وتنجيها الفضائل، وتهلكها وتشقيها الرذائل، والله تعالى غير عاجز عن الإشباع من غير أكل، والإرواء من غير شرب، والإنشاء للولد من غير مضاجعة ووقاع، ولكن قد رتب الأسباب والمسببات لحكمة خفية لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم.
هذا ما ذكره بعض العلماء، وبه يخرج الجواب أيضا عن الشبهة الثالثة لمنكري التكاليف.
المسئلة الخامسة
لما كانت الفائدة في قوله تعالى: { الذي خلقكم } أنه لا يستحق العبادة إلا بذلك، فما الفائدة في قوله: { والذين من قبلكم } ، وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة لهم؟
قلنا فيه وجوه:
أحدها: إن المراد تعدد منشأ العلم بالصانع ومأخذه، لا إثبات مقتضى العبادة وموجبها.
وثانيها: إن من قبلكم كالأصول والأسباب لوجودهم، فخلقها يجري مجرى الإفضال على الفروع، فكأنه يقول: كنت منعما عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بخلق آبائك وأصولك.
وثالثها: إزالة شبهة أن الموجد للناس آباؤهم وأمهاتهم.
ورابعها: إزالة شبهة عبدة الملائكة والهياكل العلوية.
المسئلة السادسة
إن كلمة " لعل " في قوله { لعلكم تتقون } للترجي أو الإشفاق، ولا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة، وهو على الله محال، فلا يجوز رجاء الله تقواهم، لأنه عالم الغيب والشهادة.
وأجيب: إن الترجي راجع إلى العباد، لا إلى الله كقوله تعالى:
لعله يتذكر أو يخشى
[طه:44]. أي اذهبا أنتما إلى فرعون على رجائكما وطمعكما في ايمانه، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره، أي اعبدوا ربكم راجين للتقوى.
أقول: الأولى أن يقال: " لعل " أينما وقع في القرآن، كان واقعا على أنه من لسان الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو بحسب علمه تعالى التفصيلي الواقع في أخيرة المراتب، فإن لعلمه تعالى مراتب، كما إن لقدرته مراتب أعلاها ما هو عين ذاته، لأن ذاته بذاته مبدء انكشاف جميع الأشياء على ذاته في الأزل على وصف الوجوب الذاتي مقدسا عن التغير، وأدناها ما هو عين الممكنات، ويجري فيه التغير والإمكان، والإختيار والإبتلاء وغيرها من سمات الحدثان، ولكن بالقياس إلى ما في هذه الدرجة من الموجودات - لا بالقياس إلى ذاته الأخدية -.
وهذا مما يحتاج دركه على التحقيق إلى علوم كثيرة مع نور بصيرة، ويمكن إدراكه على سبيل التقريب، بأن الله عز وجل، خلق عباده ليستعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في اقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الإختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجيح خيرهم على شرهم، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، ومصداقه قوله تعالى:
ليبلوكم أيكم أحسن عملا
[هود:7]. وإنما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب، ولكن لما كان بناء الأمر على الإمكان والإختيار والقوة والصحة - دون الإلجاء والإضطرار -، أطلق لفظ " الترجي " من هذا الوجه، وإن كان بناء أمرهم بحسب الأسباب القصوى وصورة ما في الكتاب والقضاء هو التحقيق.
وهذا مستقيم، سواء تعلق قوله: " لعلكم " ب " خلقكم " أو ب " اعبدوا " ، وحمله على " أن يخلقكم راجين للتقوى " ليس بسديد أصلا.
وقيل: " لعل " قد يجيء بمعنى " كي " ووجه بأنها للإطماع، وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم إذا أطمع في فعل يجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به، وأيضا فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم لانجازها، على أن يقولوا: عسى ولعل، مثل قوله تعالى:
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
[الإسراء:79]. وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب.
أو جاء على طريق الإطماع دون التحقيق، لئلا يتكل العباد مثل:
توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم
[التحريم:8]. وهذه مجازات والتحقيق ما انفلق صبح نوره.
قال القفال: في " لعل " معنى التكرير والتأكيد، إذ اللام فيه للتأكيد، كما في نحو قولهم: " لقد " ، ولقولهم: " علك أن تفعل كذا " و " عل " يفيد التكرير، ومنه " العل بعد النهل " ، فقول القائل: " افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك " معناه: افعل فإن فعلك له يؤكد طلبك ويقويك عليه.
المسئلة السابعة
إذا كانت العبادة تقوى، فقوله: { لعلكم تتقون } جار مجرى قوله: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون و " اتقوا ربكم لعلكم تتقون.
والجواب: المنع من اتحاد مفهوميهما، وذلك لأن أصل لفظ " التقوى " في اللغة هو " الوقوى " بالواو، وهو مصدر كالوقاية، فأبدلت " الواو " " تاء " كما هو في " الوكلان " و " التكلان " ونحوهما، فقيل: " تقوى " فإذا لما حصلت وقاية بين العبد وبين المعاصي والشرور من قوة عزمه، وتوطين قلبه على تركها، فيوصف حينئذ بأنه متقي، ويقال لذلك العزم والتوطين: " تقوى ".
والتقوى، أطلق في القرآن على ثلاثة أشياء:
أحدها: بمعنى الهيبة والخشية، قوله تعالى:
وإياي فاتقون
[البقرة:41]. وقال:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله
[البقرة:281].
والثاني: بمعنى الطاعة والعبادة قوله:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران:102]. وقال ابن عباس: " أطيعوا الله حق إطاعته ". وقال مجاهد: " أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر ".
الثالث: بمعنى التنزيه للقلب عن الذنوب، وهذه هي الحقيقة في التقوى دون الأولين، ألا ترى أن الله تعالى يقول:
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفآئزون
[النور:52]. ذكر الطاعة والخشية ثم التقوى، فعلمنا أن حقيقة التقوى سوى الطاعة والخشية، وهو تنزيه القلب عما ذكر.
وعند أهل الله: تنزيه القلب عن الإلتفات بغير الله.
وقال بعض الشيوخ: منازل التقوى ثلاثة، تقوى عن الشرك، وتقوى عن البدعة، وتقوى عن المعاصي الفرعية؛ ولقد ذكرها الله تعالى في آية واحدة وهو قوله:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا
[المائدة:93]. فالتقوى الأولى تقي القلب عن الشرك، والإيمان الذي ذكر في مقابله التوحيد؛ والتقوى الثانية عن البدعة، والإيمان ذكر معها اقتداء الشريعة واجتماع الأمة؛ والتقوى الثالثة عن المعاصي الفرعية والإقرار في هذه المنزلة، فيقابلها الإحسان - وهي الطاعات والإقامة عليها -.
وقد جاءت التقوى بمعنى اجتناب فضول الحلال، وهو ما روي في المشهور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال:
" إنما سمي المتقون متقين لتركهم ما لا بأس به حذرا عما به بأس "
فإن أردت أن تجمع بين تلك المعاني وبين ما جاء في الخبر في حد جامع ومعنى بالغ، فلك أن تقول: التقوى هي الاجتناب عما يخاف منه ضرر في الدين؛ ثم الذي يخاف الضرر منه في أمر الدين قسمان، محض الحرام والمعصية، وفضول الحلال - لأن الانهماك فيه أيضا يجر إلى الحرام المحض، لأنه يوجب شره النفس وطغيانها وتمردها وعصيانها -، فمن أراد أن يأمن الضرر في أمر دينه، فليجتنب عن فضول الحلال لئلا يقع في الحرام، حتى يصير ذلك وقاية له عن كل شر.
والشر ضربان: شر بالإصالة كالمحرمات، وشر لا بالإصالة كالشهوات المباحة، فالتقوى عن الأولى تقوى فرض يجب بتركها عذاب النار، والثانية تقوى زجر وأدب يلزم بتركها الحبس والحساب الطويل، واللوم والتعيير.
فصل
وأما العلوم الشريفة، فبيان استدعاء الآية لها واشتمالها عليها؛ أن الله لما أمرنا بعبادة الرب، أردفه بما يدل على وجود الصانع، وهو خلق نفوسنا، وخلق من سبق وجوده على وجودنا، وهذا مما يدل على أنه لا طريق إلى معرفة الله، إلا بالنظر والاستدلال والتدبر في مبادئ المطالب، وأوائل البراهين، والعلم بكيفية وجود الخلائق، والإطلاع على حقائق الآفاق والأنفس.
وطعن قوم من المعطلة والحشوية في هذه الطريقة وقالوا: " الاشتغال بنمط البراهين لتحقيق اليقين بدعة " ، وقوم منهم أنكروا هذا العلم، وزعموا أن الإنسان مكلف بالعمل لا بالمعرفة، ولا ينكرون سائر العلوم، بل جعلوا بعضها واجبة وبعضها مستحسنة. ونحن بحمد الله تعالى خالفنا سيرتهم، وهدمنا بنيانهم، وكسرنا أصنامهم الجاهلية في رسالة سميناها كسر أصنام الجاهلية، فلنذكر في بيان صحة طريقنا وجوها نقلية وعقلية في عدة إشراقات.
الاشراق الأول:
في بيان فضل هذا العلم على سائر العلوم وهو من وجوه:
الأول: إن أجل العلوم رتبة، وأعلاها منزلة، وأرفعها درجة، وأعظمها ثمرة، العلم بذات الله الجليلة، وصفاته العالية، وأسمائه الحسنى، لأن العلم تابع للمعلوم، والمعلوم إذا كان أشرف الموجودات، فالعلم بذلك أشرف العلوم، وليس في المعلومات - موجودا كان أو معدوما - أشرف وأعلى من ذات الله القديمة، وصفاته وأسمائه، فيجب أن يكون العلم بها أشرف العلوم - وهذا مما لا شبهة فيه -.
الثاني: إن العلم إما ديني أو غير ديني، ولا شك أن الديني أشرف؛ والعلم الديني؛ إما علم بالأصول أو بالفروع؛ والأول أشرف، إذ ما عداه يخدمه وتتوقف صحته على علم الأصول؛ لأن المفسر يبحث عن معاني كلام الله المجيد، وذلك فرع على وجود الصانع واختياره وعلمه وقدرته وكلامه، وأما المحدث، فإنه إنما يبحث عن كلام الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكل ذلك فرع على العلم بوجود الرسول، والعلم بكيفية نبوته ورسالته وصدقه؛ والفقيه، إنما يبحث عن أحكام الله تعالى، وذلك فرع على التوحيد والنبوة؛ فثبت أن هذه العلوم كلها مفتقرة إلى العلم بالأصول، وظاهر أن علم الأصول غني عنها.
وإن سألت الحق، فجميع العلوم مفتقرة إلى العلم الكلي الإلهي، وهو غير مفتقر إليها، فهو علم حر مخدوم الكل، وسائر العلوم عبيده وخدمه، لأن موضوعات العلوم تكون مسلمة فيها على سبيل الوضع، وإنما يقام البرهان على وجودها ووجود مباديها في العلم الأعلى.
قال المحققون: مسائل كل علم بمنزلة قياسات استثنائية تثبت مقدماتها الاستثنائية في العلم الأعلى، فهو أشرف العلوم.
الوجه الثالث: إن شرف كل علم وعمل، وجلالة كل درك وفعل، إما بشرف موضوعه، وإما بحسن صورته، وإما بفضيلة فاعله، وإما بكمال غايته ونباهة الثمرة الحاصلة له؛ وهذا العلم مشتمل على الكل.
وذلك لأن علم الهيئة - مثلا -، أشرف من الطب نظرا إلى الموضوع، لأن موضوع الهيئة هو الأجرام الكريمة البسيطة الرفيعة عن أرجاس العنصريات، وموضوع الطب، هو بدن الإنسان المركب من الأخلاط العفنة والأضداد المستحيلة، القابل للأمراض والأوجاع، المتسارع إلى الموت والفساد، فيكون موضوع الهيئة أشرف من موضوع الطب.
والفقه أشرف منهما، باعتبار الغاية - وإن كان أدون منهما بحسب الموضوع، لأن موضوعه فعل المكلف - ومن الهيئة بحسب الأدلة والمبادئ، لأن أدلتها مقدمات يقينية وأدلة الفقه ظنية.
ثم لا شك أن الأسباب الأربعة في المعارف الربوبية: ففاعلها القوة النظرية والبصيرة العقلية المنورة بنور الله، المؤيدة من عنده، وهي أشرف أجزاء الجوهر النطقي المضاهي عند صيرورتها منورة بالفعل في التقدس والتنور لجواهر الملائكة العقلية، وهم سكان حظائر القدس، المجاورون للحضرة الإلهية والجنة العقلية.
وغايتها الوصول إلى الحضرة الإلهية والقرب من بارئ الكل، ومحرك ملكوت السموات والأرض بالتشويق العقلي والمحبة الإلهية.
وأما موضوعها، فهو ذات الباري وذوات الملائكة والكتب والرسل، ولا شبهة أنها أشرف الموضوعات العلمية والعملية.
وأما الصورة، فهي هيئة المعرفة الراسخة في النفس الإنسانية والقلب المعنوي، الحاصلة من حضور صورة الكل - التي بها يصير الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم بجميع أجزائه الكلية وأسبابه القصوى، آخذا من المبدء الأعلى إلى الجواهر العقلية، ثم النفسية، ثم الاجرام الكلية، والأنواع الحاصلة بفيض الإبداع، العائدة إليه؛ سيما النوع الإنساني المشتمل على النفوس النبوية والولوية العائدة إلى الله تعالى بعد مرورها على الطبقات والوسائط - حضورا عقليا مقدسا عن وصمة التغير والزوال والاضمحلال أبد الآبدين ودهر الداهرين، مرتبطا وجودها بوجود الخير الأعظم، والجمال الأتم، والجلال الأرفع، مستهلكا وجودها في وجوده، مضمحلا نورها في نوره الساطع وضوئه الشامخ - تعالى كبرياؤه -.
الوجه الرابع: إن شرف الشيء قد يظهر بواسطة خساسة ضده - فكلما كان الشيء أخس ضدا كان أشرف وجودا - وضد علم الأصول وعلم الإلهيات هو الكفر والبدعة والسفسطة، وهي من أخس الأشياء بعد العدم، فوجب أن يكون هذا العلم من أشرف الأشياء بعد الوجود المبرأ عن شوب النقص والعدم - وهو وجود الباري جل اسمه -.
الوجه الخامس: إن هذا العلم، مما لا يتطرق إليه النسخ والتغيير، ولا يختلف باختلاف الأزمنة والدهور، ولهذا اتفق عليه جميع الأنبياء عليهم السلام، ولم ينقل من أحد منهم خلاف في هذه الأصول، فجميعهم متفقون في إثبات المبدء وإثبات المعاد، وحقية الملائكة، والكتب والرسل والأولياء لله - بخلاف سائر العلوم -، فوجب أن يكون أشرف العلوم.
الوجه السادس: إن الآيات المشتملة على مطالب هذا العلم وبراهينها، أشرف من الآيات المشتملة على المطالب الفقهية والعلوم السياسية، وهذا مما لا يخفى على من له اطلاع على علم القرآن، ويدل عليه أنه جاء في فضائل:
قل هو الله أحد
[الإخلاص:1]، و:
آمن الرسول
[البقرة:285]، وآية الكرسي، وآية السخرة، وسورة الحديد، ويس، وما يشابهها، ما لم يجئ مثله في آية الحيض وآية المداينات وآيات القتال؛ وذلك يدل على فضيلة العلم الإلهي.
الوجه السابع: إن عدد الآيات الواردة في الأحكام قليل لا يبلغ إلى ستمائة آية، وأما البواقي ففي بيان التوحيد، والنبوة، وإثبات المعاد، والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين؛ وأما الواردة في القصص، فالمقصود منها معرفة حكمة الله وقدرته كما قال:
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
[يوسف:111]. فدل على أن هذا العلم أشرف وأفضل.
الوجه الثامن: إن الله أول ما دعى المكلفين من خلقه، إنما دعاهم إلى النظر والإعتبار الموصل إلى توحيد ذاته، ومعرفة صفاته بالدلالات الواصلة والعلامات الباهرة الزاهرة، الدالة على وحدانيته، وتنزيه ذاته وصفاته عن مشابهة خلقه، وقطع عذرهم، وأزاح علتهم، وأمر بالنظر والإعتبار في كتابه المنزل من السماء بأكثر من أربعمائة آية تصريحا وتلويحا، ومدح الناظرين والمباحثين والمجادلين الذين عرفوه وبينوه للخلق، وقمعوا شبه المعاندين، ودعوا الناس إلى معرفته بآياته، فقال عز وجل:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران:7]. - على قراءة العطف - إخبارا عن رفع مراتبهم، وقال:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم
[آل عمران:18]. وقال:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت:43]. وقال:
ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد
[سبأ:6] تنبيها على أن غير الذي أوتي العلم والحكمة من عند الله، ليس ممن يرى حقية الرسالة وطريقة الهداية.
وحكى أيضا عن خيار رسله وأمناء وحيه إلى خلقه، استعمالهم النظر والبحث والمجادلة مع من ضل وترك الطريق الأمثل.
فقد حكى في قصة نوح عليه السلام عن الكفار قولهم:
ينوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا
[هود:32]. ومعلوم أن تلك المجادلة، ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية، بل كانت في التوحيد والنبوة، فالمجادلة في نصرة الحق في هذا العلم هي حرفة الأنبياء عليهم السلام.
وقال في قصة إبراهيم:
ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه أن آته الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين
[البقرة:258]. قال تعالى في اخباره عن نظره واعتباره:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لا أحب الآفلين
[الأنعام:76]. الآيات - فرد المثل إلى المثل، والنظير إلى النظير، فأخرج هذه الأجرام عن الربوبية بعلة اشتراكها في الأفول، والإمكان، والزوال والانتقال في الأحوال، وسمى استدلاله حجة، وأضافه إلى نفسه فقال عز وجل:
وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء
[الأنعام:83]. انه تعالى بهذا العلم، رفع بدرجة إبراهيم عليه السلام، فقد ظهر من القرآن أن له عليه السلام مقامات:
أحدها: مع نفسه وهو قوله:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا
[الأنعام:76] الآيات. وهذه طريقة استدلال الحكماء والمتكلمين بإمكانها، أو بتغيرها وحدوثها، على حاجتها إلى من فطرها وأقام وجودها، فمدح الله عليه بقوله:
وتلك حجتنآ
[الأنعام:83] - الآية.
وثانيها: حاله مع أبيه وهو قوله:
يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا
[مريم:42].
وثالثها: حاله مع قومه، تارة بالقول والتعليم، وأخرى بالزجر والتوبيخ؛ أما بالقول فقوله:
ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
[الأنبياء:52] وأما بالفعل بقوله:
فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون
[الأنبياء:58].
ورابعها: حاله مع ملك زمانه في قوله:
ربي الذي يحيي ويميت
[البقرة:258]. - الآية - وكل من سلمت فطرته، علم أن علم الأصول ليس إلا تقرير هذه الأدلة، ودفع الأسئلة والمناقضات عنها.
فهذا كله بحث ابراهيم عليه السلام في المبدء، وأما بحثه في المعاد فقوله:
رب أرني كيف تحيي الموتى
[البقرة:260]. إلى آخره - ويندرج فيما قصده جميع علوم المعاد.
وأما موسى عليه السلام، فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة، أما التوحيد، فاعلم أن موسى عليه السلام إنما كان يقول في أكثر الأمر على دلائل آبراهيم عليه السلام، وذلك لأنه تعالى حكى في سورة طه:
قال فمن ربكما يموسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه:49-50]. وهذا هو الدليل الذي ذكره ابراهيم عليه السلام:
ربي الذي يحيي ويميت
[البقرة:258]، فلما لم يكتف فرعون بذلك، وطالبه بشيء آخر، قال موسى:
رب المشرق والمغرب
[الشعراء:28] فهذا هو الذي قال ابراهيم عليه السلام:
فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب
[البقرة:258]، فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل، حرفة هؤلاء المعصومين، وأنهم كما استفادوها عن عقولهم، فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين.
وأما استدلال موسى عليه السلام على النبوة بالمعجرة، ففي قوله:
أولو جئتك بشيء مبين
[الشعراء:30]. وهذا هو الاستدلال بالمعجزة على الصدق.
فقد ظهر لك ان طريقتهم التمسك بالحجة والبرهان، ولذلك أمر الله بذلك رسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وقال:
بل ملة إبراهيم حنيفا
[البقرة:135]. وقال:
ملة أبيكم إبراهيم
[الحج:78]. فيقتضي أمره تعالى أن يحتج كما يحتج، ويستدل كما يستدل؛ وقال أيضا عز وجل لرسوله ابتداء:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن
[النحل:125].
أما اشتغال نبينا بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد، فأظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل، فإن القرآن مملوء منه، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبتلى بجميع فرق الكفار:
الأولى: الدهرية، الذين كانوا يقولون بدهر هذا العالم قالوا:
وما يهلكنآ إلا الدهر
[الجاثية:24]، والله تعالى أبطل قولهم بأنواع الدلائل.
والثانية: الذين ينكرون القادر المختار، والله تعالى أبطل قولهم بحدوث أنواع النبات، وأصناف الحيوانات، مع اشتراك الكل في الطبائع بتأثيرات الأفلاك، وذلك يدل على وجود القادر.
الثالثة: الذين أثبتوا شريكا مع الله، وذلك الشريك، إما أن يكون علويا أو سفليا؛ أما الشريك العلوي، كمثل من جعل الكواكب مؤثرات في هذا العالم، كالصابئة، والله تعالى أبطله بدليل الخليل عليه السلام في قوله:
فلما جن عليه الليل
[الأنعام:76]، وأما الشريك السفلي فالنصارى، قالوا بإلهية المسيح، وعبدة الأوثان قالوا بإلهية الأوثان؛ والله تعالى أكثر من الدلائل على فساد قولهم.
الرابعة: الذين طعنوا في النبوة، وهم فريقان:
أحدهما: الذين طعنوا في أصل النبوة، فهم الذين حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا:
أبعث الله بشرا رسولا
[الإسراء:94].
والثاني: الذين سلموا أصل النبوة، وطعنوا في نبوة محمد (صلى الله عليه وآله)، وهم اليهود والنصارى، والقرآن مملوء من الرد عليهم، ثم إنهم طعنوا تارة بالطعن في القرآن، فأجابه بقوله:
إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها
[البقرة:26]. وتارة بالتماس سائر المعجزات بقوله:
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
[الإسراء:90]. وتارة بأن هذا القرآن ينزل نجما نجما وذلك لطرق التهمة إليه، فأجاب الله عنه بقوله:
كذلك لنثبت به فؤادك
[الفرقان:32].
الخامسة: الذين نازعوا في الحشر والنشر، والله تعالى أورد على صحة ذلك، وعلى إبطال قول المنكرين أنواعا كثيرة من الدلائل.
السادسة: الذين طعنوا في التكليف، تارة بأنه لا فائدة فيه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
[الإسراء:7]. وتارة بأن الحق هو الجبر، وأنه ينافي صحة التكليف، وأجاب الله تعالى عنه بأنه:
لا يسئل عما يفعل
[الأنبياء:23].
فثبت أن هذه الحرفة هي حرفة كل الأنبياء والرسل عليهم السلام، وعلم أن الطاعن فيها إما كافر أو جاهل.
وكذلك أمر الله أمة نبينا بايضاح الحجة، ونهاهم عن التقليد، وذمهم عليه، فقال لكافة المؤمنين:
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن
[العنكبوت:46]. فأمره سبحانه وأمته بايضاح طريق الحق بالجدال، وكشف بطلان أهل الضلال، والفصل بين الحق والباطل بالعلم، ونهى عن التقليد، وذم أهله، وأمرهم بالمسير إلى النظر والمعرفة في قوله:
أولم ينظروا
[الأعراف:185].
أولم يتفكروا
[الروم:8]. وأمرهم بالمسافرة لطلب العلم واليقين، وخوفهم بالزجر عن اتباع أسلافهم الماضين، والقول في دينه بغير دليل، فقال جل جلاله:
وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير
[لقمان:21]. وقال أيضا في إخباره عن أمثال هؤلاء وردهم ما أتي به النبيون بقولهم:
إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون
[الزخرف:23]. فعيرهم الله ووبخهم به، وجعله من أعظم ذنوبهم.
فثبت بذلك أن المعرفة الإلهية أجل أنواع العلوم، وأعلاها كلها درجة، وأعظمها، ولأن معرفة الله أصل الدين الذي يتحد طريقه، ويؤمن سالكه، ويكفر تاركه، ولا يعذر من أخطأ في اجتهاده وعدل عنه.
ولهذا قال (صلى الله عليه وآله):
" افترقت بنو اسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة "
وقال (صلى الله عليه وآله) في فروع الدين:
" الاختلاف بين أمتي رحمة "
وقال:
" اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له "
وقال:
" من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ".
ففرق صلوات الله عليه وآله بين أصل الدين من الخطر العظيم والثواب الجسيم - ومن طلب العظيم خاطر العظيم -، ولا يكون في هذا العلم كل مجتهد مصيبا، ولا المخطئ في اجتهاده مأجورا - بل يكون مأزورا باتفاق العلماء -، بخلاف فروع الدين.
وإنما كان كذلك، لأن الاختلاف في أصول الدين، إنما يرجع إلى ذات واحدة، فمحال أن تكون الذات الواحدة على صفات يقولها الصفاتية، وعلى ما يقوله المعتزلة، وعلى التي يقولها المشبهة، وعلى ما يقوله المعطلة، ومحال أيضا أن يرد الشرع بالاعتقاد لكل فريق على الوجه الذي ذهب إليه كل فريق، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله):
" الناجية منها واحدة "
وهي التي قد أصابت الحق.
ولا كذلك [ال] فروع، لأن التكليف في ذلك يرجع إلى أعمال العباد، فيجوز أن تختلف التكاليف في حق كل واحد منهم، ويرد الشرع ابتداء بذلك، كصوم يوم واحد من رمضان. يجب على واحد أن يصوم، ويتحتم عليه صومه كالصحيح المقيم، ويجب على الآخر أن يفطر، ويتحتم عليه افطاره كالحائض، ويخير الآخر بين الصوم والافطار، كالمسافر عند جمع، والمريض أيضا، واليوم يوم واحد، ويختلف حكمه باختلاف أحوال المكلفين من غير تناقض وتضاد -، كذلك حكم المجتهدين من العلماء، إذا أدى اجتهاد كل واحد منهم في حكم الحادثة التي لا نص فيها إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر، فيكون كل واحد منهم متعبدا مكلفا فيما أدى إليه اجتهاده باتفاق الأمة، ولهذا المعنى كانت شرائع الرسل صلوات الله [عليهم] مختلفة، وأديانهم في التوحيد والمعاد متفقة، وإذا ثبت ذلك، فثبت أن هذا العلم أشرف من سائر علوم الدين - فضلا عن سائر العلوم -، وأن اقتناءه فرض عين، فمن شأن العاقل أن يحتاط لنفسه، ويطلب ماله فيه نجاة العقبى، والفوز بالدرجة القصوى، فإن أمور الدنيا زائلة، وعذاب الله شديد - نسأل الله العصمة والتسديد.
الإشراق الثاني
في أن هذا العلم هو الفرض على العين لا على الكفاية، وسائر العلوم إما فرض على الكفاية، أو ليس بفرض أصلا، وأن المراد من قوله (صلى الله عليه وآله):
" طلب العلم فريضة على كل مسلم "
وقوله:
" اطلبوا العلم ولو بالصين "
هو هذا العلم دون غيره.
وقد وقع الاختلاف بين الناس في العلم الذي هو فرض عين، وتحزبوا أكثر من عشرين فرقة، ويطول الكلام بتفصيلها، وحاصله أن كل فريق نزل الوجوب العيني المستفاد من الحديث على ما هو بصدده، فقال المتكلم: " هو علم الكلام، إذ به يدرك التوحيد ويعلم ذات الله وصفاته ".
وقال الفقيه: " هو علم الفقه، إذ به تعرف العبادات وما يحرم ويحل في المعاملات ". وقال المفسرون والمحدثون: " هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها ".
وقال المتصوفة: " هو هذا العلم " ، وقال بعضهم: " هو علم العبد بنفسه وبحالها ومقامها من الله ". وقال بعضهم: " هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس، وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان ". وقال أبو طالب المكي: " هو العلم بما تضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام، وهو قول الرسول:
" بني الإسلام على خمس "
لأن الواجب هذه الخمس، فيجب العلم بكيفية العمل فيها ".
قال بعض العلماء: الذي ينبغي أن يقطع المحصل ولا يستريب فيه العاقل، هو أن العلم ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة، وليس المراد بهذا العلم إذا عم وجوبه إلا علم المعاملة، فهي التي كلف العبد العاقل البالغ إياها.
وهي على ثلاثة أقسام: اعتقاد، وقول، وفعل، فإذا بلغ الرجل العاقل الاحتلام والسن أول نهار مثلا، فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناها، وليس يجب عليه كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة، ويكفيه أن يصدق به ويعتقد جزما من غير اختلاج وريب واضطراب نفس، وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث وبرهان؛ إذ اكتفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل، فإذا فعل ذلك، فقد أدى واجب وقته وفرض عينه في المعرفة.
ثم يجب عليه العلم بكيفية ما يجب عليه ويحرم في كل وقت، كالصلاة وهي حاضر الوقت، والصيام وهو ممكن التراخي إلى سنة، والزكاة، والحج، والجهاد، وكل منها يمكن أن لا يجب على العبد في مدة عمره، فلا يجب عليه العلم بكيفيتها وجوبا عينيا؛ وأما الاعتقادات وأعمال القلوب، فيجب علمها عليه بحسب الخواطر والسوانح.
وما ذكره الصوفية من فهم خواطر العدو ولمة الملك فهو أيضا [يجب] ولكن في حق من يتصدى له، وإذا كان الغالب أن الإنسان لا ينفك عن أمراض القلب ودواعي الشر - من الحسد والرئاء وهواجس الشيطان ووساوس الهوى - فيلزمه أن يتعلم ما يرى نفسه محتاجا إليه، وكيف لا يجب وقد قال (صلى الله عليه وآله ):
" ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه "
، ولا ينفك عنها بشر، فإزالتها فرض عين، ولا يمكن إلا بمعرفة حدها وأسبابها وعلاماتها، ومعرفة معالجتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالعلم بجميع ما ذكرناه من فروض الأعيان، وقد تركه كافة الناس اشتغالا بما لا يعني.
ومما ينبغي أيضا أن يبادر إليه: الإيمان بالجنة والنار، والحشر والنشر، حتى يؤمن ويصدق به، وهو ممن يتمم كلمتي الشهادة، فإنه بعد التصديق بكونه رسولا، ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها، وهو أن من أطاع الله فله الجنة، ومن عصاه فله النار؛ وإذا تنبهت لهذا التدريج، علمت أن المذهب الحق هو هذا، فإذن تبين أنه المراد بالعلم المعرف باللام في الحديث المذكور " - انتهى كلامه.
ثم ذكر بيان العلم الذي هو فرض كفاية؛ فقسم أولا العلوم إلى الشرعية وغير الشرعية، وجعل كلا منهما منقسما إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفرض، وجعل الفقه من الأولى، والطب من الثانية من فروض الكفايات، وجعل كلا منهما مندرجا تحت علوم الدنيا، وجعل الفقهاء كالأطباء من علماء الدنيا، واستدل على ذلك ببيانات صحيحة واضحة حيث قال:
" فإن قلت: فلم ألحقت الفقه بعلم الدنيا وعلماءه بعلماء الدنيا؟
فاعلم أن الله أخرج آدم من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين، ومن ماء دافق، وأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر، ثم إلى العرض، ثم إلى الجنة والنار، فهذا مبدؤهم وهذه منازلهم؛ وخلق الدنيا زادا للمعاد ليتناول الناس ما يصلح للتزود، فلو تناولوها بالعدل انقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء، لكنهم تناولوا بالشهوات فتولدت منها الخصومات، فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم، وإلى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة، ولعمري هو متعلق بالدين، ولكن لا بنفسه، بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة ".
ثم قال: " فإن قلت: هذا - إن استقام - ففي ما سوى ربع العبادات، فما تقول فيها؟
فاعلم أن أقرب ما يتكلم الفقيه فيه من الأعمال التي من أعمال الآخرة ثلاثة: الإسلام والصلاة والحرام والحلال؛ فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيها، علمت أنه لا يتجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، فإذا عرفت الأمر في هذه الثلاثة ففي غيرها أظهر.
أما الإسلام: فيتكلم الفقيه فيما يصح منه ويفسد، وفي شروطه، وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان، وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه بعزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرباب السيوف والسلطنة عنها حيث قال:
" هلا شققت عن قلبه؟ "
في الذي قتل من تكلم بالإسلام معتذرا بأنه " كان ذلك من الخوف " ، بل يحكم الفقيه بصحة إسلام مثله، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم "
، وجعل (صلى الله عليه وآله) أثر ذلك في الدم والمال، وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأقوال، بل أنوار القلوب وأسرارها، وليس ذلك من فن الفقيه، وإن خاض فيه كان كما لو خاض في علم خارج عن فنه كالطب والكلام.
وأما الصلاة: فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال وظاهر الشروط - وإن كان غافلا من أولها إلى آخرها، مشغولا بالفكر في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير - وهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة.
وأما الزكاة: فالفقيه ينظر إلى ما يقطع مطالبة السلطان، حتى أنه إن امتنع فأخذ السلطان منه، فهو حكم بأنه برئت ذمته.
وحكي أن أبا يوسف كان يهب ماله لزوجته في آخر الحول، ويستوهب مالها لإسقاط الزكاة، فذلك من فقهه في الدنيا، ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل خيانة، ومثل هذا العلم هو الضار.
وأما الحلال والحرام: فالورع عن الحرام من الدين، وله مراتب؛ أدناها: هو الاحتراز عن الحرام الظاهر الذي يشترط في عدالة الشهود.
الثانية: ورع الصالحين، وهو التوقي من الشبهات، قال (صلى الله عليه وآله):
" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "
وقال:
" الإثم خوان القلوب ".
الثالثة: ورع المتقين، وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف أداؤه إلى الحرام، قال (صلى الله عليه وآله):
" لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس "
وذلك مثل التورع عن أكل الشهوات خيفة من هيجان النشاط والبطر المؤدي إلى المحظور.
الرابعة: ورع الصديقين، وهو الإعراض عما سوى الله، خوفا من صرف ساعة من العمر إلى ما لا يفيد زيادة قرب عند الله.
فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الأول - وهو ورع الشهود والقضاة - فإذن، جميع طرق الفقه ترتبط بالدنيا، ومن تعلمه لا ليعمل - بل ليتقرب بتعاطيه إلى الله - فهو مجنون ".
" فإن قلت: فصل لي علم الآخرة تفصيلا يشير إلى تراجمه وإن لم يمكن استقصاء تفاصيله؟
فاعلم أنه قسمان: علم مكاشفة، وعلم معاملة.
أما الأول؛ فهو علم الباطن، وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم، أخاف عليه سوء الخاتمة؛ وأدنى النصيب منه التصديق به والتسليم لأهله، وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يرزق منه شيئا، وهو علم الصديقين والمقربين - أعني علم المكاشفة -، فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهره وتزكيته من صفاته المذمومة، وتنكشف من ذلك النور أمور كان يسمع من قبل أسماءها ويتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فيتضح إذ ذاك، حتى تحصل المعرفة بذات الله وأسمائه وبكلماته التامات، وبأفعاله، ومعنى الوحي، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، ومعرفة ملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب؛ وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة، والجنة والنار، وعذاب القبر، والصراط، والميزان، والحساب، ومعنى قوله:
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء:14]. ومعنى قوله:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت:64]. ومعنى " لقاء الله " ، و " النظر إلى وجهه الكريم " ، ومعنى القرب منه، والنزول في جواره، ومعنى مرافقة الملأ الأعلى ومقارنة النبيين، ومعنى تفاوت الدرجات في الجنان حتى يرى بعضهم بعضا، كما يرى الكواكب اللاتي في جو السماء، إلى غير ذلك مما يطول تفصيله ".
ثم قال: " وأما علم المعاملة، وهو من علم أحوال القلب، ومعرفة ما يحمد وما يذم من صفاته، وكيفية إزالة الذمائم والأمراض منه حتى يزول عن مرآة القلب صداها وخبثها بقاذورات الدنيا، وترفع عنها الأغطية والأغشية، وتتضح له جلية الحق في الأمور التي تتعلق بعلم المكاشفة اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه.
وهذا ممكن في حق الإنسان، فالعلم بهذه المعاملة هو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، والمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما إن المعرض عن الأعمال الظاهرة، هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى إصلاح الدنيا، وهذا بالإضافة إلى إصلاح الآخرة.
ولو سئل فقيه عن هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلا، أو عن التوكل، أو عن وجه الاحتراز عن الرئاء، لتوقف فيه، مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق بالرمي والرهانة، لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها، وإن احتيج لم يخل البلد عمن يقوم به، فلا يزال يتعب ليله ونهاره في حفظه ودرسه، ويغفل عما هو مهم نفسه في الدين، وإذا روجع فيه قال: " اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية " فيلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه.
والفطن يعلم أنه لو صدق لاشتغل بعض الاشتغال بسائر فروض الكفايات التي كانت أهم من ذلك، ولم يفت عنه كثير من فروض الأعيان، فهل لهذا سبب إلا أن غير ما هو بصدده ليس يتيسر التوصل به إلى تولي الأوقاف والوصايا، وحيازة مال الأيام، وتقلد القضاء والحكومة، والتقدم به على الأقران، والتسلط به على الأعداء؟! هيهات، قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء، فنعوذ بالله من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن، ويضحك الشيطان ".
ثم قال: " كان جمع من علماء الظاهر مقرين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب، وكان الشافعي يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبي في المكتب، ويسأله: " كيف يفعل في كذا وكذا "؟ فيقال له: " مثلك يسأل هذا البدوي؟! " فيقول: " هذا وفق لما علمناه ".
وكان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي، ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما، فكانا يسألانه: " كيف نفعل؟ ".
انتهى ملخص ما ذكره في هذا المقام، تأييدا لما نحن بصدده من تحقيق المرام، وإزالة الشكوك والأوهام عن ضمير الطلبة، ممن سلمت فطرته من اللجاج والتعند والتعصب للأقوام، دون المطرودين من باب دار السلام، ومن حق القول عليهم من الله ذي الجلال والإكرام.
الإشراق الثالث:
في دفع شبه الخصوم واعتراضاتهم على وجوب النظر ولهم في ذلك مقامات:
الأول: إن النظر لا يفيد العلم؛ واستدلوا عليه بوجوه:
أحدها: إنا وجدنا العلماء قد تفكروا واجتهدوا فحصلوا عقيب أنظارهم علوما جزموا بها، ثم ظهر لهم ولغيرهم أنها كانت أغلاطا باطلة؛ فعلى هذا لا يمكن الجزم بصحة ما يستفاد من النظر؛ وحكاية الإمام الرازي مع بعض الصوفية مشهورة..................... والنظم الذي صدر منه في أواخر عمره دال على ذلك هو قوله:
نهاية اقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وثانيها: أن المطلوب إن كان مشعورا به استحال طلبه، وتحصيل للحاصل، وإن كان غير مشعور به فطلب المجهول المطلق محال.
والجواب: إنه معلوم بوجه وهو منشأ الطلب، ومجهول من وجه وهو الذي يؤدي إليه الطلب.
وثالثها: إن العلم بكون النظر مفيدا للعلم، إن كان ضروريا، وجب اشتراك العقلاء فيه بلا خلاف - وليس كذلك -، وإن كان نظريا، يلزم إثبات جنس الشيء وماهيته بفرد منه، ومن أنكر الماهية أنكر كل فرد منها، وذلك محال، لاستلزامه إثبات الشيء من نفسه؛ ويلزم اجتماع النفي والإثبات في شيء واحد أيضا، لأنه من حيث إنه وسيلة إليه معلوم، ومن حيث إنه مطلوب حاصل منه غير معلوم، والتناقض محال.
والجواب عنه: - بعد اختيار الشق الثاني -، أنا لا نسلم لزوم ما ذكر، لأن الدعوى إن النظر يفيد المطلوب، وهذا حكم تصديقي وليس أمرا تصوريا حتى يكون جنسا أو غيره، ولو سلم، فلا نسلم أنه ماهية ما فرض مصداقا له، بل يجوز أن يكون خارجا لازما من لوازمه، وإثبات اللوازم بإثبات بعض ملزوماتها غير مستنكر.
ورابعها: إن الآلة التي تستعملها النفس في الفكر والانتقال من المقدمات إلى النتائج، إن كانت عقلية كلية فكيف تنتقل وتتحرك من صورة إلى صورة - والحركة مختصة بما هو كائن في الجسم كما اعترف به الفلاسفة -، وإن كانت جزئية فكيف تدرك المعاني والحدود الوسطى والقضايا الكلية لكبريات القياس؟
والجواب: إن القوة الفكرية في الإنسان ذات جهتين، يدرك الكليات بوجهه الذي يلي العقل، ويتحرك في الصورة المخزونة في الخيال بوجهه الذي يلي المادة.
قال أبو علي بن سينا في بعض رسائله: " القوة العقلية، إذا اشتاقت إلى شيء، وهو الصورة المعقولة، تضرعت بالطبع إلى المبدء الواهب، فإن ساحت عليها على سبيل الحدس، كفت المؤنة، وإلا فزعت إلى حركات من قوى أخرى من شأنها أن تعدها لقبول الفيض لتأثير ما مخصوص بالنفس منها، ومشاكلة بينها وبين شيء من الصور التي في عالم الفيض؛ فيحصل لها بالاضطراب ما كان لا يحصل بالحدس " انتهى كلامه.
وخامسها: وهو قول من سلم أن النظر في الجملة يفيد العلم، لكن النظر في الإلهيات لا يفيد، واحتج بوجهين:
الأول: إن حقيقة الإله غير متصورة فاستحال التصديق بثبوته، أو ثبوت صفة من صفاته، لأن التصديق بشيء يتوقف على تصور موضوعه.
والثاني: إن أظهر الأشياء عندنا حقيقتنا التي نشير إليها ب " أنا " ، ثم الناس تحيروا في ماهية هذا المشار إليه بقولي: " أنا " ، فمنهم من يقول: " هو هذه البنية " ، ومنهم من يقول: " هو المزاج " ، ومنهم من يقول: " بعض الأجزاء الداخلية في البنية " ، ومنهم من يقول: " لا داخل البدن ولا خارجه " ، فإذا كان الحال في أظهر الأشياء كذلك، فما ظنك بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا كالباري وصفاته؟!
والجواب عن الأول: إن ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة التي له، لكنها متصورة بحسب لوازمها الخاصة - ككونه واجب الوجود، ومبدء سلسلة الممكنات - فيظهر لنا من النظر في الممكنات بالبرهان، افتقارها إلى مبدء وحداني الذات، يلزمه الوجوب والتنزيه والدوام، فنحكم على هذا المتصور بأنه كذا - إلى سائر الصفات والأفعال -، وهذا القدر يكفي للتأمل في صفاته وآلائه، ثم ينجر إلى زيادة الكشف، وتصير هذه المعرفة بذر المشاهدة في الآخرة.
وعن الثاني: إن النفس وإن كانت أظهر الأشياء عندنا وجودا لكنها - ونحن في دار البدن، وظلمة الطبيعة، وغشاوة شواغل الدنيا -، أخفى الأشياء علينا حقيقة؛ لأن هذه الحجب وقعت بيننا وبين أنفسنا، وحجاب الشيء عن نفسه، أصعب من حجابه عن غيره، لأن الإنسان إذا نسي غيره يمكنه الاسترجاع له، وإذا نسي ذاته لا يمكنه الاسترجاع لها.
وربما يجاب عن هذه الوجوه ونظائرها؛ بأن الوجوه التي ذكروها ليست ضرورية بل نظرية؛ فهم أبطلوا كل النظر ببعض أنواعه، وهو متناقض.
المقام الثاني: إن تحصيل العلم غير مقدور لنا بوجوه:
الأول: تحصيل التصورات غير مقدور، فالتصديقات البديهية غير مقدورة، فجميع التصديقات غير مقدورة.
أما الأول: لأن طالبها إن كان عارفا بها، استحال طلبها، لكونه تحصيلا للحاصل، وإن كان غير عارف بها، فكذلك، لكون الطلب فعلا اختياريا لا بد فيه من تصور المطلوب، والجواب بكونه معلوما من وجه مجهولا من وجه، غير مفيد، لأن الوجه الذي يصدق عليه انه معلوم، غير الذي يصدق عليه انه مجهول، لاستحالة صدق النفي والإثبات على شيء واحد، فيعود المحذورات عليها.
وأما الثاني: فلأن حضور طرفي التصديق، أما أن يكفي للتصدق البديهي، ويلزم جزم الذهن بإسناد أحدهما إلى الآخر بالنفي أو الإثبات، أو لا يلزم؛ فإن لم يلزم، لم تكن القضية بديهية، وإن لزم، كان التصديق واجب الحصول عندهما، وممتنع الحصول عند عدمهما، وما يكون واجب الدوران نفيا واثباتا مع أمر غير مقدور نفيا واثباتا، وجب أن لا يكون مقدورا؛ فثبت أن التصديقات البديهية غير مقدورة.
وأما الثالث: فالبيان جار فيه بمثل ما مر، فوجب أن لا يكون شيء من العلوم مكسوبا للعبد؛ فهذه شبهة ذكرها العلامة الرازي في هذا المقام في أكثر كتبه.
والجواب: أما عما ذكره في باب التصور، فالتحقيق في باب كون الشيء معلوما من وجه، هو أن وجه الشيء قد يؤخذ ويعتبر على وجه يصير عنوانا لموضوع القضية المتعارفة، وقد يؤخذ ويعتبر لا على ذلك المنوال، بل على أن يصير عنوانا للقضية الطبيعية، ففي الأول، يصير عنوانا للأفراد، ومرآة لملاحظة الجميع أو البعض، ولهذا يسري الحكم إليها كما في قولك: " كل كاتب متحرك الأصابع " " وبعض الكاتب كذا " وفي الثاني يصير الوجه متصورا ومرئيا فقط ولا يصير مرآة لها.
فقد تحقق الفرق بين تصور الشيء بوجهه، وبين تصور وجهه، وفي كلا الاعتبارين وإن كان المتصور بالذات وبالحقيقة هو الوجه دون ذي الوجه، إلا أن في الأول يكون ذو الوجه متحدا معه، متصورا بتصوره بالعرض وعلى سبيل التبعية، وذلك القدر يكفي لتوجه النفس إلى تحصيله من غير لزوم أحد المحالين - لا تحصيل الحاصل ولا توجه النفس نحو المجهول المطلق -، فافهم إنشاء الله.
وعما ذكره ثانيا: إن الإدراك التصديقي نحو آخر من الإدراك مبائن بالنوع المتصور - كما هو التحقيق -، فلا يلزم من مجرد حضور الطرفين في الذهن الاذعان بثبوت أحدهما للآخر ونفيه عنه، وإن كان التصديق بديهيا، والبداهة في التصديق لا تنافي التأخر عن حضور الطرفين، فربما احتاج إلى قصد من النفس، أو التفات إلى إخطاره بالبال، ثم لا يخفى على أحد أن الجمع بين التصورين، وضم أحدهما بالآخر، غير وجود كل منهما في النفس، وغير وجودهما جميعا، فهذا الجمع أمر غير واجب بل ممكن مقدور.
فقس على ما ذكرناه فساد ما ذكره في عدم اكتساب النظريات التصديقية من البديهيات، لأن الأصل إذا بطل، كان ما يبتني عليه باطلا أيضا.
الثاني: إن الموجب للنظر إما ضرورة العقل، أو نظره، أو السمع؛ والكل باطل.
أما الأول: فلأنه لو كان بديهيا لما اختلف العقلاء فيه - وليس كذلك -.
وأما الثاني: فلأن العلم بوجوبه إذا كان نظريا لا يمكن حصوله إلا بعد النظر، فالتكليف قبله يكون تكليفا بالمحال، وبعده يكون عبثا لا فائدة فيه.
وأما الثالث: فلأن قبل النظر لا يكون متمكنا من معرفة وجوب النظر، وبعده لا يمكن ايجابه لعدم الفائدة، وإذا بطلت الأقسام ثبت نفي الوجوب.
والجواب: - بعد تسليم بطلان الأول، وامتناع خفاء الضروري على بعض العقلاء -، بأن ما ذكره في بطلان الثاني والثالث، مبناه على أن التصديق قبل حصوله لا يمكن تصوره، وليس كذلك، إذ يجوز حصول صورة التصديق النظري أو البديهي في العقل قبل نفسه، كما إذا قلت لأحد: " صدق بأن زيدا قائم وأذعن بذلك " ، فيتصور أولا ما أمرت به من التصديق ثم يوقعه.
لا يقال: قد تقرر إن العلم والمعلوم متحدان ذاتا، مختلفان بالإعتبار، فصورة كل شيء في الذهن عين ماهيته، وقد تقرر أيضا كون التصور والتصديق نوعان متخالفان من العلم، فعلى ما ذكرت، يلزم كون صورة التصديق تصديقا قبل حصول نفس التصديق، فيلزم كون تلك الصورة تصديقا وليس بتصديق معا، فيلزم التناقض وهو محال.
لأنا نقول: المعلوم إذا كان ماهية شيء فله صورة مطابقة له متحدة معه، وإن كان وجودا - سواء كان وجودا عينيا أو وجودا ظليا - فلا صورة مطابقة له، لأن كل صورة ذهنية تقبل الاشتراك بين كثيرين، وليست الهويات الوجودية كذلك، فلا صورة لها في الذهن، بل هي نفس الصور، بل لها وجوه واعتبارات يدرك بها إدراكا ضعيفا، وإدراكها التام لا يمكن إلا بشهود نفسها ونيل هويتها، فكذلك حكم تعلق التصور بنفس التصديق، إذ هو حالة وجدانية وكيفية نفسانية لا يمكن استيفاء تصورها إلا بوجه واعتبار غير حقيقتها، فتبصر إنشاء الله.
ولهاتين الشبهتين ونظائرهما جواب جدلي، وهو أن التمسك بشيء منها في أن النظر غير مقدور فاسد، لأن القائلين بها مختارون في استخراج تلك الشبه بالنظر، فبطل قولهم: " إنها ليست اختيارية " " وبأن النظر ليس إختياريا ".
المقام الثالث:
إن النظر وإن فرض كونه مفيدا للعلم ومقدورا للعبد لكنه يقبح من الله التكليف به وبيانه من وجوه:
الأول: إن النظر يفضي بصاحبه في أكثر الأمور إلى الجهل، وما يفضي إلى القبيح فالإقدام عليه قبيح، والله لا يأمر بالقبيح.
والثاني: إن الواحد منا - مع نقصه وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات - لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل، بأنا رأينا أرباب المذاهب والأقوياء لهم كلمات متناقضة، وذلك يدل على عجز العقل عن ادراك هذه العقائد.
الثالث: إن مدار الدين لو كان على النظر في الدلائل، لوجب أن لا يستقر الإنسان ساعة على الدين، لأنه إذا خطر بباله سؤال في مقدمة من مقدمات دليل الدين، فيصير بسببه شاكا في دينه، فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن دينه بسبب ما يختلج بباله من الأسئلة والمباحثات.
الرابع: إنه اشتهر في الألسنة أن: " من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق " وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه.
وهذه الوجوه مما ذكرها الإمام الرازي ولم يجب عنها إلا بمثل ذلك الجواب الجدلي؛ وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن التعويل على النظر قبيح، فهي متناقضة، يلزمهم أن يكون ايرادهم لهذه الشبه التي ذكروها قبيحا، وأنت تعلم أن ما ذكره لا يدفع هذه الشبه، إذ مبناها على أن الله لا يكلف العبد بالقبيح، لا أن العبد لا يفعل القبيح مطلقا.
بل الصواب غير ما ذكره، وهو أن يجاب:
أما عن الأولى: فبأنا لا نسلم ما ذكره. بل صاحب النظر إذا تحرى طريق الصواب، وتحرز عن الخطأ بصدق النية وصفاء الطوية، مع فطرة صافية، يصير في أكثر الأمور فائزا بمقام الفضيلة والعلم، متخلصا عن رذيلة الحمق والجهالة.
وأما عن الثاني: فبأن أرباب المذاهب المتعارضة، إن كان المراد منهم رؤساءها، فما نقل عنهم الأتباع والمقلدون، ووقع بأيديهم مما لا اعتماد على ذلك. فلعل المنقول عنه قد كان له وجه صحيح، ولكن وقع التحريف عنه؛ وإن كان المراد أتباعهم ومقلديهم، فالتعارض في أقوالهم لهم يحصل من مجرد النظر، بل لأمور أخر يطول شرحها.
وأما عن الثالث: فبأن الإنسان إذا كرر النظر وردد الفكر شطرا من الزمان في أصول الدين ودعائمه، يحصل في القلب نور ينشرح به قلبه، ثم بعد ذلك لا ينطفي ذلك النور بسبب القدح في شيء من المقدمات، لأنها بمنزلة معدات للمطلوب، لا أنها علل موجبة ليجب وجودها معه.
وأما عن الرابع: فبأن علم الكلام حسن تعلمه لأجل التمرن والاعتياد لتدقيق النظر وتشحيذ الذهن، واستعماله للاحتجاج على خصماء الدين وأعداء الشريعة، وهو من الفروض الكفايات، وأما النظر المؤدي إلى الكشف واليقين، فليس ذلك مما يتعلق بعلم الكلام، بل هو صنعة أخرى وليس من صنائع المتكلمين في شيء، وإنما هو شأن علماء الآخرة المتدبرين في آيات الله، الناظرين في ملكوت السموات والأرض.
المقام الرابع: إنه وإن لم يقبح من الله ورسوله التكليف به لكنه ما أمرا به، والدليل عليه: أن العلم بالأدلة والبراهين المؤدية إلى هذه المقاصد، إن كان ضروريا غنيا عن التعلم، لوجب أن يحصل لجميع الناس - وتجويز ذلك مكابرة -.
وإن لم يكن كذلك، بل احتاج إلى تدبر واستفادة من الكتب، واستعانة من الأساتذة، فذلك لا يحصل إلا في السنين المتطاولة بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة، فلو كان الدين مبنيا عليه، لوجب أن لا يحكم الرسول (صلى الله عليه وآله) بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل، ويجربه في معرفة الدلائل؛ ولو فعل ذلك لاشتهر - لتوفر الدواعي على نقل مثله -، فلما لم يشتهر - بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم من حاله أنه لا يخطر بباله شيء من ذلك -، فعلمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين.
والجواب: أن الإسلام - وهو الإقرار اللساني بالشهادتين - غير الإيمان، - وهو العلم بأصول الدين - وهذا يوجب النجاة عن عذاب الله دون الأول، والنبي (صلى الله عليه وآله) ما حكم بإيمان من لم يعرف ذلك بالحقيقة، بل حكم بإسلامه الموجب لحقن دمه وماله، وبإسلام من خالف لسانه قلبه أيضا كالمنافقين
" أوما سمعت أنه لما قال حارثة الأنصاري: " أصبحت مؤمنا حقا " في جواب قوله (صلى الله عليه وآله): " كيف أصبحت؟ " قال (صلى الله عليه وآله): " لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك؟ " ولما عرض عليه حقيقة ايمانه بما دل على عرفانه قال: " أصبت فالزم "
، فلم يحكم على ايمانه بالحقيقة ما لم يفتش عن عرفانه، أولا ترى أن القرآن مشحون بالأمر بالنظر والتدبر والاعتبار والتفكر؟
المقام الخامس:
إن الاشتغال بعلم الكلام بدعة، والدليل عليه: القرآن، والخبر، والاجماع، وقول السلف، والحكم.
أما القرآن، فقوله تعالى:
ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون
[الزخرف:58]. ذم الجدل. وقوله:
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره
[الأنعام:68]. فأمر بالإعراض عنهم عند خوضهم في آيات الله.
وأما الخبر: فقال (صلى الله عليه وآله):
" تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق "
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" عليكم بدين العجائز "
وقوله:
" إذا ذكر القدر فامسكوا ".
وأما الإجماع: فهو أن هذا علم لم يتكلم فيه الصحابة، فيكون بدعة، فيكون حراما.
وأما الأثر: فقال مالك بن أنس: " اياكم والبدع " قالوا يا: " أبا عبد الله وما البدع؟ " قال: " أهل الدين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون ".
وسئل سفيان عن الكلام؟ فقال: " اتبع السنة، ودع البدعة ".
وقال الشافعي: " لأن يبتلي الله أحدا بكل ذنب سوى الشرك، خير له من أن ألقاه بشيء من الكلام ". وقال: " لو أوصى رجل بكتبه العلمية، وكان فيها كتب الكلام، لا تدخل تلك الكتب في الوصية ".
وأما الحكم، فإنه لو أوصى للعلماء، لا يدخل المتكلم فيه.
والجواب: أما قوله تعالى:
ما ضربوه لك إلا جدلا
[الزخرف:58]، فهو محمول على الجدل الباطل، توفيقا بينه وبين قوله تعالى:
وجادلهم بالتي هي أحسن
[النحل:125].
وأما قوله تعالى:
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا
[الأنعام:68]، فالخوض المراد فيه ليس هو النظر، بل اللجاج والاستهزاء ونحوهما.
وأما قوله (صلى الله عليه وآله):
" تفكروا في الخلق "
، فذلك إنما أمر به ليستفاد منه معرفة الخالق، وهو لنا، لا علينا.
وأما قوله (صلى الله عليه وآله):
" عليكم بدين العجائز "
، فليس المراد إلا تفويض الأمور كلها إلى الله، والاعتماد في الأمور عليه.
وأما قوله (صلى الله عليه وآله):
" إذا ذكر القدر فأمسكوا "
، فالاستدلال به ضعيف، لأن النهي الجزئي لا يفيد النهي الكلي ، ولأن النهي عن الإمساك غير النهي عن النظر والتدبر.
وأما الإجماع؛ فإن عنيتم أن الصحابة لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين واصطلاحاتهم فمسلم، ولا يلزم منه القدح في الكلام، كما أنهم لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء ولا يلزم منه القدح في الفقه، وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله بالدليل، فبئس ما قلتم.
وأما تشديد السلف على الكلام، فهو محمول على أهل البدع.
وأما مسئلة الوصية، فهي معارضة بما لو أوصى لمن كان عارفا بذات الله وصفاته وبأفعاله وأنبيائه ورسله، لا يدخل فيه.
الاشراق الرابع
في تأكيد القول بوجوب المعرفة
اعلم أن الله لما أمر بعبادته، وعلم أنها موقوفة على العلم بوجوده وعلمه وقدرته، وأن ذلك ليس بضروري بل هو نظري استدلالي، وقد بين في العلوم العقلية أن الطريق إلى إثبات وجوده بغيره إما الإمكان، وإما الحدوث، وإما مجموعهما؛ وكل ذلك، إما من وجود الجواهر، أو الأعراض، فالطرق إلى الله من ستة جهات لا مزيد عليها، والقرآن مشتمل عليها:
الأول: إمكان الذوات، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
والله الغني وأنتم الفقرآء
[محمد:38]. وبقوله حكاية عن خليله عليه السلام:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء:77]. وبقوله:
وأن إلى ربك المنتهى
[النجم:42]. وقوله:
ففروا إلى الله
[الذاريات:50]. وقوله:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد:28].
الثاني: الاستدلال بإمكان الصفات كقوله:
خلق السموات والأرض
[الأنعام:73]. وقوله ههنا.....................: { الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بنآء } [البقرة:22]، كما سيأتي تقريره.
والثالث: بحدوث الأجسام، وإليه الإشارة بقوله:
لا أحب الآفلين
[الأنعام:76].
والرابع: بحدوث الأعراض، وهذه الطريقة أقرب إلى افهام الخلق، وذلك محصور في دلائل الآفاق ودلائل الأنفس، والكتب الإلهية في الأكثر مشتملة على هذين البابين، فكل ما ذكر من الآيات في حدوث أحوال الإنسان وانقلاباته في الأطوار، وتغيراته في الأحوال، يكون من دلائل الأنفس، وإليه الإشارة بقوله: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة:21]، وحاصلها يرجع إلى أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه لم يكن من قبل فصار الآن كائنا، فيفتقر إلى موجد، وليس موجده نفسه، ولا أبواه، ولا سائر الخلق، لعجزهم عن مثل هذا التركيب بديهة، فلا بد من موجد يخالفهم في الحقيقة - يتعالى عن أن يشابههم -، حتى يصح منه ايجاد هذه الأشخاص.
ثم لقائل أن يقول: " لم لا يجوز أن يكون الموجد المدبر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم؟ " فأشار إلى رد هذا الاحتمال، بافتقارها إلى المحدث الموجد بقوله: { الذي جعل لكم الأرض فراشا }.
وكل ما ذكر في تغيرات الأوضاع السماوية والأرضية، هو المراد من دلائل الآفاق، ويندرج فيها الرعد والبرق والرياح والسحاب، واختلافات الأمزجة والفصول، وحاصلها يرجع إلى أن حدوث هذه الحركات والصفات يفتقر إلى سبب محدث، وذلك السبب، إن كان جسما فلكيا أو عنصريا، فلا يجوز كونها - ولا شيئا منها - مبدء أولا لغيرها. وذلك لأنها مشتركة في أصل الجسمية، والمشترك فيها إما ماهية جنسية تفتقر في وجودها وقوامها إلى الفصول المنوعة، أو ماهية نوعية تفتقر في وجودها ودوامها إلى العوارض المشخصة، وما يفتقر في وجوده ودوامه إلى مقارنات، كيف يكون سببا لغيرها؟ ثم لا يجوز أن تكون تلك المقارنات كالفصول والمشخصات، علة لوجود تلك الماهية الجنسية أو النوعية، وبتوسطها لوجود غيرها من اللواحق والحوادث، وذلك لافتقارها أيضا في لوازمها وتشخصاتها إلى ما هي مقومة لها.
فثبت أن الكل مفتقر إلى سبب منفصل الذات عنها، وذلك السبب، إن كان جسما أو جسمانيا، عاد الكلام إليه، فهو مجرد عن الجسمية وعوارضها، ففاعليته إن كانت بالإيجاب بلا علم وإرادة، لم يكن اختصاص بعض الأجسام ببعض الصفات دون بعض أولى في الحكمة من العكس، إذ لا علم ولا حكمة في الفاعل الموجب، فلا بد أن يكون عالما فيكون قادرا مختارا، فثبت بهذه الدلالة، افتقار الأجسام كلها إلى مؤثر قادر ليس بجسم ولا جسماني، وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض لا يكفى إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات.
وإنما أكثر الله تعالى في كتابه الكريم هذا النمط من الاستدلال، لكونه أقرب إلى الأفهام، وأسهل مأخذا، وأقوى في إفحام الجاحدين؛ وإلا فمسلك الصديقين - الذين يستشهدون بوجود الحق على وجود الخلق - أسد وأوثق وأشرف وأحكم كما أشار إليه بقوله:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53]. وقد مرت الإشارة إليه سابقا، ونحن قد قررنا طريقهم بوجه سديد لا مرية فيه ولا مزيد عليه في كتبنا العقلية.
تذكرة
واعلم أن لأئمتنا المعصومين صلوات الله عليهم، ولمن يقتدي بهم من السلف الصالحين، طرقا لطيفة في هذا الباب.
ففي كتاب التوحيد من كتب الكافي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان ".
وعن أبي ذبيحة مولى الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: " سئل أمير المؤمنين عليه السلام بم عرفت ربك؟ قال: مما عرفني نفسه. قيل: وكيف عرفك نفسه؟ قال: لا تشبهه صورة، ولا يحس بالحواس، ولا يقاس بالناس ".
وعن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني ناظرت قوما فقلت لهم: إن الله جل جلاله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل العباد يعرفون بالله. فقال: رحمك الله.
منها: ما يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق عليه السلام فقال: هل ركبت البحر؟ قال: نعم. قال: هل رأيت أهواله؟ قال: بلى، هاجت يوما رياح هائلة، فكسرت السفن، وغرقت الملاحين، فتعلقت ببعض ألواحها، ثم ذهب عني ذلك اللوح، فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل.
فقال عليه السلام: قد كان اعتمادك قبل على السفينة والملاح وعلى اللوح بأنه ينجيك، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك، هل أسلمت نفسك للهلاك، أم كنت ترجو السلامة بعد؟ قال: بل رجوت. قال: ممن ترجوها؟ فسكت الرجل فأسلم على يده.
وبمثل هذا أشار في قوله تعالى:
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله
[الزخرف:87] وقوله:
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين
[غافر:84].
ومنها: أنه جاء في كتاب ديانات العرب،
" أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعمران بن الحصين: كم لك من إله؟ قال: عشرة. قال: فمن نعمك وكرمك ودفع الأمر العظيم الذي نزل بك من جهتهم؟ قال: الله تبارك وتعالى. قال النبي (صلى الله عليه وآله): مالك من إله إلا الله. "
ومنها روى الكليني رحمه الله عن محمد بن إسحق قال: إن عبد الله الديصاني سأل هشام بن الحكم فقال له: ألك رب؟ قال: بلى. قال: أقادر هو؟ قال: نعم - قادر قاهر. قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها البيضة - لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا -؟ قال هشام: النظرة. قال له: قد أنظرتك حولا.
ثم خرج عنه، فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فقال: يا بن رسول الله، أتاني الديصاني بمسئلة لبس المعول فيها إلا على الله وعليك.
فقال له عليه السلام: عما ذا سألك؟ فقال: كيت وكيت.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام، كم حواسك؟ قال: خمس. قال: أيها أصغر؟ قال: الناظر. [قال]: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها.
فقال له: يا هشام، فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى. فقال: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها، قادر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة.
فأكب هشام عليه وقبل يديه ورجليه وقال: حسبي يابن رسول الله، وانصرف إلى منزله.
ومنها: انه دخل هذا الديصاني [على] أبي عبد الله عليه السلام فقال له: يا جعفر، دلني على معبودي؟ فقال له: اجلس، وإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا غلام، ناولني البيضة. فناوله اياها، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا ديصاني، حصن مكنون له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى. تنفلق عن مثل ألوان الطواويس. أترى لها مدبرا؟ فأطرق مليا ثم أسلم.
ومنها: سئل الشافعي: " ما الدليل على الصانع؟ " فقال: ورقة الفرصاد، طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا: نعم. فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم؛ والنحل، فيخرج منها العسل؛ والشاة، فيخرج منها البعرة؛ وتأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك الأذفر؛ فمن الذي جعلها كذلك مع أن الطبع واحد؟!
وأما ما تمسك به أحمد بن حنبل من قوله: " قلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها، ظاهرها كالفضة [المذابة] وباطنها كالذهب الابريز، ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلا بد من الفاعل " ، فهو بعينه مأخوذ من كلام الإمام الناطق بالحق جعفر الصادق عليه السلام بعبارة أخرى، مع حذف بعض الفوائد - أراد بالقلعة: البيضة، وبالحيوان: الفرخ -.
ومنها: سئل أبو نواس عنه فقال:
تأمل في نبات الأرض فأنظر
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين ناظرات
بأحداق لها الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
ومنها: سئل أعرابي عن الدليل فقال: البعرة تدل على البعير، والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج أما تدل على العالم القدير.
ومنها: قيل لطبيب: بم عرفت ربك؟ قال: بإهليلج مجفف أطلق، ولعابها ملين أمسك.
وقال آخر: عرفته بنحلة بأحد جوفيها عسل، وبالآخر لسع - والعسل مقلوب اللسع -.
واعلم أن هذه الوجوه كلها، وإن لم تكن برهانية تتنور بها قلوب ذوي البصائر الناظرين، وتسكن لديها حركة بواطن المتفكرين المسافرين إلى الله بقدم الصدق واليقين، لكنها وجوه حسنة للتفهيم والتعليم، ولإفحام المنكرين.
ومن هذا القبيل، قول بعض المحققين من العلماء، حيث استدل على وجود الباري وقدرته، بأن جرم الشمس وغيرها يرى في الأفق أعظم مما يرى في وسط السماء، مع أن البرهان الهندسي دال على أن الكوكب متى كان في وسط السماء، كان أقرب إلى موضع الناظر منه عند كونه في الأفق، فلما كان الحال على خلاف ما هو مقتضى طبيعة تلك الأجرام، فقد دل على وجود فاعل مختار يفعل ما يريد.
فهذا قياس مقبول عند الأكثر، أمكن به إلزام الجاحد، وربما كان مثله أكثر نفعا من كثير من البراهين.
فصل
وأما الحكم العقلية:
فاعلم أولا أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل: إثنين من الأنفس، ومما خلقهم وخلق أصولهم، وثلاثة من الآفاق: جعل الأرض فراشا، والسماء بناء، وخلق الأمور الحاصلة من مجموعهما - وهي إنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات رزقا لنا ولسائر الحيوانات.
وسبب هذا الترتيب، إما لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، ثم ما منه منشأه، ثم الأرض التي هي مكانه ومستقره، يقعدون عليها وينامون يتقلبون كما يتقلب أحدكم على فراشه، ثم السماء التي كالقبة المضروبة والخيمة المبنية على هذا القرار.
ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلة والمظلة - من إنزاله الماء عليها، والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الحيوان، ألوان الغذاء وأنواع الثمار رزقا لبني آدم.
وإما لأن كل ما في السماء والأرض من الدلائل على وجود الصانع، فهو حاصل في الإنسان بزيادة الشهوة والغضب والدواعي النفسانية والأطوار الباطنية، ولما كانت الدلالة فيه أتم، كان تقديمه في الذكر أهم.
وأيضا، خلق المكلفين أحياء قادرين أصل جميع النعم، وأما الإنتفاع بوجود الأرض والسماء والماء، فذلك إنما يكون بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة، فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع بالنسبة إليه.
وأقول: ولك أن تحمل قوله تعالى: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } على سبب وجوب العبادة وعلتها. وقوله: { الذي جعل لكم الأرض } - إلى آخره - على دلائل المعرفة، لتوقف العبادة عليها، وتوقفها على الدلائل، لأن الله لما أنعم علينا باعطاء الوجود، وإعطاء ما يتوقف عليه الوجود، استحق العبادة، وهي متوقفة على المعرفة، فذكر من الدلائل خمسة هي مجامع سائر الدلائل وجملها؛ وإلا فما من ذرة في الأرض ولا في السماء ولا فيما بينهما، إلا وفيها من عجائب القدرة وبدائع الفطرة، ما تظهر به الدلالة على وجود الصانع وعلمه وحكمته.
إثنان من تلك الخمسة هما الأرض والسماء - اللتان بمنزلة الآباء والأمهات -، وثلاثة منها هي المواليد.
أولها: الجماد، ومنه الماء النازل من السماء، واختصاصه بالذكر لكونه سبب حدوث غيره.
وثانيها: النبات، ومنه الثمرات، وخصت بالذكر لكونها غاية النبات.
وثالثها: الحيوان، وأفضله الإنسان المشار إليه بقوله: " رزقا لكم " ، وإنما خص هو بنسبة المرزوقية - وإن كان غيره من الحيوان مرزوقا من الثمرات - لكون علة غائية لوجود الثمرات ونحوها دون سائر الحيوان، بل هي أيضا كالأثمار مخلوقة لانتفاع الإنسان.
ثم السبب في ترتيب هذه الثلاثة ظاهر، لأنه بحسب ترتيبها في الحدوث؛ وكذا في تقديم الأولين عليها، وأما تقديم ذكر الأرض على ذكر السماء، فلأن الأرض أقرب إلينا من السماء، ونحن أعرف بحال الأرض - لكونها محسوسة بأكثر الحواس بل بكلها على وجه - منا بحال السماء، لكونها غير محسوسة، والمحسوس بحس البصر منها ليس إلا الكواكب، وإنما تحصل المعرفة بوجودها من جهة الحركات المستديرة المتفقة والمختلفة، الدالة على وجود جرم عظيم مستدير شامل لها، ومن جهة الحركات المستقيمة الدالة على وجود محدد للجهات بالصفة المذكورة.
فلننظر في الحكم والمنافع المنبعثة في خلق هذه الأشياء الخمسة، ولنذكر لبيانها خمسة إشراقات:
الإشراق الأول:
اعلم أن الرحمة الإلهية، لما لم يجز وقوفها عند حد يبقى وراءها الإمكان الغير المتناهي لأشياء ممكنة الوجود، من غير أن يخرج وجودها من القوة إلى الفعل أبدا، فيلزم التعطيل في جوده، والإمساك عن الاعطاء والكرم من فضل وجوده - كما زعمه اليهود - كما حكى الله عنهم بقوله حيث قالوا: يد الله مغلولة
ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء
[المائدة:64]. وليس ذاته أيضا محلا لارادات متجددة وحوادث متعاقبة - سواء كانت متناهية كما ذهب إليه المعتزلة، أو غير متناهية كما ذهب إليه بعض المتفلسفة كأبي البركات البغدادي وغيره، أثبتوا على واجب الوجود إرادات متجددة متعاقبة غير متناهية، وزعموا أنه يفعل شيئا ثم يريد بعده شيئا آخر، فينفعل، ثم يريد فيفعل، وله إرادة ثابتة أزلية، وإرادات متجددة لا تتناهى، وخالفوا في ذلك البرهان والقرآن جميعا، كما فصل في مقامه، وألزم عليهم أن يكون إله العالمين جسما متحركا على الدوام، متأثرا عن غيره كسائر الأجرام، تعالى عما يقوله الجاهلون علوا كبيرا - فلا جرم لما كانت قوته وقدرته غير متناهية، وجوده وكرمه غير واقف عند حد ليحصل منه قدر متناه من الموجودات الممكنة، فوجب أن يكون من جوده وجود أمر دائم الحركات، وأمر دائم التأثر والانفعالات.
وذلك يوجب انفتاح أبواب البركات، ورشح فنون الخيرات إلى ما شاء الله، لأنه لم يكن الفاعل على الفيض بضنين، فيحصل الفيض على أهل الاستحقاق بحسب استحقاقه وقوة احتماله، حتى أن النملة مع حقارتها، لو كانت مستعدة لقبول العقل والعرفان، لوجب أن يفيض عليها الواهب المنان بلا مهلة.
فلا جرم يجب في العناية الربانية وجود جرم مستدير متحرك على الدوام، مؤثر فيما تحته إلى أن يشاء الله، وجرم آخر ساكن منفعل متأثر منه كذلك كحركة الآباء على الأمهات، لتولد البنين والبنات، فينبعث من حركة الفلك على وجه الأرض، وإنزال الماء منه إليها، أعداد المواليد، وأفضلها أفراد الإنسان المشابهة بحسب الروح النفساني للأب العلوي الجسماني، وبحسب الروح الأمري للأب المعنوي والروح القدسي، فإذا كملت منها نفس بالعلم والعمل، عادت إلى الموطن الأصلي عند باريها وجنة أبيها، ومتى لم يكمل بأحدهما، مكثت زمانا طويلا أو قصيرا في طبقات الجحيم - كما فصل في مقامه -.
الإشراق الثاني:
أما ما يتعلق بخلق الأرض من عجائب الحكمة وغرائبها، فلا يمكن الاستقصاء فيها، لكن النبذ القليل منها، أن الله جعل الأرض في مركز الفلك ووسط الكل، فإنها لو كانت مجاورة للأجرام العلوية لاحترقت، لشدة تسخين الحركة الدائمة فصارت نارا محضة، وعلى تقدير بقائها أرضا، ما كان يمكن أن يتكون عليها حيوان، ولا أن ينبت منها نبات، وذلك ينافي ما ذكرناه من الرحمة الشاملة.
ومن رحمته أيضا، جعلت الطبقة النارية مجاورة للسماء بعيدة عن الأرض، وإلا لتضاعف التسخين بتوسيطها بين الأرض والهواء، إذ لو جاورت الهواء من تحت، لأحالتها بدوام مجاورتها وسخنها الفلك أيضا بسرعة حركته، فاحترقت بواقي العناصر وصار الكل نارا، فانفسدت العناصر والمركبات كلها.
ولما كانت العناية مقتضية لوجود نفوس إنسانية شريفة مستكلمة بالعلم والطهارة، ولا يمكن ذلك بدون أبدان حيوانية ونباتية يغلب على أكثرها العنصر اليابس، الذي يمسكها ويحفظ الصور والأشكال عليها، وأيضا لحاجة الحيوان لتنفسه بل النبات أيضا لتبسطه، إلى أن يستقر على مكان يحيط بجوانبه الهواء، ولا يغرق في جسم متراكم، فلا بد أن يكون موضع أفراد الحيوان والنبات جسم بارد يابس متماسك الأجزاء، فخلق الله الأرض كذلك ليجاورها وليستقر عليها الحيوان والنبات الغالب عليهما الأرضية.
وإليه الإشارة بقوله: { جعل لكم الأرض فراشا } إذ " الفراش " في اللغة إسم لما يفرش عليه، ك " المهاد " اسم لما يمهد، " والبساط ": لما يبسط. فليس ذلك دليل على أن الأرض مسطحة وليست بكروية، ولا يلزم إلا أن الناس يفترشونها ويفعلون بها ما يفعلون بالمفارش، سواء كانت على شكل المستوي أو الكروي، فالافتراش عليها غير مستنكر ولا مرفوع، لعظم جرمها وتباعد أكنافها وأطرافها، ولكن لا يتم الافتراش عليها إلا بشروط:
أحدها: أن لا تكون في غاية اللين، كالماء الذي تغوص فيه الرجل - كما وقعت إليه الإشارة -، ولا في غاية الصلابة، كالحجر، فإن النوم عليه مما يؤلم البدن، لتعذر أخذ الأثواب والأكيسة منه، وأيضا فلو كانت من الذهب - مثلا - لم تمكن الزراعة عليه، ولا اتخاذ الأبنية منه.
وثانيها: أن لا تكون في غاية الشفيف واللطافة، وإلا لما استقر عليه النور، ولم يقبل التسخن من الكواكب، فكان باردا جدا لا يصلح أن يكون فراشا للحيوانات؛ فمن لطف الله تعالى، أن جعل الأرض ذات لون غبراء ليستقر عليها ساطع الضياء.
وثالثها: أن تكون بارزة من الماء، لأن طبع الأرض أن تكون غائصة في الماء، فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض، ولو كانت كذلك [لم تكن] فراشا - هذا هو السبب الغائي -.
وأما السبب الفاعلي: فهو ما يحدث في قعر البحر بسبب أمواجه الحاصلة من الرياح من شبه الأخاديد والوهدات، والمواضع المرتفعات، فينحدر منها إلى الوهدات فيبرز الأعلى منها، فصار مجموع الأرض والماء كرة واحدة، يدل على ذلك فيما بين الخافقين، تقدم طلوع الكواكب وغروبها للمشرقيين على طلوعها وغروبها للمغربيين، وفيما بين الشمال والجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظاهر للواغلين في الشمال، وبالعكس للواغلين في الجنوب، وتركب الاختلاف لمن يسير على سمت بين السمتين، إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة، يستوي في ذلك راكب البر وراكب البحر، ونتوء الجبال - وإن شمخت - لا يخرجها عن الاستدارة، لأنها بمنزلة الخشونة القادحة في ملاسة الكرة لا في استدارتها.
ورابعها: أن تكون ساكنة، إذ لو تحركت فإما على الاستقامة، أو على الاستدارة، وكلاهما باطل ينافي الافتراش.
أما الاستقامة: فلأنها لو تحركت بكليتها حركة مستقيمة، لكانت إلى جانب السفل - لا غير - لثقلها الطبيعي، فإذا تحركت هي كذلك، لم يمكن استقرار ثقيل آخر عليها لأنه هاو، والأرض هاوية، وهي أثقل، والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما في النزول، والأبطأ في النزول لا يلحق الأسرع، فلا يمكن وصول الإنسان إلى وجه الأرض حتى يفترشها.
وأما الاستدارة: فلأنها لو تحركت بالاستدارة إلى جانب الغرب - كما توهمه من زعم أن هذه الحركة الأولى الشرقية منسوبة إلى الأرض - والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب الشرق، فلا يمكنه الوصول إلى حيث يريد لسرعة حركتها وبطء حركته بما لا نسبة بينهما، والوجود يكذبه ويشهد بخلافه، فالمفروض باطل.
ثم الناس اختلفوا في سكون الأرض وسببه، فمنهم من زعم أنها هاوية إلى غير النهاية بلا مهبط، وهذا باطل لما مر، ولتناهي الأبعاد الثابت بالبرهان.
ومنهم من زعم أن شكلها كنصف كرة موضوع على الماء، حدبتها إلى فوق وقاعدتها إلى أسفل، ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندعم على الماء كالسفينة؛ وفيه - بعد تجويز مثل ذلك الشكل عليها - أن الكلام عائد في سبب وقوف الماء.
ومنهم من قال: سبب سكونها جذب الفلك إياها من جميع الجوانب على نسبة واحدة. وهو باطل، وإلا لكانت المدرة المنفصلة عنها أسرع إنجذابا - لصغرها - إلى الفلك، فما بالها لم تنجذب!؟.
ومنهم من جعل سببه دفع الفلك لها من كل الجوانب، كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة، ثم أديرت على قطبها إدارة سريعة، فإنه يجتمع التراب ويقف في وسطها لتساوي الدفع من الجوانب؛ وهذا أيضا باطل بوجوه كثيرة مذكورة في محلها.
ومنهم - كأبي هاشم - زعم أن النصف الأسفل من الأرض [فيه] اعتمادات صاعدة، والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة، فيتدافع الاعتمادان، فيلزم الوقوف.
وهو أيضا فاسد، لعدم اختصاص كل من النصفين بصفة يوجب ما ذكره، بل الأرض بتمامها لا تستدعي إلا أمرا واحدا.
ومنهم من ذهب إلى أن الأرض تطلب بالطبع وسط الكل وجهة التحت، لأن الثقيل بالطبع يميل إلى السفل، كما أن الخفيف بالطبع يميل إلى الفوق، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء، والتحت المركز، وكما يستبعد صعود الأرض فيما يلينا إلى جهة السماء، فليستبعد هبوطها في مقابلة ذلك، لأن ذلك المسمى بالهبوط صعود بالحقيقة إلى جهة السماء أيضا، فإذن لا حاجة في سكون الأرض وقرارها في حيزها إلى علاقة من فوقها، ولا إلى دعامة من تحتها، بل يكفي في ذلك ميلها الطبيعي إلى تحت، وهذا هو رأي أرسطاطاليس وجمهور أتباعه، الذين التزموا القوانين العقلية، وتحاشوا عن القول بالظن والتخمين، وعن المجازفة بالتقليد.
واعترض عليه الإمام الرازي بأن هذا أيضا ضعيف، لأن الأجسام متساوية في الجسمية، فاختصاص البعض بالصفة التي تطلب لأجلها تلك، لا بد وأن يكون أمرا جائزا، فيفتقر إلى الفاعل المختار.
أقول: والعجب من هذا المتبحر، مع استغراقه وتبحره في الأفكار، كيف يشتبه عليه الأمر في تجويزه ترجيح الفاعل المختار أحد الأمرين أو الأمور المتساوية من غير مرجح، مع أن كل عاقل إذا راجع وجدانه حكم بفساده.
ثم لم يعلم أن تجويز مثل هذا الفاعل المختار - الذي أثبته هو وأصحابه من أتباع الشيخ الأشعري زعما منهم أن في ذلك تقوية الدين ونصرة الشريعة - ينفسخ أصل الدين، وينسد طريق إثبات الصانع باليقين، وكذا إثبات جميع المطالب والأصول الحقة البرهانية؛ فكل مختار لأحد طرفي أمر، أو لأحد أشياء متساوية النسبة، لا بد أن يترجح عنده أحدهما أو واحد منها، فإنه إن لم يترجح، فنسبته الشيء إليه إمكانية، فلا يقع الممكن دون مرجح.
فالذي يقال : " إن الإرادة تخصص أحد الجانبين بالوقوع، لا بناء على أولوية، بل لأن من خاصية الإرادة تخصيص أحد المثلين أو الأمثال من دون الحاجة إلى مرجح، ولا يسئل عن اللمية، فإن لوازم الماهية لا تعلل " كلام لا حاصل له، فإن الإرادة إذا كان الجانبان أو الجوانب بالنسبة إليها سواء، لا يتخصص بها شيء منها إلا بمرجح، إذ لا يقع الممكن إلا بمرجح، وأما الخاصية التي يقولونها فهو هوس؛ أليس لو اختارت الجانب الآخر - الذي فرض مساويا لهذا الجانب - كانت تحصل هذه الخاصية.
ثم تعلق الإرادة بشيء، مع أن النسبة إلى الجانبين سواء، هذيان، فإن الإرادة ما حصلت أولا إرادة ثم تعلقت، فإن المريد لا يريد إلا ما تميز في علمه، فلا يكون له إرادة غير مضافة إلى شيء أصلا، ثم يعرض لتلك الإرادة تخصيص ببعض جهات الإمكان، بلى إذا وقع إدراك، وحصل تصور يرجح أحد الجانبين، تحصل إرادة متخصصة بأحدهما، فالترجح مقدم على الإرادة.
وأعجب من ذلك، تعويله في أكثر الأمر في إثبات مثل هذا الفاعل المختار الذي تصوره بهذه الإرادة الجزافية، التي جعلوها فاعلة للأشياء لمصالح أدلتهم واحتجاجاتهم واعتذاراتهم من كل ما جهلوه، على أن الأجسام متساوية في الجسمية، حتى يلزم سلب ما يوجب تخصيص بعض أنواعها بما يستوجب به رجحان تعلق أمر الله وإرادته به في صدور بعض الآثار منه لذاته، دون سائر أنواع الأجسام.
وقد جهل - أو تجاهل -، عن أن فصول الأجسام أو صورها، التي هي مبادي فصولها، أمور محصلة للجسمية المشتركة، وهي في درجة التقرر والوجود متقدمة على أصل الجسمية، واستناد أمر واحد مشترك لازم، أو جنس، لأمور متخالفة الذوات غير مستنكر، فالسؤال في اختصاص كل جسم كالأرض أو السماء، بصورة تخصصه، وطبيعة تنشأ منها آثاره المتخصصة، غير وارد ولا إشكال فيه، إذ الجسمية تابعة للطبيعة المخصوصة دون العكس.
فههنا نقول: جسمية الأرض من لوازم طبيعتها المقومة لها، لكنها من اللوازم المشتركة بين طبيعة الأرض وغيرها من الطبائع العنصرية والفلكية.
فإذا سئلنا بأن الأرض لماذا صارت في وسط الأجسام؟
قلنا: لأن الله بقدرته التي تمسك السموات والأرض أن تزولا، جعلها ذات طبيعة تقتضي ميل جسمها إلى تحت مطلقا.
وإن سئلنا: لم صار الجسم ذا هذه الطبيعة؟
قلنا: لأن هذه الطبيعة اقتضته واستلزمته.
ثم إن سئلنا بأن هذه الطبيعة لم صارت هذه الطبيعة؟ فلا يستحق الجواب، إذ كل شيء هو هو، والجعل لا يتخلل بين الشيء وذاته.
وإن سئلنا: بأنه لماذا وجدت هذه الطبيعة؟
قلنا: لإرادة الله وأمره المنبعثين عن علمه بوجه الخير في جميع الأشياء، التي من جملتها هذه الطبيعة على ترتيب ونظام لائق، وهو عين قدرته النافذة في جميع الأشياء، على ترتيب تقدم وتأخر ونظام، فبقدرته التي تمسك السموات والأرض أن تزولا، يمسك الأرض في الموضع الذي أثبته، من غير علاقة من فوق أو دعامة من تحت، كما أمسك السماء أن تقع على الأرض من غير علاقة وضعية، أو اعتماد جسماني، ولكل شيء مقام معلوم لا يتعداه، ولا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، هكذا يجب أن يتصور العارف إرادته وقدرته، ليأمن عن اعتقاد التغير في ذاته، والتعطل في صفاته، والجور في أحكامه.
فإن قلت: هل في قدرة الله أن يخلق هذه الأشياء النازلة في هذا العالم من غير أن يخلق الوسائط والأسباب؟
قلت: نعم، لأن المصحح للمقدورية؛ الإمكان، فمن قدر على خلق الأعلى، يقدر على خلق الأدنى، ومن قدر على ايجاد الجواهر الشريفة، فهو أقدر على الجواهر الخسيسة، كما قال:
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس
[غافر:57] إلا أن ذلك ممتنع من جهة العلم والحكمة، لا من جهة العجز والنقيصة، إذ ليس من الحكمة تقديم الأخس الأدنى على الأشرف الأعلى، فخلاف الحكمة ممتنع من الله - لا لأنه غير مقدور -.
الإشراق الثالث:
في ذكر آيات قرآنية تشير إلى منافع الأرض:
واعلم أن في خلق السماء والأرض آيات كثيرة، وأنوارا لطيفة تهدي إلى سبيل الحق وتشير إلى طريق القدس وعالم الحقيقة الإلهية، لكن أكثر الناس عن آيات ربهم لغافلون، وعن فهم أنوار الحكمة وأسرار الحق معرضون؛ كما قال سبحانه:
وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105]. وإن الله تعالى قد أكثر في الآيات القرآنية ذكر السماء والأرض، لما في كل منهما من عجائب الصنعة وغرائب الحكمة، فذكر للأرض منافع كثيرة وصفات عديدة:
منها: قوله:
وفي الأرض قطع متجاورات
[الرعد:4]. وقوله:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا
[الأعراف:58]. إشارة إلى أقاليمها المختلفة، ومواضعها وبقاعها المتفاوتة في الرخاوة والصلابة، والسبخية والرملية، والوعورة والخشونة، والحزونة والسهولة.
ومنها: قوله:
ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود
[فاطر:27]، إشارة إلى اختلاف ألوانها من الحمرة والبياض والسواد والصفرة والغبرة والرمادية.
ومنها: قوله:
والأرض ذات الصدع
[الطارق:12]. لانصداعها بالنبات والعيون.
ومنها: قوله:
وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه في الأرض
[المؤمنون:18]. وقوله:
قل أرأيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين
[الملك:30]. إشارة إلى كونها خازنة للماء، ينبوعا له.
ومنها: قوله:
وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون
[الحجر:19].
إشارة إلى ما يتولد فيها من الجبال والمعادن والفلزات، بل غيره من صور الكائنات التي هي أصنام الحقائق، وأمثلة أربابها النورية؛ ولهذا بين ذلك بقوله:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر:21].
ومنها: قوله:
يخرج الخبء في السموات والأرض
[النمل:25]. إشارة إلى إخراج ما يخبأ فيها من الحب والنوى.
ومنها: قوله:
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة
[البقرة:261] إشارة إلى أن لها طبع الكرم، تقبل منك حبة، وتردها عليك سبعمائة، وذلك لسر إلهي أودع فيها.
ومنها: قوله تعالى:
أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا
[السجدة:27] إشارة إلى أن فيها قوة النماء.
ومنها: قوله:
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها
[يس:33]. إشارة إلى أن فيها قوة الحياة بعد الموت، وهذا مما أثبته بعض الحكماء الأقدمين.
ومنها: قوله:
وبث فيها من كل دآبة
[البقرة:164]. إشارة [إلى] أن فيها مع بساطتها قوة قبول جميع الصور الحيوانية على اختلاف صورها وأشكالها وأفعالها.
ومنها: قوله:
وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج
[ق:7]. إشارة إلى ما فيها من النبات المختلف ألوانه وأنواعه ومنافعه، فاختلاف ألوانها دلالة، واختلاف طعومها دلالة، واختلاف روائحها دلالة، واختلاف أشكالها دلالة؛ فمنها قوت البشر، ومنها قوت البهائم؛ ثم قال:
كلوا وارعوا أنعامكم
[طه:54]. ومنها الطعام، ومنها الادام، ومنها الدواء، ومنها الفاكهة؛ قال:
وقدر فيهآ أقواتها
[فصلت:10]. وقال:
وفاكهة وأبا
[عبس:31].
ومنها كسوة البشر - نباتية كالقطن والكتان، وحيوانية كالشعر والصوف والأبريسم والجلود - وإليه الإشارة بقوله:
ألم نجعل الأرض كفاتا أحيآء وأمواتا
[المرسلات:25 - 26]............................... فقد جعلها الله ساترة لأبداننا في الحياة، ولفضائحنا بعد الممات.
ومنها الأحجار المختلفة، بعضها للزينة وبعضها للأبنية، فانظر إلى الحجر الذي تستخرج منه النار مع كثرته، وإلى الياقوت الأحمر مع عزته؛ ما أكثر النفع بهذا الحقير، وما أقل النفع بذلك الخطير!
ومنها ما أودع الله فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضلة وغيرهما.
ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة، واستخرجوا السمك من قعر البحر، واستنزلوا الطير من أوج الهواء، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة عناية من الله، لأن معظم فائدتهما يرجع إلى الثمنية؛ وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة، والقدرة على اتخاذها تبطل الحكمة، فلذلك ضرب الله دونها بابا مسدودا؟ ولهذا اشتهر في الألسنة: " من طلب المال من الكيمياء أفلس ".
ومنها الحطب والأشجار الصالحة للبناء والسقف، إلى غير ذلك ما لا يمكن ضبطها، وأعظم هذه الأمور، أنها مادة خلقة الإنسان المنبعث منها النفس، ومنها القلب، ومنها الروح، ومنها سر الولاية والنبوة كما قال عقيب الآية السابعة:
ويخلق ما لا تعلمون
[النحل:8] إشارة إلى خلق أطوار ونشئآت كثيرة منها لا نعلمها نحن، ثم إنه تعالى جمع هذه المنافع العظيمة للأرض ومن الله بها على عباده في قوله:
سخر لكم ما في الأرض
[الحج:65].
قال بعضهم: لما خلق الله تعالى الأرض، وكانت كالصدف والدرة المودعة فيها آدم، ثم علم أصناف حاجاته، فكأنه قال: يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم؛ فقال:
أنا صببنا المآء صبا ثم شققنا الأرض شقا
[عبس:25 - 26]. - الآية - { وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } يا عبدي؛ إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع؟! ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك، فكيف الحال في الجنة؟!
فالحاصل، أن الأرض أمك، بل أشفق منها، لأن الأم تسقيك نوعا واحدا من اللبن، والأرض تطعمك ألوانا من الأطعمة، ثم قال:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم
[طه:55]. معناه: نردكم إلى هذه الأم، وليس هذا بوعيد، لأن المرء لا يتوعد بأمه، وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك، أضيق من مقامك من الأرض، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر وما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن أمك الكبرى، ولكن بشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى، ما كانت لك زلة - فضلا من أن تكون لك كبيرة -، بل كنت مطيعا لله، فحيث دعاك مرة بالخروج إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك.
فإذا تأمل العاقل في هذه العجائب والغرائب، يسافر بعقله من هذه النشأة إلى باب مدبر حكيم، ومقدر عليم - إن كان ممن يسمع بقلبه، ويبصر ويعي بعقله ويعتبر -.
الإشراق الرابع:
في بيان حكم الله تعالى ودلائل صنعه وقدرته في خلق السماء، وكونها بناء:
" البناء " مصدر، سمي به المبني - بيتا كان أو قبة أو خباء - وأبنية العرب أخبيتهم، ومنه: " بنى بامرأته " ، لأنهم إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا.
قال الجاحظ: " إذا تأملت هذا العالم، وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه؛ فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه بعقله وفكره، وضروب النبات مهيأة لمنافعه، وصنوف الحيوان مصرفة في منافعه، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل، وتقدير شامل ".
تنبيه
لما دريت أن تجدد الحوادث والأبدان، وتعاقب الأكوان في الأزمان، لا بد له من جسم دائم الحركة، وآخر دائم السكون، فالله تعالى خلق السماء فوق الأرض، وجعلها مشتملة على أجرام بعضها منيرة كالكواكب، وبعضها شفافة كالأفلاك الكلية والجزئية، لتؤثر أنوارها في الأرضيات وتمتزج بها، وتخرج منها اللطائف، والبخارات، وتنشأ منها الكائنات، ويتكون بها الحيوان والنبات رزقا للعباد، ووسيلة لارتقاء الكلمات الطيبات إليه تعالى.
ولو كانت الفلكيات كلها نورية، لاحترق بالشعاع ما دونها من عالم الكون والفساد، ولو كانت عرية عن النور، لبقي في مهوى ظلمة شديدة لا أوحش منها، فجعل الله الكواكب مضيئة والسماء شفافة، إذ لو كانت ملونة لوقف الضوء على سطوحها كما يقف على الاجرام الملونة الكثيفة.
ولو كانت الكواكب النيرة ثابتة غير متحركة، بأن يكون مكان أكثرها أو معظمها كالشمس يلي القطب، لأحرقت ما قابلها من الأرض، ولم يلحق أثرها ما غاب عنها، فيؤدي إلى شدة البرد وجمود المياه والرطوبات، الموجب لهلاك الحيوان والثمرات، ولو كانت الكواكب النيرة - سيما الشمس - متحركة بالحركة البطيئة، فعلت ما فعله السكون من افراط الجمود والبرودة في المواضع الخارجة عن سمتها، ولو كانت مع تحركها بالحركة السريعة اليومية بوجه لازمت دائرة واحدة، لأحرقت ما سامتته الدائرة، ولم يصل أثر الشعاع إلى باقي النواحي والأقطار.
فجعل للكواكب - مع حركة الكل السريعة - الحركات الأخر البطيئة، ليميل بها إلى النواحي شمالا وجنوبا، ليحصل من ذلك الفصول الأربعة التي بها يتم الكون، وباختلافها تنصلح أمزجة البلاد، وتتكون النفوس الصالحة من العباد للمعاد.
وهذا هو الجلي من حكمة أوضاع السماء وما فيها، والذي يعرفه أكثر الناس؛ ولها في هيئاتها وأوضاعها الخفية - من خصائص مواضع أوجاتها وحضيضاتها، وجوزهراتها وغيرها - منافع عظيمة ومصالح كثيرة، يطلع على نبذ منها أهل الهيئة والهندسة ليس ههنا موضع بيانه.
ثم لا يخفى أن تخالف الحركتين لا يكفي في ترتب النفع، [ما] لم تكن جهة الحركات في أواسط السماء، وجهة أقطابها في نواحي الأفق - كما في معظم المعمورة -، إذ لو كان الوضع بعكس ذلك - كما في عرض تسعين درجة وما يليه من الآفاق التي حكمها حكمه - فلم يكن فيها كثير نفع من الأنوار، لميلانها الكثير عن سموت رؤوسهم.
فانظر في تمام نعمة الله في طلوع الشمس وغروبها، فكما أن النعمة في طلوعها عظيمة فكذا في غروبها، فتأمل النفع في غروبها حيث لو لم يكن، لم يكن للناس هدوء ولا قرار ولا استراحة، ولكان حرص الناس يحملهم على المداومة على العمل، فتستولي الحرارة على أمزجتهم، واحترقت أدمغتهم، فصارت الشمس بحكمة الله تطلع في وقت وتغيب في وقت، بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم، ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا، فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين على ما فيه صلاح أهل العالم.
وإليه الإشارة في قوله تعالى:
أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون
[القصص:72]. ثم قال:
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون
[القصص:71]. وقال:
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا
[يونس:67].
ثم لأجل أن مدار حركات الكواكب لا تدوم على سمت واحد، قال تعالى:
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره
[الأعراف:54]. أي بالحركة طالعة تارة وغاربة أخرى، وشمالية مرة وجنوبية أخرى، وكذلك أوجية وحضيضية.
وسائرة في بروج مشيدة ثابتة ومنقلبة وذوات الجسدين، وغير ذلك من أحوال الكواكب - كالرجوع، والإقامة، والإستقامة، وكونها في البيوت التي لها شرفها وهبوطها - وأمثال [ذلك] مما هو مذكور في كتب الأحكاميين على الإجمال والتخمين، ولا يحيط بتفاصيلها إلا الباري وخواص عبيده، الذين هم أنواره العقلية وأشعته الروحانية، وبذلك كله يحصل النظام في العالم كله، ويدوم الكون والفساد الذي هو أصل النعمة وتمام الرحمة.
فسبحانه من إله قدير، بدأ الوجود أولا بأنوار عقلية، وملائكة قدسية عارية عن المواد، عالية عن القوة والاستعداد، وثناها باختراع أجسام مستديرة دائمة الحركات، وكرات مستنيرة ذوات أنوار وشعاعات، نور الله بها البقاع والأطراف والأصقاع، وجعلها منورة بأنوار النفوس، مصورة بغرائب النقوش، باقية على نسقها بلا اختلال، قواعد ثابتة على أصولها بلا انحلال، إلى أن يأتي أجلها، فجعلها إذا جاء أجلها كالدخان، ووردة كالدهان، فصارت يوم القيامة كالمعطل وكالمضمحل:
يوم نطوي السمآء كطي السجل
[الأنبياء:104].
الإشراق الخامس:
في فضل السماء:
أما حقيقة فضلها وشرفها، فلا يمكن لأحد أن يعرفها ما دام كونه في هذه الهاوية المظلمة مقرونا بمصاحبة المؤذيات، وإنما يعرف ذلك بعد الارتقاء إلى فضاء ملكوت السموات، والصعود إلى منازل السعادات.
وأما المعلوم من حالها لبعض المتفكرين في خلقها، فهو أن أبدعها وما فيها على أشرف الأشكال - وهو المستدير -، وأفضل الألوان - وهو المستنير -، آمنة من الكون والفساد الحاصلين من جهة تغير المزاج، الحاصل بالامتزاج، غير قابلة للأضداد والأنداد، لعدم الخلل والنقصان في أنواعها المستدعيين لتكثير الأفراد وتوليد الأعداد من الأشخاص؛ وقسمها إلى نجوم زاهرة باهرة، وأفلاك عديدة دائرة غير ظاهرة؛ وحركها بحركات مختلفة تشوقا وتقربا إلى الله طاعة لملكوته، مستتبعة لآثار عجيبة في أوقات مختلفة في هذا العالم، يتيسر بها نشوء الحيوان والنبات، وخلق الأبدان لمواطن النفوس والكلمات.
فسبحان من أبدع السماء كأنها حديقة خضراء أنبتت فيها زهراء نضراء، وخلق خلال رياضها من أنواع الثمرات وألوان الأزهار والأنوار، في أواسطها أنهار تجري على حصاة كأنها الدر والياقوت والمرجان، فيها بيوت عالية، وقصور شاهقة فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، يطاف عليها ولدان وغلمان، وحور حسان، وفيها أنواع الطعوم اللذيذة، والروائح الطيبة، والفواكه والثمرات العجيبة.
وبالجملة، كل ما يوجد في الأرض فيوجد في السماء على وجه ألطف وأصفى، فمن بركات تلك الحديقة اللطيفة وما لها من الثمرات تستمر حياة هذه الكائنات، ويتيسر نشوء الحيوان والنبات، أعني بحسب اختلاف أوضاعها العلوية، وإبانة مناطقها وأطرافها تظهر الفصول، وتمتزج الأركان والأصول، وتتنوع الاستعدادات من الأمهات القابلة السفلية، ويتنور الممتزج ويختلط المظلم بنور ظلي فائض من منبع النور ومنبع البركات.
وعند ذلك غلبت قوة الأمهات، وظهرت الأنوثة في طبع النبات، وعند التكاثر ينبت النبات المنور بتباشير صبح الحياة؛ وتتولد الحيوانات عند غلبة قوة الآباء، وتستضيء هياكلها بأنوار الحواس، ثم بآثار الذكاء، وعند قيامها على ميزان الاعتدال وأفق الاستواء ومشرق أنوار السماء، تقع عليها أضلال بل عكوس أنوار من العلم والقدرة وغيرها من عالم الأسماء، وعند الناطقة العالمة بعلم الأسماء، يقف ترتيب الفيض والجود، وبمبدأها ترجع دائرة الوجود.
فصل
قد اختلفوا في أن السماء أفضل، أم الأرض؟
أما أهل الكشف والشهود، فلهم وجوه دقيقة لطيفة في فضيلة الأرض على السماء، لا يمكن لغيرهم فهم تلك المعاني، لغموضها، وعلو سمكها عن درجة افهام الخلائق.
وأما الحكماء، فالفضل بينهما عندهم ثابت للسماء.
وأما المتكلمون، وسائر العلماء، فمنهم من ذهب إلى أن السماء أفضل من الأرض، ومنهم من قال بالعكس، وكل من الفريقين قد تشبثوا بوجود نقلية متعارضة.
أما وجوه أفضلية السماء: فهي أن السماء معبد الملائكة، وما فيها بقعة عصي الله فيها، وأنه لما أتى آدم عليه السلام في الجنة بتلك المعصية قيل: " اهبط من الجنة " وقال: " لا يسكن في جواري من عصاني ".
وقوله تعالى:
وجعلنا السمآء سقفا محفوظا
[الأنبياء:32]. وقوله:
تبارك الذي جعل في السمآء بروجا
[الفرقان:61], وقوله:
وحفظناها من كل شيطان رجيم
[الحجر:17].
وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله):
" ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد "
وأنه تعالى جعل السماء قبلة الدعاء، فالأيدي اليها ترفع، والوجوه تتوجه نحوها، وهي منزل الأنوار ومحل الضياء والطهارة والعصمة عن الخلل والفساد.
وأما وجوه أفضلية الأرض: فهي أن الله وصف بقاعا من الأرض بالبركة بقوله:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا
[آل عمران:96]. وقوله:
في البقعة المباركة من الشجرة
[القصص:30]. وقوله:
إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله
[الإسراء:1]. ووصف أرض الشام بالبركة فقال:
مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها
[الأعراف:137]........................... ووصف جملة الأرض بالبركة فقال:
وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها
[فصلت:10].
قيل: " وأي بركة في المفاوز المهلكة؟ ". وأجيب: بأنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومساكن الناس إذا احتاجوا اليها، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله.
ولهذه البركات قال:
وفي الأرض آيات للموقنين
[الذاريات:20] تشريفا لهم لأنهم هم المنتفعون بها، كما قال:
هدى للمتقين
[البقرة :2].
وإن خلق الأنبياء من الأرض:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم
[طه:55]. وأكرم نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله) فجعل له الأرض كلها مسجدا، وترابها طهورا، فإذا كانت الأرض كلها مسجدا له - والمساجد بيوت الله، وبيوت الله أكرم البيوت لإضافتها إلى الله -، فكيون أكرم من بناء السماء.
ومن ههنا يظهر فضل هذه الأمة على سائر الأمم، إذ قد ورد في الخبر ما لمن يلازم المساجد من الفضل عند الله، وأمته لا تبرح في مسجد أبدا، لأن الموت انتقال لأبدانهم من ظهر الأرض إلى بطنها، وملازم المسجد جليس الله في بيته، فهذه الأمة جلساء الله حياة وموتا.
وأما قوله تعالى: { وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } فاعلم أنه تعالى لما ذكر الأرض والسماء، بين ما فيهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء الأرض، والانخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ومن ألوان الثمار، رزقا لبني آدم، ليتفكروا في أنفسهم، وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم، ليعرفوا أن شيئا من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليقها إلا من كان مخالفا في الذات والصفات، لما ثبت وتحقق في العلوم العقلية: " أن المتفقات في الحقيقة والذات، لا يمكن أن تكون متفاوتة في العلية وعدمها، والتقدم والتأخر، والقوة والضعف ".
فإن قلت: هل تقولون إن الله يخلق هذه الثمرات عند وصول الماء بمجرى العادة، أم الله يخلق في مادة النبات من الأرض عقيب إنزال الماء قوة مغذية، وأخرى منمية، وأخرى مولدة، فإذا اجتمعت القوى الفاعلية والمواد المنفعلة، حصل الأثر من تلك القوى التي خلقها؟
قلنا: لا ذاك - كما هو مذهب الأشاعرة -، ولا هذا - كما هو مذهب أهل الحكمة -، بل شيء آخر أشرنا إليه من قبل، وهو أن الله يفعل الكل بتقدم وتأخر، ولكن الله قادر على أن يخلق هذه الثمار من غير هذه الوسائط، لأن المصحح للمقدورية هو الإمكان - كما مر -، ويؤكد هذا القول من الدلائل النقلية ما ورد في الخبر، " إن الله تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط " ، فقدرته على خلقها ابتداء، لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام.
وظاهر قول أكثر المتكلمين إنكار ذلك، ولا بد لهم فيه من دليل؛ ثم إنهم حيث لم يأخذوا العلوم من أهل بيتها وأربابها، ولم يأتوا البيوت من أبوابها، أشكل عليهم الأمر، من جهة أنه تعالى، لما كان قادرا على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط، فما الوجه في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة؟
ثم أجابوا عن ذلك، تارة بالجواب العامي المشترك فيه لجميع ما يشكل عليهم،- كمن يعبد الله على حرف -، وهو " أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد " - وليتهم اكتفوا به!، وتارة بما ذكروا من الأجوبة الخاصة:
أحدها: إنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل إلا على ترتيب وتدريج، لأن المكلفين إذا تحملوا المشقة في الحرث والغرس طلبا للثمرات، وكدوا أنفسهم في ذلك حالا بعد حال، علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب المنافع الدنيوية، فلأن يتحملوا أقل من هذه المشاق لطلب المنافع الأخروية - التي هي أجل وأعظم - كان أولى.
وثانيها: إنه تعالى لو خلقها دفعة بلا هذه الوسائط، لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم، وذلك ينافي التكليف والابتلاء.
وثالثها: إنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صالحة - هذا..
واعلم أن الدنيا دار التجدد والارتحال، وعالم الحركة والانتقال، والأشياء فيها تحصل على سبيل الاستحالة والتمزيج، وتتكون عقيب الانفعال والتدريج، وأما الآخرة فهي دار القرار، ومحل الراحة والاستقرار، فلو حصلت صورة هذه الثمار وغيرها من صور الحيوان والأشجار من غير مادة مستحيلة - بل بمجرد المشية والإرادة - بلا واسطة مادة ومدة، لكانت الدنيا آخرة، والتعب راحة، والحركة سكونا، والاضطراب طمأنينة، لأن من خصائص الجنة، حضور الفاكهة والطير - وسائر ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين - لأهل الجنة دفعة بلا فتور، وهي دار الخلد، يطوف عليهم ولدان مخلدون على هذه الهيئة المرودة المرادة لهم، وكل ما فيها من الثمرات غير مقطوعة ولا ممنوعة، وفيها صور مطهرة من الأدناس، قرة أعين أخفيت للناس جزاء بما كانوا يعملون؛ وسيأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى.
أبحاث لفظية:
كلمة " من " الأولى إبتدائية، لأن المطر ابتداء نزوله من السماء.
فإن قلت: ليس الأمر كذلك، فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض إلى الطبقة الباردة الهوائية، فتتكاثف بسبب البرد هناك، وتنزل بعد اجتماع قطرات بسبب الثقل.
قلنا: إن أريد ب " السماء " ما اشتق من " السمو " ، فذاك، فإن ما علاك فهو سماك، فكل ما نزل من السماء فقد نزل من السماء؛ وإن أريد بها " الفلك " ، فلأن أسباب حدوث الأمطار وغيرها، إنما تنبعث من أمور سماوية وأنوار كوكبية، تقع بحركتها، على مواضع من الأرض والبحار، فتثير الأجزاء اللطيفة من أعماق الأرض وأطراف البحر إلى جو الهواء، فيعقد هناك سحابا ماطرا.
و " من " الثانية للتبعيض، بدليل قوله تعالى:
فأخرجنا به ثمرات
[فاطر:27]. ولأن المكتنفين به - أعني " ماء " و " رزقا " - منكران، والتنكير يفيد البعضية، فكأنه قال: " وأنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات، ليكون بعض رزقكم " ، والواقع هكذا، إذ لم ينزل من السماء كل الماء، ولا أخرج بالمطر كل الثمر، ولا جعل الثمرات كل أنحاء المرزوق - فإن من الرزق ما هو غيرها -.
ويحتمل التبيين، ويكون " رزقا " مفعولا بمعنى " المرزوق " ، كقولك: " أنفقت من الدراهم ألفا " وعلى الأول كان مصدرا، انتصابه بأنه مفعول له.
وإنما لم يقل: " الثمر " و " الثمار " - جمع الكثرة - والموضع موضعها تنبيها على قلة ثمار الدنيا، واشعارا بتعظيم نعيم الآخرة، أو أنه أراد بالثمرة جماعة الثمرة، كما في قولك: " أدركت ثمرة بستانه " ، ويؤيده قراءة من قرء " الثمرة " - على التوحيد -، أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض، كقوله تعالى:
كم تركوا من جنات
[الدخان:25]. وقوله:
ثلاثة قروء
[البقرة:228]. أو لأنه لما كانت محلاة باللام، أفادت الكثرة وخرجت عن حد القلة.
وقوله: " لكم " صفة " رزقا " ، إن أريد به المرزوق، ومفعوله إن أريد به المصدر، يعني: " رزقا اياكم ".
وقوله: " فلا تجعلوا " متعلق إما بقوله: " اعبدوا " على أنه نهي معطوف عليه، أو نفي منصوب بإضمار " أن " جواب له؛ وإما بقوله " لعلكم " ، والمعنى: " خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تجعلوا له ندا " ، فيكون منصوبا كنصب " اطلع " في قوله:
لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع
[غافر:36-37]، الحاقا لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة، وإما ب " الذي جعل " والمعنى: " من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به " ، على أن يكون نهيا وقع خبرا على تأويل " مقول فيه: لا تجعلوا ".
و " الفاء " للسببية، أدخلت عليه لتضمن الإبتداء معنى الشرط.
و " الند " بمعنى المثل المنازع، وناددت الرجل: نافرته؛ من " ند، ندودا " إذا نفر. خص بالمخالف في التشخص، المماثل في الذات؛ كما خص " المشابه " بالمماثل في الكيف، و " المساوي " بالمماثل في الكم.
فإن قيل: الكفرة لم يزعموا أن الأصنام تنازع الله ولا أنها تماثله؟
قلنا: لما تركوا عبادة الرب إلى عبادتها؛ وسموها " آلهة " ، شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم، فأطلق عليها " الأنداد " تهكما بهم، وتشنيعا عليهم، ولهذا قال موحد زمان الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل:
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الرجل البصير
وقوله: " وأنتم تعلمون " ، حال من ضمير: " فلا تجعلوا " ، ومفعوله مطروح في مثل هذا المقام، لأن المراد: " إنكم من أهل العلم والنظر، وأرباب الرأي والفكر، فلو تأملتم أدنى تأمل، لتسارع عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات، منفرد بوجوب الذات، متعال عن صفات المخلوقات وعن مشابهة المصنوعات ".
أو مقدر منوي، وهو: إن شركاءكم لا تماثله أو لا تقدر على مثل ما يفعله، كقوله:
هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شيء
[الروم:40]. والمقصود منه التوبيخ والتثريب، لا تقييد النهي بالجملة الحالية وقصره عليها، فإن التكليف عام للعالم والجاهل المتمكن منه، لا يختص بالعلماء، وإن كان الأمر عليهم أشد، والحجة عليهم أقوى.
فصل
وأما الأنوار الإلهية والأسرار الربوبية المندمجة في طي ألفاظ هاتين الآيتين فكثيرة
منها: أن الخطاب ب " يا أيها الناس " يستدعي حضورهم كلهم دفعة واحدة - كما هو مفاد الخطاب لاسم الجمع المحلى باللام -، وأين للمعدوم الغائب منهم وجود حاضر، وسمع يسمع به الخطاب؟!
والسر فيه، أن للإنسان نحوا آخر بل أنحاء أخرى من الوجود قبل دخوله في عالم الحس والشهادة، كما أن له نشأة أخرى، بل نشئات أخر بعد خروجه من هذا العالم.
ومنها: أن صيغة الأمر كما تحتمل الأمر التشريعي، تحتمل الأمر التكويني، كما في قوله تعالى:
ينار كوني بردا وسلما
[الأنبياء:69]. وقوله:
يجبال أوبي معه والطير
[سبأ:10]. والتخلف عن الأمر بالمعنى الأول محرم، وعنه بالمعنى الثاني مستحيل؛ فقوله. " اعبدوا " إن كان أمر تكوين يجب وقوع مقتضاه.
وهو كذلك، إلا أن العبادة أيضا على ضربين: أحدهما: ما لا تكلف فيه - وهو الامتثال الوجودي والطاعة بحسب الجبلة، فجميع الأشياء بذواتها وطبائعها مطيعة لله تعالى.
والثاني: ما لا يخلو عن تكلف وتعمل، وهو مخصوص بنوع الإنسان، ومعناه تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة؛ فالعبادة لله تعالى بالمعنى الأول حاصلة للجميع، بلا فتور وتعب وقصور، قال الله تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
[الإسراء:23]. ولهذا جميع عبدة الأصنام وغيرها، إنما عبدوها لظنهم معنى الإلهية فيها؛ فهم إنما ضلوا في المصداق لا في الحقيقة.
ومنها: إن الله تعالى كأنه يقول: " إني خلقتكم لأجلي، وخلقت كل شيء لأجلكم، وجعلت لكل شيء حظا من العبودية والمحبة، وجعلت حظكم محبتي ومعرفتي بلا حجاب غيري وواسطة أحد سواي، فلا تنقطعوا عن طريق حظكم، ولا تتولوا مجرمين إلى ملاحظة الوسائط، ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون علم الأسماء الذي لا يعلمه أحد من الملائكة وغيرهم، فكيف تولون وجوهكم نحو غيري وأنتم أعلم بي منه، وأقرب بحسب النوع ".
ومنها: أن " جعل " يحتمل ثلاثة معان:
بمعنى صار وطفق، فلا يتعدى؛ كقوله:
فقد جعلت قوص ابني سهيل
من الأكوار مرتعها قريب
وبمعنى أوجد، فيتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى:
وجعل الظلمات والنور
[الأنعام:1].
وبمعنى صير - ويتعدى إلى مفعولين - وخير الأمور أوسطها -.
فيجوز أن يكون " جعل " في قوله: { جعل لكم الأرض فراشا } بمعنى " أوجد " أي: أوجد لكم الأرض. بأن يكون: " فراشا " حالا من المفعول، ويكون: " لكم " صلة لجعل - " لا لفراشا " - ويؤيده قوله تعالى:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة:29].
وكذا الكلام في قوله: { والسماء بنآء } ، لكونه معطوفا على سابقه، أي وجعل لكم السماء بناء. أي: وأوجدنا لأجلكم السماء حال كونها بيتا. ويؤيده قوله:
سخر لكم ما في السموات وما في الأرض
[لقمان:20].
ومن ههنا يعلم أن الإنسان غاية جميع الموجودات العلوية والسفلية، ويظهر سر الخلافة الإلهية له، كما في قوله:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة:30] وسر سجدة الملائكة أجمعين لأبينا عند تمام التسوية والنفخ فيه من روح الله، كما في قوله
إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس
[ص:71 - 74].
ولكن علامة سر الخلافة، واستحقاق المسجودية للملائكة، وتحقيق كونه غاية ايجاد ما في الكونين، إنما يظهر ويصدق إذا تحقق وتبين فيه مفاد قوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53].
ومنها: أنه تعالى أراد من هذه الآية - مع ما دل عليه الظاهر وسبق فيه الكلام - الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان، وما أفاض عليه من المعاني والصفات على سبيل التمثيل، فمثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار، فإن لكل آية ظهرا وبطنا، ولكل حد مطلعا.
ومنها: أن الإنسان لما كان كالقرآن له ظهر وبطن، وظهره في هذا العالم، وبطنه في عالم الآخرة، فكذلك ما جعله الله رزقا له في الدنيا من الثمرات وغيرها، فهي ستنقلب في مكامن باطنه، وأطوار نشأته رزقا له في دار الآخرة، فإن كان من أهل الجنة، فسيصير له من طعوم الجنة وثمارها وفواكهها ولحوم طيورها
أولئك لهم رزق معلوم
[الصافات :41]. وإن كان من أهل النار، فسيصير عليه حميما وزقوما من
شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين
[الصافات:64 - 65].
وكذلك إنزال الماء من هذه السماء - وهو مادة الحياة الدنيوية - باطنه إنزال ماء العلم من سماء القدس، وهو منشأ الحياة الأخروية كما أشار إليه في قوله تعالى:
أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها
[الرعد:17]. - الآية -، فكذلك لما كانت كرة الأثير، وأشعة الشمس بحرارتها تؤثر في نضج الثمرات وطبخ الفواكه والمولدات والمعادن، فهي كلها رحمة، مع كونها نارا مسخنة محرقة مؤذية.
كذلك من عرف نشأة الآخرة، وموضع الجنة والنار، وما في فواكه الجنة من النضج الذي يقع به الالتذاذ لآكلية من أهل الجنة، وما في طعوم النار من [الغلي] الذي يتأذى به الآكلون منها، فمالئون منها البطون؛ علم أين النار، وأين الجنة، وان نضج فواكه الجنة سببها حرارة نار الخشية والخوف، وحرقة القلب من بأس غضب الله، ومنبتها حرارة النار التي تحت مقعر أرضها، فيكون بها صلاح ما في الجنة من المأكولات.
والقلب أيضا - وهو مقعر أرض الروح - كالقدر لطبخ طعام الآخرة كما ورد: " إنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي وفي قلبه أزيز كأزيز المرجل " ، وما لا ينضج بها وبقيت فجة نية، فتحتاج إلى طبخ آخر في النار، فحرارة الأثير وأشعة الشمس والقمر وغيرها، كحرارة النار تحت القدر، فإن مقعر أرض الجنة هو سقف النار، والشمس والقمر والنجوم كلها في النار.
وعن أحكامها أنها أودع فيها ما كانت منافع للإنسان بالثمرات والحيوانات في الدنيا، فكذلك أودع فيها ما كانت منافع له في الآخرة بثمرات الجنة وفواكهها، فيفعل بالأشياء هناك علوا، كما يفعل ههنا سفلا، وكما هو الأمر ههنا، كذلك ينتقل إلى هناك، وإن اختلفت الصور وتخالفت النشأتان، ولهذا من الله بخلق السماء والأرض، وإنزال الماء، وخلق الثمرات على الإنسان، فافهم هذا إن كنت من أهله.
فصل
في مذاهب الذين جعلوا لله أندادا
واعلم أن أهل الأهواء والنحل كثرة، وهم الذين لا يسمعون كلام الله من أهل النبوة والولاية، ويتبعون أهواءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وكلهم عبدة الشهوات والأهواء بالحقيقة، وهم على طبقات:
فمن معطل بطال لا يرد عليه فكره بطائل، ولا يرجع عقله وفهمه به إلى حاصل، ولم يؤد نظره إلى اعتقاد، ولا يرشد خياله وذهنه إلى معاد، قد ألف المحسوس، وركن إلى هذا المنزل المدروس، وظن أن لا عالم سوى عالم هذه الديدان والحشرات، ولا فائدة فيه سوى الاشتغال بالمطاعم والمناكح واللذات.
فهؤلاء هم الطبيعيون والدهريون ومن يجري مجراهم من الأطباء والمنجمين، فلا يثبتون عالما آخر وراء الطبيعة وفوق المحسوس.
ومن محصل نوع تحصيل، قد ترقى عن المحسوس وأثبت المعقول، وأثبت المبدء والمعاد، لكنه لا يقول بحدود وأحكام شرعية تؤدي إلى صلاح حال الآخرة، وهؤلاء هم جمهور المتفلسفة، الذين لا دين لهم سوى اتباع العقل الناقص الغير المطهر من شوائب آفات النفس والشيطان.
ومن قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية، وربما أخذوا أصول أقوالهم وقوانينها من مؤيد بالوحي، إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم وما تعدوا إلى الآخرة، وهؤلاء هم الصابئون واليهود والنصارى.
أما الصابئة: فهم قائلون بأغا[ثا] ذيمون وهرمس - وهما شيث وادريس عليهما السلام - ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء. وأما اليهود والنصارى فوقفوا على موسى وعيسى عليهما السلام، وما تعديا إلى القول بمحمد (صلى الله عليه وآله).
وكلهم ممن جعل لله أندادا، لأنهم عبدوا غير الله، سواء كان محسوسا كالأصنام، أو معقولا كالروحانيات؛ إلا أن عبدة المحسوسات صريحا تسمى بعبدة الأشخاص، وهم الذين يعكفون على أصنام يصنعونها ويعملونها بأيديهم، وعبدة المعقولات بوجه تسمى باسم الصابئة، وهم الذين يعبدون أرواح الكواكب.
واعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا مساويا له في الوجوب والعلم والقدرة والحكمة، لكن الثنوية - وهم أقرب الكفار - يثبتون إلهين - حكيما يفعل الخير، وسفيها يفعل الشر - أما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إليه كثرة كما ذكرنا.
الفريق الأول: عبدة الكواكب - وهم الصابئة - يقولون: الروحانيات قد جبلوا على الطهارة وفطروا على التقديس والتسبيح، فهم أشرف من أفراد الإنسان ، فنحن نعبدها ونجعلها أربابا لنا، وإنما أرشدنا إليه معلمنا اغاثاذيمون وهرمس، فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم، وهم آلهتنا ووسائلنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة، فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوية والغضبية، حتى تحصل مناسبة ما بيننا وبينهم، فحينئذ نسأل حاجاتنا ونطلب مراداتنا فتستجاب دعوتنا بواسطتهم من إله الآلهة.
وكان اليونانيون قبل خروج اسكندر، عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة، واتخذوها معبودات أو معابد لهم على حدة، وقد كان هيكل العلة الأولى - وهي عندهم الأمر الإلهي - وهيكل العقل الصريح، وهيكل السياسة المطلقة، وهيكل النفس والصور كلها مدورات؛ وكان هيكل زحل مسدسا وهيكل المشتري مثلثا، وهيكل المريخ مستطيلا، والشمس مربعا، والزهرة مثلثا في جوفه مربع، وهيكل عطارد مثلثا في جوفه مستطيل، وهيكل القمر مثمنا.
الفريق الثاني: عبدة الأوثان، ولا دين أقدم من دين عبدة الأوثان، لأن عقل جمهور الإنسان في أوائل الحال كان في مرتبة الحس لم يعرف غير المسحوس.
والدليل على ذلك، أن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تأريخهم هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد عليهم:
وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا
[نوح:23]. ودينهم باق إلى الآن.
والدين الذي هذا شأنه، يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة، لكن العلم بأن الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض، ضروري؛ فيمتنع إطباق الجمع العظيم [عليه]، فوجب أن يكون لهم غرض آخر سوى ذلك، والعلماء ذكروا فيه وجوها:
أحدها: ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي أن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته، ويعتقدون أنه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة؛ وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء، وأن الواجب أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله وملائكته، فيعتكفون على عبادة الأصنام قاصدين به طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته، فعلى هذا ، السبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد التشبيه.
وثانيها: ما ذكره أكثر العلماء، وهو أن الناس لما رأوا تغيرات أحوال العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، واعتقدوا أن السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس، بالغوا في تعظيمها.
فمنهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها، وهي التي خلقت هذه العوالم؛ ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة لله الأكبر، إلا أنها خالقة لهذا العالم، وأنها الوسائط بين الله والبشر، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها؛ ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار، اتخذوا لها أصناما، وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادة تلك الأجرام العالية، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة، ولما طالت المدة، تركوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل، فهم بالحقيقة عبدة الكواكب كالصابئة، إلا أنهم أدون منزلة منهم، نسبتهم إلى الصابئة نسبة الطبيعية إلى الدهرية.
وثالثها: أن أصحاب الأحكام يرتقبون أوقاتا في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين، ويزعمون أن من اتخذ طلسما في ذلك الوقت على وجه خاص، فإنه ينتفع به في أوقات مخصوصة نحو السعادة والخصب، ودفع الآفات، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه، لاعتقادهم أنهم ينتفعون به، فلما بالغوا في ذلك التعظيم، صار ذلك كالعبادة، ثم نسوا مبدء الأمر بتطاول المدة واشتغلوا بعبادتها.
ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير، يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله، اتخذوا صنما على صورته، وعبدوه على اعتقاد أنه ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى و
يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله
[يونس:18].
وخامسها: لعلهم اتخذوها قبلة لصلواتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها - لا لها -، كما أنا نسجد إلى القبلة - لا للقبلة -، ولما استمرت هذه الحالة، ظن جهال القوم أنه تجب عبادتها.
وسادسها: لعلهم كانوا من المجسمة، فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها، فعبدوها على هذا التأويل.
فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل مذهبهم عليها، حتى لا تصير بحيث يعلم بطلانها بالضرورة.
تنبيه
واعلم أن الحكيم هرمس العظيم - المحمود آثاره، المرضي أقواله وأفعاله، الذي يعد من الأنبياء الكبار، ويقال هو ادريس النبي عليه السلام كما مر - هو الذي وضع أسامي البروج والكواكب السيارة، ورتبها في بيوتها، وأثبت لها الشرف والوبال، والأوج والحضيض، والمناظرة بينها بالتثليث والتربيع والتسديس، والمقابلة والمقارنة، والرجعة والإقامة والإستقامة، وبين تأثير الكواكب.
وأما الأحكام المنسوبة إلى هذه الاتصالات، فغير مبرهن عليها عند الجميع، وللهند والعرب طريقة أخرى في الأحكام أخذوا من خواص الكواكب - لا من طبائعها - ورتبوها على الثوابت - لا على السيارات -.
وأما أصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص، فهم من فرق الصابئة، والفرق بينهما كما أشرنا إليه، وهو أن أصحاب الروحانيات، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط، ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه ويتعرف ويستفاد منه، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات، وكانوا يسمونها أربابا وآلهة، والله تعالى رب الأرباب وإله الآلهة.
ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب، وكانوا يتقربون إلى الهياكل تقربا إلى الروحانيات تقربا إلى الباري تعالى، لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا، فهم الأحياء الناطقون بحياة تلك الأرواح، ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه؛ ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب، ما كان يقضي منه العجب، من الطلسمات والنيرنجأت وغيرها - من السحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم من الصور - وهذه كلها من علومهم.
وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به، وشفيع يتشفع إليه، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل، لكنا إذا لم نرها بالأبصار، ولم نخاطبها بالألسن، لم يتحقق التقرب إليها لا بهياكلها؛ ولكن الهياكل قد ترى في وقت ولا ترى في وقت - لطلوعها وأفولها، وظهورها بالليل وخفائها بالنهار - فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا، نعكف عليها، ونتوسل بها إلى الهياكل، فنتقرب بها إلى الروحانيات، وبها إلى الباري، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى.
فاتخذوا أصناما وأشخاصا على مثال الهياكل السبعة، كل شخص في مقابلة هيكل، وصنعوها من الأجساد السبعة المتطرقة من الحديد والنحاس وغيرهما، فراعوا في ذلك : الزمان، والوقت، واليوم، والساعة، والدرجة، والدقيقة، وجميع الأوصاف النجومية؛ فتقربوا إليه في يومه وساعته وتبخروا ببخوره، وتختموا بخاتمه، ولبسوا لباسه، وتضرعوا بدعائه، وعزموا بعزائمه، وسألوا حاجاتهم منه.
فيقولون: كانت تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات، وذلك هو الذي أشار إليه قوله: { فلا تجعلوا لله أندادا } ، فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب إذ قالوا بإلهيتها - كما مر -، وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان إذ سموها آلهة في مقابل الآلهة السماوية وقالوا:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله
[يونس:18].
وقد ناظر الخليل - على نبينا وآله وعليه السلام - هؤلاء الفريقين، فابتدء بكسر مذاهب الأشخاص، وذلك قوله تعالى:
وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه
[الأنعام:83]. وتلك الحجة أن كسرهم قولا، لقوله:
أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون
[الصافات:95-96].
ولما كان أبوه آذر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام، ورعاية الإضافات النجومية - حق الرعاية -، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام - لا من غيره -، كان أكثر الحجج معه، وأقوى الإلزامات عليه، إذ قال عليه السلام:
لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين
[الأنعام:74].
ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل، وكما أراه الله الحجة على قومه، قال:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين
[الأنعام:75]. فاطلعه على ملكوت الكونين، وسر العالمين، تشريفا له على الروحانيات وهياكلها، وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريرا بأن الكمال في الرجال.
فأقبل على إبطال مذاهب أصحاب الهياكل:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي
[الأنعام:76]. على وزان إلزامه على أصحاب الأصنام:
بل فعله كبيرهم هذا
[الأنبياء:63] وإلا فما كان الخليل كاذبا في هذا القول، ولا مشركا ولا شاكا في تلك الإشارة.
ثم استدل بالأفول والزوال، والتغير والإنتقال بأنه لا يصح أن يكون إلها، فإن الإله القديم لا يتغير، وإلا لاحتاج إلى مغير. وعن هذا ما استدل عليهم بالطلوع، - وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول - فإنهم انتقلوا إلى عمل الأشخاص لما اعتراهم من التحير بالأفول، فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيرهم؛ فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته، وذلك أبلغ في الاحتجاج.
فإن قلت: لما رجع حاصل مذاهب عبدة الأصنام - بل عبدة الأوثان - إلى الوجوه التي ذكرت، فما وجه المنع عنها؟
قلنا: لما تقربوا إليها، وعظموها، وسموها " آلهة " ، جرت أحوالهم مجرى من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادته، شنع عليهم واستفظع شأنهم، سيما إذا كانوا محاربين لأهل الحق، مخاصمين للأنبياء عليهم السلام؛ فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم بأن جعلوها أندادا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند واحد فقط، ولا يفيد في عبادته إلا الحنيفية والإخلاص ورفع الوسائط من البين.
تتمة
زعم أصحاب التأريخ أن عمرو بن لحى لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم، وولي أمر البيت الحرام، اتفقت له سفرة إلى البلقاء، فرأى قوما يعبدون الأصنام، فسألهم عنها فقالوا: " هذه أرباب نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقى " ، فالتمس منهم أن يكرموه بواحدة منها؛ فأعطوه الصنم المعروف ب " هبل " ، فسار به إلى مكة، ووضعه في الكعبة، ودعا الناس إلى تعظيمه - وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف -.
واعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة غمدان الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء، وخربه عثمان.
ومنها نوبهار بلخ، الذي بناه منوشهر الملك على اسم القمر.
ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ود بدومة الجندل، وسواع لبني هذيل، ويغوث لمذحج، ويعوق لهمدان، ونسر بأرض حمير لذي الكلاع، واللات بالطائف لثقيف، ومناة بيثرب للخزرج، والعزى لكنانة بنواحي مكة، وأساف ونائلة على الصفا والمروة.
وكان قصي - جد رسول الله (صلى الله عليه وآله) - ينهاهم عن عبادتها، ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه؛ وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل - حتى فارق قومه - وقد نقلنا شعره الدال على توحيده الباري -.
[2.23]
اعلم أن الله سبحانه، لما أقام الدلائل الباهرة والحجج القاهرة على اثبات التوحيد وتحقيقه، وإبطال الإشراك، وهدم قواعد الأنداد والأعداد، وعرف العقول بأن من أشرك فقط عطل ميزان عقله عن الاستعمال، وباع رأس مال فطرته باتباع الأرذال وتقليد الجهال، وغطى ما أنعم الله عليه من نور العقل والتمييز بظلمات الوهم والخيال، عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات النبوة لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، المبعوث على كافة البرية، وما يدحض به الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم ما يلجئهم إلى الاعتراف بذلك.
وإلا فقد حرم الله تعالى شرب ماء حياة القرآن، وذوق مشارب الإيمان وحقائق العرفان على أهل هذه الظلمات ومقابر الأموات، والراقدين في مراقد الجهالات، فإنه تعالى قد جعل إعراض المعرضين عن مطالعة كتابه، واعتراض المعترضين على سيد أحبائه حجابا من حجب غيرته، وسرادقا من سرادقات عزته لحبيبه المرسل وكتابه المنزل؛ فلا يشاهد المعرضون عن الله حبيبه، ولا يطالع المعترضون على الله كتابه.
فلم يزدهم بيان النبي (صلى الله عليه وآله) وإعجاز القرآن إلا ريبا على ريبا وخسارا على خسار؛ كما قال الله تعالى:
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون
[يونس:101].
فلما حجبوا عن مشاهدة أنوار الحبيب، ومنعوا عن مطالعة آيات الكتاب، أقام عليهم الحجة البينة إعلاما لبعدهم عن المحجة، وايذانا بانحرافهم عن الصراط المستقيم، وتنكبهم عن الطريق القويم، وأراهم كيف يتعرفون ما أتى به عبده؛ أهو من عند الله - كما يدعي -، أم هو من عند نفسه - كما يدعون -.
ونفوس البشر - بما هي نفوس البشر - متماثلة، وإنما التفاوت والتفاضل بأمور أخروية فائضة عليها من الله، فلو كانت النبوة كسبية، أو كان القرآن آلفاظا تأليفية، لماع عجزوا عن آخرهم عن اكتسابها ومعارضته.
فأرشدهم إلى أن يجربوا أنفسهم، ويمتحنوا أذواق طباعهم - وهم أبناء جنسه وأهل جلدته -، هل يقدرون على الإتيان بمثل ما أتى به؟ وإن كانوا من مصاقع الخطباء من العرب العرباء، مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة، وتهالكهم على المعازة والمعارة؛ فعرفهم ما يتعرف به اعجازه، ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه عبده.
وإنما سماه " عبدا " مطلقا مقيدا ب " ه " ولم يسم غيره من الأنبياء عليهم السلام إلا بالعبد المقيد المقرون باسمه - كما قال:
واذكر عبدنآ أيوب
[ص:41]
واذكر عبدنا داوود
[ص:17]. وغيرهما -، وذلك لأن كمال العبودية ما تهيأ لأحد من العالمين إلا لحبيبه - صلوات الله عليه وآله -، لأنه يحصل في كمال الحرية عما سوى الله بقطع منازل الخل والأمر كلها، وطي معارج الملك والملكوت، والخروج عن مكامن أطوار الإنية ومطاوي أستار الأنانية، إلى فضاء مشاهدة الأحدية وعرصة القيامة اللاهوتية.
وهو المختص بهذه الكرامة كما أثنى الله عليه بذلك:
إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى
[النجم:16 - 17]. فلما اختص بهذه الحرية، أكرم بهذه العبودية، وسمي باسم العبد المطلق، كما قال:
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم:10]. وهو المقدم في رتبة التشريف في التشهد على الرسالة.
وإنما ذكره في هذه الآية ب " عبدنا " ، لأنه أمر في الآية المتقدمة بالعبودية خالصة لله بترك الأنداد ورفض الأحباب - من الدنيا، والهوى، والنفس وشهواتها من المراتع الحيوانية والملاذ النفسانية -، وما صح لأحد من العالمين من العبودية الخالصة، كما صح له (صلى الله عليه وآله)، فذكره في هذا المعرض، وسماه به، وأضافه إلى ذاته تنبيها على منزلته فقال: { وإن كنتم في ريب مما } أنعمنا على عبدنا محمد (صلى الله عليه وآله)، بحسن الطاعة والخدمة، وكمال العبودية والاستعداد بإنعام الوحي وإنزال القرآن { فأتوا بسورة من مثله }.
وإنما قيل: " نزلنا " - على لفظ " التنزيل " دون " الإنزال " -، لأن المراد نزوله على نهج التدريج والتنجيم، وهو الحري بمكان التحدي، لأنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله لم ينزل هكذا نجوما - سورة بعد سورة، وآيات غب آيات -، على سنن أهل الخطابة والشعر، حيث صدر عنهم وسنح ببالهم مضامين الأشعار والخطب، حسب ما عن لهم من الأحوال، وتجدد عليهم سوانح الحاجات، ولم يلق الناظم ديوان شعره دفعة، ولم يرم الخطيب مجموع خطبه ورسائله ضربة، كما حكى الله عنهم:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة
[الفرقان:32]. ثم بين الحكمة في ذلك بقوله:
كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا
[الفرقان:32].
وذلك لأن الله بين حجة نبيه بأوضح وجه وآكده، فأزاح علتهم، وأدحض حجتهم بأنه إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا بمثل نجم من نجومه ، وقسم من أقسامه، وسورة من سوره، أو آيات مفتريات.
وهذا غاية الإلزام ونهاية التبكيت، التي لم يبق للمحجوج المعاند مجال الكلام إلا باتيان المثل أو ما يقرب منه، لو وجد عنده، أو أخذه من أقرانه وأعوانه، كما قال:
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
[الإسراء:88]. وإذا لم يأت بمثله ولا بما يقرب منه، فقد علم عجزه.
فهذا أوضح الطرق للدلالة على أن القرآن معجزة، وذلك لأنه لا يخلو حاله من أحد وجوه: إما أن يكون مساويا لكلام سائر الفصحاء، أو زائدا عليه بقدر لا ينقض العادة، أو زائدا عليه بقدر ينقض العادة. والأولان باطلان، فتعين الثالث.
أما بطلانهما: فإنه (صلى الله عليه وآله) تحدى بالقرآن، ودعى إلى الإتيان بسورة مثله مصاقع البلغاء والفصحاء مع [كثرتهم] كثرة رمال الدهناء وحصاء البطحاء، وكانوا في معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، [و] كانت شهرتهم بغاية العصبية والعناد والحمية الجاهلية واللداد فوق النهاية، وكان تهالكهم على المباهاة والمبالاة، والدفاع عن الأحساب وركوب الشطط في هذا الباب خارجا عن الحد والحساب؛ فعجزوا حتى آثروا المقارعة على المعارضة، وبذلوا المهج والأرواح دون المدافعة.
فلو قدروا على المعارضة بالمثل - أو بالأقل منه تفاوتا غير فاحش -، لعارضوا بمقارعة اللسان - لا بمعارضة السيف والسنان -، ولم يرتكبوا ضروب المهالك والمحن، ولم يبذلوا النفوس والأموال في الحروب والفتن - إذ المعارضة أقوى القوادح -، ولو عارضوا لاشتهر وتواتر نقله إلينا لتوفر الدواعي وعدم الصارف.
والعلم بجميع ذلك يجري مجرى الضروريات كسائر علوم العاديات، ولا يقدح فيه احتمال أنهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها، أو عارضوا ولم ينقل الينا لمانع - كعدم المبالاة وقلة الالتفات والاشتغال بالمهمات -.
وإذ تبين بطلان القسمين، فثبت أن القرآن لا يماثل كلام سائر الفصحاء، وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتا معتادا، فهو إذا تفاوت خارج عن العادة، بالغ حد الإعجاز؛ فالقرآن إذن معجز.
فصل
في بيان جهة اعجاز القرآن
اعلم أن الناس اختلفوا في وجه إعجاز القرآن، فالجمهور على أن ذلك لأجل كونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم، وعلماء الفرق بمهارتهم في البيان، وإحاطتهم بأساليب الكلام.
هذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والآتية، وعلى دقائق العلوم الإلهية وغوامض المعارف الربانية، وأحوال المبدء والمعاد، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق وإلى فنون الحكمة العملية والمصالح الدينية والدنيوية - على ما يظهر للمتدبرين ويتجلى للمتفكرين؛ وعلى ما هو فوق هذا كله ووراء طور العقول - مما لا يظهر إلا للراسخين في علوم الأذواق، والمبتهجين بأنوار عالم الإشراق.
وذهب من علمائنا الإمامية السيد المرتضى - رضي الله عنه وعنهم - طباقا لكثير من المعتزلة: [إلى] أن إعجازه بالصرفة، وهي ان الله صرف همم المتحدين عن معارضته مع اقتدارهم عليها - وذلك إما بسلب قدرتهم، أو صرف دواعيهم، أو سلب العلوم التي لا بد منها في الإتيان بمثل القرآن - بمعنى أنها لم تكن حاصلة لهم، أو بمعنى انها كانت كاملة حاصلة، فأزالها الله. والأخير هو المختار عند المرتضى.
واحتجوا على ذلك أولا: بأنا نقطع بأن فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلم بمثل مفردات السورة ومركباتها القصيرة، - مثل:
الحمد لله
[الفاتحة:2] ومثل:
رب العالمين
[الفاتحة:2] وهكذا إلى الآخر، فيكونوا قادرين على الإتيان بمثل السورة.
وثانيا: بأن الصحابة عند جمع القرآن، كانوا يتوقفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقاة، وكان ابن مسعود قد بقي مترددا في الفاتحة والمعوذتين؛ ولو كان نظم القرآن معجزا بفصاحته لكان كافيا في الشهادة.
والجواب عن الأول: إن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء، وهذه بعينها شبهة من نفى قطعية الإجماع والخبر المتواتر، ولو صح ما ذكر، لكان كل من آحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل قصائد فصائحهم - كامرئ القيس وأضرابه - واللازم قطعي البطلان.
وعن الثاني: بعد صحة الرواية، وكون الجمع بعد النبي (صلى الله عليه وآله) لا في زمانه، وكون كل سورة مستقلة بالإعجاز -، إن ذلك كان للاحتياط والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخل بالإعجاز، وأن اعجاز كل سورة ليس مما يظهر لكل أحد، بحيث لا يبقى له تردد أصلا.
وقيل: إعجازه بنظمه الغريب المخالف لما عليه كلام العرب في الرسائل والأشعار والخطب.
وقيل: بسلامته عن الاختلاف والتناقض.
وقيل: باشتماله على دقائق العلوم وحقائق المصالح والحكم.
وقيل: بإخباره عن المغيبات.
ورد الأول: بأن حماقات مسيلمة ومن جرى مجراها أيضا على ذلك النظم.
والثاني: بأنه كثيرا ما يسلم كلام البلغاء عن الاختلاف والتناقض.
والثالث: [بأنه] قد يشتمل كلام الحكماء على دقائق العلوم والحقائق.
والرابع: بأن الإخبار عن المغيبات لا يوجد إلا في قليل من الآيات.
فصل
في وجه شبه الطاعنين في القرآن
واعلم أن أشراف العرب وكبراءهم - مع كمال حذاقتهم في أسرار بلاغة الكلام، وفرط عداوتهم للإسلام - لم يجدوا فيه للطعن مجالا، ولم يوردوا في القدح مقالا ونسبوه إلى السحر - على ما هو دأب المحجوج المبهوت -، تعجبا من فصاحته، وحسن نظمه وبلاغته، واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء وأشعار الشعراء، وأن له حلاوة وعليه طلاوة، وأن أسافله مغدقة وأعاليه مثمرة، فآثروا المنازعة والمقاتلة على المقاولة، وأبى الله إلا أن يتم نوره على كره من المشركين، ورغم أنوف المعاندين، وحين انتهى الأمر إلى من بعدهم من أعداء الدين، وفرق الملحدين، اخترعوا مطاعن ليست إلا هزءة للساخرين، وضحكة للناظرين.
منها: إن فيه كلمات غير عربية - كالاستبرق والسجيل، والقسطاس، والمقاليد - فكيف يصح أنه
عربي مبين
[النحل:103]
ورد بأن ذلك من توافق اللغتين، والمراد أنه عربي النظم والتركيب، أو الكل عربي على سبيل التغليب.
ومنها: إن فيه خطأ من جهة الإعراب، مثل
إن هذان لساحران
[طه:63]. و
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
[المائدة:69]. و
لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة
[النساء:162]. ورد بأن كل ذلك صواب على ما بين في علم الإعراب.
ومنها: إن فيه ما يكذبه، حيث أخبر بأنه لا يتيسر للبشر - بل للإنس والجن - مثل سورة منه، وأقل السورة ثلاث آيات، ثم حكى عن موسى عليه السلام - مع اعترافه بأن هرون أفصح منه - مقدار إحدى عشرة آية منه؛ وهو قوله:
قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري
[طه:25 - 26] إلى قوله:
إنك كنت بنا بصيرا
[طه:35].
ورد بأن المحكي لا يلزم أن يكون بهذا النظم بعينه، على أن المختار عند البعض في المتحدى به سورة من الطوال، أو عشر من الأوساط.
ومنها: إن فيه متشابهات يتمسك بها أهل الغواية - كالمجسمة بمثل:
الرحمن على العرش استوى
[طه:5].
ورد بأنها لنيل المثوبة بالنظر والاجتهاد في طلب المراد؛ ولفوائد لا تحصى في الرجوع إلى الراسخين في العلم.
ومنها: إن فيه عيب التكرار - كإعادة قصة فرعون في عدة مواضع، وكإعادة:
فبأي آلاء ربكما تكذبان
[الرحمن:13] و
ويل يومئذ للمكذبين
[المرسلات:15] في سورة الرحمن والمرسلات.
ورد بأنه إنما يكون من محاسن الكلام على ما يقرره علماء البيان فيما وقع منه في الآخرة.
ومنها: إن فيه قوله:
لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
[النساء:82]، وأنت تجد فيه من الإختلاف المسموع من أصحاب القراءة ما ترى على اثني عشر ألفا.
ورد بأن الاختلاف المنفي هو التفاوت في مراتب البلاغة، بحيث يكون بعضه قاصرا عن مرتبة الإعجاز، أو مشتملا على تناقض في الأحكام أو الأخبار.
لا يقال: تقرير الطعن فاسد من أصله، لأنه استدلال بثبوت اللازم على ثبوت الملزوم.
لأنا نقول: لا. بل هو مبني على أن كلمة: " لو " في اللغة تفيد انتفاء الجزاء لانتفاء الشرط، بمعنى أن عدم وجدان الاختلاف بسبب أنه ليس من عند غير الله. أما لو حملت كلمة " لو " في الآية على ما هو قانون الاستدلال - كما في قوله:
لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا
[الأنبياء:22]، فهو استدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم. أي: " لكن لم يوجد فيه الاختلاف، فلم يكن من عند غير الله ".
ومنها: إن فيه التناقض، كقوله:
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن
[الرحمن:39].
مع قوله:
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون
[الحجر:92 - 93]. وكقوله:
ليس لهم طعام إلا من ضريع
[الغاشية:6]. مع قوله:
ولا طعام إلا من غسلين
[الحاقة:36]. إلى غير ذلك من مواضع يتوهم منها تنافي الكلامين .
ورد بمنع وجود شرائط التناقض - وقد بين ذلك في التفاسير -.
ومنها: إن فيه الكذب المحض، كقوله تعالى:
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم
[الأعراف:11]. للقطع بأن الأمر بالسجود لم يكن بعد خلقنا وتصويرنا.
ورد بأن المراد خلق أبينا آدم وتصويره.
ومنها: إن فيه الشعر من كل بحر؛ وقد قال:
وما علمناه الشعر
[يس:69].
فمن الطويل:
فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر
[الكهف:29].
ومن المديد:
واصنع الفلك بأعيننا
[هود:37].
ومن البسيط:
ليقضي الله أمرا كان مفعولا
[الأنفال:42].
ومن الوافر:
ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين
[التوبة:14].
ومن الكامل:
والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم
[البقرة:213].
ومن الهزج:
تالله لقد آثرك الله علينا
[يوسف:91].
ومن الرجز:
ودانية عليهم ظلالها
[الإنسان:14].
ومن الرمل:
وجفان كالجواب وقدور راسيات
[سبأ:13].
ومن السريع:
قال فما خطبك يسامري
[طه:95].
ومن المنسرح:
إنا خلقنا الإنسان من نطفة
[الإنسان:2].
ومن الخفيف:
أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم
[الماعون: 1 - 2].
ومن المضارع:
يوم التناد * يوم تولون مدبرين
[غافر:32 - 33].
ومن المقتضب:
في قلوبهم مرض
[البقرة:10].
ومن المجتث:
المطوعين من المؤمنين في الصدقات
[التوبة:79].
ومن المتقارب:
وأملي لهم إن كيدي متين
[الأعراف:183].
ورد بأن مجرد كون اللفظ على هذه الأوزان لا يكفي، بل لا بد من تعمد الوزن - وعند البعض من التقفية -، على أن في كثير مما ذكر نوع تغيير؛ ولو سلم فالتغليب باب واسع.
أقول: المراد من الشعر المنهي عنه، هو التخيلات والمبالغات في تحسين الأشياء وتقبيحها مع مراعاة النظم وغيره، وإلا فمجرد النظم الواقع في الكلام المطابق للحق، مما ليس به بأس أصلا.
فصل
في معنى السورة
قيل: هي إما مستعارة من " سور المدينة " لأحاطتها بما تضمنته من أصناف المعارف والأحكام، كاحاطة السور بما يحتوي عيه. أو مجاز مرسل من " السورة " أي المرتبة العالية والمنزلة الرفيعة، ومنه قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
إذ لكل واحدة من السور الكريمة مرتبة في الفضل عالية، ومنزلة في الشرف رفيعة ؛ أو لأنها توجب علو درجة تاليها وسمو منزلته عند الله سبحانه، فكأن القاري يرتفع من كل منزلة إلى منزلة أخرى، إلى أن يستكمل القرآن ويرتفع به، كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله):
" اقرأ وارق ".
وقيل: " واوها " مبدل من " الهمزة " ، آخذا من السؤر بمعنى: البقية، والقطعة من الشيء.
واختلفوا في رسمها عرفا؛ فقيل: طائفة من القرآن مصدرة بالبسملة الا براءة، فأورد على طرده الآية الأولى من كل سورة.
فزيد: " متصل آخرها فيه بإحداها ". فأورد على عكسه " سورة الناس ".
فزيد: " أو غير متصل بشيء منه " فورد عليه بعض أجزاء سورة النمل.
وقيل: " طائفة من القرآن مترجمة بترجمة خاصة " ونقض طرده بآية الكرسي.
ورد بأن المراد بالترجمة الإسم، وتلك إضافة محضة. وأنت خبير بأن القول ببلوغ سورتي الإسراء والكهف مثلا حد التسمية - دون آية الكرسي - لا يخلو من صعوبة.
وقيل: الأولى أن يراد بالترجمة ما يكتب في العنوان، ومنه " ترجمة الكتاب " ، والمراد بها هاهنا ما جرت العادة برسمه في المصحف المجيد عند أول تلك الطائفة من لقبها، وعدد آياتها، ونسبتها إلى أحد الحرمين الشريفين.
أقول: والأمر في تحقيق أمثال ذلك هين.
تذكرة:
قد ذهب جماعة من قدماء الأمة، إلى أن " الضحى " ، و " ألم نشرح " سورة واحدة، وكذا " الفيل " و " لإيلاف " وهو مذهب جماعة من فقهائنا - رضوان الله عليهم -.
قال شيخنا بهاء الحق والدين - رحمه الله -: هذا القول وإن قال به جمع من السلف والخلف، إلا أن الحق خلافه، واستدلالهم بالارتباط المعنوي [بين] كل وصاحبتها، وبقول الأخفش والزجاج " إن الجار في قوله عز وعلا:
لإيلاف قريش
[قريش:1] متعلق بقوله جل شأنه:
فجعلهم كعصف مأكول
[الفيل:5]، وبعدم الفصل بينهما في مصحف أبي بن كعب، ضعيف؛ لوجود الإرتباط بين كثير من السور التي لا خلاف في تعددها، فليكن هذا من ذاك.
وكلام الأخفشين لا ينهض حجة في أمثال هذه المطالب، وتعلق الجار بقوله سبحانه:
فليعبدوا رب هذا البيت
[قريش:3] لا مانع عنه، وعدم الفصل في مصحف أبي لعله سهو منه؛ على أنه لا يصلح معارضا لسائر مصاحف الأمة.
وأما ما ذكره جماعة من مفسري أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - كشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي في التبيان، وثقة الإسلام أبي علي الطبرسي في مجمع البيان، من ورود الرواية بالوحدة عن أئمتنا عليهم السلام - فهذه الرواية لم نظفر بها، وما اطلعنا عليه من الروايات التي تضمنتها أصولنا، لا تدل على الوحدة بشيء من الدلالات، بل لعل دلالة بعضها على التعدد أظهر. وأقصى ما يستنبط منها جواز الجمع بينهما في الركعة الواحدة؛ وهو عن الدلالة على الوحدة بمراحل.
وما تشرفنا بمشاهدته في مشهد مولانا وإمامنا أبي الحسن الرضا عليه السلام من المصاحف، التي قد شاع وذاع في تلك الأقطار أن بعضها بخطه عليه السلام، وبعضها بخط آبائه الطاهرين - سلام الله عليهم أجمعين - [يدل] على ما قلنا من التعدد، فإن الفصل في تلك المصاحف بين كل من تلك السور الأربع وصاحبتها على وتيرة الفصل بين البواقي - انتهى كلامه.
فإن قيل: ما فائدة تقطيع القرآن سورا؟
قلنا: ذكرت فيه وجوه:
منها: ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبوابا وفصولا موشحة الأوائل بالتراجم والعنوانات لسهولة الأخذ والضبط، ولأن الجنس إذا حصل تحته أنواع، كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن، ففيه إفراد الأنواع، وتلاحق الأشكال، وتجاوب النظم.
ومنها: أن القاري إذا ختم سورة أو بابا من كتاب الله، ثم أخذ في آخر، كان أنشط له.
ومنها: أن الحافظ إذا حذق طائفة مستقلة بنفسها، فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به، ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل؛ ففيه تنشيط القاري، وتسهيل الحفظ والترغيب فيه والتنفيس - كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا أو انتهى إلى رأس بريد، نفس ذلك عنه ونشط للسير، ومن ثمة جزء القراء القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا.
وقيل: إن في القرآن ميادين، وبساتين، ومقاصير، وعرائس، وديابيج، ورياضا، وخانات؛ فالميمات ميادين القرآن، والراءات بساتينه، والحامدات مقاصيره، والمسبحات عرائس القرآن، والحاميمات ديباج القرآن.
والمفصل رياضه، والخانات ما سوى ذلك.
فإذا دخل القاري في الميادين، وقطف من البساتين، ودخل المقاصير، وشهد العرائس، ولبس الديباج، وتنزه في الرياض، وسكن غرف الخانات، استغرقه ذلك عما سواه، فلم يكن شغله عن تفكره وتدبره فيه شاغل.
نكتة
قد وقع التحدي بالقرآن بوجوه وتارات؛ تارة بقوله:
فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى
[القصص:49]. وتارة بقوله:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
[الإسراء:88]. وتارة بقوله:
فأتوا بعشر سور مثله مفتريات
[هود:13]. وتارة بقوله:
قل فأتوا بسورة مثله
[يونس:38]. وذلك لكون التحدي بشيء على عدة مراتب متنازلة يكون أقوى وأبلغ.
نظيره كمن يتحدى صاحبه بتصنيفه فيقول: " إيتني بمثله، إيتني بنصفه، ايتني بربعه، ايتني بمسئلة مثله " ، هذا هو النهاية في إزالة العذر وإزاحة الشبهة.
واعلم أن هذا دال على أن القرآن، وما هو عليه، من كونه سورا هو على حد ما أنزل الله - لا كما اشتهر من أنه وقع الترتيب في أيام عثمان -
فصل
الضمير في " مثله " عائد إلى " ما نزلنا "؛ و " من " للتبعيض أو التبيين، وزائد عند الأخفش؛ أي: فأتوا بسورة مماثلة للقرآن في الفصاحة وحسن الترتيب.
وقيل: إلى " عبدنا " ، و " من " للابتداء، أي: " فأتوا بسورة كائنة ممن هو على حاله من كونه بشرا أميا لم يقرء الكتب ولم يأخذ من العلماء ". أو صلة " فأتوا " والضمير للعبد.
ورجح الأول بوجوه:
أحدها: إنه المطابق لسائر آيات التحدي - لا سيما ما في سورة يونس -:
فأتوا بسورة مثله
[يونس:38].
والثاني: إن الكلام مسوق في المتحدى به - لا في المنزل عليه -، فوجب صرف الضمير إليه ليتسق الترتيب ويحسن النظم.
والثالث: إن مخاطبة الجماعة الكثيرة بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أمثالهم في البشرية، أبلغ وأقوى في التحدي من أن يقال لهم: " ليأت آخر مثله بنحو ما أتى به هذا ".
الرابع: إن القرآن معجز في نفسه، كامل في حقيقته، كما قال سبحانه:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
[الإسراء:88]. وعند عود الضمير إلى محمد (صلى الله عليه وآله)، يفيد أن كونه معجزا، إنما يكمل ويتم عند تقدير ما يوهم نقصا في حقه - من كونه أميا بعيدا من العلم -، حاشى الجناب المصطفوي الختمي - على القائم به وآله الصلاة والسلام - عما يوهم خطأ في حقه أو نقصا في نفسه؛ بل كما تشرفت ذاته بالقرآن بعد النزول، تشرفت قبل نزوله بعلوم إلهية وأنوار عقلية، كان يتهيأ ويستعد بها من بين الخلائق كلهم لمشاهدة الوحي الإلهي، وتلقي القرآن من لدن حكيم عليم.
وليس كما زعمه أكثر الناس - ممن لا اطلاع لهم على معنى النبوة وحقيقة الرسالة - من أنه قبل البعثة لم يكن من أولي العلم - حاشاه عن ذلك -، كيف، ولا شرف ولا فضيلة بالحقيقة لنفس الإسنان إلا بالعلم والمعرفة، وبذلك يتميز عن الأقران، ويفوق على سائر الأكوان.
وكونه (صلى الله عليه وآله) أميا لا ينافي أفضليته على الخلق، لأن علم الخط والكتابة ليس من الفضائل الكلية والكمالات العقلية، بل هو من الصنائع الجزئية الوضعية المتعلقة بإدراك الحواس، وأنها كسائر العلوم الجزئية داثرة باندراس الحواس، وكل ما من شأنه الدثور والزوال، فليس في شيء من الشرف والكمال.
الخامس: إن رد الضمير إليه - لا إلى المنزل -، يوهم إمكان صدوره عمن لم يكن مثله (صلى الله عليه وآله) في كونه أميا، ولو صرف إلى المنزل، لدل على امتناع صدوره من البشر مطلقا؛ فهذا أولى وأوفق بقوله: { وادعوا شهدآءكم من دون الله }.
فصل
" الشهداء " جمع شهيد، من " الشهود " وهو الحضور، سواء كان في العين أو في العلم، بالذات أو بالتصور. ومنه قيل للمقتول في سبيل الله: " شهيد " ، لأنه يحضر ما كان يرجوه، أو الملائكة حضروه، ويطلق على القائم بالشهادة، والناصر، والإمام، فكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور.
والمراد من الشهداء؛ إما من ادعوا فيه الإلهية من الأوثان، وإما أكابرهم ورؤساؤهم لأنهم يشتركون في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصارا وأعوانا.
ومعنى " دون " ، أدنى مكان من الشيء، ومنه " تدوين الكتب " ، لأنه إدناء البعض من البعض، و " دونك هذا " أي: خذه من أدنى مكان منك. ثم استعير للرتب فقيل: " زيد دون عمرو في الشرف " ، ومنه " الشيء الدون ". ثم استعمل اتساعا في تجاوز حد إلى حد، وتخطي أمر إلى غيره. قال الله تعالى:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين
[آل عمران:28]. أي: لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال أمية:
" يا نفس مالك دون الله من واق ".
أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره.
و " من دون الله " متعلق إما ب " شهداءكم " أو ب " ادعوا ".
وعلى الأول ففيه معنيان:
أحدهما: ادعوا للمعارضة الذين زعمتموهم آلهتكم من دون الله، وشهداء لكم يوم القيامة على أنكم محقين.
وثانيهما: ادعوا شهداءكم من دون أولياء الله وغير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله.
ففي الأول، حيث وقع الأمر لهم بأن يستظهروا بالجمادات في معارضة [القرآن] غاية التهكم بها والتبكيت؛ وفي الثاني، إشعار بأن شهداءهم لما كانوا فرسان الفصاحة، تأبى عليهم طباعهم السليمة الرضا بالشهادة الكاذبة لأولئك المدعين.
وأما الثاني: ففيه أيضا معنيان:
أحدهما: ادعوا للإتيان بسورة منه كل من حضركم، أو تصورتم معونته من إنسكم وجنكم وأعوانكم وأنصاركم وآلهتكم غير الله، فإنه لا يقدر أحد مما سوى الله أن يأتي بمثله.
وثانيهما: ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم على مثله، ولا تستشهدوا بالله، فإن من ديدن المبهوت العاجز وهجيره أن يقول: " الله يشهد أني لصادق " ، وهذا تعجيز لهم، وبيان لانقطاعهم عن البحث إلا بمثل هذا القول.
مسئلة:
اعلم أن هذا التحدي يبطل مذهب الجبر - كما ذكره القاضي - لأنه مبني على تعذر مثله ممن يصح وقوع الفعل منه، فمن ينفي كون العبد فاعلا أصلا، لم يمكنه إثبات التحدي أصلا، ويلزم منه إبطال الاستدلال بالمعجزات، لأن تعذر وقوعها عن الغير يكون لفقد القدرة، ويستوي في ذلك ما يكون معجزا وما لا يكون.
وأيضا، فإذا كانت الأفعال كلها من الله، فكل ما ينسب إلى العبد من التحدي يرجع في التحقيق إلى أن الله متحد لنفسه، وهو قادر على الإتيان بمثله من غير شك، فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول.
وأيضا ، إن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يحتج بأن الله قد خصه بالقرآن تصديقا له في دعوى الرسالة، فلو لم يكن من قبله تعالى، لم يكن داخلا في الإعجاز، وعلى القول (بالجبر)، لم يبق فرق بين المعتاد وغيره، لأن الكل لا يكون إلا من عند الله.
هذا هو المذكور في هذا المقام، وهو حجة قوية الإلزام، وأجاب عنه صاحب الكبير بقوله: " إن المطلوب من التحدي [إما] أن يأتي الخصم بالمتحدى به قصدا، أو أن يقع ذلك منه إتفاقا؛ والثاني باطل، لأن الإتفاقيات لا تكون في وسعه، وعلى الأول، إتيانه بالمتحدى به موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه، فذاك القصد إن كان منه لزم التسلسل - وهو محال -، وإن كان من الله، فحينئذ يعود الجبر، ويلزمه كل ما أورده علينا، فيبطل كل ما ذكره.
وأقول - ومن الله الهداية والعصمة -: إن هذا النحرير بطول عمره في البحث والتحرير، لم يفرق بعد بين ما هو مذهب الأشعري وأتباعه، وما هو مذهب القائلين بالعلة والمعلول، و " أن الشيء ما لم يجب لم يوجد " ، و " أن ترجيح أحد المتساويين محال إلا لداع " ، و " أن الممكن من حيث إمكانه يستحيل وجوده وعدمه إلا بسبب ".
وذلك لأن بناء هذا الإلزام من إبطال التحدي على رأي أصحابه - النافين للأسباب والعلل -، من جهة أن نسبة المتحدي وغير المتحدي إلى المتحدى به واحدة، وليس - ولا واحد منهما - مما له مدخل في وجود ذلك الأمر بوجه من وجوه المدخلية - ككونه فاعلا أو غاية أو شرطا أو معدا أو غير ذلك من الأسباب والشروط -، فلا معنى للتحدي بأمر غير مختص بواحد دون واحد.
وأما إذا كان ورود الفضائل والكمالات، وفيضان العلوم والخيرات من الله على بعض النفوس والذوات دون بعض، من جهة أعماله السابقة المقربة، ونياته المتقدمة والمهيئة، وفكره وذكره وطاعته وعبادته، فلا يرد ذلك أصلا، لأن تلك السوابق، مخصصات للعبد باستحقاق منقبة خاصة.
وتلك السوابق، وإن كانت كلها أيضا واردة عليه من قبل الله ورحمته - لا منبعثة من ذات العبد -، إلا أنها تقربه وتزلفه إلى الله، وتخصصه لقبول العناية الإلهية، فيصح لأحد على هذا الوجه دعوى النبوة، واثباتها بالتحدي بفضيلة زائدة على فضائل سائر الناس، ومنقبة فائقة على مناقبهم، خارجة عن حد طاقتهم ووسع قوتهم وقدرتهم.
ولا يمكن حينئذ لأحد إبطال قوله؛ بأن هذا المتحدى به ليس فعلك - بل من فعل الله -، فأي اختصاص له بك؟ وأي منقبة حصلت لك منه دون أقرانك وأمثالك؟ لأن له أن يقول: إن جميع الأمور، وإن كانت حاصلة بقضاء الله وتقديره، إلا أن قضاءه وقدره يوجبان ما يوجبان بتوسيط مقدمات وسوابق، وأسباب وبواعث، كلها راجعة إليه أيضا.
ومن جملة تلك الأسباب إرادة العبد وطاعته وذكره وعبادته، فسوابق الطاعات، ومقدمات العبادات من عبد توجب له التقرب إلى الله زلفى، وهذا التقرب قرب معنوي ودنو عقلي بحسب الشرف والفضيلة الذاتية - لا بحسب الوضع والرتبة المكانية -، وأفراد البشر وإن كانت متساوية في الجسمية والبشرية، لكنها بعد انتقالاتها وحركاتها إلى الأعراض، وتطويرها في الأطوار، واكتسابها للخيرات والشرور، واقتنائها للفضائل والرذائل، تصير متخالفة الذوات والصفات بحسب البواطن والقلوب.
فمن القلوب ما هو أبيض منير كالشمس، ومنها ما هو أسود مظلم كالقير، فهل هذا التفاوت إلا بأمور ذاتية مجعولة من الله، حاصلة من مواهبه وعطاياه؟ وليست أفراد الإنسان متساوية فيها، كما قال تعالى:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
[الزمر:9].
فالنبوة، وإن لم تكن مكسوبة للعبد، إلا انها فائضة من الله على قلب مطهر بطهارة الأخلاق والرياضات، منور بنور المعارف والخيرات، كمن يكنس من جملة عبيد السلطان بيته من الأرجاس والأخباث والكثائف، وينظفه بفنون التنظيفات، ويطيبه بأنواع الطيب والبخورات الحسنة انتظارا لقدومه - بما لم يفعل سائر العبيد والخدام - فليس من الحكمة والعدالة السلطانية، أن لا ينزل في بيته وينزل في بيت غيره - مع تساوي نسبة قدرة السلطان إلى الجميع -.
فهكذا قلب النبي (صلى الله عليه وآله)، كان طاهرا كالسقف المرفوع من جميع الخبائث السفلية النفسانية، والصفات البشرية، منورا كالبيت المعمور بأنوار العلوم والطاعات، فصار بيت الله مورد آيات بينات منه، فيه مقام ابراهيم من التوحيد وسائر المقامات.
فأقبل أولا إلى أهل بيته عليهم السلام، فأمطر عليهم من سماء علمه أمطار العلوم، وأضاء قلوبهم بأضواء المعارف، فارتوى بالعلم والهدى ظاهرهم وباطنهم، ثم أقبل على الأمة بقلب كالبحر مواج بمياه العلوم، فاستقبلته أودية العقول وأنهارها، وجداول الفهوم وسواقيها، وجرى من بحره في كل واد وجدول وساقية من قلوب العلماء قسط ونصيب لائق، وذلك القسط الواصل إلى الفهوم، هو الفقه في الدين.
وبالجملة، فليس بناء أمر العالم - من تعظيم العالم، وإهانة الجاهل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والهداية والضلالة، وإعلام طريقي الخير والشر، وسبيلي الطاعة والمعصية، وسائر ما ينوط بذلك - على مجرد التخمين والجزاف، والعبث والاتفاق، من غير حق لازم وقضاء ثابت، حتى يمكن انقلاب كل شيء إلى ضده، وترتب كل أثر على نقيض مؤثرة - تعالى الله عن سفه المعطلين وبطالة البطالين علوا كبيرا.
وقوله: " إن كنتم صادقين " قضية شرطية جوابها محذوف، لدلالة ما قبلها عليه أي: " إن كنتم صادقين في أن القرآن كلام البشر، والإتيان بمثله ممكن فأتوا بمثل سورة منه ".
و " الصدق ": هو الإخبار عما يطابق الواقع، والمراد من الواقع ما في نفس الأمر. أي: وجود الشيء في نفسه - لا بتعمل الوهم واختراعه - ف " الأمر " بمعنى الشيء.
واعترض عليه: بأن بعض الأشياء كالقضايا الذهنية مما لا وجود [له] إلا في الذهن، فصدق الحكم فيها على الشيء حكما ايجابيا، يستدعي مطابقا خارجيا، وليس لها مطابق خارجي أصلا - كالحكم بأن التناقض محال. والعدم تفي محض -.
وأجيب: بأن المغايرة بين المطابق والمطابق لا يجب أن تكون حقيقة، بل مطلق المغائرة الشاملة للحقيقية والاعتبارية بينهما كاف في صدق الخبر، فههنا مغائرة اعتبارية، بمعنى أن هذه النسبة الموجودة في الذهن، مطابقة لنفسها من حيث أنها موجودة في نفسها لا بتعمل العقل -، فهي من حيث وجودها في الذهن، مغاير لها من حيث وجودها في نفسها.
وتفصيله - كما ذكره بعض أهل التحقيق - أن النسبة إذا وجدت في الذهن كان لها وجود ذهني - سواء كان باختراع العقل وتعمله، كالحكم بزوجية الثلاثة أو بدون اختراعه كما في الصوادق -.
فالأولى ليست موجودة في حد ذاتها، بل باختراع وتعمل من العقل. والثانية موجودة في نفسها مع قطع النظر عن اختراعه وتعمله، وإن كان وجودها في نفسها لا يكون إلا في الذهن، إلا إنها موجودة فيه بدون تعمله، فهي من حيث إنها موجودة في الذهن، مطابقة لها من حيث أنها موجودة فيه مطلقا بلا تعمل؛ فالوجود بالاعتبار الأول مطابق - بالكسر - وبالاعتبار الثاني مطابق - بالفتح.
فالمنظور إليه في الاعتبار الأول، الوجود الذهني؛ وفي الاعتبار الثاني، مطلق الوجود في حد ذاته - سواء كان في الذهن أو في الخارج - فالنسبة الذهنية للصوادق مطابقة لما في نفس الأمر بالمعنى المذكور، حتى أنها لو فرضت موجودة في الخارج أيضا، كانت المطابقة لها بحالها؛ بخلافها في الكواذب، إذ لا مطابق لها ولا وجود لها في نفسها، أي: بلا تعمل واختراع أصلا، لا في الخارج ولا في الذهن.
وذهبت الحكماء إلى أن نفس الأمر عبارة عن العقل الفعال عندهم، فالمراد ب " الأمر " هو المعنى المقابل ل " لخلق " ، فيكون مرادهم من الموجود في نفس الأمر، الموجود في عالم الأمر.
قالوا: إن ما في أذهاننا من الأحكام، إن كانت مطابقة لما في العقل الفعال، كانت صادقة مطابقة لما في نفس الأمر - وإلا فكانت كاذبة -.
واعترض عليه: بأنه لو كان معنى صدق الحكم ما ذكروه، لم يمكن لنا العلم بصدق خبر من الأخبار، ما لم نعلم أنه مطابق لما ارتسم في العقل الفعال، ورب إنسان علم يقينا " أن الواحد نصف الإثنين " ، ولم يعرف العقل الفعال - بل ينكر وجوده -.
وبأن ما ذكروه من الاستدلال على ارتسام صور المعقولات في جوهر مفارق - هو خزانة معلومات النفس الناطقة-، هو بعينه جار في الأحكام الكاذبة، فيجب عليهم القول بارتسامها فيه أيضا.
بيان ذلك: أنهم استدلوا على ذلك بالفرق بين حالتي الذهول والنسيان، بأنه عند الذهول تزول الصورة التي أدركها الإنسان من قوته المدركة دون الحافظة؛ وعند النسيان، تزول عنهما جميعا؛ فهما قوتان إحداهما ذات الإنسان. والأخرى جوهر آخر مفارق، فيه المعقولات دائمة بالفعل، وزوال الصورة عن حافظة النفس عند النسيان، عبارة عن بطلان استعدادها للاتصال به من هذه الجهة.
ثم إن الذهول والنسيان كما يجريان في الصوادق، يجريان في الكواذب، فلو كان المطابق لما ارتسم في الجوهر الذي هو خزانة المعقولات صادقا موجودا في نفس الأمر، لكانت تلك الكواذب أيضا صادقة موجودة في نفس الأمر، واللازم باطل، فكذا الملزوم. وذكر العلامة الحلي - طاب ثراه -: " اني ذكرت هذا السؤال للأستاذ نصير الحق والدين فلم يأت بكلام مشبع ".
وبأن صدق الخبر وصحة الحكم، إن كان بمطابقته لما في نفس الأمر، بمعنى " عالم الأمر " من النسب الحكمية، فما يكون في عالم الأمر من الأحكام، يلزم أن لا تكون صادقة، إذ لا تغاير بينها وبين ما في نفس الأمر، فلا مطابقة بينهما.
ويمكن الجواب: عن الأول، بأن حقيقة الصدق وملاكه هو غير عنوانه ورسمه، وكثيرا ما يكون الشيء خفي الماهية وظاهر الإنية - كحقيقة الزمان والجسم وغيرهما -.
والعالم بصدق الخبر بشيء من الخواص والعلامات، لا يلزم أن يكون عالما بحقيقتهما.
وعن الثاني: بأن المطابق لما ارتسم فيه من حيث تصديقه واذعانه، صادق، وتلك الكواذب - وإن كانت مرتسمة فيه -، لكن لا بوجه التصديق بها والاذعان - بل بوجه الحفظ -، فإن الحافظ لا يلزم أن يكون مذعنا بما يحفظه.
لا لما قاله بعض الأفاضل: " إن الحافظ لا يجب أن يكون مدركا لما يحفظه " ، ومثل ذلك بحافظة الإنسان وخياله، حيث إن الخيال خزانة الصور وليس مدركا لها؛ لأن حافظة الصور، سواء كانت عقلية أو حسية، لا تنفك عن المدركة، وإن كانت جهة الحفظ غير جهة القبول في بعض الأشياء، الا ان الحافظ والمدرك لهما ذات واحدة.
بل لأن اللازم من انحفاظ صور الكواذب، وسائر ما يوجد في هذا العالم من الشرور والآلام وغيرها، تصور العقل الفعال لها بوجه من وجوه التصور اللائق به، أو لا ترى أنهم ذهبوا إلى أن العلم بجميع الأشياء السفلية حاصل للمراتب العالية، وفيها صورة النقائص، والشرور، والآفات، والأمراض، والأوجاع، والقبائح الموجودة ههنا، وهي في ذلك بريئة منها بالكلية، لبراءة عالم الأمر عن الشر مطلقا.
فكما لا يلزم من تعقل المرض والآفة والشر، أن يكون العالم بها مريضا، مأوفا، شريرا؛ فكذا لا يلزم من تعقل الكذب، أن يكون العالم به كاذبا؛ لأن الكاذب هو المذعن بالكذب - لا المتصور له -، فصورة الكذب في العقل ليست كذبا، كما أن صورة الحركة والحرارة في العقل ليست حركة وحرارة؛ فارتسام صور الكواذب في عالم الأمر، يستلزم كونه عالما بها من حيث التصور على وجه عقلي، ولا يستلزم منه حصول التصديق بها والإذعان.
وعن الثالث: بأن صدق الخبر وصحة الحكم الذي في الجوهر العقلي المسمى عندهم بالعقل الفعال، لا يكون لكونه مطابقا لما في نفس الأمر، بل يكون لكونه عينه، فيكون صدق الخبر أعم من كونه نفس الأمر، أو مطابقا له؛ ففي التعريف الذي ذكروه من المطابقة، نوع مسامحة من باب عموم المجاز.
وقد وجد في كلام بعض الحكماء كأرسطو في أثولوجيا، ما يفهم منه أن علم المبادي أجل من أن يوصف بالصدق، وإنما هو الحق - بمعنى أنه الواقع، لا المطابق للواقع - فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز أصلا.
واعلم أن الحكماء أرادوا بالعقل الفعال، عالم الأمر كله، وهو بعينه عند التحقيق ما فيه صور علم الله من اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه صورة ما في السموات وما في الأرض بيد القدرة الإلهية؛ فالأولى أن يقال: إن الصدق بمطابقة الخبر لما في علم الله، والحق هو عين علمه بالأشياء على وجهه.
وقيل: لا يكفي في صدق الخبر المطابقة فقط، بل لا بد معها من اعتقاد المخبر انه كذلك عن دلالة أو أمارة، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم:
إنك لرسول الله
[المنافقون:1]. لما لم يعتقدوا مطابقته.
ورد: بأن التكذيب انصرف إلى قولهم:
نشهد
[المنافقون:1] لأن الشهادة إخبار عن تحقق العلم، وهم ما كانوا عالمين بحقية الرسول، لأن ذلك بالبرهان شأن أولي العلم والدراية، وبالتقليد شأن أهل السلامة للقلوب، والصفاء للصدور من الجهل والعناد والاستكبار، وكلاهما مفقودان عنهم .
[2.24]
لما بين الله لهم طريق الاهتداء إلى معرفة أحوال الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأرشدهم إلى قانون يعرف منه صحة ما جاء به من فساده، ويمتاز بذلك حقه من باطله، أمرهم بتقوى النار المعدة للكفار.
معناه: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم وأعوانكم من فصحاء العرب وبلغائهم مع كثرة عددهم كحصى البطحاء، وتبين لكم عجزكم وعجز غيركم، وعلمتم أن الإتيان ببعض قليل منه ليس في مقدرة البشر، فلا تقيموا على التكذيب به والإعراض عنه، فاتقوا النار واحذروا أن تصلوها بتكذيبكم للحق وإعراضكم عن الحق.
وعامل الجزم في " تفعلوا " " لم " - دون " إن " - لأنها الأصل فيه، واجبة الإعمال، مختصة بالمضارع، متصلة بمعمولها؛ ولأنها لما صيرته ماضيا صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع، وكأنه قال: " فإن تركتم الفعل " ولذلك جاز اجتماعهما.
وقوله: " ولن تفعلوا " جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب، معناه: " ولن تأتوا بسورة من مثله أبدا " ، لأن: " لن " نفي على التأبيد في المستقبل، أو على التأكيد فيه.
وفيه مع ما مر في الآية السابقة، دلالة على حقية النبوة من وجوه:
أحدها: ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد، وبذل الوسع، وجمع العدد والعدد في المعارضة بالتقريع، والتحديد، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من القرآن؛ ثم إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة، وتهالكهم على المضادة، لم يتصدوا لمعارضته، والتجأوا إلى جلاء الوطن والعشيرة، وبذل الأرواح والمهج؛ وهذا من أقوى الدلائل على اعجاز القرآن، لأنهم - وهم فرسان اللسان -، لو كان في امكانهم ومقدرتهم الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه، لأتوا به، وحيث ما أتوا به ظهر العجز وعلم المعجز.
وثانيها: إنه (صلى الله عليه وآله) وإن كان متهما عند الأشرار والكفار فيما يتصل بأمر النبوة، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل وكمال الفضل والحزم في معرفة العواقب، فلو تطرق الشك أو التهمة إلى ما ادعاه من النبوة، لما استجرء في دعواه، ولم تتبادر نفسه إلى أن يتحداهم بالغا في التحدي نهايته، وفي التقريع للخصوم غايته، بل كان خائفا من وقوعه في فضيحة يعود وبالها على جميع أموره - حاشاه من ذلك (صلى الله عليه وآله) -، فلولا كان على بصيرة من أمره، وتثبت في قول ربه، ومعرفة بعجزهم وأمثالهم عن المعارضة، لما اجترء على أن يحملهم على المعارضة بأبلغ وجه وآكده.
وثالثها: إنه [لو] لم يكن قاطعا بصحة نبوته، لما قطع في الخبر بأنهم ونظرائهم من أفراد البشر، لن يأتوا أبدا بمثل القرآن، فإن الشاك المجوز لوقوع خلاف ما ادعاه، لا يقطع في الكلام هذا المبلغ، مخافة أن يظهر خلاف دعواه، فتدحض حجته، وقد أوجد الله مصداق ما أخبره ومطابق ما وعده رسوله، حيث إنه من أوان رسالته (صلى الله عليه وآله) إلى هذا العصر، لم يخل وقت من الأوقات من أعادي الدين وخصماء الإسلام، ومن يشتد دواعيه في الوقيعة فيه والإطفاء لنوره.
ثم إنه مع ذلك لم توجد المعارضة قط، إذ لو عارضه معارض بشيء لامتنع خفاؤه عادة بأن لا يتواصفه حملة الأخبار، ولا يتناقله الحكوية - سيما والطاعنون فيه أكثف عددا من الذابين عنه في كل عصر وزمان -.
واعلم أن هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن محتجا بالأدلة العقلية، وأن القرآن خال عنها، لأن الله تعلى قد احتج على الكفار بما ذكره في هذه الآية، وألزمهم به تصديق نبيه - عليه وآله السلام -، وقررهم بأن القرآن كلامه إذ قال: " إن كان هذا القرآن كلام محمد (صلى الله عليه وآله) فأتوا بسورة من مثله، لأنه لو كان كلام البشر لجاز وتهيأ لكم - مع تقدمكم في البلاغة والفصاحة - الإتيان بمثله أو ببعضه مع قوة دواعيكم إليه؛ فإذ لم يتأت لكم، فاعلموا بعقولكم أنه كلام الله تعالى، لا كلام البشر ".
وهذا بعينه احتجاج عقلي على صورة قياس شرطي استثنائي يستنتج فيه، يثبت أولا صحة الملازمة بين مقدم القضية الشرطية وتاليها، ثم باستثناء نقيض التالي نقيض المقدم.
و " الوقود " - بالفتح -، إسم ما توقد به النار، وبالضم هو المصدر، وجاء فيه بالفتح أيضا - كما نقل عن سيبويه -، لكن الضم فيه أكثر وقوعا، ولا يبعد أن يكون المضموم مصدرا سمي به، كما تقول " فلان فخر قومه وزين بلده ". وقد قرء بالضم عيسى بن عمر الهمداني، والإسم أظهر، وهو الحطب.
وإن أريد به المصدر، يكون من قبيل قولك " حياة المصباح السليط " أي: به. أو على حذف مضاف، أي: وقودها احتراق الناس والحجارة.
و " الحجارة " جمع حجر، كجمالة - جمع جمل.
قال في الكشاف: " معناه: أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وبأن غيرها إن أريد احراق الناس بها، أو إحماء الحجارة، أوقدت أولا بوقود، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - توقد بنفس ما يحرق ويحمى بالنارن وبأنها - لإفراط حرها وشدة ذكائها - إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار اشتغلت وارتفع لهبها ".
أقول: إن نار جهنم ممتازة عن سائر النيرانات بأمور شتى:
منها: انها أخروية غير محسوسة بهذه الحواس الفانية، إلا بعد انقلابها إلى النشأة الآخرة، فعند ذلك يشاهدها الإنسان بعين اليقين، والعارف يشاهدها الآن بعلم اليقين، كما دل عليه قوله تعالى:
كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين
[التكاثر:5 - 7].
ومنها: أنها كامنة أولا في بواطن الأشياء التي هي وقودها، ثم تبرز من الباطن إلى ظاهرها، وسائر النيران تستولي أولا على ظاهر الحطب وما يجري مجراه، ثم تنصرف إلى باطنه.
وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى:
كلما خبت زدناهم سعيرا
[الإسراء:97].
ولم يقل: " زدناها " ، دل على أنه كلما خبت - يعني النار المتسلطة على أبدانهم -، زدناهم - يعني نفوس المعذبين - سعيرا؛ فمعناه أن النار تغلب أولا على بواطنهم، ثم يسري العذاب بها إلى ظواهرهم.
ويحتمل أن يكون المراد: كلما خبت النار في ظواهرهم، ووجدوا الراحة من حيث أبدانهم، سلط الله عليهم الفكرة في حالهم وعاقبتهم فيما كانوا فيه من الأمور التي لو عملوا بها ولم يعملوا بأضدادها، لنالوا السعادة العظمى والغبطة الكبرى، فيزداد بذلك عذابهم المعنوي، أشد من حلول العذاب المقرون بتسليط النار المحسوسة على أجسادهم.
ومنها: أن فعل المعاصي والشهوات واللذات، يولدها ويقويها، وفعل التوبة يطفئها وينفيها، ويفعل بها ما يفعله صب الماء على هذه النيران.
ومنها: أنها كما تستولي على الأجسام، تستولي على النفوس أيضا، قال تعالى:
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة:6 - 7]. بخلاف نيران الدنيا، فإنها لا يبلغ أثر حرها إلى النفس ولا يتعدى عن الجسد.
فالنار الأخروية ناران - وإن كان تحت كل منهما أنواع كثيرة -: نار الله، ونار الجحيم؛ فأما نار الله، فهي نار حرها القطيعة من الله تعالى، بها يعذب قلوب المنافقين والمحجوبين عن الحق، مع مكنة استعدادهم لدركه، كما قال:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم
[المطففين: 15 - 16].
وأما نار الجحيم، فهي نار الشهوات والمخالفات على الغفلة والجهالات، فهي تحرق الجلود، كما قال تعالى:
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما
[النساء:56]. ولا تخلص هذه النار إلى لب القلوب. وان عذاب حرقة الجلود بالنسبة إلى عذاب حرقة القلوب، كنسيم الحياة وسموم الممات - كما قيل:
ففي فؤاد المحب نار هوى
أحر نار الجحيم أبردها
وقيل أيضا:
النار ناران: نار كلها لهب
ونار معنى على الأرواح تطلع
وهي التي ما لها سفع ولا لهب
لكن لها الم في القلب ينطبع
ومنها: أن نار الدنيا نوع واحد لا يختلف في الحقيقة، وله طبقة واحدة، ونار الآخرة - كما سنشير إليه -، أنواع كثيرة متخالفة الحقائق، ولها طبقات سبع، إلى كل منها باب على حدة، على عدد مشاعر الإنسان - الوهم، والخيال، والحواس الخمس -.
وأبواب الجنة ثمانية، يزيد عليها بواحد هو باب القلب - المغلق على أكثر الناس، سيما الكفار والمنافقين -، وغيره من السبعة يقع الإشتراك فيه بين الطريقتين، على شكل الباب الذي إذا فتح إلى طريق منزل، انسد به طريق منزل آخر، فعين غلقه لمنزل عين فتحه لمنزل آخر.
وأما أسماء أبوابها السبعة: فباب جهنم، وباب الجحيم، وباب السعير، وباب سقر، وباب لظى، وباب الحطمة، وباب سجين، والباب المغلق - وهو الباب الثامن الذي لا يفتح الحجاب -.
ومنها: أن طبقة من طبقاتها - وهي التي تسمى سجين -، كتاب مرقوم كما قال تعالى:
ومآ أدراك ما سجين * كتاب مرقوم
[المطففين:8 - 9]. وليس شيء من هذه النيران كتابا.
ومنها: أنها تحوي على الأجسام الحارة والباردة جميعا، وهذه النار يختص احتواؤها بالجسم الحار، دل على ذلك قوله تعالى:
والبحر المسجور
[الطور:6] وقوله:
أغرقوا فأدخلوا نارا
[نوح:25].
ومنها: أن اشتدادها وتسلطها على أحد يلذ وينفع له في الدنيا، ويؤلم ويضر به في الآخرة، كما أشير إليه بقوله:
وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا * إن لدينآ أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما
[المزمل:11 - 13].
ومنها: أن موقد هذه النار هو جسم آخر كالإنسان ونحوه، بحركاته وتحريكاته من تمويجه للهواء وغيره، وأما مهاد النار الأخروية فهم ملائكة العذاب، وسدنة النيران باستخدام الله إياهم، وهم على عدد معين عند أهل الإيمان واليقين، كما قال تعالى:
عليها تسعة عشر
[المدثر:30].
وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة
[المدثر:31]. - إلى قوله -
وما يعلم جنود ربك إلا هو
[المدثر:31].
ومنها: أن هذه النار تحرق كلما يلقى فيها من الكتب - سواء كان المكتوب فيها حقا أو باطلا -، بخلاف تلك النار، فإنها تحرق كتاب الفجار فقط دون كتاب الأبرار، إذ يمتنع عليها احراق كتاب أهل الحق، ويمتنع عليه أن يحترق، لأن المرقوم فيه علوم باقية أبد الدهر، لا تحرقها النار، ولا يمحوها الماء.
وفي الحديث:
" لا يأكل محل الإيمان التراب ".
ومنها: أن هذه النار تحرق كل من ألقي فيها - مؤمنا كان أو كافرا -، بخلاف النار الأخروية، فإنها لا تحرق جسد المؤمن، بل تنطفي بوروده عليها، كما ورد في الحديث:
" إنها تقول: جزني يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي ".
ومنها: أن الصراط، الذي لا بد لكل أحد من المرور عليه ليدخل الجنة، هو واقع على متن نار جهنم، بحيث وقوع الإنحراف والعدول عنه يقتضي الوقوع فيها، إلا أن يعفو الله عنه، بخلاف هذه النار، إذ ليس الصراط واقعا عليها، ولا العدول عن الصراط يوجب الوقوع فيها.
إلى غير ذلك من الخواص والمميزات، التي يمكن استفادتها والاستبصار بها من اقتباس أنوار الآيات القرآنية، وأسرار الأحاديث النبوية.
وقيل: هي حجارة الكبريت، وذلك تخصيص بلا دليل، - بل فيه ما يدل على فساده -، لأن الغرض ههنا تعظيم تلك النار، والايقاد بحجارة الكبريت معتاد، فلا يدل الايقاد بها على قوة النار، أما لو حملناه على سائر الحجارة، دل على عظم أمر النار لأنها مطفية لنيران الدنيا، ونار الآخرة تتعلق بها وتوقد منها.
إشارة:
قال بعض أهل الكشف: إن النار مخلوقة من صفة غضب الله، ومن الاسم " المنتقم " ومن تجلى قوله في حديث قدسي عنه:
" جعت فلم تشبعني، وظمأت فلم تسقني، ومرضت فلم تعدني "
وهذا أعظم نزول الحق، فلذلك تجبرت على الجبابرة وقصمت المتكبرين، وجميع ما يخلق فيها من الآلام التي يجدها الداخلون فمن صفة الغضب الآلهي، ولا يكون ذلك إلا عند دخول الخلق فيها، قال الله تعالى:
ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى
[طه:81]. فإن الغضب ههنا عين الألم.
وقال بعضهم: " وجميع ما تفعله النار بالكفار من باب شكر المنعم وإنعامه، حيث أنعم عليها بأنواع الوقود والحطب، فما تعرف منه سبحانه إلا النعمة المطلقة التي لا يشوبها ما يقابلها، والناس غالطون في شأن خلقها ". وسنزيدك بيانا إن شاء الله تعالى.
فصل
في الإشارة إلى كون نار الآخرة ذات حقائق متخالفة
قال في الكشاف: " فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟
قلت: بل هي نيران شتى، منها نار توقد بالناس والحجارة، يدل على ذلك تنكيرها في قوله؛
قوا أنفسكم وأهليكم نارا
[التحريم:6].
فأنذرتكم نارا تلظى
[الليل:14]. ولعل لكفار الجن وشياطينهم نارا وقودها الجن والشياطين، كما إن لكفرة الإنس نارا وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب - انتهى -.
أقول: قد تكلم بكلام حسن في بابه يشبه كلام أهل الكشوف.
وكأنه مما أنطق الله بالحق لسانه، وأجرى على وفقه بيانه؛ فإن التحقيق أن الملذ والمؤذي لكل جنس هو ما يجانسه ويجانس آلة إدراكه، فللبصر من باب المبصرات، وللسمع من باب المسموعات، وكذا للشم والذوق واللمس من أبوابها، وللخيال من بابه، وللوهم من بابه، وهذه الأبواب سبعة أجناس، تحت كل [جنس] منها أنواع شتى، وتحت كل نوع أفراد لا تحصى.
ثم إنه قد تقرر في مقامه، أن فعل كل قوة من القوى - حتى الوهم والخيال -، لا يتم إلا بحرارة تخص بها، وهذه الحرارة ليست اسطقسية، لأنها حرارة غريزية، والحرارة الغريزية فائضة من عالم السماء، والأسطقسية بخلافها.
فإذا تقرر هذا، فيشبه أن يكون قياس أفنان نيران الآخرة هذا القياس، وكل نار لها وقود خاص، ولكل وقود نار مخصوصة، النوع للنوع، والشخص للشخص، فهي متعددة الأفراد التي فيها، بل إنها متعددة بتعدد مدارك الشهوات والآلام، متفننة على حسب فنون المعاصي والآثام.
بقي الكلام في أنه سبحانه لم قرن الناس بالحجارة؟
فأكثر المفسرين وجهوا ذلك بأنهم لما قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناما، وجعلوها لله أندادا، وعبدوها من دونه، فجمع الله بينهم وبينها في الآخرة بالعذاب والإلقاء في النار والإيقاد، قال الله تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء:98].
والقرآن مما يفسر بعضه بعضا، فهذه الآية مفسرة بتلك ف
إنكم وما تعبدون
[الأنبياء:98] بمعنى { الناس والحجارة } ، و
حصب جهنم
[الأنبياء:98] في معنى { وقودها } ، وقد تأكد هذا بما في الحديث:
" حتى أنه لو أحب أحدكم حجرا لحشر معه ".
وقيل: المراد الذهب والفضة التي كانوا يكنزونهما ويغترون بها، ويشحون بها ويمنعونها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم - فإن أصل المعادن من الأحجار - وعلى هذا، لم يكن لتخصيص اعداد هذا النوع من العذاب وجه.
وقيل: هي حجارة الكبريت؛ وهو تخصيص بغير دليل.
وههنا وجه آخر: إن أدنى المركبات القابلة للانفساد هو الجماد، وأعلاها رتبة هو الإنسان؛ ففي الآية إشارة إلى احتواء النار للجميع، واستيلائها على الكل بذكر طرفيها الأقصيين، وهما الأخس والأشرف.
وفي قوله: { أعدت للكافرين } - أي: هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم - إشارة لطيفة [إلى] أن المقصود بالذات من خلق النار، تعذيب الكفار لأنهم عمارها الباقون فيها أبدا، لا يمكنهم الخروج عنها كما قال تعالى:
لا تفتح لهم أبواب السمآء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين
[الأعراف:40]. وكقوله:
كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها
[السجدة:20].
لهم فيها دار الخلد جزآء بما كانوا بآياتنا يجحدون
[فصلت:28].
وليس فيه اختصاص الكافرين بها، بل يجوز أن يكون لغيرهم أيضا دخول فيها على التبعية كالأحجار وغيرها، كما قال في الجنة:
أعدت للمتقين
[آل عمران:133]. لأن بناءها على التقوى والطهارة عن الأدناس، ومع ذلك يدخلها الأطفال والحيوانات، والحور والغلمان، والمجانين والنسوان.
والجملة استيناف، أو حال باضمار: " قد " من " النار " ، لا من الضمير الذي في " وقودها " ، وإن جعل مصدرا لوقوع الفصل بينهما بالخبر.
لمعة شرقية:
قال أهل الإشارة وأصحاب البشارة: { وقودها الناس والحجارة } يعني بالناس أنانية الإنسان، التي وقع بتعينها وخصوصيتها والإحتجاب بها نسيان العهد القديم لله، الجامع لجميع النعوت الإلهية والتجليات الربانية، كما أشير إليه بقوله:
ولقد عهدنآ إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما
[طه:115]. وبالحجارة - كالذهب والفضة - وما يجري مجراهما من الأجساد المعدنية والنباتية والحيوانية، التي بها تحصل مرادات النفس وشهواتها، وتميل اليها بالهوى عن الهدى.
أقول: ويحتمل أيضا أن يراد ب " الناس " ، أنانية الإنسان التي بها تعينه الخاص، أعني نفسه المشعور بها دائما، ما دامت غير فانية عن ذاتها، وب " الحجارة " جسده المركب من العظام الصلبة جمعا بين النفس والبدن في العذاب - عذاب نار القطيعة للقلوب، وعذاب نار الجحيم للجلود -.
أو يراد بها مادة قلبه القاسي، المشارك لسائر الأحجار في الجسمية والكدورة والصلابة، كما في قوله [تعالى]:
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة
[البقرة:74].................................... وعلى أي الوجوه الثلاثة، فكل من الناس والحجارة وقود نار على حدة من نيران الآخرة.
ولا يظنن أحد، أن مثل هذه التحقيقات يدل على إبطال ما هو المفهوم من ظاهر الآية، وإهمال ما قاله العلماء، - كلا -، ولكن تصديقا لقوله عليه وآله السلام " إن للقرآن ظهرا وبطنا " ، فظاهره دال على ما فسر به العلماء الظاهريون؛ وباطنه على ما حققه وتحقق به المحققون المحقون بالكشف، بشرط أن يكون موافقا للكتاب والسنة، ويشهدان عليه بالحق، فإن كل دعوى لم يشهد عليه واحد منهما، فهو من تفاريع العبث والجزاف، وشعب الفسوق والكفر والخلاف.
تتميم:
وقد بقي ههنا سؤالات:
أحدها: إن إنتفاء إتيانهم بسورة معلوم حتم، فهلا جيء ب " إذا " الذي للوجوب، دون " إن " الذي للشك؟
والجواب بوجهين:
الأول: أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم، وأنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة، لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم [على الكلام].
الثاني: أن يتهكم بهم، كما يقول الموصوف بالقوة، الواثق من نفسه عمن يقاومه: " ان غلبتك لم أبق " وهو يعلم انه غالبه - تهكما به -.
وثانيها: لم قال: " فإن لم تفعلوا " ولم يقل: " فإن لم تأتوا بسورة من مثله "؟
الجواب: لأن هذا أخصر.
وثالثها: ما حقيقة " لن " في باب النفي، وما أصله؟
الجواب: قد مر معناه. وفي أصله ثلاثة أقوال: ألف -: أصله " لا أن " وهو قول الخليل. ب -: " لا " أبدلت ألفها نونا؛ وهو قول الفراء. ج -: حرف ينتصب، لتأكيد نفي المستقبل؛ وهو قول سيبويه، وإحدى الروايتين عن الخليل.
ورابعها: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء اتيانهم بسورة من مثله؟
والجواب: إذا ظهر عجزهم، صح عندهم حقية النبي (صلى الله عليه وآله) في دعوى الرسالة، وإذا صح ذلك ثم لازموا العناد والإنكار والاستكبار، استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد والحسد واللداد، فوضع " فاتقوا النار " موضع " فاتركوا العناد " للتلاصق بينهما والتلازم، لأن متقي النار تارك المعاندة والإنكار، فأنيب منابه وأبرز في صورته، منضما إليه تهويل صفة النار، وتفظيع شأنها في الإحراق والإحماء.
وخامسها: صلة " الذي " وأخته يجب أن يكون حكما معلوما، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟
والجواب: ليس يبعد أن يتقدم لهم [بذلك] سماع من أهل الكتاب، أو قرع سمعهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو سمعوه قبل هذه الآية في سورة التحريم من قوله تعالى:
نارا وقودها الناس والحجارة
[التحريم:6]. لأنها مكية وهذه مدنية.
وسادسها: فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة هناك منكرة، وههنا معرفة؟
الجواب: لسبق المعرفة ههنا بوقوع الجملة صلة هناك، فيجب أن تكون قصتها معلومة ههنا دون هناك، لأن تلك الآية لما نزلت بمكة - زادها الله شرفا وتعظيما - فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة، ثم نزلت هذه بالمدينة المنورة مشارا بها إلى ما عرفوه أولا.
[2.25]
اعلم - هداك الله إلى حقائق الإيمان - أن أصول الدين وأركان اليقين، هي العلم بأحوال المبدء - من توحيده وعدله - وأسرار المعاد - من الرجوع إليه والجزاء - وسر النبوة وما يتعلق بها؛ والله سبحانه لما تكلم في التوحيد والنبوة، تكلم بعدهما في المعاد، من عقاب الكفار وثواب الأبرار، وإنما أخره عن إثبات النبوة، لتأخر وقوعه، ولأن العلم به لا يحصل إلا من جهة اتباع الوحي والنبوة، لقصور العقول البشرية عن إدراك أحواله.
ومن عادة الله تعالى، أنه ذكر آية في الوعيد، عقبها بآية في الوعد، وإذا أخبر بالإنذار والترهيب، شفعه بالبشارة والترغيب، فلما ذكر الكفار وأعمالهم، وأوعدهم بالعقاب، شفعه ببشارة عباده الذين جمعوا بين العلم والعمل، والتصديق والطاعة.
واعلم أن أحوال المعاد نوعان: روحاني وجسماني:
والأول: يمكن إثبات وقوعه بالعقل على وجه ضعيف ناقص، وبالشرع على وجه قوي تام.
والثاني: يمكن إثبات إمكانه بالعقل جملة، بتصديق الرسالة، وخبر النبوة. وأما إثبات وقوعه تفصيلا فلا يمكن بالعقل، لكن الإعتقاد به تسليما وايمانا يحصل لكل مسلم منقاد لأحكام النبوة.
وأما العلم بثبوت أحوالهما عرفانا وكشفا فيحتاج إلى إحكام طريق المتابعة وتأكيد الإخلاص في اقتباس أنوار النبوة من مشكاة القرآن والحديث، بالعبودية التامة، والتدبر في آيات السموات والأرض وغاياتها، وعواقب المكونات ونهاياتها، والإطلاع على أحوال النفس الإنسانية وتطوراتها في الحالات، وتقلباتها في النشئآت.
ثم إنه تعالى ذكر مسئلة المعاد في آيات لا تحصى، لصعوبة فهمها على الأفهام، وكثرة الشبه والشكوك الواردة فيها من الأوهام، وذكر إثباتها على وجوه مختلفة:
فتارة ذكرها بعد حكاية إنكار المنكرين للحشر والنشر، وحكم بأنه واقع كائن من غير ذكر الدليل، لجواز إثبات ما [لا] يتوقف اثبات النبوة عليه بالدليل النقلي، والاعتقاد بهذه المسئلة على وجه تكلف به جمهور الخلق، ويكفي لصحة العمل من هذا القبيل، فجاز إثباتها بالنقل.
مثاله، ما حكم ههنا بإثبات النار للكفار والجنة للأبرار، وما أقام عليه دليلا، بل اكتفى بالدعوى، وإن كانت فيه إشارة لأهل الإستبصار إلى أنوار الهداية لأسباب وجود الجنة والنار، وكيفية نشؤهما في الآخرة من الأعمال والنيات، فإن " تعليق الحكم بالوصف مشعر بالسببية ".
فالبصير المحدق، والعارف المحقق، يبصر ويعرف بنور بصيرته عين عرفانه، أن جحود الجاحدين للحق بعد وضوحه، وريب المنكرين للقرآن عند سطوع نوره وإشراقه، وايقادهم نار الفتنة والعداوة بحرقة في صدورهم، وقساوة في قلوبهم، يذهب بهم طريق الأشرار، ويسلك بهم عن سبيل الأبرار. ويعذبهم في الآخرة بعذاب الكفار، ويجعلهم بقلوبهم وجلودهم وقود النار، التي كمنت فيهم أولا في حياتهم الدنيا، ثم قويت شيئا فشيئا بإذابة كبريت الشهوات، وإضافة قوة نار الحسد وضرام العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فتبرز غاية البروز، وتشتعل بهم غاية الاشتعال، فتبتدي من بواطنهم وقلوبهم، ثم تتعلق بظواهرهم وجلودهم، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، وهكذا يفعل الله بهم إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكذا القياس في سببية الإيمان والعمل الصالح من نفوس المؤمنين للارتقاء بها إلى عالم الأنوار، وجنة الأبرار، كما في قوله:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
[فاطر:10] فقلوبهم في مقاعد الصدق واليقين ساكنة، وأبدانهم في بساتين دار الحيوان سائرة، وهكذا يفعل الله بقلوبهم وبأبدانهم فعل صاحب المنزل بالضيف ودابته، حيث يقعده بقربه، ويسرح دابته في بستانه.
وطريقة أخرى:
ذكرها مشفوعة بالقسم، لقصور افهام الأكثرين عن فهم الدليل، فقال في سورة النحل:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون
[النحل:38]. وقال في [سورة] التغابن:
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم
[التغابن:7].
وطريقة أخرى:
أثبت امكان الحشر والنشر، بناء على كونه تعالى قادرا على أمور تشبه الحشر والنشر، وقد فرق الله تعالى هذه الطريقة على وجوه، أشملها وأجمعها ما جاء في سورة الواقعة، فإن المذكور فيها عدة من آيات المعاد، بعضها لدفع الشبه في استحالة وقوعه، كقوله حكاية عن الكفار وأصحاب الشمال:
وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون
[الواقعة:47] فهذه شبهة واحدة، وقوله:
أو آبآؤنا الأولون
[الواقعة:48]. شبهة أخرى، فأجابهم الله تعالى عن هاتين الشبهتين جميعا، تعليما لنبيه (صلى الله عليه وآله) بقوله:
قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم
[الواقعة: 49 - 50].
وقد بينا تقرير الشبهتين، وفسرنا الجواب مطابقا لكل منهما على وجه لم تبق معه ظلمة شك ولا رين، فليطلب من هناك.
وبعضها لإمكان جمع المتفرقات من أجزاء بدن الإنسان، كقوله تعالى:
أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون
[الواقعة:58 - 59].
وجه الاستدلال به - كما في التفسير الكبير للإمام الرازي - أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع، وهو كالطل المنبث في آفاق أطراف الأعضاء، ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع، ويجب غسلها كلها عن الجنابة لحصول الانحلال عنها كلها، ثم إن الله قد سلط قوة الشهوة على البنية، حتى انها تجمع تلك الأجزاء الطلية المتفرقة في أوعية المني.
فالحاصل، أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جدا أولا في أطراف العالم، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، منبثة في أطراف بدنه، ثم جمعها بقوة المولدة في أوعية المني، ثم أخرجها ماء دافقا إلى قرار الرحم؛ فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها، وكون منها ذلك الشخص، فإذا تفرقت بالموت مرة أخرى، فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى؟!
فهذا تقرير هذه الحجة في هذا المنهج، وأن الله ذكر هذا المنهج في مواضع من كتابه الكريم، منها في سورة الحج:
يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب
[الحج:5] إلى قوله:
وترى الأرض هامدة
[الحج:5]. وقال:
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور
[الحج:6 - 7].
وقال في لا أقسم:
ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى
[القيامة:37 - 38].
وقال في قد أفلح بعد ذكر مراتب الخلقة:
ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون
[المؤمنون:15 - 16].
وقال في الطارق:
فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من مآء دافق
[الطارق:5 - 6] إلى قوله:
إنه على رجعه لقادر
[الطارق:8].
أقول: ونحن بتأييد الله ونور توفيقه وإحسانه، قررنا آيات هذا المنهج على وجه أسد وأحكم، وأنور وأقوم، وأدل على سر المعاد وحشر الأجساد، كما سيأتي بيانه من ذي قبل، حيث يحين حينه إن شاء الله تعالى.
وبعضها للدلالة على قدرة الحكيم المريد، القدير على ما يشاء ويريد، كقوله:
أفرأيتم ما تحرثون * ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون
[الواقعة:3 - 64]. وقوله:
أفرأيتم المآء الذي تشربون * ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون
[الواقعة:68 - 69]. وقوله:
أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون
[الواقعة:71 - 72] ولكل منها وجوه من البيان ليس ههنا موضع ذكرها.
ووجه الإمام الرازي الإستدلال بالأول على هذا المطلب؛ بأن الحب وأقسامه - على اختلاف طبائعه وأشكاله - إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب، فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد، ثم إنه لا يفسد، بل يبقى محفوظا وينمو ويزداد، يغوص بأصوله وعروقه في أعماق الأرض ويصعد بأفنانه وأوراقه إلى جهات السماء، ثم يخرج ثماره وينتج أمثاله.
ووجه الإستدلال بالثاني؛ بأن الماء جسم ثقيل بالطبع، وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع، فلا بد من قادر قاهر يقهر الطبع، ويبطل الخاصية، ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول، وكذا الحكم في اجتماعها بعد تفرقها، وتسييرها بالرياح الهابة، وإنزالها في مظان الحاجة، والأرض الجرز - وكل ذلك يدل على جواز الحشر -.
ووجه الإستدلال بالثالث؛ بأن النار صاعدة بالطبع والشجرة هابطة؛ وأيضا النار لطيفة نورانية والشجرة كثيفة ظلمانية؛ وهي حارة يابسة، وهذه باردة رطبة؛ فإذا أمسك الله تعالى في داخل الشجرة تلك الأجزاء النورانية النارية، فقد جمع بقدرته هذه الأشياء المتنافرة، فإذا لم يعجز عن ذلك، فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها. وإنه تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة يس فقال:
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا
[يس:80]. - انتهى كلامه -.
ولا يعجبني شيء من هذه الوجوه التي ذكرها في بيان الاستدلال بتلك الآيات على المعاد، لأن مبناها على إثبات القدرة بإبطال الحكمة، والاستدلال على صحة موارد النقل بهدم قواعد العقل، وتبديل سنة الله في جريان الأشياء، وليس ذلك مما يليق بأهل البصيرة والتحقيق، بل الحكمة تقتضي البعث، والطبيعة تجري إلى غايات وتنتهي ببعض الأشياء - كالإنسان - إلى نشئآت، والحكماء الراسخون قد أثبتوا للطبائع غايات، وللأعمال مجازاة، وعليها مكافأة.
ولكل من الآيات المذكورة وجه وجيه حسن سنتكلم فيه إن شاء الله [تعالى].
والطريقة الرابعة:
قد هدى الناس فيها إلى حقية المعاد، بذكره مرتبا على ذكر المبدء، وهذا باب واسع لأهل الاستبصار في تحقيق أحوال المعاد من أحوال المبدء، لما حقق في مقامه، أن سلسلة ترتيب الأشياء بداية، كسلسلة ترتيبها نهاية، فبازاء كل مرتبة من مراتب إحداها، مرتبة نظيرته من الأخرى - على التكافؤ التعاكسي -، إذ الوجود كله كدائرة ينعطف على نفسه ويدور على أصله، فمن إحدى النشأتين تعرف النشأة الأخرى، وبأحد العينين ينظر إلى ما في الثانية بما في الأولى.
فلا تنظر - أيها الناظر في الأشياء - بالعين العوراء، كي تتجلى لك جلية الحال في أسرار المبدء والمآل، وتهتدي بنور الفطرة والهداية إلى تحقيق الأحوال، لا بنقل الأقوال في طي مراحل الجدال إلى ظلمات اسكندر الخيال.
وقد ذكر الله تعالى هذا النوع من الدلالة في مواضع من كتابه الكريم:
منها في البقرة:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون
[البقرة:28].
ومنها قوله في الإسراء:
وقالوا ءإذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة
[الإسراء:49 - 50] إلى قوله:
قل الذي فطركم أول مرة
[الإسراء:51].
ومنها في العنكبوت:
أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده
[العنكبوت:19].
ومنها في الروم قوله [تعالى]:
وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى
[الروم:27].
ومنها في يس:
قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة
[يس:79].
والطريقة الخامسة:
الاستدلال باقتداره على خلق السموات على اقتداره على حشر الأجساد وايجادها في النشأة الثانية.
ووجه الاستدلال بها؛ إن أقوى الشبه للمنكرين لاعادة الأجسام وبعثها يوم القيامة بعد فسادها ودثورها، أنهم يقولون: لا بد لكل كائن من مادة وحركة استعدادية، وسبق أسباب مادية، والله تعالى أزال هذا الوهم، بأن حدوث الأجسام قد يكون على سبيل التكوين من جسم آخر، ولا بد فيها من استحالة وحركة وقابل يتحرك في الكيفيات الاستعدادية، إلى أن يتلبس بالكامنة، وتنخلع عن الكائنة - كما قرروه -، وقد يكون على ضرب آخر لا من حركات المواد وتبدل الصور عليها بالإعداد والاستعداد، بل بمجرد جهات فاعلية؛ من تصور المبادي الفعالة وغير ذلك؛ ألا ترى أن تخيلك للحموضة يفعل صورة مائية في الفم، وتوهمك للوقاع يحدث في البدن مادة المني، وصدور الأجرام السماوية بموادها وصورها من عالم القدرة الإلهية بمجرد علمه تعالى وإرادته من هذا القبيل؛ وبذلك يرتفع الإشكال الوارد على حشر الأجساد في عالم آخر.
فإذا أراد الله ايجاد الآخرة، وإنشاء النشأة الآخرة، يأمر ملائكة الأجسام وأتباع إسرافيل بخلقها مرة أخرى عند القيام، بمجرد النفخ في الصور، فيحضرها يوم النشور بنفخة واحدة، من غير تجدد وتراخ بينها في الحضور، كما قال تعالى:
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون
[يس:53].
وهذه الطريقة مما ذكرها الله تعالى في مواضع عديدة في كتابه؛ منها في سورة الإسراء ومنها في يس. ومنها في الأحقاف:
أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى
[الأحقاف:33].
وفيه تنبيه على أن " الإعياء " إنما يحدث للفاعل، إذا كان فعله بالحركة، وبمعاونة جهات التغير والانفعال، وبمشاركة المادة، وعند تصادم جهتي الإرادة والطبيعة، وتعارض قوتي القابل والفاعل؛ وليس من هذا الباب فعل القوي القدير على ما يشاء ، الذي يفعل الأشياء ويخلق الأرض والسماء بالإرادة المحضة، من غير أن يتحرك بمعاونة الآلة والمادة حتى يلزمه الإعياء.
واعلم أن الفاعل باصطلاح الطبيعيين، ما هو يفعل بالحركة، وباصطلاح الإلهيين، ما يفعل على سنة الإنشاء والإبداع؛ وفاعل الطبيعيين عند هؤلاء يسمى بالمعد، ثم إن الله ينشئ النشأة الآخرة على طريقة الإبداع.
ومنها قوله:
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد
[ق:15].
الطريقة السادسة:
الاستدلال على البعث والحشر من جهة وجوب المجازاة، وإثابة المحسن وتعذيب العاصي، وتمييز أحدهما عن الآخر، ليتم عدل الله وحكمته في باب العباد، ولولا الحساب والعقاب، والجزاء والثواب، للزم الجور، وبطل العدل، وضاعت الحقوق عن أربابها، واستقرت الظلامات على أصحابها، ولم يبق فرق بين إحسان المحسن وإساءة المسيء؛ بل لكان النفع ضرا والضر نفعا، فإن الخير والإحسان في أكثر الأمر يوجب المشقة والمضرة، ونقصان القوة، وفوات المال واللذة بحسب الدنيا؛ والشر والإساءة على خلاف ذلك بحسبها؛ فلا بد من نشأة أخرى تقع فيها المجازاة على أعمال الناس، وانتقام المظلوم من الظالم، وايصال ذوي الحقوق إلى حقوقهم.
منها في يونس:
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط
[يونس:4].
ومنها في طه:
إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى
[طه:15]. ومنها قوله:
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى
[النجم:31].
ومنها قوله تعالى في سورة ص:
وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار
[ص:27 - 28].
وهذه الطريقة عند التحقيق، ترجع إلى طريقة إثبات الغايات للموجودات، فإن للأشياء الطبيعية غايات تتوجه إليها في حركاتها وانقلاباتها، وهي نهاياتها الذاتية، وتلك النهايات أيضا موجودات طبيعية تتوجه إلى غايات ذاتية أخرى، وهكذا لكل غاية غاية أخرى، حتى يحصل الانتقال من دار الزوال إلى دار القرار، ومن الطبايع إلى الحقائق - كل يرجع إلى أصله -، ومن الحركة إلى السكون، يومئد لا يتساءلون:
وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا
[طه:108]. ومن الخلق إلى الحق:
ألا إلى الله تصير الأمور
[الشورى:53]. ومن الظلم إلى العدل:
لا ظلم اليوم
[غافر:17]. ومن الاشتباه والتشابك إلى الامتياز والتفرق:
يومئذ يتفرقون
[الروم:14]. وأما اليوم فيتشابه فيه النقيضان، ويتشابك المختاصمان.
الطريقة السابعة:
الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحة الحشر والنشر في الأخرى، فمنها خلقة آدم ابتداء من غير مادة لأب وأم.
ومنها قصة البقرة في هذه السورة، وهي قوله:
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى
[البقرة:73].
ومنها قصة الخليل عليه السلام:
رب أرني كيف تحيي الموتى
[البقرة:260].
ومنها قوله تعالى:
أو كالذي مر على قرية
[البقرة:259].
ومنها قصة يحيى وعيسى عليهما السلام، فإنه استدل على إمكان وجودهما بعين ما استدل على جواز الحشر حيث قال:
وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا
[مريم:9].
ومنها قصة أصحاب الكهف حيث قال:
ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها
[الكهف:21].
ومنها قصة أيوب وهي قوله:
وآتيناه أهله ومثلهم معهم
[الأنبياء:84]. يدل على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا.
ومنها ما أظهر الله على يد عيسى عليه السلام من إحيا الموتى حيث قال:
وأحي الموتى
[آل عمران:49]. وقال:
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني
[المائدة:110].
ومنها قوله تعالى:
أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا
[مريم:67].
وهذه الطريقة أيضا، ترجع إلى أنه تعالى في اختراعه لما يريد، لا يفتقر إلى جهات المادة والاستعداد، والتحريك والإعداد، وليست فاعليته في وجود الآخرة كفاعلية الفواعل الناقصة، التي لا تؤثر إلا في حركات المواد والآلات بعد انتقال - يطرأ لذواتها الطبيعية والنفسانية - من ما تحتها من المتجددات.
فهذه أصول طرق الدلائل على حقية المعاد، وبعث العباد، وحشر الأجساد، وسيأتي الاستقصاء في كل طريق طريق عند ذكر آيات الحشر والإعادة.
ولا يخفى أن منكر البعث وإحياء الأموات وقيام الساعة، كافر عقلا ونقلا، أما من جهة العقل، فلإنكاره قدرة الله [تعالى] في معظم الأمور، وأشرف العالمين وإبقاء الكونين، وإنكاره النبوة والكتاب.
وأما من جهة النقل، فلقوله تعالى:
ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هذه أبدا
[الكهف:35] إلى قوله:
أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة
[الكهف:37].
فصل
قد وقع الاختلاف في أن الجنة والنار مخلوقتان، أم لا؟ وهذه الآية صريحة في كونهما مخلوقتين؛ أما النار فلأنه تعالى قال في صفتها:
أعدت للكافرين
[البقرة:24] وهذا صريح في وجودها.
وأما الجنة، فقال في آية أخرى:
أعدت للمتقين
[آل عمران:133]، وأيضا قوله ههنا { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } دال على وجودها، لأنه إخبار عن وقوع هذا الملك، وحصول الملك في الحال يقتضي وجود المملوك في الحال، فدل على أن الجنة والنار مخلوقتان.
وكذلك قوله تعالى:
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54]. يدل على وجود النار، ووجود النار دال على وجود الجنة، لعدم القول بالفصل.
قال الشيخ محيي الدين في الباب الحادي والستين من الفتوحات المكية في معرفة جهنم وأعظم المخلوقات عذابا فيها: " اعلم عصمنا الله وإياك - أن جهنم من أعظم المخلوقات، وهي سجن الله في الآخرة... وسميت جهنم لبعد قعرها، يقال: " [بئر] جهنام " إذا كانت بعيدة القعر، وهي تحوي على حرور وزمهرير، ففيها البرد على أقصى درجاته، والحرور على أقصى درجاته، وبين أعلاها وقعرها خمس وسبعون ومائة من السنين.
واختلف الناس في خلقها " هل خلقت بعد أم لم تخلق؟ " والخلاف مشهور فيها. وكذلك اختلفوا في الجنة، وأما عندنا وعند أصحابنا أهل الكشف والتعريف، فهما مخلوقتان، غير مخلوقتين.
فأما قولنا: " مخلوقة " ، فكرجل أراد أن يبني دارا، فأقام حيطانها كلها الحاوية عليها خاصة، فيقال: " قد بنى دارا " فإذا دخلها لم يرد إلا سورا دائرا على فضاء وساحة، ثم بعد ذلك ينشئ بيوتها على أغراض الساكنين فيها، من بيوت وغرف وسراديب ومهالك ومخازن، وما ينبغي أن يكون فيها مما يريد الساكن أن يجعل فيها من الآلات التي تستعمل في عذاب الداخل فيها.
وهي دار حرورها هواء محترق لا جمر لها سوى بني آدم والأحجار المتخذة آلهة، والجن لهبها، قال تعالى،
وقودها الناس والحجارة
[البقرة:24]. وقال:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء:98]. وقال تعالى:
فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون
[الشعراء:94 - 95]. وتحدث فيها الآلات بحدوث أعمال الجن والإنس الذين يدخلونها.
وأوجدها الله بطالع الثور، ولذلك كان خلقها في صورة الجاموس، هذا الذي يعول عليه عندنا، وبهذه الصورة رآها أبو الحكم بن برجان في كشفه، وقد تمثل لبعض أهل الكشف في صورة حية...
ولما خلقها الله كان زحل في الثور، وكانت الشمس والأحمر في القوس، وكان سائر الدراري في الجدي؛ وخلقها الله من تجلي قوله في حديث عنه: " جعت فلم تطعمني - الحديث "... ولا تكون الآلام فيها إلا عند دخول أهلها فيها، وإلا فلا ألم فيها في نفسها، ولا في نفس ملائكتها. ومن فيها من زبانيتها في رحمة الله منغمسون ملتذون، يسبحون لا يفترون.
فصل
" وبشر " عطف إما على الجملة السابقة، وليس انعطافه من جهة صورته وكونه أمرا حتى يطلب له مشاكل في الصورة من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المقصود عطف حال من آمن بالقرآن وعمل بمقتضاه، وكيفية ثوابه، على حال من كفر به وأنكر لما فيه، وكيفية عقابه، كما تقول: " زيد يعاقب بالقيد والضرب، وبشر عمرا بالعفو والاطلاق ".
وإما على قوله: " فاتقوا " ، كما تقول: " يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم " ، وذلك لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي، ظهر اعجازه، وإذا ظهر ذلك، فمن كفر به استوجب العقاب، ومن آمن استحق الثواب، وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء بالنار، ويبشر هؤلاء بالجنة.
وقرء زيد بن علي عليه السلام: " وبشر " - على صيغة المبني للمفعول - فيكون كلاما مستأنفا معطوفا على: " أعدت ".
والمأمور بفعل هذه البشارة هو الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو عالم كل عصر، أو كل من يقدر على البشارة، كما في قوله (صلى الله عليه وآله)
" وبشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة "
، ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة، تفخيما وتكريما لشأنهم، وايذانا بأن الأمر لعظمته وفخامة شأنه، حقيق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة.
وهو الخبر الذي يقتضي السرور ويظهر أثره في البشرة، ولذلك أفتى الفقهاء بعتق المخبر الأول من عبيد من قال لهم: " أيكم يبشرني بقدوم فلان فهو حر " فبشروه فرادى عتق أولهم، (لأنه هو الذي أفاد خبره السرور) ولو قال: " أيكم يخبرني " عتقوا جميعا.
ومنه " البشرة " لظاهر الجلد، وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه.
وأما قوله:
فبشرهم بعذاب أليم
[آل عمران:21]، فعلى التهكم والاستهزاء الزائد للمغتاظ، كما يقول الرجل لعدوه: " ابشر بقتل ذريتك ونهب مالك " ، أو على طريقة قوله: " تحية بينهم ضرب وجيع ".
ولأهل الإشارة فيه كلام، لا يجوز التصريح به لقصور الأفهام وشنعة اللئام.
فصل
قوله: { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } اللام فيها للجنس، وهي جمع " صالحة " ، وهي كالحسنة من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء، وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه؛ وتأنيثها على تأويل الخصلة، أو الخلة.
وعطف " العمل " على " الإيمان " ، دال على خروجه عن الإيمان، لثبوت التغائر بين المعطوف والمعطوف عليه، وإلا لزم التكرار كلا أو جزءا، وهو خلاف الأصل، والجمع بينهما مرتبا للحكم عليهما، إشعار بسببية مجموع الأمرين والشفع بين الخلتين لاستحقاق هذه البشارة، كسببية مجموع الوالدين والازدواج بينهما لحصول النتيجة، فإن الإيمان - الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق -، أس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناء بأس لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا مفردين.
واعلم أن قوام الروح الإنساني وإن كان بأصل الإيمان، لأن صورة ذاته إنما تتحقق بالعلم، وبه يصير خارجا من القوة إلى الفعل، لكن العمل الصالح يخلصه من العوائق، ويمحضه عن عذاب التعلقات، فلا بد للسعادة المطلقة من حصولهما جميعا.
ومن الناس من أجرى هذه الآية على ظاهرها فقال: " كل من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنة ". فإذا قيل له: " فما قولك فيمن كفر بعد ذلك؟ ". قال: " هذا ممتنع - لأن فعل الإيمان والطاعة يوجب استحقاق الثواب الدائم، وفعل الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال ".
وذكر في بيان الاستحالة وجوها ثلاثة عقلية ذكرها الإمام الرازي في تفسيره الكبير، ثم فرع ذلك على فساد القول بالإحباط، ثم أجاب الإمام الرازي فيه عن قوله بقولين:
" أحدهما: قول من اعتبر الموافاة، وهو أن شرط حصول الايمان أن لا يموت على الكفر، فلو مات على الكفر علمنا أن ما أتى به أولا كان كفرا. قال: " إن هذا قول ظاهر السقوط ".
وثانيهما: إن العبد لا يستحق على الطاعة ثوابا، ولا على المعصية عقابا - استحقاقا عقليا واجبا - وهو قول أهل السنة والجماعة، واختيارنا، وبه يحصل الخلاص عن هذه الظلمات ".
أقول: أنظروا معاشر المسلمين، هل يفعل الصديق الجاهل بصديقه ما يفعله هو وأهل سنته وجماعته بالكتاب والشريعة! وليته هو وأصحابه سكتوا عما سكت عنه الصحابة والتابعون، ولم يخوضوا في أعماق هذه المسائل الدينية، واكتفوا بالتقليد حتى يسلموا عن هذه المضائق التي لا جولان لأمثالهم فيها، ولا نجاة لأحد منها إلا بالعقل المستقيم أو القلب السليم، كما قال تعالى:
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
[الملك:10].
فالبصير السيار، يسلك سبيل النجاة بنور عينيه، وقوة قدميه، فيفوز بالغبطة الكبرى، والأعمى الزمن الذي له قائد وحامل، فهو على سبيل النجاة وطريق الخلاص، وهو أدنى إلى الخلاص وأقرب إلى النجاة من الأعمى الراجل، الذي لا قائد له، أو من البصير المقعد الذي لا حامل له، وهما جميعا أقربان إلى السعادة من الأعمى السيار الذي لا قائد له.
فالأول؛ مثال العالم العامل بعلمه، والثاني؛ مثال الجاهل المقلد المقتدي بغيره في العلم والعمل، والثالث؛ الجاهل الناقص في العمل، والرابع؛ العالم المقصر في العمل، والخامس؛ الجاهل الناسك بمقتضى جهله هذا، إذا كان الجهل بسيطا والسير حركة في الظاهر.
وأما إذا كان الجهل مركبا والسير حركة باطنية، فهو قسم سادس، هو أسوء الجميع، وهما جميعا ما شكى عنهما النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله:
" قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك "
كما مر ذكره.
واعلم أن القول ببطلان الاستحقاق العقلي ، وعدم الارتباط الذاتي بين الأشياء، وتمكين الإرادة الجزافية في الاعتقاد، كما زعمته الأشاعرة، واختاره هذا الفاضل المفسر في كتبه التي رأيناها، مما يؤدي إلى خلل عظيم في أركان الدين، وتزلزل في أكثر قوانين اليقين - بل كلها -.
لأن مبنى جميع البراهين في اثبات الأصول الإيمانية، والقواعد اليقينية، على إثبات العلة والمعلول، ولا أدري العاقل كيف يرضى عن نفسه القول بما ينهدم به أصل جميع أحكام العقل! ولعل مشايخ السلف، إنما ارتكبوا هذا المذهب حسما لمادة البحث مع الجهال، وغلقا لباب المقال مع من لا يزيده التعمق في وجوه الاستدلال على هذه المسائل إلا الغي والضلال.
وأما نحن، فبفضل الله وتوفيقه، وقد ورثنا من علمائنا وسادتنا وأئمتنا أهل بيت النبوة والولاية - سلام الله عليهم أجمعين -، من أنوار الهداية واليقين، ما يفي لانقشاع سحب هذه الظلمات عن شمس الحقيقة، وانجلاء حجب هذه الأوهام عن وجه البصيرة.
واعلم أن القول: " بأن الآتي بالايمان والعمل الصالح [فله الجنة] " مما له وجه وجيه - لو علم قائله بمعنى هذا القول -، وذلك لأن الإيمان الحقيقي عبارة [عن] اعتقاد يقيني حاصل بالبرهان، وكل اعتقاد يقيني حاصل بالبرهان، فهو غير قابل للزوال - كما تحقق في العلوم الحقيقية، من أن مقتضى البرهان الدائم، المؤلف من المقدمات الضرورية الدائمية، لا يزول ولا يتغير دنيا وآخره -، فالإيمان بالأركان نور عقلي يوجب أن تخرج به النفس الإنسانية من الظلمات إلى النور، ومن حد القوة إلى الفعل، ويدخل من دار الغرور وضنك القبور إلى دار النعيم والسرور.
فعلى هذا يمكن تأويل ما ذكره ذلك القائل - في جواب الاعتراض عليه في باب من أتى بالإيمان والطاعة ثم كفر -، من قوله: " هذا ممتنع، لأن فعل الإيمان والطاعة يوجب استحقاق الثواب الدائم، وفعل الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال " إلى الذي ذكرناه وبيناه.
ولكن الذي يظهر من الوجوه الثلاثة الذي ذكرها في بيان استحالة الاجتماع بينهما، يدل على أنه محجوب عن حقيقة هذا الأمر بمراحل، لكونه سالكا مسلك أهل الجدال وأرباب القيل والقال.
وأما الوجه الأول منها، فهو أن الاستحقاقين إما أن يتضادا، أو لا يتضادا؛ فإن تضادا، كان طريان مشروطا بزوال الباقي، وكان زوال الباقي معللا بطريان الطاري، فلزم الدور - وهو محال -، وإن لم يتضادا، فلا يضر طريان أحدهما لبقاء الآخر.
والجواب عنه بوجهين:
أحدهما: النقض بجميع أقسام المتضادين - كالسواد والبياض، والحرارة والبرودة وغيرهما - لجريان هذا الوجه فيهما.
وثانيهما: بالحل، وهو أن كل واحد من الإيمان والكفر قابل للشدة والضعف، لأن الإيمان نور في القلب يشتد ويضعف، وغاية ضعفه هو الاعتقاد الحاصل بالتقليد من غير برهان ولا بصيرة كشفية، وغاية قوته ما يصير حق اليقين بعد أن يكون علم اليقين وعين اليقين.
والكفر أيضا ظلمة قابلة للاشتداد والتضعف؛ هذا إن أريد به الاعتقاد المخالف للحق، كالاعتقاد بالشرك، وبمعبودية الأصنام والأوثان، وإن أريد به مجرد عدم الإيمان، فهو كسائر الأعدام غير قابلة للكمال، والنقص، وتقابله مع الإيمان يكون تقابل العدم والملكة.
فإذا تقرر هذا، فقوله: " والجمع بينهما محال " ، إن أراد به الجمع بينهما في آن واحد، فهو مما لا خلاف لأحد فيه، ولا تحتاج دعوى الاستحالة إلى ما ذكره من الوجوه الثلاثة، لأنهما إما متضادان، أو متقابلان تقابل الملكة والعدم.
وإن أراد به الجمع بينهما في ذات واحدة - وإن لم يكن في آن واحد -، فما ذكره لا يدل على استحالة التعاقب بينهما، فإن أحدهما إذا ضعف شيئا فشيئا حتى انمحى أو بطل دفعة - إما بزوال أسباب الحصول تدريجا أو دفعة -، أمكن طريان الآخر - سواء كان الآخر عدميا كالجهل البسيط من ضربي الكفر، أو وجوديا كالجهل المشفوع بالعناد والاعتقاد المخالف للحق منهما، سيما إذا قوي الآخر أيضا تدريجا أو دفعة بحصول سببه القوي، أو تراكم أسبابه الضعيفة وعلله الناقصة حتى صارت تامة كاملة -، وهكذا الحال في تعاقب كل متضادين أو متقابلين تقابل الملكة والعدم في موضوع واحد.
وأما الوجه الثاني: فهو أن المنافاة حاصلة من الجانبين، فليس زوال الباقي بطريان الطاري أولى من اندفاع الطاري بقيام الباقي؛ فإما أن يوجدا معا - وهو محال -، أو يتدافعا، فحينئذ يبطل القول بالمحافظة.
والجواب، باستبانة ما مر من احتمال الشدة والضعف فيهما، فالأشد يقهر الأضعف ويدفعه، فالقول بعدم الأولوية لأحدهما في دفع الآخر عن الآخر في دفعه، ممنوع، فلا يلزم وجودهما معا، ولا تدافعهما معا.
وأما الوجه الثالث: فهو يجري مجرى الأولين اشكالا وانحلالا - فلا نطول الكلام بذكرهما -.
فصل
قوله: " أن لهم " منصوب بنزع الخافض وافضاء الفعل إليه، أو مجرور باضماره مثل قولك: " الله لأفعلن ".
و " الجنة ": البستان، وأصله المرة من " الجن " ، وهو مصدر " جنة " إذا ستره، والتركيب دائر على معنى الستر كالجن، والجنان، والأجنة، والجنة؛ فإن كلها غير منفكة عن الاستتار والاحتجاب. سمي بها البستان من النخل والشجر، والمتكاثف المظلل لالتفاف أغصانه، ودار الثواب، لما فيها من الجنان، ولاستتارها وما أعد الله فيها للبشر في الدنيا عن الأبصار والحواس، كما قال تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة:17].
فإن سألت: لم نكرت وجمعت " الجنات " وعرفت " الأنهار "؟
نجيبك: أما عن الأول، فبأنها اسم لدار الثواب، وهي مشتملة على جنات كثيرة مترتبة على استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنة منها.
وهي كما ذكره ابن عباس سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعلييون.
وفي كل واحدة منها أيضا مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال.
وأما عن الثاني: فبأن المراد من الأنهار جنسها، كما يقال: " لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب " ، والمراد منها الأجناس التي في علم المخاطب.
أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله:
أنهار من مآء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه
[محمد:15] - الآية - وهي التي قيل إن أمثلتها في الدنيا النيل والفرات والسيحون والجيحون، كما وقعت الإشارة إليه في الحديث.
" من تحتها ": أي من تحت أشجارها، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها، فإن أعيان أمور الدنيا أمثال وأشباح لما في الآخرة من الأعيان، وكذا القياس في النسب والأوضاع كما يقتضيه التطابق بين العالمين.
وأنزه البساتين منظرا ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة، بل لا تبهج الأنفس تمام البهجة، ولا تسرها أوفر السرور، حتى يجري فيها الماء، وإلا كانت أشجارها كتماثيل لا أرواح فيها، وأعيانها كصور لا حياة فيها، ولذلك ما جاء الله بذكر الجنات إلا مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها، كأنهما متصاحبين في الوجود، متقارنين في التصور.
وعن مسروق: " إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود " ، هذا هو الحق المكشوف، لأن الحاجة إلى الأخاديد منشأها الثقل الطبيعي والميعان لهذا الماء، والثقل منتف عن مياه الجنة.
و " النهر " - بفتح النون وسكون الهاء أو فتحها وهو الغالب -، المجرى الواسع، فوق الجدول ودون البحر، والتركيب للسعة، والمراد بها ماؤها على طريقة الاضمار أو المجاز، أو نفسها؛ فيكون التجوز في إسناد الجري إليها كما في: " سال الوادي ".
إشارة:
ولأهل الإشارة أن يحملوا الأنهار الجارية، على القوى الحيوانية الموجودة في الأجسام الحية المستمرة الحياة ما شاء الله - كالأفلاك والكواكب -، فإن قواها الحيوانية لما كانت سارية في أجسامها، متجددة الوجود، متعاقبة الكون حسب تجدد أزمنتها وأوقاتها، فهي شبيهة بالمياه الجارية لتجددها ومنشئيتها للحياة، فيكون الغرض من ذلك، أن لهم جنات هو فوق سماء هذا العالم وكواكبها وقواها التي هي منشأ حياة الكائنات.
فصل
قوله: { كلما رزقوا منها من ثمرة } إما صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة؛ والغرض فيه رفع الاشتباه عن قلب السامع في جنة، بعد ما قرع سمعه وصفها الأول المشابه لجنات الدنيا وأشجارها التي تجري تحتها الأنهار، فكأنه لما ذكر الوصف الأول، اختلج بباله ووقع في خلده أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا، فأزيح بذلك.
والمعنى: كل حين رزقوا مرزوقا مبتدء من الجنان، مبتدء من ثمرة قالوا: هذا.
و " كلما " منصوب على الظرفية، و " رزقا " مفعول به، و " من " الأولى وكذا الثانية واقعة موقع الحال؛ قيد " الرزق " بأولوهما وأولاهما بثانيتهما، فصاحب الحال الأولى " رزقا " ، وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الأولى.
وليس المراد ب " الثمرة " التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار، ويحتمل أن تكون الثانية بيانا لها كما في قولك: " رأيت منك أسدا تريد " أنت أسد " ، فيراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة.
وقوله تعالى: { هذا الذي رزقنا } في صحته ثلاثة وجوه:
أحدها: إن " هذا " إشارة إلى نوع ما رزقوا، كقولك مشيرا إلى نهر جار: " هذا الماء لا ينقطع " ، لا تريد به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب الجزئيات والأمثال، وإن كانت الإشارة إلى عينه، لكن يراد بها نوعه، ووحدته النوعية واستمرارها، لا ينافي كثرته العددية وتجددها.
وثانيها: إنه لما اتحدا في الماهية - وإن تغايرا بالعدد - صح أن يقال: " هذا هو ذاك " فإن الكثرة العددية للأشخاص، لا تنافي اتحادها معنى وحقيقة.
وثالثها: إنه لما اشتدت المشابهة بين ما رزقوا منها وبين ما رزقوا من قبل، صح لهم هذا القول، كما تقول فيمن تشتد مشابهته لأبيه: " إنه الأب ".
ثم اختلفوا في أن المتحد به أو المشبه به الذي كان: " رزقهم قبل ذلك " هل هو من أرزاق الدنيا أم من أرزاق الجنة؟ والقول الأول هو عن ابن عباس وابن مسعود، والثاني عن الحسن وواصل وأبي عبيدة ويحيى بن كثير.
إلا أن الحسن وواصل وجها الآية بأن معناها: هذا الذي رزقناه من قبل في الجنة كالذي رزقنا؛ وهم يعلمون أنه غيره، ولكنهم شبهوه به في طعمه ولونه وطيبه وجودته.
وإن الثانيين وجهاها؛ بأن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها، فيشتبه الأمر عليهم فيقولون: هذا الذي رزقنا من قبل، كما روى أنه - عليه وآله السلام - قال
" والذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها، فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها ".
وأسد القولين قول ابن عباس وابن مسعود - وهو أن المرزوق السابق من أرزاق الدنيا - بوجهين:
أحدهما: ما نقل عن شيخ الطائفة الإمامية أبي جعفر - رحمه الله - أنه قال طباقا لغيره من علماء التفسير، إن قوله: " كلما رزقوا منه " عام يتناول جميع المرات، فيتناول المرة الأولى، فهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة لا بد وأن يقولوا: { هذا الذي رزقنا من قبل } ، ولا يتأتى لهم هذا القول في أول ما أوتوا به، إلا أن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا.
وثانيهما: إن الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عن طبعه، ثم إذا ظفر بشيء من نوع معهوده ومألوفه على وجه أشرف وأبهى مما ألفه، عظم ابتهاجه وسروره، فأهل الجنة إذا أبصروا ما ألفوه في الدنيا ثم وجدوه أشرف وأبهى، كان فرحهم به أشد وأعظم.
ثم القائلون: بالقول الثاني اختلفوا، فمنهم من يقول: الاشتباه يقع في المنظر والمطعم وغيرهما، ومنهم من يقول: الاشتباه وإن حصل في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم، كما حكي عن الحسن: إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى، فيقول الملك " كل - فاللون واحد والطعم مختلف ".
هداية:
واعلم إن في تحقيق الآية طريقين آخرين، أحدهما مسكل الحكماء ذوي الإعتبار، والثاني مسلك أهل الكشف والاستبصار.
فمعناها على لسان الحكمة، أن السعادة القصوى ليس إلا في معرفة ذات الله عز وجل، ومعرفة صفاته، ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والروحانية، وطبقات الأرواح وعالم ملكوت السموات والأرض؛ وبالجملة، بحيث يصير روح العارف كمرآة مجلوة يحاذي بها لعالم القدس.
ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا، ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج، لكون العلائق البدنية عائقة عن ظهور تلك السعادة واللذة، فإذا زالت هذه العوائق، حصلت السعادة الكبرى والغبطة العظمى، لأن المعرفة انقلبت مشاهدة، والعلم صار عيانا.
فحينئذ نقول: كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت، فيقول هذه هي التي كانت حاصلة لي في الدنيا، لكن اشتدت لذتها في الآخرة لما اشتد وجودها ظهورا لزوال العائق.
ومعناها على لسان أهل الكشف: أن جميع ما في الدنيا من الثمار وغيرها، هي قشور وقوالب وأمثلة لما في الآخرة، وما في الآخرة لبوب وحقائق لما في الدنيا، لتطابق العوالم بعضها لبعض، وتحاذيها حذو النعل بالنعل.
ولما كان وجود الصور المحسوسة التي في الدنيا هي بعينها مبادي حضور الصور التي يدركها الإنسان في باطنه وخياله - لما تقرر أن فاقد الحس لشيء فاقد التصور له -، والإنسان إذا أدرك واختبر لذات هذا العالم ثم زهد فيها - أو تناولها بقدر الحاجة ولم يسرف -، حصلت في نفسه بواسطة التقوى قوة عظيمة، يكاد بها أن يحضرها عند نفسه متى شاء، لكن القوة غير شديدة ما دام كونه في هذا العالم وشواغله، فإذا خرج عن هذا العالم، وزال العائق، يجد في الآخرة ما تشتهي نفسه وتلذ عينه لقوة الشهوة وشدة الرغبة، وكون الافاضة والرحمة من الله مبذولة والعوائق مرتفعة؛ فكل ما اشتهاه في الدنيا، يجده مرزوقا عنده في الآخرة فيقول: { هذا الذي رزقنا من قبل }.
فهذا المسلك لإثبات الجنة الجسمانية، والأول لإثبات الروحانية؛ والأولى جنة العلوم، والثانية جنة الأعمال؛ والأولى للروح العقلي، والثانية للنفس العملية.
قوله تعالى: { وأتوا به متشابها } موقعه موقع الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير، كقولك: " نعم ما فعل زيد ورأى وكان صوابا " تصديقا لرأيه.
والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدنيا والآخرة، والمرجع نوع المدلول عليه بقوله: { هذا الذي رزقنا من قبل } ، أو شخصه من حيث الماهية، ونظيره قوله تعالى:
إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما
[النساء:135]. أي بنوعي الغني والفقير؛ وعلى الثاني إلى الرزق.
ولقائل أن يقول: التشابه هو التماثل في الكيفية والصفة، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا وثمرات الآخرة، كما قال ابن عباس: " ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء ".
فنقول: الاشتراك حاصل بينهما في الماهية المشتركة مع التفاوت العظيم في الشرف والخسة، والقوة والضعف، فإن ما في الدنيا خسيسة الوجود ضعيفتها، لاقترانها بالمادة، وتلوثها بأرجاسها وأخباثها، وما في الآخرة شريفة الوجود قائمة بفاعلها - لا بمادتها -، مطهرة عن ألواث الأرجاس وأدناس الأخباث، والاشتراك في الماهية مناط الإسم، وهو كاف في اطلاق التشابه.
وبالجملة، الحقيقة الوجودية مختلفة بينهما كما قال ابن عباس، والماهية مشتركة بينهما، وهو كاف لإطلاق الإسم وثبوت التشابه.
وقيل: " التشابه بينهما حاصل في الهيئة التي هي مناط الإسم - دون المقدار والطعم " ، وفيه ما فيه! فإن الأسامي للمعاني والماهيات - لا للأشكال والهيئات -.
وههنا وجهان: الأول عقلي والآخر كشفي:
أما الأول: فهو أن السعادة عند الحكماء على ضربين: الحقيقية المحكمة، والظنية المتشابهة. فالسعادة الحقيقية، عبارة عن الاتصال بالعقليات الدائمة، ومجاورة الحق الأول، والخير المحض، وملائكته المقربين النازلين في مقاعد الصدق ومنازل القدس، والسعادة الظنية، هي التلذذ بالشهوات، والتنعم بنعم الجنات؛ وتلك اللذات الحيوانية الموجودة في دار الحيوان، وجنة النفوس من الإنسان، هي أشباه اللذات الحقيقية الموجودة في عيون الحياة ومنابع الخيرات وينابيع السعادات؛ والأولى للمقربين، والثانية لأصحاب اليمين.
فالمذكور ههنا ما لأصحاب اليمين من مواريث أعمالهم الصالحة، وهي أشباه ما حصلت للمقربين؛ ولهذا قال: { وأتوا به متشابها } أي بما في عالم القدس.
وأما الثاني: وهو أن مستلذات أهل الجنة، في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من الثمرات المتفاوتة في الطعم واللذة، من جهة تفاوتها في النضج وعدمه، وفي الصحة والفساد، والسلامة والآفة، ومن جهة تفاوت حال الأكل، وتغير مزاجه وأحواله وشهوته ونفرته وغير ذلك - وهذه كلها منتفية في الجنة عن الآكل والمأكول -، فيكون المراد من تشابهها: تماثلها في الشرف والمزية، وعلو الطبيعة وشهوة الأكل وقوته.
ويحتمل أيضا أن يكون المراد من: { هذا الذي رزقنا من قبل } ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات، والمراد ثوابه - على حذف المضاف -، ويكون تشابهها، تماثلها في الشرف وعلو الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله:
ذوقوا ما كنتم تعملون
[العنكبوت:55]، في الوعيد.
وستجيء آيات وأنوار مشرقة، ينكشف بأنوارها وإشراقاتها أن جميع ما يتنعم به الإنسان في الجنان، أو يتعذب به في النيران، هي نتائج الأعمال وغاياتها، وثمرة الأخلاق والملكات ونهاياتها.
فصل
قوله [تعالى]: { ولهم فيهآ أزواج مطهرة } أي مما تتلوث به النساء وتتدنس من أحوالهن وأقذارهن - كالحيض، والنفاس، وكثافة الطبع، وسوء الخلق والرذالة -، فإن التطهر، كما يستعمل في الأجسام عن الأخباث والأقذار، يستعمل أيضا في النفوس عن الخبائث والسيئات والأنجاس الإعتقادية - كالكفر وأمثاله -، وحمل اللفظ على المعنى الشامل للقسمين أولى.
قال أهل الإشارة: الآية دالة على وجوب التوبة لوجوه:
أحدها: إن المرأة إذا حاضت، نهاك الله عن مباشرتها بقوله:
قل هو أذى فاعتزلوا النسآء في المحيض
[البقرة:222]. فإذا منعك عن مباشرتها لنجاستها التي هي معذورة فيها، فإذا كانت الأزواج اللاتي في الجنة [مطهرات] فلأن يمنعك عنهن حال كونك متلوثا بنجاساتك المعاصي مع أنك غير معذور فيها، كان أولى.
وثانيها: إن من قضى شهوته من الحلال، فإنه ممنوع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر، فمن قضى شهوته من الحرام، كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون، ولذلك لما أتى آدم عليه السلام ما أتى أخرج منها.
وثالثها: إن من كان على ثوبه [ذرة] من النجاسة لا تصح صلاته، فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي، كيف تقبل صلاته ويصح ذكر الله منه.
حكاية:
عن مالك بن دينار، أنه كان رأى في أزقة البصرة جارية من جواري الملوك ومعها الخدم، قال: " أيبيعك مولاك "؟ فضحكت، وأمرت به أن يحمل إلى دار مولاها؛ فأخبرته. فضحك، وأمر أن تدخل به إليه، فلما دخل، ألقيت له الهيبة في قلب السيد، فقال: " ما حاجتك؟ " قال: " بعني جاريتك ".
قال: أوتطيق إذا ثمنها؟ قال: قيمتها عندى نواتان مسوستان. فضحكوا وقالوا: كيف؟
قال: " لكثرة عيوبها، فإنها إن لم تتعطر زفرت، وإن لم تستك بخرت، وإن لم تتمشط وتدهن قملت وشعثت، ذات حيض وبول وأقذار، وحزن وغم وأكدار، ولعلها لا تودك إلا لنفسها، ولا تحبك إلا لتنعمها؛ لا تفي بعهدك، ولا تصدق في ودك، وأنا أجد بدون ذلك الثمن جارية خلقت من سلالة الكافور، ومن المسك والجوهر والنور، لو مزج بريقها أجاج لطاب، ولو دعي بكلامها ميت لأجاب، ولو بدا معصمها للشمس لأظلمت دونه وكسفت، ولو بدا وجهها في الظلمات لأنارت به وأشرقت، ولو واجهت الآفاق بحليها وحللها لتعطرت بها وتزخرفت، لا تخلف عهدها، ولا تبدل ودها؛ فأيهما أحق برفع الثمن؟ ".
قال السيد: " التي وصفت، فما ثمنها؟ ".
قال: " اليسير المبذول لنيل الخطير المأمول، ركعتان تخلصهما لربك والليل داج، وترفع همك عن دار الغرور ".
فقال الرجل: " يا جارية - أنت حرة لله، وضيعة كذا وكذا صدقة عليك، وسائر الضياع والخدم وجميع مالي صدقة في سبيل الله "؛ ولبس خشنا ساترا.
فقالت الجارية: " لا عيش بعدك "؛ لبست خشنا وخرجت معه، فودعهما ابن دينار ودعا لهما، وأخذ طريقا وأخذا، فتعبدا جميعا حتى جاءهما الموت راجعين إلى الله تعالى.
إشارة أخرى على لسان أهل المعرفة:
وهو أن نسبة النفوس إلى الأرواح العلوية، نسبة الزوجات إلى الأزواج، وكنسبة حوا إلى آدم عليهما السلام، فقوله تعالى: { أزواج مطهرة } أي للأرواح المقدسة الكاملة في العلم والعمل، المتحلية بفضيلة الإيمان والإصلاح، والنفوس المطمئنة الساكنة في مقعد القدس، نفوس مطهرة عن كثائف الأبدان، ونقائص الحدثان، سائحة في جنات الأعمال، سائر في رياض الرضوان.
و " الزوج ": يقال للذكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه، كزوج الخف، واطلاقه على أحدهما كما في قوله تعالى:
فيهما من كل فاكهة زوجان
[الرحمن:52]، من جهة أن لكل منهما مدخلا في الزوجية، وكان له حصة منها، وكذا المتممان في كل من أفلاك السيارات، إذ لكل منهما دخل في التتميم.
وقرئ: " مطهرات " ، بدل " مطهرة " ، وكلتاهما فصيحتان، يقال: " النساء فعلت " و " فعلن " و " هي فاعلة " و " فواعل " ، فالجمع على اللفظ، والإفراد على تأويل الجماعة.
وقرئ: " مطهرة " ، بمعنى " متطهرة " ، والأولى أبلغ منها ومن " الطاهرة " ، للإشعار بأنها مطهرات بتطهير الله عز وجل على وفاق قوله تعالى:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا
[الأحزاب:33].
فصل
في قوله [تعالى]: { وهم فيها خالدون }
واعلم أن الذين يريدون أن يقتنصوا حقائق المعاني من الألفاظ والمباني، اختلفوا في معنى الخلود، " هل هو بمعنى الزمان الممتد مطلقا، أو بمعنى الدوام المؤبد ".
فالمعتزلة على أنه بمعنى الثبات اللازم، والبقاء الدائم الذي لا ينقطع، مستدلين بقوله تعالى:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد
[الأنبياء:34]. فنفى الخلد عن البشر مع تحقق العمر الطويل لبعضهم، فالمنفي غير المثبت.
والأشاعرة على أنه بمعنى الثبات المديد - دام، أم لم يدم - واحتجوا بقوله [تعالى]:
خالدين فيهآ أبدا
[النساء:57]. ولو كان التأبيد داخلا في معنى الخلود، لكان ذلك تكرارا؛ ولذلك قيل للأثافي والأحجار " خوالد " ، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيا " خلد " ، ويستعمل أيضا فيما لا دوام له، كقولهم: " وقف مخلد " ، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، ولا يلزم شيء منهما إذا كان موضوعا للأعم فاستعمل في الأخص، من جهة اندراجه تحت الأعم، كاطلاق الجسم على الإنسان.
والمراد به ههنا المعنى الأخص، لدلالة الآيات والأخبار وشهادة العقل على أنه بمعنى الدوام الذي لا ينقطع، وإلا لكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة، وكلما كانت النعمة أعظم كان خوف انقطاعه أشد، فيلزم أن لا ينفك أهل الثواب البتة عن الغم والحسرة؛ والجهل بسوء العاقبة أو عدمها غير جائز عليهم، لأن الدار دار اليقين لا دار الشك والتخمين - فضلا عن اعتقاد خلاف الحق -.
واعترض ههنا: بأن الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية، معرضة للاستحالات والانقلابات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال، فكيف يعقل خلودها في الجنان؟
وأجاب بعضهم عنه: بأنه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة، ولا يعتورها الانفساد، بأن يجعل أجزاءها متقاومة في الكيفية متساوية في القوة، لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر، متعانقة لا ينفك بعضها عن بعض، كما يشاهد في بعض المعادن.
وهذا الجواب في غاية الضعف، فإن تجويز كون الأجزاء العنصرية غير قابلة للاستحالة والانقلاب، خروج بها عن طبائعها الأصلية، واستحكامها في المزاج - كبعض المعدنيات - لا يفيد التأبيد، والتساوي في الكيفية والقوة بحسب الاعتدال الحقيقي - على تقدير إمكانه وحدوثه -، مما يستحيل بقاؤها أبدا لتناهي الأفاعيل والانفعالات القوى الجسماينة - كما برهن في مقامه -، لا سيما وقد حققنا في موضعه أن الجواهر الطبيعية المادية كلها لازمة السيلان والتجدد، غير منفكة عن الانتقال والحدثان في كل آن بحسب جوهرها وطبيعتها، كما في قوله [تعالى]:
وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب
[النمل:88].
نعم؛ يمكن دوامها من جهة الإمداد العلوي والايجاد الفاعلي، إمدادا بعد إمداد، وايجادا بعد ايجاد.
والحق أن الحافظ للمزاج - أيضا -، والمديم لأجزاء المركب عن التبدد والافتراق ، ليس صور تلك الأجزاء، كلا، لأنها متداعية إلى الانفكاك، مقتضية للحركة إلى أحيازها الطبيعية، وإنما هي مجبورة بقسر قاسر، وجبر جابر سلطه الله عليها، يجبرها على الالتيام، ويمنعها عن الافتراق والانهزام، وهي صورة، أو نفس، أو ملك جسماني متعلق بها، حافظ لها ومبق إياها - لا بالعدد، بل بالنوع -، ونوعيتها وتجددها العددي، لا ينافي شخصية المركب وبقائه بالصورة، لأن مناط الشخصية بالصورة لا بالمادة.
فالحيوان - مثلا -، بدنه في التحلل والذوبان، لعكوف الحرارة الغريزية والغريبية، ونار الطبيعة على تحليلها وإذابتها ما دامت حياته، ومع ذلك شخصيته باقية تلك المدة بالصورة الحيوانية، وهي نفسه أو أمر آخر؛ لكن الفاعل المديم، إن كان أمرا قائما بالجسم في وجوده أو في فاعليته، فلا يمكن دوامه بالشخص - وإلا فيمكن -، ولهذا يجب الحشر فيما يحتمل البقاء من النفوس.
فالصواب أن يقال في كيفية بقاء الأبدان الأخروية، وصيرورة هذه تلك مع انحفاظ الشخصية بالعدد: إن العبرة في ذلك بالنفس - لا بالبدن -، فالنفس باقية، حافظة للبدن.
أما في الدنيا فبإيراد البدل عليه، لانضياف الأجسام الغذائية إليه.
وأما في الآخرة، فبإنشاء النشأة الآخرة بمجرد التصورات والجهات الفاعلية، فإن إنشاء الجسم وتصويره - لا عن مادة وحركة بل بمجرد التصور -، من ديدن القوى المجردة، فإن وجود الأفلاك عن مباديها من الملائكة الفعالة بإذن الله، من هذا القبيل، وكذا الحكم في ما تحضره نفس الإنسان في عالم باطنه وغيبه من الأجسام العظيمة، والأشكال العجيبة التي لم تعهد من هذه الأجساد، والبساتين النزهة التي لم يخلق مثلها في البلاد، فإن جميعها حصلت من جانب الفاعل بلا مشاركة القابل.
وسينكشف لك إنشاء الله، سر المعاد وحشر الأجساد على وجه لم يبق لأحد فيه مجال الشك والارتياب، ويزول به التشوش في الكلام والاضطراب.
والحق، أن قياس أمور الآخرة وأحوالها، على ما يجده الإنسان ويشاهده من هذا العالم، من نقص العقل، وقصور الحكمة، وضعف البصيرة - والله أعلم -.
تتمة:
لما كان معظم اللذات الحسية المساكن والمطاعم والمناكح، وكان ملاك السرور بها كلها الدوام وعدم الإنصرام - وإلا لكانت منغصة غير صافية عن شوائب الآلام بالتمام -، بشر الله المؤمنين بالجنان، وبما رزقوا فيها من المطاعم والمناكح، وآمنهم من خوف الفوات بوعد الخلود زيادة في البشارة، وتكميلا لبيان السعادة.
[2.26]
لما أثبت الله حقية القرآن وإعجازه بالدليل، ووقع الايعاد للمنكرين له، والوعد للمؤمنين به على أتم وجه وأبلغه، أراد أن يشير إلى رد شبه الكافرين والمنافقين في ذلك " وهي أن ذكر الأشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء، فالقرآن لاشتماله عليها - كالنحل والذباب والعنكبوت والنمل -، لا يكون فصيحا - فضلا عن كونه معجزا -.
فأجاب: بأن الحقارة لا تنافي التمثيل بها، إذ الشرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة، والشرف والخساسة، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال، لأن الغرض الأصلي منه ايضاح المعنى المعقول، وإزالة الخفاء عنه، وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه، فإن العقل الإنساني ما دام تعلقه بهذه القوى الحسية، لا يمكنه إدراك روح المعنى مجردا عن مزاحمة الوهم ومحاكاته، لأن من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.
ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم، وصحف الأوائل ومسفوراتهم - سيما في العلوم الهندسية -، تتميما للتخيل بالحس، فهناك يضاعف في التمثيل، حيث يمثل أولا المعقول بالمتخيل، ثم يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل.
ونحن نرى الإنسان، إذا ذكر معنى وحده، أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، فإذا ذكر التشبيه معه، أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل، وذلك لأن من طبع الخيال المحاكاة، فلا يلوح معنى كما ينبغي إلا إذا ذكر مع المثال الصحيح.
وهذا مما لا تخفى استقامته ولا تغبى صحته على من به أدنى مسكة، لكن ديدن المحجوج المبهوت، والمحجوب المقطوع عن عالم الملكوت، لفرط الحيرة والعجز، يعول على المكابرة حيثما ينضغط في مضائق المغالطة لدى المناظرة أن يدفع الواضح المستقيم، لسوء فهمه، وآفة طبعه السقيم.
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الطبع السقيم
فليس بمستنكر من الله سبحانه أن يمثل الحقير بالحقير، كما يمثل الخطير بالخطير، وإن كان الممثل بالمحاكي أعظم من كل عظيم، بل لغاية عظمته يحيط بالصغير كما يحيط بالعظيم، ولا يعزب عن عمله ذرة واحدة مما في الأرض والسماء، ودقيقة من دقائقها، كما لا تعزب عنه عظائم الأشياء وجلالها؛ لأنه مع كل شيء لا بمزاولة، وغير كل شيء لا بمزائله، وهو أعلى من كل عال في علوه، وأدنى من كل دان في دنوه، فلا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها في الحقارة والقلة.
فمن زعم أن التمثيل بهذه الأشياء الحقيرة، لا يليق بالله، فذلك لجهله بالأحكام الإلهية، والأوصاف الربوبية، ورحمته الواسعة، لأنه تعالى هو الذي خلق بحكمته الكبير والصغير، ورحمته في كل ما خلق وبرء عام لأنه أحكم جميعه، وليس الصغير أخفى وأخف عليه من العظيم، ولا العظيم أجلى له وأصعب عليه من الصغير، بل الكل بمنزلة واحدة.
فليس الكبير أولى بأن يضرب به مثلا - كالفيل والبعير - إذا كان الأليق بحال الممثل له تمثيله بالحقير - كالذباب والعنكبوت -.
فإن كان المراد تقبيح عبادة الكفرة للأصنام، وعدولهم عن عبادة الرحمن، صلح أن يضرب لها المثل بالذباب في عدم اقتدارهم على دفع المضرة عنهم، وببيت العنكبوت في وهن عقائدهم الباطلة، وضعف أصولهم الفاسدة؛ وفي هذا المقام، كلما كان المضروب به المثل أضعف، كان المثل أقوى وأحكم.
وقد ضرب الله الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة، فمثل غل الصدور بالنخالة، والقلوب القاسية بالحصاة، ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير، ومثل بالزوان - وهو حب يخالط البر -، وبالخردل والمنخل والأرضة والدود.
قال تعالى: " مثل ملكوت السماء، كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلما نام الناس، جاء عدوه فزرع الزوان، [فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان] فقال عبيد الزارع: يا سيدنا، أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟.
قال: بلى. قالوا: فمن أين هذا الزوان؟
[قال لهم: هذا فعل العدو. قالوا: أتريد أن نذهب ونقلع الزوان ؟] قال: لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه الحنطة، دعوهما يتربيان جميعا [حتى الحصاد] فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة، وأن يربطوه حزما، ثم يحرق بالنار، ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن.
وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة، وهو أبو البشر، والقرية هي العالم، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله، والعدو الذي زرع الزون هو إبليس، والزوان: المعاصي التي زرعها إبليس وأصحابه، والحصادون هم الملائكة، يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية.
وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار، كذلك رسل الله وملكوته، يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم، فيلقونهم في أتون الهاوية، فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كان له أذن تسمع فليسمع ".
قال: " وأضرب لكم مثلا آخر يشبه ملكوت السماء: إن رجلا أخذ حبة خردل - وهي أصغر الحبوب -، فزرعها في قرية، فلما نبتت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول، وجاء طير من السماء فعشش في فروعها، فكذلك الهدى، من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره، ونجا به من اهتدى ".
وقال: " لا تكونوا المنخل، يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، كذلك أنتم، تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ".
قال: " قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار، ولا يلينها الماء، ولا تنسفها الرياح ".
وقال: " لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها. ولا في البرية حيث اللصوص والسموم، فتسرقها اللصوص، وتحرقها السموم. ولكن ادخروا ذخائركم عند الله ".
وقال: " تحفر، فتجد دوابا عليها لباسها، وهناك رزقها وهن لا تغزلن ولا تحصدن، ومنهن ما في جوف الحجر الأصم، أو جوف العود، ومن يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله - أفلا تعقلون ".
وقال: " لا تثيروا الزنابير فتلدغكم، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم ".
فصل
وأما العرب فقد اشتهر منهم التمثيل بالمحقرات وبأحقر الأشياء، فقالوا: فلان أسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأعز من مخ البعوضة، وأطير من جرادة، وأفسد منها، وأجرء من الذباب ، وألج منه، وأشبه به منه، وأجمع من الذرة، وأضبط منها.
ومثلوا أيضا بما لا شيء أصغر منه كالجزء الذي لا يتجزى، وبما لا يدرك لتناهيه في الصغر إلا اللطيف الخبير، أو بالمعدوم - وهو أخس من كل شيء، لأنه لا شيء محض -، فقالوا: " هذا أصغر مقدارا من الجزء الذي لا يتجزى " و " هذا أقل من اللاشيء في العدد ".
وأما العجم، فكتاب كليلة ودمنة وأشباهه شاهدة على ذلك، وفي بعضها: " قالت البعوضة - وقد وقعت على نخلة عظيمة عالية وأرادت أن تطير عنها -: يا هذه، استمسكي، فإني أريد أن أطير. فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك، فكيف أشعر بطيرانك "؟!
والعجب أن الجاهل المحجوج، والغافل المبهوت، لا يتعجب من دقائق لطف الله وعنايته وإحسانه في خلق البعوضة والعنكبوت، وجعل يتعجب في التمثيل بها في الحقارة لشيء! أولا يرى عجائب البقة أو النملة أو النحل أو العنكبوت في اهتدائها إلى بناء مسكنها، وفي حذقها في هندسة بيتها، وفي جمعها الغذاء، وادخارها لنفسها، وفي إلفها لزوجها، وحزمها واحتياطها في خصائص أمورها وحاجاتها.
فترى العنكبوت تبني بيتها على طرف، فتطلب أولا موضعين متقاربين، بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونه، حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه، ثم يبتدي فيلقي اللعاب الذي هو خيطه إلى جانب فيلتصق به، فتعدو إلى الجانب الآخر، فيحكم الطرف الآخر من الخيط، ثم تحكم كذلك ثانيا وثالثا، وتجعل بينهما تناسبا هندسيا، حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كاللحمة، اشتغل بالتسدية، فيضيف السدى إلى اللحمة، ويحكم العقد على موضع التقاء السدى باللحمة، ويراعي في جميع ذلك تناسب الهندسة، ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البق والذباب، ويقعد في زاوية مترصدا لوقوع الصيد في الشبكة فإذا وقع بادر إلى أخذه وأكله.
فإن عجز عن الصيد كذلك، طلب لنفسه زاوية من حائط، ووصل بين طرفيها بخيط، ثم علق نفسه منها بخيط آخر، وبقي متمسكا في الهواء ينتظر ذبابة تطير، فإذا طار ذباب رمى نفسه إليه فأخذه، ولف خيطه على رجله، وأحكمه، ثم أكله.
أفترى أن العنكبوت يعلم هذه الصنعة من نفسه وحدسه، أو علمه آدمي، أو لا هادي له ولا معلم؟! أفيشك ذو بصيرة أنه مسكين عاجز عن الفكر؟!
وكذا النحل وعجائب الحكمة في بناء بيوته أكثر، وما من حيوان صغير إلا وفيه من هذه العجائب مما لا يحصى.
وذكر في الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلا تحركها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها؛ أفلا يشهد هذا الحيوان الضعيف بهويته وشكله وصورته وهدايته وعجائب صنعه، لعناية الباري، وتعلق رحمته وإحسانه به؟!
فصل
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على أقوال:
الأول: ما روي عن ابن عباس وابن مسعود: إن الله لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين - يعني قوله:
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
[البقرة:17] وقوله:
أو كصيب من السمآء
[البقرة:19]، قال المنافقون: " الله أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال " فأنزل هذه الآية.
أقول: ويحتمل أن المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لقصور حالهم واتباعهم لقضايا عقولهم الناقصة، أو لتشبثهم بأذيال المتفلسفة النافين لعلمه بالجزئيات المتغيرة -، زعموا أن التمثيل بهذه الأشياء الجزئية لا يجوز ولا يمكن إلا بآلات ومشاعر جزئية، فكيف يتصور أن يقع الوحي بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) عند عروجه بروحه إلى المقام الأعلى من عالم الحس والتخيل، وتلقيه للمعارف، فوقعت الإشارة إلى دفع ما زعموه بأن التمثيل بها - وبما هو أقل قدرا وأنزل مرتبة منها -، واقع من الله، ولكن العلم بحقية ذلك، وبكيفية الوحي والإنزال، لا يمكن إلا لمن آمن بالله وآياته، وعرف بكيفية تلقي النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن من لدنه، فيهتدي بذلك؛ وأما الجاهل المغرور بعقله، فيقع لأجله في الضلالة.
الثاني: عن قتادة والحسن: لما ضرب الله المثل بالذباب والعنكوبت، تكلم فيه قوم من المشركين، وعابوا ذكره، فأنزلت.
الثالث: عن ابن عباس أن هذا الطعن وقع من اليهود، فإنه لما نزل
يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له
[الحج:73]. فطعن في أصنامهم بأنها كالذباب ، وشبهت عبادتها ببيت العنكبوت، قالت اليهود: " أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله بهما المثل "؟ فنزلت.
قال القفال: " الكل محتمل، أما اليهود فلما في آخر هذه الآية: { وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله } ، وهذه صفتهم كما دلت عليه قصتهم؛ وأما الكفار والمنافقون فقد ذكر في المدثر:
وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهذا مثلا
[المدثر:31] الآية. وهما المشار إليهما لأن السورة مكية، فقد جمع الفريقان، فإذا ثبت هذا، فالكل محتمل في هذه الآية، لأن الثلاثة كانوا متوافقين في ايذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد مضى في هذه السورة إلى ههنا ذكر الثلاثة جميعا ".
ثم قال القفال: " وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب، لأن معناه مفيد في نفسه ".
فصل
[الحياء وكيفية نسبته إلى الله تعالى]
" الحياء ": صفة انفعالية تعتري الإنسان، تنقبض معها النفس عن ظهور ما يشبه القبيح عند طائفة مخافة أن يعاب به ويذم - وإن لم يكن قبيحا في نفسه -، وهو من الصفات المحمودة في الإنسان، لتوسطه بين طرفين مذمومين - وهما الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح، والخجل الذي هو قصور النفس وانحصارها عن الفعل الحسن -.
واشتقاقه من " الحياة " ، لأنه انكسار للقوة الحيوانية، فيمنعها عن أفعالها، فيقال " حيى الرجل " أي: انكسرت نفسه، كما يقال: " حشي الحيوان ونسي " إذا اعتلت حشاه ونساه.
واعلم أن كل صفة تتصف بها نفس الآدميين بمشاركة البدن، فهي مذمومة في الحقيقة، كالشهوة والغضب، والإحساس والتحريك، والأكل والشرب، والضحك والبكاء، والخجل والوجل والحياء، لأن جميعها مما يعتريها النقص والفساد لأجل التضاد، إلا أن المتوسطة منها بين أطراف هذه الأوصاف والحالات - كالعفة والشجاعة والحياء -، لما كانت بمنزلة الخالي عنها - كالماء الفاتر بين الحار والبارد يقال له: لا حار ولا بارد. وهو بعد غير خارج عن جنس الأضداد، بل له حصة من كل منهما -، عدت محمودة لأنها شبيهة بالقوة، غير مقتضية لاشتغال النفس بها وانكبابها عليها، فإن النفس كلما لم تنفعل عن موجبات القوى ودواعيها، فهي أقهر على قمعها باكتساب الهيئة الاستعلائية عليها، بها يسهل لها الانقطاع عن هذا العالم، والاتصال بأجنحة الكروبيين.
فقد علم أن الحياء وما يجري مجراه من الصفات، ليس من الكمالات الحقيقية للنفس - فضلا عما فوقها - وإله الكل أحق بأن ينزه عما يوجب الانفعال والانقهار، وهو الواحد القهار.
ولكنه قد ورد في الأحاديث عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" إن الله حيي كريم، يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا "
وقد جاء في الحديث أيضا:
" إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه "
، فلا بد فيه من تأويل؛ وقيل فيه وجهان:
أحدهما - وهو القانون في أمثال ذلك -، وهو أن يراد بها نفي المقابلات لتلك الصفات ومباديها، أو إثبات الغايات لها بدون تلك المبادي، فإن كل صفة محمودة تثبت للنفس الإنسانية بمشاركة الجسم، فلها مبدء انفعالي وغاية فعلية وأضداد قبيحة.
فالحياء - مثلا -، حالة وصفة عارضة للإنسان، ولكن لها مبدء ومنتهى وضد، أما المبدء، فهو التغير النفساني، والانفعال الجسماني الذي يعتريه من خوف أن ينسب إلى القبيح؛ وأما النهاية: فهي أن يترك الفعل المنوط به؛ وأما الضد: فهو الوقاحة أو الخجل.
فإذا ورد الحياء في حق الله، فليس المراد ذلك الخوف الذي هو مبدء الحياء ومقدمته ومعده، بل إما نفي ضده الذي هو الوقاحة، أو ثبوت غايته الذي هو ترك الفعل المنوط به، فقوله: { لا يستحيي } أي: لا يدع ولا يمتنع، لا كأحدنا إذا استحيى من شيء تركه وامتنع من فعله.
وكذلك الغضب، له مبدء هو شهوة الانتقام في النفس، وغليان دم القلب في البدن، وله غاية هي إنزال العقاب بالمغضوب عليه، وله ضد هو الخوف والرضاء، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب، فليس المراد ذلك المبدء - أعني شهوة الانتقام وغليان الدم -، بل إما عدم الخوف، كما في قوله تعالى:
ولا يخاف عقباها
[الشمس:15] أو عدم الرضاء، كما في قوله:
ولا يرضى لعباده الكفر
[الزمر:7]. أو إنزال العقوبة.
وثانيهما: أن لله تعالى وسائط منبعثة من ذاته إلى العباد - كالملائكة والرسل -، وهم مستغرقون في شهود جلاله، مستضيئون بنور وجهه وجماله، لا التفات لهم إلى ذواتهم - فضلا عن غيرهم -، فهم خلفاء الله إلى عباده، ونوابه في سمائه وأرضه وبلاده، من حيث أن وجودهم له، وفعلهم فعله، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله، كما في قوله سبحانه:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران:31]. وكما في قوله (صلى الله عليه وآله):
" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أبغضني فقد أبغض الله "
وكما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أيضا أنه قال:
" من رآني فقد رأى الحق ".
وهذا باب شريف ينتفع به في معرفة كثير من الآيات القرآنية، وبه يصحح كثير من المسائل الدينية - كاثبات الغضب والانتقام. والحياء والرحمة، وكمسئلة البداء، وإثبات الإرادة المتجددة، وسنوح المشيئات المتغيرة في قضاء الحاجات، وإجابة الدعوات، وتنجية الغرقى وإغاثة الملهوفين، وإنزال الزلازل والعقوبات الإلهية من القحط والسنة وغيرها على الأعداء، ومحاربة الكفرة والفراعنة، إلى غير ذلك من الحوادث المتجددة بالإرادات المتغيرة.
فعلى هذا يكون معنى: غضب الله عليهم " أنه غضب ملائكة الله عليهم، ومعنى: " فينتقم الله منهم " أنه تنتقم ملائكة العذاب وسدنة الجحيم منهم، وهكذا قياس غيرهما.
وههنا وجه ثالث أدق من الوجهين الأولين، وهو أن لكل موجود في هذا العالم من الجواهر والأعراض، عوالم متعددة فوق هذا العالم، نسبة الأسفل إلى الأعلى، نسبة الشهادة إلى الغيب، ونسبة البدن إلى الروح، ونسبة الظل إلى الشخص.
مثاله: صورة المحسوس في الخارج: كثيف، مادي، قابل للإنقسام؛ فإذا ارتسم في القوة الباصرة زال عنه كثير من النقائص، وبقي الكثير - كأصل المقدارية واللون، والحاجة إلى المحل المركب من الأضداد، وشرائط المقابلة والوضع إلى ما أخذ منه أو ما في حكمه -، وإذا ارتفع إلى عالم الخيال، خلص عن بعض النقائص والعيوب، وبقي البعض.
ثم إذا جاء إلى عالم العقل، تجرد وتطهر عن النقائص والعيوب كلها إلا الإمكان والحدوث، فإذا رجع إلى ما في علم الله، وعالم الأسماء الإلهية، وصورة الأعيان الثابتة التي هي غير مجعولة، تقدس عن جهات الكثرة والإمكان كلها، فإن صورة علم الله - من حيث هي صورة علمه -، واجبة بوجوبه.
وكذا الحال في جميع الذوات والصفات، لأن العوالم المترتبة في الشرف والدناءة، كلها صور ما في علم الله، ومنازل صفاته وآياته، وهذه النقائص والشرور إنما لحقتها في هذا العالم، وفي المراتب النازلة، لبعدها عن منابع الخيرات.
فصورة الغضب إذا وجدت في عالم الأبدان، عبارة عن ثوران دم القلب، وانتشار العروق وارتفاعها بها إلى أعالي البدن، كما ترتفع النار الذي يغلي في القدر، فيحمر الوجه والعين، والبشرة تحكي ما وراءها من حمرة الدم، كما تحكي الزجاجة لون الشراب الذي فيها.
وإذا وجدت في عالم النفس، فهي عبارة عن حالة نفسانية توجب اشتعال نار الطبيعة، وإحراق مواد البدن ورطوباته، وتفعل بها ما تفعل النار المحسوسة بالحطب اليابس، ويتصاعد عند شدة ناره دخان مظلم إلى معدن الفكر، فتستولي ظلمته على نور العقل، وينطفي وينمحي في الحال بدخان الغضب.
وربما يتعدى الإظلام إلى معادن الحس، فتظلم عين الرجل حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها، ويكون دماغه ككهف، كأتون أضرمت فيه نار فاسود جوه وحمي مستقره، وامتلأت بالدخان جوانبه، ولا يسكن عن ذلك بالموعظة وغيرها، بل يفعل ذلك إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق.
وربما يشتد بحيث يفني الرطوبة التي بها حياة البدن، فيموت صاحبه غيضا، كما تقوى النار في الكهف فيشقق فتنهد أعاليه على أسافله، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه.
فهذا حال الغضب الناشئ من النفس، ولا ينفك عن انفعالات وكدورات وآلام يعود إليها، حيث إنه يسري حكم الغضب أولا في البدن والمملكة وجنودها وقواها، وبواسطتها يسري إلى عدوها.
وأما إذا وجدت صورة الغضب في عالم العقل، فحقيقتها هي القهر على ما دون عالمه، قهرا يوجب خضوع النفوس التي هو فوقها، وطاعة الطبائع والأجرام التي هي تحته من غير تغير ولا شوب انفعال، لبراءة عالم العقل عن سنوح التغيرات والانفعالات.
وأما الغضب الإلهي ، فإنما هو صفة قهاريته على الكل، وغلبة نور أحديته وفردانيته، التي لا مجال لوجود الكثرة والإمكان عنده، ولا لظهور يتشارك في صفة الوجود لديه، فيهلك كل شيء يوم القيامة لدى غضب الله الواحد القهار، ويضمحل كل ظل وفيء عند غلبة ظهور نور الأنوار، وقد ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله):
" إن الله يغضب اليوم غضبا لم يغضب مثله ".
واعلم أن النار - سيما نار الآخرة - صورة من صور غضب الله الساري في العوالم، وشرر من شرارة ناره، ومظهر من مظاهر قهره، وكذا شر إبليس وشرور جنوده وأولاده مظهر آخر فوقها، والهاوية مظهر دونها؛ كما أن الماء - سيما ماء الحياة والكوثر - صورة رحمته، والعرش الذي على الماء محل استواء الرحمن صورة فوق ذلك. والمادة الأولى دونه، والنبي الخاتم - صلوات الله وسلامه عليه وآله - لكونه رحمة للعالمين، هو المظهر الجامع لشؤون الرحمة الإلهية، كما أن في مقابله إبليس هو الجامع لجميع الشرور، الحاوي هو وأولاده وجنود إبليس أجمعين لمظاهر الغضب وشؤونه إلى يوم الدين.
وبالجملة، ما من شيء في هذا العالم، إلا وينتهي أصله وسره إلى حقيقة إلهية وسر سبحاني، وأصل رباني، ومطلع أسمائي، ومشرق قيومي، ويكون نحو وجوده في عالم الوحدة الجمعية الإلهية معرى عن كل كثرة وشوب، مبرأ عن كل نقص وعيب.
وهكذا في جميع ما ينسب إليه تعالى من الصفات التشبيهية - كالحياء والغضب والانتقام والرحمة، والرضا، والصبر، والشكر، والقبض والبسط، والسمع والبصر، والشوق، واللطف -، وما أشبهها.
وكذلك اليد، واليمين، والقبضة، والقلم، واللوح، والكتابة، والذهاب، والمجيء، والجنب، والقدم، والوجه، والعين، والأعين - وما يجري مجراها -، فمن عرف ما ذكرناه، فتح على قلبه باب عظيم من علوم المكاشفات.
فصل
في تتمة القول في معنى قوله تعالى:
{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا }
قيل: يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: " أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟! " فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال - وهذا فن بديع من الكلام.
واعلم أن ما لا يجوز عليه تعالى من المثالب والنقائص، فيجب أن يسلب عنه تعالى، ولا يجوز إطلاق ذلك السلب عليه على طريق الايجاب العدولي، ولا على ايجاب سلب المحمول، مثلا، لا يجوز عليه الجسمية، فيجب أن تسلب هي عنه ويقال: " ليس هو بجسم " ولا يقال: " هو لا جسم " أو " هو ليس بجسم ".
لأن اثبات المعنى العدولي له، وكذا ايجاب المفهوم السلبي عليه، يستدعي اتحاده به، وذلك يستلزم أن يكون ذلك المعنى إما عين ذاته - إن كان ذاته بذاته مصداق ذلك المعنى ومطابق حمله عليها -، وهو محال، لكون ذاته تعالى حقيقة الوجود المجهولة التصور؛ وإما عارضة لذاته إن لم يكن كذلك، فيلزم التكثر في صفاته، وهو أيضا مستحيل، كما بين في مقامه.
ثم إنه قال القاضي: ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتا، فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضا عليه، وإنما يقال إنه لا يوصف به، فأما أن يقال: " لا يستحيي " ويطلق ذلك عليه فمحال، لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه، وما ذكره تعالى في كتابه من قوله:
لا تأخذه سنة ولا نوم
[البقرة:255].
لم يلد ولم يولد
[الاخلاص:3]. فهو بصورة النفي، وليس بنفي على الحقيقة، وكذلك قوله:
ما اتخذ الله من ولد
[المؤمنون:91]. وقوله:
وهو يطعم ولا يطعم
[الأنعام:14].
وليس كل ما ورد في القرآن اطلاقه جائز أن يطلق في المخاطبة، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال.
فإن قيل: أليس هذه الصفات منتفية عن الله تعالى، فكان الإخبار عن انتفائها دالا على صحتها عليه؟
فنقول: هذه الدلالة ممنوعة، وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر، لا يدل على ثبوت غيره، بل لو قرن اللفظ بما يدل على انتفاء الصحة أيضا، لكان أحسن من حيث المبالغة في البيان، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون قبيحا.
و: " أن يضرب " مجرور المحل عند الخليل بإضمار الجارة ك " من " ، ومنصوب عند سيبويه بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها.
وقيل: فيه لغتان " استحييته " و " استحييت منه " وهما محتملان.
وفي الكشاف: ضرب المثل: اعتماده وتكوينه؛ من " ضرب اللبن " و " ضرب الخاتم ".
وفي مجمع البيان: " إن الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا، يقال: " ضرب في التجارة " ، و " ضرب في الأرض " ، و " ضرب في سبيل الله " ، و " ضرب بيده إلى كذا " ، و " ضرب فلان على يد فلان " ، إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه؛ وضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد، فيقال: " ضربت القول مثلا " ، و " أرسلته مثالا " ، وما أشبه ذلك ".
فصل
قوله تعالى: { مثلا ما بعوضة }
قيل: " ما " إبهامية تزاد للابهام، والشيوع والعموم، وانسداد طرق التقييد، كقولك: " أطعمني طعاما ما " أي: أي طعام شئت، أو مزيدة للتأكيد، كالتي في قوله تعالى:
فبما رحمة من الله
[آل عمران:159].
ولا نعني بالمزيد، اللغو الضائع - حاشا الكتاب الإلهي عن ذلك، بل كله هدى وتبيان لقوله تعالى:
هدى للناس
[البقرة:185]. وقوله:
تبيانا لكل شيء
[النحل:89]. وإنما يعنى به ما لم يوضع لمعنى مراد منه، وإنما وضعت لأن يذكر مع غيره فيفيد له وثاقة وقوة، فهو زيادة في الهدى غير قادح فيه.
و " بعوضة ": عطف بيان ل " مثلا " ، أو مفعول ل " يضرب " ، و " مثلا " حال تقدمت عليه لأنها نكرة. أوهما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل. وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدء محذوف؛ وعلى هذا يحتمل في " ما " وجوه أخر:
أن تكون موصولة حذف صدر صلتها، كما حذف في قوله ( " تماما " على الذي أحسن).
وموصوفة بصفة كذلك - ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين.
واستفهامية هي المبتدأ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال قال بعده: " ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب بها المثل، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك " ، ونظيره: " فلان لا يبالي بما يهب، ما دينار وديناران؟ ".
والبعوض: أصله صفة على فعول من " البعض " ، وهو القطع كالبضع والعضب، غلب استعماله على هذا النوع من الحيوان.
وقوله: { فما فوقها } ، عطف لى " بعوضة " أو " ما " - إن جعل اسما -.
واختلفوا في ملاك هذه الفوقية: أهو الحقارة. أو الجثة؟
فقال بعضهم: المراد ما فوقها في الصغر والقلة، كقولك لمن يقول: " فلان أسفل الناس وأنزلهم ": هو فوق ذلك. تعني به أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والخساسة.
والمحققون على هذا، لأن المقصد تحقير الأوثان، فكلما كان المشبه به أحقر، كان المقصود أكمل، ولأنه تعالى في بيان أنه لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، فما هو أشد حقارة كان أولى بالبيان؛ ولأن الشيء كلما كان أصغر، كان الاطلاع على أسراره المودعة فيه من الله أدل على لطفه وعنايته، فالتمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من الدلالة بالشيء الكبير.
أولا ترى أن البعوضة من عجائب خلق الله، فإنها صغيرة جدا، وخرطومها في غاية الصغر، ثم إنه مع ذلك مجوف، ثم الخرطوم مع فرط صغره وكونه مجوفا، يغوص في جلد الفيل والجاموس - على ثخانته -، كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص، وذلك لما ركب الله تعالى في خرطومه السم.
قال الربيع بن أنس: إن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا:
حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة
[الأنعام:44].
وروي عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: " إنما ضرب الله المثل بالبعوضة، لأن البعوضة على صغر حجمها، خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل - مع كبره -، وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله سبحانه أن ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب صنعه ".
وربما قيل: كيف يضرب الله المثل بما دون البعوضة وهي نهاية في القلة؟
فيقال: " جناحه أصغر منها بكثير " ، وقد ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثلا للدنيا في قوله:
" لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى منها الكافر شربة ماء "
، وفي خلق الله حيوانات كثيرة أصغر منها - كما مر.
وقال الآخرون: المراد فما هو أعظم منها في الجثة - كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء، واحتجوا بأن لفظ " فوق " يدل على العلو. فإذا قيل: " هذا فوق ذلك " فمعناه، أنه أكبر منه.
ويروى أن رجلا مدح أمير المؤمنين عليا عليه السلام - والرجل متهم فيه -، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: " أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك ".
ثم إن ما يجري فيه الاحتمالان هو ما روي أيضا
" أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط، ودخل رهط من قريش على عايشة وهم يضحكون، قالت [عائشة]: " ما يضحككم؟ ".
قالوا: " فلان خر على طنب فسطاط فكادت عينه أو عنقه أن تذهب ".
فقالت: " لا تضحكوا - إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خيطئة " ".
فما عدا الشوكة وتجاوزها في الألم، كالخرور على طنب الفسطاط، وما زاد عليها في القلة، نحو نخبة النملة - وهي عضتها - لقوله (صلى الله عليه وآله):
" ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة "
، فقوله (صلى الله عليه وآله): " فما فوقها " يحتمل المعنيين.
فصل
قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه }
" أما ": كلمة تجيء في شيئين أو أشياء، يفصل القول بينهما، ويؤكد ما يصدر بهما، كقولك: " أما زيد فمحسن، وأما عمرو فمسيء " ، ف " زيد " مبتدأ، و " محسن " خبره، وفيها معنى الشرط والجزاء، ولذلك يجاب بالفاء. وتقديره عند سيبويه: " مهما يكن من شيء فزيد محسن " أي: هو محسن ألبتة، وأن الإحسان منه عزيمة، ثم أقيم: " إما " مقام الشرط، فصار " أما فزيد محسن " ، ثم أخر الفاء إلى الخبر لكراهة وقوع ما شأنه التعقيب في أول الكلام.
فقوله: { فأما الذين آمنوا } مبتدأ و { يعلمون } خبره، وكذلك قرينه، وفي تصدير الجملتين بها تعظيم لأهل الإيمان واعتداد بشأنهم وعلمهم، وذم بليغ وإهانة للكافرين على ما قالوا، وإسقاط لقولهم عن درجة الإعتبار، والضمير في " إنه " للمثل، او ل " أن يضرب ".
و " الحق ": القول الصادق الذي لا يسوغ إنكاره، أو الفعل الصائب الذي لا يجوز تخطئته، أو العين الثابت الذي لا يحتمل زواله، من قولهم: " حق الأمر " إذا ثبت ووجب، و
حقت كلمة ربك
[يونس:33]، ومنه " ثوب محقق " أي : محكم النسج.
يعني أن العرفاء بالله وتوحيده وملكوته، وكيفية إنزال الوحي منه على رسله، يعلمون حقية الوحي والإنزال، وأن أكثره من باب ضرب الأمثال للناس، وتصوير المعاني الكلية في قوالب الأمثلة الجزئية لكي يهتدي به الخلائق إلى طريق معرفة الحقائق، كما في قوله:
ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد
[سبأ:6]. وكقوله:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت:43].
وقوله: " ماذا " إما كلمة واحدة منصوبة المحل على أنها مفعول قدم على فعله، كقولك: " ماذا قال زيد؟ " وهو حينئذ بمعنى " ما " وحده.
أو كلمتان مجعولتان إسما واحدا، أولاهما مرفوعة المحل على الإبتداء؛ وثانيتهما لكونها اسما موصولا، بمعنى الذي يكون مع صلته خبرا لهما.
فصل
[تحقيق في إرادته تعالى]
قد مر تحقيق الإرادة، وأنها في الحيوان كيفية نفسانية من جنس المحبة والكراهة وسائر الأمور النفسانية، ودرجتها في الوجود بعد العلم وقبل القدرة، واختلفوا في أنها عين الشوق أو غيره.
أقول: الحق أن الشوق في الحيوان الحسي، صورة الإرادة في الحيوان النطقي، كما أن الشهوة والغضب في النفس الحساسة، صورتان للمحبة والكراهة في النفس العاقلة، وصورتهما في المادة الحيوانية الجذب للملائم والدفع للمنافر، وقد أشرنا إلى أن لكل صورة نفسانية مواطن كثيرة فوقها وتحتها، وكلما كانت أشد نزولا، صارت إلى الكثرة والتفرقة أقرب، وكلما كانت أعلى رتبة بحسب الوجود، صارت إلى جهة الوحدة أميل، وعن عالم الكثرة والتفرقة أبعد.
فالإرادة في الواجب تعالى، عين علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، والجميع عين ذاته بذاته.
وقال الإمام الرازي في تفسيره الكبير: الإرادة ماهية يجدها العالم من نفسه، ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وألمه ولذته، وإذا كان الأمر كذلك، لم يكن تصور ماهيتها محتاجا إلى التعريف.
وقال المتكلمون: إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر - لا في الوقوع، بل في الإيقاع - واحترزوا بالقيد الأخير عن القدرة.
واختلفوا في كونه تعالى مريدا، مع اتفاق المسلمين على اطلاق هذا اللفظ على الله تعالى.
فقال النجار: إنه معنى سلبي، معناه أنه غير مغلوب ولا مستكره.
ومنهم من قال: إنه أمر ثبوتي، وهؤلاء اختلفوا؛ فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري: معناه علم الله باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف. وقال أبو الحسن الأشعري وأتباعه وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما: إنه صفة زائدة على العلم.
ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية، وهو القول الثاني للنجار، وإما أن تكون معنوية؛ وذلك المعنى إما أن يكون قديما، وهو قول الأشعرية، أو محدثا؛ وذلك المحدث اما أن يكون قائما بالله تعالى، وهو قول الكرامية؛ أو قائما بجسم آخر، وهذا القول لم يقل به أحد؛ أو يكون موجودا لا في محل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما " - انتهى ما ذكره.
وفي كتاب الأربعين ذكر تقسيم المذاهب في ارادته تعالى هكذا: إما أن يكون نفس ذاته وهو قول ضرار، وأما أمرا سلبيا - أي كونه غير مغلوب ولا مكره - وهو أحد قولي النجار، وإما أمرا ثبوتيا - إما معللا بذاته وهو القول الآخر له، وإما بمعنى قديم، وهو مذهب أصحابنا، وإما بمعنى حادث، إما قائم بذاته تعالى وهو قول الكرامية، أو موجود لا في محل وهو قول الجبائية وعبد الجبار من المعتزلة، أو قائم بذات غير الله ولم نر أحدا ذهب إليه.
ثم أبطل القول الأول؛ بأنا نعلمه ونشك في كونه مريدا، والثاني، بلزوم كون الجماد مريدا، والخامس والسادس؛ بلزوم التسلسل في الإرادات، والخامس - خاصة -؛ بأنه لا يقوم الحادث بذاته، والسادس؛ بأنه يلزم عرض لا في محل، وبأن نسبة ما لا محل له إلى جيمع الذوات سواء، وكون ذاته تعالى لا يوجب اختصاصه به.
أقول في كل ما ذكره في بطلان هذه الأقوال نظر:
أما ما ذكره أولا، فغير مناف لعينية الإرادة لذاته، لأن مراده من العلم به تعالى، إن كان بالكنه فغير واقع، وإن كان بوجه، فلا ينافي العلم بوجه الشيء الشك في ثبوت ما هو عينه في الواقع له.
وأما ما ذكره في ابطال الثاني، فمدفوع؛ بالفرق بين السلب والسلبي، إذ معنى كون الإرادة سلبية، أنها عبارة عن سلب العجز مطلقا أو المغلوبية، أو كونه مكرها كذلك كما ذكره أولا، فعلى هذا لا يصدق على الجماد.
وأما ما ذكره في إبطال الخامس والسادس؛ فلهم أن يرتكبوا التسلسل في الإرادات، لأنها معدات بعضها لبعض، والفاعل لها جميعا هو الله، ولا يسد بذلك دليل اثبات الصانع، للفرق بين الفاعل والمعد، فالحاجة إلى المرجح والمخصص المعد، لا يدفع الحاجة إلى الصانع المريد المفيد، كما أن الفلاسفة - مع كونهم ذهبوا إلى مثل هذا التسلسل في الحوادث المعدة - أبطلوا القول بالتسلسل في العلل الموجبة، وأثبتوا به الصانع، لكن لزم عليهم ما لا يلزم على هؤلاء المتكلمين، وهو اثبات محل قديم لتلك الحوادث المتسلسلة غير الباري تعالى.
والذي يلزم على هؤلاء شيء آخر، وهو لزوم كونه تعالى محل الحوادث التي هي الإرادات المتجددة، واستحالة ذلك غير مقطوعة عندهم، بل مما له وجه وجيه، يمكن بيانه بحيث لا تنثلم به قاعدة التوحيد الإلهي، وتنضبط أحديته عن وصمة التغير والتجدد والتكثر في ذاته - تعالى عنها علوا كبيرا -، وليس ههنا موعد بيانه.
وذكر الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد من كتب الكافي عن أبي الحسن عليه السلام: " إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم. ينهي وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء. أوما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحق - ولم يشأ أن يذبحه -، ولو شاء لم غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالى ".
وبذلك خرج الجواب عما ذكره في ابطال الخامس خاصة.
وأما ما ذكره في ابطال السادس خاصة فنقول في دفعه: إن الإرادة كالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ليس المراد بها المعنى المصدري، بل كما أن العلم عبارة عما به ينكشف المعلوم لدى العالم، فكذا الإرادة، ما به يترجح أحد طرفي الشيء المقدور عند القادر، أو أحد المقدورين المتساويين عنده في المقدورية، وكما ان لعلمه تعالى مراتب ومنازل، وأخيرة مراتبه وجود الموجودات الزمانية المكانية، بمعنى أن وجودها بعينه نحو معلوميتها، ونحو علمه تعالى بها هذا العلم الزماني، فكذلك لإرادته - جل ذكره - مراتب ومنازل، وأخيرة مراتب الإرادة، هي بعينها ذوات الموجودات الحادثة، بمعنى أن كلا منها بهويته مراد الله، وبه يريد الله غيره، لأن به يتخصص وجود ذلك الغير ويترجح على عدمه، فكل منها ارادة ومراد باعتبارين، كما أنه علم ومعلوم باعتبارين.
فمراتب إرادته تعالى مضاهية لمراتب علومه، بل هي هي عند التحقيق، وإدراك هذا المقام يحتاج إلى تصفية الذهن، وتجريده عن أنظار المعطلين وأقاويل المبتدعين.
ولعل ما ذكرناه في توجيه كلامهم، مما غفلوا عنه غفلة تامة، وذهلوا عنه ذهولا عريضا، إلا أن غرضنا في ذلك كشف الحق ودفع الباطل بأي وجه كان.
ولا يبعد أن كان لهؤلاء القوم أشياخ متقدمون، وكانت لهم علوم صحيحة غامضة عن أفهام هؤلاء الآخرين، ولهم كلمات متوافقة المعاني والرموز، متخالفة الظواهر لاختلاف عاداتهم في طريق التعليم وبيان الرمز، والمتأخرون حيث لم يبلغوا شأوهم ولم يصلوا إلى مقامهم، حرفوا الكلم عن مواضعه، وذهبوا إلى ما ذهبوا، وسلكوا طريق الجدال، وشحنوا كتبهم بمثل هذه الأقوال، زعما منهم أن في ذلك نصرة الدين، إلا أنهم حركوا سلسلة الشياطين، وخذلوا وأذلوا أولياء اليقين، وأضاعوا سيرة السالكين في مناهج الآخرة، ومسالك الدين.
واعلم أن الكلام في صفاته تعالى طويل، وتحقيق عينيتها لذاته تعالى، أو غيريتها له تعالى، غامض دقيق، قد مرت إليه إشارة في المفاتيح الغيبية، وسيقع الرجوع إلى تحقيقها مرة بعد أخرى زيادة في التوضيح وإبلاغا في التذكير والتنقيح.
قوله جل اسمه: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } ، يحتمل أن يكون جوابا ل " ماذا " على أنهما مصدران، أي: إضلال كثير وهداية كثيرة؛ وإنما وضع الفعل موضع المصدر، للإشعار بالحدوث والتجدد، فإنه لما حكى الله عنهم استحقارهم لكلام الله بقوله: { ماذآ أراد الله بهذا مثلا } أجاب عن ذلك بهذا القول .
ويحتمل أن يكون بيانا للجملتين المصدرتين ب " أما " ، وتسجيلا بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان، والجهل به والإنكار لحسن مورده ضلال وإضلال، وكثرة كل من الفريقين في أنفسهم لا تنافي وصف المهتدين بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال، كما قال تعالى:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ:13]. وربما قيل: " القليل من المهتدين عددا كثير في الشرف والفضيلة " ، فسموا بها ذهابا إلى الحقيقة؛ وكثرة الضالين من حيث العدد قلة لهم في الحقيقة.
عن ابن مسعود: " السواد الأعظم هو الواحد على الحق " ، فالمهتدون أكثر حقيقة لأنهم على الحق، والضالون على الباطل، فهم أقل حقيقة، وإن كانوا أكثر عددا كما قيل:
قليل إذا عدوا، كثير إذا شدوا
وقيل أيضا:
إن الكرام كثير في البلاد وإن
قلوا، كما غيرهم قل وإن كثروا
واعلم أن هذا كلام محقق ومعنى مبرهن عليه، إذ قد حقق في مقامه بالبرهان، وذهب إليه جمع من أهل الحكمة والعرفان، أن العقل الواحد بالفعل كل الموجودات التي دونه، وأن الحقيقة النوعية الموجودة في عالم العقل مع وحدتها العقلية، تحيط بجميع الأعداد والجزئيات التي دونها، وأن النفس الناطقة على وحدتها وتجردها، هي عين جميع قواها المدركة والمحركة على كثرتها وتخالفها وتفاوت مراتبها ونشآتها.
فصل
(في الهداية والاضلال)
اعلم إن مسألة الإضلال وما يجري مجراه إلى الله في هذه الآية وفي غيرها، صارت معارك للآراء ومصارع للأهواء، غرقت في بحارها أفهام الأكثرين، ولم ينج من مهاوي أنظارها إلا أقل الأقلين، فلنتكلم ههنا في تحقيق الإضلال كلاما مشبعا يكشف نقاب الارتياب والامتراء، ويتجلى به وجه المطلوب عن مكمن الاحتجاب والاختفاء، ليكون تحقيقه دستورا لغيره من الصفات الجارية مجراه، وأصلا مرجوعا إليه فيما يجيء من معاني الآيات النازلة من هذا الباب.
ولنذكر أولا ما ذكره أرباب الأفكار وأصحاب الأنظار من البحث والإلزام والرد والإبرام، ثم نضيف اليها ما هو طريقة أهل الحكمة والتحقيق، ثم نذيل ذلك بايراد لمعة من بوارق نور التجريد، وقطرة من بحار عالم التأييد.
فنقول: قد ذكر أهل اللغة أن همزة الإفعال، قد تجيء لتعدية غير المتعدي، كما في " خرج " و " أخرج ". وقد تجيء لعكس ذلك فينقل المتعدي إلى غير المتعدي كما في " كببته فأكب " ، وقد يجيء لمجرد الوجدان، تقول: " أتيت أرض فلان فأعمرتها " أي: وجدتها عامرة.
إذا ثبت هذا، فقولنا، " أضله الله " ، لا يمكن حمله إلا على وجهين:
أحدهما: صيره ضالا.
والثاني: أنه وجده ضالا.
فعلى الأول، إما أن يراد به " صيره ضالا عن الدين " ، أو " صيره ضالا عن الجنة ". ثم إن معنى الإضلال عن الدين في عرف اللغة، عبارة عن الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه، أو ايقاع الوسوسة في قلبه، وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى الشيطان فقال:
إنه عدو مضل مبين
[القصص:15]. وقال حكاية عنه:
لأضلنهم ولأمنينهم
[النساء:119]. وقال:
وقال الذين كفروا ربنآ أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا
[فصلت:29]. إلى غير ذلك من الآيات التي أضاف الله فيها الإضلال إلى إبليس؛ وأضاف الإضلال إلى فرعون وغيره أيضا كما في قوله:
وأضل فرعون قومه وما هدى
[طه:79]. وقوله:
وأضلهم السامري
[طه:85].
ثم إن الإجماع متحقق من هذه الأمة - بل من الأمم كلها -، على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله، لأنه ما دعى أحدا إلى الكفر، بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه، كما أنه رغب في الهداية وأمر بالهدى ووعد بالثواب، وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل، وفتحوا باب التصرف في الأقاويل.
أما أهل الجبر وأصحاب أبي الحسن الأشعري، فلعدم التزامهم قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، ولا محافظتهم على القوانين العقلية، حملوا الإضلال المنسوب إليه تعالى على كونه خالق الضلال والكفر فيهم، فصدهم عن الايمان وحال بينهم وبينه؛ وربما قالوا: " هذا هو حقيقة اللفظ بحسب اللغة، لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالا، كما أن الإخراج والإدخال عبارتان عن جعل الشيء خارجا وداخلا ".
وقالت المعتزلة: هذا التأويل غير جائز لغة وعقلا؛ أما اللغة فلوجوه:
أحدها: أنه لا يقال لمن منع غيره عن سلوك الطريق جبرا: " أنه أضله " ، بل يقال " صرفه ومنعه " ، وإنما يقال: " أضله " ، إذا أغواه ولبس عليه.
وثانيها: أنه وصف ابليس وفرعون وغيرهما بالإضلال، وهم ما كانوا خالقين للضلال في قلب أحد بالاتفاق، مع إن إطلاق لفظ " المضل " عليهم، على سبيل الحقيقة اللغوية دون المجاز
وثالثها: أن الإضلال في مقابلة الهداية، فكما صح أن يقال: " هديته فما اهتدى " ، وجب صحة أن يقال: " أضللته فما ضل " وإذا كان كذلك، استحال حمل الإضلال على خلق الضلال.
أقول: وهذه الوجوه الثلاثة في غاية السقوط والاندفاع عند من أحاط بمذاهب الفريقين وأغراضهما:
أما اندفاع الأول: فلأن غرضهم من خلق الضلال فيهم، ومنعهم وصدهم عن السبيل، هو إنشاء الوسوسة في قلوبهم، كما في قوله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس:7 - 8]. فعندهم هو الموسوس بالحقيقة.
وأما إندفاع الثاني: فلأن نسبة كل فعل عندهم إليه تعالى بالخلق، وإلى غيره بالكسب؛ ولا اختصاص لذلك بهذا اللفظ، فالحال في: " أضل الله " ، و: " أضل فرعون " ، وغيره، كالحال في: " هدى الله " ، و: " هدى رسوله وأولياؤه " ، وفي غيرهما من الأفعال المنسوبة إليه تعالى تارة وإلى غيره أخرى.
وأما إندفاع الثالث: فبأن " هديته فما اهتدى " و " أضللته فما ضل " ، إنما يصحان فيما إذا كان الهادي والمضل من الممكنات، وأما إذا كان الفاعل هو الله، بلا مدخلية أحد، فالتخلف عما أوجبه محال.
وأما أدلتهم العقلية:
فأولها: إنه تعالى لو خلق الضلال في العبد، ثم كلفه بالإيمان، لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين، وذلك سفه وظلم، وهما محالان عليه تعالى.
وثانيها: لو كان تعالى خالقا للجهل، وملبسا على المكلفين، لما كان مبينا لما كلف به العبد، والإجماع متحقق على كونه تعالى مبينا.
وثالثها: إنه لو كان كذلك، لم يكن لانزال الكتب وبعثة الرسل إليه فائدة، بل كان عبثا وسفها.
ورابعها: إنه على مضادة كثيرة من الآيات، نحو قوله تعالى:
فما لهم عن التذكرة معرضين
[المدثر:49] و:
ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى
[الكهف:55]. وقال:
فأنى تصرفون
[يونس:32]. و
فأنى تؤفكون
[الأنعام:95].
وخامسها: إنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في الإضلال والإغواء، وأمر بالاستعاذة منهم بقوله:
قل أعوذ برب الناس... من شر الوسواس
[الناس:1 - 4]
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين
[المؤمنون:97].
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله
[النحل:98]. فلو كان الله فاعل الضلال، لوجبت الاستعاذة منه كما وجبت منهم، ولاستحق المذمة كما استحقوا، وأن يتخذوه عدوا كما وجب اتخاذ إبليس عدوا - بل حصته تعالى في جميع ذلك أكثر، فإنه المؤثر في الضلال، بل يلزم تنزيه إبليس عن هذه القبائح كلها واحالتها على الله، فيكون الذنب منقطعا عنه بالكلية وعائدا إلى الله تعالى - سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.
وسادسها: إنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره، وذمهم لأجله، فقال:
وأضل فرعون
[طه:79].
وأضلهم السامري
[طه:85].
إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد
[ص:26]. وهكذا في كثير من الآيات، فإن كان المضل الحقيقي أو المشارك القوي في الإضلال هو الله، فكيف ذمهم عليه؟!
وسابعها: إنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم، وعقوبة عليهم، فلو كان المراد به ما هم عليه من الضلال، لكان ذلك عقوبة وتهديدا بشيء هم عليه مقبلون، وبه ملتذون ومغتبطون، ولو جاز ذلك، لجاز العقوبة بالزنا على الزنا، وبشرب الخمر على شرب الخمر - وهذا غير جائز -.
وثامنها: إن قوله تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } [البقرة:26-27]، صريح في أن هذا الإضلال فعل بهم بعد فسقهم ونقضهم عهد الله باختيار أنفسهم، فيكون مغائرا لفسقهم وكفرهم.
وتاسعها: إنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوبا إلى العصاة الضلال على ما قال { وما يضل به إلا الفاسقين } و
يضل الله من هو مسرف مرتاب
[غافر:34]. فلو كان المراد بالضلال المضاف، هو ما هم فيه، كان ذلك إثباتا للثابت، - وإنه محال -.
فهذه هي الوجوه التي ذكرها صاحب التفسير الكبير عنهم، ولم يجب عنها مع كونه أشعري المذهب، بعيدا عن الإعتزال.
وأقول في الجواب عنها:
أما مجملا، فهو أنها مكررة لا خصوصية لها بهذا المقام، بل تجري في جميع الأفعال الجارية مجرى الإضلال، كالختم والطبع والإعماء والإصمام وغيرها - المنسوبة تارة إلى الله وتارة إلى العبد -، وما من فعل يحدث في هذا العالم - وهو عالم الظلمات والشرور، وعالم الجهل والغرور -، إلا ويعتريه نقص وآفة وقصور، ويصحبه شر وفتنة وفتور، والعالم الذي كله خير ونور، عالم آخر فيه دار السرور.
وأما تفصيلا، فلكل من هذه الوجوه وجه دفع - إما بالنقص، وإما بالمعارضة، وإما بالحل -.
أما الجواب عما ذكروه.
أولا: فبأن التكليف للكل بالإيمان ظاهرا على لسان الرسول والكتاب، لا ينافي الشقاوة الأزلية الثابتة للبعض بالقول الحتم، والقضاء الحاكم بإبعاد من هو أهل للطرد والرجم، بحسب الفطرة النازلة والقلب القاسي، والجوهر المظلم الردي.
وأما عن الثاني: فبأن نور التبيين والهداية من قبله تعالى، عام لجميع صحائف القلوب، كنور الشمس الذي من قبلها عام شامل لجميع صفحات القابليات، لكن الجهل والالتباس، كالظلمة والكدورة، ناشيان من تراكم الحجب والقساوة والكثافة والظلمة.
وأما عن الثالث: فبأن فائدتهما بالذات، راجعة إلى أهل الإيمان، بتنوير قلوبهم نورا فوق نور، وإصعادهم بالحبل المتين، والعروة الوثقى، عن هاوية الجهل والغرور، وظلمات مضائق هذه القبور؛ وفائدتهما بالقياس إلى المطرودين بالعرض، إعراضهم عن الذكر الحكيم، زيادة في بعدهم وطردهم ومعاداتهم لأهل اللطف والكرامة، ليفرحوا بما هم عليه من عمارة هذه الدار، والسعي في تحصيل الأرزاق والأقوات، وصرف العمر في المعاملات والزراعات، خدمة لأهل الحق من حيث لا يشعرون.
وأما عن الرابع: فبأن الآيات الواردة على موافقته، ليست بأقل من الآيات الواردة على مضادته بحسب الظاهر، فالاعتضاد والتأييد بها، ليس بأقل من القدح والجرح بما يقابلها في ظاهر الأمر، وتلك مثل قوله [تعالى]:
وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة
[الجاثية:23]. وقوله:
فمن يهدي من أضل الله
[الروم:29]. قوله:
ومآ أنت بهادي العمي عن ضلالتهم
[النمل:81].
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
[يس:7].
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون
[يونس:101].
ومآ أنت بمسمع من في القبور
[فاطر:22]. إلى غير ذلك من آيات كثيرة في هذا الباب.
وأما عن الخامس: فبأن المعنى الواحد كما تختلف أحواله بحسب اختلاف المحال والقوابل، كذلك تختلف بحسب اختلاف المبادي والفواعل، بل هذا أشد في الاختلاف - كما تقرر في مقامه -، فالشيء الواحد، ربما يذم ويمدح بالنظر إلى قابلين، وكذا يقبح ويحسن بالقياس إلى فاعلين.
أولا ترى أن إهلاك قوم مؤمنين وإيلامهم مدة في الدنيا، قبيح من الإنسان، حسن من الله واقع منه، فلا منافاة بين كون الإضلال مذموما فعله من غيره تعالى، وممدوحا منه، لأن ذاته بريء من الأغراض الفاسدة، والأوصاف الرديئة، فكل ما يفعله هو محض الخير والصلاح، ورعاية حال الأنام، وملاحظة حسن النظام.
فمن قال: " القبيح ليس منه بقبيح " ، كأنه أراد ما ذكرناه، لأن كل ما يفعله ففيه مصلحة الكل، وحكمة الإيجاد، وخير العباد والبلاد، وسياقة الخلق إلى منزل الرشاد وطريق المعاد.
وأما عن السادس: فبمثل ما ذكرناه من أن الذم راجع إلى العباد، لأن فعل القبيح يؤثر فيهم بالتغيير والتصريف لما هم عليه من ضعف الوجود وقوة القابلية، فيغيرون خلق الله، ويتغيرون عن الفطرة التي كانوا عليها، ويعدلون عن الصراط المستقيم إلى طريق الهاوية والجحيم.
وأما عن السابع: فبأن سبق الأعمال القبيحة، والمعاصي المظلمة والإعراض عن الحق، والخوض في الباطل، يؤدي بالشخص إلى أن يسود باطنه ويقسو قلبه بالكلية، فينتهي حال من هو كذلك، إلى أن لا تؤثر فيهم الهداية والإرشاد، ولا تنجع لهم الآيات والنذر، فيقعون في الضلال البعيد في الدنيا، ويحترقون بنار الوعيد في الآخرة جزاء لما كانوا عليه، وذلك بما كسبت قلوبهم.
وأما عن الثامن: فبأن الفسق ونقض العهد، وإن كانا من جملة ما استحقوا به ظلمة في القلب، وضلالا عن الطريق، لكن الدوام عليهما، وعدم التوبة عنهما، أوجب عليهم تسببهما لظلمة زائدة وضلال بعيد، وهذا التسبب ليس بمعنى الفاعلية والايجاد، بل بمعنى الوسيلة والإعداد، فالفاعل الحقيقي عندهم هو الله، والأفعال السابقة مقربات ومعدات، أو علامات ومناسبات.
وأما عن التاسع: فبأن الضلال للفاسقين والمسرفين حاصل بنفس الإضلال المنسوب إليه تعالى، وإثبات الثابت ليس بمستحيل إذا كان بنفس ذلك الإثبات، لا بإثبات مجدد، وقد تقرر في العلوم العقلية، أن تحصيل الحاصل بنفس التحصيل الأول غير مستحيل.
فهذه هي التي سنحت في جواب أدلة المعتزلة واعتراضاتهم على بطلان تأويل الجبرية، وسيأتي تمام الاستبصار، وما يهتدي به أهل الاعتبار.
ثم لما ذكروا تلك الاعتراضات على بطلان تأويلهم قالوا: فوجب المصير إلى وجوه أخرى من التأويل، وذكروا تلك الوجوه:
الأول: إن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء، من غير أن يكون لذلك الشيء أثر في إضلاله، فيقال لذلك الشيء: " إنه أضله " ، قال تعالى في الأصنام:
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
[إبراهيم:36]. أي ضلوا بهن؛ وقال:
ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا
[نوح:23 - 24]. أي ضل بهم كثير من الناس؛ وكذلك قوله:
فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا
[نوح:6]. وقوله:
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم
[التوبة:125]. فالإضلال على هذا المعنى، يجوز أن ينسب إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات.
والثاني: إن الإضلال هو التسمية بالضلال، فيقال: " أضله " أي: سماه ضالا، وحكم عليه به، و " أكفر فلانا " إذا سماه كافرا. قال الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم
وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
وقال طرفة:
وما زال شربي الراح حتى أضلني
صديقي وحتى ساءني بعض ذالكا
أراد: سماني ضالا، وهذا الوجه ما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة، ومن أهل اللغة من أنكره.
ويجاب عن هذا التأويل؛ بأنه مع كونه في غاية البعد، لا يفي بدفع الإشكال، فإن من سماه بذلك وحكم به عليه، فلو لم يأت بالضلال، لانقلب علمه جهلا، وخبره كذبا، وذلك محال، فالمفضي إلى المحال - وهو عدم إتيان المكلف به -، يكون محالا، فإتيانه بالضلال يكون واجبا؛ وهذا عين الجبر الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم لا محالة، وبه يخرج الجواب عن الوجه الأول لهم كما يعرف بالتأمل..................................، مع أن كل عاقل يعلم ببديهة عقله سقوط الوجهين.
والثالث: أن يكون الإضلال هو التخلية، وترك المنع بالقهر والجبر. فيقال : " أضله " أي: خلاه وضلاله، كما يقال: " أفسد فلان ابنه " إذا لم يتعهده بالتأديب.
وأجيب عنه: إن التخلية وترك المنع من الولد، إنما يسمى إضلالا، إذا كان الأحسن به أن يمنعه عن ذلك، وههنا الأمر بخلاف ذلك، لأنه تعالى لو فعل بالمكلف خلاف ما فعله - بأن منعه جبرا عن هذه المفسدة -، لأدى إلى مفسدة أخرى أعظم من الأولى، سيما على قاعدة أن الأصلح واجب عليه تعالى - كما ذهبوا إليه - فكيف يقال: إنه تعالى أفسد المكلف وأضله بالمعنى المذكور؟!
والرابع: إن الضلال والإضلال هو العقاب والتعذيب، بدليل قوله تعالى:
إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار
[القمر:47-48]. فوصفهم الله بالضلال يوم القيامة، وذلك لا يكون إلا عذابهم، وقال تعالى:
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم
[غافر:71-72]
كذلك يضل الله الكافرين
[غافر:74]. فسر ذلك العذاب بالضلال.
والجواب عنه: إنا لا نسلم مجيء الضلال بمعنى العذاب، أما قوله تعالى:
إن المجرمين في ضلال وسعر
[القمر:47]، أي في ضلال عن الحق في الدنيا، وفي سعر في الآخرة، وهكذا القياس في غيره كما ذكره القفال وغيره.
والخامس: أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال، كقوله تعالى:
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم
[محمد:1]. قيل: أهلكها وأبطلها من قولهم: " ضل الماء في اللبن " إذا صار مستهلكا فيه، وقوله تعالى:
وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد
[السجدة:10].
والجواب: بأن هذا التأويل غير لائق بهذا الموضع، لأن مقابلة قوله: { ويهدي به كثيرا } يمنع عنه.
قالوا: فهذه الوجوه الخمسة إنما ذكرت إذا حمل الإضلال على الإضلال عن الدين.
والسادس: أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنة، قالوا: هذا في الحقيقة ليس تأويلا، بل هو حمل على الظاهر، فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم، وليس فيها دلالة على أن الإضلال عما ذا يكون، فنحن نحمله على أنه عن طريق الجنة، وهو اختيار الجبائي.
أقول: لا يخفى على من له بصيرة دينية، أن طريق الجنة هو بعينه طريق المعرفة واليقين، والضلال عنه بعينه ضلال عن الدين، وكذا المشي على صراط الجنة هناك، هو نفس السلوك لسبيل الحق ههنا، والتفاوت بينهما ليس إلا في الكون والبروز، والخفاء والكشف.
السابع: أن تحمل الهمزة لا على التعدية، بل على الوجدان كما مر إبتداء.
وأجيب: بالمنع، وبأن إثبات هذه اللغة مما لا دليل عليه، سيما وقد عدي بالباء، والإضلال بمعنى الوجدان لا يتعدى به.
الثامن: أن يكون هذا القول في تمام قول الكفار، كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بهذا التمثيل الذي لا تظهر فيه فائدة؟- ثم قالوا: - يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، ذكروه تهكما، ثم قال تعالى جوابا لهم: وما يضل به إلا الفاسقين. أي ما أضل إلا الفاسق. وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: إنه يوجب تعليل النظم، لأن قوله: { وما يضل به إلا الفاسقين } كلام الله من غير فصل بينهما، بل مع واو العطف، على أن الفاعل فيه ضمير مستتر عائد إليه تعالى، و " الفاسقين " مفعوله، وضمير " به " راجع إلى " أن يضرب مثلا " أو إلى المثل نفسهن فالإشكال باق.
وثانيهما: هب أنه ههنا كذلك، لكن ما يصنعون بقوله في المدثر:
كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء
[المدثر:31]. إذ لا شك إنه قول الله تعالى؟
قالت الجبرية في هذا المقام - مداراة مع أهل الاعتزال -: لقد سمعنا كلامكم، واعترفنا بجودة الإيراد وحسن الترتيب وقوة الكلام، ولكن ماذا نعمل ولكن أعداء ثلاثة يشوشون عليكم هذه الوجوه الحسنة؟
أحدها: مسألة الداعي، وهي أن القادر على العلم والجهل والاهتداء والضلال لم فعل أحدهما ولم يفعل الآخر؟
وثانيها: مسألة العلم، وهو أن خلاف ما علمه الله في الأزل محال؛ فكما اعترفنا لكم بقوة الذكاء وحسن الكلام، فأنصفوا أيضا، واعترفوا بأنه لا وجه لكم عن هذين الوجهين، فإن التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء.
وثالثها: إن فعل العبد لو كان باختياره، لما فعل إلا الذي أحبه وأراده، لكن أحد لا يريد إلا تحصيل العلم والاهتداء، ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال، ثم حصل عنه خلاف ما قرره.
فإن قيل: اشتبه عليه الكفر بالايمان، والعلم بالجهل، فلذلك فعل ما فعل.
قلنا: ظنه في الجهل أنه علم، إن كان باختياره أولا، فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه، وذلك غير ممكن، وإن اشتبه عليه ذلك بسبب ظن آخر متقدم عليه، لزم أن يكون قبل كل ظن ظن - إلى لا نهاية - وهو محال.
إشراق نور قرآني طلع من أفق عالم رحماني
[كلام أهل التحقيق في القدر وأفعال العباد]
اعلم يا حبيبي - أيدك الله بنور تأييده، وسددك بقوة تسديده - أن الكلام من أهل الكلام قد بلغ إلى هذا المقام، ولم يبق لأحد من الجانبين لهم من السهام إلا ورماه إلى الآخر طلبا للإفحام، فتلاطم حينئذ أمواج بحري الجبر والقدر، وانكسرت سفائن البحث والنظر، وغرقت فيها أكثر العقول والأفهام، وضاعت دون الفلاح بضاعة أفكار الأقوام، ولم ينجح ولم يتنقح هذا المبحث لأحد من المناظرين، ولم ينفتح هذا الباب المغلق بمفاتيح أنظار أولئك المتفكرين.
وذلك لأنهم سلكوا في طلب المقاصد لأعلى مسالكها، ودخلوا بيوتا علمية لم يأتوا من أبوابها؛ فمسلك العلم واليقين، ليس كمسالك الظن والتخمين، وباب حقائق الإيمان ومعارف القرآن، ليس باب تحصيل البراعة في التكلم والبيان، ولا يفي بذلك الإحاطة بالمشهورات والمتداولات، وحفظ ما يستحسنه جمهور الناس من المنقولات، بل بالتجرد والإخلاص، وطول المهاجرة عن الخلق، واليأس عما في أيديهم، والخلوة مع الله بالذكر القلبي، والفكر اللطيف، ودوام الصحبة مع أنوار القرآن، وكثرة التشوق إلى عالم الملكوت، والتماس الاطلاع على غرائب أسرار الإيمان.
فإذا بقي الإنسان على مثل هذه الحالات، فيوشك أن تأتيه أنوار متتالية عقلية أشرقت على قلبه من سماء الملكوت، ولوامع متواردة طلع ت عليه من أفق الجبروت، فتنكشف له بها جملة من خبايا حقائق أنوار الإيمان - كثرت أو قلت -، واطلع على طائفة من خفايا أسرار العلم والعرفان - نقصت أو كملت -.
واعلم أن كلام أهل الحقيقة في هذا المقام بلغ منتهاه، وأقدام أرباب البصيرة والكشف رسخت في مستقره ومرتقاه، وكان نصيبهم فيه من الكأس الأوفى والقدح المعلى، فشربوا من برد عين اليقين، وأفاضوا جرعه للعطاش السالكين .
فقالوا - كما وقعت الإشارة إليه -: إن الله تعالى متجل للخلق بجميع صفات كماله وأسمائه، ومفيض على عباده وعوالمه بكل نعوت جماله وجلاله، فأول ما تجلى تجلى في ذاته لذاته، فظهر من تجليه عالم أسمائه وصفاته، فهي أول حجب الأحدية؛ ثم تجلى بها على عالم الجبروت، فحصلت من تجليه أنوار عقلية وملائكة مهيمية قدسية، وهي سرادقات جبروته؛ ثم تجلى من خلف حجب تلك الأنوار على عالم الملكوت الأعلى والأسفل، ثم على أشباحها الغيبية والمثالية، ثم على عالم الطبيعية السماوية والأرضية.
ولكل من هذه العوالم والحضرات منازل وطبقات متفاوتة، وكلما وقع النزول أكثر، قلت الأنوار الأحدية بكثرة هذه الحجب الإمكانية أكثر، وتراكمت النقائص والشرور بمصادمات الاعدام والقصورات أشد وأوفر.
أولا ترى أن كلا من الصفات السبعة الإلهية - التي هي أئمة سائر الصفات وأصول الكمالات -، تكون في الذات الأحدية بريئة من النقيصة والإمكان والكثرة والحدثان، ثم إذا وقعت ظلالها في هذا العالم الأدنى، صحبتها الآفات والشرور، ولزمتها الأعدام والنقائص والقصور والدثور، وإذا ارتفعت هذه الصفات بارتفاع موصوفاتها وذواتها عن عالم الأجسام إلى عوالم النفوس والعقول، زالت عنها الشوائب والنقائص بقدر ارتفاعها، وعلى حسب درجات وجوداتها تخليصا وتطهيرا، وإذا رجعت إلى عالم الأسماء، وجاوزت بكلماتها الطيبات وصحائفها العاليات الى الحضرة الإلهية، تطهرت عن الشوائب كلها، وبلغت حد الكمال، وخلصت عن الكثرة والانحلال، وعادت إلى إقليم الوحدة والوصال، والانخراط في صف أنوار الجمال والجلال، والاضمحلال في سطوة قهر المهيمن المتعال.
إذا تقرر هذا، فلنرجع إلى تحقيق الجبر والقدر فأقول: إن نسبة أفعال العباد كلها إلى الله، إن وقع من العارف المحقق، فهو حق وصواب، وإن وقع من الجاهل المتكلم، فهو باطل وخطأ، وكذا تنزيه الله عنها جميعا، إن وقع من السابقين الأولين والحكماء الشامخين، والعرفاء الراسخين فهو أدب وتجريد، وإن وقع من الحكيم الباحث، أو المتكلم القوال من أهل الاعتزال، فهو سوء أدب وتعطيل، وفتح باب التأويل في أكثر الآيات، وسد عظيم لطريق الاهتداء بأنوار التنزيل.
أما نسبة البعض كالخيرات إليه تعالى، والبعض الآخر كالشرور إلى غيره، فمما له وجه عند الطائفتين الأوليين، كل بحسب حاله ومقامه، وأما لو وقع من غيرهما من أصحاب الفكر أو الرواية، فيوشك أن يكون فيه قرع باب الثنوية في الاعتقاد، ولا يأمن قائله من أن يحجب عن نور الحق يوم المعاد.
وأما المقلد العامي المسلم السليم، فهو أدنى إلى النجاة في معاده من جهة اعتقاده، وأقرب إلى السلامة لاقتصاده، بل هو مسلم معذور، وليس بمفتون ممكور.
فالأشاعرة، حيث نسبوا الأفعال إلى الله تعالى، فقد أساؤوا الأدب وتجاسروا في حق الحق، وما عرفوا حكمة الايجاد وترتيب النظام وجهلوا علم التكليف، فكيف أجابوا عمن سئلهم من المكلف الذي قيل له: " افعل " أو " لا تفعل "؟ وبمن تعلق الأمر والنهي؟ وإلى من توجهت الشريعة النبوية؟ فكانت الشريعة كلها هباء وعبثا، وغاية السعي والطاعة ضائعا وهذرا.
وليس متعلق التكليف ما يسمونه بالكسب، إذ لا تأثير له عند من يقول به، بل الذي يتعلق به التكليف، وتناط به الشريعة، اقتدار لطيف من العبد مندرج في الاقتدار الإلهي، كاندراج نور الكواكب والسراج في نور الشمس، فيعلم بالدليل أن للكوكب نورا منبسطا على وجه الأرض، لكن ما ندركه لسلطان نور الشمس، كما يعطي الحس في أفعال العباد أن الفعل لهم حسا وشرعا، وأن الاقتدار الإلهي مندرج فيه يدركه العقل بالبرهان، ولا يدركه الحس، كاندراج نور الشمس في نور الكوكب - وهو عين نور الشمس والكوكب لها مجلى -.
فالنور كله للشمس، والحس يجعل النور للكوكب، وعلى الحقيقة لا نور إلا نور الشمس، فاندرج نوره في نفسه، إذ لم يكن ثمة نور غيره، والمرائي - وإن كان لها أثر - فليس ذلك من كونها نورا، فالنور له أثر من كونه نورا بلا واسطة، ويكون له أثر آخر في مرآة تجليه يحكم بخلاف حكمه من غير واسطة؛ فنور الشمس إذا تجلى في البدر، يعطى من الحكم ما لا يعطيه منه بغير الواسطة، ولا شك في ذلك.
وكذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبيد، فظهرت الأفعال على الخلق، وهو وإن كان بالاقتدار الإلهي، ولكن يختلف الحكم، لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة بتجليه.
وكما ينسب النور الشمسي إلى البدر في الحس - والفعل لنور البدر وهو للشمس -، فكذلك ينسب الفعل إلى الخلق في الحس، والفعل انما هو لله في نفس الأمر، ولاختلاف الأثر تغير الحكم النوري في الأشياء، كذلك يختلف الحاكم في أفعال العباد.
ومن ههنا يعرف التكليف إلى من توجه وبمن تعلق، وإذا كان الأمر بين الشمس والبدر بهذه المثابة من الخفاء، وأنه لا يعلم ذلك كل أحد، فما ظنك بالأمر الإلهي في هذه المسألة مع الخلق من الخفاء.
فمن وقف على هذا العالم، فهو من أعلى علامات السعادة، ومن فقد مثل هذا فهو من علامات الشقاوة، وأريد بهذا سعادة الأرواح وشقاوتها المعنوية، وأما السعادة الحسية والشقاوة الحسية، فعلاماتها الأعمال المشروعة بشرطها - وهو الاخلاص -، قال الله تعالى:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين
[البينة:5]. وقال:
ألا لله الدين الخالص
[الزمر:3]................................. والأعمال التي بخلافها.
فمن عرف نسبة العقل - الذي هو أمير المشاعر والحواس - إليها، عرف نسبة الاقتدار الإلهي إلى إقتدار الناس، وسر
وما تشآءون إلا أن يشآء الله
[الإنسان:30].
وروى الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني - رحمه الله - في كتاب التوحيد من كتب الكافي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام
" قال الله: يابن آدم - بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أديت [إلي] فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من مصيبة فمن نفسك، وذلك إني أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك اني لا أسئل عما أفعل وهم يسئلون ".
ولعلك إن كنت ذا بصيرة، تستفيد من هذا الحديث القدسي حقية ما ذكرنا لك سابقا، أن النقائص والقصورات اللازمة في هذا العالم لبعض الصفات المنسوبة إلى الحق تارة، وإلى الخلق أخرى، إنما نشأت ولزمت من خصوصية هذا الموطن، فعادت إلينا لا إلى الصفة الإلهية، وهو معنى قوله تعالى: " أنت أولى بسيئاتك مني ". ومعنى قوله: " لا أسئل عما أفعل " إن الأفعال الصادرة منه بلا واسطة، وكذا الصفات الإلهية الثابتة له في مقام التوحيد قبل عالم الكثرة، ليست فيه شائبة النقص والقبح حتى يرد فيها السؤال، لأن عالم الإلهية كله نور وكمال، وليس معناه - كما توهمه قوم - أن صدور القبيح منه حسن، وأن السؤال عن قبحه حرام وبدعة، لأن العالم ملكه، وملكه، له أن يفعل في ملكه كلما يريد - وإن كان قبيحا -.
هذا ما زعمته الأشاعرة، وهو عندنا أكثف الاعتقادات وأفحشها - تعالى وتقدس كبرياؤه عما يقوله الظالمون المتجاسرون في حقه علوا كبيرا -.
تمثيل:
ذكره بعض أصحاب القلوب تقريبا للطبائع والأفهام، وتسهيلا لفهم التوحيد الأفعالي على العقول فيما يضاف إلى الجمادات والأعجام، فإن الحجاب عن إدراك هذا التحقيق أمران:
أحدهما: إختيار الإنسان والحيوان.
وثانيهما: ما ينسب إلى الجمادات وسائر الأجرام.
أما الأول: أن نسبة ارادة الإنسان إلى مشيئة الله، كنسبة إدراك الحواس إلى إدراك العقل، كما في قوله:
وما تشآءون إلا أن يشآء الله
[الإنسان:30]. ونسبة مصادر أفاعيلها من الأبدان والأعضاء، كنسبة الجوارح إلى القلب الذي هو أمير الجوارح، كما دل عليه قوله [تعالى]:
يد الله فوق أيديهم
[الفتح:10]. وقوله:
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة:14]. وقوله:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17].
وأما الثاني: فقد انكشف لدى البصائر المستنيرة، أن الشمس والقمر، والغيم والمطر، والأرض وكل حيوان وجماد، مسخرات بأمره، ومقبوضات بقبضة قدرته، كالقلم الذي هو مسخر للكاتب، وعلمه وارادته وقدرته وقوته التي في عصبه وأصبعه، كما أن علمه ومشيئته واردتان عليه من خزائن غيب الملكوت وكتابة قلم اللاهوت - على ترتيب ونظام، وتقدم وتأخر، من الأعلى فالأعلى، إلى ا[لا] دنى فالأدنى، حتى انتهى أثر القدرة من احدى حاشيتي الوجود إلى الأخرى، ومن القلم الأعلى إلى القصب الأدنى.
وهذا مما يشاهده من انشرح صدره بنور الله، ويسمع بسمعه المنور من يدرك ويفهم تسبيح الجمادات وتقديسها، وشهادتها على أنفسها بالعجز والمسخرية بلسان ذلق أنطقها الله به، الذي أنطق كل شيء بلا حرف وصوت، ما لا يسمعه الذين هم عن السمع لمعزولون.
فقال بعض الناظرين من هذا المشكاة للكاغد - وقد رآه أسود - لم تسود وجهك، وتشوش بياضك بهذا السواد؟
فقال بلسان الحال: سلوا هذا المداد الذي ورد علي وغير هيئتي وجبلتي.
فقال للمداد: لم فعلت ذلك؟
فقال: كنت مستقرا في قعر الدواة، لا صعود لي بنفسي عن ذلك المقعر، فوردت علي قصبة تسمى " القلم " ، فرقاني من مقعري، ولولا نزوله ما كان لي صعود.
فقال للقلم: لم فعلت ذلك؟
فقال: كنت قصبا نابتا في بعض البقاع، لا حركة مني ولا سعي، فورد علي قهرمان سكين بيد قاطع، فقطعني عن أصلي، ومزق علي ثيابي وشق رأسي، ثم غمسني في سواد الحبر ومرارته.
فقال للسكين: لم فعلت؟ فأشار إلى اليد.
فاعترض عليها فقال: ما أنا إلا لحم ودم وعظم، حركني فارس يقال له القدرة، فاسألها.
فلما سألها عن ظلمها وتعديها على اليد فأشارت إلى الإرادة.
فقال لها: ما الذي قواك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة؟
فقالت: لا تعجل لعل لنا عذرا وأنت تلوم، فإني ما انبعثت ولا انتهضت بنفسي، ولكن بعثني حكم حاكم وأمر جازم من حضرة القلب، وهو رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة، والإلزام لها في الفعل، فإني مسكين مسخر تحت قهر العلم والعقل، فلا أدري بأي جرم سخرت لهما، والزمت لهما الطاعة، لكني أدري أن تسخيري إياها بأمر هذا الحاكم العادل أو الظالم.
فأقبل على العلم والعقل والقلب، مطالبا لهم ومعاتبا اياهم على سبب استنهاض الإرادة وإنهاضها للقدرة.
فقال العقل: أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي، ولكني أشعلت.
وقال القلب: أما أنا فلوح ما انبسطت، ولكني بسطت، وما انتشرت ولكني نشرني من بيده نشر الصحائف.
وأما العلم فقال: إنما أنا نقش في منقوش، وصورة صورت في بياض لوح القلب لما أشرق العقل، وما انخططت بنفسي، فكم كان هذا اللوح قبلي خاليا فسل القلم عني، واسأله عن هذا.
فرجع إلى القلم تارة أخرى بعد قطع هذه المنازل والبوادي، وسير هذه المراحل والمقامات، فوقع في الحيرة حيث لم يعلم قلما إلا من القصب، ولا لوحا إلا من العظم والخشب، ولا خطا إلا بالحبر، ولا سراجا إلا من النار، وكان يسمع في هذا المنزل هذه الأسامي ولا يشاهد شيئا من مسماها.
فقال له العلم: زادك قليل وبضاعتك مزجاة، ومركبك ضعيف، فالصواب لك أن تؤمن بهذه المسميات ايمانا بالغيب، وتنصرف وتدع ما أنت فيه.
فلما سمع السالك ذلك، استشعر قصور نفسه، فاشتعل قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص، ولقد كان زيته في مشكاة قلبه يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار لقوة استعداده وكبريتية في مادته، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته، فأصبح نورا على نور، فقال له العلم؛ اغتنم الفرصة وافتح بصرك، فلعلك تجد على هذه النار هدى.
ففتح بصره، فرأى القلم الإلهي كما سمع نعته من العلم إنه ليس من قصب ولا خشب ولا له رأس وذنب، وهو يكتب على الدوام في صحائف قلوب الأنام أصناف العلوم والحقائق، وكان له في كل قلب رأس، ولا رأس له، فقضى منه العجب، فودع عند هذا العلم وشكره، وقال: لقد طال مقامي عندك، إني عازم على السفر إلى حضرة القلم.
فلما جاءه وقص عليه القصص وسأله: " ما بالك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدرة، وصرفها إلى المقدورات؟ " فقال: لقد نسيت ما رأيت في عالم الملك، وسمعته من جواب القلم عن سؤالك؟
قال: لم أنس.
فقال: جوابي مثل جوابه، لتطابق عالمي الملك والملكت، إنما سمعت: " إن الله خلق آدم على صورته " ، فاسأل عن شأن الملقب ب " يمين الملك " ، فإني مقهور في قبضته مسخر، فلا فرق بين قلم الآدمي والقلم الإلهي في معنى التسخير، إنما الفرق في ظاهر الصورة والتصوير.
قال: ومن يمين الملك؟
قال القلم: أما سمعت قوله تعالى:
والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67]. هو الذي يرددها، فاسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم.
[فسافر السالك من عنده إلى اليمين، حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم.. فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم] فقال : جوابي ما سمعت من اليمين الذي في عالم الشهادة، وهو الحوالة على القدرة.
فلما سار إلى عالم القدرة، فرأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبل ذلك، فسألها عن تحريك اليمين. فقالت: أنا صفة، فاسأل " القادر " إذ العهدة على الموصوفات لا على الصفات.
وعند هذا كاد أن يزيغ ويتنطق بالجرأة على السؤال، فثبت بالقول الثابت، ونودي من سرادقات الحضرة:
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
[الأنبياء:23]؛ فغشيته الحضرة، فخر صعقا، فلما أفاق قال: سبحانك ما أعظم شأنك، تبت إليك وتوكلت عليك، آمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك، ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك، وبرضاك من سخطك وبك منك، فأقول: اشرح لي صدري لأعرفك، واحلل عقدة الصمت من لساني لأثني عليك.
فعند هذا رجع السالك، واعتذر عن أسئلته ومعاتبته، فقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري، فإني كنت غريبا في بلادكم، ولكل داخل دهشة، فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصوري وجهلي، والآن قد صح عندي عذركم، وانكشف لي أن المتفرد بالملك والملكوت، والعزة والجبروت، هو الواحد القهار، والكل تحت تسخيره، وهو الأول والآخر، والظاهر الباطن.
فهذا هو الكلام في تفسير الإضلال.
فصل
قوله: { ويهدي من يشآء }
قد مر الكلام في معنى الهداية، وقد جاء الهدى على وجوه:
أحدها: الدلالة والبيان: قوله [تعالى]:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
[الإنسان:3].
وتانيها: الدعوة إلى الحق.
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
[الشورى:52]. أي: لتدعوا.
ولكل قوم هاد
[الرعد:7]. أي: داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى.
وثالثها: التوفيق بالألطاف المشروعة للمؤمنين بسبب ايمانهم، في مقابلة الإضلال بمعنى الخذلان للكافرين بكفرهم، كما في قوله تعالى:
والذين اهتدوا زادهم هدى
[محمد:17]. وقوله:
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى
[مريم:76].
والله لا يهدي القوم الظالمين
[البقرة:285]. وقوله:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين
[ابراهيم:27].
ورابعها: الهدى إلى طريق الجنة. قوله:
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم
[المائدة:16].
وخامسها: التقديم. يقال: " هدى فلان [فلانا] " إذا قدمه أمامه. وهوادي الخيل: أعناقها، لأنها تتقدمها.
وسادسها: هداه، أي: سماه مهتديا وحكم عليه. قوله:
إن الهدى هدى الله
[آل عمران:73]. وقوله:
من يهد الله فهو المهتدي
[الأعراف:178]. أي: من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحق بأن يسمى مهتديا.
فهذه هي الوجوه التي ذكرها المعتزلة، وقد انكشف عليك حالها فيما تقدم في باب الاضلال.
وعند الجبرية للهداية وجه آخر، وهو كون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم، في مقابلة الإضلال، بمعنى [خلق] الضلالة والجهل، كما أن الله هو المحيي والمميت، بمعنى خالق الحياة والموت.
قالت المعتزلة: إن هذا غير جائز لغة، إذ لا يقال لمن حمل غيره على سلوك الطريق جبرا وكرها: " إنه هداه إليه " ، وإنما يقال: " رده إلى الطريق المستقيم ". وذكروا وجوها أخرى مكررة الايراد والاندفاع لا نطول الكلام بذكرها تفصيلا.
ويكفي للجميع جواب واحد، وهو أنا نعلم يقينا بالقواطع البرهانية، أن خالق الأشياء كلها هو الله - إما بلا واسطة، أو بواسطة -، والتي تمسكتم بها وجوه لغوية أو نقلية قابلة للاحتمال، والمحتمل لا يعارض القاطع، فوجب المصير إلى ما يقضي به العقل المنير؛ أو ما يسمع بالقلب السليم ممن عنده علم من الذكر الحكيم، كما قال تعالى:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
[النحل:43].
قوله جل اسمه: { وما يضل به إلا الفاسقين }
الفسق، أصله الخروج، من قولهم: " فسقت الرطبة من قشرتها " أي: خرجت، فكأن الفاسق هو الخارج عن الطاعة، وتسمى الفأرة " فويسقة " لخروجها لأجل المضرة.
وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة أنه لا مؤمن ولا كافر، لأن الإيمان عندهم عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، والكفر تكذيب الحق وجحوده، فجعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر، لمشاركته كلا منهما في بعض الأحكام.
واحتج المخالف بقوله تعالى:
بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان
[الحجرات:11]. وقال:
حبب إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان
[الحجرات:7] وصاحب الكشاف - لاعتزاله - فسر الفاسقين بالخارجين عن حد الايمان، معتضدا بقوله تعالى:
إن المنافقين هم الفاسقون
[التوبة:67]. وتبعه البيضاوي جريا على عادته في الاتباع. وهذه المسئلة طويلة مذكورة في الكلام.
ومرتكب الكبيرة فاسق خارج عن أمر الله بالاتفاق، وله درجات:
الأول: الذي لا يميز بين الحق والباطل، والجميل والقبيح، ساذجا عن العقائد الرديئة، غير مستمر الشهوة؛ وهو سريع القبول للعلاج، قريب المبادرة إلى التوبة.
الثاني: أن يكون قد عرف ذلك، لكنه يتعاطاه انقيادا لشهوته، وإعراضا عن صواب رأيه، لاستيلاء الداعية الشهوية عليه، بل زين له سوء عمله، لكن علم تقصيره فأمره أصعب، ورجوعه أبعد.
الثالث: أن يعتقد في قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أنها مستحنسة، وأن ما يعتقده ويفعله حق وجميل، وتعود ارتكابها والإنهماك فيها من غير مبالاة بها، فهذا يكاد يمتنع اصلاحه، ولن ترجى توبته إلا على الندور، وذلك لتضاعف أسباب الضلال.
والرابع: أن يكون مع إدامته على الفسوق ورسوخه في العصيان، يرى الفضيلة فيما يفعله من كثرة الشر واستهلاك النفوس، ويعتقد أن ذلك موافق للشريعة، ويباهي به، ويظن أن ذلك يرفع في قدره. وهذا أصعب المراتب وأشدها غورا وتعمقا في الباطل.
فقيل للأول من هؤلاء: " ضال " فقط. وللثاني: " ضال وفاسق ". وللثالث: " ضال وفاسق وظالم ". وللرابع: " ضال وفاسق وظالم وشرير " أي: شيطان مريد. والثلاثة الأول ممن لا يسلب عنهم اسم الايمان، لأتصافهم بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان، وربما جازت التسمية به للرابع عند طائفة تمسكا بظاهر قوله تعالى:
وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا
[الحجرات:9].
وتخصيص الإضلال بالفساق، يدل على تعليقه بالوصف، وترتبه على فسقهم وخروجهم عن دائرة أهل الايمان والصلاح، فأدى بهم العدول عن منهج الحق والصواب، إلى الإصرار على الباطل والخطأ، وصرفهم إلى الضلال البعيد والإضلال.
وقرئ: " يضل " على البناء للمفعول، و " الفاسقون " بالرفع.
[2.27]
أراد أن يذكر صفة الفاسقين كشفا عن حالهم، وايضاحا لسبب ضلالهم، وتقريرا لرسوخهم فيما هم عليه، ليدل على نكالهم في مآلهم من الخسران العظيم والعذاب الأليم.
و " النقض " في اللغة: فسخ التركيب وفكة. وإنما ساغ وشاع استعماله في إبطال العهد، تشبيها له بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر؛ ثم إن ذكر المشبه به - وهو الحبل - كان ترشيحا للمجاز، وإن أطلق مع المشبه - وهو العهد - كان رمزا إلى ما هو من روادفه، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر المستعار، ويرمزوا بذكر شيء من روادفه، فينبهوا على مكانه، كقولك: " شجاع يفترس أقرانه " تنبيها على أنه أسد في شجاعته. و: " عالم يغترف منه " تنبيها على أنه بحر في علمه وإفادته.
ومن قبيل الأول قول ابن التيهان في بيعة العقبة: " يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها، فنخشى إن الله [عز وجل] أعزك وأظهرك [على قومك] أن ترجع إلى قومك ".
و " العهد ": الموثق، وجاز استعماله في كل ما من شأنه أن يتعاهد ويتحفظ به، كالوصايا والايمان والنذور والأوقاف؛ ويقال للدار من حيث إنها يراعى بالرجوع إليها، وللتأريخ لأنه يحفظ.
[ما هو " عهد الله "؟]
ثم اختلفوا في المقصود من هذا العهد على أقوال:
الأول: ما ركز في العقول من قوة الإستعداد لإدراك الحجج القائمة الدالة للعباد على صحة توحيده وصدق رسوله. وهذا معنى قوله:
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف:172]. وعليه يحمل قوله:
أوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة:40]؟
الثاني: أن يعنى به ميثاقا أخذه من الناس وهم على صورة الذر، وأخرجهم من صلب آدم عليه السلام كذلك، وهو معنى قوله:
وأشهدهم على أنفسهم
[الأعراف:172] الآية.
أقول: وهذا عند التحقيق راجع إلى الوجه الأول.
والثالث: أن يعنى به ما دل عليه بقوله:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا
[فاطر:42]. فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه، ولم يهتدوا، فقد نقضوا عهدهم وميثاقهم.
وهذا مرجوح، لاختصاصه بطائفة مخصوصة يرد عليهم الذم فيما التزموا باختيارهم من أنفسهم، بخلاف الأول، فإنه عام في كل من ضل وكفر، ويلزمهم الذم لأنهم نقضوا عهدا أبرمه الله تعالى، وأحكمه بما أنزله من دلائل الآفاق والأنفس، وشواهد الكتب والرسل بالحجج البينة، مع ما أودع في العقول.
قال المتكلمون في إنكار الوجه الثاني وإسقاطه: كيف يحتج الله تعالى على عباده بعهد وميثاق لا يشعرون به، كما لا يؤاخذهم بما أذهب علمه عن قلوبهم بالسهو والنسيان، فكيف يجوز أن يعييهم بذلك ويذمهم.
أقول: إن الكلام في تحقيق إخراج الذرية من صلب آدم على صورة الذر، عميق خارج عن طور أهل البحث خروجا شديدا؛ وبعدت أذهانهم عن دركه بعدا بعيدا، وقد وقعت الإشارة إليه، حيث ذكرنا أن للإنسان أنحاء من البعث والحشر.
واعلم أن طوائف العلماء ذكروا في توجيه الخطاب الإلهي والكلام الرباني إلى المعدوم في حال عدمه وجوها:
أحدها: ما ذكره القائلون بثبوت المعدومات، وشيئية الماهيات قبل وجوداتها، كالمعتزلة القائلين بثبوت المعدوم ثبوتا خارجيا، وكبعض المتصوفة القائلين بثبوته ثبوتا علميا في الأزل، وهو أن الخطاب مع أفراد البشر حين ثبوتها في الخارج أو في علم الله، وقد أقيمت البراهين على [بطلان] شيئية المعدوم في الكتب العقلية، وزيف القول بها بما لا مزيد عليه.
وثانيها: ما يبتني إما على قول بعض الحكماء القائلين بقدم الأرواح الإنسانية، أو على القول بتقدمها على الأبدان بألفي عام، كما ورد في الحديث النبوي - على قائله وآله السلام - وفي رواية
" خلق الله الأرواح قبل الأجسام بأربعة آلاف سنة "
وأن الخطاب والعهد وقعا على الأرواح الإنسانية قبل تعلقها بالأبدان العنصرية.
وهذا أيضا مقدوح - لدلالة البراهين القائمة على بطلان تقدم النفوس بأنحاء وجوداتها المختصة على الأبدان -، فضلا عن قدمها.
وقد ذكر معلم الفلاسفة وجوها من البراهين على أن حدوثها بحدوث الأبدان، وذلك لأن المفارقات عن الأجسام وعلائقها لا تغير ولا تجدد لها، ولا تسنح لها حالة غريبة الجأتها عن مفارقة عالم القدس والطهارة، واقليم الخير والسعادة الى هذا المهوى الذي هو منبع الشرور والآلام، ومعرض الأمراض والهموم والأعدام.
وحمل بعضهم الأرواح والأجسام المذكورتين في الحديث المذكور، على الأرواح الكلية والأجرام الكلية، ونحن قد علمنا في شرح هذا الحديث، وتعيين المذكور فيه على كلتا الروايتين رسالة على حدة.
وثالثها: قول المحققين من أهل التوحيد، وهو أن الخطاب بقوله تعالى:
ألست بربكم
[الأعراف:172] في أخذ الميثاق، كان لحقيقة الإنسان الموجودة في العالم الإلهي والصقع الربوبي، فإن لكل نوع طبيعي حقيقة عقلية، وصورة مفارقة، ومثالا نوريا في عالم الحقائق العقلية والمثل الإلهية، هي صور ما في علم الله عند الحكماء الربانيين والعرفاء الأقدمين، وهم كانوا يسمونها بأرباب الأنواع، زعما منهم أن كلا منها ملك موكل بإذن الله، يحفظ باقي أشخاص ذلك النوع الذي هو صورتها عند الله في عالم الصور المفارقة، والمثل النورية العقلية، ونسبته إليها نسبة الأصل إلى الفروع، ونسبة النور إلى الأظلال.
والفرق بين الحقيقة الإنسانية وسائر الحقائق، بأن كلا منها مربوب اسم واحد من الأسماء الإلهية، وهذه الحقيقة مظهر الاسم " الله " ، المتضمن لسائر الأسماء ومربوبه، وبأن ليس لأفراد غيرها التنزل عن المرتبة التي هي عليها، ولا الترقي من مقام إلى مقام، حتى تنتهي إلى الحضرة الإلهية، بخلاف هذه الحقيقة الإنسانية المستعدة بصورتها الكونية للخلافة الربانية، وبصورتها العقلية للوفاء بالميثاق في النهاية، كما للقبول لأخذه وعقده في البداية.
وهذا مما هو محقق عند القائلين بأن للإنسان صعودا وهبوطا بحسب تطوره في الأطوار؛ ففي الهبوط نزل من عالم القدس والجنة بأمره تعالى، وقوله:
اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
[البقرة:36]. وفي الصعود يرتقي إلى جوار الله ومقام قاب قوسين ومقام المكالمة الحقيقية، وإلى حيث يقول:
" من رآني فقدر رأى الحق "
ويقول: " لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ".
ثم لا يخفى على أولى النهى، أنا لا نجد ولا ندري ان الله تعالى ذكر أنه كلم أحدا وهو بعد لم يجئ إلى عالم الكون، إلا بني آدم، فإنه كلمهم وهم بعد غير موجودين في العالم، وأجابوه وهم لم يتولدوا ولم يحدثوا بعد، فجرى لهم بالجود الرباني ما جرى - لا بالوجود الإنساني - وإلى ذلك المقام سينتهي المنتهى بأن يكون سمعه وبصره ولسانه، كما قال في الحديث القدسي:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق "
، وإلى هذا أشار الجنيد حين سئل: " ما النهاية؟ " فقال: " الرجوع إلى البداية ".
وأما معنى قطع هذا الميثاق ونقض العهد الواقع في البداية، فهو أن تلك الحقيقة الإنسانية الموجودة قبل هذه الأكوان الترابية في عالم الحضرة الربوبية، كانت ذات جهات وحيثيات عقلية، تضاعفت عليها من تضاعيف الإشراقات النورية الواجبية، وتضاعيف النقائص الإمكانية، وكثرة الإزدواجات الحاصلة بين جهات النور والظلمة، والوجوب والإمكان والكمال والنقصان.
فهذه الجهات العقلية، هي أسباب كثرة الأكوان لأفراد الإنسان، وهي المعبر عنها بالذرات المستخرجة بحسب الفطرة، فإنه استخرج الله من ظهر آدم ذرات بنيه، واستخرج أيضا من ظهورهم ذريات ذرياتهم المودعة فيها إلى يوم القيامة.
إذا تصورت هذا، فاعلم أن المستمعين منهم للخطاب، كانوا على ثلاث طبقات: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال؛ وجعل الله لكل منهم سمعا وبصرا وفؤادا - على حسب حاله ومقامه -.
ثم نظر إلى السابقين بنظر المحبة، وجعلهم قابلين لنور المحبة، كما في قوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]. ونور سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم بأنوار اللطف والكرامة ". فلما قال لهم:
ألست بربكم
[الأعراف:172] فسمعوا الخطاب بالسمع المنور، وشاهدوا الجمال بالأبصار المنورة، وأحبوا لقائه بالقلوب المنورة، فأجابوه بلسان المحبة يقينا حقا، وايمانا وتسليما، وتعبدا ورقا.
وأما أصحاب اليمين، فسمعوا الخطاب بسمع القابلية، وأبصروا الشواهد بالأبصار الخالية عن الغشاوة، وفهموا تعريف الوحدانية بالقلوب الصافية، فأجابوه بلسان الايمان تعبدا ورقا، وقالوا: { بلى } أنت ربنا ومعبودنا.
وأما أصحاب الشمال، فامتحنوا بإظهار العزة والعلى، واحتجبوا برداء الغيرة والكبرياء، فسمعوا الخطاب من وراء الحجاب، وعلى السمع وقر البعد، وعلى الأبصار غشاوة الحجب الظلمانية، وفي القلوب ختم الظلمة لأنها في أكنة العزة، فلم يسمعوه بسمع القبول والطاعة، فأجابوا بلسان الإقرار جبرا واضطرارا، ودهشة وافتقارا.
فقد انكشف لك أن لأفراد البشر قبل ورودهم إلى الدنيا هويات عقلية مستخرجة من ظهر أبيهم العقلي، فتجلى الله عليهم قبل وجودهم، ورباهم، وشاهدوه بلاهم، وسمعوا خطابه، وأجابوه اقرارا بوحدانيته وربوبيته في نشأة سابقة على هذه النشأة لهم.
فصل
واعلم أن لله تعالى عهدا عاما أخذه على جميع الموجودات، وهو أن يطيعوه ويعبدوه ويسبحوه ويعظموه، لأن الكل حي قائم ناطق بحياة سارية في الأشياء من الحي القيوم، ونور يفيض عليها من نور الله الفائض على السموات والأرض. وعهودا مخصوصة وهي ثلاثة أجناس:
عهد أخذه على جميع ذرية آدم، بأن يقروا بربوبيته لسانا واعترافا، كما أقروا به فطرة وحقيقة وشهودا عقليا، كما أخبر عنه تعالى بقوله:
قالوا بلى شهدنا
[الأعراف:172].
وعهد خص به النبيين أن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا، ويبلغوا الرسالة إلى الخلق أجمعين، كما في قوله:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم
[الأحزاب:7].
وعهد خص به العلماء بأن ينصوا الحق ولا يكتموه، وهو قوله:
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه
[آل عمران:187].
فصل [تأويل قوله تعالى: { مآ أمر الله به أن يوصل } ]
الضمير في قوله: { من بعد ميثاقه } راجع إلى العهد.
و " الميثاق " صيغة مصدر أريد بها ما تقع به الوثاقة، أي الإحكام، والمراد به: أما من قبل الله فبما وثق الله به عهده من إنزال الآيات والكتب، وأما من قبلهم فبما وثقوه من القبول والالتزام والاستعداد، ويحتمل أن يراد بها المعنى المصدري.
وكلمة " من " ابتدائية، لأن إبتداء النقض كان بعد الميثاق، إذ لو كان قبله لم يستحقوا الذم هذا المبلغ، وفيه إشارة إلى أن أولئك الضالين، بعد أن حصلوا مقدمات علم التوحيد، ووصلوا إلى مرتبة يستعدوا بها لإدراك المعرفة واليقين، رجعوا إلى مقام الجحود والإنكار طلبا للرياسة والجاه، وترفعا عن قبول التعلم، وإعراضا عن سماع الآيات، وانهماكا في طلب اللذات، حتى صاروا قواطع طريق الحق.
فقوله: { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } معناه: إنهم كانوا يقطعون على من هو بصدد السلوك على طريق الحق، والمشي على صراط التوحيد سبيلهم، بإفساد عقائدهم بالشبه المضلة، وانكار المعجزات النبوية، والقدح في حقية العلوم الإلهية والآيات، والحال أنهم أمروا أن يوصلوا طريق الحق والتوحيد، ويصلوا رحم القرابة الإيمانية والرابطة الإلهية، فإن للوجود الحقيقي رباطا وحدانيا، وللقرابة المعنوية الإيمانية صلة منشأوها الرحمة الرحمانية، كما أن للوجود الصوري اتصالا، وللقرابة الصورية صلة منشأوها الرحم الرحمن الانعطافي.
بيان ذلك: أن الإنسان حيث هبط بأمر الله عن عالم الوحدة الإلهية إلى جنة أبيه آدم عليه السلام، ثم نزل بأمر
اهبطوا
[الأعراف:24] إلى أرض البشرية، وانقطع عن عالمه الأصلي إلى دار الفرقة والتشتت. ثم هو مأمور بحسب الأمر التكويني والأمر التشريعي، بأن يرتقي عن هذا العالم، ويتجرد عن قشور الخلقية، ويتخلص عن علائق الطبيعة، ويستبق الخيرات، ويسابق إلى الجنة، إلى أن يصل إلى عالم الرحمة والمعرفة، وهو قوله:
فاستبقوا الخيرات
[البقرة:148]. وقوله:
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والأرض
[الحديد:21]. وقوله:
وأنيبوا إلى ربكم
[الزمر:54]. وقوله:
ارجعوا إلى أبيكم
[يوسف:81]. فعند وصول الروح الإنساني إلى درجة أبيه المقدس، يتصل آخر دائرة الوجود بأولها، ويزول عنه الفرقة الكونية باللحمة المعنوية الوجودية.
وكما أن في البداية كان عقلا، ثم نفسا، ثم صورة، ثم جسما؛ ففي العود إلى النهاية صار بدنا، ثم صورة بشرية، ثم قلبا معنويا، ثم روحا منفوخا إسرافيليا قائما بذاته، ناظرا إلى ملكوت الأشياء لقوله:
ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون
[الزمر:68]. ثم روحا إلهيا أمريا لقوله:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29]، وقوله:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85].
فهذا تأويل قوله: { مآ أمر الله به أن يوصل } ، فما أمر الله بوصله، هو عين الروح الأمري الذي أمرنا الله في ايجاده ايانا أمرا تكوينيا، بأن يصل إلى مقام الروح بالعلم والتقوى، والمعرفة والهدى.
وقيل: يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطيعة الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين والعلماء، والتفرقة بين الأنبياء والكتب في التصديق، وترك الجماعات المفروضة، وسائر ما فيه ترك خير أو تعاطي شر، فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد، المقصودة بالذات من كل وصل وفصل.
وهذا عند التحقيق راجع إلى ما ذكر أولا.
و " الأمر ": هو القول الطالب للفعل. وقيل: " مع العلو والاستعلاء ". واطلاقه على الأمر الذي هو واحد الأمور، تسمية للمفعول به بالمصدر، فإنه مما يؤمر به، كما قيل له: " شأن " وهو الطلب والقصد، يقال: " شأنت شأنه " أي: قصدت قصده.
ثم الأمور كلها في هذا العالم - عالم الخلق - حاصلة بأمره تعالى وقوله، وهو عالم الأمر كله، لأن أمره وقوله وكلمته ليس من جنس الأصوات والحروف والحركات؛ بل أمره التكويني جوهر الروح، كما قال:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85].
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
[النساء:171]. وما يحصل منه بواسطة أمره التكويني، هو عالم الخلق، وإذا قطع النظر عن ترتيب الوسائط والأسباب، ونسب الكل إليه ابتداء، كان كل شيء أمره الايجادي، لعدم المغايرة بين أمره تعالى والمأمور بأمره تعالى في الأمر الايجادي، بخلاف الأمر التشريعي منه، أو الأمر الصادر من غيره، فإن الآمر والمأمور به فيهما متغايران، كما وقعت إليه الإشارة سابقا.
فصل
{ ويفسدون في الأرض }
فسادهم إما متعد أو لازم:
فالأول: كمنعهم عن طاعة الرسول، واتباع شريعته (صلى الله عليه وآله)، لأن تمام صلاح أهل الأرض بطاعة الله والتزام شرائعه، إذ بهذا الإلتزام يندفع الجور والظلم، ويبقى الحرث والنسل، وتحفظ الأنواع فيها، ويظهر العدل الذي به قامت السموات.
والثاني: هو عزل القوى عما خلقت لأجله، وعدم استعمالها فيه، فيجب تمكين الدواعي النفسانية، واستيلاء الشهوة والغضب، وغلبة الوهم على العقل، فيفسد في أرض البدن التي خلقت هي وقواها لأن يعبدوا الله فيها وأنابوا إليه.
وقوله: { أولئك هم الخاسرون }:
يعني: من فعل ذلك فهو الخاسر، وذلك إما لأنهم باعوا اللذات العلى والسعادات القصوى الباقية بهذه اللذات الخسيسة البدنية الفانية، أو لأن لكل أحد في الجنة أهلا ومنزلا، فإن أطاع الله وجده، وإن عصاه ورثه المؤمنون، فذلك قوله:
إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة
[الزمر:15].
أو لأنهم خسروا حسناتهم التي عملوها، والآية في اليهود - وكانت لهم أعمال بحسب شريعتهم -، وفي المنافقين - ولهم أعمال ظاهرة عملوها رياء واتقاء للناس، فحبط ما صنعوا وباطل ما كانوا يعملون -.
قال القفال: الخاسر: إسم عام يقع على من عمل عملا لا يجزى عليه، كالرجل إذا عنى نفسه، وصرف وقته في أمر فلم يأت بنفع قيل: " خائب خاسر " ، لأنه كمن أعطى شيئا ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه، فسمي الكفار الذين يسعون في الحياة الدنيا بالمعاصي خاسرين، قال تعالى:
إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[العصر:2 - 3]. وقال:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا
[الكهف:103 - 104].
أقول: اعلم أن أعظم الخسران خسران النفس، لأن وجدان كل شيء بعد وجدان الذات وبسببه، فإذا هلكت هلك عنها كل شيء، كما في قوله:
هلك عني سلطانيه
[الحاقة:29].
وتحقيق ذلك: أن الأفراد الإنسانية مشتركة في أن لكل منها نفس مدركة للجزئيات بالوهم والخيال، وهذه النفوس نفوس بالفعل، عقول بالقوة، فإذا خرجت من القوة إلى الفعل، صارت عقولا بالفعل بالروح الإضافي المنفوخ فيها من الله، وإنما تخرج من القوة النفسانية إلى الفعل الروحي الأمري، بمزاولة أعمال دينية، وتحصيل علوم حقيقية، وللإنسان بإزاء هاتين المنزلتين حياتان أخرويتان:
إحداهما: حياة الذين يرزقون عند الله من الأرزاق المعنوية العلمية، فرحين بما آتاهم الله من فضله من الأنوار العقلية الأبدية.
وثانيتهما: حياة حيوانية، يدرك بها إما نعيم السعداء مما تشتهيه الأنفس، أو جحيم الأشقياء مما تتعذب به النفوس الشقية، كما في قوله:
فمنهم شقي وسعيد * فأما الذين
[هود:105 - 106] الآية.
إذا ثبت هذا فنقول: إن الإنسان إذا صرف قواه في هذه الحياة الدنيا - التي هي حركة ما جبلية إلى النشأة الآخرة - إلى غير ما خلقت لأجله وهو تحصيل الروح الأمري الذي هو باق عند الله -، ثم ضاعت عنه القوة الاستعدادية التي كانت له بمنزلة رأس المال، وانقلبت صورة ذاته إلى أن صار الإنسان أضل من الأنعام، وأنزل درجة من الحشرات والديدان، فقد خسر ذاته ونفسه، فهذا هو الخسران المبين.
[2.28]
لما ذكر الله سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، أراد أن يشير إلى أن الفاعل والغاية معا في وجود الإنسان هو ذاته تعالى، فقوله: { كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم } إشارة إلى بداية أحوال الإنسان، { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } إشارة إلى نهاية حاله وعاقبة أمره.
و " كيف " في الأصل، سؤال عن الكيفية والحال ، كما يتضح ذلك في الجواب، فإنك إذا سألت أحدا: " كيف رأيت زيدا؟ " فيقول: مسرورا، أو مهموما، وما أشبههما من الأحوال، ف " كيف " سؤال عن الحال، فيجاب عنه بكل ما يليق من الأحوال، كما أن " كم " سؤال عن المقدار والعدد، و " ما " سؤال عن تمام الماهية، و " أي " عن المميز الذاتي أو العرضي، و " من " عن حقيقة الشخصية إن كان من العقلاء، و " أين " و " متى " عن نسبة زمانه ومكانه - وهذه الاستفهاميات -.
" كيف " قد يجيء للتوبيخ والإنكار، فكيف ههنا مثل " الهمزة " في قوله: " أتكفرون بالله " ، والفرق بينهما بأن الهمزة إنكار لأصل الفعل، وكيف؛ إنكار للحال التي يقع عليها الفعل، لكن حال الشيء تابعة لأصله وذاته، فإذا امتنعت امتنع، واذا جاز جازت، فيكون إنكار حال الكفر التابع لأصله الرديف لذاته على سبيل الكناية أبلغ وأقوى، لأنه بيان للشيء ببرهانه. فإنك إذا نفيت كل صفة يوجد عليها " زيد " ، فقد نفيت وجود زيد بوجه برهاني، فيكون آكد وأقوى من انكار وجوده لا بينة، وذلك لأن وجود الشيء بلا صفة من الصفات، وحال من الحالات، ممتنع.
فثبت مما ذكر أن: " كيف تكفرون " أبلغ في إنكار الكفر من: " أتكفرون " ، وأوفق بما بعده، وتقديره " أمتعلقين بحجة وملابسين ببرهان تكفرون بالله؟ " فيكون { وكنتم أمواتا } وما بعده منصوب الموضع على الحال، والعامل فيه " تكفرون " أي: تكفرون عالمين بهذا البرهان، فيكون من قبيل وضع الحد موضع المحدود، ووضع الشيء مكان عنوانه واسمه.
وبهذا يندفع ما أورد عليه، من أن الحال يجب أن يكون وجوده مع وجود ما يقيد به، وههنا ليس كذلك، فإن الكفر حاضر لهم، وكونهم أمواتا ماض ولا يجدي نفعا.
الجواب عنه: بأن الواو الحالية لم تدخل على " كنتم أمواتا " فقط، بل على جملة الكلام إلى قوله: " ترجعون " ، أي: كيف تكفرون وقصتكم وحالكم هذه أنكم [كنتم] كذا وستصيرون كذا. لأن بعض القصة والحال ماض، وبعضها مستقبل، وكلاهما لا يصح وقوعهما حالا، إذ المركب من الفائت المنقضي والغائب المنتظر، لا يكون موجودا حاضرا، نعم، العلم بهذه القصة موجود حاضر ، فكأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بتمام هذه القصة من بدوها إلى غايتها.
فقد رجع إلى التوجيه الذي سبق ذكره، من أنكم كيف تكفرون ملابسين بما يبرهن به على إثبات المبدء والمعاد. أي: ما أعجب كفركم في جميع أحوالكم مع علمكم بحالكم ومآلكم.
لا يقال: علمهم بما سبق من كونهم أمواتا فأحياهم ثم أماتهم، لم يتصل بما لحقهم من الإحياء الثاني والرجوع؟
لأنا نقول: ضرب من العلم بهما حاصل بكل أحد وإن عاندوا وجحدوا، ومع قطع النظر عن ذلك، تمكنهم من العلم بهما بحسب ما نصب الله لهم من الدلائل الموصلة إليه، وكثرة شهادات المخبرين من الأنبياء والأولياء عليهم السلام عنهما، يجري مجرى علمهم في إزاحة العذر، سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهما أمران:
أحدهما: إن الله لما قدر أن أحياهم أولا، قدر أن يحييهم ثانيا، فإن إبداء الخلق ليس بأهون من إعادته ثانيا.
وثانيهما: إنه لو لم يكن للإنسان بقاء أخروي، لكان وجود العقل فيه، والقدرة على استخراج العلوم الحقيقية بالأنظار، والتمكن من كسب المعاني العقلية المتعقلة بمعرفة الله وذاته وصفاته بالأفكار، عبثا وهباء، والحكيم لا يفعل العبث، وغاية المعرفة والعلم يمتنع أن يكون في هذا العالم، لأن كلما يوجد في هذا العالم، يكون من قبيل المحسوسات، والمحسوس - بما هو محسوس - لا يكون غاية للمعقول، لأن الغاية أبدا تكون أشرف من ذي الغاية.
فصل
[تحقيق في الموت والحياة]
قيل: إن الخطاب كان إما مع الذين كفروا، لما وصفهم الله بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال، خاطبهم على طريقة الالتفات، ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك.
وإما مع الطائفتين جميعا، فإنه لما بين دلائل التوحيد والنبوة، ووعدهم على الايمان وأوعد على الكفر، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة والخاصة، واستقبح صدور الكفر منهم، واستبعد عنهم مع تلك النعم العظيمة، فإن جلالة النعمة تقتضي زيادة الشكر، وبازائها عظم العقوبة على عصيان المنعم، فمن هذا الموضع إلى قوله:
يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم
[البقرة:40] في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين، وفي ضمنها ما يختص بالخواص.
لا يقال: كيف يعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟
لأنا نقول: لما كانت وصلة إلى الحياة الأبدية كانت نعمة عظيمة. وأما مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم، وتبعيد الكفر عنهم على معنى: كيف يتصور منكم الكفر وكنتم جهالا فأحياكم الله بما أفادكم من نور الإيمان واليقين؟ على طباق قوله:
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا
[الأنعام:122]. ثم يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم الحياة الحقيقية، ثم إليه ترجعون [فيثيبكم] بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
واعلم أنهم ذكروا وجوها في الموت والحياة المذكورتين في هذه الآية مرتين.
فعن قتادة: إنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم - يعني: نطفا - ثم أحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم بعد الموت في الآخرة.
وعن ابن عباس وابن مسعود: إن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم، ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة.
وقيل: معناه { كنتم أمواتا } يعني خاملي الذكر { فأحياكم } بالظهور { ثم يميتكم } عند تقضي آجالكم { ثم يحييكم } للبعث. والعرب تسمي كل أمر خامل " ميتا " وكل مشهور " حيا ". قال:
فأحييت من ذكري وما كان خاملا
ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
والوجه الرابع: إن معناه: كنتم نطفا في أصلاب آبائكم وبطون أمهاتكم - والنطفة موات - فأخرجكم إلى دار الدنيا { فأحياكم، ثم يميتكم } [في الدنيا { ثم يحييكم } في القبر للمسائلة { ثم إليه ترجعون } أي يبعثكم يوم الحشر للحساب والمجازاة على الأعمال.
وسمي رجوعا إليه، لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم فيه أحد غير الله، كما يقال: " رجع القوم إلى الأمير " أي أمر القوم إلى حكمه.
فهذه هي الوجوه التي ذكرها علماء التفسير، وسيأتيك كشف بعض ما فيها.
والوجه في كون العطف الأول ب " الفاء " والثواني ب " ثم " ، لأن الأول متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف الأعقاب.
وتقديم نعمة الحياة في الذكر على سائر النعم المذكورة، لتقدمها طبعا، ولكونها ما يتمكن به الإنسان من الانتفاع والالتذاذ بغيرها.
ثم إن الإتفاق، مع أنه قد وقع على أن المراد من قوله: { وكنتم أمواتا } إما التراب - كما في خلق آدم أبي البشر -، وإما النطف - كما في خلق أولاده ما خلا عيسى عليه السلام - ولكن اختلفوا في أن اطلاق اسم الميت على الجماد حقيقة أو مجاز؟ والأكثرون على أنه مجاز، لأنه شبه الموات بالميت، لأن الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يقبل الحياة بما فيه من اللحمية والرطوبة، والحمل على الحقيقة أولى، كما دل عليه ظاهر هذه الآية وغيرها، إذ لا داعي للعدول عن الحقيقة، وأما القوة المأخوذة في أعدام الملكات، فهي قد تكون بحسب الجنس، كما في عمى العقرب، فجنس الجماد والنبات - وهو الجسم الطبيعي - فيه قوة قبول الحياة.
واعلم إن الحياة في المشهور عند الجمهور، حقيقة في القوة الحساسة أو ما يقتضيها، وبها سمي الحيوان " حيوانا " ، وتطلق على القوة النامية مجازا، لأنها من طلائعها ومقدماتها، وعلى ما يختص بالإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والايمان من حيث إنه غايتها وكمالها.
والموت بإزائها يطلق على ما يقابلها في كل مرتبة؛ قال تعالى:
قل الله يحييكم ثم يميتكم
[الجاثية:26]. وقال:
اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها
[الحديد:17]. وقال:
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام:122]. وإذا وصف بها الباري سبحانه، أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك.
هذا ما ذكر - والحق أن الحياة ليست مما تخص حقيقتها للقوة الحساسة التي في هذه الحيوانات أو مبدئها فقط - كما توهم -، بل لكل شيء حياة تخصه بها يسبح الله ويمجده، وبإزائها موت، هو عدم تلك الحياة عنه كما قال تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء:44]. وذلك لأن لكل شيء وجودا يخصه، به ينفعل عما فوقه ويفعل فيما دونه، وهذا الانفعال والفعل في هذه الحيوانات، هو الإحساس والتحريك، وفي الإنسان هما التعقل والروية، وفي النباتات، هما التغذي والتوليد ؛ وهكذا القياس فيما علا وما سفل، حتى يرجع في إحدى الحاشيتين الفعل إلى الانفعال كما في الهيولى، وفي الأخرى بالعكس، لأنه محض الوجود والفعلية.
وأصل جميع الموجودات كلها هو الله، من اسمه " النور " ، فهو نور ما علا - وهو السماء - وما سفل - وهو الأرض -، فتأمل في إضافة النور اليهما في قوله:
الله نور السماوات والأرض
[النور:35]. وجميع الأجسام عند أهل اكلشف شفافة نورية، حتى الأرض مع كثافتها، فإنها مثل الزجاج الصافي، إذا خلصت وصفت من كدورة رملها تعود شفافة، ومن هذا الباب، أكوان الجلي من الأحجار والنيران الكامنة فيها وفي الأشجار.
وههنا دقيقة، وهي أن أجزاء الأرض تتحرك وتستحيل إلى النبات، والنبات في استكمالاته يتوجه إلى غاية هي وجود اللبوب، وما من لب إلا وله دهن فيه نور بالقوة ولولا النورية التي في الأجسام الكثيفة، ما صح للمكاشف أن يكشف ما خلف الجدران، ولا كان قيام الميت في قبره، والتراب عليه لا يمنعه من كشف أحواله، وإن كان الله قد أخذ بأبصارنا عنه ويكشفه المكاشف منا.
وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة، ومن خواص الهدهد المذكور في قصة سليمان - على نبينا وآله وعليه السلام -، أن الأرض شفافة في نظره، فيرى مواضع العيون تحتها.
أوما سمعت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يدرك ما خلف حجاب ظهره، كما كان يدرك أمامه، ولم يحجبه كافة عظم الرأس وما يحويه من العروق والعصب والمخ وما عليها.
والسر في سريان نور الحياة فيها وفي سائر الأجسام، أن أول موجود أوجده الله هو القعل، وهو نور إبداعي إلهي، وأوجد عنه النفس - وهي دون العقل في النورية - ومنه الطبيعة، ومنها الجسم؛ وهذه بسائط أجناس العالم، وما زالت الأشياء تكشف حتى انتهت إلى الأركان والمواليد، ولما كان لكل موجود وجه خاص إلى موجده - وهو الله -، كان سريان نور الحاية فيه، ولما كان له وجه إلى سببه، كان فيه من الظلمة والكثافة والعدم والموت.
فتأمل إن كنت عاقلا، فلهذا كان الأمر كلما نزل أظلم وأكثف، فأين منزلة الأرض من منزلة العقل.
ثم لا يخفى على المحقق، أنه قد ثبت في مقامه أن لكل نوع جسماني صورة مفارقة منه موجودة في عالم الملكوت الأعلى الرباني، وفي علم الله، وهو اسم من أسمائه وهو مدبر لهذا النوع ذو عناية [به]، وهو بالحقيقة لسانه عند الله بالتسبيح والتقديس، وهو سمعه وبصره، وبه حياته، فكل جسم حي عند التحقيق.
إشارة وتنبيه:
قال بعض المحققين من أهل الكشف في هذه الآية: " إنه لما كان الموت سببا لتفريق المجموع، فمعناها كنتم متفرقين في كل جزء من عالم الطبيعة فجمعكم وأحياكم، ثم يميتكم، أي يردكم متفرقين، أرواحكم مفارقة لصور أجسادكم، ثم يحييكم الحياة الدنيا، ثم إليه ترجعون بعد مفارقة الدنيا، وإن الله سيذكر عباده يوم القيامة بما شهدوا به على أنفسهم في أخذ الميثاق، فيقولون:
ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل
[غافر:11]. فطلبوا من الله أن يمن عليهم بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا ما يورثهم دار النعيم.
وحين قالوا هذا، لم يكن الأمد المقدر لعذابهم قد انقضى، ولما قدر أن يكونوا أهلا للنار، وأنه ليس لهم في علم الله دار يعمرونها سوى النار، قال [تعالى]:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
[الأنعام:28]. حتى يدخلوا النار باستحقاق المخالفة، إلى أن يظهر سبق الرحمة الغضب، فيمكثون في النار مخلدين لا يخرجون منها أبدا على الحالة التي قد شاء الله أن يقيمهم عليها، وفيها يرد الله الذرية إلى أصلاب الآباء، إلى أن يخرجهم الله إلى الحياة الدنيا على تلك الفطرة، فكانت الأصلاب قبورهم إلى يوم يبعثون من بطون أمهاتهم، ومن ضلع آبائهم في الحياة الدنيا، ثم يموت منهم من شاء أن يموت، ثم يبعث يوم القيامة كما وعد " - انتهى ما ذكره.
أقول: إن في كلامه أمورا تخالف الظاهر ينبغي التنبيه عليها:
منها: أن كون أفراد البشر في صورة الذر عند عهد الميثاق، عبارة عنده عن الأجزاء الصغيرة المتفرقة في أطراف العالم، الحاضرة في علم الله أنها ستصير أحياء بواسطة اقتران الأرواح الإنسانية بها.
ومنها: أن الحياة الثانية تكون في الدنيا أيضا كما دل عليه قوله: { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } ، وهذا مما يدل بظاهره على تناسخ الأرواح، إلا أن تحمل الحياة الأولى المشار إليها بقوله: " فجمعكم وأحياكم " على الحياة الحيوانية التي تكون للجنين قبل تعلق النفس الناطقة بالبدن، والموت الذي بإزائها، انتقال البدن من الحيوانية إلى الإنسانية، وهذا ليس بتناسخ مستحيل.
ومنها: أن الصوفية وإن كانوا قائلين ببطلان التناسخ، لكنهم جوزوا بروز بعض الأرواح في بعض الأشباح، بواسطة اتصال روحه بذلك الروح، فعليه يحمل ما يشعر بالتناسخ في هذا الكلام، لئلا يقع من أحد سوء ظن بهذا الشيخ العظيم.
ومنها: إن ضلع الآباء وبطون الأمهات في كلامه، إشارة إلى جهتي الفاعلية والقابلية، بأن الضلع الأيسر من الفاعل، إشارة إلى الجنبة السافلة التي بها يفعل فيما تحته، كما أن الضلع الأيمن منه، هو الجنبة العالية التي بها ينفعل عما فوقه، وبطن الأم عبارة عن القوة الاستعدادية التي للقابل، لأن القوة أمر عدمي منشأه صفة وجودية، فكأن القابل أمر ذو تجويف كبطن الأم، فضلع الأب وبطن الأم استعارتان لطيفتان لذينك المعنيين.
تذكرة فيها تبصرة
[خلق الأعمال]
ذكر صاحب التفسير الكبير من المعتزلة وجوها دالة على أن الكفر من قبل العباد، ولم يقدر على حلها لصعوبتها، بل أجاب عنها بوجهين جدليين.
أما الوجوه فأحدها: إنه تعالى لو كان هو الخالق للكفر، لما جاز قوله: { كيف تكفرون بالله } موبخا لهم، كما لا يجوز أن يقول: " كيف تسودون وتبيضون وتسقمون وتصحون؟ " لأن الجميع من خلقه.
وثانيها: إذا كان خلقهم أولا للشقاء والنار، وما أراد منهم إلا الكفر، فكيف يوبخهم عليه؟
وثالثها: كيف يليق بالحكيم ايجاد الكفر فيمن يقول لهم: { كيف تكفرون } توبيخا، ومنع الايمان عمن يقول في حقهم:
وما منع الناس أن يؤمنوا
[الإسراء:94].
فما لهم لا يؤمنون
[الإنشقاق:20]. وأنى يصح أن يقول:
فما لهم عن التذكرة معرضين
[المدثر:49].
فأنى تؤفكون
[يونس:34]. و
فأنى تصرفون
[يونس:32]. وهو يخلق فيهم الإعراض والإفك والصرف، لأنه مما يشبه السخرية دون الحكمة أو الإلزام.
ورابعها: إن الله إذا قال للعبيد: { كيف تكفرون بالله } احتجاجا عليهم، فلهم أن يقولوا: حصلت في حقنا أسباب كثيرة موجبة للكفر، أولها قضاؤك النافذ الحتم. وثانيها: قدرك اللازم. وثالثها: إرادتك. ورابعها: خلقك الكفر فينا، وخامسها: خلقت فينا قدرة عليه. وسادسها: إرادة موجبة له. وسابعها: حركة متوجهة إليه والايمان أيضا يتوقف على نظائر هذه الأسباب السبعة - وهي كلها مفقودة -، فقد حصل لعدم الايمان أربعة عشر سببا، كل منها مستقل بالمنع عن الايمان، فمع قيام هذه الأسباب الكثيرة، كيف يعقل أن يقال: كيف تكفرون؟
وخامسها: إنه تعالى قال: كيف تكفرون بالله الذي أنعم عليكم هذه النعم العظيمة مثل الحياة وما قبلها وما بعدها؟ وعلى قول الجبرية لا نعمة له عليهم، لأن كل ما فعله بهم، كان لاستدراجهم وسوقهم إلى النار جبرا وقهرا.
وهذا كمن قدم إلى رجل صحفة فالوذج مسموم، فإن ظاهره وإن كان لذيذا ويعد نعمة، لكن عند التحقيق، لا يعد نعمة لكونه مهلكا، ومعلوم أن العذاب الدائم أشد ضررا من ذلك السم، فلا يكون لله نعمة على الكافر، فكيف يقول لهم: كيف تكفرون بمن أنعم عليكم هذه النعم العظيمة.
وأما الجوابين اللذين ذكرهما:
أحدهما: إن هذه الوجوه يرجع إلى التمسك بالحسن والقبح، والثواب والعقاب، فنحن أيضا نقابلها بأن الله علم أنه لا يكون، فلو وجد لانقلب علمه جهلا - وهو محال، ومستلزم المحال محال الوقوع - مع أنه قال: { كيف تكفرون }.
وثانيهما: إن القدرة على الكفر، إن كانت صالحة للإيمان، امتنع كونها مصدرا له إلا لمرجح، وذلك المرجح، إن كان من العبد، عاد السؤال، وإن كان من الله، امتنع حصول الكفر؛ وإذا حصل ذلك المرجح وجب؛ وعلى هذا كيف يعقل قوله: { كيف تكفرون }؟
قال: " واعلم أن المعتزلي إذا طول في الكلام، وفرع وجوهه على المدح والذم، فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين، فإنهما يهدما جميع كلماته، ويشوشان كل شبهاته ".
أقول: قد ظهر وتبين مرارا حال هذه المسئلة، وهي في غاية الوضوح والتنقيح والإنارة عند من جعله الله أهلا لها، وجعل له نورا يمشي به في الظلمات، وشرح صدره بنور الإسلام:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السمآء
[الأنعام:125].
وهذا الفاضل متحير شاك في هذه المسئلة، ولم يتنقح له بعد وجه صحتها، ولذلك قال في موضع: " إن القول باثبات الصانع الإله يلجيء إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية، لزم وقوع الممكن من غير مرجح - وهو نفي الصانع - [ولو توقفت لزم الجبر]، واثبات الرسول يلجيء إلى القول بالقدر، لأنه لو لم يقدر العبد على الفعل، فأي فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب؟ أو نقول: لما رجعنا إلى الفطرة السليمة، وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح - وهذا يقتضي الجبر -، ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان وسكناته، وبين حركات الجمادات والحركات الاضطراريات، وهذا يقتضي مذهب الإعتزال، فلذلك بقيت هذه المسئلة في حيز الأشكال " - انتهى.
ومن كان هذا حاله في مثل هذه المسئلة التي هي إحدى قواعد الايمان، وعليها مبنى كثير من المقاصد التي يضر الجهل بها للإنسان، فمعلوم من حاله أنه متحير في جل المقامات اليقينية - بل كلها -، فما الفائدة له في تكثير التصانيف وتطويل المباحث والأقاويل، ونحن نعلم يقينا أن الله لم يجعل طلب العلوم والمعارف مركوزا في جبلة الخلق إلا لغاية يترتب عليها؛ هي تنوير القلوب بأنوار المعارف، وتنجية النفوس عن ظلمات الجهالات، وسياقها إلى دار القدس والكرامة، ولأجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب.
وفي الحديث:
" من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت من قلبه على لسانه ينابيع الحكمة "
وقد سمى الله نبيه (صلى الله عليه وآله) نورا وهاديا، وجعل كتابه نورا وهدى في قوله:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم
[المائدة:15 - 16]. وقال:
ذلك هدى الله يهدي به من يشآء من عباده
[المائدة:88]. فمن حاول العلم مدة مديدة وصرف عمره في تحصيله، ثم لم يكن على بصيرة، ولم يأت بحاصل، ولم يرجع إلى طائل، فضل سعيه في الحياة الدنيا وماله في العلم واليقين نصيب.
فذلك لأنه لم يكن مخلصا لله في كسبه وتحصيله، طالبا لمرضاته في طلبه وسعيه، بل كان سعيه لهوى النفس وحب الدنيا، وتحصيله لطلب الترفع على الأقران، وبسط الاشتهار والصيت في البلدان، وكونه مشارا إليه بالأنامل، معدودا من الأكابر والأماثل.
هذه غاية قصودهم، وفيه صرف مجهودهم، ولذا وصلوا إليها في الأكثر، وحرموا من جدوى العلم، محجوبين يومئذ عن النعيم الأنور، محرومين من أشعة أنوار الله يوم العرض الأكبر.
وأما اندفاع الشبه التي ذكرها من طريقة أهل الاعتزال، ففي غاية السهولة عند اللبيب المتفطن بما مضى من المقال، أو العارف الواقف بأسرار الحقيقة بنور الأحوال، فإن تلك الشبه مقتضاها نسبة الكفر والمعاصي إلى إرادة العبد واختياره، وهي حق وصدق. كيف - ولو لم يكن للعبد إرادة وقدرة، لم يمكن توجيه الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولا طلب الخير والتحرز عن الشر، ولا فائدة في الدعاء والعبادة والرياضة، وكسف العلوم والآداب، لكن كل ذلك عند التحقيق لا ينافي الجبر، بل الإنسان في عين اختياره مجبور، كما ورد في حديث الصادق (ع): " لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين ".
وليس معناه - كما زعمه أكثر من نظر في هذا الحديث - أن للعبد حالة بين الجبر والتفويض خارجا عن حقيقتهما، كما أن الفلك لا حار ولا بارد؛ ولا أن له حالة ممتزجة عنهما متوسطة بين كمال كل من طرفي الجبر والتفويض، كالماء الفاتر الممترج من مائين منكسري السورتين، يقال له: " لا حار ولا بارد " ، إذ ليس شيء منهما هو المقصود من هذا الحديث - لا ذاك ولا ذا - بل إن اختيار الإنسان عين اضطراره، وجبره عين تفويضه؛ فهو مضطر في عين الاختيار، ومختار في عين الجبر، لأن لكل شيء صفة لازمة هي كماله الثاني، وهو صورة كماله الأ,ل الذي به قوام ذاته - كالحرارة للنار، والبرودة للماء واليبوسة للأرض، والرطوبة للهواء - وصفة الإنسان في هذا العالم - وما يجري مجراه من الحيوان، هو الاختيار لماله أن يفعل بهذا الاختيار بالنسبة إلى الإنسان.
فعلى هذا - فالجواب عما ذكروه أولا بالمنع عن قولهم: " لم تكفرون؟ " بمنزلة: " لم تسودون؟ " وذلك لأن الكافر الأسود، ليس في اسوداده مختارا في عين الإجبار كما في كفره، فإن كفره وقع باختياره، بخلاف سواده.
وعما ذكروه ثانيا: إن الله لم يرد من عباده أولا وبالذات الكفر - بل ثانيا وبالعرض - كما قال:
ولا يرضى لعباده الكفر
[الزمر:7]. وقوله:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
[البقرة:185].
فقد ثبت بالحكمة إن الخير برضاه وقضاه جملة وتفصيلا، والشر بقضائه جملة وبقدره تفصيلا، فالإرادة الأولية الرضائية تؤدي إلى الخير الكلي والنظام الأعلى بالقياس إلى العوالم كلها بحسب الأنواع، والإرادة الثانوية القدرية الجزئية تؤدي إلى الخير والسعادة لطائفة بالقياس إلى عالم، وإلى الشر لطائفة أخرى بالقياس إلى عالم آخر، كما في الحديث الإلهي:
" هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي "
وقوله تعالى:
ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم
[هود:118 - 119].
وأما التوبيخ والتخويف والزجر والايعاد وما يقابلها - من التحسين والنصيحة والتعظيم والبشارة والوعد وغير ذلك - فهي من جملة الأسباب القدرية ومن المهيجات للدواعي والأشواق، والبواعث على الأغراض والحركات كسائر الأمور القدرية الواقعة تحت الأسباب القريبة التي للاختيار فيها مدخل - كما مر مرارا.
وأما عما ذكروه ثالثا: فبأن هذه الأفعال - كالكفر والإفك والصرف والإعراض - لها وجهان: وجه إلى الأسباب والدواعي الكلية العالية، ووجه إلى الدواعي والأسباب القريبة، كإرادة العبد وقدرته وشوقه وداعيته، سيما قدرته التي يتساوى بالنسبة إليها الطرفان.
فالسؤال بكيف، ولم وأين وأنى، وبسائر الكلمات الإستفهامية عمن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء والأرض، ولا يخرج عن قدرته وسلطانه شيء من عالمي الملك والملكوت، إنما يكون بالقياس إلى الأسباب القريبة المكتنفة بفعل العبد، وبالنظر إلى العلوم الحادثة الزمانية المتجددة حسب تجدد، الأحوال والآجال، والأمكنة والأوضاع؛ وأما بالقياس إلى ذات الله القيوم، وعلمه المحيط بالكل، فلا كيف ولا أين ولا متى ولا وضع ولا لمية ، لأن هناك اضمحلت الكثرات، وطاحت الأيون والإشارات، وهلكت الأوضاع والكيفيات، فيصير الكل كلا شيء، والأمكنة تتضاءل من قهره كنقطة واحدة، والازمنة تنزوي بعضها إلى بعض من سطوته وهيبته، فتصير كآن واحد.
وأما عن الرابع: فبمثل ما وقع الجواب عن شبه إبليس المذكورة عنه، المنسوبة إليه في شرح الأناجيل الأربعة، فإنه قد ذكر هناك: " قد أوحى الله إلى ملائكته عليهم السلام قولوا له: إنك غير صادق فيما تقول: ولا مخلص، إذ لو صدقت أني إله العالمين، ما تحكمت علي بلم ".
فههنا أيضا نقول: لو علم - هذا المفروض كافرا - أن علم الله وإرادته وقدرته ومشيئته وقضاءه وقدره وخلقه، هي جارية في هذا العالم، حاكمة على كل شيء، وأن الله تعالى لا راد لحكمه، ولا مهرب من قضائه وحكومته، ولا منجي من سطوته ولا ملجأ من سلطانه، فلم يكن هذا المفروض كافرا كافرا، بل مؤمنا حقا، فإن من علم كيفية جريان إرادة الله وقضائه في عالمنا هذا بوجه عقلي برهاني، فلم يكن ممن ينسب الكفر والمعاصي والشرور - من حيث هي شرور وأعدام ونقائص وقوى وملكات - إلا إلى الأسباب القريبة الجسمانية، والاستعدادات الرديئة الظلمانية.
لأن من أساء علمه، أو أخطأ في اعتقاده، فإنما ظلم نفسه بظلمة جوهره وسوء استعداده، وكان أهلا للشقاوة في معاده - كما سبق -، لكن يعلم بقوة ايمانه أن سلسلة الأسباب لا بد وأن تعود إلى الأمور الإلهية القضائية، كما قال تعالى:
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
[يس:7]. وقوله:
ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود:119].
فالكفر والمعاصي منسوبة إلى العبد، لا بمعنى خلق الأفعال، وهي منسوبة إليه تعالى، لا بمعنى الالجاء والقسر - بل كما عرفت مرارا -.
وأما عن الخامس: فإن الوارد من الله على الخلق كلهم، أمر واحد وفيض [فارد]، والإختلاف إنما يكون بحسب القوابل والمستعدات، وإن النازل كله نور ورحمة، ولكن ينقلب في حق بعضهم ظلمة وآفة ومحنة، مثل قوله:
أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها
[الرعد:17]. وقوله:
يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
[الرعد:4].
وكل ما فعله الله أولا بأهل الايمان، فعله بأهل الكفر، من نعمة الخلق والإحياء والعقل والتكليف والهداية والدعوة بالآيات، وإرادة طريقي الخير والشر، والنفع والضر وغير ذلك، فصار الكل سببا لقرب هؤلاء، ومنشأ لبعد هؤلاء - ولا يزالون مختلفين - فما صنعه تعالى بهما لقرب هؤلاء، ومنشأ لبعد هؤلاء - ولا يزالون مختلفين - فما صنعه تعالى بهما جميعا في الدنيا، هو معدود من نعم الله التي أعطاها لعباده - وإن انقلب بعضها في حق البعض نارا محرقة وسموما مهلكة -، لحرقة في قلوبهم -، وتغيظا وزفيرا في صدورهم، ولهذا صح قوله تعالى فيهم: { كيف تكفرون } ، وتعذبون بالنار وقد أنعم الله عليكم بمثل هذه النعم العظيمة التي أنعمها على المتقين، وقد صارت وقاية لهم من عذاب الجحيم وألم الحميم.
وأما الجوابان اللذان ذكرهما من قبل الأشاعرة، فإنهما وإن حصل بهما الإلزام للمعتزلة، لكن لا يفي بدفع الإشكال، وحل عقدة الإعضال عنهم أنفسهم، لأن الذي ذكره أولا، من أن علمه تعالى اقتضى وجود المعلوم على وجهه، أو أن خلاف مقتضاه محال، هو خلاف مذهب الأشاعرة، إذ لا ايجاب ولا علية عندهم، بل يجوز منه تعالى على أصولهم ويصح أن يفعل خلاف ما كان قرره وعلمه أولا.
وكذا الذي ذكره ثانيا، فإن القدرة والإرادة - سواء كانتا من الله أو من العبد - غير متوقفتين عندهم على علة موجبة وداعية مقتضية لأحد طرفي المقدور، بحيث يمتنع مقابلها ويستحيل خلافها.
فالوجوه الخمسة المذكورة كلها وارد عليهم، والجواب بإنكار الحسن والقبح العقليين - مع ما فيه مما يستلزم سد جميع أبواب البراهين، وما يبتنى عليه من أصول العقائد الحقة -، وكذا الجواب بقوله تعالى:
لا يسأل عما يفعل
[الأنبياء:23]. غير منجح لهم، لأن معناه لو كان المراد منه نفي اللمية عن أفعاله كما فهموه، وإن كانت واقعة منه تعالى في هذا العالم، بعد مراتب كثيرة ووسائط عديدة، وأسباب جعلها الله مبادى مرتبطة بها، وذلك لأنه لو كان المراد ما ذكروه، لم يصح منه تعالى أن يقول:
لم تكفرون بآيات الله
[آل عمران:70]
لم تقولون ما لا تفعلون
[الصف:2].
فلم تقتلون أنبيآء الله
[البقرة:91]. وغير ذلك مما فيه سؤال ب " لم " عما هو عندهم من أفعال الله، والتالي باطل، فكذا المقدم.
فقد علم أن الذي لا تجري فيه اللمية، ولا يجوز عنه السؤال، هو الفعل المطلق له تعالى، أو الفعل الواقع منه تعالى بغير توسط، أو الأفعال المتأخرة لكن من وجهها الخاص الذي يكون به إليه تعالى، فإن لكل ممكن وجها خاصا إليه تعالى، به يكون قابلا لفيض أصل الوجود ولوازمه.
فصل
إن ذكر الإماتتين والإحيائين في هذه الآية، وعدم ذكر غيرهما، لا يدل على نفي ما سواهما، فانفسخ ما احتج به قوم على نفي عذاب القبر وسؤاله.
وأيضا - لأحد أن يحمل قوله: { ثم يحييكم } ، على الحياة التي تكون في القبر، لأنها ليست بدائمة، وقوله: { ثم إليه ترجعون } على الحياة الدائمة الأخروية، فتكون الآية دليلا على إثبات الحياة في القبر.
وقال الحسن: المراد من الآية حال العامة، وأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات وأحياهم كذلك، كما في قوله:
فأماته الله مئة عام ثم بعثه
[البقرة:259]. وكقوله:
فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم
[البقرة:243]. وكقوله في قصة بني إسرائيل:
ثم بعثناكم من بعد موتكم
[البقرة:56] وكقوله:
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى
[البقرة:73].......................................... وكقوله في قصة أيوب عليه السلام:
وآتيناه أهله ومثلهم معهم
[الأنبياء:84].
فصل
تمسكت المجسمة بقوله تعالى: { ثم إليه ترجعون } على المكانية؛ ورد بأن المراد رجوعهم إلى حكمه.
والرد كالمردود ضعيف، والحق أن أشخاص الإنسان يرجعون إلى الله رجوعا جبليا بحركة ذاتية إنية، لا رجوعا مكانيا عرضية أينية، وهذا ما حققه المحققون القائلون بأن للانسان من مبدء نشوءه إلى غاية كماله انقلابات في ذاته، وتطورات في جوهره، فكان ترابا، ثم نطفة، ثم صورة لحمية وعظمية، ثم صورة حيوانية، ثم صورة إنسانية، ثم صورة ملكية، ثم صورة مفارقة، ثم ما شاء الله.
فصل
إعلم أن في هذه الآية إشارات وتنبيهات إلى أسرار عقلية:
أحدها: إن في إسناد الإماتات والإحياءات إلى الله، إشارة لطيفة إلى أن هذه التحولات والانتقالات، أمور طبيعية صادرة بتسخير الله تعالى جوهرا شأنه هذه التقليبات والتحريكات؛ لا أنها أمور اتفاقية صادرة بأسباب اتفاقية، أو أن المؤثر في الحياة والموت طبائع الأفلاك والكواكب أو الأمزجة والأركان، - كما هو قول أهل الطباع والدهرية - على ما حكى الله عنهم بقوله:
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر
[الجاثية:24]. ولا أن الإنسان من بدو ولادته إلى أوان موته، على جوهر واحد وهوية واحدة، من غير تحول وارتحال - كما زعمه الناس -.
وثانيها: إن الآية دالة على أن الموت طبيعي لكل أحد، وان معناه ومنشأه ليس كما فهمه الأطباء والطبيعيون، من أنه أمر يعرض أولا للبدن من جهة نفوذ قوته الطبيعية، وزوال حرارته الغريزية، ثم بواسطته ينقطع تعلق النفس عنه، وما ذكروه ليس بمعتمد عليه ولا هو بحق.
بل الحق أن الموت الطبيعي عبارة عن تمام توجه النفس من هذه النشأة إلى عالم الآخرة بالذات، وإعراضها عن البدن، فيطرأ عليه الهلاك لأجل ذلك الإعراض بالعرض، فزوال الحرارة، وبطلان قوة الحس والحركة عن البدن، مسبب عن توجه النفس حركة جبلية إلى ما عند الله، لا أن الأمر بالعكس - كما هو المشهور -.
قال بعض المحققين من أهل الكشف والعرفان: اعلم أن القوى التي في الإنسان وفي كل حيوان من قوى الحس والحركة وغيرها - كالخيال والحفظ والمصورة كلها المنسوبة إلى سائر الأجسام علوا وسفلا - إنما هي للروح، تكون بوجوده وإعطائه الحياة لذلك الجسم، وينعدم فيه ما ينعدم بتوليه عن ذلك الجسم من ذلك الوجه الذي يكون عنه تلك القوة الخاصة - فافهم.
فإذا أعرض الروح عن الجسم بالكلية، زال بزواله جميع القوى والحياة، وهو المعبر عنه بالموت، كظلام الليل بمغيب الشمس.
وأما النوم، فليس بإعراض كلي، وإنما هو حجب أبخرة تحول بين القوى وبين مدركاته الحسية مع وجود الحياة في النائم، كالشمس إذا حالت السحب بينها وبين موضع خاص من الأرض، يكون الضوء موجودا كالحياة، وإن لم يقع إدراك الشمس لذلك الموضع، فكما أن الشمس إذا فارقت هذا الموضع من الأرض وجاء الليل بدلا منه ظهر في موضع آخر بنوره أضاء به ذلك الموضع، كذلك الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي كان حياته به تجلى على صورة من الصور الذي هو البرزخ، وهو بالصاد جمع " صورة " ، فحييت به تلك الصورة في البرزخ، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله) في نسمة المؤمن:
" إنه طير أخضر "
فذلك الطير كالجسم هيهنا حييت بهذا الروح الذي كان يحيى به هذا الجسم، وكما تطلع الشمس في اليوم الثاني علينا فتستنير الموجودات بنورها، كذلك الروح تطلع في اليوم الآخر على هذه الأجسام الميتة فتحيى بها، فذلك هو البعث والنشر.
وثالثها: إنها دالة على صحة البعث، مع التنبيه العقلي على صحته ووجوبه جميعا.
أما الصحة والإمكان، فإن من قدر على الإحياء أولا قدر عليه ثانيا.
وأما الوجوب والحقية، فإن من الناس من حمل الموتة الأولى على مادة البدن، كالعناصر والأغذية والأخلاط والنطف والمضغة - مخلقة وغير مخلقة -. وحمل الحياة الأولى على الأرواح الحيوانية التي بها السمع والبصر، كما في قوله:
فجعلناه سميعا بصيرا
[الإنسان:2]. ويقع فيها الاشتراك بين الإنسان وسائر الحيوان. وحمل الموتة الثانية على حامل القوة الحيوانية الذي يعرض له الموت لا محالة عند تقضي الآجال، لكونه دائم الاستحالة والدثور في الأحوال. وحمل الحياة الثانية على الروح الإنساني القابل للبقاء الأخروي، المشار إليه بقوله:
ثم أنشأناه خلقا آخر
[المؤمنون:14].
فعلى هذا، قد انكشف أن للإنسان استحالات من حالة إلى أخرى، وأن في ذاته جوهرا سالكا بحسب الفطرة التي فطره الله عليها، منتقلا من صورة إلى صورة، ولكل صورة تصور بها غاية حقيقية انتقل إليها من تلك الصورة.
وقد ثبت في العلوم الإلهية، أن للأشياء الجوهرية الفطرية غايات يتوجه إليها، وتلك الغايات يجب أن تكون من جنس ذويها وأشرف منها.
فلا بد أن تكون للروح الإنساني غاية يتوجه إليها بحسب ما أودع الله في جبلتها، ويجب أن تكون غايتها من جنسها وأشرف منها كما مر.
وهي لا تتحقق إلا في نشأة أخرى. وذلك لأن النفس الإنسانية آخر درجات هذا العالم الشهادي الحسي، وأول درجات العالم الغيبي الأخروي، فكأنها برزخ جامع بين العالمين، حجاب حاجز بين الدارين، وباب في سور مضروب به بين النشأتين، فتمامها وغايتها لا بد وأن تحصل لها من الارتحال من هذه النشأة إلى أخرى، فلها انسياق جبلي من الدنيا إلى العقبى.
وإلى هذا الانسياق أشار بقوله:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21]. أي سائق يسوقها إلى محشرها، وشاهد يشهد عليها بعملها، وفي الآخرة درجات متفاضلات، ومنازل متفاوتات لمن هو أهلها.
ورابعها: إنها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال: { فأحياكم ثم يميتكم } فبين أنه لا بد من الموت، ثم أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من الرجوع إليه.
أما إنه لا بد من الموت، فقد أشار إليها في كثير من الآيات التي ذكر فيها بدايات خلقة الإنسان.
وفي كلام أمير المؤمنين وإمام الموحدين - عليه السلام منا ومن الملائكة أجمعين -: " أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم، والمبلية لأجسادكم، وإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا، فكأنهم قد قطعوه، وأموا علما فكأنهم قد بلغوه، وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، وطالب حثيث من الموت يحدوه ومزعج في الدنيا حتى يفارقها رغما، فلا تنافسوا فإن عزها إلى انقطاع، ونعيمها إلى زوال، وبؤسها إلى نفاد، وكل مدة فيها إلى انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء ".
وأما أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى، فلأنه يأمر بأن ينفخ في الصور:
فصعق من في السماوات ومن في الأرض
[الزمر:68]، ثم ينفخ
فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون
[الزمر:68].
يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون
[المعارج:43]. ثم يعرضون على الله كما قال:
وعرضوا على ربك صفا
[الكهف:48]. فيقومون خاشعين كما قال:
وخشعت الأصوات للرحمن
[طه:108].
فقد ظهر وتبين أن للإنسان بعد أطوار الدنيا ومقاماتها مقامين أخرويين، أحدهما عند الموت، والآخر عند الرجوع.
أما المقام الأول، فحال الإنسان فيه كما قال يحيى بن معاذ الرازي: " يمر أقاربي بحذاء قبري كأن أقاربي لا يعرفوني. وكأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها، وانصرف المشيعون عن تشييعها، وبكى الغريب عليها لغربتها، وناداها من شفير القبر ذو مودتها، ورحمتها الأعادي عند جزعتها، ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها، فما حيلتي ولا رجائي - إلهي - إلا أن تقول: ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون، ووحيد قد جفاه المحبون، أصبح مني قريبا وفي اللحد غريبا، وكان لي في الدنيا داعيا ومجيبا، ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجيا، فاحسن إلي يا قديم الإحسان، وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران.
وأما المقام الآخر، فكما قال بعضهم: " إلهنا - إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا من شدة الخوف شاحبة وجوهنا، من هول القيامة، مطرقة رؤوسنا، وجائعة لطول القيامة بطوننا، وبادية لأهل الموقف سؤآتنا، وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا، وبقينا متحيرين في أمورنا، نادمين على ذنوبنا، فلا تضعف المصائب علينا بإعراضك عنا، ووسع رحمتك ورضوانك وغفرانك [لنا] - يا عظيم الرحمة، ويا واسع المغفرة.
[2.29]
هذه الآية من أعظم الدلائل على شرف الإنسان، ومن أقوى الوسائل إلى معرفة الرحمن. أما دلالتها على شرفه فبوجهين:
أحدهما: ما وجهه المفسرون؛ وهو أنها بيان لنعمة أخرى بعد النعمة الأولى مرتبة عليها، فإن الأولى كانت خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم النوعي بعد الشخصي، ويتم به معاشهم المبتني عليه معادهم.
وما أحسن رعاية هذا الترتيب منه تعالى، فإن الإنتفاع بالأرض والسماء وما في كل منهما، إنما يكون بعد حصول الحياة، فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولا، ثم أردفه بذكر الأرض والسماء.
وقوله: { لكم } ، يدل على أن المذكور بعد قوله: { خلق } ، لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا، أما في الدنيا، فلمصالح أبداننا، ولنتقوى على الطاعات، وأما في الدين، فللتفكر فيها، والتدبر في آيات الأرض والسماء، وعجائب فطرة الله فيهما، فهذا دال على فضيلة الإنسان حيث خلق الله لأجل انتفاعه وجميع ما في الأرض والسماء ، كما قال:
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض
[الجاثية:13].
واستشكل ههنا بأن الله لا يفعل فعلا لأجل غرض، لأنه لو كان كذلك لكان تعالى مستكملا بذلك الغرض، والمستكمل بغيره ناقص بذاته؛ وذلك على الله [تعالى] محال، لأنه منبع كل خير وكمال.
وهذا أصل مستحكم الأساس عند الحكماء الأوائل، فإنهم أشد الناس إثباتا لهذا الأصل، فقالوا: " إن العالي لا يلتفت إلى السافل " ، لكن حجب هذا الأصل طائفة من الناس عن كثير من الحقائق الدينية والقوانين الشرعية مثل مسئلتنا هذه.
لا يقال: إن فعله تعالى معلل بغرض لا يعود إليه - بل إلى غيره -.
لأنا نقول: عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير، هل هو أولى به [تعالى] من عدمه، أوليس بأولى؟ فإن كان أولى به تعالى، فيعود المحذور المذكور. وإن لم يكن تحصيله غرضا مؤثرا أصلا - والمفروض إنه غرض معلل به فعله تعالى.
وأيضا، كل من فعل فعلا لغرض، كان قاصرا عاجزا عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل، والقصور والعجز محالان على الله تعالى.
فهذه وغيرها هي وجوه دالة على خلاف ما يستفاد من هذه الآية، وكثير من الآيات، ويبتنى عليه القوانين الدينية، وبه ترتبط المسائل المعادية من الحشر والجزاء والثواب والعذاب، والجنة والنار، وما أشبهها، ولم أر أحدا ذكر شيئا مفيدا لحل هذا الإعضال وفك هذا الإشكال.
والذي يخطر بالبال في هذا المقام لدفع هذه العقدة من الأوهام: إن فعل الله ليس فعلا واحدا، بل أفعال كثيرة حسب كثرة الموجودات الممكنة، والذي قامت البراهين على أنه لا يكون معللا بغيره، ولا ذا غاية سواه، هو فعله الخاص الذي صدر عنه أولا وبالذات، أو فعله المطلق، فإن ما هو أحد هذين، فالفاعل والغاية فيه ذاته الأحدية الصمدية، وأما فعله الذي صدر بعد ذلك، فهو معلل بغرض، وهكذا لكل فعل ذي غرض غرض، حتى تنتهي الدواعي والأغراض والغايات إلى غاية لا غاية لها، وداع لا داعي له، وهو ذاته الذي هو غاية الغايات، ومنتهى الدواعي والرغبات.
فالتراب - مثلا -، فعل من أفاعيله الصادر عنه باستخدام فاعل طبيعي يسمى الطبيعة الأرضية، وهي ملك من ملائكة التسخير، يتسخدمه فاعل فوقه يسمى ملك الأرض، وهو ملك من ملائكة التدبير، وفوقه ملك آخر من ملائكة الإفاضة والتنوير اسمه قابض الأرواح، وهو تحت اسمه تعالى " القابض " ، ولكل منها في فعله غاية فوقه، حتى ينتهي إلى الله تعالى.
وهذه الغايات والأغراض، هي التي فوق الأكوان. وأما التي تكون تحت الأكوان، فغاية التراب، والغرض من خلقه أولا هو المركبات الأرضية كالمعدنية، ثم البذور وقواها النباتية، ثم النطف والأغذية، ثم الأخلاط الدموية، ثم الأمشاج والأعضاء اللحمية، ثم الأرواح البخارية، ثم النفوس الحيوانية، ثم الغرض منها الأرواح الأنسية الصاعدة إلى الدرجات السماوية، والغرض منها معرفة الله، والانقطاع عن العوالم بالكلية، والإتصال إلى الحضرة الأحدية.
فبهذا المعنى صح أن يقال: إن لأفعاله تعالى أغراضا عائدة إليه، بشرط أن يدرك تحقيقه على وجه لا يؤدي إلى إنثلام قاعدة التوحيد والتنزيه، بل تتحفظ قاعدة: " إن العالي لا ينفعل عن منفعله، ولا يستكمل الفاعل من فعله ".
ومن لم يهتد إلى هذا التصوير، ولم يتنور باطنه بهذا التنوير، تكلم في هذا " اللام " والتي في قوله:
جعل لكم
[البقرة:22]. والتي في قوله:
لتهتدوا
[الأنعام:97] وفي قوله:
ليعبدون
[الذاريات:56]. ونظائرها الكثيرة في القرآن، فقالوا: " إنه تعالى لما فعل، ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض، لا جرم أطلق الله تعالى لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة ".
هذا غاية أفكارهم في هذا المقام - والله ولي الهداية والإنعام -.
والآية تقتضي أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما في الأرض للإنسان، إلا ما خرج بدليل، ولا يمنع تخصيص بعضها ببعض، ولا تحريم بعضها على بعض، لأنها دلت على أن الكل للكل، لا أن كل واحد لكل واحد.
وقوله: { ما في الأرض } يعم كل ما فيها، ولا يشملها، إلا إذا أريد من الأرض الجهات السفلية - لا الغبراء -، كما يراد بالسماء الجهات العلوية - لا الخضراء -، فيصدق على الأرض وما فيها جميعا أنها واقعة في السفل.
وقوله: { جميعا } نصب على الحال من الموصول الثاني.
فصل
قوله: { ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات } من الآيات التي اختص بمعرفتها أهل القرآن خاصة، وليس لغيرهم نصيب إلا مثل نصيب الأكمه لخبر النور، أو لحرارته.
أما يتعلق بظاهر اللفظ:
ف " الإستواء " أصله طلب السواء، واطلاقه على الاعتدال والاستقامة لما فيهما من تسوية وضع الأجزاء، فيقال. استوى العود - إذا قام واعتدل، ثم نقل فقيل: " استوى إليه " كالسهم المرسل إذا قصد [ه] قصدا مستويا من غير أن يلوى على شيء آخر، وأما ما وجدوه من معناه فهو قولهم: " أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ".
والمراد بالسماء جهات العلو، كأنه قيل: " ثم استوى إلى فوق ".
وقيل: استوى بمعنى: استولى وملك، كما قال:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
ومعنى: سواهن " ، عدلهن وخلقهن مصونة عن العوج والفطور، إلا عند قيام الساعة
إذا السمآء انفطرت
[الإنفطار:1].
والضمير في { فسواهن } ، ضمير مبهم يفسره { سبع سماوات } كقولهم: " ربه رجلا ". وقيل: راجع إلى السماء، لأنها في معنى الجنس. وقيل: إن " السماء " جمع ومفردها " السماءة ". والأول هو الأوجه في العربية، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية.
ثم وقع ههنا لهم إشكال من جهتين:
آحداهما: إن كلمة " ثم " تعطي معنى التراخي والمهلة، فيناقض ما فسر به معنى الاستواء كما سبق.
وثانيتهما: إن المستفاد ههنا تناقض قوله:
والأرض بعد ذلك دحها
[النازعات:30].
وأجيب عن الأول بأن " ثم " كما يكون للتراخي بين الشيئين بحسب الزمان، فقد يكون للتفاوت بينهما في الشرف والفضيلة، و " ثم " ههنا لفضيلة خلق السموات على خلق الأرض - لا للتراخي في الوقت -، كقوله:
ثم كان من الذين آمنوا
[البلد:17]. وكقول الرجل: " أليس أعطيتك النعمة العظيمة، ثم رفعت قدرك؟ " ولعل ما أخره في الذكر متقدم في الوجود. على أن التراخي أيضا لا يناقض ذلك، لأن معناه أنه حين قصد إلى السماء بعد فراغه عن خلق ما في الأرض، لم يخلق خلقا آخر فيما بين ذلك.
وعن الثاني: بأن جرم الأرض، وإن تقدم خلقه خلق السماء، لكن دحوها متأخر عنه، لأن التدحية هي البسط.
ولقائل أن يقول: هذا مشكل من وجهين:
الأول: إن الأرض جسم عظيم، فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية، وما مع المتأخر متأخر، فإذا كانت التدحية متأخرة، فلزم منها كون خلقها أيضا متأخرا عن خلق السماء.
والثاني: أن قوله: { خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السمآء } يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء، لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن، إلا إذا كانت مدحوة، فكونها مدحوة تكون قبل السماء، وحينئذ يثبت التناقض.
وذكر بعضهم للتفصي عن هذا الإشكال بأن قوله:
والأرض بعد ذلك دحها
[النازعات:30] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض، ولا يقتضي أن تكون تسويتها متقدمة على خلق الأرض، فإذن لا تناقض.
وأنت تعلم أن قوله:
ءأنتم أشد خلقا أم السمآء بناها * رفع سمكها فسواها
[النازعات:27 - 28]. يقتضي أن يكون خلقها وتسويتها جميعا متقدمين على تدحية الأرض، لكن تدحيتها - كما مر - لخلق ذاتها، فحينئذ ذات السماء وتسويتها متقدمان على ذات الأرض، فيعود المحذور.
هذا تمام ما ذكروه في هذا المقام، ولم يتنقح حال هذه المسئلة بقوة افهام أولئك الأقوام، بل لا بد لدركها من الاهتداء بأنوار الكلام، والاعتصام بقوة من بيده إفاضة العلم والحكمة والإنعام.
قاعدة مشرقية
[تقدم الغاية على الفاعل وتأخره عنها]
كل ماله كمال منتظر، وقد تقدم على شيء في الوجود بحسب الفاعلية والمبدئية، فهو متأخر عنه في كمال الوجود والتمامية، وهذا مما أقيم عليه البرهان، وطابقه الكشف والوجدان، ويؤكده الاستقصاء في الاستقراء، والاستيفاء في التتبع من أهل البصيرة والايقان.
فالنبات مثلا، أوله لب وبذر، وآخره بذر ولب، والحيوان - بما هو ذو نمو واغتذاء - أوله نطفة حاصلة عن غذاء، وآخره نطفة حاصلة عن أواخر هضوم الغذاء. وبما هو ذو حس وتخيل، كلما يحس به أو يتخيله أولا، يصل إليه أخيرا، فإن من أراد الأكل، احضرت في حسه بسبب وجود الجوع صورة المأكول، وفي خياله صورة الشبع ، فحاول أن يستكمل صورة المأكول التي في حسه بالأكل، وصورة الشبع التي في خياله بإدخاله من حد التخيل إلى حد العين، فالشبعان تخيلا هو الذي يأكل ليصير شبعان وجودا، فالشبعان تخيلا هو العلة الفاعلية، والشبعان وجودا هو العلة الغائية.
وكذلك الباني بيتا للسكنى، يحضر في خياله أولا صورة البناء على وضع يصلح لسكناه، فيسكن فيه أولا، ثم يتحرك في ضرب اللبنات وصنع الآلات، ويأخذ في صنعه شيئا فشيئا إلى أن يتم، فإذا تم وكمل يسكن فيه، فكان أول البغية آخر الدرك، وآخر البغية أول الدرك.
فهكذا الحال في كل ماله فاعل وغاية في الأمور الزمانية والمكانية.
حكمة عرشية
[الإنسان في دائرة النزول والصعود]
إذا قرع سمعك ما قرأناه بتوفيق الله، واهتديت بما اهتدينا به، فأحسن إعمال رويتك فيه، وقس على ذلك نظائرها الباقية، وتدبر في هذه الآية من آيات ربك، وانظر فيها بنظر الإمعان والاعتبار، وحدق بصر بصيرتك في ملاحظة ما أنزل معها من أنوار عالم الأسرار، فقد ذكر الله فيها إن الله { خلق لكم ما في الأرض جميعا } ، وقال في موضع آخر تأكيدا وتنويرا لهذا:
وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض
[الجاثية:13]. وقوله: مخاطبا للملائكة الأرضية والسماوية:
اسجدوا لآدم
[البقرة:34]. فسجد الملائكة كلهم أجمعون وقوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53].
فظهر وتبين من هذه الآيات والحجج البينات، أن الإنسان غاية جميع الأكوان، وثمرة وجود الأفلاك والأركان، وظاهر أن ابتداء هبوطه من العالم الأعلى والجنة التي فيها آدم وزوجته، فهبط منها مارا لى جميع الطبقات، لقوله:
اهبطوا منها جميعا
[البقرة:38]. فإذا نزل بساحته منسلخا عن الفطرة كثيرا، وقيل لهم:
اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
[الأعراف:24].
ومعلوم عند أرباب الحكمة والعرفان، أن آخر منازل كل متحرك سلك بحسب الجبلة، هو أول مواطنه، فالإنسان حيث نزل من عالم الجنة الإلهية، فلا بد في عروجه بحسب المنزلة الحقيقية النوعية أن يصعد إليها، والصعود إلى أعلى المراتب يمتنع، إلا بعد المرور على كل درجة يكون بينها وبين ابتداء الرجوع.
فصعود الإنسان بحسب كماله النوعي أو الشخصي إلى طبقات ملكوت السموات، مما لا بد من وقوعه في السير الرجوعي إلى ربه، كما قال تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين
[الأنعام:75]. ورب شخص إنساني وصل إلى بعض الطبقات، ووقف هنالك إلى أن يشاء الله، قال تعالى:
ولكل درجات مما عملوا
[الأنعام:132].
قاعدة أخرى مشرقية
[خلق السماء مقدم على الأرض من وجه ومؤخر من وجه]
ثم اعلم أن الإنسان بحسب سيره الباطني، كلما وصل إلى درجة من درجات الكون، اتحد بها واتصف بصفاتها وأحكامها، وصدر منه أفعالها وآثارها المختصة، أو لا ترى أنه منذ أخذ في السلوك من أول تكونه من التراب، - وهو أنزل مراتب الأكوان -، ومن النطفة، - وهي أوهن الصور الجمادية الحاصلة من امتزاج الأركان -، فكل مرتبة وصل إليها من النبات والحيوان، تحقق بحقيقتها واتحد بماهيتها، حتى وصل إلى الألطف فالألطف من الأكثف فالأكثف.
فوصل في جسميته إلى جرم دخاني هو أشبه الأجرام بالسماء، وفي روحانيته إلى عقل يدرك به كليات الأشياء، فلا يزال يتصفى ويترقى روحا وبدنا، إلى أن يتحد بعقله العقل الفعال، وبجسمه صورة السماء المبرأة عن تفاسد الأضداد والأمثال، وهكذا يترقى - إذا ساعدته الهداية - من سماء إلى سماء [عليا]، ومن عقل أدون إلى عقل أعلى، حتى يصل إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، كما قال تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
[فاطر:10].
وبما ذكر من هذه المقدمات، يتذكر اللبيب البصير، ويتمكن من أن يذعن، بأن الله بنى ملك السموات وملكوتها تارة أخرى، وعمرها بأعمال بني آدم، وزين بيوتها وبروجها وسقوفها وحيطانها بمصابيح أنوار عقولهم، واسم السماء إنما أطلق عليها بعد سمو قدرها بارتقاء أرواحهم إليها، واتصالهم بها، وتعمير الله إياها بزينة أعمالهم ومحاسن نياتهم، وكان اسمها فلكا ومجرى للكواكب والدراري.
وبناء هذه المقاصد أيضا، على أن الطبائع متجددة سيالة، متوجهة من أنقص المراتب إلى أعلاها، وأن الكل بحسب ما ارتكز في جبلاتهم وغرائزهم - إن لم يعقها عائق - متوجهون نحو الحضرة الإلهية، فولى الله وجوههم شطره، وقلوبهم نحوه، - إن لم يعدلوا عن طريق الحق، ولم ينسلخوا عن الفطرة بإغواء الشياطين الطاغية، واضلال النفوس المردة المردودة إلى أسفل سافلين -.
فقد انكشف وتبين من تضاعيف هذه الأسرار اللطيفة، أن السموات كانت مقدمة على الأرض وما فيها من وجه، وهي أيضا متأخرة من وجه آخر.
وهذان الوجهان، كما يجريان فيها بحسب مراتب الإنسان وبداياته ونهاياته، كذلك يجريان فيها بحسب أنفسها، فإن لكل فلك صورة نفسانية، ينبعث منها جوهر مادتها، وتبتدئ منها حركة جرمها بحسب استكمالاتها وتصوراتها وتشوقاتها، فلكل منها صورة نفسانية مشتاقة إلى جوهر كامل عقلي، لا بد أن يصل إلى كمالها وغايتها، وإلا لكان ما أودع الله فيها من التشوق إليه، والتوسل به إلى تقرب الباري للكل جل شأنه هباء وعبثا - والله منزه عن فعل العبث والجزاف -.
فعلم من هذا سر كلامه:
أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما
[الأنبياء:30]. فارتتاق كل منهما؛ كان ابهامه وعمومه، وقصور حاله، وعدم امتيازه عن غيره في خاص أفعاله، وانفتاقه، تحصل ذاته، وتقومه بنفسه، وقيامه بخاص أفعاله، وبلوغه إلى كماله اللائق بحاله.
تأييد استبصاري
[الإنسان في دائرة النزول والصعود]
إن في كلام سيد الأولياء وخليفة الأنبياء، أمير المؤمنين وأخي خاتم النبيين - سلام الله عليهم وعليه وأخيه وأولاده أجمعين - ما يؤكد ما قررناه، وينور ما صورناه، حيث قال عليه السلام في بعض خطبه، مشيرا إلى الأكوان المتجددة في سلسلة العود، الراجعة إلى مبدءها الألى من المنزلة السفلى:
" ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء، فأجرى ماء متلاطما تياره، متراكما زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده، وقرنها إلى حده، الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق ".
" ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها وأدام مربها، وأعصف مجراها، وأبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد أوله على آخره، وساجيه على مائره، حتى عب عبابه ، ورمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق وجو منفهق، فسوى منه سبع سموات، جعل سفلاهن موجا مكفوفا، وعلياهن سقفا محفوظا، وسمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها ولا دسار ينظمها ".
" ثم زينها بزينة الكواكب وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجا مستطيرا، وقمرا منيرا، في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر ".
" ثم فتق ما بين السموات العلى، فملأهن أطوارا من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون ".
وجعل عليه السلام يصف أطوار الملائكة وقبائلهم بفنون نشأتهم وأفاعيلهم ورسالاتهم بين الله وبين عباده، إلى آخر كلامه في هذا الباب، ففي ما ذكره - على أخيه وعليه وآلهما الصلاة والسلام - نص صريح بأن خلق السموات بعد خلق الأرضين، مع أن الدلائل العقلية والنقلية قائمة على خلاف ذلك أيضا، فالوجه كما مرت الإشارة إليه.
وقال العارف المتحقق في الباب الواحد والسبعين وثلاثمأة [في الفتوحات]: " ولما خلق الأرض سبع طباق، وجعل كل أرض أصغر من الأخرى ليكون على كل أرض قبة سماء، ولما خلق الأرض وقدر فيها أقواتها، وكسى الهواء صورة النحاس الذي هو الدخان، فمن ذلك الدخان خلق سبع سموات طباقا أجساما شفافة، وجعلها على الأرض كالقباب، على كل أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة، والأرض لها كالبساط، فهي مدحية دحاها من أجل السماء أن تكون فمادت فعادت بالجبال عليها فثقلت، فسكنت بها، وجعل في كل سماء منها كوكبا - وهي الجواري... ".
"... فلما سبحت الكواكب كلها، ونزلت بالخزائن التي في البروج، ووهبتها ملائكة البروج من تلك الخزائن ما وهبتها، أثرت في الأركان ما توارى فيها من جماد ونبات وحيوان، وآخر مولود الإنسان خليفة الإنسان الكامل، وهو الصورة الظاهرة التي جمع حقائق العالم، وهو الذي أضاف إلى جمعية حقائق العالم حقائق الحق الإلهي، التي بها صحت له الخلافة الإلهية " - انتهى قوله.
وقال تلميذه المحقق صدر الدين القونوي قدس سرهما: إن أول الإنسان ومبدءه هو حال تعلق الإرادة الإلهية باظهار تخصصه الثابت أزلا في علم الحق، ثم اتصال حكم القدرة لإبرازه في تطورات الوجود، وامراره على المراتب الإلهية والكونية، وله في كل حضرة وعالم يمر عليه صورة تناسبه وحال يخصه ووديعة يأخذها، يتفاوت ذلك بحسب استعداده حال التصوير.
فكم بين من باشر الحق تسويته وتعديله، وجمع له بين يديه المقدستين، ثم نفخ فيه من روحه نفخا استلزم معرفة الأسماء، وسجود الملائكة أجمعين، وبين من خلقه بيده الواحدة، أو بواسطة ما شاء، وكون الملك هو الذي ينفخ فيه الروح بالاذن.
كما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" يجمع الله أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ وما رزقه؟ وما أجله؟ ما عمله؟ فالحق يملي والملك يكتب ".
فأين هذا من قوله:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[الحجر:29]. شتان بينهما! ".
" فلا يزال الإنسان الكامل، الذي خلق للنهاية، مباشرا في سائر مراتب الاستيداع من لدن إقرار الإرادة في مقام القلم الأعلى، ثم في مقام اللوح النفسي، ثم في مرتبة الطبيعة، ثم في العرش المحدد للجهات مستوى الاسم " الرحمن " ، ثم في الكرسي مستوى الاسم " الرحيم " ، ثم في أجرام السموات السبع، ثم في العناصر والمولدات إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع بعد استيفاء أحكام مراتب الاستيداع ".
قال: " فكما هو الأمر أولا، كذلك هو الأمر آخرا، بل الخاتمة عين السابقة فافهم " - انتهى ما ذكره.
وظهر منه أن الإنسان الكامل بكل مرتبة مر عليها عند نزوله من عالم الوحدة، لا بد وأن يتلبس بها، ويتصور بصورة تلك المرتبة عند صعوده إلى ذلك العالم، ثم يخلع عنه لباسها، فيرد الودائع، ويؤدي الأمانات إلى أهلها إن كان هو من أهل النهاية والكمال الأتم.
حقيقة مثالية
[الإنسان الكامل فيه صورة السموات والأرض]
إن الإنسان الكامل، مظهر جمعية الكل، وجوده بحسب الكون الزماني كصورة آدمي مستلقي، رجله إلى جانب الماضي منذ أوان خلق آدم عليه السلام، ورأسه إلى جانب المستقبل في أوان بعث الخاتم عليه وآله السلام؛ فكان الإنسان منذ خلق الله أول آدمي إلى خلق محمد (صلى الله عليه وآله)، كان متدرجا في الاستكمال وتصفية الأحوال، حتى بلغ إلى غاية الفطرة، ومخ رأس الآدمية، وأم دماغ الإنسانية، بوجود محمد (صلى الله عليه وآله) - هذا بحسب الزمان وهو سبعة آلاف سنة -.
وأما بحسب المكان؛ فالإنسان الكامل، كشخص قائم عند الله، ثابت في الأرض قدماه، خارج عن أكناف السماوات عنقه، بالغ إلى حد العرش العظيم عظام رأسه، كما وصف أمير المؤمنين، سيد الموحدين عليه السلام قبيلة من الملائكة بقوله: " ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه تعالى أبصارهم متلفعون تحته بأجنحتهم، لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه تعالى صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر " - انتهى كلامه عليه السلام.
وههنا وجه آخر؛ وهو أن قوله: { ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات } ، إشارة إلى تسويته تعالى باطن الإنسان وسماء عقله سبع درجات باطنية معروفة عند أهل الحقيقة، وهي: النفس والقلب، والعقل، والروح، والسر، والخفي، والأخفى.
وتوجيه ذلك، بأنه تعالى لما ذكر في الآية السابقة:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون
[البقرة:28]، مشيرا إلى أنه تعالى أخرج خلق الإنسان من أدنى المراتب، وصوره صورة بعد صورة، وأحياه حياة بعد كل ممات، وكمالا بعد كل نقص، حتى رجع إليه تعالى، وعاد إلى ما بدأ منه، كما قال تعالى:
كما بدأنآ أول خلق نعيده
[الأنبياء:104]. أراد إلى كيفية هذا الرجوع وبيان هذه الإعادة على ضرب من التفصيل بعدما أجمل فيه، فقال: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } ، إشارة إلى طيه في السلوك إلى الله تعالى جميع الدرجات الأرضية - من الجمادية والنباتية والحيوانية -، { ثم استوى إلى السمآء } أي قصد بإرادته إلى سماء عقله { فسواهن } سبعة أطوار { وهو بكل شيء عليم } إذ قد جمع علم الأسماء كلها في هذا النائب الرباني، والخليفة السبحاني تأييدا وتنويرا لقوله:
وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض
[الجاثية:13]. وقوله:
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
[لقمان:20]. وقوله:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
[الإسراء:70].
ثم يأتي بعد هذه الآية شرح ماهية الإنسان، وبيان خلافته لله تعالى، وسر مسجوديته للملائكة أجمعين، لارتباطه بهذا المقصود، من كون الإنسان سالكا بقدمي العلم والعمل إلى خدمة المولى المعبود.
فصل
[السماوات السبع]
إن ما ذكر في القرآن من عدد السموات لا يزيد على السبع، وأما أهل الهيئة وأصحاب التعاليم الرصدية، فزعموا أن الأفلاك الكلية تسعة: سبعة للسيارات - كل في فلك - وثامنها للكواكب الثابتة في أوضاعها، البطيئة في حركتها الخاصة بها. وأما الفلك التاسع فهو الفلك المحيط بالكل، المحرك للكل حركة سريعة يخالف في الجهة لحركات البواقي.
وذلك لأنهم وجدوا كل كوكب متحركا بحركة سريعة شرقية مشتركة، وبحركة بطيئة غريبة مختصة به، وهم قد ذكروا في كتبهم وجه انحصارها وترتيبها المشهور.
أما وجه انحصار الأفلاك الكلية في تسعة - ومعنى الفلك الكلي عندهم ما تنتظم به إحدى الحركات المحسوسة المعلومة بالنظر الجليل بحسب الرصد - فهو أنهم في بادئ نظرهم رأوا تسع حركات مختلفة، فأثبتوا تسعة أجرام متحركات فلكية.
وهذا الوجه ضعيف، إذ يمكن أن تستند إحدى هذه الحركات - إما الشرقية السريعة أو البطيئة الشاملة - لحركات الأوجات والجوزهرات، لا إلى جرم مختص، بأن تتعلق بمجموع الأفلاك الثمانية نفس تحركها إحدى تينك الحركتين، بل لا حاجة إلى الثامن - كما ذكره صاحب التحفة من المتأخرين -، وقد استفاده من بعض من تقدم عهده، لإمكان أن يتعلق نفس بمجموع السبعة يحركه بإحدى الحركتين، وأخرى بالسابع يحركه بالأخرى.
هذا في جانب القلة؛ وأما في جانب الكثرة، فتجويز الزيادة مما لا مانع عنه، بل يجوز أن تكون حركات الكواكب الغير السيارة متفاوتة المقدار كلها، تفاوتا قليلا لا يدركه الحس، فيكون على أصولهم كل منها في فلك آخر.
بل هذا الاحتمال جار في هذه الحركة الشرقية السريعة الشاملة للكل، إذ يجوز أن يكون لكل من الأفلاك من هذه السريعة ، حركة غير ما للأخرى بتفاوت يسير، لا يبلغ في ألوف من السنين إلى قدر يدركه الإنسان بحسب الأرصاد السابقة واللاحقة، على أن تساوي الحركات، لا يوجب وحدة الجرم المتحرك بها.
ثم إنهم اضطروا إلى اثبات أفلاك أخرى من جهات:
منها: حديث الإقبال والإدبار في الفلك، الذي وجده بعض أرباب الطلسمات وغيرهم، زاعمين أن غاية كل منهما ثمانية درجات، يتم كل من الغايتين في ستمائة وأربعين سنة.
ومنها وجدان الميل الأعظم بين المنطقتين متناقضا عما وجده أصحاب الأرصاد القديمة، فإن أهل الهند منهم وجدوه أربعة وعشرين جزءا، وكان هذا في القدماء رأيا شائعا، وقالوا: " بسبب ذلك استخرج إقليدس في كتابه شكلا ذا خمسة عشر ضلعا في الدائرة، بسبب أن كل ضلع منه وتر هذه الحصة من الدور، ثم وجد بعد بطلميوس بالحلقتين الموصوفتين في أول المجسطي، أقل من ذلك مطابقا لما وجده أبرخس وهو " كحناك " ، ثم وجد بعد ذلك بإرصاد المأمون أقل منه، ووافقه رصد بني موسى بدار السلام، ثم وجده جماعة كأبي الوفاء وأبي حامد الصغاني أقل مما وجده المأمون، ثم رصد الخجندي في أيام فخر الدولة بآلة لم يستعملها أحد إلى هذه الغاية سماها " السدس الفخري " فوجده ثلاثة وعشرين ونصف جزء، بزيادة دقائق ثلاثة تقريبا.
ومنها اختلافات أخرى عديدة، توجب عليهم إثبات أفلاك أخر غير ما اشتهر - كعدم تشابه حركات المتحيرة حول مراكز أفلاكها الخارجة، وكتشابه حركة خارج المركز للقمر حول مركز العالم، وكميول ذرى تداوير المتحيرة وحضيضاتها عن صفحة ما فيها مراكزها، وكانحراف القطر المار بالبعدين الأوسطين للزهرة وعطارد -.
وأما الترتيب فيها على الوجه المقرر عندهم، فذكروا في بيانه أن المحرك للكل يجب أن يكون محيطا به على ما تشهد به الفطرة السليمة، وإن بعض الثوابت ينكسف بزحل، المنكسف بالمشتري، المنكسف بالمريخ، المنكسف بالزهرة، المنكسفة بعطارد، المنكسف بالقمر، الكاسف للشمس؛ ولا شك أن فلك المنكسف فوق فلك الكاسف.
لكنه بقي الأمر في كون فلك الشمس تحت فلك المريخ، وفوق فلك الزهرة، فما تيقنوا في ذلك، إذ طريقة الكسف لا تتمشى بين الشمس وغير القمر من الكواكب، لاضمحلالها تحت الشعاع عند مقارنتها اياها.
فعلم الأول بطريقة أخرى هي اختلاف المنظر، فإن المريخ ليس [له] اختلاف منظر أصلا بخلاف الشمس، فيكون فوقها، وبقي الثاني، بل كونها فوق عطارد أيضا مشكوك فيه إلى الآن، فإن الآلة التي بها استعملوا اختلاف المنظر إذا استعملوها وهي ذات الشعبتين تنصب في سطح نصف النهار، وهما عند وصولهما إليها غير مرئيتين في معظم المعمورة، لأن كلا منهما لا يبعد عن الشمس بمقدار يمكن ظهورهما في نصف النهار عند اختفاء الشمس.
فاضطروا في توسطهما بين المريخ والزهرة إلى طريقة الاستحسان، من كونها بين السبعة كشمسة القلادة، وتأكد ذلك الرأي بما حكي عن جماعة منهم الشيخ أبو علي أنهم رأوا الزهرة كشامة على وجه الشمس، أو اياها مع عطارد كشامتين على وجهها.
وهذا أيضا ضعيف، لأن منهم من زعم أن في وجه الشمس شامة، كما إنه حصل في وجه القمر المحو.
ثم إن أباريحان البيروني قال في تلخيصه لفصول الفرغاني: " إن اختلاف المنظر لا يحس إلا في القمر " ، فبطل ما عولوا عليه، وبقي موضع الشمس مشكوكا فيه.
وظن بعض المتأخرين كمؤيد الدين العرضي وقطب الدين الشيرازي بدليل لاح لهم في الأبعاد، أن فلك الشمس بين فلكي زهرة وعطارد.
هذا خلاصة ما ذكروه في الترتيب، فعلم أن طريقة الرصد والحس على ما هو مسلك التعلميين ناقصة في إدراك الأمور السماوية، بل لا يحيط به إلا مبدعها ومنشئها، فوجب الاقتصار فيها على طريقة السمع، فإنها تدل على تحقق سبع سموات، وتحقق جسمين عظيمين غيرهما: أحدهما العرش، والآخر الكرسي - إن لم يكن المراد بهما العقل الكلي والنفس الكلية، أو اللوح والقلم، أو القضاء والقدر -.
فصل
[علم الله تعالى]
قوله: { وهو بكل شيء عليم } ، يدل [على] أن ذاته تعالى لما كان سببا لجميع ما في الأرض والسماء، وذاته عالمة بذاته - لكونه غير محتجب عن ذاته بسبب أغشية ولواحق غريبة، بها يغيب الشيء عن نفسه، لتجرده عنها، وتقدمه على سائر الأشياء -، فهو غير مكتنف بأمر غريب عن صورة ذاته الإلهية، فيكون عالما بذاته، والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، فيكون عالما بكل شيء.
لكن علمه بذاته لما كان عين ذاته، فعلمه التفصيلي بما سواه، يجب أن يكون نفس ذوات ما سواه، لأن ذاته سبب لما سواه، وعلمه بذاته سبب لعلمه بما سواه، والعلتان - وهما ذاته وعلمه بذاته - واحدة بالذات، فيجب أن يكون المعلولان - وهما ما سواه وعلمه بما سواه - واحدا بالذات، فيكون علمه بكل شيء عين وجود ذلك الشيء، فعلمه بكل شيء على وجه جزئي، خلافا لما اشتهر من شرذمة من المتفلسفة - خذلهم الله - أنه لا يعلم الجزئيات المادية.
واعلم [أن] علمه تعالى بالأشياء علمان: واجب وممكن.
فالأول: علم كمالي فعلي هو عين ذاته المقدسة، فإن ذاته حقيقة ينشأ منها جميع الحقائق، كما أن العقول البسيطة عندنا علة يصدر منها مفصل المعقولات.
والثاني: علم تفصيلي، هو صورة كل واحدة واحدة من الحقائق الامكانية، سواء كانت مقارنة لذاته - كما ذهب إليه الحكماء المشاؤون وأتباعهم كأبي نصر وأبي علي -، أو مبائنة عنه تعالى - كما عليه الإشراقيون وغيرهم -، أو غير زائدة على أسمائه وصفاته - كما رآه آخرون من العرفاء.
قال بعض الحكماء من أتباع أرسطو مشيرا إلى هذين العلمين: " واجب الوجود مبدء كل فيض، وهو ظاهر، فله الكل من حيث لا كثرة فيه، فهو من حيث هو ظاهر [فهو] ينال الكل من ذاته، فعلمه بالكل بعد ذاته، وعلمه بذاته نفس ذاته، فيكثر علمه بالكل كثرة بعد ذاته، ويتحد الكل بالنسبة إلى ذاته، فهو الكل في وحدة " - انتهى.
واعلم أن تحقيق القول في علمه تعالى، يحتاج إلى خوض عظيم في بحر علوم المكاشفة، ولا يكفي في ذلك مقروعات الأسماع من غير بصيرة قلبية بعين اليقين.
قال صاحب التفسير الكبير " هذه الآية تدل على فساد قول الفلاسفة القائلين بعدم علمه بالجزئيات، وصحة قول المتكلمين في اثبات علمه بها، واستدلوا على ذلك بأنه تعالى فاعل لهذه الأجسام على نهج الإتقان والإحكام، وكل ما هو كذلك يكون عالما بما فعله . وهذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع، لأنه ذكر خلق السموات والأرض، ثم فرع على ذلك كونه عالما. فثبت أن قول المتكلمين مطابق للقرآن مذهبا واستدلالا.
ويدل أيضا على فساد قول المعتزلة، لدلالته على أن موجد كل فعل لا بد وأن يكون عالما به على سبيل التفصيل، فلما لم يكن الإنسان عالما بكنه ما يصدر منه، علمنا انه غير موجد له ".
أقول: أما الفلاسفة فلم ينفوا علمه تعالى بالجزئيات بحسب شخصياتها، إلا أنهم قالوا: " ليس نحو علمه تعالى بها من الإحساس والتخيل " ، ومناط الجزئية والامتناع عن الصدق على كثيرين عندهم أحد هذين الأمرين - سواء كانوا مصيبين في ذلك أو مخطئين -.
ولعمري، إن خطأ الحكماء وجهلهم في باب المعرفة، أولى من إصابة المتكلم من غير بصيرة. ويؤيد ما ذكره، قول معلمهم ومقدمهم أرسطاطاليس حيث قال في كتابه المعروف بالمعرفة الربوبية بمثل هذه العبارة " إن العقل يجهل ما فوقه - وهي العلة الأولى - [ولا يعرفها] معرفة تامة، وإلا لكان هو فوقها، ومحال أن يكون الشيء فوق علته وعلة لعلته، وهذا قبيح جدا، والعقل يجهل ما تحته أيضا، لأنه لا يحتاج إلى معرفتها، لأنها فيه وهو علتها، وجهل العقل ليس عدم المعرفة، بل [هو] المعرفة القصوى، وذلك أنه يعرف الأشياء لا كمعرفة الأشياء نفسها، بل فوق ذلك وأفضل وأعلى، لأنه علتها، فمعرفة الأشياء بأنفسها عند العقل جهل، لأنها ليست معرفة صحيحة ولا تامة، فلذلك قلنا إن العقل يجهل الأشياء التي تحته، نعني بذلك أنه يعرف [الأشياء التي] تحته معرفة تامة، لا كمعرفتها بأنفسها، ولا حاجة له إلى معرفتها، وكذلك النفس تجهل معلولاتها بالنوع الذي ذكرناه آنفا، ولا تحتاج إلى معرفة [شيء من الأشياء] إلا إلى معرفة العقل والعلة الأولى لأنهما فوقها ".
وأما المعتزلة، فهم لا يقولون بأن العبد خالق لحقائق ما صدرت عنه، بل هو بإرادته مبدأ لحركات وسكنات كالأكل والشرب، والقيام والقعود وغيرها، وله من العلم بها ما يكفي لرجحان أحد جانبي الحركة أو السكون على الآخر، وهما الوقوع واللاوقوع.
وحاشا من له أدنى مسكة من العقل، أن لا يعقل أن الصباغ - مثلا - منا ليس موجدا لحقيقة الصبغ، ولا لحقيقة الكرباس، ولا لصيروة الكرباس قابلا للصبغ، ولا لكونه مصبوغا بالفعل - أي منفعلا عن تأثير الصبغ فيه - فإن من اشتبه عليه ذلك، فهو خارج عن حدود أهلية البحث والنظر، بل الخلاف في أن حركات الصباغ كالجمع بين الكرباس والصبغ، وكتفريق الصبغ عليه من فعل العبد أولا، وكذلك في سائر الأبواب كالبناء، والتوليد، والكتابة، والزراعة وغيرها.
ثم قال: قالت المعتزلة: " إذا وقع الجمع بين هذه الآية وبين قوله:
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف:76]. ظهر أنه تعالى عالم بذاته ".
والجواب إن قوله تعالى:
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف:76] عام؛ وقوله:
أنزله بعلمه
[النساء:166]. خاص، والخاص مقدم على العام.
أقول: الأول مبين، لدلالته على أن في الوجود عليما يفوق على سائر العلماء، ويكون علمه عين ذاته، إذ لو كان ذا علم - أي عالما بعلم زائد -، لكان فوقه عليم آخر فيلزم التسلسل.
والثاني مجمل، لاحتماله أنه أنزله بعلمه الذي هو نفس ذاته، أو بعلمه الذي هو زائد عليه؛ والمبين مقدم على المجمل.
تذييل تقديسي
[شمول علمه تعالى الجزئيات]
اعلم أن علمه تعالى كسائر صفاته مجرد - أي غير عارض لماهية -، لأنه تعالى منزه عن الماهية، صمد حق؛ وكل فرد مجرد، لأنه يجب أن يكون قد خرج فيه إلى الفعل جميع كمالاته الحقيقية، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. لأنه لا جهة له سواها.
ونحن قد حققنا في مقامه " أن كل بسيط الحقيقة يجب أن يكون كل الموجودات " ، وأقمنا عليه البرهان. وما كله الشيء، فهو الشيء كله، وإلا كان الشيء قاصرا عن ذاته - وهو محال -، وما هذا شأنه، يستحيل فيه التعدد، فإن كل الشيء لا يتعدد.
فالعلم هناك واحد، ومع وحدته يجب أن يكون علما بكل شيء، إذ لو بقي شيء ما لا يكون ذلك العلم علما به، ولا شك أن العلم به من جملة مطلق العلم، فلم يخرج جميع العلمية في ذلك إلى الفعل ، لكنا بينا أن ذلك واجب.
والكلام في سائر الصفات على هذا القياس، ومن أشكل عليه أن يكون علم الحق عز وجل مع وحدته علما بكل شيء، فذلك لأنه ظنه واحدا وحدة عددية، وليس كما ظن، إذ كما أن وحدته ليست كسائر الوحدات، ولا كالآحاد، فكذلك وحدة صفاته، وهذا من غوامض الإلهية.
واعلم أن نحو العلم هنالك، على عكس نحو العلم عندنا، لأن المعلوم هنالك من العلم يجري مجرى الظل من الأصل، فما عند الله هو الحقائق المتأصلة التي تنزل الأشياء منها منزلة الصور والأشباح.
قال بعض المحققين: إن ما من الأشياء عند الله أحق بها مما عند أنفسها. والعلم هناك في شيئية المعلوم وتحققه، أقوى من المعلوم في شيئية نفسه وتحققها، فإنه محقق الحقيقة ومشيء الشيء؛ والشيء مع نفسه بالإمكان، ومع مشيئه ومحققه بالوجوب، وتأكد الشيء فوق الشيء، وكمال الوجود فوق الوجود.
وهذا مما يحتاج دركه إلى تلطف شديد، وصفاء أكيد، والله على ما أقول شهيد، وخاب كل جبار عنيد.
[2.30]
اعلم أن هذه الآية، إشارة إلى معرفة النفس الإنسانية، وشرح ماهيتها وإنيتها، وكيفية نشؤها من الأرض وسر خلافتها، وذلك لأن معرفة النفس أم الفضائل، وأصل المعارف - كما جاء في الوحي الإلهي: " اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك " وفي كلام النبي (صلى الله عليه وآله):
" أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه "
وفي كلام بعض الأوائل: " من عرف ذاته تأله ".
وذلك لأنها إذا عرفت، كانت مفتاح خزائن المعرفة، وباب حكمة رب العالمين، وصراط الحق واليقين، وميزان يوم الحساب، ونور المارين إلى الجنة؛ وإذا جهلت، كانت ظلمة القبور وضيقها، ووحشة الصدور وضنكها؛ وعرضة الهلاك والعمى والدثور، وعذاب الآخرة يوم النشور.
فقوله: { وإذ } وضع - كما قيل - لزمان نسبة ماضية وقعت فيه أخرى، كما أن " إذا " وضع لزمان نسبة مستقبلة تقع فيه أخرى، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية لفعل مضمر ك " اذكر " ونحوه، أو مذكور ك " قالوا " في هذه الآية، وإنما أضمر " اذكر " فيما أضمر، لأنه جاء عاملا له صريحا في كثير من مواضع القرآن. وعن معمر: إنه مزيد.
اعلم أن قول الله [تعالى] فعلي عند المحققين كما مر، وهو عبارة عن إنشاء أمر يستفاد منه مشيئة الله تعالى في خلقه، فقوله للملائكة: { إني جاعل في الأرض خليفة } إعلامه إياهم ذلك بأحد وجهين؛ إما بافاضة صور الحقائق التي هي من مبادئ النشأة الإنسانية عليهم؛ أو باطلاعهم على شيء من عالم أمره تعالى، المشتمل على جميع الأقوال المتعلقة بالأكوان الخلقية.
و " الجعل " على ضربين: ابداع نفس حقيقة الشيء، وتأييسه أو تصييره شيئا آخر. والأول أعلى في باب الجاعلية من الثاني، ف { جاعل } إن كان بالمعنى الأول، كان بمعنى مبدع أو خالق، فلا يستدعي مجعولا إليه، وإن كان بالمعنى الثاني، كان له مجعول ومجعول إليه - وهما المفعول الأول والمفعول الثاني باصطلاح النحاة -، وهما " في الأرض " و " خليفة "؛ وإنما عمل فيهما، لأنه بمعنى الاستقبال، ومعتمد على مسند إليه.
و " الخليفة " من يخلف غيره وينوب عنه لأجل مناسبة تامة يستحق بها للخلافة لا توجد في غيره، وإلا لكان وضعا للشيء في غير موضعه، و " الهاء " فيه للمبالغة.
وقد تحيرت العقول في أن استحقاقية آدم للخلافة الإلهية بماذا؟ فقيل: لتحمله التكليف. وقيل: لطاعته مع وجود الصوارف البدنية كالشهوة والغضب عنها. وقيل: لجامعيته بين صفات الملائكة وصفات البهائم. وأسد الأقوال كونه جامعا لجميع المظاهر الأسمائية.
واعلم أن لله خلفاء في كل عالم ونشأة، ولخلفائه أيضا خلفاء، وبهذا جرت سنته، لا لحاجة له إلى من ينوبه في فعله، لتعاليه عن القصور في فعله، لكونه تمام كل حقيقة، وكمال كل وجود؛ بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره من لدنه بغير واسطة، ولذلك لم يستنبئ ملكا من الملائكة العالين في الأرض كما قال:
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون
[الأنعام:9].
ألا ترى أن الأنبياء - سلام الله عليهم -، لما قويت قواهم، وفاقت عقولهم وخمدت نار هواهم تحت نور هداهم، واشتعلت قريحتهم الوقادة بنور الهداية بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، أرسل إليهم الملائكة، ثم من كان منهم أعلى رتبة، كلمه ربه بلا واسطة، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات، ومحمدا (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج.
ومما يؤيد ما ذكرنا، ما أخبر (صلى الله عليه وآله) في تفاوت درجات أخذه عن الله العلوم بحسب أحواله المتفاوتة، وترقياته في مراتب العقول المفارقة، بعد تجاوز المقامات الفلكية ونفوسها العلية، فكان يخبر أحيانا أنه يأخذ عن جبرئيل عليه السلام، وأن جبرئيل يأخذ عن ميكائيل، وهو عن إسرافيل، وإسرافيل يأخذ عن الله. ويخبر أحيانا أنه يأخذ عن ميكائيل دون واسطة جبرئيل. وأخبر أنه كان يلقي إليه أحيانا إسرافيل، فيأخذ دون واسطة الملكين عليهما السلام، وأخذ أحيانا عن الله من غير واسطة أحد من الملائكة، وليس وراء الله مرمى.
ونظير ذلك في الطبيعة: أن النفس متوسطة بين العقل والطبيعة، وهي متوسطة بينها وبين الروح البخاري، المتوسط بين القوى الطبيعية وبين الأعصاب والغضاريف، وهي بينها وبين الأعضاء والأمشاج.
والمراد ههنا آدم عليه السلام، لأنه خليفة الله في أرضه، أو خليفة من سكن الأرض قبله، أو هو وذريته، لأنهم يخلفون من قبلهم؛ وإفراد اللفظ؛ إما للإستغناء بذكره عن ذكر بنيه - كما استغني عن ذكر أبي القبيلة عن ذكرهم في قولهم: " مضر وهاشم " - أو على تأويل من يخلف، أو خلفا يخلف.
وأما خليفته في العالم كله، فهو محمد (صلى الله عليه وآله)، عند بلوغه إلى المقام المحمود.
إشراق كمالي
[لزوم وجود الخليفة]
اعلم أنه لما اقتضى حكم السلطنة الواجبة للذات الأزلية والصفات العلية بسط مملكة الألوهية، ونشر لواء الربوبية، بإظهار الخلائق وتحقيق الحقائق، وتسخير الأشياء وإمضاء الأمور، وتدبير الممالك وإمداد الدهور، وحفظ مراتب الوجود ورفع مناصب الشهود؛ وكانت مباشرة هذا الأمر من الذات القديمة بغير واسطة بعيدا جدا، - لبعد المناسبة بين عزة القدم وذلة الحدوث -، حكم الحكيم سبحانه بتخليف نائب ينوب عنه في التصرف والولاية، والحفظ والرعاية.
وله وجه إلى القدم يستمد به من الحق سبحانه، ووجه إلى الحدوث يمد به الخلق، فجعل على صورة خليفة يخلف عنه في التصرف، وخلع عليه جميع أسمائه وصفاته.
ومكنه في مسند الخلافة بإلقاء مقادير الأمور إليه، وإحالة حكم الجمهور عليه، وتنفيذ تصرفاته في خزائن ملكه وملكوته، وتسخير الخلائق لحكمه وجبروته، وسماه انسانا، لإمكان وقوع الانس بينه وبين الخلق برابطة الجنسية، وواسطة الأنسية، وجعل له بحكم اسمه: " الظاهر والباطن " حقيقة باطنة، وصورة ظاهرة، ليتمكن بهما من التصرف في الملك والملكوت.
فحقيقته الباطنة هي الروح الأعظم، وهو الأمر الذي يستحق به الإنسان الخلافة، والنفس الكلية وزيره وترجمانه، والطبيعة الكلية عامله ورئيسه، والعملة - من القوى الطبيعية وكذلك إلى آخر الروحانيات - جنوده وخدمه.
وأما صورته الظاهرة: فصورة العالم من العرش إلى الفرش، وما بينهما من البسائط والمركبات.
فهذا هو الإنسان الكبير المشير إليه قول المحققين: " إن العالم إنسان كبير ". وأما قولهم: " الإنسان عالم كبير " ، أرادوا به أنواع البشر، وهو خليفة الله في أرضه، كما أشير إليه في هذه الآية. وأما خليفة الله في السماء والأرض، وهو الإنسان الكبير، والإنسان البشري نسخة منتخبة من الإنسان الكبير الإلهي، ونسبته إليه نسبة الولد الصغير من الوالد الكبير، فله أيضا حقيقة باطنية وصورة ظاهرة.
أما حقيقته الباطنة: فالروح الجزئي المنفوخ فيه من الروح الأعظم، والعقل الجزئي، والنفس والطبيعة الجزئيتان.
وأما صورته الظاهرة: فنسخة منتخبة من صورة العالم، فيها من كل جزء من أجزاء العالم لطيفها وكثيفها قسط ونصيب، فسبحانه من صانع جمع الكل في واحد كما قيل:
ليس من الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
وصورة كل شخص إنساني نتيجة صورة آدم وحواء عليهما السلام، ومعناه نتيجة الروح الأعظم والنفس الكلية، اللذين هما أيضا آدم كلي وحواء كلية. ومن هذا يصح أن يقال لبعض من كمل أولادهما حقيقة:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة
فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
فصل
[الملائكة والأقوال فيها]
الملائكة جمع ملأك - على الأصل - كالشمائل في جمع شمأل، والتاء لتأنيث الجمع. وهو مقلوب " مألك " من الألوكة وهي الرسالة، لأنهم وسائط بين الله وبين الناس، فهم رسل الله أو كالرسل إليهم، ولهذا لا يسمى " ملكا " من لا رسالة له، يسمى " روحا " أو شيئا آخر :
واختلفت العقلاء في حقيقتهم، بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة وجودا جوهريا صوريا لا كوجود الأعراض، فذهب أكثر أهل الإسلام إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلين بأن الرسل عليهم السلام كانوا يرونها كذلك. وقالت طائفة من النصارى: " هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان، كما أن الجن أيضا عندهم هي النفوس الخبيثة الشريرة المفارقة ".
وزعم الحكماء أن ضربا منها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وضربا آخر متعلقة بالأجرام الكلية والجزئية بأنحاء من التدبير والتصريف، فهي عندهم منقسمة إلى قسمين:
قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق، والتنزه عن الاشتغال بغير ملاحظة جماله وجلاله، وهم العليون، والملائكة المقربون، كما وصفهم الله في محكم تنزيله بقوله:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء:20].
وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء، وجرى به القلم الإلهي:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6].
وهم المدبرات أمرا؛ فمنهم سماوية، ومنهم أرضية - على تفصيل ذكره في المفاتيح الغيبية -.
واعلم أنهم اختلفوا في أن المقول لهم كل الملائكة، أم ملائكة الأرض، والحق إن المراد من الخليفة إن كان آدم عليه السلام أو الإنسان الصغير، فالمقول له هم الملائكة الأرضية، وإن كان الإنسان الكبير المحمدي عليه وآله السلام، فالمخاطب كل الملائكة أجمعين.
وقيل: هم إبليس ومن كان معه في محاربة الجن، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة، فدمرهم وفرقهم في الجبال والجزائر.
مثال ذلك قوى مملكة الإنسان في أرض بدنه، فإن مادة بدنه كانت أولا قبل تعلق النفس الوهمية بيد قوى الحيوانية الشهوية والغضبية الساكنة في أوسط مواضعه وأعدل بقاعه - كتجويف القلب وما يحويه -، وكانت عاصية ظالمة فاعلة للأمور بمقتضى الطبيعة - لا بحكم قوة إدراكية باطنية -، ثم إذا فاضت عليها النفس الوهمانية بأمر الله، قهرتها وسخرتها، وأبعدتها عن مقر الدماغ والقلب إلى أطراف البدن وأكنافه، بحكم مد أديم البدن ودحوة أرضه بالقوة النامية، فجعل مواضع الحواس الظاهرة أطراف البدن ، ومواضع القوى: الشهوة والغضب، المعدة والكبد والأنثيين والمرارة ونحوها.
ثم جعل الله القوة الناطقة المطيعة لأمر الله، السميعة لأحكامه، المسلمة له ولرسله وملائكته، خليفة في أرض البدن، وأمر جميع القوى المدركة بانقيادها وطاعتها وتسليمها، والسجود لها، والايتمار بأمرها، والانتهاء بنهيها، فأصبحت كلها ساجدة مطيعة لأمر الله خاضعة له، إلا إبليس، القوة الوهمية، لغلبة نارية النفس على طبيعتها، وقلة نورية الإدراك العقلي على فطرتها.
فصارت لشدة أنانيتها النارية، وقلة نوريتها العقلية، وعدم بصيرتها بحال الجوهر الإنساني المخمر طينته عن التراب المشتعل نور فطرته في وادي القدس عن نور رب الأرباب، عاصية متمردة عن الطاعة، زاعمة أن حقيقة الإنسان ليس إلا هذا الجسد الأرضي الفاسد، الذي إن أصابه حر ذاب، وإن أصابه برد جمد، وإن أنتبه لا يشعر، وإن حرك لا يحس بذاته، وإن لم يطعم ذبل، وإن أطعم امتلأ من الدم والنجاسات، كأنه مذبح مجصص ظاهره، مملو باطنه من القاذورات. أو كقبر متحرك في جوفه أنواع من المؤذيات والهوام كالحيات والعقارب والديدان.
فصل
[الأسرار في خلق الإنسان]
إن قولهم هذا يدل على معان مختلفة:
منها: أن الله أنطقهم بهذا القول، ليتحقق لنا أن هذه الصفات الذميمة في طينتنا مودعة، وفي جبلتنا مركوزة، فلا نأمن عن مكر أنفسنا الأمارة بالسوء، ولا نعتمد عليها وما نبرئها كما قال تعالى عن قول يوسف عليه السلام:
ومآ أبرىء نفسي
[يوسف:53].
ومنها: لنعلم أن كل عمل صالح نعمله، ذلك بتوفيق الله تعالى إيانا وفضله ورحمته، وكل فساد وظلم نعمله، هو من شؤم طينتنا وخاصية طبيعتنا، كما قال تعالى:
مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك
[النساء:79]. وكل فساد لا يجري علينا ولا يصدر منا، فذلك من حفظ الحق وعصمته ورحمته، لقوله تعالى:
إلا ما رحم ربي
[يوسف:53].
ومنها: لنعلم أن استعداد أمر عظيم فينا، وفينا شأو جسيم ليس للملائكة به علم، وهو سر الخلافة، فلا نتغافل عن هذه السعادة، ولا نتقاعد عن هذه السيادة، ونسعى في طلبها حق السعاية.
ومنها: لنعلم أن الله تعالى - من فضله وكرمه - قد قبلنا بالعبودية والخلافة، وقال من حسن عنايته في حقنا مع الملائكة المقربين: { إني أعلم ما لا تعلمون } ، لكيلا نقنط من رحمته، وننقطع من خدمته.
ومنها: أن الملائكة { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } ، لأنهم نظروا إلى جسد آدم قبل نفخ الروح فيه، فشاهدوا بالنظر الملكي في ملكوت جسده المخلوق، من العناصر الأربعة المضادة، صفات بشريته البهيمية والسبعية التي تتولد من تركيب أضداد العناصر، كما شاهدوها في أجساد الحيوانات والسباع الضاريات، بل عاينوها - فإنها خلقت قبل آدم -، فقاسوا عليها أحواله بعد أن شاهدوها وحققوها.
وهذا لا يكون غيبا في حقهم، وإنما يكون غيبا لنا، لأننا ننظر بالحس، والملكوت يكون لأهل الحس غيبا، ومنا من ينظر بالنظر الملكوتي، فيشاهد الملائكة والملكوتيات بالنظر الروحاني، كما قال تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض
[الأنعام:75]. وقال:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض
[الأعراف:185]. وحينئذ لا يكون غيبا.
فالغيب ما غاب، وما شاهد فيه فهو شهادة؛ فالملكوت للملائكة شهادة، والحضرة الإلهية لهم غيب؛ وليس لهم الترقي إلى تلك الحضرة؛ وإن للإنسان صورة من عالم الشهادة المحسوسة، وروحا من عالم الغيب الملكوتي، وسرا مستعدا لقبول فيض النور الإلهي بلا واسطة؛ فبالتربية يترقى من عالم الشهادة إلى عالم الغيب - وهو الملكوت -، وبسر المتابعة وخصوصيتها يترقى من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت والعظموت - وهو غيب الغيوب -، فيشاهد بنور الله المستفاد من سر المتابعة أنوار الجمال والجلال، فيكون في خلافة الحق عالم الغيب والشهادة، كما أن الله عالم الغيب والشهادة:
فلا يظهر على غيبه أحدا
[الجن:26] أي الغيب المخصوص - وهو غيب الغيب - أحدا - يعني من الملائكة
إلا من ارتضى من رسول
[الجن:27]، يعني من الإنسان.
فهذا هو السر المكنون، المركوز في استعداد الإنسان، الذي كان الله يعلمه منه، والملائكة لا يعلمون كما قال: { إني أعلم ما لا تعلمون }.
ومنها: أن الملائكة لما نظروا إلى كثرة طاعتهم، واستعداد عصمتهم، ونظروا إلى نتائج الصفات النفسانية، استعظموا أنفسهم واستصغروا آدم وذريته، فقالوا: { أتجعل فيها } - أي: في الأرض - خليفة مع أنه { يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ، فنحن مع هذه الصفات، أحق بالخلافة منه، كما قال بنو إسرائيل حين بعث الله لهم طالوت ملكا:
قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال
[البقرة:247] فأجابهم الله تعالى بأن استحقاق الملك إنما هو بالاصطفاء والبسطة في العلم والجسم وقال:
إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشآء
[البقرة:247].
فكذلك ههنا أجابهم الله بقوله: { إني أعلم ما لا تعلمون } إجمالا، ثم فصله بقوله:
إن الله اصطفى آدم ونوحا
[آل عمران:33]. وبقوله:
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31]. وبقوله
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص:75]. ليعلموا أن استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة، ولكن مالك الملك يؤتي الملك من يشاء.
ولما تفاخر الملائكة بطاعتهم على آدم، من الله تعالى على آدم بعلم الأسماء، ليعلموا أنهم أهل الطاعة والخدمة، وأنه أهل الفضل والمنة؛ وأين أهل الخدمة من أهل المنة؟! فبتفاخرهم على آدم صاروا ساجدين له، ليعلموا أنه مستغن عن طاعتهم، وبمنته على آدم صار مسجودا له، ليعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
فصل آخر
[كان الملائكة سائلين، لا معترضين]
قوله: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء }؛ استكشاف عما خفي عليهم وجه حكمته، كأنهم قالوا: " إلهنا - أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه، فما وجه الحكمة في جعل جوهر أرضي خليفة فيها وهو مصحوب لقوة شهوية شأنها الشر والإفساد، ولقوة غضبية شأنها الإهلاك وسفك الدماء، فان النفس اذا انقادت لاحداهما سلكت بها مسلك الفساد والجور والظلم؟
أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها مع وجود من هو بريء من الشرور والمفاسد بالكلية، كطبقة الملائكة المعصومين عن المعاصي، المسبحين بحمده والمقدسين له. وليس هذا باعتراض على الله في فعله، أو طعن في بني آدم على وجه الغيبة، أو تزكية لأنفسهم على وجه الافتخار والازراء بغيراهم، - حاشا ملائكة الله عن ذلك - وقد وصفهم الله بأنهم
عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
[الأنبياء:26 - 27].
وأما علمهم بما ذكروه، وحكمهم بذلك على بني آدم، فليس مما استنبطوه بالقياس -، كما توهم من أنهم قاسوا أحد الثقلين على الآخر، حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة، لتعاليهم عن الظن رجما بالغيب، بل إنما عرفوا ذلك بوحي الله، أو باطلاعهم على ما في اللوح المحفوظ، أو بما ارتكز في عقولهم من أن العصمة من المعاصي والشرور كلها من خواصهم، فأجابهم الله عما استخبروه بقوله: { إني أعلم ما لا تعلمون }.
حكمة مشرقية
[سر خلافة الإنسان لله تعالى]
واعلم إن سر خلافة الإنسان لله، من غوامض العلوم التي لم يمكن الإطلاع عليها إلا بتوقيف الله عباده عليها بالوحي أو ما ينتمي إليه.
ويمكن تقرير شبهة الملائكة، واستخبارهم على وجه آخر، وهو أن الإنسان قد اختص بتشريف الخلافة ومسجودية الملائكة من بين سائر الموجودات من الأملاك والأفلاك، وجميع من في طبقات السموات والأرض والجبال، وهو مع ذلك مخلوق من التراب، وفي أول خلقته، كان أنزل رتبة من الجواهر السماوية والأرضية، وما في المعادن والجبال، إذ كان أضعف وجودا وأخس جوهرا من كل جوهر عقلي أو نفساني أو طبيعي، فكيف فاق على الأقران، وجاوز رتبة النبات والحيوان، ومر على طبقات السموات بنفوسها وعقولها حتى صار خليفة الرحمن، واسطة بين الله وبين ما سواه - بعد أن كان في عداد الحشرات والديدان، ممنوا بآفة الشهوة والغضب كالأسد والأرنب -؟! وكيف اختص هو بذلك الشرف والقرب - دون غيره -، وما من غير إلا وقد كان مثله وقتا؟
أما المعادن، فقد كان الإنسان مثلها وقتا؛ وأما النباتات، فقد نزل قبل الحيوانية في درجتها؛ وأما الحيوانات، فهو بما هو حيوان من أصنافها، وإنما فاز بالنفس الناطقة بعد التجاوز عما في مرتبتها؛ وأما السماويات، فما من طبقة من طبقاتها إلا وقد مكث فيها الإنسان الكامل قليلا أو كثيرا، ثم جاوزها حتى بلغ منتهاها، ووصل إلى غاية مثواها ومبتغاها، فما سبب تجاوزه عن كل مرتبة ذكرناها إلى فوقها دون صاحب تلك المرتبة؟ مثلا، إذا نزل في عالم النفوس الفلكية، فبأي سبب أمكنه التجاوز عن رتبة تلك النفوس كلها، حتى صار عقلا محضا مفارقا عن الكل في مقام القرب الإلهي، ولم يمكن لواحدة منها ذلك في مدد متمادية إلى أن يشاء الله؟
فهذا تقرير هذا الإشكال على هذا المنوال، وجوابه بأن شأن من خلق للنهاية أن لا يمكث في حدود الطريق إليها.
وبعبارة أخرى؛ إن المتحرك - بما هو متحرك - يجب أن يكون حاله ما بين صرافه الفعل ومحوضة القوة.
وبعبارة أخرى؛ إن الموت عن كل نشأة يوجب الحياة في نشأة ثانية فوقها.
وبعبارة أخرى؛ لكل صورة من الصور، وطبقة من الطبقات، وملك من الملائكة مقام معلوم لا يتعداه لقوة وجودها وشدة فعليتها، والذي خلق للنهاية لضعف وجوده الإبتدائي، لا مقام له كما في قوله تعالى:
يأهل يثرب لا مقام لكم
[الأحزاب:13].
وتفصيل ذلك؛ إن الموجود إما بالفعل من جميع الوجوه، أو بالفعل من بعض الوجوه وبالقوة من بعضها، ولا يمكن أن يكون بالقوة من كل الوجوه، وإلا لم يكن موجودا - وقد فرض موجودا -.
أما القسم الأول، فهو الباري - جل اسمه -، وضرب من الملائكة المقربين، والفرق بأن الباري موجود بوجوده باق ببقاء نفسه، والمقربون موجودون بوجود الله باقون ببقاء الله - لا ببقاء أنفسهم -، وغير المقربين باق بابقاء الله اياه؛ وفرق بين بقاء الشيء بنفسه كما في الواجب الوجود لذاته، وبين الباقي ببقاء غيره، كما في صور ما عند الله، وبين الباقي بابقاء غيره، كما في سائر الممكنات الموجودة الباقية.
وأما القسم الثاني؛ فهو ما يكون مزدوج الحقيقة من أمر يكون به بالفعل - كالصورة وما في حكمها -، ومن أمر يكون به بالقوة - كالمادة وما في حكمها -.
ثم هذا القسم أيضا، ينقسم إلى قسمين: قسم لا يجوز له الانتقال من صورة إلى صورة، وقسم يجوز له ذلك، فالأول؛ كالأجرام السماوية في جواهرها وفي أعراضها القارة، كالكم والكيف والشكل - لا في نسبها العارضة -، والثاني؛ كغيرها مثل الأجسام العنصرية.
ثم الجائز له الانتقال في التجوهر والصورة؛ إما أن يتأتى له ذلك على سبيل الصعوبة والعسر، أو على سبيل السهولة واليسر؛ فالأول؛ كالجبال والمعادن مثل الذهب والفضة واليواقيت وغيرها، والثاني؛ كالإنسان والحيوان والنبات.
وهو أيضا؛ إما أن يقف بحركته وانتقاله عند حد لا يتعداه إلى الغاية القصوى ألبتة، أو لا يقف عنده، بل يجوز له البلوغ إلى النهاية التي لا غاية وراءها، فالأول كالإنسان، والثاني كالنبات والحيوان.
ثم الإنسان الذي في حقيقة هذا البلوغ، إما أن يبلغ بالفعل الى النهاية، أو يمنعه مانع، الأول، هو خليفة الله في العالم، والثاني، إما من أهل السلامة - إن لم يكن الغالب فيه صورة هذه النشأة بحسب كسبه -، أو من أهل الشقاوة، إن كان الغالب عليه صورتها.
فإذا تقرر هذا فنقول: أما انتقال صورة الإنسان من حدود الجمادية إلى مرتبة النبات والحيوان، فلوهن صورته النطفي، وقوة استعداده للنمو، وقبول الحيوانية، وأما تجاوزه عن حدودهما، فلضعف النباتية والحيوانية فيه مع اعتدال المزاج، كما قال تعالى:
وخلق الإنسان ضعيفا
[النساء:28].
وأما تجاوزه عن حدود الأفلاك والأملاك، فلأن كلا منهما كانت مبدعة في أول نشأتها على غاية كمالها النوعي، الذي لا أتم منه بحسب النوع، فكل واحد من أشخاص كل من القبيلين، لا يمكنه - لتمامية ذاته، وتمامية صورته، وفعلية جوهره، وعدم ورود ضد عليه أصلا - المزايلة عن نشأته وحاله إلى نشأة ثانية له، إذ ليس حصول كل واحد منها بحسب الجهات الإنفعالية القابلية، بل الكل منها فائضة عن الحق بواسطة جهات وجوبية فاعلية، ولهذا انحصر نوع كل منها في شخصه، لكون التشخص فيه لازما للنوع، وإنما الحاجة في أحد القسمين - أي الأفلاك - إلى المادة، لأجل بعض أعراضها الخارجة عن التجوهر، البعيد عن ذات الشخص، كالنسب الوضعية، وهي أسهل عرض وأيسر غرض، فمن كن وجوده على هذا النمط من الإحكام والوثاقة أو أرفع منه، فلا يمكنه الفناء والموت عن نشأته إلى نشأة إلا عند القيامة الكبرى، ونفخ الصور المستوعب لفناء الكل، وذوبان الجميع عند ظهور سلطان الأحدية التامة، وكبرياء قهر الواحد القهار.
وأما الإنسان المخلوق للبلوغ إلى النهاية، فهو لا يزال في الضعف والانكسار، والعجز والافتقار، مع حفظ الله اياه عن البطلان، وتبليغه اياه من دار إلى دار، فما دام الشيء في مقام الحاجة والعجز، ترد عليه الواردات الإلهية والخلع النورانية، وما دام في مقام الأنانية والافتخار، يمنعه عن المزيد ويقيمه على العتيد، أو يفسد عليه حاله إلى أدون ما كان عليه.
فبهذا العجز والضعف، استعد هو من بين الأجسام الصلبة - كالأرض والجبال -، والجواهر القوية - كالسبع الشداد -، لتحمل الأمانة المشار إليها في قوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب:72].
وتلك الأمانة، هي النور الإلهي المشار إليه في قوله (صلى الله عليه وآله):
" إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره "
، فما أصابه ذلك النور فقد اهتدى، فكان عرض ذلك النور المسمى بالأمانة من صفات الحق، فلا يتملكه أحد عاما على المخلوقات، وإصابته مختصة بالإنسان الكامل المتحمل للأمانة الإلهية، فبذلك النور صحت له الخلافة الإلهية المختصة به من بين المخلوقات ذوات الأرواح.
فهذا هو الجواب الرباني عن شبهة الملائكة المستفاد من قوله تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } ، إشارة إلى ذلك النور المشار إليه، ومن قوله:
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31]، إشارة إلى مروره على كل العوالم واتصافه بمظاهر الأسماء، ومن قوله:
إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب:72] إشارة إلى صفتي الغضب والشهوة، الموجبتين لعجزه وقصوره، المستدعيتين عند وقاية شرهما لعبوره، وهما اللذان جعلهما الملائكة من أسباب حرمانه عن التكريم والخلافة في قوله: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } ، أي من من شأنه هذين الأمرين بمقتضى تينك الصفتين - وقد جعلهما الله من أسباب الإنابة إليه والرجوع إلى دار الكرامة -.
واعلم أن شبهة الملائكة عليهم السلام في باب خلافة الإنسان حيث قالوا: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } قريب المأخذ من شبهة الشيطان اللعين في باب مسجوديته حيث قال:
خلقتني من نار وخلقته من طين
[الأعراف:12]. إلا أنهم ذكروها استكشافا واستعلاما، وذكرها اللعين استكبارا وافتخارا، واستبدادا بالرأي والقياس في مقابلة النص.
وبالجملة، فضيلة الإنسان على الملائكة والجان، ليس من جهة الصورة كما تصوره الملائكة، ولا من جهة المادة كما توهمه الشيطان؛ بل من جهة الغاية والعاقبة كما أشير إليه بقوله:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
[الفجر:27 - 30].
وقرئ ويسفك - بضم الفاء - ويسفك ويسفك - من باب الإفعال والتفعيل.
وفي البيضاوي: " السفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب، فالسفك يقال في الدم والدمع. والسبك في الجواهر المذابة. والصفح في الصب من أعلى. والشن في الصب عن فم القربة ونحوها، وكذلك السن.
وقرئ يسفك - على البناء للمفعول -، فيكون الراجع إلى " من " - سواء جعل موصولا أو محذوفا - أي: يسفك الدماء فيهم ".
فصل
قوله تعالى: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }
قال صاحب الكشاف: " التسبيح تبعيد الله عن السوء، وكذلك تقديسه. من سبح في الأرض والماء، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد. و { بحمدك } في موضع الحال، أي: نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك، لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك " - انتهى.
وقيل: تداركوا به - أي: بحمدك - ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم.
و { نقدس لك } ، أي نطهر نفوسنا لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح، وسفك الدماء - الذي هو أعظم الأفعال الذميمة - بتطهير النفس عن الآثام.
وقيل: اللام زائدة، أي نقدسك.
وقال بعضهم: إن هذه الجملة حال مقررة لمضمون وجه الإشكال، والمعنى: أتستخلف من شأنه صدور دواعي الشهوة والغضب منه، ونحن معصومون من هذه الآفة أحقاء بذلك، كقولك: " أتحسن إلى أبا عدك وأنا من أقربائك "؟!.
وقد مر أن مقصودهم الاستخبار والاستعلام، فإنهم لما علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى، عليها مدار أمره ودوام عمره: الشهوية والغضبية: - وهما يدعوانه ويؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء -، والعقلية: - وهي تدعوه إلى المعرفة والطاعة، ونظروا إلى أحوال هذه القوى مفردة مفصلة - لا على النظم الوحداني -، قالوا: " ما الحكمة في استخلاف من يصحب تينك القوتين، وهما مما لا يقتضي الحكمة ايجاد من يصحبهما، فكيف استخلافه؟ وأما باعتبار القوة العقلية، فنحن نقيم ما يتوقع منه سليما عن معارضة تلك المفاسد " وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل، متمرنة على الخير، كالعفة والشجاعة، ومجاهدة الهوى ورعاية الانصاف، ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد، كالإحاطة بالجزئيات، واستنباط الصناعات، واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل، الذي هو المقصود من الاستخلاف، وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله: { قال إني أعلم ما لا تعلمون }.
أقول: منشأ خلافة الإنسان، إما من جهة القرب والشرف، أو من جهة الكمال والمناسبة، وإن كان مرجع هذين إلى أمر واحد، فإن الأقرب إلى الله وجودا، يكون أكثر كمالا وأشد مناسبة له من غيره، إلا أن المشهور أنهما متغائران حيثية واعتبارا.
فنقول: إن كان منشأها القرب، فالوجه في تقرير الإشكال وتقرير الجواب كما سبق، وذلك يناسب آراء الحكماء وأصولهم. وإن كان منشأها المناسبة والطاعة وعدم المعصية، فالوجه كما ذكره هذا القائل إشكالا وجوابا، وهذا يناسب أطوار الصوفية وأغراضهم، فإن مناط الخلافة الإلهية عند هؤلاء، باستجماع الكمالات والاتصاف بجميع أصناف صفات الملائكة والجان والحيوان، وعند الحكماء بالبراءة عن الشرور والنقائص من جهة العلم والعرفان.
وهذا، لأن الحقيقة الواجبية عند الحكماء، منزهة عن صفات التشبيه، كالسمع والبصر والكلام وغيرها، وعند هؤلاء متصفة بها أيضا على وجه يليق بذاته، فكذلك حكم من ينوب عنه ويتوسط بينه وبين الخلائق؛ فالملائكة يعرفون الحق الأول بما يغلب عليهم من صفات التسبيح والتقديس، فتسبيحهم في مقام العبودية: " سبوح قدوس رب الملائكة والروح "؛ والأنبياء - صلوات الله عليهم - يعرفون الحق بما يظهر لهم من صفات التمجيد والتشبيه جميعا، فذكرهم:
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
[سورة يونس:10].
ومعرفة الحكماء بحسب مقام العقل لله، تشبه معرفة الملائكة المجردتين؛ ومعرفة أكابر الصوفية له تعالى في مقام المتابعة والاقتباس من نور النبوة، تشبه معرفة الأنبياء الكاملين - سلام الله عليهم أجمعين -، كل بحسب ما هو نصيبهم من شهود التجلي الإلهي والفيض الوجودي.
قال الشيخ العربي: " إذا تجلى الحق تعالى في صورة مثالية أو حسية، ترده العقول المحجوبة بواسطة أنها دائمة منزهة للحق ببراهين عقلية يواظب عليها، إذ المواظبة والمثابرة على الشيء، توجب انكار ما وراه، والعقل وإن كان ينزه الحق عن التشبيه، فهو يشبهه في عين التنزيه بالمجردات وهو لا يشعر، والحق تعالى منزه عن التشبيه والتنزيه جميعا بحسب ذاته، وهو موصوف بهما في مراتب أسمائه وصفاته ".
وقال أيضا: " واعلم أن الرد والإنكار إنما يقع في التجليات الإلهية، لأن الحق تارة يتجلى بالصفات السلبية فتقبله العقول، لأنها منزهة مسبحة عما فيه شائبة التشبيه والنقصان، وينكره كل من هو غير مجرد كالوهم والنفس المنطبعة وقواها، لأن من شأنهم إدراك الحق في مقام التشبيه والصور الحسية، وتارة يتجلى بالصفات الثبوتية فتقبله القلوب والنفوس المجردة، لأنها مشبهة من حيث تعلقها بالأجسام، ومنزهة باعتبار تجردها، وتنكره العقول المجردة لعدم إعطاء شأنها إياها، بل تنكر تلك الصفات أيضا بالأصالة.
وفي هذا التجلي، قد يتجلى بصور كمالية كالسمع والبصر والإدراك وغيرها، وقد يتجلى بصورة ناقصة من صور الأكوان، كالمرض والاحتياج والفقر، كما أخبر الحق عن نفسه بقوله:
" مرضت فلم تعدني، واستطعمت فلم تطعمني "
وقوله:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه
[البقرة:245]. - وأمثال ذلك -، فيقبله العارفون مظاهر الحق، وينكره المؤمنون المحجوبون، لاعتقادهم بأن الحق ما يتنزل عن مقامه الكمالي؛ فيقبل كل منهم ما يليق بحاله ويناسبه من التجليات الإلهية، وأنكر ما لم يكن يعطيه شأنه، والإنسان الكامل هو الذي يقبل الحق في جميع تجلياته ويعبده فيها.
ولما كانت العقول الضعيفة عاجزة عن إدراك التجليات الإلهية في كل موطن ومقام، والنفوس الأبية طاغية غير معظمة لشعائر الله، أوجبت إسناد الصور الكمالية إليه تعالى، ورد ما يوجب النقصان عنه؛ مع أنه هو المتجلي في كل شيء، والمتخلي عن كل شيء " - انتهى.
فقد ظهر أن كل واحد من الممكنات يعرف معبوده بما غلب على نشأته، فالملائكة لكونهم مجردين عن صفات الأجسام، يصفون الحق بصفات التسبيح والتقديس ، ولهذا ذكر مجاهد في تفسير قوله: { ونقدس لك } " أي: نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء مرضاتك ". وبعض الناس - كالظاهريين - يصفونه تعالى بصفات التشبيه، كالاستواء والمجيء والنزول والغضب وغيرها، وكذا القياس في غيرهم، كل يصفه بما هو مقامه في الشهود، فأهل الحواس بالمحسوسية، وأهل الخيال بالموهومية، وأهل العقل بالمعقولية، والكل مصيب من وجه ومخطئ من وجه، والله تعالى - وهو أعرف بذاته مما سواه -، وقد وصفه بالصفات المتضادة والأسماء المتقابلة.
فقد علم أن الكل عاجزون عن درك جمال صفاته، قاصرون عن معرفة كمال ذاته - إلا من علمه ربه بتعليم الأسماء، وهداه إلى معرفته بقصر نظره إليه في مقام الفناء عما عداه -.
[2.31]
وقرئ: " وعلم آدم " - على البناء للمفعول.
اعلم أن الملائكة لما سألوا الله عن وجه الحكمة في جعل الإنسان خليفة في الأرض دونهم، وأجاب بوجه اجمالي؛ أراد أن يزيدهم بيانا وكشفا، أخبر عن وجه الحكمة في ذلك تفصيلا لميا؛ فبين لهم جهة فضيلة الإنسان عليهم، وذلك بأن علمهم معرفة الأسماء - إما بخلق علم ضروري أو إلقاء في روعه، ولا يفتقر إلى سابقه اصطلاح - وإلا لتسلسل.
هذا إذا كان المراد من الإسم ما غلب عليه العرف العام الطارئ من اللفظ الموضوع لمعنى - سواء كان مركبا أو مفردا، وسواء كان المركب خبرا أو انشاء؛ والمفرد مخبرا عنه أو به أو رابطة بينهما، أو الاصطلاح النحوي من المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة -، وأما إذا كان المراد منه باعتبار اشتقاقه من " السمة " - ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن، سواء كانت ألفاظا، أو صفات أو أفعالا، كما هو عند العرفاء -، فليس منحصرا فيما للوضع فيه مدخل، بل يشمله وغيره.
والظاهر أن المراد من تعليم الأسماء، ليس مجرد تعليم الألفاظ الموضوعة بحسب دلالتها على المعاني كما في التعريفات اللفظية، بل إفادة العلم بحقائق الأشياء وماهياتها، وإن كان الأول أيضا مستلزما للعلم بمدلولاتها بوجه من الوجوه؛ وذلك لأن معرفتها من جهة اللغات ليست كمالا يعتد به، إنما الكمال الأتم في الحكمة والمعرفة.
فالمعنى: أنه تعالى خلق آدم عليه السلام من أجزاء مختلفة، وقوى متبائنة، مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات، لاشتماله على جميع النشئات الدنيوية والمثالية والأخروية، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وحقائقها الكلية والجزئية، وخواصها وأسماءها، وأصول العلوم وقوانين الصناعات، وكيفية اتخاذ الآلات، حتى صار في نفسه عالما تاما منفردا منفصلا عن العوالم كلها، ذا هيئة جمعية ونظام وحداني مضاهيا للعوالم الثلاثة.
وآدم عليه السلام - على وزن أفعل - اسم أعجمي ك " آذر " و " شالخ " ، واشتقاقه من " الأدمة " بمعنى السمرة. أو من الأدمة - بالفتح - بمعنى الأسوة. أو من أديم الأرض، لما روي عنه (صلى الله عليه وآله):
" إنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض - سهلها وحزنها - فخلق منها [آدم]، فلذلك يأتي بنوه أخيافا "
ولو كان وزنه فاعلا لانصرف.
وليس مشتقا من الأدم والأدمة بمعنى الالفة، كاشتقاق إدريس من الدرس، ويعقوب من العقب، وإبليس من الإبلاس.
إشارة عرفانية
[معنى الإسم والمقصود من تعليم الأسماء]
قد مر في المفاتيح الغيبية إن ذاته تعالى باعتبار صفة من الصفات أو تجل من التجليات سمي ب " الاسم " عند العرفاء، وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء، وهي معان معقولة في غيب الوجود الحق، تتعين بها شؤونه وتجلياته.
وليست بموجودات عينية.
وقد تطلق الأسماء عندهم على الموجودات العينية، باعتبار كونها مظاهر لتلك الأسماء التي هي معان غيبية، وذلك لاتحادهما في المفهوم - وإن اختلفا في الوجوب والإمكان -، مثلا: للعلم حقيقة ذاتية هي كونه عين هوية الحق الأول، وحقيقة أسمائية هي معنى عقلي انتزاعي من شؤون الحق وتجلياته، وحقيقة إمكانية هي ذوات العقلاء؛ فكل واحد من العقول المجردة عندهم إسم عليم من مراتب اسم الله " العليم " ، وهكذا في جميع الأسماء.
فعلى هذا؛ حقائق العالم كلها من أسماء الله تعالى، فتعليمه تعالى أسماء الأشياء لآدم، إراءته الأجناس التي خلقها، وإلهامه إياه معرفة أحوالها وما يتعلق بها من اللوازم والآثار.
فصل
قوله [تعالى] { ثم عرضهم على الملائكة }
وقرء عبدالله: " عرضهن " وقرء أبي: " ثم عرضها ".
وفي الكشاف " أي: عرض المسميات. وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم " - انتهى.
وقيل: الضمير للمسميات المدلول عليها ضمنا، إذ التقدير أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه، وعوض عنه اللام، كقوله [تعالى]:
واشتعل الرأس شيبا
[مريم:4]. لأن الغرض السؤال عن أسماء المعروضات، فلا يكون المعروض نفس الأسماء؛ سيما إن أريد به الألفاظ. والمراد به ذوات الأشياء أو مدلولات الألفاظ، وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء.
[المثل النورية والأسماء الإلهية]
أقول: قد علمت بما سبق من مسلك العرفاء، الاستغناء عن مثل هذه التكلفات في معنى الاسم، فلا حاجة إلى ما ذكروه.
وأما تذكير الجمع، فليس من باب التغليب والمجاز، بل على الحقيقة.
بيان ذلك: أن لكل حقيقة نوعية - كالإنسان والفرس والغنم والبقر والرطب الحنطة والشعير والياقوت واللعل والفيروزج والأرض والماء والهواء - جوهرا عقليا نوريا عاقلا لذاته، ومعقولا لذاته، موجودا في العالم الأعلى الإلهي، حاضرا في علم الله والحضرة الإلهية. فهذه العقول المفارقة والصور المجردة العلمية، هي بالحقيقة أسماء الله أو أسماء أسمائه، وهي موجودة أزلا وأبدا، لأن ما عند الله باق لا يزول؛ وليست من جملة العالم لتتصف بالحدوث والتجدد، والزال والدثور. والبرهان على وجودها مذكور في كتبنا العقلية.
وتقريره: أن الباري - جل ذكره - كما أنه فاعل كل شيء - إما بوسط أو بغير وسط -، فهو غاية كل شيء، بوسط أو بغير وسط، لأنه خير محض لا شرية فيه أصلا، وكل ما هو خير محض، يطلبه كل شيء طبعا وإرادة، وهذا مركوز في جميع الجبلات والغرائز، فكل موجود سافل إذا تصور الوجود العالي، فلا محالة يطلبه ويشتاقه طبعا جبليا أو اختياريا اضطراريا، وهذا الطلب والشوق، لو لم يكن له غاية حقيقية، لكان ارتكازه في الجبلية عبثا معطلا - ولا معطل في الوجود، والله بريء عن فعل العبث -.
فلكل سافل إمكان الوصول إلى العالي، وهذا الإمكان إما ذاتي أو استعدادي، ففي الإبداعيات، إذا وجد الإمكان الذاتي، حصل المقصود لعدم المانع والقاسر، وفي المكونات، إذا حصل الاستعداد وزال المانع فكذلك.
ثم المانع الغير الزائل، لا يكون إلا بحسب الأمر الأقلي النادر، لأن الخارج عن الطبيعة النوعية للشيء، أو عن لوازمها الذاتية، يكون أمرا عارضا إتفاقيا، والأسباب الإتفاقية لا تدوم - كما ثبت في موضعه -، وكلامنا فيما تقتضيه طبيعة كل نوع بحسب ذاته، وقد ثبت أن ذلك إما لازم الوقوع، أو أكثري الوقوع؛ فالطبائع الكلية كلها من حيث ذواتها واصلة إلى كمالاتها، وكذا كل طبيعة جزئية في حركاتها وتشوقاتها إلى ما هو أعلى منها.
ثم الغاية في طبيعة جزئية أن كانت طبيعية جزئية أخرى، فلا بد بالآخرة أن تصل إلى طبيعة عقلية - وإلا لتسلسل الأمر إلى غير نهاية -، والغاية في طبيعة عقلية طبيعة عقلية فوقها، ولا بد في الكل أن تكون موصلة إلى غاية الغايات ومنتهى الخيرات، - وهو الباري جلت أسمائه - دفعا للدور والتسلسل.
فإذا تقرر هذا فنقول: إن لكل طبيعة حسية - سواء كانت فلكية أو عنصرية - طبيعة أخرى عقلية في العالم الإلهي هي كمالها وغايتها وتأكد وجودها، وهي الصور المفارقة الإلهية منها، لأنها صور ما في علم الله، وحقائق ما عند الله الباقية ببقاء الله؛ وكأنها هي التي سماها أفلاطون وشيعته بالمثل الإلهية.
وهي حقائق متأصلة، نسبتها إلى هذه الصور الحسيات الداثرات نسبة الأصل إلى المثال، والشخص إلى الظل؛ وإنما هي أصول هذه الأشباح الكائنة المتجددة، لأنها حقيقتها وفاعلها وغايتها وصورتها العقلية المعقولة بالفعل لبارئها دائما؛ وأما هذه فهي ناقصة غير خالية عن القوة والإمكان، سائلة زائلة بحسب وجودها الكوني، لكنها في وجودها الكوني التجددي، سالكة مشتاقة إليها، عائدة محشورة إلى ذلك العالم.
وأما تلك الصور العقليات، والمثل النوريات، والعلوم الإلهيات، فهي أبدا ملحقة بفاعلها وغايتها، ملاحظة لجمال بارئها ومبدعها، لم ترجع إلى ذواتها طرفة عين، إذ لا ذات لها منفكة عن ذات مبدعها، إذ الامكان هناك لا يفارق الفعلية، والقصور لا يباين التمام، فهي أبدا مستهلكة الذوات في ذات حبيبها الأول، لا فرق بينها وبين حبيبها كما ورد في الخبر القدسي، ولا مجال لها في الأنانية والغيرية.
وأما إبليس وجنوده، فليسوا منها ولا من حزبها، وإلا لما وقع من هؤلاء الإباء والأنانية.
فإذا انكشف هذا، فقد وضح وتبين سر قوله تعالى: { ثم عرضهم على الملائكة } - بضمير جمع ذوي العقول -، فإن هذه الصور المفارقة - كما ثبت - أسماء إلهية وعقلاء ربانية، وجودهم فوق وجود الملائكة السماوية، وللإنسان الكامل الذي هو مظهر الأسماء كلها، أن يتصل بعد سلوكه إلى الله بقدم العبودية - لا الأنانية - وعبوره على المراتب والمنازل الأرضية والسماوية، وأن يطلع على تلك الحقائق، ويتخلق بأخلاق خلاق الخلائق - وذلك هو الفوز العظيم والمن الجسيم -.
وأما غير الإنسان الكامل - سواء كان ملكا أو إنسانا أو حيوانا أو شيطانا - فليس له إلا مقام واحد، ولا عبودية له إلا لاسم واحد هو مربوبه خاصة لا يتعداه، لأنه أبدا تحت تربية ذلك الاسم الواحد.
فصل
قوله: { فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء }
أي: فنبههم على قصورهم عن معرفة أسماء الموجودات، أي حقائقها، لأن حقيقة الشيء هي علامته ووجهه عند أهل الحقيقة. أو أسماء الحق أي: مظاهرها ومربوباتها، وإنما قال ذلك، تبكيتا لهم، واظهارا لعجزهم عن أمر الخلافة والنيابة الإلهية، وليس أمرا تكوينيا، وإلا لكان مؤثرا في صيرورتهم كذلك، ولا أمرا تكليفيا، وإلا لكان من التكليف بالمحال.
" الإنباء ": إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما، والمراد ههنا: كونوا بحيث توجد فيكم حقائق الإنباء وملكوت الأشياء، كما في الإنسان الكامل بحسب تطوره في الأطوار، ومروره على كل العوالم والنشئات، ومظهريته لجميع الأسماء، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة، وأن استخلاف الإنسان لا يليق بالحكمة، وهو مصحوب لهاتين الصفتين: إفساد القوة الشهوية، وسفك القوة الغضبية.
وهذا الزعم، وإن لم يصرحوا به، لكنه لازم من مقالهم، والتصديق، كما يتطرق إلى الكلام باعبتار منطوقه، [كذلك] قد يتطرق إليه بعرض ما يلزم مدلوله من الأخبار، وبهذا الاعتبار يعتري الانشائيات.
إشارة نورية
قد ظهر لك فيما مر ذكره مرارا، أن أسماء الله تعالى أصل حقائق الممكنات، وأن عالم الأسماء الإلهية أصل هذا العالم بجميع ما فيه من الصور الكونية السماوية أو الأرضية، وأن هذه الصور الكونية، كعكوس وأظلال لحقائق تلك ، حتى أن العرفاء الشامخين، والأولياء الكاملين، يشاهدون بأنوار بواطنهم عالم الأسماء وترتيبها، وتقدم بعضها على بعض وتسلطه عليه، وتأخر بعضها عن بعض وانقهاره له، ترتيبا سببيا ومسببيا، وكثرة جمعية لا تقدح في وحدة الذات.
فإن أردت كشفا وايضاحا لما قد سبق ذكره، فاسمع أنموذجا من علم الأسماء واجعل بالك له، ولا تتوهم الكثرة في ذات الله تعالى، ولا تعدد القدماء، ولا الإجتماع الوجودي في عالم النسب المعقولة، فإن الذات الواجبية واحدة بالحقيقة، كثيرة بالأسماء.
قال لسان التحقيق في كشف هذا المقصد العميق: " إن الممكنات في حال عدمها الإمكاني سألت الأسماء الإلهية سؤال ذلة وافتقار، وقالت لها: إن العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضا، وعن معرفة ما يجب لكم من الحق علينا، فلو أنكم أظهرتم أعياننا وكسوتمونا حلة الوجود، أنعمتم علينا بذلك، وقمنا بما ينبغي لكم من الإجلال والتعظيم، وأنتم أيضا كانت السلطنة تصح لكم بظهورنا بالفعل، وأنتم [اليوم] علينا سلاطين بالقوة والصلاحية؛ فهذا اليوم نطلبه هو في حقكم أكثر مما في حقنا.
فقالت الأسماء: إن هذا الذي ذكرته الممكنات صحيح، فاتفقت بحضرة المسمى ونظرت في حقائقها ومعانيها، فطلبت ظهور أحكامها حتى تتميز أعيانها بآثارها، فإن الخلاق والمقدر والعالم، والمصور والمدبر، والمفصل والبارئ، والرزاق والمحيي والمميت، وجميع الأسماء الإلهية نظروا في ذواتهم، ولم يروا مخلوقا ولا مقدورا ولا معلوما ولا مصورا ولا مدبرا ولا مفصلا ولا مرزوقا. فقالوا: كيف العمل حتى تظهر هذه الأعيان التي تظهر أحكامنا فيها فيظهر سلطاننا؟ فجاءت الأسماء الإلهية التي تطلبها بعض حقائق العالم بعد ظهور عينه إلى الإسم البارئ، فقالوا: عسى [أن] توجد أعيان هذه الأحكام لتظهر أحكامنا، إذ الحضرة التي نحن فيها لا تقبل تأثيرنا.
فقال الباري: ذلك راجع إلى الإسم القادر، فإني تحت حيطته. فلما لجأوا إلى القادر قال: أنا تحت حيطة المريد، فلا أوجد عينا منكم إلا باختصاص، ولا يمكنني الممكن من نفسه إلا أن يأتيه أمر الآمر من ربه، فإذا أمره بالتكوين وقال له: " كن " ، يمكنني من نفسه، وتعلقت بايجاده، فكونته من حينه، فالجأوا إلى الإسم المريد، عسى أنه يرجح ويخصص جانب الوجود على جانب العدم، فحينئذ نجتمع أنا والآمر والمتكلم ونوجدكم.
فالتجأوا إلى الإسم المريد فقالوا له: إن الإسم القادر سألناه في ايجاد أعياننا، فأوقف أمر ذلك عليك، فما ترسم؟ فقال المريد. صدق القادر، ولكن ما عندي خبر ما حكم الإسم العالم فيكم - هل سبق علمه بايجادكم فاخصص، أولم يسبق؟ - فأنا تحت حيطة الإسم العالم، فسيروا إليه واذكروا [له] قضيتكم.
فساروا إلى الإسم العالم، وذكروا له ذلك، فقال العالم، قد سبق علمي بايجادكم، ولكن الأدب أولى، فإن لنا حضرة مهيمنة علينا وهي الإسم الله، فلا بد من حضورنا عنده، فإنها حضرة الجمع.
فاجتمعت الأسماء كلها في حضرة الإسم الله، فقال: ما بالكم؟ فذكروا له الخبر، فقال: أنا إسم جامع لحقائقكم، وإني دليل على مسمى، وهو ذات مقدسة له نعوت الكمال والتنزيه، فقفوا حتى ادخل على مدلولي.
[فدخل على مدلوله] فقال له ما قالته الممكنات وما تحاورت فيه الأسماء.
فقال: اخرج وقل لكل واحد من الأسماء يتعلق بما تقتضيه حقيقته في الممكنات، فإني الواحد الأحد لنفسي، والممكنات إنما تطلب مرتبتي وتطلبها مرتبتي، والأسماء الإلهية كلها للمرتبة - لا لي -، إلا الواحد خاصة. وهو اسم خصيص [بي] لا يشاركني في حقيقته من كل وجه أحد، لا من الأسماء، ولا من المراتب، ولا من الممكنات.
فخرج الإسم " الله " ومعه الإسم " المتكلم " ، يترجم عنه للممكنات والأسماء فذكر لهم ما ذكره المسمى، فتعلق العالم والمريد والقادر، فظهر الممكن الأول من الممكنات بتخصيص المريد وحكم العالم، فلما ظهرت الأعيان والآثار في الأكوان، وتسلط بعضها على بعض، وقهر بعضها بعضا، بحسب ما يستند إليه من الأسماء، فأدى إلى منازعة وخصام، فقالوا: إنا نخاف علينا أن يفسد علينا نظامنا، ونلحق بالعدم الذي كنا أولا فيه، فنبهت الممكنات الأسماء بما ألقى إليها الإسم العليم والمدبر، وقالوا أنتم - أيها الأسماء -، لو كان حكمكم على ميزان معلوم وحد مرسوم بإمام ترجعون إليه يحفظ علينا وجودنا، ونحفظ عليكم تأثيراتكم فينا، لكان أصلح لنا ولكم، فالجأوا إلى الله عسى أن يقدم من يحدد لكم حدا تقفون عنده، وإلا هلكنا وتعطلتم.
فقالوا: إن الإسم " المدبر " ينهي أمركم، فانتهوا إلى المدبر ما قالته الممكنات، فقال: أنا لها، فدخل وخرج بأمر الحق إلى الإسم " الرب " وقال له: افعل ما تقتضيه المصلحة في بقاء أعيان هذه الممكنات. فاتخذ وزيرين يعينانه على ما أمره به الوزير الواحد الإسم المدبر، والآخر الإسم المفصل - قال [تعالى]:
يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقآء ربكم توقنون
[الرعد:2]. الذي هو الإمام، فانظر ما أحكم كلام الله تعالى حيث جاء بلفظ مطابق للحال الذي ينبغي أن يكن الأمر عليه.
فجاء إسم الرب فرتب لهم الحدود، ووضع لهم المراسم لإصلاح المملكة، وليبلوهم أيهم أحسن عملا، وجعل الله ذلك قسمين: قسم يسمى سياسة حكمية ألقاها في فطر نفوس الأكابر من الناس، بحسب ما تدركه عقولهم وآراؤهم، فحدوا حدودا، ووضعوا نواميس رسمية بحسب ما يقتضيه صلاح كل إقليم وكل زمان، وانحفظت بذلك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم، وسموها نواميس.
وقسم يسمى شريعة إلهية، يجيء بها الوحي الإلهي إلى من اصطفاه الله وارتضاه من خلقه، ولم يكن قبل هذا الوحي يعلم أحد بأن الله فرض على عباده أمورا مقربة إلى الله، تورث جنة وحريرا، وأخرى مبعدة منه، تورث نارا وزمهريرا، ولا علموا قبلهم أن ثمة آخرة وبعثا محسوسا بعد الموت في أجساد طبيعية، ودارا فيها أكل وشرب ولباس ونكاح، ودارا فيها عذاب وآلام.
ثم بعث الله رسولا بعد رسول، ولم يخل الأرض عن خليفة هو مظهر الإسم الله، إذ به تنتظم أمور الخلق بماله من الجمعية الإلهية والعدالة الحقيقية، التي يرجع بها إليه كل الخلائق في حوائجهم وانتظام أمورهم ومعايشهم، كما في الإسم " الله " من المقام الجمعي الإلهي، الذي ترجع إليه الأسماء كلها، فهذا سر الخلافة وتعليم الأسماء في الإنسان الكامل، وعدم استحقاق غيره لهما.
مثال ذلك في العالم الصغير الإنساني:
أولا ترى أن كل قوة من القوى، إذا تفردت بخاص فعلها، فهي محجوبة بنفسها عن غيرها، لا ترى أفضل من ذاتها - كالملائكة التي نازعت في آدم -، كالعقل والوهم والخيال والحس، فإن كلا منها يدعي السلطنة على هذا العالم الصغير الإنساني، ولا يذعن ولا ينقاد لغيره.
إذ العقل يدعي أنه محيط بالكليات، مدرك لجميع الحقائق والماهيات على ما هي عليه بحسب القوة النظرية. وليس كذلك؛ ولهذا احتجب أرباب العقول عن الحق وصفاته، وسر المعاد، وحشر الأجساد، لتقليدهم عقولهم، وغاية عرفانهم، العلم الإجمالي بأن لهم موجدا ربا منزها عن الصفات الكونية، ولا يعلمون من الحقائق إلا لوازمها وخواصها.
وأرباب التحقيق وأهل الطريق، علموا ذلك مجملا، وشاهدوا تجلياته وظهوراته مفصلا، فاهتدوا بنوره، وسروا في الحقائق سريان تجليه فيها: وكشفوا عنها وخواصها ولوازمها كشفا لا تمازجه شبهة، وعلموا الحقائق علما لا تطرء عليه ريبة، فهم عباد الرحمن الذين يمشون في أرض الحقائق هونا، وأرباب النظر عباد عقولهم لا يقبلون إلا ما أعطته عقولهم.
وكذا الوهم، يدعي السلطنة ويكذب العقل في كل ما هو خارج عن طور إدراكه للمعاني الجزئية دون الكلية، وكذا غيرهما من المدارك الجزئية، وكذا القوى التحريكية - كالشهوة والغضب عند هيجانهما وتغاليبهما -.
وأما القلب المنور بنور المحبة والعشق، فهو الذي يدرك بحقيقته كل شيء بأمر ربها لا يرى فيها عوجا ولا أمتا، وذلك لكون حقيقته متصفة بجميع الكمالات، جامعة لحقائقها الموجودة قبل وجوده، حتى كان يمر عند تنزلاته عليها، فيتصف بمعانيها طورا بعد طور من أطوار الروحانيات والسماويات والعنصريات. إلى أن يظهر في صورته النوعية الحسية النازلة عليه من الحضرات الأسمائية، ما لا بد أن يمر على هذه الوسائط أيضا، إلى أن يصل إليه ويكمله.
وذلك المرور لتهيئته استعداده بأطوار الملكات للكمالات اللائقة، ولاجتماع ما فصل من المقام الجمعي الإلهي من الحقائق والخصائص التفصيلية الواقعة في مقام التفرقة الكونية، وللاشهاد والاطلاع على ما أريد أن يكون خليفة عليه، ولهذا لا يجعل خليفة إلا عند انتهاء السفر الثالث، ولولا هذا المرور لما أمكن العروج للكمل، إذ الخاتمة مضاهية للسابقة وبه تتم الحركة المعنوية.
وما يقال: " إن علم الأولياء والأنبياء عليه السلام تذكري لا تفكري ". وقوله (صلى الله عليه وآله):
" الحكمة ضالة المؤمن "
، إشارة إلى هذا المعنى، لا إلى أنه وجد في النشأة العنصرية مرة أخرى، ثم عرض له النسيان بواسطة التعلق بنطفة أخرى، ومرور الزمان عليه إلى أوان تذكره - كما على رأي التناسخية - فهو مفسوخ الصحة بالبرهان العرشي.
فصل
[لا شيء أفضل من العلم]
وهذه الآية من أدل الدلائل على فضيلة العلم، وعظم شأن حامله، فإنه تعالى ما أظهر كمال حكمته في خلقة آدم، وجعله خليفة في الأرض أولا، ومسجودا للملائكة في السماء، إلا بأن أظهر علمه بالأسماء، فلو كان شيء أشرف من العلم، لكان من الواجب اظهار فضله بذلك الشيء - لا بالعلم -.
فاعلم أنه يدل على فضيلة العلم دلائل من العقل والكتاب والسنة.
أما العقل: فاعلم أن العلم عبارة عن صورة الشيء المجردة عن مادته، وكل صورة مجردة عن المواد فهي موجودة بوجود عقلي، وكل موجود عقلي، فهو إما معقول لذاته - فيكون عاقلا وعقلا لذاته -، فلا يصحبه شر وآفة وعدم وزوال؛ لأن الشرور والآفات والأعدام، من لوازم المواد والأجسام والجسمانيات، فيكون كمالا لذاته، وسعادة لنفسه، لا توجد مثل تلك السعادة فيما لم تكن صورته مجردة عن المادة وعلائقها.
وإما أن يكون معقولا لغيره، بأن يكون وجوده العقلي حاصلا لذلك الغير، فيكون ذلك الغير من الموجودات المجردة عن المواد، لاستحالة أن تكون الصورة المجردة حاصلة لما ليس بمجرد، إذ كل صورة مادية يصحبها مقدار خاص ووضع خاص وشكل خاص، وهيئات جسمانية مانعة عن احتمال كونها معقولا كليا صادقا على كثيرين، وقد علمت أن كل مجرد عن المواد وعالم الأضداد، فهو سعيد، غاية السعادة الممكنة في حقه.
طريق آخر:
إن السعادة على ضربين: بدنية وعقلية. والبدنية ما تدرك بالمشاعر الجسمانية كالسمع للمسموعات، والبصر للمبصرات، والذوق للمذوقات، والخيال للمتخيلات والعقلية ما تدرك بالقوة العاقلة، كادراك العقل للمفارقات كذات الباري وصفاته وأسمائه وملائكته العلوية. والحكماء الإلهيون والأولياء الربانيون، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في اصابة اللذات والخيرات البدنية الدنيوية أو الأخروية بل كأنهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أعطوها على وجه الدوام والاستمرار - كما في الآخرة - ولا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة التي هي إدراك الصور العقلية المفارقة الذوات عن المحسوسات وما يليها.
وبيان ذلك بالتفصيل، أنه يجب أن يعلم أن لكل قوة من قوى النفس الإنسانية لذة وخيرا يخصها، وأدى وشرا يخصها. مثاله: أن لذة الشهوة وخيرها أن تتأدى إليها كيفية محسوسة ملائمة من المدركات الخمسة المشهورة، ولذة الغضب الظفر بالإنتقام، ولذة الوهم الرجاء، ولذة الحافظة تذكر الأمور الموافقة الماضية. وأذى كل واحدة منها ما يضاده.
وتشترك كلها - نوعا من الشركة -، في أن الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخير واللذة الخاصة بها، وموافق كل منها هو وجود الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل؛ والإنسان جامع لجميع هذه القوى والغرائز، فلكل قوة وغريزة منه لذة وألم بإزائها، ولذتها في نيلها بمقتضى طبعها الذي خلقت له، وهي سعادتها، فإن هذه الغرائز ما ركزت في الإنسان عبثا ولا هزلا.
ثم إن هذه القوى، وإن اشتركت في هذه المعاني، إلا إن مراتبها في الحقيقة مختلفة، ودرجاتها متفاوتة. فالذي كماله أفضل وأتم، والذي كماله أكثر وأدوم، والذي كماله أوصل وأحصل له، والذي هو في نفسه أكمل فعلا وأفضل، والذي هو في نفسه أشد إدراكا: فاللذة والسعادة اللتان له أبلغ وأشد، وأوفر وآكد.
فإذا تقرر هذا فنقول: وكذلك للإنسان غريزة تسمى بالنور الإلهي في قوله:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر:22]. وتسمى بالقوة العاقلة، والبصيرة الباطنة. وهي تدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة، كادراكها حدوث العالم وافتقاره إلى مدبر حكيم موصوف بصفات الإلهية، فاعل للحقائق الأسمائية، وخلقت لأن تدرك حقائق الأشياء.
وكمالها الخاص بها، الذي به سعادتها الأصلية، التي هي فوق سعادة قواها وغرائزها الحسية والخيالية والوهمية، هو أن تصير في ذاتها عالما عقليا موجودا فيه صور الكل، والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض في الكل، مبتدءة من مبدء الكل، وسالكة إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة، ثم النفسانية المتعلقة ، ثم الأجسام العلوية بقواها وهيئاتها، ثم كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتنقلب عبدا مطيعا لله، متقربا إليه، مشاهدا لما هو الحسن المطلق، والخير المطلق، والجمال الحق المطلق، ومتحدة به، ومنتقشة بمثاله وهيئته، ومنخرطة في سلكه وصائرة [إليه] وبذلك فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ويفتخر المفتخرون، ويباهي المباهون، لأنه إذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى، ولمن في طبقتها من الأشخاص، وجد هذا بالمرتبة التي يقبح معها أن يقال: " إنه أفضل وأتم منها "؛ بل لا نسبة لها إليه بوجه من الوجوه تماما، وفضيلة، وكثرة، وسائر ما يتم به الذاذ سائر المدركات واسعادها.
أما الدوام، فكيف يقاس دوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد؟ وأما شدة الوصول، فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح، بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتى يكون كأنه هو بلا انفصال؟ إذ العقل والعاقل والمعقول شيء واحد - كما هو عند التحقيق - أو قريب من الواحد كما عليه الجمهور.
وأما أن المدرك في نفسه أكمل، فأمر لا يخفى. وأما أنه أشد إدراكا، فأمر أيضا تعرفه بأدنى تذكر منك لما مضى بيانه، فإن البصيرة الإنسانية أكثر عدد مدركات وأشد استقصاء للمدرك، وأشد تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلا بالعرض؛ ولها أيضا الخوض في باطن المدرك وظاهره ولبه وقشره.
بل كيف يقاس هذا الإدراك العلمي بذلك الإدراك الحسي، أو تقاس هذه السعادة العقلية بتلك اللذة الحسية والبهيمية والغضبية؟
بل لا يخفى أن في العلم والمعرفة لذة لا تكافيها لذة، ونحن في عالمنا وبدننا هذين، ولانغمارنا في بعض الرذائل، لا نحس بتلك اللذة ولا نحن إليها؛ لكنا لو خلعنا ربقة الشهوة والغضب واخواتهما عن أعناقنا، نفضنا آثارها عن أذيالنا، وطالعنا شيئا من تلك اللذة فحينئذ ربما تخيلنا خيالا طفيفا ضعيفا - وخصوصا عند انحلال المشكلات، وإزالة الشبهات، واستيضاح المطلوبات النفسية - من تلك السعاة التي كلامنا فيها، ومع ذلك نجد منها لذة نستحقر بها سائر اللذات.
ومما يوضح أن اللذات العقلية، والكمالات العلمية، أعظم وأقوى ، أن كل قوة باطنة فبقدر بطونها ألذ كمالا وأقوى بهجة من كل قوة ظاهرية، حتى أن العالم بالشطرنج - على خسته - لا يطيق السكوت عن التعليم، وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه.
وأنت تعلم أنك إذا تأملت عويصا يهمك، وعرضت عليك شهوة وخيرت بين الظفرين، استخففت بالشهوة إن كنت عالي النفس كريم الهمة، والأنفس العامية أيضا فإنها تترك الشهوات المعترضة، وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تعبير أو سوء مقالة، ولو خير الرجل بين لذة الهريسة والدجاج المسمنة واللوذينج، وبين لذة الرياسة والحكومة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء، فإن كان المخير خسيس الهمة، ميت القلب، شديد البهيمية، اختار الهريسة والحلاوة؛ وإن كان عالي الهمة، كامل العقل، اختار الرياسة، وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياما كثيرة.
نعم؛ الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنية كالصبي، أو الذي ماتت قواه الباطنية كالمجنون والمعتوه، لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة والكرامة.
وبهذا يتبين أن العلم بالله وأسمائه وملائكته وكتبه ورسله وتدبيره من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين، أقوى اللذات والسعادات، وأعلى الابتهاجات على من جاوز نقصان الفطرة والصبا، وقصور الخليقة. وأن لذة مطالعة جمال الحضرة الإلهية، والنظر إلى أسرار الأمور الربانية، ألذ من كل حكومة ورياسة، ومن كل شهوة وانتقام.
ولا يمكن فهم هذه اللذة لغير الحكماء الراسخين؛ وغاية العبارة عنها أن يقال كما قال الله [تعالى]:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة:17]. " وانه أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
وهذا مما لا يعرفه الآن إلا من ذاق اللذتين جميعا - أي لذة الرياسة - وهي فوق اللذات الحيوانية، ولذة المعرفة الإلهية. فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد، والفكر والذكر، وينغمس في بحار المعرفة؛ ويترك الرياسة، ويستحقر الخلق الذين يرأسهم، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته؛ وكونه مشوبا بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها، وكونه مقطوعا بالموت الذي لا بد من إثباته مهما أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها.
فتشغله لذة معرفة الله تعالى، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فإنها خالية عن المتزاحمات والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكثرتها، وإنما عرضها من حيث التقدير السماوات والأرضون.
وإذا خرج النظر عن المحدودات والمقدورات، فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف الرباني بمطالعة معلوماته في جنة عرضها السموات والأرض؛ يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها، وهو آمن من انقطاعها، إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله، لأن محلها الروح الذي هو أمر رباني وسر أسمائي ونور إلهي، إنما الموت يغير أحوالها، ويقطع شواغلها وعوائقها، ويخليها ودارها ومنزلها ومعادها، وأما أن يعدمها فلا.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بمآ آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم
[آل عمران:169 - 170] الآية.
ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة، فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد، وفي الخبر:
" إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهادة، وإن الشهداء يتمنون أن يكونوا علماء لما يرون من علو درجة العلماء ".
فإذا جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف، يتبوء منها حيث يشاء، من غير حاجة إلى أن يتحرك اليها بجسمه وشخصه، فهو من ملاحظة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلا، إلا أنهم يتفاوتون في سعة متنزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم:
هم درجات عند الله
[آل عمران:163].............................. ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم ومقاماتهم.
وقد ظهر أن لذة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواس كلها، وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا صبي ولا معتوه، وأن لذة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذة الرياسة، ولكن يؤثرون الرياسة.
فأما كون معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته، وأسرار ملكه، أعظم لذة من الرياسة، فهذا يختص بمعرفته من نال رتب المعرفة وذاقها، ولا يمكن اثبات ذلك عند من لا قلب له، لأن القلب معدن هذه القوة؛ كما أنه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذة اللعب بالصولجان عند الصبيان، ولا رجحانه على لذة شم البنفسج عند المزكوم، لأنه فاقد الصفة التي تدرك بها هذه اللذات، ولكن من سلم من آفة العنة، وسلمت حاسة شمه، أدرك التفاوت بين اللذتين، وعند هذا لا ينبغي إلا أن يقال: " من ذاق عرف ".
ولعمري إن طلاب العلوم - وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة العلوم الإلهية - فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات، وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبها، فإنها أيضا معارف وعلوم، وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهية، فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه، وقد انكشف له من أسرار ملك الله - ولو الشيء اليسير -، فإنه يصادف في قلبه - عند حصول الكشف - من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروه - وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق -.
فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله ألذ الأشياء وأعظم السعادات، لا سعادة فوقها، وأن لا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه - سيما إذا كان مشفوعا بالاستكبار والافتخار -.
تنبيهات عقلية
واعلم أن كون العلم صفة شرف وكمال، وكون [الجهل] صفة نقصان، أمر معلوم للعقلاء بالضرورة، ومما يدل على فضيلة العلم، أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية قد علمها، وقدر على الجواب الصواب فرح بذلك وابتهج به، وإن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك، وهذا أمر فطري.
وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم، أكمل اللذات، والشقاوة الحاصلة بالجهل، أشنع أنواع الشقاء.
وأيضا، لو قيل للرجل العالم: " يا جاهل " ، فإنه يتأذى بذلك، وإن كان يعلم كذب ذلك. ولو قيل للرجل الجاهل: " يا عالم " ، فرح بذلك، مع علمه بكذب ذلك.
وأيضا، فالعلم أينما وجد، كان صاحبه معظما محترما ، حتى أن الحيوان إذا رأى الإنسان، احتشمه بعض الإحتشام، وانزجر به بعض الانزجار، وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان.
والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم بالعلم، وإن كثيرا مما كانوا يعاندون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويريدون قتله، كانوا إذا وقع بصرهم عليه، ألقى الله في قلوبهم الرعب، فهابوه وانقادوا له - شعر -:
لو لم يكن فيه آيات مبينة
كانت بداهته تغنيك عن خبر
وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية، التي لأجلها صار مستعدا لإدراك حقائق الأشياء، والاشتغال بعبادة الله تعالى.
والجاهل، كأنه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت، ويسبح في بحار المعقولات، فيطالع الموجود والمعدوم، والواجب والممكن والمحال. ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض، والجوهر إلى البسيط والمركب؛ ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها، وأنواع أنواعها، وأجزائها، وأجزاء أجزائها، والجزء الذي به يشارك غيره، والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره، ومعلوله وعلته؛ ولازمه وملزومه، وكليه وجزئيه، فيصير كالنسخة الشريفة التي فيها صور المعلومات بتفاصيلها، وكالصحيفة المنشورة، وكالكتاب المبين الذي فيه آيات مبينات من أسرار الملكوت، وإن الجوهر العاقل منه في عالم الأرواح، كالشمس في عالم الأجسام، لكونه كاملا ومكملا، وواسطة بين الله وبين عباده.
توضيح برهاني
[شرف العلم وتأثر النفوس من العقل الفعال]
لو أردت أن تسمع كلاما في بيان أن نسبة الجوهر العاقل من الإنسان إذا خرج من القوة إلى الفعل، كانت نسبته إلى المعاني العقلية والمفهومات الكلية في عالم الأرواح، كنسبة هذه الشمس المحسوسة إلى الأنوار العرضية والأضواء الشمسية في عالم الأجسام - فاسمع:
إن الإنسان في أول نشأته يكون عقلا بالقوة، ومعقولا بالقوة، وإن كان حيوانا محسوسا بالفعل، لكونه آخر المعاني الجسمانية وأول المعاني الروحانية، كبرزخ متوسط بين العالمين، وسور واقع بين الدارين
له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
[الحديد:13].
فأول ما يحدث في قوة نفسه الحساسة، رسوم المحسوسات من القوى الحاسة التي هي روازن، ثم تجتمع المحسوسات المختلفة الأجناس، المدركة بأنواع الحواس الخمسة، ويحدث عن المحسوسات الحاصلة في القوة الحاسة الرئيسية، رسول المتخيلات في قوة نفسه المتخيلة.
فتبقى هنالك محفوظة بعد غيبتها عن مباشرة الحواس لتجردها عن المادة ضربا من التجرد، فيحكم فيها بالجمع والتفريق، والتركيب والتفصيل، فيفرد بعضها عن بعض، ويركب بعضها إلى بعض، فيحلل الأشخاص إلى الأنواع، والأنواع إلى الأجناس، والأجناس إلى أجناس الأجناس، وكذا يستخرج بالتحليل فصولها القريبة والبعيدة.
ثم تركب الأجناس بالفصول، وتحصل الأنواع، وأنواع الأنواع، كل ذلك بحسب صورتها الجزئية المثالية.
ثم ينتبه بواسطة قوة النفس الناطقة للعقليات والكليات، فترتسم في هذه القوة صور المعقولات التي هي في جواهرها عقول بالفعل، ومعقولات بالفعل، وهي الأشياء البريئة من المادة، ومنها صور المعقولات التي هي ليست بجواهرها معقولة بالفعل - مثل الحجارة والشجر والفرس -، وبالجملة ما هو جسم، أو صورة في جسم ذي مادة، والمادة نفسها، وكل شيء قوامه بها؛ فإن هذه ليست عقولا بالفعل، ولا معقولات بالفعل، ولا القوة النفسانية التي في الإنسان في أول حاله عقل ولا معقول ولا عاقل بالفعل؛ وإنما تصير عقلا بالفعل إذا حصلت فيها المعقولات.
فهي محتاجة كالمعقولات بالقوة إلى شيء آخر ينقلها من حد القوة إلى أن يصيرها إلى الفعل، والفاعل [الذي] يجعلها بالفعل، هو جوهر عقلي بالفعل دائما، غير محتاج إلى شيء آخر يصيرها بالفعل، وإلا لعاد الكلام ويتسلسل.
وذلك العقل يعطي العقل الهيولاني - الذي هو بالقوة عقل -، شيئا ما، بمنزلة الضوء الذي يعطيه الشمس البصر، لأن منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصر، وإن البصر هو قوة وهيئة ما في مادة، وهو من قبل أن يبصر مبصرة ومريئة بالقوة، وليس في جوهرها كفاية في أن تصير مبصرة بالفعل، وإذا أعطت الشمس اياها ضوءا تقبله، وأعطت الألوان ضوءا تقبله بها، فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصرا بالفعل، وتصير الألوان بذلك الضوء مبصرة مرئية بالفعل - بعد أن كانت مبصرة مرئية بالقوة -.
كذلك هذا العقل الذي يفيد العقل الهيولاني شيئا ما يرسمه فيه، منزلة ذلك الشيء منه منزلة الضوء من البصر، وكما أن البصر يبصر الضوء نفسه متصلا به، ويدرك الشمس التي هي سبب الضوء فيه متصلا بها كأنه هي، ويبصر بالفعل الأشياء التي كانت مبصرة بالقوة متصلا بها؛ فكذلك العقل الهيولاني، إذا استفادت العقل بالفعل وصارت مصورة بها، منورة بنور ربها، يعقل نفس ذلك النور العقلي، وبه يعقل العقل بالفعل، الذي به تصير الأشياء المعقولة بالقوة بالفعل متصلة به صائرة إياه.
فنسبته إلى المعقولات، نسبة الشمس إلى المبصرات؛ وفعله في عقلنا المنفعل، فعل الشمس في القوة الباصرة، فلذلك سمي عند الأوائل من الحكماء بالعقل الفعال، وحصوله للإنسان، هو السعادة التي بها يصير الإنسان من الكمال الوجودي إلى حيث تكون منزلته منزلة الملائكة المقربين، الذين هم الصف الأعلى من الملكوت.
وذلك أن يصير في جملة الأشياء البريئة عن المواد والأجسام، وعن إضافاتها وتعلقاتها الإنفعالية، في سعادة لا انقطاع، لها ولا تجدد يعتريها، ومثل هذه النفس الصائرة عقلا بالفعل، كانت ملكا بالقوة، فصارت ملكا بالفعل، وإليه أشير في قوله تعالى:
ينزل الملائكة بالروح من أمره
[النحل:2]. وقوله:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة:22].
وكما أن البدن بلا روح، ميت فاسد، فكذلك الروح بلا علم، هالك معذب، ونظيره قوله تعالى:
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى:52]. فالعلم روح الروح، ونور النور، ولب اللب.
ثم إن الذي يدركه العالم ويشاهده من التصورات الكلية، من خواصها أن تكون بالله آمنة من التغير والفناء، لا يتطرق إليها الزوال والفساد، لكونها غير متغيرة في أنفسها، ولا واقعة في عالم التجدد - إلا بالعرض -، فإذا كانت صفات العالم غير متغيرة، فذاته أولى باستحالة الدثور والفساد، وإنما يجوز له الفناء إلى البقاء الذي يستهلك فيه كل شيء، ويعود إليه حياة كل حي، ويبطل في نوره كل ظل وفيء.
وأيضا فالأنبياء - صلوات الله عليهم - ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق ومعرفته، قال الله تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
[النحل:125] الآية. وقال:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108].
ثم انظر وخذ من أول الأنبياء عليهم السلام، فإنه تعالى لما قال:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة:30] فلما قالت الملائكة:
أتجعل فيها
[البقرة:30]، قال تعالى:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة:30]، فأجابهم بكونه عالما؛ فلم يجعل سائر الصفات جوابا لهم وموجبا لسكوتهم؛ وذلك يدل على أن سائر الصفات - كالقدرة وأمثالها -، وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف، إلا أن صفة العلم أشرف من غيره.
ثم إنه تعالى لما أظهر علمه، جعل مسجودا للملائكة، وخليفة للعالم السفلي، وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم.
ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس، فأظهر الله تعالى علم آدم بالأسماء، في مقابلة تسبيحهم وتقديسهم، مع أن التسبيح والتقديس أيضا من بركات العلم، وإلا لكان إما نفاقا - والنفاق من أخس المراتب لقوله تعالى:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار
[النساء:145]. - أو تقليدا - وهو مذموم لا يوجب الافتخار -.
فثبت أن فضيلة آدم عليهم، إنما كانت بعلمه بسائر الأشياء الكلية والجزئية التي لم يكن من شأنهم الإحاطة بها جميعا، لانحصارهم في مقام واحد معلوم.
ثم انظر إلى إبراهيم - على نبينا وآله عليه والسلام -، كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم، منتقلا بفكره من ملاحظة أحوال السماويات، والانتقال من بعضها إلى بعض، حتى انتقل من الأنوار الكوكبية الحسية إلى النفسية القمرية، ومنها إلى الأضواء العقلية الشمسية، إلى أن وصل بالدليل الباهر والبرهان النير الزاهر إلى المقصود الأصلي، والدين الحنيفي، وأعرض عن الشرك لقوله:
وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام:79].
ثم إنه (ع) بعد الفراغ من معرفة المبدء، اشتغل بمعرفة المعاد، كما قال تعالى:
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى
[البقرة:260].
ثم لما فرغ من العلم، اشتغل بالمحاجة والتعليم: تارة مع أبيه:
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر
[مريم:42]. وتارة مع قومه:
ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
[الأنبياء :52]. وأخرى مع ملك زمانه:
ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه
[البقرة:258] الآية. وقوله:
أف لكم ولما تعبدون
[الأنبياء:67]. وتارة كان مع الله فانيا عما سواه:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء:77].
ثم انظر إلى أحوال موسى علسه السلام مع فرعون، ووجوه دلائله وحججه عليه، وقد مر أن طريقته طريقة الخليل في المقامات العلمية.
ثم انظر إلى عيسى عليه السلام في قوله:
رب أرني كيف تحيي الموتى
[البقرة:260]، وكان مقصوده العلم بأحوال المعاد، بعد أن حصل له العلم بأحوال المبدء.
ثم انظر إلى نبينا (صلى الله عليه وآله)، كيف من الله عليه بالعلم مرة بعد أخرى في قوله:
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى:7]. وقوله:
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان
[الشورى:52]. وقوله:
ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك
[هود:49]. وقوله:
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء:113]. وهو - صلوات الله عليه - كان أبدا يقول: " رب أرني الأشياء كما هي ".
فلو لم يظهر للإنسان بهذه الأمور التي ذكرناها شرف العلم وفضله، لاستحال أن يظهر له شيء بشيء أصلا - وستأتيك زيادة في الاستبصار -.
فصل
في الشواهد القرآنية على أن رتبة العلم ومنزلة العلماء كانت عظيمة عند الأنبياء - سلام الله عليهم أجمعين -
أما محمد (صلى الله عليه وآله)، فقد قال الله تأديبا وتعظيما له:
وقل رب زدني علما
[طه:114]. وفيه أدل دليل على عظيم رتبة العلم ونفاسته، وعلو منزلته وكرامته، وفرط محبة الله إياه، حيث أمر حبيبه (صلى الله عليه وآله) بالازدياد منه خاصة دون غيره. وقال تعالى امتنانا عليه وتكريما له:
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء:113].
وأما كليم الله: فقد قال بعض المفسرين: " لو اكتفى أحد من العلم وساغ له القنوع منه، لاكتفى موسى عليه السلام ولم يقل للخضر عليه السلام:
هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا
[الكهف:66].
وأما داود: فلما ذكر من حاله مع أحوال الأنبياء عليهم السلام، قدم العلم أول الأقوال، حيث قال:
داوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث
[الأنبياء:78] إلى قوله:
وكلا آتينا حكما وعلما
[الأنبياء:79]. ثم إنه ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال [الدنيا]، فدل على أن شرف العلم أشرف.
وأما سليمان عليه السلام: فكان له من ملك الدنيا ما كان، حتى أنه قال:
رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي
[ص:35]. ثم إنه لم يفتخر بالمملكة، وافتخر بالعلم حين قال:
يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء
[النمل:16]. فافتخر بكونه عالما بمنطق الطير، فإذا حسن من سليمان الافتخار بذلك، فبأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين وصفاته وأسمائه، وكيفية أفعاله وملكوت سماواته، وكتبه ورسله، والايمان بيوم القيامة وحشر الخلائق إليه، ومعاد الكل ورجوع الجميع إليه، كان أحسن.
ولأنه قدم ذلك على قوله:
وأوتينا من كل شيء
[النمل: 16].
وقال بعضهم: الهدهد - مع انه في نهاية الضعف، ومع انه كان في موقف المعاتبة - قال
أحطت بما لم تحط به
[النمل:22]. فلولا أن العلم أشرف الأشياء، وإلا فمن أين لمثله أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام؟! وما ذاك إلا ببركة العلم.
وأيضا، فإن سائر كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم السلام ناطقة بفضل العلم.
أما التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام: (عظم الحكمة، فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له، فتعلمها، ثم اعمل بها، ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة).
وأما الزبور، فقال تعالى: (قل لأحبار بني اسرائيل ورهبانهم: حادثوا من الناس الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقيا فحادثوا العلماء، وإن لم تجدوا عالما فحادثوا العقلاء، فإن التقي والعلم والعقل ثلاث مراتب، ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه).
قال بعض العلماء: إنما قدم الله التقى على العلم، لأن التقى لا يوجد بدون العلم، كما بين في المفاتيح الغيبية من أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأحدهما، ولهذا السر أيضا قدم العالم على العاقل، لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلا - دون العكس -، والعقل كالبذر، والعلم كالشجرة، والتقى كالثمرة.
وأما الإنجيل: فقد قال تعالى في السورة السابعة عشرة: " ويل لمن سمع بالعلم فلم يطلبه! كيف يحشر مع الجهال إلى النار! اطلبوا العلم وتعلموه، فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم، وإن لم يغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم، ولا تقولوا: نخاف أن نعلم ولا نعمل.
ولكن قولوا: نرجوا أن نعلم فنعمل. فالعلم يشفع لصاحبه، وحق على الله أن لا يخزيه، إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا معشر العلماء، ما ظنكم بربكم؟ فيقولون: ظننا بربنا أن يغفر ويرحمنا.
فيقول: إني قد فعلت، إني أستودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم، فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي.
وقال مقاتل بن سليمان: وجدت في الإنجيل أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام: عظم العلماء واعرف فضلهم، فإني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين، كفضل الشمس على الكواكب، وفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كل شيء.
قيل: " إن الله علم سبعة نفر سبعة أشياء:
أ - علم آدم عليه السلام أسماء الأشياء لقوله: { وعلم آدم الأسمآء كلها }.
ب - علم الخضر عليه السلام علم الفراسة:
وعلمناه من لدنا علما
[الكهف:65].
ج - علم يوسف عليه السلام علم التعبير:
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث
[يوسف:101].
د - علم داود عليه السلام صنعة الدرع:
وعلمناه صنعة لبوس لكم
[الأنبياء:80].
ه - علم سليمان عليه السلام منطق الطير:
وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير
[النمل:16].
و - علم عيسى عليه السلام علم التوراة:
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
[آل عمران:48].
ز - علم سيدنا محمدا (صلى الله عليه وآله) علم الشرع والتوحيد:
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء:113].
ويعلمهم الكتاب والحكمة
[الجمعة:2].
الرحمن علم القرآن
[الرحمن:1 - 2].
فعلم آدم، كان سببا في حصول السجدة والتحية، وعلم الخضر، كان سببا لأن وجد تلميذا مثل موسى ويوشع عليهما السلام، وعلم يوسف عليه السلام، كان سببا لوجدان الأهل والمملكة، وعلم داود عليه السلام، كان سببا لوجدان الرياسة والدرجة، وعلم سليمان عليه السلام، [كان سببا] لوجدان بلقيس وتسخير الجن، وعلم عيسى عليه السلام، لزوال التهمة عن أمه، وعلم محمد - صلوات الله عليه وآله - كان سببا لحصول الشفاعة ".
قال بعض العلماء: من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة، فمن عرف ذات الخالق وصفاته وحقائق أفعاله أما يجد تحية الملائكة؟ بل تحية الرب؟
سلام قولا من رب رحيم
[يس:58].
والخضر عليه السلام وجد بعلم الفراسة صحبة موسى عليه السلام، فأمة الحبيب - صلوات الله وسلامه عليه -، كيف لا يجدون بعلم الحقيقة صحبة محمد (صلى الله عليه وآله):
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
[النساء:69].
ويوسف عليه السلام بتأويل الرؤيا نجى من حبس الدنيا، فمن كان عالما بتأويل كتاب الله، كيف لا ينجو من حبس الشبهات:
يهدي من يشآء
[البقرة:142].
وأيضا: فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال:
وعلمتني من تأويل الأحاديث
[يوسف:101]. فأنت يا عالم، أما تذكر منته على نفسك حيث علمك تفسير كتابه، فأي نعمة أجل مما أعطاك الله حيث جعلك مفسرا لكلامه المجيد، وسميا لنفسه، ووارثا لنبيه، وداعيا لخلقه وعباده، وسراجا لأهل بلاده، وقائدا للخلق إلى جنته وثوابه، ورادعا لهم عن ناره وعقابه، كما جاء في الحديث:
" العلماء ورثة الأنبياء "
" العلماء سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة "
- الحديث -.
وأيضا؛ فإن الله تعالى سمى العلم في كتابه الكريم بالأسماء الشريفة: فمنها الحياة:
أو من كان ميتا فأحييناه
[الأنعام:122]، وثانيها الروح:
أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى:52]. وثالثها النور:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة:15].
فصل
في الشواهد النبوية من الأحاديث والأخبار على شرف العلم
فمن طريقة أصحابنا - رضوان الله عليهم - وجوه:
عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى يقول:
" تذاكر العلم بين عبادي مما تحيى عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا [فيه] إلى أمري ".
وعن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: رحم الله عبدا أحيى العلم. - قال -: قلت: وما إحياؤه ؟ قال أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع.
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" لا خير في العيش إلا لرجلين، عالم مطاع ومستمع واع ".
وعن أبي جعفر عليه السلام إنه قال........................: " عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد "
وعن أبي عبدالله عليه السلام: " طلب العلم فريضة. ألا وإن الله يحب بغاة العلم ".
وعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: " إن الناس آلوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم لى هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره. وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيره. ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة. ثم هلك من ادعى وخاب من افترى ".
وعن أبي عبدالله عليه السلام، قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: " إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال، ولا تأخذ بثوبه، وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلم عليهم جميعا، وخصه بالتحية دونهم، واجلس بين يديه، ولا تجلس خلفه، ولا تغمز بعينك، ولا تشر بيدك، ولا تكثر من القول " قال فلان، وقال فلان " خلافا لقوله، ولا تضجر بطول صحبته؛ فإنما مثل العالم مثل النخلة، تنتظرها [حتى] يسقط عليك منها شيء. والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله ".
وعن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" قال الحواريون لعيسى عليه السلام: " يا روح الله - من نجالس؟ " قال: " من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله " ".
منصور بن حازم، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة ".
إلى غير ذلك من أحاديثهم عليهم السلام في فضيلة العلم، وقد ذكرنا شطرا منها في المفاتيح، واختصرنا ههنا على هذا القدر، فمن أراد المزيد فليراجع إلى كتب الكافي وغيره في هذا الباب.
وأما من طريقة غيرهم فوجوه:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" يقول الله تعالى للعلماء: إني لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم، ادخلوا الجنة على ما كان فيكم ".
قال ابن عباس:
" خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطبة بليغة قبل وفاته - وهي آخر خطبة بالمدينة خطبها -، فقال: " من تعلم العلم، وتواضع في العلم، وعلمه عباد الله - يريد ما عند الله - لم يكن في الجنة أفضل ثوابا ولا أعظم منزلة منه، ولم يكن في الجنة منزلة ولا درجة رفيعة نفيسة، إلا كان فيها له أوفر النصيب وأشرف المنازل " ".
وعنه (صلى الله عليه وآله):
" إذا كان يوم القيامة، حفت منابر من ذهب عليها قباب من فضة مفضضة بالدر والياقوت والزمرد، خلالها السندس والاستبرق، ثم ينادي منادي الرحمن: أين من حمل إلى أمة محمد (صلى الله عليه وآله) علما يريد به وجه الله؟ اجلسوا على هذه المنابر لا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنة ".
وعن عيسى بن مريم عليهما السلام: " إن في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) علماء حكماء، كأنهم في الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الزرق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل، ويدخلون الجنة بلا إله إلا الله ".
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" من اغبرت له قدمان في طلب العلم، حرم الله جسده على النار، واستغفر له ملكاه، وإن مات في طلبه مات شهيدا، وكان قبره روضة من رياض الجنة، ويوسع له في قبره مد بصره، وينور على جيرانه؛ أربعين قبرا عن يمينه وأربعين عن يساره وأربعين من خلفه، وأربعين من أمامه. ونوم العالم عبادة، ومذاكرته تسبيح، ونفسه صدقة، وكل قطرة نزلت من عينيه تطفئ بحرا من جهنم ".
فمن أهان العالم فقد أهان العلم، ومن أهان العلم فقد أهان النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن أهان النبي (صلى الله عليه وآله) فقد أهان جبرئيل عليه السلام، ومن أهان جبرئيل عليه السلام فقد أهان الله تعالى، ومن أهان الله تعالى أهانه يوم القيامة.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" ألا أخبركم بأجود الأجواد؟ قالوا: نعم - يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الله تعالى أجود الأجواد، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل عالم ينشر علمه، فيبعث يوم القيامة أمة واحدة، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل ".
فصل
في ألفاظ دالة على العلوم الحقيقية واشتبهت على الناس بغيرها
اعلم أنه قد التبست العلوم الحقيقية المحمودة الشرعية بغيرها من جهة تحريف الأسامي المحمودة عن وضعها الأول، وتبديلها ونقلها بسبب الأغراض الفاسدة إلى معاني غير ما أراد بها الصدر الأول والسلف الصالح، وهي خمسة ألفاظ - كما ذكره صاحب إحياء العلوم وفصل القول في كيفية تحريفاتها - الفقه والعلم، والتوحيد والتذكر، والحكمة - ونحن أيضا نقتفي كلامه في هذا الفصل مع اختصار وتلخيص:
فاللفظ الأول: الفقه: فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل، إذ قد خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوي، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها؛ فمن كان أشد تعمقا فيها وأكثر اشتغالا بها فهو الأفقه.
وهذا ضرب من التحريف. فلقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الأبرار، واستيلاء الخوف على القلب، كما يدلك عليه:
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا
[التوبة:122].
وما به الإنذار والتخويف هو هذا العلم، دون تفريعات الطلاق واللعان والعتاق والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار وتخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب، وينزع الخشية منه كما يشاهد من المتجردين له. وقال تعالى:
لهم قلوب لا يفقهون بها
[الأعراف:179]. وأراد به معاني الآيات - دون الفتاوى -.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" لا يفقه الرجل كل الفقه، حتى يمقت الناس في ذات الله، وحتى يرى للقرآن وجوها كثيرة ".
وسئل الحسن البصري عن مسئلة فأجاب، فقال له السائل: " إن الفقهاء يخالفونك " ، فقال الحسن: " ثكلتك أمك - وهل رأيت فقيها بعينك؟! إنما الفقيه؛ الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة، البصير بذنبه، المداوم [على] عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض الناس، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم " ، ولم يقل في جميع ذلك " الحافظ لفروع الفتاوى ".
اللفظ الثاني: العلم: وقد كان مطلقا على العلم بالله وبآياته وأفعاله في عباده وخلقه، وقد تصرفوا فيه بالتخصيص حتى حولوه وشهروه في الأكثر لمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الخلافية وغيرها، فيعد من فحول العلماء، فيقال: " هو العالم بالحقيقة، وهو الفحل فيه " ، مع عريه عن العلوم الحقيقية كلها، وجهله بحقائق علم القرآن وأسرار الآيات وتأويل الأحاديث، وصار ذلك شيئا مهلكا لخلق كثير من الطلبة.
اللفظ الثالث: التوحيد: وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طرق المجادلة وفنون البحث، وكيفية مناقضات الخصوم، والقدرة على تكثير الأسئلة وإثارة الشبهات والإلزامات، حتى لقبت طوائف منهم بأهل العدل والتوحيد، وعلماء ذلك، مع أن جميع ما هو خاصية هذه الصناعة، لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتد النكير منهم على من يفتح أبواب الجدل والمماراة، وكان التوحيد عندهم عبارة عن معنى آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين، وهو أن يرى الأمور كلها من الله رؤية يقطع التفاته عن الوسائط والأسباب.
وهذا مقام شريف، إحدى ثمراته التوكل والرضا والتسليم بحكم الله، وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبده غيره، ويخرج من هذا التوحيد أتباع الهوى، فكل متبع هواه فقد اتخذ معبوده هواه، قال الله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23]. وقال (صلى الله عليه وآله):
" أبغض إله عبد في الأرض عند الله هو الهوى ".
وعلى التحقيق، من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم، إنما يعبد هواه، إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيعبد ذلك الميل.
وبالجملة، فقد كان التوحيد عندهم عبارة عن ذلك المقام، وهو من مقامات الصديقين، فانظر إلى ماذا حول؟ وبأي قشر قنع الإنسان؟ وكيف اتخذ هواه معتصما في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود، مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق به الحمد الحقيقي؟
اللفظ الرابع: الذكر والتذكير: وقد قال الله تعالى:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات:55]. وقد ورد في مجالس الذكر أخبار كثيرة كقوله (صلى الله عليه وآله):
" إن لله ملائكة سياحين في الهواء سوى ملائكة الخلق، إذا رأوا مجالس الذكر ينادي بعضهم بعضا: هلموا إلى بغيتكم. فيأتوهم ويحفون بهم، ويستمعون. ألا - فاذكروا الله وذكروا بأنفسكم ".
فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ يواظبون عليه في هذا الزمان، وهو القصص والأشعار، والشطح، والطامات.
واللفظ الخامس: الحكمة: فإن اسم " الحكيم " صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم، حتى على الذي يدحرج القرعة على أكف السوادية في شوارع الطرق؛ والحكمة هي التي أثنى الله عليها فقال:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269]. وقال (صلى الله عليه وآله):
" كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا [وما فيها] " ".
فانظر ما الذي كانت " الحكمة " عبارة عنه، وإلى ماذا نقل؟! وقس به بقية الألفاظ، واحترز به عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء، فإن شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين، إذ الشياطين بوساطتهم تتذرع إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق، ولهذا
" لما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن شر الخلق أبى وقال: " اللهم غفرا ". حتى كرر وقال: " شرهم علماء السوء " ".
فقد عرفت العلم المحمود والمذموم، ومثار الإلتباس، وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف، أو تتدلى بحبل الغرور، وتتشبه بالخلف، فكل ما ارتضاه السلف من العلم فقد اندرس، وما أكب عليه الجمهور فأكثره مبتدع، وقد صح قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء ". فقيل: " من الغرباء؟ " فقال: " الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي، والذين يحيون ما أماتوه من سنتي "
وفي خبر آخر:
" هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم "
وفي حديث آخر:
" الغرباء ناس قليل صالحون، بين ناس كثير ".
وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذكر اسمها، ولذلك قال: " إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط، لأنه إن نطق بالحق أبغضوه ".
فصل
في العلم المحمود والعلم المذموم
قال صاحب الإحياء: " إن العلم بهذا الإعتبار ثلاثة أقسام: قسم مذموم قليله وكثيره، وقسم محمود كله، وكلما كان أكثر فهو أفضل، وقسم يحمد بقدر الحاجة ولا يحمد الفاضل عليه والاستقصاء فيه؛ وهو مثل أحوال البدن: فمنه ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال، ومنه ما يقابله كالقبح وسوء الخلق، ومنه ما يحمد الاقتصاد فيه كبذل المال، فإن التبذير فيه لا يحمد؛ وكالشجاعة، فإن التهور لا يحمد فيها وإن كان من جنس الشجاعة.
فكذلك العلم، فالقسم المذموم كله ما لا فائدة فيه في دين أو دنيا، كعلم السحر والطلسمات والنجوم، فبعضه لا فائدة فيه، وصرف العمر فيه اضاعة أنفس ما يملكه الإنسان، واضاعة النفائس مذموم.
وأما القسم الممدوح إلى أقصى غاية الاستقصاء، هو العلم بالله وبصفاته وأفعاله، وجريان سنته في خلقه، وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا. فإن هذا العلم علم مطلوب لذاته، والتوسل به إلى سعادة الآخرة، وبذل المقدور فيه إلى غاية الجهد، قصور عن حد الواجب، فإنه البحر الذي لا يدرك غوره، وإنما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يسر لهم، وما خاض أطرافه إلا الأنبياء والأولياء الراسخون في العلم - على اختلاف درجاتهم - بحسب اختلاف قوتهم، وتفاوت تقدير الله في حقهم.
وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب، ويعين على التنبه له التعلم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة في أول الأمر، وتعين عليه في الآخرة المجاهد[ة] والرياضة، وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا، والتشبه بأنبياء الله عليهم السلام وأوليائه، - رضي الله عنهم - ليتضح لكل ساع بقدر رزقه - لا بقدر جهده -، لكن لا غناء فيه عن الاجتهاد، فالمجاهدة مفتاح الهداية.
وأما العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص، فهي التي أوردت في فروض الكفايات، فكن أحد رجلين: إما مشغولا بنفسك، وإما متفرغا إلى غيرك بعد الفراغ من نفسك، وإياك أن تشتغل بما تصلح به غيرك قبل إصلاح نفسك، فإن كنت المشغول بنفسك، فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عينك.
وإنما الأهم الذي أهمله الكل؛ علم صفات القلب ، وما يحمد منها وما يذم، والاشتغال بمداواته، وإهمال ذلك مع الاشتغال بالأعمال الظاهرة، يضاهي الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذي بالجرب والدماميل، والتهاون باخراج المادة بالفصد والإسهال، وحشوية العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة، كما يشير الطرقية من الأطباء بطلاء ظاهر البدن، وعلماء الآخرة لا يشيرون إلا بتطهير الباطن، وقطع مواد الشر بإفساد منابتها وقطع مغارسها، وهي في القلب.
وإنما فرغ الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب، لسهولة أعمال الجوارح، واستصعاب أعمال القلوب؛ فإن كنت مريدا للآخرة وطالبا للنجاة، فاشتغل بعلم العلل الباطنة وعلاجها، ثم ينجز بك ذلك إلى المقامات المحمودة، فلا تشتغل بالفروض الكفايات - لا سيما وفي الخلق من قام به -، فإن مهلك نفسه في طلب صلاح غيره سفيه، فما أشد حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب داخل ثيابه، وهمت بقتله، وهو يطلب مذبة يدفع بها الذباب عن غيره ممن لا يغنيه ولا ينجيه بما يلاقيه من تلك الأفاعي والحيات والعقارب اذ هممن بقلته؟! " -
[2.32]
لما علموا قصورهم عن معرفة الأسماء وحقائق ما هي خارجة عن مقامهم ونشأتهم، اعترفوا بالعجز، وأقروا بالقصور.
[علوم الملائكة، وفضل الإنسان عليهم]
واعلم أن العلوم بعضها فطرية، وبعضها كسبية، وبعضها موهبية. والعلوم الفطرية؛ كعلم الشيء بذاته، وصفاته اللازمة لذاته، وبأفعاله الناشئة عن ذاته، وبفاعله من الجهة التي هي وجهه الخاص إليه، وبه. والعلمان الآخران لا يخلو كل منهما من سعي العبد في تحصيله واجتهاده في ابتغاء ذلك، سواء كان بالفكر، كما في طريقة النظار، أو بالتصفية للباطن والتطهير له عن الشوائب العادية، كما في طريقة أولي الأبصار.
وعلوم الملائكة من قبيل القسم الأول، لعدم إمكان التغير والاستحالة من طور إلى طور فيهم، ولا لها كمال منتظر، ولا تجدد أحوال ولا تهيؤ واستعداد من جانب القابل المتبدل، ولا حيثية كمالية إلا ما حصلت لهم من جهة المبدع الفاعل؛ وإليه الإشارة بقوله [تعالى]: { لا علم لنآ إلا ما علمتنآ }.
والمقصود أن علوم الملائكة منحصرة فيما يكون حصولها لهم بحسب الفطرة الأولى، من أوائل علومهم الحاصلة من الأسباب الفاعلية من غير مداخلة قابل، أو تعمل، أو اكتساب، أو استعمال للقوة القابلية - إما بالحدس أو بالروية -، وإلا فجميع العلوم ليست إلا بتعليم الله من غير اختصاص لعلومهم بذلك.
والغرض أن الإنسان مختص متميز عن الملائكة وغيرهم بجامعية العلوم والنشآت، ومظهرية جميع الأسماء والصفات، والانتقال من أسفل سافلين إلى أعلى العليين، لأجل لحوق المزائلة عما كان أولا، وحصول الموت الطبيعي أو الإرادي له عن كل نشأة، للانتقال به إلى نشأة أخرى فوقها.
ومثل هذه الاستحالات والانقلابات، لا توجد في غيره - سيما الملائكة العلوية -، فمنهم سجود لا يركعون، ومنهم ركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول. ولا فترة الأبدان، هكذا في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.
والثبات على حالة واحدة - وإن كان معدودا من صفات الكمال، وتشبها بالمبدء الفعال -، إلا إنه يمنع من المزيد، ويحبس العبد على الحاضر العتيد، والتجدد في الأحوال - وإن كان معدودا من صفات النقص، كالموت والعدم والقوة -، إلا إنه كالموت الذي هو تحفة المؤمن، قد يبلغ بالرجال من أدنى المراتب إلى أرفع الأحوال وأعلى درجات الكمال، وبهذا يفوق الإنسان على غيره.
والملائكة عليهم السلام، لما بان لهم من فضل الإنسان، وجهة فضيلته على سائر الأكوان، وعلموا وجه الحكمة في ايجاده واخراجه من مكامن القوة والإمكان، ومطاوي الأفلاك والأركان، فعظموا جلال الحق، ومجدوه وسبحوه تعجبا وشكرا لنعمته، بما عرفهم من مكنون علمه، وكشف لهم عن مرآة جماله وجلاله، ومجلى أحوال صفاته وأنوار كماله.
و " سبحان ": مصدر كغفران، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا باضمار فعله ك " معاذ الله " ، وقد أجري علما للتسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ.
وقيل: تصدير الكلام به، اعتذار عما وقع لهم من الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، إشعارا بأن سؤالهم لم يكن اعتراضا.
وقد جعلت هذه الكلمة مفتاح التوبة والإنابة، فقال موسى - صلوات الله على نبينا وآله وعليه -:
سبحانك تبت إليك
[الأعراف:143]. وقال يونس عليه السلام:
سبحانك إني كنت من الظالمين
[الأنبياء:87]. وكذا في قوله تعالى تعليما لعباده:
ما يكون لنآ أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم
[النور:16].
وفي هذه الآية دلالة على أن العلم وسائر الكمالات فائضة من الله، وهو المعطي لها؟ سواء كان على طريقة الإبداع - كما في أكثر علوم الملائكة -، أو على طريقة التكوين بحسب القوابل والأوقات - كما في أكثر علوم الناس -.
وقوله: { إنك أنت العليم الحكيم } ، إشعار بأن معطي الكمال الذي لا يوجب تكثرا ولا تغيرا، أولى بذلك الكمال، وكذلك العلم والحكمة، فإن كلا منهما صفة كمالية لمطلق الوجود، ولا يقتضي عروضه للشيء تجسما ولا تكثرا ولا تخصصا بأمر جزئي أو انفعال مادي، فإذا وجد شيء منهما في المخلوق والمبدع، فوجوده في الخالق المبدع أولى وأليق وأشد وأوثق.
فهو العليم الذي لا تخفى عليه خافية، والحكيم الذي يفعل كل شيء لحكمة وغاية، لا بمجرد إرادة جزافية لا غاية لها، ولا مراعاة فيها للأحكام الأتقن - كما زعمه أكثر المتكلمين -، كيف! وجميع الخيرات فائضة من لدنه، وكل الأشياء متوجهة إليه، مائلة إلى ما عنده، نائلة من بحار جوده وكرمه، فما أضل أقواما زعموا أن إرادته خالية عن الداعي، عارية عن العناية بأحوال الخلق؟! نعم، لا داعي لفعله خارجا عنه، ولا مرجح لجوده سواه، لأنه خير الخيرات وأصل الدواعي والطلبات.
ثم اعلم إن " العليم " صيغة مبالغة في العلم، والمبالغة التامة فيه لا تتحقق إلا باستجماع أمور:
أحدها: كونه فعليا سببا لوجود الشيء المعلوم - لا انفعاليا مسببا عنه -.
والثاني: كونه قطعيا حقا - لا ظنيا أو وهميا -.
والثالث: كونه محيطا بجميع المعلومات الكلية والجزئية.
والرابع: كونه أزليا دائما غير واقع تحت الحركة والزمان، مصونا عن التغير والتجدد والحدثان، وما ذاك إلا هو الله، فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو، فلذلك قال: { إنك أنت العليم الحكيم } - على سبيل الحصر -.
ثم إن " الحكيم " يستعمل على وجهين:
أحدهما: العليم الذي يعلم منافع الأمور ومصالحها وخيراتها - فيكون من صفات الذات -.
وثانيهما: الفاعل الذي لا حلل في فعله، ولا اعتراض لأحد عليه - فيكون من صفات الفعل، ولهذا لا يقال: إنه حكيم في الأزل -.
والأولى حمله ههنا على المعنى الثاني، ليكون أبعد عن التكرار.
وعن ابن عباس: إن مراد الملائكة من " الحكيم " أنه هو الذي حكم، فجعل خليفة في الأرض.
ولا يبعد أن يقال: إن الملائكة لما نظروا إلى نشأة الإنسان واشتماله على سائر الأكوان، وكونه ثمرة عالم الأجسام، من الأفلاك والأركان، قالوا: { إنك أنت العليم الحكيم } ، لأنه علم بعلمه الأزلي من الإنسان حين ما هو متصف بآفات دواعي الشهوة والنقصان، ما يصل به إلى نشأته الباقية التي بها فاق على جميع الأكوان، ثم صنع له واودع فيه بحكمته جميع آلاته وقواه، التي بها سلك الدار الآخرة، والتقرب إلى الله، حتى انخرط في سلك ملائكته المقربين وعباده المكرمين.
فصل
[الحكمة والحكيم]
اعلم أن الحكيم عندنا؛ عبارة عمن جمع العلم الإلهي والطبيعي والرياضي والمنطقي والخلقي، وليس ولا ثمة إلا هذه العلوم، والطريق مختلف في تحصيلها بين الفكر والوهب. وهو الفيض الإلهي، وعليه طريقة أهل الكشف والشهود.
وغيرهم - أصحاب الأفكار والأنظار والفكر - لا ينسرح إلا فيما يستفاد من أحكام الأجسام وأحوالها، ومباديها ولواحقها، وأما فيما وراء المحسوسات، وعجائب الملكوت، وأحوال الآخرة، وغايات النفوس ودرجاتها يوم القيامة، فليس للفكر فيها كثير جولان، ولا بد في إدراكها ونيلها من سلوك طريق النبوة والولاية، لأن إدراكها فوق طور العقل. وأصحاب تلك المعارف، أصحاب المشاهدات والمكاشفات القلبية، دون العباد والزهاد، ولا مطلق الصوفية، إلا أهل الحقائق والتحقيق منهم، فهؤلاء هم الحكماء بالحقيقة.
ذكر الشيخ شهاب الدين المقتول صاحب الحكمة الاشراقية: " إني كنت زمانا شديد الاشتغال، كثير الفكر والرياضة، وكان يصعب علي مسئلة العلم، وما ذكر في الكتب لم يتنقح لي، فوقعت ليلة من الليالي خلسة في شبه نوم لي، فإذا أنا بلذة غاشية وبرقة لا معة ونور شعشعاني، مع تمثل شبح انساني، فإذا هو إمام الحكماء أرسطاطاليس، فشكوت إليه من صعوبة هذه المسئلة ".
وحكى ما جرى بينه وبين ذلك الحكيم من إفادته إياه، وتحقيقه له مسئلة العلم على وجه انكشف له مقصوده منها، ثم قال:
" إنه أخذ بعد ذلك يثني على أستاذه أفلاطن ثناء تحيرت فيه. فقلت: وهل وصل إليه من فلاسفة الإسلام واحد؟ فقال: ولا إلى جزء من ألف جزء من رتبته ".
" ثم كنت أعد جماعة أعرفهم، فما التفت إليهم. ورجعت إلى أبي يزيد البسطامي، وأبي محمد سهل بن عبد الله التستري وأمثالهما، فكأنه استبشر وقال: أولئك هم الفلاسفة والحكماء حقا، ما وقفوا عند العلم الرسمي، بل جاوزوا إلى العلم الحضوري الاتصالي. وما اشتغلوا بعلائق الهيولى، فلهم الزلفى وحسن مآب. فتحركوا عما تحركنا، ونطقوا بما نطقنا ".
" ثم فارقني، وخلفني أبكي على فراقه.
فوالهفي على تلك الحالة ". - انتهى كلامه.
واعلم أن أرسطاطاليس المذكور، أحد الموصوفين بالحكمة، المذكورين بالفضل والتعظيم، وهم خمسة: هو وأستاذه أفلاطون الإلهي، وأشياخه الثلاثة الإلهيون - سقراط وفيثاغورس وأنباذقلس -، فلقد كانت أنوار الحكمة في قديم الزمان منتشرة في العالم بسعيهم، وكانوا كلهم قائلين بالتوحيد، وحدوث العالم الزماني، وثبوت المعاد للأنفس والأبدان. ونحن قد كشفنا عن رموزهم، وبينا مقاصدهم وعلومهم، سيما إثبات المثل الإلهية والصور المفارقة التي أثبتوها.
وكان باب هذا العلم مغلقا بعدهم على هؤلاء المشهورين بالحكمة وكلما جاؤوا اعترضوا على أفلاطون في إثباته هذه المثل النورية الإلهية، أو ذكروا فيها تأويلات صرفوا بها الكلام عن مقصوده ومقصود أولئك المعظمين الأساطين، وكذا اتحاد النفس الإنسانية بعالم العقل - كما نقل من بعض تلامذة أرسطاطليس - وغيرهما من مسائل شريفة نورية استفدناها من القرآن والحديث.
وكان أرسطاطليس هو معلم اسكندر المعروف بذي القرنين المذكور في القرآن ممدوحا مكرما، وكان ملازما لأفلاطون قريبا من عشرين سنة لاقتباس الحكمة، وكان يسمى في حداثته روحانيا لفرط ذكائه، ويسميه أفلاطون عقلا؛ وهو الذي صنف الكتب المنطقية وجعلها آله للعلوم النظرية، ورتب الأبواب الطبيعية والإلهية، وصنف لكل باب منها كتابا على حدة محافظا على الولاء في أيامه، وأسرف الملك لذي القرنين فانقمع به الشرك في بلاده.
فهؤلاء الخمسة المذكورون كانوا يوصفون بالحكمة. ثم لم يسم أحد بعد هؤلاء " حكيما " ، بل كل واحد منهم ينسب إلى صناعة من الصناعات، أو سيرة من السير، مثل بقراط الطبيب، وأوميروس الشاعر، وأرشميدس المهندس، وديوجانس الطبيب، وذيمقراطيس الطبيعي.
وقد تعرض جالينوس في زمانه حين كثرت تصانيفه لأن يوصف بالحكمة، - أعني أن ينقل عن لقب الطبيب إلى لقب الحكيم -، فقالوا: عليك بالمراهم والمسهلات وعلاج القروح والحميات، فإن من شهد على نفسه على أنه شاك في العالم " أقديم، أم حادث؟ " ، وفي المعاد " أحق هو أم باطل " ، وفي النفس " أجوهر، أم عرض؟ " ، تتضع درجته من أن يسمى حكيما.
قال بعض العلماء: " والعجب من أهل زماننا أنهم متى رأوا انسانا قرء كتاب اقليدس، وضبط أحوال المنطق، وصفوه بالحكمة - وإن كان خلوا من العلوم الإلهية -، حتى أنهم ينسبون محمد بن زكريا الرازي لمهارته في الطب اليها.
ولقد كان أحمد بن سهل البلخي - مع براعته في أصناف المعارف وأبواب الدين -، متى نسبه أحد من موقريه إلى الحكمة، يشمئز منه ويقول: " يا لهفي من زمان ينسب فيه ناقص مثلي إلى شرف الحكمة، كأنهم لم يسمعوا قول الله عز اسمه:
من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب
[البقرة:269].
[2.33]
وقرئ: " أنبيهم " بقلب الهمزة ياء، و " أنبهم " بحذفها. والهاء مكسورة فيهما.
إن الله أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء، وهي صور ما في علم الله الموجودة بأنحاء متفاوتة بعضها فوق بعض، فإن حقائق الأشياء لها وجود في مراتب:
أولها: في عالم الأسماء الإلهية - كما ذهب إليه قوم من العرفاء -.
وثانيها: في عالم علم الله التفصيلي، المسمى - " الصور الإلهية " و " المثل العقلية " وهي ذوات مجردة، هي ملائكة الله المدبرة للأنواع الطبيعية، فإن لكل نوع طبيعي ملك رباني عقلي، هو تمام حقيقة ذلك النوع، ومثاله عند الله، وكل منها مصون عن التكثر التعددي، كما رآه بعض الأقدمين من أكابر الحكماء، ونحن - بفضل الله - قد أحكمنا بنيانهم، وأوضحنا سبيلهم في إثبات هذه المثل النورية.
وثالثها: في عالم المثل المقدارية المتوسطة بين العالمين: عالم المفارقات وعالم الماديات.
ورابعها: في عالم الأجسام المادية، وهي الصور النوعية المقومة للمواد الطبيعية، وفي هذين الوجودين - سيما الأخير -، تتكثر الأشخاص لنوع واحد، إلا أن في الأول بحسب الجهات الفاعلية، وفي الأخير بحسب الجهات القابلية من الانقسامات والاستحالات وغيرها. وهو عليه السلام، لجامعية نشأته، أخبر كلا منهم بما فيه وبما في غيره من الحقائق والمعاني للأسماء.
وضمير: { أسمآئهم } راجع إلى الملائكة، لما قد أشرنا إليه، من كونهم بأجمعهم حقائق الأشياء الطبيعية ومسميات الإلهية، وأن كلا منهم صورة اسم واحد، وحقيقة نوع واحد.
وقوله: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } الهمزة للانكار، دخلت على حرف الجحد، فأفادت الإثبات والتقرير، وهو تأكيد لقوله:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة:30]، على وجه أبسط، يكون كالبرهان عليه احتجاجا به عليهم، فإنه تعالى، لما علم ما خفي عليهم من الأمور العالية والسافلة، وما علن فيهم من أحوالهم الظاهرة، وما بطن فيهم من أسرارهم الخفية [علم ما لا يعلمون]، وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، وهو توقفهم في أمر آدم عليه السلام مترصدين لأن يبين لهم من أحواله.
وقيل: " ما تبدون " ، إشارة إلى قولهم: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } ، و " ما تكتمون " إشارة إلى استبطانهم في أنفسهم أنهم أحقاء بالخلافة الإلهية، وأنه تعالى لا يخلق خلقا أفضل منهم.
وقيل: " ما تبدون " هو قولهم لإبليس لما قال لهم: ماذا ترون إن أمرتم بطاعة آدم فعلتم؟: " نمتثل أمر ربنا ". و " ما كنتم تكتمون " ما أسره الخبيث من قوله: " لئن سلطت عليه لأهلكته، ولئن سلط علي لأعصينه ".
وقيل: روي إنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام، رأت الملائكة خلقا عجيبا، فقالوا: " ليكن ما شاء، فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه " ، فهذا هو الذي كتموا.
ويجوز أن يكون هذا القول سرا أسروه عن غيرهم بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
حكمة آدمية
[حقيقة الإنسان غيب السموات والأرض وصورة علم الله تعالى]
يحتمل أن يكون قوله: { أعلم غيب السموات والأرض } إشارة إلى حقيقة الإنسان الذي هو غاية وجود الأكوان، وثمرة شجرة الأفلاك والأركان، بل صفوة عالم الإمكان.
فإن سلسلة الموجودات، كما هي مرتبة من المبدأ الأول وما يتلوه من الأنوار العقلية القاهرة، ثم النفسية المدبرة، ثم الطبايع العلوية والفلكية والكوكبية، والصور النوعية العنصرية على مراتبها في النزول من الأشرف فالأشرف إلى الأخس فالأخس، - حتى انتهت إلى ما لا أخس منه، وهي الهيولى الأولى والهاوية القصوى -، فكذلك هي مترتبة في الترقي من أدنى الوجود وأنزل المراتب إلى أعلاها، ومن الأخس فالأخس إلى الأشرف فالأشرف، على التكافؤ التعاكسي، حتى تنتهي إلى ما هبط منه، وهو غاية الغايات ونهاية الوجودات - أعني الباري -.
فالوجود، بمنزلة دائرة بلغت إلى حيث فارقت منه؛ فأقرب الموجودات الصادرة من المبدأ الأعلى في سلسلة الايجاد، هو العقول المقدسة والملائكة المهيمة، سيما الأول منهم. وأقرب الموجودات إليه في سلسلة العود والرجوع، هم العقلاء الكاملون في الولاية والمعرفة، سيما النبي الخاتم أشرف البرية - صلوات الله عليه وآله -، وهم السابقون علما واللاحقون وجودا، كما في العلة الغائية.
فالإنسان الكامل حيث ابتدأ وجوده من أدنى الأشياء - من تراب ومن ماء مهين - وقد أنشأه الله لأن ينتهي إلى أعلى المقامات، فلا بد من مروره على سائر الدرجات عند أداء الأمانات. وغاية كل شيء لا تظهر إلا عند بلوغ ذلك الشيء إلى تلك الغاية؛ فغاية كل [شيء] غيب ذلك الشيء، وقد ثبت أن الإنسان الكامل غاية ما في الأرض والسماء بحسب الأجناس [و] الدرجات، فهو إذن غيب السموات والأرض، والله عالم به قبل خلقه وبلوغه إلى مقام قرب أو أدنى.
وأما قوله: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } فيحتمل أن يكون إشارة إلى حقيقة الإنسان، فإنه صورة علم الله، وهو كتاب جامع، ونسخة مجموعة لظاهر الملك وباطن الملكوت، والملائكة المدبرة أرواح العالم ومكنوناته، وظواهرهم أجرام العالم وشهاداته.
قال بعض الفضلاء العارفين: " إن الحق يتجلى بحكم:
كل يوم هو في شأن
[الرحمن:29]. كل لحظة لعباده، فينزل الأمر الإلهي من الحضرة الأحدية، ثم الواحدية إلى المراتب العقلية الروحية، ثم اللوحية، ثم الطبيعية الكلية، ثم الهيولى الجسمية، ثم العرش، ثم الكرسي والسموات، منحدرا من المراتب الكلية إلى الجزئية، إلى أن ينتهي إلى مادة الإنسان، منصبغا بأحكام جميع ما مر عليه في آن واحد، من غير تخلل زمان، كذلك إذا انتهى إليه وانصبغ بالأحكام الغالبة عليه، ينسلخ منه انسلاخا معنويا، ويرجع إلى الحضرة الإلهية.
فإن كان المنتهى إليه من الكمل، فالنازل يكون قد أتم دائرته وصارت آخريته عين أوليته، لأنه مظهر المرتبة الجامعة الإلهية. وإن كان من السائرين الذين قطعوا بعض المنازل والمقامات، أو الباقين في أسفل السافلين والظلمات، فيكون قطع نصف الدائرة أو أكثر، ثم انسلخ ورجع إلى الحضرة بالحركة المعنوية، فهو المبدء والغاية " انتهى كلامه.
وههنا سر آخر وهو أن الإنسان، لما كان غاية سلسلة الأكوان وخليفة الله، لكونه أبدع ما في عالم الإمكان، فيكون علمه لمعة من نور علم الله، كما أن وجوده مرآة لشمس وجود الله، ففي قوله: { إني أعلم غيب السماوات } بعد قوله: { فلمآ أنبأهم بأسمآئهم } ايماء لطيف بأن آدم من شأنه أن يعلم غيب السموات والأرض، ومن شأنه أن يقول: " إني أعلم ذلك " لإعطاء نشأته علم ذلك.
وكذا الكلام في قوله: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } ، فإنه لما أنبأ الملائكة بمعاني أسماء الموجودات العلوية والسفلية، والظاهرة والباطنة - لاحتواء نشأته الجمعية عليها -، فكأن الحق سبحانه قال بلسانه هذا الكلام، نظيره ما ورد في الخبر: " إن الله سبحانه يقول بلسان عبده: سمع الله لمن حمده ".
قال بعض بعض أهل المكاشفة والتحقيق: " لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى - التي لا يبلغها الإحصاء - أن يرى أعيانها - وإن شئت قلت: أن يرى عينه - في كون " جامع يحصر الأمر، لكونه متصفا بالوجود، ويظهر به سره إليه "... " وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غر مجلوة، ومن شأن الحكم الإلهي، أنه ما سوى محلا إلا ولا بد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض المتجلي الدائم، الذي لم يزل ولا يزال، وما بقي ثمة إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس، فالأمر كله منه ابتداؤه وإليه انتهاؤه، وإليه يرجع الأمر كله كما ابتدء منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم [عليه السلام] عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة، وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة المسواة التي هي صورة العالم، المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير، وكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي في النشأة الإنسانية.
وكل قوة منها محجوبة بنفسها، لا ترى أفضل من ذاتها، وإن فيها - فيما تزعم - الأهلية لكل منصب عال ومنزلة رفيعة عند الله، لما عندها من الجمعية الإلهية بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، وإلى جانب حقيقة الحقائق، وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف، إلى ما تقتضيه طبيعة الكل التي حصرت قوابل العالم كله - أعلاه وأسفله.
قال: " فأما انسانيته - فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلها، وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر، وهو المعبر عنه بالبصر، فلهذا اسمي إنسانا فإنه به نظر الحق إلى خلقه فرحمهم، فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي، والكلمة الفاصلة الجامعة، فتم العالم بوجوده، فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم الذي هو محل النقش، والعلامة التي بها يختم الملك على خزائنه.
وسماه خليفة من أجل هذا، لأنه تعالى الحافظ خلقه، كما يحفظ الختم الخزائن. فما دام ختم الملك عليها، لا يجسر أحد على فتحها إلا باذنه، فاستخلفه في حفظ العالم، فلا يزال العالم محفوضا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل، ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا، لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها، وخرج ما كان فيها، والتحق بعضه ببعضه، فانتقل الأمر إلى الآخرة، فكان ختما على خزانة الآخرة ختما أبديا.
فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية، فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة "... " فإنها لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة، ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية، فانه ما يعرف أحد من الحق إلا ما يعطيه ذاته.
وليس للملائكة جمعية آدم، ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها وسبحت الحق بها وقدسته، وما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها اليها، فما سبحته بها ولا قدسته، وحكم عليها هذا الحال. فقالت من حيث النشأة:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة:30] وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم ".
قال: " وعند آدم الأسماء من الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها، فما سبحت ربها بها ولا قدسته عنها تقديس آدم وتسبيحه؛ فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده، ونتعلم الأدب مع الله تعالى " انتهى كلامه.
واعلم إن ههنا إشكالا، وهو أن الملائكة لما لم تكن نشأتهم مقتضية للعلم بمعاني سائر الأسماء، فمن أين علموا صحة ما أنبأهم آدم عليه السلام حتى اعترفوا بتقدمه وفضله عليهم، وقصورهم عن بلوغ شأوه؟
والجواب عنه: إن العلم بالشيء على ضربين - لأنه إما أن يكون عين وجود ذلك الشيء الخارجي، وإما أن يكون صورة ذهنية مطابقة له، فكل ما هو من أجزاء ذات العالم وقواه وأفعاله، فعلمه بها؛ عبارة عن اشتماله عليها ووجودها له.
ومثولها بين يديه؛ وكل ما خرج عن هذه الأمور، فيكون العلم بها بحصول أشباحها وصورها لدى العالم.
فإذا تقرر ذلك فنقول: لكل واحد من الملائكة علم شهودي بما تقتضيه نشأته، وأما علمه بغير ما تقتضيه نشأته من معاني سائر الأسماء، فيجوز له استفادة ذلك من غيره على سبيل التمثيل؛ فالملائكة استفادوا علم سائر الأسماء، من اطلاعهم على نشأة آدم عليه السلام، لكون نشأته جامعة لجميع الحقائق، وإنما فضيلته عليهم، بأن سائر العلوم له حضورية حالية؛ ولهم حصولية إنبائية.
قال السيد الأجل المرتضى - رضي الله عنه -: " وفي هذه الآية سؤال لم أجد أحدا من المفسرين تعرض له، وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة صحة قول آدم، ومطابقة الأسماء للمسميات، وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل؟ والكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها ".
" والجواب: إنه غير ممتنع أن يكون الله فعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء ومطابقتها للمسميات، إما عن طريقه، أو ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك تمييزه واختصاصه ولم يكن في علمهم ذلك ".
" ووجه آخر - وهو أنه لا يمتنع أن تكون للملائكة لغات مختلفة، فكل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس بلغته، فلما أراد الله [تعالى] التنبيه على نبوة آدم، علمه جميع تلك الأسماء، فلما أخبرهم بها، علم كل فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته، وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل قبيل ".
إشارة قرآنية
اعلم أن في هذه الآية إشارات لطيفة إلى أمور وتنبيهات عجيبة عليها:
الأول: الدلالة على شرف الإنسان على الملائكة، الذين هم سكان طبقات السموات والأرضين، دون الأعالي المهيمين، الذين هم أجل قدرا وأعلى منزلة من أن يكون لهم التفات الى غير الله، وشهود جلاله وجماله، فإن مزية أشراف نوع الإنسان عليهم غير معلوم من هذه الآية، وفي تحقيق التفاضل بين أشراف الإنسان وبينهم كلام سيأتي من ذي قبل إن شاء الله [تعالى].
والثاني: على مزية العلم وفضله على العبادة، وأنه شرط في الخلافة، بل هو العمدة - وقد مر من الكلام ما فيه كفاية في هذا الباب -.
والثالث: إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة. والحكماء منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم - الذين لا تعلق لهم بالأجرام -، وعليه حملوا قوله تعالى:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات:164].
والتحقيق؛ إن هؤلاء الملائكة المدبرين، وإن جاز لهم قبول الإزدياد في العلوم والأشراف، لكن لا يستفيدون علما إلا من الأمر الأعلى، دون الأسباب الإتفاقية كالمعلم الخارجي والقوى والآلات الفكرية والخيالية.
واعلم أن القسمة اقتضت أمورا أربعة، لأن الشيء إما أن يكون كاملا بحسب الفطرة الأولى، أو ناقصا. والكامل إما تام أو فوق التمام.
والناقص إما مستكف أو غيره.
فالتام الذي هو فوق التمام، هو الباري جل اسمه، لأنه كامل الذات، ويفضل من كماله كمالات سائر الأشياء. والتام هو الضرب الأعلى من ملائكته المقربين. وأما المستكفي: فهم الملائكة المدبرون، الساكنون في طبقات السموات . وأما الناقص الغير المستكفي، فما سوى هذه الأقسام الثلاثة، سواء جاز كماله بعد النقصان، أم لا.
وأما حقيقة الإنسان، فقد وجد فيه بحسب أشخاصها جميع هذه الأقسام ما سوى فوق التمام. فالكامل منهم هو الذي كمل في العلم إلى حد صار عقلا مستفادا، وفي العمل إلى أن تجرد عن علائق البدن وعوائق النفس، ثم مات وحشر إلى الله.
وأما المستكفي منهم، فهم الكاملون الذين هم بعد في هذا العالم، ولم يرتحلوا إلى الدار الآخرة.
وأما الناقصون، فما سواهما، وهم أكثر الناس.
الرابع: إن في الآية تخويفا عظيما، فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال السرائر ومكنونات الضمائر، فيجب أن يجتهد المرء في عمارة باطنه وتصفية سره عن الخبائث والرذائل، وتنوير قلبه بأنوار العلوم والطاعات، ثم تخلية البيت عن دخول ما سوى صاحبه.
قال سليمان بن علي لحميد الطويل: " عظني ". فقال: " إن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك، فقد اجترأت على أمر عظيم. وإن كنت ظننت أنه لا يراك، فقد كفرت ".
وقال حاتم الأصم: " طهر نفسك في ثلاثة أحوال: إذا كنت عاملا بالجوارح فاذكر نظر الله إليك، وإذا كنت قائلا فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكنا عاملا بالضمير، فاذكر علم الله بك، إذ هو يقول
إنني معكمآ أسمع وأرى
[طه:46].
الخامس: إن في الآية رجاء عظيما، فإن الله قد علم من عنايته من أول الأمر في حق الإنسان، مع كونه أنزل خلق الله - حيث خلق من طين لازب ومن ماء مهين وهما أدون الأجسام وأسفلها وأكدرها -، لأنه فضله على الملائكة الذين هم من سكان السموات وأعلى المكانات تفضلا، وجعله مسجودا لهم تعظيما وتكريما، ويبعد من كرمه [و] جوده، أن يكرم ويشرف أبينا آدم عليه السلام في أول الأمر، ثم يعذب أولاده ويخزيهم في آخر الأمر.
السادس: إن في الآية دلالة على أن العبد يجب عليه أن لا يأمن مكر الله، كما يجب عليه أن لا ييأس من روح الله، لأنه لا اطلاع لأحد على عواقب الأمور، وأسرار حكمة الله في خلقه، فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل، ولكنهم سيأتون بعدها بالإنابة والرجوع بقولهم:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف:23]. وإن إبليس وإن أتى بالطاعات، لكنه سيأتي بعدها بالإباء والاستكبار وبقوله:
أنا خير منه
[الأعراف:12]. فمن شأن العاقل أن لا يعتمد على عمله، وان يكون أبدا متوكلا على الله، خائفا وجلا.
فقوله: { إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } ، معناه: إني أنا الذي أعرف الظاهر والباطن، والعلن والسر، والبداية والنهاية، ومن يرونه عابدا مطيعا سيكفر، ويبعد عن حضرتي ودار كرامتي، ومن يرونه فاسقا بعيدا سيقرب من خدمتي، وينيب إلي، ويفوز بثوابي، ويتبوء دار كرامتي حيث يشاء.
فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الغفلة والجهل، ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العز، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
ثم إنه تعالى حقق من مكامن الغيب عجز الملائكة عن تحقيق الأمور، بأن أظهر من البشر كمال العبودية، ومن أسد ساكني السموات عبادة كمال الكفر والجحود، لئلا يغتر أحد بعلمه وعبادته، ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق، ويزيلوا الإعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته.
السابع: التنبيه على اخلاص العمل عن شوب الرياء والسمعة، لكونه تعالى علام الغيوب وكشاف أسرار القلوب.
روى عدي بن حاتم، أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" " يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها، ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها، نودوا أن انصرفوا عنها لا نصيب لكم فيها، فيرجعون بها حسرة ما رجع أحد بمثلها، ويقولون: يا ربنا - لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك، وما أعددت فيها لأوليائك، كان أهون علينا ".
" فنودوا: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم. هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لي، كنت أهون الناظرين عليكم، فاليوم أذيقكم عذابي مع ما حرمتم من النعيم " ".
[2.34]
هذه نعمة رابعة من نعم الله في حق الإنسان، المعدودة في هذه الآيات التي أولاها ما في قوله:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا
[البقرة:28] - الآية -.
وثانيتها: ما في قوله:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة:29].
والنعمة الثالثة: ما في قوله:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة:30].
والظرف معطوف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر، وإلا فهو معطوف بما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى.
لما أنبأ آدم (عليه السلام) الملائكة بالأسماء الحسنى بحسب مقامه الجمعي، وعلمهم ما لم يعلموا - إذ لم تعط نشأتهم ذوقا ووجدانا- ، أمرهم الله بالسجود له عندما سواه ونفخ فيه من روحه، وكان الأمر به إياهم قبل تسويته ونفخ الروح فيه، لقوله تعالى:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[الحجر:29]. وسبب ذلك أنه كان امتحانا لهم، وإظهارا لفضله عليهم من جهة استجماع مقامه الجمعي الكمالي لجميع مقامات مظاهر الأسماء.
معنى السجدة وسبب مسجودية آدم
والسجود في الأصل تذلل وانقياد مع تطأطؤ الرأس. يقال: سجد البعير وأسجد: طأطأ رأسه لراكبه. قال الشاعر:
" وقلن له اسجد لليلى فأسجدا "
وقال:
" ترى الأكم فيها سجدا للحوافر "
أي تلك الجبال الصغار كانت مذللة لحوافر الخيل، ومنه قوله تعالى:
والنجم والشجر يسجدان
[الرحمن:6].
وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض قصدا للعبادة.
والمراد منه هاهنا إما المعنى اللغوي، وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له، كسجود إخوة يوسف وأبويه له، أو التذلل والانقياد بالسعي في تحصيل ما تناط أمور معاشهم، وتتم به أحوال كمالهم بحسب معادهم، لأنهم وسائط تدبيرات هذا العالم، وتحريكات الأجرام، واستحالاتها، وانقلاباتها حتى تتكون منها الكائنات التي غايتها خلقة الإنسان، لأن من أفراده عرفاء الرحمن.
وإما المعنى الشرعي: فهاهنا يحتمل السجود وجوها ثلاثة:
إما أن يكون المسجود له هو الله تعالى.
فحينئذ إما أنه جعل آدم قبلة لسجودهم كالكعبة تفخيما لشأنه.
وإما أن آدم كان سببا لوجوب السجدة، فكأنه تعالى لما خلقه بحيث كان أنموذجا للمبدعات كلها - بل للموجودات بأسرها - وجعله نسخة مختصرة لما في العالم الروحاني والعالم الجسماني، وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات الفعلية، وفاض عليهم من الإشراقات النورية من جهة تحريكاتهم الكلية، ووصلة إلى ظهور ما صدر عنهم من الخيرات وترتب عليهم من وجود الأكوان الصورية والحوادث الأرضية بواسطة الحركات السماوية، فأمروا بالسجود تذللا لما رأوا من عظيم قدرة الله، وباهر آياته في نظم العالم من الأعلى إلى الأسفل، ثم من الأسفل إلى الأعلى بواسطة الإنسان، الذي به ترتقي سلسلة الوجود - الهابط إلى أسفل السافلين - إلى أعلى عليين، وشكرا لما أنعم الله عليهم بواسطته.
فاللام فيه كاللام في قول حسان في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام):
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم، ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو في قوله تعالى:
أقم الصلاة لدلوك الشمس
[الإسراء:78].
وإما أن يكون المسجود له هو الإنسان، لكن [لا] من حيث هويته الإمكانية ليلزم الإشراك، بل من حيث بلوغه إلى مقام القرب الإلهي، ورجوعه وحشره إلى الحضرة الإلهية، وفناؤه عن ذاته، وبقاؤه ببقاء الله لا ببقاء غيره، ففي هذا المقام يصير الروح الإنساني كمرآة مصقولة لا لون فيه، انعكس عليه وجه الله الباقي على نهج التجلي - لا على وجه الحلول والاتحاد، تعالى عن ذلك علوا كبيرا - فسجودهم لآدم (عليه السلام) من هذه الجهة سجود لله لا له.
ومما يوضح ذلك: أن كل من عبد الله وسجد له، لا بد أن يتصوره في ضميره بوجه من الوجوه، ويشاهده في باطنه، إذ العبادة والسجدة للمجهول المطلق محال، ولهذا قد ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله).
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ".
ثم إنك كل ما تصورته أو تخيلته عن الله فهو سبحانه وراء ذلك، فإن نظرت إليه بما هو صورة معينة لها صفات معينة إمكانية أو مكانية، فقد عبدت غير الله وسجدت لسواه: وإن نظرت إلى الحق وجعلتها مرآة لملاحظة المعبود الحقيقي، ولم تجعل النظر نظرين - نظرا إلى المرآة، ونظرا إلى المرئي - فقد عبدت الله مخلصا محسنا.
فإذا جاز أن تكون الصورة المعقولة أو المتخيلة وجها من وجوه الحق المسجود له، فلم لا يجوز أن [تكون] الصورة الآدمية، التي هي مظهر أسماء الله الحسنى ومجلى صفاته كلها، مسجودا للملائكة على وجه لم يكن المنظور إليه والمعبود غير الذات الأحدية؟
فصل فيه شرح
الأقوال في سجود الملائكة لآدم
أجمع المسلمون على أن السجود بمعنى العبادة لغير الله كفر، والكفر لا يكون مأمورا به. ثم اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: إن ذلك السجود كان لله، وآدم (عليه السلام) كان كالقبلة. واعترض عليه بوجهين:
أحدهما: إن السجدة إذا نسبت إلى ما هو كالقبلة عديت بغير اللام فلا يقال: صليت للقبلة أو للمسجد. بل إلى القبلة، وفي المسجد. فلو كان آدم قبلة لهذا السجود لوجب أن يقال: اسجدوا إلى آدم. وإذ ليس فليس.
والثاني: إن قول إبليس: " أرأيتك هذا الذي كرمت على " وغير ذلك ما صدر منه الإباء، والاستكبار، والإغواء، لأولاده، والعداوة والبغضاء إلى يوم الدين يدل على أنه أعظم حالا من الساجد، ولو كان قبلة لما حصلت له هذه الدرجة التي انبسطت شهرتها في مجامع القدس، ومصاقع الجبروت، وقرعت أصواتها السوامع في صوامع الملكوت.
وأيضا كان محمد (صلى الله عليه وآله) يصلي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون أفضل منه (ص).
وأجيب عن الأول: بتجويز أن يقال: " صليت للقبلة ". كما يقال: " صليت إلى القبلة " والاستشهاد عليه بالقرآن والشعر كما مر.
وعن الثاني: بأن ابليس شكى تكريمه، وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد كونه مسجودا، بل لعله حصل بذلك مع انضمام أمور أخرى.
وكلا الجوابين لا يخلو عن ضعف:
أما الأول: فلا شبهة في ندرة وقوع اللام في مثلها. والظاهر أنها ليست بمعنى " إلى " أو " في ".
وأما الثاني: فإن الظاهر الواضح أن منشأ عصيان ابليس وتمرده، ومبدأ كفره وجحوده، هو مسجودية آدم، كما دل عليه قوله [تعالى]:
أأسجد لمن خلقت طينا
[الإسراء :61].
وقوله:
لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال
[الحجر:33].
القول الثاني: إن السجدة كانت له (عليه السلام) تعظيما له وتحية، كالسلام عليه منهم، وكانت الأمم السالفة يحيون ملوكهم وأنبياءهم كتحية المسلمين بعضهم بعضا.
قال قتادة في قوله تعالى:
وخروا له سجدا
[يوسف:100] كانت تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض.
وعن صهيب: إن معاذ لما قدم من اليمن سجد للنبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا معاذ ما هذا؟ فقال: إن اليهود تسجد لعظمائها، ورأيت النصارى تسجد لقسيسيها وبطارقتها قلت: ما هذا؟ قالوا: تحية الأنبياء. فقال صلوات الله عليه وآله:
" كذبوا على أنبيائهم ".
وعن الثوري، عن سماك بن هاني، قال: دخل الجاثليق على على ابن أبي طالب (عليه السلام)، فاراد أن يسجد له، فقال له علي (عليه السلام): اسجد لله. ولا تسجد لي، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" لو أمرت أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها ".
القول الثالث: إن السجود في الآية كان على المعنى الذي له في أصل اللغة، وهو الانقياد والخضوع.
وقد علمت ضعف القول الأول، وأما القول الثالث فضعيف أيضا، لأن السجود لا شك في أن لفظه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك، لأن الأصل عدم التغيير.
فإن قلت: السجود عبادة، والعبادة لغير الله غير جائزة.
قلنا: لا نسلم أن السجدة عبادة. لم لا يجوز أن يكون في بعض الأوقات، أو بحسب بعض العادات سقوط الإنسان على الأرض، وإلصاقه الجبين عليها مفيدا لضرب من التواضع والتعظيم، وإن لم يكن ذلك عبادة، وإن كان ذلك فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى ملائكته بذلك إظهارا لرفعته وإشعارا بكرامته.
وأيضا السلطان قد يأمر بعض مقربيه من عبيده أن يخدم ويطيع رجلا فقيرا، أو ضعيفا، وهم يفعلون ذلك ويخدمونه، ويرجع ما فعلوه في الحقيقة إلى خدمة السلطان وطاعته، فسجود الملائكة لآدم (عليه السلام) كان في الحقيقة سجودا لله، وطاعة لأمره.
وقد علمت وجها آخر ألطف من كل ما قيل، أو يقال في دفع هذا الإشكال.
فصل
إبليس من الملائكة أم لا؟
اختلفوا في أن إبليس - لعنه الله - هل كان من الملائكة، أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه كان منهم، وروي عن ابن عباس " إن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم: " الجن " ومنهم إبليس. وهو المروي عن ابن مسعود وقتادة، واختاره الشيخ أبو جعفر الطوسي - قدس الله روحه - قال: " وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ".
ثم اختلف من قال " إنه كان من الملائكة ". فمنهم من قال: " إنه كان خازن طبقات الجنة ". ومنهم من قال: " كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض ". ومنهم من قال: " إنه كان يوسوس ما بين السماء والأرض ".
وقال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان - قدس الله سره -: " إنه كان من الجن، ولم يكن من الملائكة " قال: " وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى، وهو مذهب الإمامية ".
وهو المروي عن الحسن البصري، وهو قول البلخي وغيره.
واحتجوا عن صحة هذا القول بأشياء:
أحدها: قوله تعالى:
إلا إبليس كان من الجن
[الكهف:50].
وثانيها: قوله تعالى:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6]. نفى المعصية عنهم نفيا عاما.
وثالثها: إن إبليس له نسل وذرية، قال تعالى:
أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني وهم لكم عدو
[الكهف:50] قال الحسن: إبليس أبو الجن، كما أن آدم (عليه السلام) أبو الإنس.
وإبليس مخلوق من النار، والملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول بعضهم. ومن النور في قول الحسن، لا يتناسلون، ولا يطعمون، ولا يشربون.
ورابعها:
جاعل الملائكة رسلا
[فاطر:1] ولا يجوز على رسل الله الكفر، ولا الفسق. ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب.
وذكروا في توجيه الاستثناء وجوها:
أحدها: ما ذكره صاحب الكشاف: " إن هذا استثناء متصل، لأنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، فغلبوا عليه في قوله: { فسجدوا } ، ثم استثني منهم استثناء واحد منهم ".
وثانيها: إنه كان مأمورا بالسجود معهم، فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم.
وثالثها: إن هذا الاستثناء منقطع كقوله:
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن
[النساء:157].
ويؤيد هذا القول ما رواه الشيخ أبو جعفر ابن بابويه - رحمه الله - في كتاب النبوة بإسناده عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن إبليس، أكان من الملائكة، أو كان يلي شيئا من السماء؟ فقال: " لم يكن من الملائكة، ولم يكن يلي شيئا من السماء، وكان من الجن، وكان مع الملائكة يرى أنه منها، وكان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها، فلما أمر بالسجود لآدم كان منه الذي كان " وكذا رواه العياشي في تفسيره.
وأما من قال: إنه كان من الملائكة، فإنه احتج بأنه لو كان من غيرهم لما كان ملوما بترك السجود.
والجواب: إنه كان من جملة المأمورين بالسجود وإن لم يكن من جملة الملائكة. دل على كونه مأمورا قوله تعالى:
ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك
[الأعراف:12].
وهؤلاء الزاعمون أنه كان من الملائكة أجابوا عن الاحتجاج الأول وهو قوله: { كان من الجن }. بأن الجن جنس من الملائكة، سموا بذلك لاجتنانهم عن العيون، وقال تعالى:
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا
[الصافات:158] أراد بها الملائكة، لأنهم قالوا: " الملائكة بنات الله ".
وأجابوا عن الثاني - وهو قوله:
لا يعصون الله مآ أمرهم
[التحريم:6] بوجهين:
أحدهما: أن من الملائكة من ليس بمعصوم - وإن كان الغالب فيهم العصمة - كما أن من الإنس معصومين، والغالب فيهم عدم العصمة؛ ولعل ضربا من الملائكة لا يخالفهم بالذات، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات، كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما، وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس، فلذلك صح عليه التغير من حاله والهبوط عن محله، كما أشار إليه تعالى بقوله:
كان من الجن ففسق عن أمر ربه
[الكهف:50].
ثانيها: بأنه صفة لخزنة النيران لا لجميع الملائكة، فلا توجب عصمة لغيرهم من الملائكة.
وأجابوا عن الثالث: بأنه يجوز أن يكون الله تعالى ركب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف، وإن لم يكن ذلك في باقي الملائكة، ويجوز أن يكون الله لما أهبطه إلى الأرض تغيرت حاله عن حال الملائكة.
قالوا: كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور
وخلق الجآن من مارج من نار
[الرحمن:15]؟
فأجيب: بأنه كالتمثيل لما ذكر، فإن المراد بالنور الجوهر المضيء، أو النار كذلك، غير أن ضوءها مكدر مغمور محذور منه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة، ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف.
وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص. وقد مر كلام كل من الفريقين في المفاتيح مستقصى.
واعلم أن لا شبهة لأحد في أن الملك، والشيطان، متخالفا اللوازم، والآثار الذاتية. كيف! وأحدهما: بطباعه ملهم الخير والطاعات؛ والثاني: بطباعه موسوس الشرور والمعاصي. واختلاف اللوازم والآثار الذاتية دليل اختلاف الملزومات والمؤثرات بالذات.
نعم كلا الجنسين متفقان في أنهما روحانيان غائبان عن الأبصار والحواس، لا نراهما وقبيلهما إلا عند تجسمهما، وتمثلهما بصورة من الصور، بل وجودهما كوجود الموجودات الأخروية لا ينكشف لأبصارنا إلا عند غيبوبتنا عن هذا العالم - كما يقع للمكاشفين - أو لفساد مزاج البدن بواسطة غلبة اليبوسة على الدماغ فتتعطل بها الحواس عن الشواغل، فتستولي قوة الخيال على المحاكاة الخيالية - كما للممرورين أو بواسطة تمثلهما في العين، أو تصورهما بصورة محسوسة جسمانية.
والظاهر من الأخبار والآثار أن مواطن الملائكة عالم السماوات ودرجاتها على سبيل التعلق والمباشرة، وأما تعلقها بعالم الأرضيات فعلى سبيل الإمداد والاستخدام للقوى الأرضية، وأن مواطن الشياطين والجن عالم الأرضيات على سبيل التعلق والمباشرة.
وأما عالم السماء فلها اجتيازات على نهج العبور والاستراق للسمع - دون الولوج في سموكها - لأن عالم السماء كعالم قلب المؤمن بيت معمور مطهر بطهارة القدس والتسبيح، وعمارة الذكر والحمد، لا يمكن أن يتصرف فيه إلا جوهر مقدس، ولا سبيل للخبيث اللعين إليه إلا اختلاسا واجتيازا في بعض الساعات، كأوقات الكسوفات، والخسوفات، وغيرها، استراقا للسمع.
وبالجملة: مواطن الشياطين والجن هذا العالم الطبيعي، وليس لواحد منهم درجة العلم والمعرفة بالمقاصد الكلية، والأمور الإلهية سواء كانوا كفارا كالشياطين، أولهم ضرب من الإسلام كطائفة من الجن ذكرت في القرآن.
وأما قولكم: " إن الجن يطعمون ". فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون ولا يشربون. أنشد ابن دريد:
ونار قد حضأت بعيد وهن
بدار ما أريد بها مقاما
سوى ترحيل راحلة وعين
أكالثها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟
فقالوا: الجن. قلت: عموا ظلاما
فقلت: إلى الطعام. فقال منهم
زعيم: نحسد الإنس الطعاما
لقد فضلتم بالأكل فينا
ولكن ذاك يعقبكم سقاما
فهذا يدل على أنهم لا يأكلون ولا يشربون لأنهم روحانيون، وقد جاء في الأخبار المنهي عن التمسح بالعظم والروث؛ لأن ذلك طعامهم وطعام دوابهم. وقد قيل: إنهم يتشممون ذلك.
وأجابوا عن الرابع - وهو قوله تعالى:
جاعل الملائكة رسلا
[فاطر:1] بأن هذه الآية معارضة بقوله تعالى:
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس
[الحج:75]. لأن " من " للتبعيض.
وكلا القولين مروي عن ابن عباس، فروي عنه أنه قال: إن الملائكة كانت تقاتل الجن، فسبي إبليس، فلذلك قال تعالى:
إلا إبليس كان من الجن
[الكهف:50].
روى مجاهد وطاوس عنه أيضا أنه قال: " كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملكا من الملائكة اسمه " عزازيل " وكان من سكان الأرض. وكان سكان الأرض من الملائكة يسمون " الجن " ولم يكن من الملائكة أشد اجتهادا ولا أكثر علما منه، فلما تكبر على الله وأبى السجود لآدم وعصاه لعنه وجعله شيطانا مريدا وسماه إبليس.
قال الشيخ محيي الدين ابن عربي في الباب الحادي والخمسين من الفتوحات المكية: " إعلم أن الجان هم أصل العالم الطبيعي، ويتخيل جليسهم بما يخبرونه من حوادث الأكوان وما يجري في هذا العالم بما يحصل لهم من استراق السمع من الملإ الأعلى، فيظن جليسهم أن ذلك من كرامة الله به هيهات لما ظنوا.
ولهذا ما ترى أحدا قط جالسهم فحصل عنده منهم علم بالله جملة واحدة، وغاية الرجل الذي تعتني به أرواح الجن أن يمنحوه من علم خواص النبات، والأحجار، والأسماء، والحروف، وهو علم السيمياء، فلم يكتسب منهم إلا العلم الذي ذمته ألسنة الشرائع الإلهية.
ومن ادعى صحبتهم وهو صادق في دعواه فاسأله عن مسألة في العلم الإلهي ما تجد عنده من ذلك ذوقا أصلا، فرجال الله يفرون من صحبتهم أشد فرارا منهم من الناس، فإنه لا بد أن تحصل صحبتهم في نفس من يصحبهم تكبرا على الغير وازدراء بمن ليس له في صحبتهم قدم.
وقد رأينا جماعة ممن صحبوهم حقيقة وظهرت لهم براهين على صحة ما ادعوه من صحبتهم، وكانوا أهل جد واجتهاد - ولكن لم يكن عندهم من جهتهم شمة من العلم بالله ورأينا فيهم اغترارا وتكبرا، فما زلنا بهم حتى حلنا بينهم وبين صحبتهم لإنصافهم وطلبهم الأنفس. كما رأينا أيضا ضد ذلك منهم، فما أفلح ولا يفلح من كان هذه صفته إذا كان صادقا، وأما الكاذب فلا نشتغل به.
وقال في موضع آخر من هذا الباب: " ومنهم من يجالسه الروحانيون من الجان، ولكن دون الجماعة في الرتبة إذا لم يكن له حال سوى هذا، لأنهم قريب من الإنس في الفضول.
والكيس من الناس من يهرب منهم كما يهرب من الناس، فإن مجالستهم ردية جدا قليل أن تنتج خيرا، لأن أصلهم نار والنار كثيرة الحركة، ومن كثرت حركته كان الفضول أسرع إليه في كل شيء، فهم أشد فتنة على جليسهم من الناس، فإنهم قد اجتمعوا مع الناس في كشف عورات الناس التي ينبغي للعاقل أن لا يطلع عليها، غير أن الإنس لا تورث مجالسة الإنسان إياهم تكبرا، ومجالسة الجن ليست كذلك، فإنهم بالطبع يؤثرون في جليسهم التكبر على الناس وعلى كل عبد لله، وكل عبد رأى لنفسه شغوفا على غيره تكبرا فإنه يمقته الله في نفسه من حيث لا يشعر وهذا من المكر الخفي.
وقال أيضا فيه: " ومنهم من نفس الرحمن عنه بمجالسة الملائكة، ونعم الجلساء هم، هم أنوار خالصة لا فضول عندهم، وعندهم العلم الإلهي الذي لا مرية فيه، فيرى جليسهم في مزيد علم بالله دائما مع الأنفاس.
فمن ادعى مجالسة الملإ الأعلى، ولم يستفد في نفسه علما بربه، فليس بصحيح الدعوى، وإنما هو صاحب خيال فاسد " - انتهى كلامه.
تفصيل كلام لتحقيق مقام
في المفاضلة بين الملك والبشر
اعلم أن الناس اختلفوا في التفاضل بين الملائكة وأخيار البشر على طائفتين، وهذا الاختلاف كان مستمرا قبل دورة الإسلام وبعده إلى يومنا.
وتحقيق معرفة هذا الأمر لا يكون إلا بنور المكاشفة، وأكثر ما يوردونه في هذا الباب كلام أهل الحجاب الذين فضلوا الإنسان على الملك، لأن أكثر ما يحتجون به على ذلك يرجع إلى أمور عادية، ومقدمات جمهورية، لا يمكن التعويل عليها لصاحب البصيرة.
ونحن نذكر أولا ما احتجت به كل طائفة من الذين فضلو الملائكة، والذين فضلوا أخيار البشر - سواء كانوا قبل الإسلام أو بعده - ونقدم في الذكر كلمات الأوائل وأحوالهم قبل ظهور نور الإسلام؛ ثم نذكر أقوال المتكلمين الإسلاميين وما ذكروه من الجانبين نقضا أو إبراما؛ ثم ما يرد على كل كلام اعتراضا وجوابا؛ ثم نشير إلى سر الكلام وأصله، وروح المقام وفصله، وذلك في فصول:
الفصل الأول
في ذكر أقوال الأوائل
ومعظمها أقوال الصابئة في تفضيل جانب الملائكة، وأقوال الحنفاء في تفضيل جانب البشر في مقابلة أقوالهم.
والصابئون هم الذين قالوا بنبوة اغاثاذيمون وهرمس - وهما شيث وإدريس (عليهما السلام) - ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - ونسبتهم إلى الحنفاء كنسبة فلاسفة الإسلام إلى الصوفية بوجه، إلا أنهم زادوا على التفضيل للملك على أهل النبوة (عليهم السلام) إلى حيث تركوا طاعتهم وانقيادهم، وجعلوا الملائكة قبلة طاعتهم ومنشأ نجاتهم وهدايتهم، وربما يسمون بأصحاب الروحانيات.
ومذهبهم: أن للعالم صانعا، حكيما، مقدسا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطين المقربين لديه وهم الروحانيون المطهرون، المقدسون جوهرا، وفعلا، وحالة.
أما الجوهر: فهم المطهرون عن المواد الجسمانية، المبرءون عن القوى الجسدانية، المنزهون عن الحركات والتغيرات الزمانية، قد جبلوا على الطهارة، وفطروا علىالتقديس والتسبيح، فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم، وهم أربابنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب.
فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوية والغضبية، حتى تحصل بيننا وبينهم مناسبة، فيفيض علينا بعض أنوارهم، وفضائلهم، وعلومهم.
قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع، وأشكالنا في الصورة، يشاركوننا في الحاجة إلى المادة، يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويساهموننا في الصورة، أناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم، وبأية مزية لهم لزم متابعتهم؟
وأما الفعل: فهم الأسباب المتوسطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حال إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدإ إلى كمال، يستمدون القوة من الحضرة القدسية، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية.
فمنها: مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها. فلكل روحاني هيكل ولكل هيكل فلك، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد، فهو ربه، ومدبره، ومديره.
ففعل الروحانيات تحريك الأجرام على قدر مخصوص؛ ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع السفلية والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات، فيتبعها قوى جسمانية؛ ويركب عليها نفوس روحانية، ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي، فمع جنس المطر ملك، ومع كل قطرة أيضا ملك.
ومنها: مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو مما يصعد من الأرض، فينزل مثل الأمطار، والثلوج، والبرد، والرياح، ومما ينزل من السماء مثل الصواعق والشهب، وما يحدث في الجو من الرعد، والبرق، والسحاب، والضباب، والمياه وقوس قزح، وذوات الأذناب، والهالة، والمجرة، وما يحدث في الأرض من الزلازل، والهدات، والمياه، والخسف إلى غير ذلك.
ومنها: متوسطات القوى السارية في جميع الموجودات، ومدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات، حتى لا يرى موجود ما خاليا عن قوة وهداية إذا كان قابلا لهما.
وأما الأحوال: فأحوال الروحانيات من الروح، والريحان، والنعمة، واللذة الدائمة، والراحة، والبهجة، والسرور في جوار رب العالمين كيف يخفى، ثم طعامهم وشرابهم التسبيح، والتقديس، والتهليل، والتمجيد، وأنسهم بذكر الله وطاعته، فمن قائم لا يركع، وراكع لا يسجد، وساجد لا ينتصب على حسب مقاماتهم في القرب والمنزلة لا تتبدل حالهم لما هم فيه من البهجة والسرور، فمن خاشع بصره لا يرفع، ومن ناظر لا يغمض، ومن ساكن لا يتحرك، ومن متحرك لا يسكن حركة لا تعب فيها، ولا إعياء، ولا نصب، ومن كروبي في عالم القبض، ومن روحاني في عالم البسط
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6].
فهذا مذهب الصابئة، وقد جرت بينهم وبين الحنفاء مناظرات ومفاوضات في المفاضلة بين الروحاني المحض، والبشرية وذكرها صاحب كتاب الملل والنحل على شكل سؤال وجواب، وفيها فوائد لا تحصى، فنوردها ملخصة عن الزوائد ليحيط الناظر بما فيها وعليها.
فصل
فيما ذكره الصابئون في تفضيل الملائكة على الأنبياء وما أجاب به عنها الحنفاء. وهي وجوه:
الأول: إن الروحانيات أبدعت إبداعا لا من شيء - لا مادة ولا هيولى - وهي كلها جوهر واحد على سنخ واحد، وجواهرها أنوار محضة لا ظلام فيها، وهي من شدة ضيائها لا يدركها الحس، ولا ينالها البصر، ومن غاية لطافتها يحار فيها العقل،ولا يجول فيها الخيال.
ونوع الإنسان مركب عن العناصر الأربعة، مؤلف من مادة وصورة، والعناصر متضادة، ومزدوجة بطبائعها، ومن التضاد يصدر الاختلاف والهرج، ومن الازدواج يحصل الفساد والمرج، فما هو مبدع لا من شيء لا يكون كمخترع من شيء، والمادة والهيولى سنخ الشر، ومنبع الفساد، فالمركب منها ومن الصورة كيف يكون كمحض الصورة؟ والظلام كيف يساوي النور؟ والمحتاج إلى الازدواج، المضطر في هفو الاختلاف كيف يرقى إلى درجة المستغني عنها؟
أجابت الحنفاء عنه: بم عرفتم وجود هذه الروحانيات؟ والحس ما دلكم عليه، والدليل ما أرشدكم إليه؟
فإن قالوا: عرفنا وجودها وتعرفنا أحوالها من اغاثاذيمون وهرمس - [يعني] شيث وإدريس -.
قال الحنفاء: فقد ناقضتم مذهبكم في نفي المتوسط البشري، فصار نفيكم إثباتا، وإنكاركم إقرارا.
ثم من الذي يسلم أن المبدع من لا شيء أشرف من المخترع من شيء؟ بل جانب الروحاني أثر واحد، وجانب الجسماني أثران: أحدهما: نفسه وروحه، والآخر: جسمه وجسده. فهو من حيث الروح مبدع بأمر الباري تعالى ، ومن حيث الجسد مخترع بخلقه، ففيه أثران: أمري وخلقي، قولي وفعلي. فهذه المرتبة في الخلقة أفضل.
وإن فاضلتم بين الروحاني المجرد والجسماني المجرد فالصدق معكم، ولكن المفاضلة بين الروحاني المجرد والمجتمع من الجهتين، فلا يحكم عاقل بأن الفضل هنا للمجرد.
الثاني: نوع الإنسان لا يخلو من قوتي الشهوة والغضب، وهما تنزعان إلى البهيمية والسبعية، وتنازعان النفس إلى طباعهما من الحرص والأمل لأحدهما، والكبر والحسد للآخر، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة.
فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة المطهرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما من النوازع الحيوانية والقواطع البشرية بأسرها؟ لم يحملهم الغضب على حب الجاه والشهرة، ولا حملتهم الشهوة على حب المال والثروة، بل طباعهم مجبولة على المحبة والموافقة، وجواهرهم مفطورة على الاتحاد والألفة.
أجابت: بأن هذه المغالطة مثل الأولى حذو النعل بالنعل، فإن في طرف البشرية نفسين: نفس حيوانية لها قوتان: شهوية وغضبية. وأخرى إنسانية لها قوتان: علمية وعملية. وبتينك القوتين لها أن تجمع وتمنع، وبهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور وتفصل الأحوال.
ثم تعرض على العقل، فيختار بقوته التي هي له كالبصر النافذ من العقائد، الحق دون الباطل، ومن الأقوال: الصدق دون الكذب، ومن الأفعال، الخير دون الشر.
ويختار بقوته العملية من لوازم القوة الغضبية، الشجاعة، والحمية، دون الذلة والهوان، ومن لوازم القوة الشهوية: التودد، والتآلف دون الشره والخساسة، فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وأعداء دينه، ومن أرحم الناس تذللا وتواضعا لوليه وصديقه، فإذا بلغ هذا الكمال فقد استخدم القوتين، واستعملهما في جانب الخير.
وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين كحكم العنين والعاجز، وإنما الكمال في استخدامهما أولا في جانب الخير، ثم الترقي إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب، فنفس النبي (صلى الله عليه وآله) كنفوس الروحانيين فطرة ووضعا وبذلك الوجه وقعت الشركة وفضلها وتقدمها باستخدام القوى والنفوس التي دونها، واستعمالها في جانب الخير والنظام - وهو الكمال.
الثالث: إن الروحانيات صور مجردة عن المواد، عارية عن القوة والاستعداد، وإن قدر لها أشخاص تتعلق بها تصرفا وتدبيرا، لا ممازجة ومخالطة، فأشخاصها نورانية، والمتوسط لا بد أن يكون كاملا حتى يكمل غيره، وأما الموجودات البشرية فهي إما صور في مواد، أو نفوس متعلقة بها حاصلة من المزاج والامتزاج.
والفرض أنها موجودات بالقوة لا بالفعل، ناقصة لا كاملة، والمخرج من القوة إلى الفعل يجب أن يكون أمرا بالفعل غير محتاج إلى الخروج، فإن ما بالقوة لا يخرج بذاته من القوة إلى الفعل - بل بغيره - والروحانيات هي المحتاج إليها في أن تخرج الجسمانيات إلى الفعل، فالمحتاج إليه كيف يساوي المحتاج في درجة الوجود؟
أجابوا: إن هذا الحكم - وهو كون الروحانيات بالفعل - غير مسلم على الاطلاق، إذ منها ما هو وجوده بالقوة، أو ما فيه وجود بالقوة، ويحتاج إلى مخرج يخرجه إلى الفعل، فإن النفس لها استعداد القبول (من العقل) عندكم، والعقل له إعداد لكل شيء وفيض عليه، وأحدهما بالقوة، والآخر بالفعل.
وهذا لضرورة الترتيب في الموجودات العلوية، فإن من لم يثبت الترتب فيها لم تتمش له قاعدة عقلية أصلا، فإذا ثبت الترتيب فقد أثبت الكمال في جانب، والنقصان في جانب، فليس كل روحاني كاملا من كل وجه، ولا كل جسماني [ناقصا من كل وجه]، فمن الجسمانية أيضا ما وجوده كامل بالفعل، وسائر النفوس محتاجة إليه. وذلك أيضا لضرورة الترتيب في الموجودات السفلية.
قالوا: لنا أن هذا العالم الجسماني في مقابلة ذلك العالم الروحاني، وإنما يختلفان من حيث إن ما في هذا العالم من الأعيان فهو آثار ذلك العالم. وما في ذلك العالم من الصور فهو مثل هذا العالم - والعالمان متقابلان كالشخص والظل - فإذا أثبتم في ذلك العالم موجودا ما بالفعل كاملا ويصدر عنه سائر الموجودات وجودا ووصولا إلى الكمال، فيجب أن تثبتوا في هذا العالم أيضا موجودا ما بالفعل كاملا تاما حتى يصدر عنه سائر الموجودات تعلما ووصولا إلى الكمال.
ومن العجب أن عند الصابئة أكثر الروحانيات قابلة منفعلة، وإنما الفاعل الكامل واحد، وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناث أخبر التنزيل عنهم به.
وإذا كان كذلك فنقول: في الموجودات السفلية النفوس البشرية كلها قابلة الوصول إلى الكمال بالعلم والعمل، فيحتاج إلى مخرج ما فيها بالقوة إلى الفعل، والمخرج هو النبي (صلى الله عليه وآله).
ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة وملاقاة عقلية، فيكون الروح الأول مصدرا، والرسول مظهرا، ويكون بين الرسول وسائر البشر مناسبة وملاقاة حسية، فيكون الرسول مؤديا والبشر قابلا.
أقول: إن لفظ " القوة " يطلق بالاشتراك اللفظي على ما هو بمعنى الإمكان الاستعدادي، والقوة الانفعالية التجددية، وعلى ما يكون بمعنى الإمكان الذاتي والاستحقاق الفطري. والأول لا يجامع الفعلية، بخلاف الثانية، فالإبداعيات كمالاتها فطرية، والجسمانيات كمالاتها تجددية كسبية. وأما النفس فلها إمكان ذاتي في ذاتها، ولها إمكان استعدادي به تنتقل من حالة إلى أخرى - ولكن بحسب تعلقها إلى المادة الجسمانية -.
فالأولى أن يجاب عن استدلال الصابئة الذي من هذا النمط، على أن أشرف الروحانيات أشرف من الأنبياء: بأن النفوس البشرية يجوز أن تتدرج في الاستكمال، وترتقي إلى جانب علو الكمال بعد الهبوط والنقصان، بحيث تنتهى درجتهم إلى درجة الروحانيين، أو أعلى منهم بحسب الفطرة الثانية، وإن لم يكونوا كذلك في الفطرة الأولى.
هذا إذا كان المراد من الفطرة الأولى لهذه النفوس ما لها في أول تكونها الجسماني، وإن اريد بها ما عبر عنها بفطرة الله التي فطر الناس عليها، فهي أيضا غير قاصرة عن درجة فطرة الروحانيين. وسيأتي لهذا وضوح وانكشاف.
الرابع: أن الروحانيات نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة. فكيف تتساويان؟ والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء وصفاتها، ومراكزها، ومحالها، فعالم الروحانيات، العلو لغاية النور واللطافة، وعالم الجسمانيات، السفل لغاية الكثافة والظلمة، والعالمان متقابلان. والكمال للعلوي والصفتان متضادتان، والشرف للنور لا للظلمة.
الجواب: لسنا نوافقكم أولا: على أن الروحانيات كلها نورية، ولا نساعدكم ثانيا، أن الشرف للعلو، ولا نسالمكم ثالثا: أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء.
أما بيان الأول: فقد حكمتم على الروحانيات حكم التساوي وما اعتبرتم فيها التضاد والترتيب، وإذا كانت الموجودات كلها على قضية الترتيب والتضاد فلم أغفلتم الحكمين هاهنا. فإن من قال: " الروحاني ما ليس بجسماني " فقد أدخل جواهر الشياطين، والأبالسة والجن في جملة الروحانيات.
ثم من الجن من هو مسلم، ومنها من هو ظالم، ومن قال " الروحاني هو - المخلوق روحا " فمن الأرواح ما هو خير، ومنها ما هو شرير؛ والأرواح الخبيثة أضداد للأرواح الطيبة؛ فلا بد إذن من إثبات تضاد وتنافر بين القسمين، فلم قلتم: إنها كلها نورانية.
وعندنا - معاشر الحنفاء - الروح هو الحاصل بأمر الله، الباقي على مقتضى أمره، فمن كان لأمر الله أطوع، وبرسالات رسله أصدق، كان الروحانية فيه أكثر، والروح عليه أغلب، ومن كان لأمره تعالى أنكر، وبشرائعه أكذب، كانت الشيطنة عليه أغلب.
هذه قاعدتنا في الروحانيات، فلا روحانية أبلغ في الروحانيات من ذوات الأنبياء (عليه السلام).
وأما قولكم: " إن الشرف للعلو " إن عنيتم به جهة العلو فلا شرف فيه وكم من عال جهة، سافل جهة، وعلما، وذاتا، وطبيعة. وبالعكس.
وأما قولكم: " إن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء، وصفاتها، ومحالها " فليس بحق. وهو مذهب اللعين الأول، حيث نظر إلى ذاته وذات آدم (عليه السلام) ففضل ذاته - إذ هي مخلوقة من النار وهي علوية نورانية - على ذات آدم وهو مخلوق من طين - وهو سفلي ظلماني.
بل عندنا الاعتبار في الشرف بالأمر وقبوله، ومن كان أقبل لأمره تعالى، وأطوع لحكمه، وأرضى بقضائه فهو أشرف، ومن كان على خلاف ذلك فهو أبعد، وأخس، وأخبث.
فأمر الباري تعالى هو الذي يعطي الروح:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85] وبالروح يحيا الإنسان الحياة الحقيقية، وبالحياة يستفيد العقل الغريزي وبالعقل تكتسب الفضائل، ويجتنب عن الرذائل، ومن لم يقبل الأمر الإلهي فلا روح له ولا حياة ولا فضيلة، ولا شرف.
أقول: قد رجع هذا الكلام إلى الاعتراف بأن الشرف والفضيلة إنما هو بأمر جوهري، فإن حقيقة الأمر الإلهي الذي بقبوله يصير الإنسان ذا روح، وعقل، وحياة دائمة هو الذي به يتجوهر الإنسان تجوهرا روحانيا، ويتذوت ذاتا عقلية دائمية.
وأما خطأ اللعين فليس لأجل حكمه بأن النار أشرف من الطين، بل لأجل زعمه أن حقيقة الإنسان هي البدن المخلوق من التراب، أو لأجل توهمه أن شرف الذات والصورة تابع لشرف الجسمية والمادة فهاهنا مغالطة بأخذ ما بالعرض مكان ما بالذات.
الوجه الخامس: إن الروحانيات أشرف بقوتي العلم والعمل من الجسمانيات. أما العلم: فلا ينكر إحاطتهم بمغيبات الأمور عنا، واطلاعهم على مستقبل الأحوال الجارية علينا، ولأن علومهم كلية وعلوم الجسمانيات جزئية، وعلومهم، فعلية وعلومها انفعالية، وعلومهم فطرية وعلومها كسبية، فمن هذه الوجوه تحقق لهم الشرف عليها.
وأما العملية: فلا ينكر أيضا عكوفهم على العبادة، ودوامهم على الطاعة
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء:20] ولا يلحقهم كلال ولا سآمة، ولا يرهقهم ملال ولا ندامة. فتحقق لهم الشرف من هذه الجهة. وكان أمر الجسمانيات بالخلاف من ذلك.
أجابوا عن هذا بجوابين:
أحدهما: التسوية بين الطرفين، وإثبات زيادة في جانب الأنبياء.
والثاني: بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل.
أما الأول: فقالوا: علوم الأنبياء (عليهم السلام) كلية وجزئية، وفعلية وانفعالية، وفطرية وكسبية. فمن حيث ملاحظة عقولهم عالم الغيب منصرفة عن عالم الشهادة، تحصل لهم العلوم الكلية فطرة دفعة واحدة، ثم إذا لاحظوا عالم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئية اكتسابا بالحواس على ترتيب وتدريج.
فكما أن للإنسان علوما فطرية - هي المعقولات - وعلوما حاصلة بالحواس - هي الحسيات والتجربيات - فعالم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس، فنظرياتنا فطرية لهم، ونظرياتهم لا نصل إليها قط. بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم ولنا بكواسب الجوارح.
فأمزجة الأنبياء - صلوات الله عليهم - أمزجة نفسانية ونفوسهم نفوس عقلية، وعقولهم عقول أمرية فطرية. ولو وقع حجاب في بعض الأوقات فذاك لموافقتنا ومشاركتنا كي يزكي هذه العقول، وتصفى هذه الأذهان والنفوس وإلا فدرجاتهم وراء ما يقدر.
وأما الثاني: فإنهم قالوا: ومن العجب أنهم لا يعجبون بهذا العلم بل ويؤثرون التسليم على البصيرة، والعجز على القدرة، والتبري من الحول والقوة على الاستقلال، والفطرة على الاكتساب. و
مآ أدري ما يفعل بي ولا بكم
[الأحقاف:9] على
إنمآ أوتيته على علم عندي
[القصص:78].
ويعلمون أن الملائكة والروحانيات باسرها وإن علت إلى غاية قوة نظرها وإدراكها ما أحاطت بما أحاط به علم الباري جل جلاله، بل لكل منهم مطرح نظر، ومسرح فكر، ومجال عقل، ومنتهى أمل، ومطار وهم وخيال، وإنهم إلى الحد الذي انتهى نظرهم إليه مستبصرون، وما وراء ذلك الحد إلى ما وراء ما لا يتناهى مسلمون مصدقون، وإنما كمالهم في التسليم لما لا يعلمون، والتصديق لما يجهلون
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة:30] ليس كمال حالهم، بل
سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة:32] هو الكمال. فمن أين لكم أن الكمال في العلم والعمل، لا في التسليم والتوكل؟
وإذا كانت غاية العلوم هذه الدرجة، فجعلت نهاية أقدام الملائكة والروحانيين بداية أقدام السالكين من الأنبياء والمرسلين
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله
[النمل:65].
فعالم الروحانيات بالنسبة إليهم شهادة، وبالنسبة إلينا غيب، وعالم الجسمانيات بالنسبة إلينا، شهادة وبالنسبة إليهم غيب، والله تعالى هو الذي يعلم السر وأخفى.
قالوا: من علم أنه لا يعلم فقد أحاط بكل العلم، ومن اعترف بالعجز عن أداء الشكر فقد أدى كل الشكر.
الوجه السادس: إن الروحانيات لها اختيارات صادرة من الأمر، متوجهة إلى الخير، مقصورة على نظام العالم، وقوام الكل لا يشوبها. البتة شائبة الشر، وشائبة الفساد، بخلاف اختيارات البشر، فإنه متردد بين طرفي الخير والشر. لولا رحمة الله في حق البعض، وإلا فوضع اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشر والفساد، إذ كانت قوتا الشهوة والغضب المركوزتان فيهم تجرانهم إلى جانبهما، وأما الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلا التوجه إلى وجه الله، وطلب رضاه، وامتثال أمره، فلا جرم كل اختيار هذا حاله لا يتغير ولا يتعذر عليه ما يختاره، وكلما أراده وقصده، وجده مختاره حسب مراده، وكل اختيار ذلك حاله يتعذر عليه ما يختاره، فلا يوجد المراد ولا يحصل المختار.
أجابوا عنها بجوابين:
أحدهما: نيابة عن جنس البشر، وهو أن اختيار الروحانيات إذا كان مقصورا على أحد الطرفين، محصورا عليه، كان في وصفه مجبورا، ولا شرف في الجبر ، واختيار الشر مردد بين طرفي الخير والشر. فمن جانب يرى آيات الرحمن، ومن طرف يسمع وساوس الشيطان، فتميل به تارة دعوة الحق إلى امتثال الأمر، وتميل به طورا داعية الشهوة إلى اتباع الهوى.
فإذا أقر طوعا وطبعا بوحدانية الله تعالى واختار من غير جبر وإكراه طاعته وصير اختياره المتردد بين الطرفين مجبورا تحت أمر الله باختيار من جهته من غير إجبار، صار هذا الاختيار أشرف وأفضل من الاختيار المجبور فطرة، كالمكره فعله كسبا، الممنوع عما لا يحب جبرا، ومن لا شهوة له فلا يميل إلى المشتهى، كيف يمدح عليه؟ وإنما المدح - كل المدح - لمن زين له المشتهى ونهى النفس عن الهوى.
فتبين أن اختيار البشر أفضل من اختيار الروحانيات.
والثاني: نيابة عن الأنبياء، وهو أن اختيار الأنبياء مع ما أنه من جنس اختيار البشر من وجه فهو متوجه إلى الخير، مقصور على الصلاح الذي به نظام العالم وقوام الكل، صادر عن الأمر، صائر إليه لا يتطرق إلى اختياراتهم ميل إلى الفساد، بل درجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام، فإن العالي لا يريد أمرا لأجل السافل، من حيث هو سافل بل إنما يختار ما يختار لنظام كلي، وأمر أعلى من الجزئي.
ثم يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعا - لا مقصودا - وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنة الله تعالى في اختياره، ومشيئته للكائنات، لأن مشيئته كلية متعلقة بنظام الكل، غير معللة بعلة، واختيار الرسول المبعوث من جهته ينوب عن اختياره، كما ان أمره ينوب عن أمره فيسلك سبل ربه ذللا، ثم يخرج من قبضة اختياره نظام حال، وقوام أمر مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس.
ومن أين للروحانيات هذه المنزلة؟ وكيف يصلون إلى هذه الدرجة؟ كيف وكل ما يذكرونه فموهوم، وكل ما يذكره النبي (صلى الله عليه وآله) فمحقق بمشاهدة وعيان.
الوجه السابع: إن الروحانيين متخصصون بالهياكل العلوية مثل زحل، والمشتري وسائر الكواكب من السبعة، وهذه السيارات كالأبدان والأشخاص بالنسبة إليها، وكل ما يحدث من الموجودات ويعرض من الحوادث فكلها مسببات هذه الأسباب وآثار هذه العلويات، فيفيض على هذه العلويات من الروحانيات تصريفات وتحريكات إلى جهات الخير والنظام، ويحصل من حركاتها واتصالاتها تركيبات وتأليفات في هذا العالم، ويحدث في المركبات أحوال ومناسبات. فهم الأسباب الأول، والكل مسبباتها، والمسبب لا يساوي السبب، والجسمانيون مشخصون بالأشخاص السفلية والمتشخص كيف يماثل الغير المتشخص.
وإنما يجب على الأشخاص في أفعالهم وحركاتهم اقتفاء آثار الروحانيات في أفعالها وحركاتها، حتى يراعى أحوال الهياكل وحركات أفلاكها زمانا ومكانا، وبخورا وتعزيما، وتنجيما ودعاء وحاجة خاصة بكل هيكل، فيكون التقرب إلى هيكل من الهياكل تقربا إلى الروحاني الخاص به، الموكل عليه، ومنه تقربا إلى رب الأرباب، ومسبب الأسباب، حتى يقضي حاجته، ويتم مسألته.
أجابوا بأن قالوا: الآن نزلتم عن نيابة الروحانيات الصرفة إلى نيابة هياكلها، وتركتم مذهب الصبوة الصرفة، فإن الهياكل أشخاص الروحانيين، والأشخاص هياكل الربانيين، غير أنكم أثبتم لكل روحاني هيكلا خاصا، له فعل خاص لا يشاركه فيه غيره.
ونحن نثبت أشخاصا رسلا، كراما، تقع أوضاعهم وأشخاصهم في مقابلة كل الكون الروحاني والهياكل، وحركاتهم في مقابلة حركات جميع الكواكب والأفلاك، وشرائعهم مراعاة حركات أسندت إلى تأييد إلهي، ووحي سماوي، موزونة بميزان العدل، مقدرة على مقادير الكتاب الأول؛ ليقوم الناس بالقسط، ليست مستخرجة بالآراء المظلمة، ولا مستنبطة بالظنون الكاذبة إن طابقتها على المعقولات تطابقتا، وإن وافقتها بالمحسوسات توافقتا.
كيف ونحن ندعي أن الدين الإلهي هو الموجود الأول، والكائنات تقدرت عليه، وأن المناهج التقديرية هي الأقدم، ثم المسالك الخلقية، والسنن الطبيعية توجهت إلينا، ولله تعالى سنتان في خلقه وأمره، والسنة الأمرية أقدم وأسبق من السنة الخلقية، وقد اطلع خواص عباده على السنتين
ولن تجد لسنة الله تحويلا
[فاطر:43] هذا من جهة الخلق
فلن تجد لسنة الله تبديلا
[فاطر:43] - هذا من جهة الأمر-.
والأنبياء (عليهم السلام) متوسطون في تقرير سنة الأمر، والملائكة (عليهم السلام) متوسطون في تقرير سنة الخلق، والأمر أشرف من الخلق، فمتوسط الأمر أشرف من متوسط الخلق، فالأنبياء أفضل من الملائكة.
وهذا عجيب؛ حيث صارت الروحانيات الأمرية متوسطات في الخلق، وصارت الأشخاص الخلقية متوسطين في الأمر، ليعلم أن الشرف والكمال في التركيب لا في البساطة، وأن اليد للجسماني لا للروحاني، والتوجه إلى التراب أولى من التوجه إلى السماء، والسجود لآدم من إبليس أفضل له من التسبيح والتقديس.
وليعلم أن الكمال في إثبات الرجال - لا في تعيين الهياكل والظلال - وأنهم هم الآخرون وجودا وعملا، والسابقون فضلا وعلما، وأن آخر العمل أول الفكرة، وأن الفطرة لمن له الحجة، وأن المخلوق بيديه لا يكون كالمكون بحرفيه، كما قال تعالى: وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له " كن " فكان.
الوجه الثامن: إن الناس متماثلون في الحقيقة الإنسانية والبشرية، ويشملهم حد واحد، وهو " الحيوان الناطق المائت " والنفوس والعقول متساوية في الجوهرية، فحد النفس بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان، والحيوان، والنبات أنه " كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة ". وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملائكة " أنه جوهر غير جسم، هو كمال الجسم، محرك له بالاختيار عن مبدإ نطقي أي عقلي بالفعل أو بالقوة ". فالذي هو بالفعل خاصية النفس الملكية، والذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية.
وأما العقل فقوة أو هيئة لهذه النفس، مستعدة لقبول ماهيات الأشياء، مجردة عن المواد، والناس في ذلك على استواء من القدم، وإنما الاختلاف يرجع إلى أحد أمرين: أحدهما اضطراري - وذلك من جهة المزاج والاستعداد - والثاني: اختياري، من حيث الاجتهاد، المؤثر في رفع الحجب المادية، وتصقيل النفس عن الصدإ المانع لارتسام الصور المعقولة، حتى لو بلغ الاجتهاد إلى غاية الكمال تساوت الأقدام، وتشابهت الأحكام، فلا يتفضل بشر على بشر بالنبوة، ولا يتحكم أحد على أحد بالاستتباع.
أجابوا: التماثل والتشابه في الصور البشرية مسلم لا مرية فيه، وإنما التنازع بيننا في النفوس والعقول قائم، فإنها عندنا على التضاد والترتيب.
وذلك أن النفس - كما علم من كلامكم أيضا - لفظ مشترك يطلق تارة لمعنى بين الإنسان والحيوان، وتارة لمعنى بين الإنسان والملك - على مساق حدودكم - فهلا زدتم قسما ثالثا - وهو النفس النبوية - حتى يتميز به عن الملكية، كما يتميز الملكي عن الإنساني ؟! فإن عندكم المبدأ النطقي للإنسان بالقوة، والمبدأ العقلي للملك بالفعل، فقد تغايرا من هذا الوجه، ومن جهة أن الموت الطبيعي يطرأ على الإنسان، ولا يطرأ على الملك، وذلك تمييز آخر.
فليكن في النفس النبوية مثل هذا الترتيب.
وأما الكمال الذي تعرضتم له، فإنما يكون كمالا للجسم المختار إذا كان اختيار المحرك محمودا، وأما إذا كان مذموما من كل وجه صار الكمال نقصا، وبذلك يقع التضاد بين النفس الخيرة والشريرة، حتى تكون إحداهما في جانب الملكية، والأخرى في جانب الشيطانية، فيحصل التضاد المذكور، كما حصل الترتيب المذكور.
وأما ما ذكره المتكلم الصابي من حد العقل: " أنه قوة أو هيئة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد ". فغير شامل لجميع العقول عنده، ولا عند الحنيف، بل هو تعرض للعقل الهيولاني دون سائر العقول من العقل النظري، والعملي، وما بالملكة، والذي هو بالفعل، والذي هو المستفاد، والذي هو الفعال للعلوم التفصيلية، التي وجودها نفس معقوليتها، ولا خلاف بينهم في أن هذه العقول قد اختلفت حدودها، وتباينت فصولها.
فأخبرني أيها الحكيم من أي عقل تعد عقلك أولا؟ هل ترضى أن يقال لك: " تساوت الأقدام في العقول، حتى يكون عقلك بالفعل والاستفادة، كعقل غيرك بالقوة والاستعداد، بل واستعداد عقلك لقبول المعقولات كاستعداد عقل غبي غوي لا يرد عليه برادة ولا ينفك الخيال عن عقله، كما لا ينفك الحس عن خياله.
وإذا كانت الأقدام متساوية فما هذا الترتيب في الأقسام؟ وإذا ثبت ترتبا في العقول فبالضرورة أن ترتقي في الصعود إلى درجة الاستقلال والإفادة، وتنزل في الهبوط إلى درجة الاستعداد والاستفادة.
الوجه التاسع: قالت الصابئة: إذا أبطلتم تساوي العقول والنفوس بإثبات الترتيب والتضاد، فقد لزم الاتباع، فأخبرونا ما رتبة الأنبياء بالنسبة إلى نوع الإنسان؟ وما رتبتهم بالنسبة إلى الملك والجن وسائر الموجودات؟
ثم ما مرتبة النبي (صلى الله عليه وآله) عند الباري سبحانه؟ فإن عندنا الروحانيات أعلى مرتبة من جميع الموجودات، وهم المقربون في الحضرة الإلهية، والمكرمون لديه. ونراكم تارة تقولون: " إن النبي (صلى الله عليه وآله) متعلم من الروحاني " ونراكم تارة تقولون: " إن الروحاني يتعلم من النبي (صلى الله عليه وآله) "؟
أجابت الحنفاء: بأن الكلام في المراتب صعب، ومن لم يصل إلى رتبة؛ كيف يمكنه أن يستوفي الكلام في أقسامها، لكنا نعرف أن رتبة النبي (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلينا كرتبتنا بالنسبة إلى من هو دوننا في الجنس - كالحيوانات - وكما أنا نعرف أسامي الموجودات ولا يعرفها الحيوانات، كذلك هم يعرفون حقائق الأشياء ووجوه المصالح في الحركات، وحدودها وأقسامها، ونحن لا نعرفها.
وكما أن النوع الإنساني يستخدم الحيوانات ويملكها بالتسخير، فالأنبياء ملوك الناس بالتدبير، وكما أن حركات الناس معجزات الحيوان، كذلك حركات الأنبياء (عليهم السلام) معجزات الناس، فالحيوانات لا يمكنها أن تبلغ إلى الحركات الفكرية حتى تميز الحق من الباطل، ولا الحركات القولية حتى تميز الصدق من الكذب، ولا الحركات الفعلية حتى تميز الخير من الشر.
فكذلك قياس حركات الأنبياء (عليهم السلام)، لأن منتهى فكرهم لا غاية له، وحركات أفكارهم في محال القدس مما تعجز عنها قوة البشر حتى يسلم: " لهم مع الله وقت لا يسعهم فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ".
وكذلك حركاتهم القولية والفعلية، لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سبق الفطرة حركة كل البشر، وهم في الرتبة العلياء والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلها، قد أحاطوا علما بما أطلعهم الرب تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيين، ففي الأول يكون حالهم حال المتعلم
علمه شديد القوى
[النجم:5]. وفي الآخر حالهم حال التعليم، وذلك في حق آدم (عليه السلام):
يآءادم أنبئهم بأسمآئهم
[البقرة:33]. حين كان الأمر على بدء الظهور والكشف، فانظر كيف يكون الحال في نهاية دور الظهور.
وأما إضافتهم إلى جناب القدس فالعبودية الخالصة:
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين
[الزخرف:81]. قالوا: " إنا عباد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم " أحق الأشياء لهم وأخص الأحوال بهم " عبده ورسوله " لا جرم كان أخص التعريفات بجلاله تعالى بأشخاصهم: إله إبراهيم. وإله إسمعيل وإسحق. وإله موسى وهارون. وإله عيسى. وإله محمد - صلى الله عليه وآله وعليهم.
وكما أن من العبودية ما هو عام الإضافة، ومنها ما هو خاص الإضافة، كذلك التعريف إلى الخلق بالإلهية والربوبية، والتجلي للعباد بالخصوصية منه ما له عموم
رب العالمين
[الفاتحة:2]. ومنه ما له خصوص
رب موسى وهارون
[الأعراف:122].
فهذه نهاية مذهبي الصابئين والحنفاء في باب المفاضلة بين الملائكة والبشر، وفيها فوائد لا تحصى، ولهذا وقع في الرواية هذا التطويل، وليعذرنا فيه أهل الدراية والتحصيل.
فصل
في أقوال علماء الإسلام القائلين بأن الملك أفضل من البشر
إعلم أن جماعة من أهل الشريعة كأكثر الأشاعرة موافقا لمذهب أصحابنا الإمامية كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، وأبي جعفر الطوسي - رضوان الله عليهم - احتجوا بأمر الله للملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) على أنه أفضل منهم، فذهبوا إلى أن الأنبياء (عليهم السلام) أفضل من الملائكة، وقالت المعتزلة، وأبو بكر الباقلاني من الأشاعرة وأبو عبد الله الحليمي من فقائهم: " بل الملائكة العلوية أفضل ". ولكل من الطائفتين وجوه من الاحتجاج والاستدلال، نذكرها تلخيصا وتهذيبا.
فحجة القائلين بأن الملائكة أفضل من وجوه:
الأول قوله تعالى:
ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته
[الأنبياء:19] إلى قوله: -
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء:20] والاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أن هذه العندية معلوم أنها ليست مكانية - لتعاليه سبحانه عن المكان والجهة - فيكون عندية شرفية، ودنوا معنويا، فعلم أن للملائكة هذا القرب والشرف حاصل - دون غيرهم -.
وقد عورض هذا بقوله في صفة المؤمن بحسب الآخرة:
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر:55]. وأما في الدنيا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكاية عن الله تعالى:
" أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي "
وهذا أكثر إشعارا بالتعظيم، لأن كون الله عند أحد أعظم إجلالا من كونه عند الله.
وثانيهما: أنه تعالى احتج بعدم استكبارهم على أن غيرهم وجب أن لا يستكبر وهذا الاستدلال إنما يتم إذا كانوا أفضل من البشر كما لا يخفى.
ولأحد أن يقول: لا نزاع في أن الملك أشد قوة وقدرة من البشر، ويكفي في صحة الاحتجاج هذا القدر من التفاوت، إنما النزاع في الأفضلية بمعنى الشرف والقرب، أو كثرة المثوبات.
الثاني: عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر، فيكونون أكثر ثوابا من البشر. أما الصغرى فلوجوه:
أحدها: أن ميلهم إلى التمرد أشد، لأن العبد السليم الآفات، المستغني عن طلب الحاجات، يكون أميل إلى التنعم والالتذاذ من المنغمر في الحاجات، فيكون كالمضطر إلى عبادة مولاه والالتجاء إليه ولهذا قال تعالى:
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون
[العنكبوت:65].
ومعلوم أن الملائكة سكان السماوات، وهي جنان وبساتين ومواضع نزهة، وهم آمنون من الفقر والحرص، ثم إنهم مع ذلك أبدا مذ خلقوا مشغولون بالعبادة، خاشعون، وجلون، كأنهم مسجونون، لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات، بل مقبلون على الطاعات الشاقة، موصوفون بالخوف الشديد، والفزع العظيم، وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما واحدا، ويؤيده قصة آدم وحواء (عليهما السلام)، وتناولهما لما نهيا عن أكله.
وأما الكبرى فلما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله):
" أفضل الأعمال أحمزها "
أي أشقها.
وثانيها: إن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر أروح له، وأسهل عليه من الادامة على عمل واحد، ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول، وجعل كتاب الله مقسوم الأبواب بالسور والأعشار والأخماس، ثم إن الملائكة كل منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل إلى غيره - كما مر - فعبادتهم في نهاية المشقة، فيكون ثوابهم أفضل، لما مر.
ولقائل أن يقول على الوجهين: هب أن مشقتهم أكثر، فلم قلتم: " فيكون ثوابهم أكثر؟ ". وذلك لأنا نرى بعض المتصوفة يتحملون من المشاق، والمتاعب في طريق مجاهدتهم ما نقطع بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يتحمل شطر ذلك، مع أنا نقطع بأن درجتهم لا تبلغ جزءا من ألف جزء من درجة النبي (صلى الله عليه وآله).
فعلم أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب، بل مبناها على الدواعي والقصود، فلعل الفعل الواحد يأتي به المكلفان على السواء، والثواب لأحدهما أعظم بكثير من الآخر، لأن إخلاص أحدهما أشد.
على أنا لا نسلم أن عبادات الملائكة أشق، وما ذكرتم في بيانه " من أن السماوات كالبساتين النزهة، والمواضع الطيبة، وأن أسباب التنعم إذا كانت كثيرة صعب تركها اشتغالا بالعبادة " معارض بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر، ومع ذلك لا يمنعهم ذلك، ويرضون بقضاء الله ويواظبون على العبادة، وهذا أدخل في استحقاق الأجر والثواب.
وأما قولهم: " المواظبة على نوع واحد شاقة ". معارض بأن الشيء إذا صار عادة صار كالأمر الطبيعي في نهاية السهولة، وكان خلافه صعبا، ولهذا قيل: " العادة كالطبيعة الثانية ". ولذلك نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن الوصال في الصوم، وقال أفضل الصوم صوم داود (عليه السلام)، وهو أن يصوم يوما ويفطر يوما.
أقول: العبادة والتسبيح منهم كالغذاء والتنفس منا ليس يعود عليهم لأجل ذلك تعب ومشقة.
الثالث: قالوا: عبادات الملائكة أدوم، فكانت أفضل: أما الأول فلقوله:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء:20]. وأما الثاني: فلأن الأدوم أشق، والأشق أفضل - كما مر تقريره -.
وفيه أيضا ما سبق، ولأنه قال (صلى الله عليه وآله):
" أفضل العباد من طال عمره، وحسن عمله "
وقال عليه وآله السلام:
" الشيخ في قومه كالنبي في أمته "
وهذا يقتضي أن يكونوا في البشر كالنبي في الأمة. وذلك يوجب فضلهم على البشر.
ولقائل أن يجيب عنه بالنقض والحل:
أما النقض: فلأن كثيرا من الأنبياء (عليهم السلام) كانوا أطول عمرا من محمد (صلى الله عليه وآله)، فلزم أن يكونوا أفضل منه، وهو باطل بالاتفاق.
أما الحل: فلأن المراد من الحديث الأول أن العباد إذا كانوا متساوين في الإيمان، والإخلاص، وسائر ما يناط بالعبودية، ثم كان بعضهم أدوم عبادة كان أفضل، دل عليه قوله: " وحسن عمله ".
ومن الثاني: أن الشيخ في قومه إذا كان مثلهم، أو أزيد منهم في رتبة العلم والعمل كان كذلك.
الرابع: إنهم أسبق السابقين في كل العبادات، لا خصلة من الخصال إلا وهم أئمة متقدمون فيها، وهم المنشئون العامرون لمساجد الله، والممهدون لطرق الدين، والسبقة في العبادة جهة تفضيل وتعظيم لقوله:
والسابقون السابقون أولئك المقربون
[الواقعة:10 - 11]. وكذا التمهيد لها، لقوله (صلى الله عليه وآله):
" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة "
فهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب كل ما حصل للأنبياء مع زيادة.
أقول: هذا الوجه قوي جدا، ولهذا لم يذكر أحد جوابا عنه. والجواب كما يعرفه المحققون ويتحققه المكاشفون أن ذوات الأنبياء (عليهم السلام) بما لهم من الزلفى عند الله هي نتائج عبادات الملائكة وجزاء أعمالهم، وغاية مساعيهم العائدة إليهم، والغاية أفضل من ذي الغاية كما ثبت في الحكمة الإلهية.
الخامس: إن الملائكة رسل الله إلى الأنبياء (عليهم السلام)، والرسول أفضل من الأمة. أما الأول فلقوله:
علمه شديد القوى
[النجم:5]. وقوله:
نزل به الروح الأمين على قلبك
[الشعراء:193 - 194]. وأما الثاني فبالقياس على الأنبياء من البشر، فإنهم أفضل من أممهم، فكذا هاهنا.
ولقائل أن يقول: أفضلية الأنبياء على أممهم لا نسلم أنها من جهة الرسالة وتبليغ الأمر، بل لما علم من حالهم وقربهم بما أبدوه من المعجزات والكرامات.
بل ربما قيل: إن السائس للدواب خادم لها من هذا الوجه، والخادم - بما هو خادم - أنقص منزلة من مخدومه، إلا أن لخادم الدابة جهة إنسانية في نفسه بها يكون فضيلته على الدابة، فكذا حال النبي (صلى الله عليه وآله) مع الأمة، قال (صلى الله عليه وآله):
" تناكحوا وتناسلوا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ".
السادس: الملائكة أنقى من البشر، فوجب أن يكونوا أفضل منهم.
أما تقواهم، فلأنهم مبرؤون عن الزلات وعن الميل إليها، وأما الأنبياء فإنهم وإن كانوا معصومين عن الكبائر - بل وعن الصغائر أيضا كما ذهبت إليه الإمامية - لكنهم لم يخلوا عن الميل إليها بحسب الطبيعة البشرية، فثبت أن تقوى الملائكة أشد.
وأما كون الأتقى أفضل، لقوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات:13].
فالجواب: لا نسلم أن تقواهم أشد، وذلك لأن التقوى مشتق من الوقاية، وكلما كانت الدواعي والشهوات أكثر كانت التقوى عنها أشد، ولما كان المقتضي للمعصية في حق البشر أكثر، كانت تقوى المتقين منهم أكثر.
فإن قيل: لا نسلم عدم الداعية فيهم أصلا، لكن لا شهوة لهم إلى الأكل والشرب والمباشرة، ولهم شهوة التقدم والرياسة.
قلنا: هذا لا يضرنا لأن هذه الشهوة مشتركة بين الفريقين، وقد حصلت للبشر أنواع أخر من الشهوات الصارفة عن الطاعات، كشهوة البطن، والفرج، وغيرهما فيكون فضيلة التقوى في البشر أشد وأقوى.
السابع: قوله تعالى:
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون
[النساء:172] وجه الاستدلال به أن قوله:
ولا الملائكة المقربون
[النساء:172]. خرج مخرج التأكيد للأول، ومثل هذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل، كما في قولك: " هذه الخشبة لا يقدر على حملها العشرة، ولا المأة ". وكذا في كثير من الأمثلة.
ولقائل أن يقول: هذه الآية إن دلت فإنما تدل على فضل الملائكة المقربين على المسيح (عليه السلام)، لا على من هو أفضل منه - وهو نبينا (صلى الله عليه وآله)، وموسى، وإبراهيم (عليهما السلام) - وبالجملة، فلو ثبت أن المسيح أفضل من كل الأنبياء (عليهم السلام) كان مقصودهم حاصلا، وإلا فلم يحصل.
ثم نقول: قوله: { ولا الملائكة } ليس فيه إلا واو العطف، التي لمطلق الجمعية، والأمثلة الجزئية غير مفيدة في الدعوى الكلية، على أنها معارضة بأمثلة أخرى، كقولك: " ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو " فهذا لا يفيد أفضلية عمرو من زيد.
سلمنا أنه يفيد التفاوت - أما أنه من جميع الوجوه، أو من جهة كثرة الثواب فغير مسلم. والسند أن النصارى لما شاهدوا من المسيح، إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، أخرجوه من العبودية إلى المعبودية بسبب هذا القدر من القدرة، فقال تعالى: إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي، بل ولا الذين هم فوقه في القوة، والقدرة، والاستيلاء على عالم السماوات والأرضين، فعلى هذا الوجه دلت الآية على أنهم أفضل من البشر في القوة والشدة، لا في كثرة الثواب كما هو المقصود.
وهاهنا وجهان آخران في الجواب:
أحدهما: إن الآية دلت على أن مجموع الملائكة أفضل من المسيح (عليه السلام) لا كل واحد.
وثانيهما: لعل خطاب الله كان مع أقوام اعتقدوا فضل الملك على البشر، فأورد الكلام على حسب معتقدهم، كما في قوله تعالى:
وهو أهون عليه
[الروم:27].
الثامن: قوله تعالى حكاية عن إبليس:
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين
[الأعراف:20]. وهذا وإن كان قول إبليس - وهو ليس بحجة - إلا أن آدم وحواء (عليهما السلام) لو لم يكونا معتقدين، " أن الملك أفضل من البشر " لم يكن إبليس يغترهما بذلك، ولا كانا اغترا بذلك.
والجواب: أولا: إن آدم (عليه السلام) لم يكن نبيا حينئذ، فلم يثبت فضل الملائكة على الأنبياء من كونهم أنبياء.
وثانيا: إن ما ذكر لا يدل على كون الملك أفضل عاقبة وأعظم مثوبة عند الله، بل إن لهم ضروبا من الفضيلة غير ذلك، ولا شبهة لأحد في أن لهم جهات فصل بالفعل على نوع البشر كالقوة، والقدرة، والحسن، والجمال، والصفاء، والنقاء من الكدورات المزاجية، والأمراض، والعاهات، وغيرها، فلأجلها رغب آدم (عليه السلام) في أن يكون مثلهم في العاجل وإن كان أفضل منهم في الآجل.
التاسع: قوله تعالى:
قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك
[الأنعام:50]. لم يرد به نفي الصورة، إذ لا يفيد الغرض، وإنما نفى أن يكون له مثل ما لهم من الصفات الكمالية.
والجواب: إن الصدق حاصل بنفي المماثلة في الصفات من كل الوجوه، ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت بينهما في كل الصفات.
العاشر: قوله:
ما هذا بشرا إن هذآ إلا ملك كريم
[يوسف:31].
والجواب: إن المراد المشابهة في الصورة الظاهرة أو في المجموع من الصورة الحسنة والسيرة الكريمة، ولا يلزم منه أن يكون المشبه به أقوى في الأخيرة، سيما ما يكون بمعنى كثرة الثواب.
الحادي عشر: قوله تعالى:
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
[الإسراء:70]. وظاهر أن ما عدا هذا الكثير المفضل عليه، لا يمكن أن يكون إلا الملائكة، لسقوط غير المكلف عن درجة الاعتبار، وانحصار جنس المكلف في أربعة أنواع، ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين، فلو كان أفضل من الملك أيضا لكان أفضل من جميع المخلوقات، وحينئذ لم يبق للتقييد بالكثير فائدة فعلم أن الملك أفضل من البشر.
وأجيب عنه بجوابين:
أحدهما: أن في الكلام تمسكا بدليل الخطاب، وهو ضعيف لا يعول عليه في العقائد الكلية.
وثانيهما: إنه لا يلزم منه إلا تفضيل الجنس على الجنس لا تفضيل الكل على الكل.
الثاني عشر: إن الأنبياء (عليهم السلام) ما استغفروا لأحد إلا بدؤوا بالاستغفار لأنفسهم، ثم للمؤمنين. قال آدم:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف:23]. وقال نوح:
رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا
[نوح:28]. وقال إبراهيم:
ربنا اغفر لي ولوالدي
[إبراهيم:41]. وقال موسى:
رب اغفر لي ولأخي
[الأعراف:151]. وقال تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله) وعليهم وآلهم:
واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات
[محمد:19].
أما الملائكة فلم يستغفروا إلا لغيرهم من المؤمنين، كما حكى الله عنهم بقوله
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم
[غافر:7]. وقال:
ويستغفرون للذين آمنوا
[غافر:7]. ولو كانوا محتاجين إلى الاستغفار، لبدؤوا أولا لأنفسهم ثم لغيرهم، لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفعه عن الغير، لقوله (صلى الله عليه وآله)
" إبدأ بنفسك "
فهذا يدل على أنهم أفضل من البشر.
والجواب - بعد تسليم دلالة عدم الاستغفار على عدم الزلة - لا نسلم أن التفاوت في ذلك مناط الأفضلية كما تقدم، ومنهم من قال إن استغفارهم للبشر كالعذر لما طعنوا فيهم.
الثالث عشر: قوله تعالى:
وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين
[الانفطار:10 - 11]. وهذا عام للجميع، فيدخل فيهم الأنبياء (عليهم السلام) وغيرهم. وجه دلالته على أفضليتهم بوجهين:
أحدهما: إن الحافظ للشيء يجب أن يكون أبعد من الخطإ، والزلة، والمعصية، من المحفوظ، فيكون أفضل.
وثانيهما: إنه تعالى جعل كتابتهم حجة للبشر وعليهم في الطاعات والمعاصي، فقولهم أقوى بالقبول من قول البشر، فهذا يدل على أنهم أعظم قدرا.
وقد أجيب بمنع كلا الوجهين، مسندا بأن الملك قد يوكل بعض عبيده على حفظ ولده، فلا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ، وبأن الشاهد قد يكون أدون حالا من المشهود له وعليه.
أقول: وكلا المنعين مكابرة في الأفاعيل الذاتية الطبيعية. قياسا على الأفاعيل الصناعية الكسبية.
الرابع عشر: قوله تعالى:
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون
[النبأ:38]. والمقصود من ذكر أحوالهم شرح عظمته تعالى يوم الآخرة، ولو كان في الخلق طائفة، قيامهم وتضرعهم أقوى في ذلك من قيامهم لكان ذكرهم أولى.
وأجيب بمثل ما مر من أن المزية لهم من بعض الوجوه، لا ينافي المفضولية من جهة الشرف والمثوبة.
الخامس عشر: قوله تعالى:
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
[البقرة:285]. بين أنه لا بد في صحة الإيمان الاذعان بوجود هذه الأشياء، ثم بدأ بنفسه، وثنى بالملائكة، وثلث بالكتب، وربع بالرسل. وكذا في قوله تعالى:
شهد الله أنه
[آل عمران:18]. الآية والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة.
وأجيب: بأن الحجة ضعيفة، لأنها منقوضة بكثير من المواضع، منها تقديم " سورة تبت " على " سورة التوحيد ".
السادس عشر: قوله تعالى:
إن الله وملائكته يصلون على النبي
[الأحزاب:56]. فجعل صلواتهم كالتشريف للنبي، فيكونون أشرف.
وأجيب: بأنه منقوض بقوله:
يأيها الذين آمنوا صلوا عليه
[الأحزاب:56].
السابع عشر: يتكلم في المفاضلة بين جبرائيل ومحمد (صلى الله عليه وآله)، فيدل على تفضيل جبرائيل قوله تعالى:
إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون
[التكوير:19 - 22].
وصف جبرائيل (عليه السلام) بستة أوصاف شريفة من أوصاف الكمال. ووصف محمدا (صلى الله عليه وآله) بصفة واحدة - هي عدم آفة الجنون - ولو كانا متساويين في الكمال، لكان وصفه (صلى الله عليه وآله) بهذه الصفة الواحدة، بعد وصف جبرائيل بهذه الصفات، حطا لشأنه، وتحقيرا لمنصبه، وابطالا لحقه؛ وهو غير جائز عليه تعالى، فدلت الآية على كون جبرائيل أفضل منه (صلى الله عليه وآله).
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون تلك النعوت لمحمد (صلى الله عليه وآله)؟
قلنا: لأن قوله:
ولقد رآه بالأفق المبين
يدفع هذا الاحتمال.
والجواب: إنكم توافقونا في أن لمحمد (صلى الله عليه وآله) فضائل أخرى، لم تذكر في هذا الموضع، فلم لا يجوز أن يكون هو بتلك الفضائل أفضل من جبرائيل؟ فإنه تعالى كما وصف جبرائيل هاهنا بهذه الصفات الست، وصف محمدا صلوات الله عليه وآله بصفات ست في قوله:
إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
[الأحزاب:45 - 46].
وبالجملة - فإفراد أحد الشخصين بالوصف في مقام لا يدل على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني.
الثامن عشر: المعلم أعلم من المتعلم، والأعلم أفضل، سيما في العلوم المتعلقة بذات الله تعالى، وصفاته، وآياته، كالعلم بأحوال العرش، والكرسي، والسماوات واللوح والقلم، والجنة والنار، وأصناف الملائكة والجن، وأنواع الحيوانات وغيرها.
ثم العلوم قسمان: قسم لا يعرف إلا بالوحي، فهو لم يحصل لمحمد (صلى الله عليه وآله) إلا من جهة الملك - سيما جبرائيل (عليه السلام) - فيستحيل أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله)، أفضل من جبرائيل (عليه السلام)، بل هو الواسطة بين الله وبينه (صلى الله عليه وآله)، ولكونه عالما بجميع الشرائع الماضية والحاضرة، وعالما أيضا بشرائع الملائكة، وأديانهم، وسننهم، فيكون أكثر علما، فيكون أفضل، لقوله تعالى:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
[الزمر:9].
وقسم يمكن تحصيله بالعقل، فلا شك أيضا أن جبرائيل (عليه السلام) أعرف فيها، لطول عمره، وكثرة مشاهدته إياها، فكان أفضل فيها.
والجواب: إن كون المعلم - من جهة كونه معلما - أفضل من المتعلم وقت التعليم - وإن كان مسلما - لكن يجوز أن يصير المتعلم في مقام آخر، ووقت آخر أعلم وأفضل من المعلم.
ولا نسلم أيضا أن الملائكة أعلم من البشر في معرفة الأشياء وخواصها، بدليل استفادتهم علوم الأسماء من آدم (عليه السلام)، كما في قوله تعالى:
يآءادم أنبئهم بأسمآئهم
[البقرة:33].
ثم إن سلمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب، لأن مبناه على الإخلاص في العمل، ولا نسلم أن إخلاص الملائكة أكثر.
أقول: إنكار أن يكون زيادة العلم المتعلق بأحوال المبدإ والمعاد، مقتضية لزيادة الشرف والثواب مكابرة صرفة، فإن هذا النحو من العلم اينما تحقق فهو عين الشرف والثواب، وكان الإخلاص من لوازمه الضرورية، فلا حاجة إلى التقييد بها. والأولى في الجواب الاكتفاء بمنع كون الملائكة أكثر علما، فيما يتعلق بأحوال المبدإ والمعاد من الأنبياء (عليهم السلام).
التاسع عشر: قوله تعالى:
ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم
[الأنبياء:29]. دلت الآية على أنهم بلغوا في الرتبة إلى حد أنهم لو خالفوا أمر الله لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية - لا بشيء آخر من متابعة الشهوات - وذلك يدل على نهاية جلالتهم.
وأجيب: بأن علو درجتهم في القوة والجلالة، والتبري عن آفات الشهوة مسلم، لكن الخلاف معكم في كثرة الثواب.
العشرون: قول النبي (صلى الله عليه وآله) رواية عن الله تعالى:
" وإذا ذكرني عبد في ملإ ذكرته في ملإ خير من ملئه "
وهذا يدل على أن الملائكة العلوية أشرف.
وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: إنه خبر واحد لا يعول عليه في الأصول.
وثانيهما: إن هذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملإ البشر، وملأ البشر ومحتشدهم عبارة عن مجمع العوام - لا الأنبياء - فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من عوام البشر كونهم أفضل من الأنبياء (عليهم السلام).
أقول: هذا الخبر وإن كان آحاديا، إلا أنه مع انضمام سائر الأخبار والآيات يؤثر تأثيرا عظيما في كون الملك أفضل من البشر.
وأيضا مؤيد بما ذكره الشيخ محيي الدين الأعرابي في الفتوحات، وهو عندنا من أهل المكاشفة:
" إني سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك في الواقعة، فقال لي: إن الملائكة أفضل.
فقلت: يا رسول الله - فإن سئلت: " ما الدليل على ذلك؟ فما أقول؟
فأشار إلي: " أن علمتم أني أفضل الناس، وقد صح وثبت عندكم فهو صحيح أني قلت عن الله إنه قال: " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم " وكم ذاكر لله تعالى في ملإ أنا فيهم، فذكره الله تعالى في ملإ خير من ذلك الملإ الذي أنا فيهم ".
فما سررت بشيء سروري بهذه المسألة " - انتهى .
ويعلم من كلامه تفضيل آحاد الملائكة على آحاد الأنبياء، لا المجموع على المجموع فقط.
فهذا آخر الكلام في الدلائل النقلية في ترجيح الملك وما فيها وستسمع منا بيان التحقيق في هذه المسألة ورجحان جانب الأنبياء (عليهم السلام)، على معنى لا ينافي أمثال هذه الأخبار والآيات المذكورة.
فصل
في حجة القائلين بفضل الأنبياء عليهم السلام على الملائكة
وهي من وجوه:
أحدها - وهو العمدة - إن الله أمر الملائكة بالسجدة لآدم (عليه السلام)، وثبت أنه لم يكن كالقبلة، بل كانت السجدة في الحقيقة له، وهي نهاية التواضع، وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدني مستقبح في العقول، فدل ذلك على أن آدم أفضل منهم.
وأجيب:
تارة بما قال بعض الناس - كما سبق - إن المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض.
وتارة - كما سبق أيضا - بأن السجود منهم وإن كان بذلك المعنى لكنه كان لله، لا لآدم. وكان آدم كالقبلة للسجود.
وتارة بأن السجود - وإن كان لآدم - لكن مع ذلك لا يدل على كونه أفضل وأشرف منهم، وذلك لأن الحكمة قد تقتضي ذلك كسرا من عجب الأشرف، وإظهارا لانقياده وطاعته، فإن للسلطان أن يعظم أقل عبيده ويأمر الأكابر بخدمته - إظهارا لكونهم مطيعين له في كل الأمور، منقادين له في جميع الأحوال، فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟
وتارة بما ذهب إليه أكثر المتكلمين من نفي الداعي، وسلب التعليل في فعل الله، وعدم الاعتراض عليه في خلق الكفر والضلالة في الإنسان. وتعذيبه أبد الآباد، فيجوز عليه تقديم المفضول وترجيح المرجوح، وعلى هذا الأصل يبنى كثير من قواعدهم، فليكن هذا من جملتها.
أقول: فيه ما مر مرارا.
وثانيها: إن آدم (عليه السلام) كان أعلم، والأعلم أفضل وقد مر بيانه.
وأجيب بعدم تسليم كونه أعلم منهم، غاية الأمر، أنه كان عالما بتلك اللغات، وهم ما علموها، ولعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء مع أنه عالما بها.
سلمنا أنه كان أعلم منهم ولكن لم لا يجوز أن يقال: إن طاعتهم أكثر إخلاصا من طاعة آدم (عليه السلام)، فلا جرم كان ثوابهم أكثر.
أقول: قد مر أن هذا القول منشؤه الجهل بمعنى الثواب، والمنزلة عند الله، فإن جميع الخيرات، والعبادات، إذا لم تؤثر في تنوير القلب، وإعداده لنور المعرفة بالله وآياته وأفعاله، فهي من تفاريع العبث، وشعب الرفث.
وثالثها: إن الله تعالى جعل آدم (عليه السلام) خليفة في الأرض، والمراد منه الولاية، لقوله تعالى:
يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق
[ص:26].
ومعلوم أن أعلى الناس منصبا عند الملك، من كان قائما مقامه في الولاية والتصرف، وخليفة له، فدل هذا على أن آدم أشرف الخلائق.
وهذا متأكد بقوله: وسخر لكم ما في البر والبحر، ثم أكد هذا التعميم بقوله:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة:29]. فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات.
فالدنيا خلقت متعة لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبر عليه، والجن رعيته، والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته، وبعضهم منزلين لرزقه، وبعضهم مستغفرين لزلاته. ثم إنه تعالى يقول مع هذه المناصب الرفيعة
ولدينا مزيد
[ق:35].
فإذا لا غاية لهذا الكمال والجلال.
وأجيب عنه: بأن آدم، إنما جعل خليفة في الأرض، فهذا يقتضي أن يكون أشرف ما في الأرض من الحيوان، والنبات، والجماد.
فإن قيل: فلم لم يجعل واحدا من الملائكة خليفة فيها؟
قلنا: لوجوه:
منها: أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة.
ومنها: أن الجنس إلى الجنس أميل.
ومنها: الملائكة في نهاية الطهارة، والعصمة، والبراءة عن النقائص، وهذا هو المراد من قوله تعالى:
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا
[الأنعام:9].
ورابعها: قوله تعالى:
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين
[آل عمران:33]. والعالم عبارة عن كل ما سواه كما تقدم من أنه مشتق من العلم، أو العلامة، فمعنى الآية: " إن الله اصطفاهم على كل المخلوقات " والملائكة من المخلوقات: فكانوا أفضل من الملائكة.
واعترض: بأنه منقوض بقوله:
يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
[البقرة:122]. فإنه يستلزم أن يكونوا أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله).
وأجيب عنه: بأن هذا الخطاب كان قبل وجوده (صلى الله عليه وآله)، وجبرائيل كان موجودا حينئذ، فيلزم أن يكون قد اصطفاهم الله على الملائكة - دون محمد (صلى الله عليه وآله).
وأيضا هب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة، وأما هاهنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر، فوجب إمضاؤها على ظاهرها في العموم.
وخامسها: قوله تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء:107]. والملائكة من جملة العالمين، فكان (صلى الله عليه وآله) رحمة لهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
وأجيب: بأن كون محمد (صلى الله عليه وآله)رحمة لهم، لا يلزم منه أن يكون أفضل منهم، كما في قوله:
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتهآ
[الروم:50]. ولا يمتنع أن يكون رحمة لهم من وجه، وهم يكونون رحمة له من وجه.
وسادسها: إن عبادة البشر أشق، فوجب أن يكونوا أفضل.
بيان كون عباداتهم أشق لوجوه:
منها: كثرة الموانع لهم إلى الطاعات، وكثرة الدواعي والأشواق فيهم إلى المعاصي، والفعل مع المعارض القوي أشد منه بدون المعارض، والمبتلى بكثرة الدواعي والشهوات تكون الطاعة عليه أشق.
ومنها: إن شبهاتهم أكثر، والحجب بينهم وبين المعبود أكثر، فاحتاجوا إلى الاستدلال، والاجتهاد.
ومنها: إن الشيطان مسلط على البشر بالوسوسة، جار في عروقهم مجرى الدم، ولا سبيل له إلى وسوسة الملائكة، وذلك منشأ تفاوت عظيم في المشقة، وإذا ثبت ذلك، كانوا أكثر ثوابا من الملائكة، لقوله (صلى الله عليه وآله):
" أفضل العبادات أحمزها ".
وأجيب: بما مر من أن ملاك الأمر في باب العبادة ومعظمه الإخلاص، دون المشقة، لما نرى من كثرة المشقة في عبادات جهال المتصوفة، ونسمع من رياضات كفرة الهند، وبعض الملاحدة مع أنا نعلم يقينا أن منزلتهم خسيسة دنية.
وسابعها: إن الله تعالى خلق الملائكة عقولا، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الآدمي، وجمع فيه الأمرين، فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجة لا حد لها، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ، ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله - حتى صار يعمل بهواه دون عقله - فإنه يصير دون البهائم، فيجب أن يقال: إنه إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل شيئا إلا بمقتضى عقله، وبهداه - لا بمقتضى نفسه وهواه - وجب أن يكون فوق الملائكة، اعتبارا لأحد الطرفين بالآخر.
وأجيب: بأن هذا جمع بين الطرفين من غير جامع.
وثامنها: إن الملائكة حفظة، وبني آدم محفوظون. والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ، فيجب أن يكون بنو آدم أشرف من الملائكة.
والجواب: بالمنع من كلية هذه الدعوى، فإن الأمير الكبير قد يكون موكلا على المتهمين من الجند.
وتاسعها: ما روي أن جبرائيل (عليه السلام) أخذ بركاب محمد (صلى الله عليه وآله) حتى أركبه البراق ليلة المعراج، ولما وصل إلى بعض المقامات تخلف عنه جبرائيل وقال: " لو دنوت أنملة لاحترقت ".
وأجيب: بأنه خبر واحد.
وعاشرها: روي أنه (صلى الله عليه وآله) قال:
" إن لي وزيرين في السماء "
وأشار إلى جبرائيل وميكائيل.
وأجيب: بالمنع عن ثبوته وصحته.
فصل
في وجوه عقلية ذكرتها واعتمدت عليها الفلاسفة المتأخرون المتفقون على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية
وأكثر تلك الوجوه مما مر ذكرها في وجوه الصابئة، ونحن ذاكروها مع غيرها، والأجوبة المذكورة عنها، زيادة في الاستيضاح وتتميما للاستبصار بها وبما فيها.
فالأول: إنذ الملائكة بسيطة الذوات مبرأة عن الشرور والآفات، والبشر مركب من النفس والبدن، والنفس مركبة من القوى الكثيرة، والبدن مركب من الأجزاء، والأعضاء، والمركب معلول للبسيط، وأسباب العدم له أكثر، ولذلك كانت الفردانية من صفات الربوبية.
وعورض: بأن المستجمع للروحاني والجسماني أفضل.
والثاني: إن الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة والغضب اللذين هما منبع الفساد وسفك الدماء. والخالي من الشر مطلقا، أو البعيد عنه أفضل من المبتلى به.
الثالث: إنها بريئة عن طبيعة القوة والاستعداد، لأن كلما كان ممكنا لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها قد خرج إلى الفعل، والأنبياء ليسوا كذلك، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله):
" إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مأة مرة "
ولا خفاء أن ما بالفعل التام الذي خرجت كمالاتها من القوة إلى الفعل اشرف مما بالقوة.
الرابع: إن الروحانيات أبدية الوجود، مبرأة عن التغير والفناء، والنفوس البشرية ليست كذلك.
الخامس: إنها نورانية، علوية، لطيفة. والنفوس العنصرية ظلمانية، سفلية كثيفة. فأين أحدهما من الآخر.
السادس: الأرواح السماوية تفضل الأرضية بقوى العلم والعمل. أما العلم: فبالاتفاق على أن الأرواح السماوية يحيطون بالمغيبات، ولأن علومهم فطرية، كلية، تامة، وعلوم البشر بالضد من ذلك. وأما العمل؛ فلقوله تعالى:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء:20].
السابع: إن الروحانيت لها قوة على تقليب الأجسام، وقواهم ليس من القوى المزاجية حتى يعرضها الكلال واللغوب، وإنك ترى الخاصة اللطيفة من النبات في بدر نموها تفتق الحجر، وتشق الصخرة الصماء، وما ذلك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من الجواهر العلوية، فما ظنك بتلك الجواهر أنفسها.
والأرواح السفلية ليست كذلك، وما يحكى عن قوة الشياطين على الأمور الصعاب فممنوع. وإن سلم فالأرواح العلوية أقدر، لأنهم يصرفون قواهم في مناظم العالم السفلي، لا فيما هو شر له.
الثامن: إن الملائكة لهم اختيارات فائضة عن أنوار جلال الله، متوجهة إلى الخيرات، واختيارات البشر مترددة بين جهتي العلو والسفل، والخير والشر، وإنما يتوجه بإعانة الملك على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكا يسدده ويهديه.
التاسع: إن الأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب، والملائكة كالأرواح، فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان، وكما أن اختلاف أحوال الأفلاك مبادئ لحصول الاختلافات في هذا العالم، فيجب أن تكون أرواح العالم العلوي مستولية على أرواح العالم السفلي، بل تكون عللا ومبادئ لها، فهذه هي الآثار، وهناك المنابع والمعادن، فكيف يليق بالعقل ادعاء المساواة فضلا عن الزيادة؟!
العاشر: الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادنها، منها نزلت، فتوسخت بأوضار الجسمانيات، ثم تطهرت بالأخلاق الزكية، وصعدت إلى عالمها، ومصدر الشيء ومصعده أشرف. منه المبدأ، وإليه المنتهى.
الحادي عشر: أليست الأنبياء لا ينطقون إلا عن الوحي؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضائق، ويهدونهم إلى المصالح - كما في قصة لوط - وكيوم بدر وحنين، وكما في قصة نوح من نجر السفينة فمن اين لكم تفضيل الأنبياء، مع افتقارهم إلى الملائكة في كل الأمور؟
الثاني عشر: القسمة العقلية - بأن الأحياء إما خيرة محضة، وهم الملائكة أو شريرة محضة، وهم الشياطين.
أو خيرة من وجه شريرة من وجه، وهم البشر - تحكم بأفضلية الملك.
وكذا التقسيم بالناطق المائت، وهو الإنسان. والناطق غير المائت، وهو الملك. والمائت غير الناطق، وهي البهائم يرشد إلى أن الإنسان متوسطة الرتبة بين الكمال والنقصان. فالقول بأنه أفضل قلب القسمة العقلية ونزاع في ترتيب الوجود.
وأما الجواب عن هذه الوجوه من جانب القائلين بتفضيل الأنبياء - صلوات الله عليهم - على الملائكة (عليهم السلام).
فعورض:
الأول: بأن المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط. ولهذا جعل أبو البشر مسجودا للملائكة.
ورد الثاني: بأن الخدمة مع كثرة العلائق أدل على الإخلاص.
وأيضا من البين أن درجتهم حينما قالوا:
لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة:32]. أعلى منها حين قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة:30]. وما ذلك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة، وهذا في البشر أكثر. ولهذا قال (صلى الله عليه وآله) حاكيا عن ربه:
" أنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين ".
ورد الثالث: بأن بعض الأمور فيها لعلها بالقوة، ولهذا قيل: إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقلات من القوة إلى الفعل، كالتحريكات العارضة لأرواحنا، الحاملة لقوى الفكر والتخيل.
أقول: هذا المنع لا يجري في الملائكة المقربين، المسماة عندهم بالعقول المجردة، وإنذما يجري في النفوس الفلكية.
والرابع: بأنه لا قديم في الوجود إلا الله.
ولئن سلم أنها وإن كانت ممكنة الوجود، فهي واجبة الوجود بمبادئها عورض بما عليه كثير من المحققين من أن النفوس البشرية أيضا أزلية بمبادئها، وكانت كأظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم، إلا أن المبدأ الأول أمرها بالنزول إلى عالم الأجساد، وشبكات المواد، فلما تعلقت بها استحكم إلفها، فبعث من تلك الظلال أشرفها، وأكملها إلى هذا العالم، ليحتال في تخليص تلك الأرواح عن هذه الشبكات، وهذا هو المراد من " باب الحمامة المطوقة " من كتاب كليلة ودمنة.
والخامس: بأن الشرف ليس بالمادة، وإنما هو بالقرب من رب العالمين، والانقياد له.
والسادس: بأن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع، فلا يكون لذة الملائكة بالعلم والعمل كلذة البشر، لعروض الفترات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانية، والحجب الظلمانية، فهذه المزية في اللذة مما يختص بها البشر، ولذلك قالت الأطباء: إن الحرارة في حمى الدق اشد منها في حمى الغب، لكن الحرارة في الدق، لما دامت واستقرت بطل الشعور بها، فهذه اللذة لعلها ليست للملائكة لأجل الاستمرار، ولا لغير الإنسان لعدم الاستعداد، فكان الإنسان لها بالمرصاد.
وأجيب عن:
السابع: بأنه لا مانع من أن تتفق نفس ناطقة مستولية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف.
وعن الثامن: بما يحتمل أن يقال: فيكون إذن أعمالهم أشق، فيكون أجرهم وجزاؤهم أعظم.
وعن التاسع: بأن لا مؤثر في الوجود إلا الله عندنا.
أقول: القائلون بأن لا مؤثر إلا الله، إما الأشاعرة النافين للعلة والمعلول فلا معنى لهم، ومعهم للخوض في المعقولات أصلا، وإما جماعة من المحققين، القائلين بترتيب الوجود فهذا الجواب لا يضر، إذ المتقدم في باب الاستفاضة للوجود خير من المتأخر فيه.
وعن العاشر: بأن هذا مبني على عدم حشر الأجساد، وبعثها في المعاد، ودون ذلك خرط القتاد.
وعن الحادي عشر: بأن أول الفكر آخر العمل، ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليته.
وعن الثاني عشر: بأنه كلام اقناعي، وبما اعتمدوا عليه مرارا من أن الكلام في أكثرية الثواب.
فهذا تمام ما وجدناه من كلام الفريقين في هذا المقام، ولنشر إلى طرف مما هدانا إليه بفضله ربنا المفضل المنعام.
فصل
في تحقيق الحق في كيفية المفاضلة بين الملك والبشر
وبيانه متوقف على ذكر أصول:
الأول: إن أصول الموجودات هي الجواهر، دون الأعراض. وأصول الجواهر هي المجردات التي هي من عالم الأمر، دون الماديات والجسمانيات التي هي من عالم الخلق. وأصول المجردات هي العقول المسماة بالأرواح الكلية، دون النفوس، سواء كانت سماوية أو أرضية. وأصول الأرواح الروح الكلي الذي لا واسطة بينه وبين الحق.
فهذه أصول الموجودات، ولا موجود خارج عن هذه الأجناس، وما يتفرع عليها.
الأصل الثاني: إن كل ما هو أقرب في سلسلة العلية والمعلولية إلى واجب الوجود، فهو اشرف وأكرم، لأن فيض الوجود الفائض منه تعالى على كل موجود يصل إليه أولا، ثم يمر عنه إلى ما هو أبعد منه، فلا تصغ إلى قول من يقول: " إن الخسيس أكثر ثوابا من الشريف " بل إلى من يقول: " الخسيس يمكن أن ينتقل جوهره من الخسة إلى أن يصير أشرف من الشريف ".
الأصل الثالث: إن الإنسان وإن كان بحسب صورته البشرية نوعا واحدا من جملة أنواع الحيوانات، متفق الأشخاص في تمام حقيقتها النوعية، إلا أنه بحسب قوته النفسانية المصورة بالصورة الباطنية الأخروية، قابل لأن يصير أنواعا كثيرة لحقائق متخالفة، بعضها من جنس الملك، وبعضها من جنس الشيطان، وبعضها من جنس السبع، وبعضها من جنس البهيمة، وبعضها مما هو أسفل من البهيمة.
وبالجملة ما من نوع من أنواع الموجودات - من أعلاها إلى أدناها - إلا ويمكن أن ينقلب إليه بعض الأشخاص الإنسانية، كما قال تعالى:
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية
[البينة:6 - 7].
الأصل الرابع: إن الموجودات كما هي مترتبة في سلسلة النزول الايجادي الصدوري من الأعلى فالأعلى، إلى الأدنى فالأندنى - وهي المادة الجسمانية - كذلك مترتبة في سلسلة الصعود الاعدادي من الأدنى فالأدنى، إلى الأعلى فالأعلى.
ففي سلسلة الإبداع والافاضة، كل ما كان أقدم في الوجود فهو أشرف وأفضل، وفي سلسلة التكوين، والاعداد للغايات، كل ما هو آخر فهو أشرف، لأن الأكوان الابداعية لكمال وجودها متفضلة راشحة بالخير الدائم على ما دونها، والأكوان الحادثة متوجهة في الاستفاضة للخير عما فوقها، سالكة في طلب التمام والكمال إلى غاياتها.
وقد ثبت أن للأشياء الطبيعية غايات، ولا يخلو موجود ناقص إلا وقد أودع الله فيه قوة طبيعية محركة، أو شوقا جبليا يسلك به إلى طلب الكمال، وتوصله إلى الغاية والتمام. ولهذا جزم الحكماء الإلهيون بسريان نور العشق والشوق إليه تعالى في جميع الموجودات، ما من موجود إلا وهو عاشق له، أو مشتاق ساكن إليه أو سالك، والله الباقي وكل شيء هالك.
واعلم أن هذه القشور الكثيفة، وإن كانت خسيسة في الغاية، شبيهة بالعدم، لكن إعادة ترتيب الحدوث من هذه الحسيات الزائلة إلى العقليات الدائمة، ليس بأصعب على من له الخلق والأمر من ابتدائه بالسياق عن العقليات الدائمة إلى الحسيات الدائرة، وليس القشر المتكاثف - وإن تناهى في الاظلام والكثافة - بممتنع عن قبول الأثر عن الجوهر اللطيف.
بل الأرض وإن تمكنت بالاستفالة والاستقلال، واشتدت قوتها بمبالغ الانزال، فإنها بتأثير قوة الشمس فيها، وإشراقها عليها تستجلب اللطافة، وتصير مادة للغذاءات والأقوات ومنشأ لتوليد النبات.
ولو كان القشر المتكاثف ممتنعا عوده إلى اللطافة، أو مصيرة مادة لتوليد اللباب فيه، أو منه، لما كان في جوهره وطبيعته قوة قابلة منفعلة، بل لم يكن القشور من الحبوب المزروعة ليصير قوتا للحيوانات، ولم يكن الثفل الكدر من الأشياء المأكولة ليصير مادة النبات.
الأصل الخامس: إن الإنسان يختص من بين الموجودات، بأن له أن يتحرك وينقلب من أدنى الموجودات إلى أعلاها، ويسلك من بعضها إلى بعض، ويتبدل من طور إلى طور، وهو في الحركة إلى الكمال أبعد مسافة، وفي السلوك إلى المعاد والمرجع أعظم قوسا للرجوع، وإن ابتداء حركته أدنى وأخس من ابتداء حركة غيره، وانتهاء رجوعه أعلى وأرفع من انتهاء رجوع الكل.
فله أن يتصور أولا بصورة خسيسة أدنى من كل خسيس، ثم يأخذ في الاستحالة والإنابة والرجوع، ويتصور بصورة شريفة متعاقبة، حتى يصير أشرف الشرائف، وأحسن الحسنات، وأفضل الممكنات، وسبب ذلك ما نذكره الآن وهو هذا:
الأصل السادس: إعلم أن منشأ انتقال الموجود من وجود أدنى إلى وجود أعلى، انتقالا بحسب انتقال الطباع والغريزة، إنما هو ضعف الصورة، ونقص المادة وعناية الفاعل.
وقد مر أن جميع الموجودات كلها طالبة للكمال، والذي يسكنها عن طلب كمال أعلى ويوقفها عنه، تأكد ما لها من الكمال بالفعل، فإن غلبة ما بالفعل مما يبطل الاستعداد لأجل الذي هو بالقوة.
أو لا ترى أن أجرام كواكب الأفلاك لتمامية صورتها لا يصير مادة لصورة أصلا، ولا عنصرا لمركب سماوي أو أرضي، ولا أجساد السبع الشداد مما يقبل الانصداع، والانفطار، ولا الانشقاق والافتراق إلا بعد انقضاء الدنيا وبوار العالم الأدنى، وحشر الخلائق، وانتقالها إلى النشأة الآخرة يوم طي السماوات، وانشقاق القمر، وانطماس نور الشمس وتكويرها، ونثر الكواكب وإظلامها وذلك يوم آخر ليس من أيام الدنيا.
ولا - أيضا - يصير واحد منها موضوعا لأعراض مختلفة متضادة، ولا لصفات متبدلة مستحيلة، إلا ما هو أضعف الأعراض من باب الوضع النسبي، فلها قوة قبول أضعف الأعراض المادية، لكون صورتها أقوى الصور الجرمية.
وإن أجرام العناصر لقصور صورتها الطبيعية، تصير مادة لصور هي أكمل من صورتها، وموضوعة لأعراض قارة، وكيفيات تشتد وتضعف، فيحصل من موادها صور معدنية، ونباتية، وحيوانية.
ونوع الإنسان من جملة أنواع الحيوانات، وإن كان متميزا عن الكائنات بصورة حيوانية. إلا أنها أضعف الصور الحيوانية، وأفراد البشر تكون ضعيفة الحيوانية في باب الحس والحركة، لا يمكنها الاكتفاء في الملابس بإهاب طبيعي يحفظه عن الحر والبرد، ولا في باب إصلاح المطاعم وإنضاجها بمطبخ طبيعي كالمعدة والكبد بل يحتاج في كل ذلك إلى معاون خارجي، وهذا لضعف قواه الحيوانية، كما قال تعالى:
وخلق الإنسان ضعيفا
[النساء:28].
وهذا الضعف هو منشأ الانتقال والارتحال من حاله الأدني إلى حال أعلى، وبهذا يستعد لأن ينتقل من مقام الحيوانية الحسية، إلى مقام الملكية العقلية، وأنت لو تأملت في أحوال الموجودات، لوجدت الجميع إما واقفة في مقاماتها التي لها، أو بطيئة في توجهها إلى نحو الغاية المطلوبة، والسالك السريع الحركة نحوها منحصر في بعض أفراد الناس.
أما الملائكة المقربون، فلا حاجة لهم إلى الاستكمال والحركة نحو الكمال، لأنهم دائمي القرب والوصول إلى معبودهم الأعلى - جل ذكره -.
وأما الملائكة السماوية، فلكل منهم مقام في العبودية الدائمة، لا باعث لهم في الخروج عما هم عليه، لدوام إشراقاتهم المتوالية، وقوة حالاتهم، ووفور ابتهاجاتهم ولذاتهم، كأحوال أهل الجنة في طبقاتهم، ومنازلهم، ومقاماتهم.
وأما الشياطين، فلقوة ناريتهم، ورسوخ أنانيتهم، وحب رياستهم، لم ينقادوا للعبودية والانكسار، ولم يتغيروا عما فطروا عليه من الاستكبار والافتخار.
ويقرب من حالهم أحوال الجن، وإن كان بعض منهم أخيارا مسلمين، إلا أنهم كلهم مخلوقون من النار، والنار أقوى العناصر وأبعدها عن قبول التأثير.
وأما الجمادات التي ليست واقعة في حدود المادة الإنسانية، فهي إما قوية الجمادية كالأحجار واليواقيت فلصلابتها لا تنقلب إلى غيرها. وإما أن تكون ملائم الجوهر لصورة أخرى، لكنها ما قبلت صورة صلبة فوقفت عندها، فهي صعب الانقلاب إلى غيرها، وكذا الحكم في سائر النباتات والحيوانات.
وأما الإنسان الذي خلق لبلوغ النهاية فهو أبدا في الحركة والرجوع والإنابة والسلوك، لكونه ما بين صرافة القوة، ومحوضة الفعلية.
والعجب أن الذين فضلوا الملائكة على الإنسان - كالصابئة وغيرهم - جعلوا اشتمال الإنسان على القوة والنقصان، منشأ انحطاط درجته عن درجة الملائكة، وهذه الصفة بعينها تصير منشأ لأن يتفضل عليهم، ويتجاوز عن مراتبهم.
الأصل السابع: إن كل ما يتعلق بالبدن سواء كان صورة، أو نفسا حيوانية، أو إنسانية، أو فلكية، بالقوة والاستعداد، محتاج إلى جوهر عاقل يكمله ويخرجه من القوة إلى الفعل، وكماله عبارة عن صيرورته عقلا، وعاقلا بالفعل، ومعقولا بالفعل، وكلما صار عقلا بالفعل يصير كل الموجودات.
لأن كل موجود من شأنه أن يعقل، فهو إما بتغير من جانب المعقول، كالصور المادية المعقولة بالقوة، المحتاجة في أن يصير معقولة بالفعل إلى مغير يغيرها، ومجرد يجردها وينتزعها من المادة. وإما بتغير من جانب العاقل إذا صار عاقلا بالقوة، فيحتاج إلى حركات فكرية يسافر من بعض الصور الخيالية إلى بعض، حتى ينتهي إلى العقول الصريحة، كالعقول القادسة وما فوقها.
فكل ما هو كامل بالفعل، لزمه أن لا يخلو عنه شيء من المعقولات، بل يجب أن يكون عقلا بسيطا هو صورة الكل في وحدة. ومثل هذا الموجود يجب أن يكون مكملا للنفوس.
ويجب أيضا أن لا يكون المتعلق بالبدن سببا قريبا لتكميل النفوس المستعدة، إلا على سبيل الاعداد والتعليم البشري، دون الافاضة والتكميل العقلي، كالمعلم من البشر إذا حاول التعليم، يعد نفس المتعلم لأن يقبل ما يلهمه المعلم العقلي الروحاني الذي هو عقل بالفعل، ويفيض عليه من عالم الغيب كماله الحقيقي.
ولو كان المتعلق بالبدن ما دام كذلك، سببا مفيضا على النفوس صورا عقلية لكان متساوي النسبة إلى الكل، وكيف يكون من تعلق ببدن خاص وتعمل بتوسط آلاته قواه، متساوي النسبة إلى جميع الخلائق أجمعين حاضرهم وغائبهم، أولهم وآخرهم.
نعم انتهاء النفوس الإنسانية يكون لا محالة إلى نفس شريفة هي أكملها، وأقبلها للفيض العلوي العقلي، ثم الإلهي؛ بحيث - وهي بعد في عالم البدن - قد صارت متجاوزة بحسب قوة انفعالها عن المبادئ بل عن البادئ، عن حدود النفوس إلى حدود العقول، بل إلى الطبقة العالية منهم - لا بما هي نفس، ولا حين ما هي في هذه الحياة الدنيا - بل من حيث المقام العقلي الذي ستنقلب إليه بعد الخروج عن زيارة هذه المقابر الحسية.
وبالجملة قد يكون من النفوس الإنسانية ما قد انقلب باطنها إلى رتبة العقول فصارت عقولا بالفعل، بمعنى أنها متى خرجت من قالب هذا الأدنى وصلت إلى مقامها الأعلى.
ومن هذه العقول الإنسانية ما هو أفضل الأفاضل، ومقامه أعلى المقامات العقلية، وقوته القدسية أشرف القوى القدسية، يكاد زيت قوته القدسية يضيء بنور ربها، ولو لم تمسسه نار العقل الفعال، فلما مسها صار نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء كما قال جل اسمه:
يأيها النبي إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
[الأحزاب:45 - 46].
الأصل الثامن: إن الموجودات الممكنة الصادرة عن الحق، لا بد وأن يقع منها سلسلتان: سلسلة البدو والصدور، وسلسلة العود والرجوع. ولا بد أن تكونا متكافئتين عكسا.
أما سلسلة البدو، فمما لا شبهة في تحققها، وحصولها على المبدإ على سنة الأمر والإبداع، لعدم الباعث على الامساك والتعطيل، واستحالة تحقق المضاد المدافع للجود، المانع عن الخير والافاضة، فيصدر منه الأشرف فالأشرف، فالترتيب المعنوي فيها، يقتضي أن يكون كل ما هو أقرب إلى عالم الصور، والقشور، والأجسام فهو أبعد من الحقيقة الأحدية، والهوية الصمدية، لأن تلك الحقيقة حقيقة الحقائق، ومعنى المعاني كلها.
فأول ما صدر منه، أو تجلى له، أو ظهر فيه - على اختلاف ا لاعتبارات والاصطلاحات - هي العين الواحدة المسمى عند بعضهم بالعقل الأول، المعبر عنه بالحقيقة المحمدية، والاسم الأعظم، والعقل الكلي، وعالم العقول.
ثم النفس الكلية، وعالم النفوس المجردة المدركة للحقائق الكلية بالذات - أي بنور العقل الكلي - وللجزئيات بالآلات - أي بأنوار الحواس - ثم النفس الخيالية المجردة عن الأجسام لا عن الأجرام. ثم النفس المنطبعة المدركة للجزئيات بذاتها المثالية. ثم قواها المنطبعة. ثم النفوس النباتية من حيث حقائقها ونوعياتها الطبيعية، ثم الجواهر المعدنية، من تلك الحيثية. ثم الصور العنصرية. ثم الهيولى التي هي أخس الجواهر وأدونها، ومنها يتصاعد الوجود بعد تنزلها الأقصى.
وأما سلسلة العود والرجوع إلى الكمال بعد الهبوط إلى أنزل المنازل والأحوال فوجودها أيضا محقق لا شبهة فيه، بناء على ما ذكرنا مرارا من أن التوجه إلى الغايات في جبلة كل ناقص. وأن كل حادث من الحوادث، كما لا بد فيه من فاعل ومادة وصورة، كذا لا بد لصورته من غاية، والكلام في غايته كالكلام في نفسه، فلغايته غاية أخرى.
ولا تتسلسل الغايات الذاتية إلى غير النهاية، بل تنتهي إلى غاية لا غاية لها، ويجوز في الغايات العرضية التعاقب الغير المنقطع إلى غاية أخيرة عند جمهور الفلاسفة، كما يجوز ذلك عندهم في السوابق العرضية المسماة بالمعدات.
ولكن كلامنا في الغاية الذاتية التي وجد الشيء لأجلها، وهي التي تقدمت على المعلول في التصور العلمي، وتأخرت عنه في الوجود العيني، عندما يقع المعلول تحت الحركة والكون، إذا لم يكن التصور العلمي له عين وجوده العيني، وأما فيما ارتفع وجوده عن عالم الحركات والانفعالات، فالغاية له سابقة عليه علما، وعينا.
فالموجودات الصورية مما يجب أن تترتب ترتبا ذاتيا، رجوعيا غائيا على عكس الترتب الذاتي الابتدائي من الأدنى إلى الأعلى، فالوجود الذي يتصاعد في الشرف يظهر أولا في المعدن، ثم في الحيوان، ثم في الإنسان.
والصورة الإنسانية آخر المعاني الجسمانية، وأول المعاني الروحانية، كالبرزخ الجامع بين العالمين. وهي باب الله المؤتى منه إلى عالم القدس والرحمة. وهي آخر باب لسور حاجز بين النار والجنة، وبعد مرتبة الإنسان البشري مراتب كثيرة في الصعود حتى يبلغ الوجود إلى النهاية.
واعلم أن النفوس الإنسانية كما أنها تكون متفاوتة في النهاية، كذلك كانت متفاوتة في البداية، واختلافها من اختلاف معادنها الأصلية " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ". كما أخبر عنه سيد الأنبياء عليه وآله وعليهم السلام والصلاة، وقد خلق الله في كل نفس معنى مخصوصا، وقوة محركة مخصوصة يجرها إلى معدنها الأصلي، ولا يقف بها دونه. قال تعالى:
كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين
[الأنبياء:104]. وقال أيضا:
قد علم كل أناس مشربهم
[البقرة:60].
وحركات الجوارح آثار تلك المعاني المحركة التي أودعتها القدرة في النفوس، إتماما للحكمة، وإظهارا لكمال الرحمة، فالنفوس التي لا تكون بينها وبين الأول تعالى واسطة تنجذب إلى جنابه طبعا، كانجذاب إبرة من حديد إلى مغناطيس غير متناهي القوة. وقوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]. كناية عن هذا الجذب والانجذاب، كما أن قوله:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة:67]. كناية عن الطرد والدفع عن جناب القدس إلى جانب البعد.
وبالجملة نهاية كل واحد رجوعه إلى البداية، وإلى هذا المعنى أشار العارف الرباني صاحب منازل السائرين، عبد الله الأنصاري: " إلهي تلطفت لأوليائك فعرفوك، ولو تلطفت لأعدائك لما جحدوك ".
فحكم النفوس التي لم تكن بين مصدرها وبين الأول تعالى واسطة، أن يعرفوها ويصلوا إليها راجعين، راضين مرضيين. وأما النفوس التي بينها وبين الأول حجب العزة، ووسائط القدرة فتحشر إلى طبقات مختلفة المراتب في الصعود، والهبوط،
ولكل درجات مما عملوا
[الأنعام:132]. وربما صارت بعض النفوس أبخس مما كانت في أول الأمر، فيكون مرجعها إلى المهاوي النازلة، وليس هذا الموضع محل بيانه.
فإذا تمهدت هذه الأصول نقول: قد تبين وانكشف أن الإنسان يمكن أن يصير في آخر مقاماته أشرف من الملائكة، إذ كما أن للملائكة طبقات متفاوتة في الوجود النزولي وأشرفها طبقة الأرواح المهيمة التي هي باصطلاح الحكماء تسمى العقول الفعالة فكذلك للإنسان درجات متفاوتة في الصعود إلى الله، وأشرفها وأكملها درجة الأرواح النبوية هي التي أيضا عقول بالفعل، وعند القيام إلى الله تعالى تكون فعالة للعلوم العقلية، مكملة للنفوس، شفعاء للخلائق إلى الله تعالى.
وكما أن أول الأرواح العقلية من لا واسطة في الشرف بينه وبين الله، كذلك آخر الأرواح النبوية من لا واسطة بينه وبين الله، كما قال (صلى الله عليه وآله):
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
وهذا لا ينافي كون جبرائيل أو غيره من الملائكة معلما له في بعض الأحوال، لما علمت أن الإنسان ذو نشآت متفاوتة.
فجميع ما ذكروه من الدلائل الدالة على تفضيل الملائكة على البشر حق وصدق، ولا ينافي كونه أشرف منهم في آخر أمره، وحق المقام أن تقع المفاضلة بين الملك وبين آخر مقام الإنسان، وأن يعتبر مع كل صنف من الملك صنف من الناس الذين يكونون بإزائهم، ويقعون في عالمهم.
وكما أن الملائكة أنواع كثيرة بعضهم ملائكة العلوم، وبعضهم ملائكة الأعمال. وملائكة الأعمال بعضهم ملائكة الجنة والرحمة، وبعضهم ملائكة النار والعذاب كالزبانية ولكل منهم منازل ومراحل كثيرة فكذلك أصناف البشر بعضهم من أهل العلم والمعرفة والقرب، وبعضهم من أهل العمل. فمنهم مطيعين، وهم أصحاب الجنات. ومنهم عاصين، وهم أهل النار. والكفرة بإزاء أهل العلم مخلدة في الجحيم.
فإذا سئل عن التفاضل بين ملائكة الأعمال، وأصحاب الأعمال من البشر فالفضل للملك، لأنهم أقدر على الطاعات. وإذا سئل عن ملائكة العلوم وأهل الولاية والنبوة من البشر، فالفضل للأنبياء والأولياء (عليهم السلام) لكونهم جمعوا بين العلم والعمل، وكانوا متصفين بصفات الخلائق كلها، متخلقين بأخلاق الله، عارفين بجميع الأسماء، لأنهم كانوا أولا في عالم المحسوسات والجسمانيات، ثم في عالم المتخيلات والمثاليات ثم في عالم الحقائق والمعقولات.
فلهم الجامعية الكبرى ، فاستحقوا للخلافة الإلهية مدة في عالم الأرض لقوله:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة:30]. ثم في عالم السماء " لولاك لما خلقت الأفلاك ". ثم في عالم الأسماء، كاسم الله الأعظم الجامع لجميع الأسماء:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80]. وقوله (صلى الله عليه وآله):
" من أطاعني فقد أطاع الله ".
وبالجملة: الإنسان الكامل الواصل إلى مقام الملك، مساو معه في الشرف والقرب، لكنه أتم كمالا من الملك باعتبار جمعيته، واحتوائه على سائر المقامات، ومروره عليها.
وأما ما ذكره العلامة القاشاني - صاحب الاصطلاحات - من " أن الملائكة المقربين باعتبار ارتفاع الوسائط بينهم وبين الله، يكونون أشرف من الإنسان الكامل، وهو أكمل منهم باعتبار الجامعية " فليس بجيد، وذلك لما ثبت وتحقق عند المعتبرين من الحكماء المتألهين وانكشف لدى أذواق العرفاء المكاشفين، أن النفس الإنسانية إذا تجاوزت عن حد العقل الهيولاني، وما بالملكة، وما بالفعل تتحد بالعقل الفعال، وتصير هي هو بعينه في المقام الجمعي المسمى عندهم بالعقل البسيط الفعال للعقول التفصيلية النفسانية.
وهذا الاتحاد بين العقل الإنساني والعقل الفعال في المقام الجمعي العقلاني لا ينافي امتيازه عنه بالعادات النفسانية، والأخلاق والملكات الحسنة البشرية المكتسبة بواسطة تهذيب القوى، وتكميل الذوات، وتعديل الصفات.
ثم العجب أن العقل الفعال - مع كونه فاعلا مقدما مكملا للنفوس محييا لها بإذن الله بالحياة السرمدية - هو بعينه غاية أخيرة مترتبة على استكمالاتها، وثمرة حاصلة عن شجرة وجودها.
وهذا أمر عجيب غريب؛ لكنه حق لا مرية فيه لنا، وهو مما ساقنا إليه البرهان، وألهمنا به بفضل الله العظيم المنان.
فهذا ما حضرنا الآن في هذه المسألة، ولها زيادة تفصيل ذكرناها في تفسير آية النور، يظهر لمن أراد ذلك بالمراجعة إليه والله أعلم.
فصل
مسألة الجبر والتفويض في هذه الآية
استدل القاضي بهذه الآية على بطلان قول المجبرة من حيث أنها دالة على أن الشيطان كان قادرا على السجدة، ولم يسجد من غير عذر من وجوه:
أحدها: قوله: { أبى } فإن من لم يقدر على شيء لا يقال له: " أباه ".
والثاني قوله: { استكبر } ولا يقال لمن لم يقدر على الفعل: " أنه استكبر " بل: " لم يفعل ".
والثالث: قوله: { وكان من الكافرين } ولا يجوز إسناد الكفر إلى أحد من جهة أنه لم يفعل ما لم يقدر عليه.
والرابع: إن إباه، واستكباره، وكفره خلق من الله، فهو بأن يكون معذورا أولى من أن يكون مذموما.
ثم قال: " من اعتقد مذهبا يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة ".
وأجاب عنه صاحب التفسير الكبير بالمعارضة بقوله: " إن كان صدور ذلك الفعل عن قصد وداعية فمن أين حصل ذلك القصد؟ أوقع عن فاعل هو العبد أيضا بقصد آخر وهكذا فيتسلسل إلى لا نهاية، ويسد إثبات الصانع. وإن وقع عن فاعل هو الله فيعود عليك كل ما أوردته علينا وإن قلت: وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وداع فقد ترجح الممكن من غير مرجح، وهو سد باب إثبات الصانع.
وأيضا فإن كان ذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقا، والاتفاق لا يكون في وسعه واختياره، فكيف يؤمر به وينهى عنه؟ ".
ثم قال: " فيا أيها القاضي ما الفائدة بالتمسك بالأمر والنهي، وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد وهو " وقوع الأمر والنهي من الله على العبد ". مع أن مثل هذا البرهان القاطع القالع خلفك يستأصل عروق كلامك، ولو اجتمع الأولون والآخرون على هذا البرهان، لما تخلصوا إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح به وحينئذ يسند باب إثبات الصانع - أو بالتزام أن يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا ".
أقول: قد مر تحقيق هذا المقام مرارا على وجه لا يلزم عنه شيء من المفاسد، ولا ينافي أصلا من الأصول والمقاصد، فلا نعيد الكلام بذكره، إذ المستقيم السلوك المهتدي بالنور يكفيه أقل من ذلك، والغوي المنحرف المطيع للوهم لا ينتفع بالأكثر منه
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
فصل
الكفر والإيمان، والأقوال في كفر إبليس
وأما قوله: { وكان من الكافرين }. فمعناه: كان كافرا في الأصل متظاهرا بصورة الأعمال الحسنة، مترائيا بالطاعات الظاهرة في مجامع أهل الملكوت ، حتى أظهر الله ما كمن في باطنه على رؤوس الاشهاد من التمرد، والإباء، والعصيان، والجحود والانكار لأهل الله، والطغيان، والحسد، واللداد، والتكبر والعناد، كما هو دأب متابعيه من أهل النفاق، المغترين بلامع سراب الأعمال الظاهرة في ظلمات الهوى، وتيه الجهالة والردى.
واختلفت الفقهاء في قوله تعالى: { وكان من الكافرين }. على قولين:
أحدهما: إن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا، كافرا. واستدلوا في تقرير هذا القول بدليلين مر ذكرهما في المفاتيح.
أحدهما: ما نقل عن شارح الأناجيل الأربعة من شبهات إبليس السبعة، على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود.
والثاني: التمسك بقول أصحاب الموافاة، وعليه أكثر أصحابنا الإمامية من أن الجمع بين الكفر والإيمان في شخص واحد مستحيل - ولو في زمانين - وذلك لأن أحدهما يوجب استحقاق الثواب الدائم، والآخر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال، فكذا الجمع بين الاستحقاقين معا محال، فطريان كل منهما إما أن يكون مزيلا للآخر، أو كاشفا عن عدمه رأسا.
والأول باطل - لأن القول بالإحباط باطل - فبقي الثاني وهو المطلوب، فإذا فرض كون واحد مؤمنا، ثم ظهر منه الكفر بعد ذلك، علم أن المفروض محال، فإذا كانت الخاتمة لواحد على الكفر، علمنا أن الصادر منه أولا لم يكن إيمانا. فهكذا الحال في إبليس.
أقول: للباحث المتكلم أن يمنع أن مجرد الإيمان في أي وقت كان يوجب استحقاق الثواب الدائم، بل بشرط أن يكون مستمرا عليه إلى خاتمة العمر. وكذا له أن يمنع أن مجرد الكفر يوجب ما ذكره، إلا أن يكون استمراريا أو ارتداديا عن فطرة.
واعلم أنه يمكن تصحيح ما ذهبت إليه أصحاب الموافاة بوجه مناسب لمذهب الحكماء، وهو إن الإيمان الحقيقي ليس مجرد القول بالشهادتين، بل عبارة عن اعتقادات مخصوصة يقينية، وعلوم حقة برهانية، أو كشفية. وقد ثبت أن العلم الحاصل للنفس بالبرهان، ليس يمكن الزوال عنها، فكل من تحلت نفسه بالإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والرسل، والشهداء، فلا يمكن زوال إيمانه على التحقيق.
وكذا الكفر الحقيقي عند التحقيق، ليس عبارة عن عدم النطق بالإيمان، أو عدم الاعتقاد فقط، أو خطور صورة باطلة بالبال مقابلة لأصل من الأصول. بل عبارة عن اعتقاد الشرك مع الرسوخ فيه، والجحود لقول الحق وقول الرسول (صلى الله عليه وآله) وأئمة الدين (عليهم السلام). وإلا فمجرد الجهل البسيط بأصول اللإيمان، لا يوجب استحقاق العذاب الدائم، بل يوجبه الجهل المركب المشفوع بهيئة نفسانية، وملكة ظلمانية، يتأكد في النفس سدا بين يدي القلب، وغشاوة على البصيرة.
فإذا تقرر ما ذكرناه، ظهر لقول أصحاب الموافاة وجه صحيح، وصورة علمية يستحسنها ذوق أرباب التحقيق.
الثاني: إن إبليس كان مؤمنا، ثم طرأ عليه الكفر.
واعلم أن هذا القول مما يستكرهه العارف بآيات رحمة الله، وآثار لطفه وعنايته، ومما يسيء الظن برب العباد وحكمته، وإحكام صنعه، وإتقان فعله، فإن تجويز أن أحدا كان مؤمنا مخلصا لله في عبادته سنين متطاولة، وأحقابا كثيرة متمادية، ثم تغير حاله وانصرف قلبه عما كان مستمرا عليه، راسخا فيه في تلك السنين والأحقاب المتطاولة بأدنى شيء يستلزم أن لا يبقى لأحد اعتماد على اليقينيات، ولا اعتقاد بشيء من الأصول المثمرة للسعادات، فيكون كل أصل من الأصول اليقينية ممكن الزوال، جائز الاضمحلال، فيكون مدار الاعتقادات على الظن والتخمين، وبناء الأمور على البخت والاتفاق.
والحق
إن الله لا يضيع أجر المحسنين
[التوبة:120].
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
[إبراهيم:27].
ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الأحزاب:67].
واعلم أن الإيمان الحقيقي صورة في نفس المؤمن، أحكم وأتقن من صورة الشمس والقمر، وصورة سائر الأجرام الفلكية. بل لا نسبة في الإحكام بين صورة المؤمن، وصورة تلك الأجرام العظيمة، الراسخة، الشامخة، لأن صورتها زائلة منكسفة النور يوم القيامة، واهية يومئذ، وصورة المؤمن قائمة عند ربه، مشرقة، ضاحكة، مستبشرة أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تفسير قوله: { وكان } فمنهم من قال: كان في علم الله من الكافرين: أي كان الله عالما في الأزل أنه سيكفر. فصيغة " كان " باعتبار العلم، لا باعتبار المعلوم.
ومنهم من قال: إنه بعد مضي كفره صدق عليه أنه كان من الكافرين في ذلك الوقت، ومتى صدق المقيد، صدق المطلق؛ لأنه جزء المقيد، فصدق عليه أنه كان من الكافرين.
ومنهم من قال: المراد من " كان " معنى " صار " أي: صار بعد إبائه عن الإتيان بالسجدة لآدم من الكافرين.
فصل
إبليس أول من كفر
إن كلمة " من " في قوله: { من الكافرين } للتبعيض، فظاهر الكلام يدل على وجود قوم آخرين من الكافرين قبل إبليس في ذلك الوقت، ولهذا وقع الاختلاف في ذلك.
فمنهم من قال: بأنه وجد قبله جمع من الكافرين. ويؤيده ما روي عن أبي بريدة أنه قال " إن الله تعالى خلق خلقا من الملائكة، ثم قال لهم:
إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص:71 - 72] فقالوا: لا تفعل ذلك. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا ".
ومنهم من قال: معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك وهو قول الأصم.
ومنهم من قال: إن هذا من باب إضافة فرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية، وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية كما أن الحيوان الذي خلقه الله أولا يصدق عليه أنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة في خارج الذهن، بل بمعنى أنه واحد من أفراد هذه الحقيقة، أعم من أن تكون الأفراد محققة، أو مقدرة.
والحق عندنا: أن إبليس أول من كفر الله؛ وأول من سن كل كفر، وبدعة، ومعصية وقعت في العالم، أو ستقع إلى يوم القيامة، وهذا رأي الأكثرين.
ثم: إنه هل هو أكفر الكفرة، وأعند المنافقين، أم لا؟ فيه تأمل.
ثم على تقدير أنه أكفر الكفرة، هل هو أشد الكفار عذابا يوم الآخرة، أم لا؟ فيه أيضا موضع تأمل من ذي بصيرة.
هل العاصي كافر؟
واعلم أن المعصية عند أصحابنا الإمامية، وعند المعتزلة، والأشاعرة، لا توجب الكفر، وأما عند الخوارج: فكل معصية كفر، وهم تمسكوا بهذه الآية، قالوا: إن الله كفر إليس بتلك المعصية الواحدة، فدل على أن كل معصية كفر.
وهذا الاستدلال في غاية الضعف. إذ على تقدير أن يكون منشأ كفره تلك المعصية، لا يثبت به مطلوبهم؛ لأنه ربما كان لبعض المعاصي خصوصية لا توجد في غيره.
على أنا نقول: إنما لاستقباحه أمر الله إياه بالسجود لآدم، ولاستكباره، واعتقاده كونه محقا في ذلك التمرد لأنه أفضل منه - والأفضل لا يحسن أن يكون مأمورا بالتخضع للمفضول، والتوسل - واستبداده برأيه واستدلاله على ذلك بقوله:
أنا خير منه
[الأعراف:12] جوابا لقوله:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين
[ص:75]. وعمله بقياسه المغالطي - المختل الأصل والفرع - في مقابلة النص.
ثم على القول بأنه " كان كافرا من أول الأمر، منافقا حين اشتغاله بالعبادة " يكون هذا الاستدلال ساقطا رأسا.
واعلم أن من فوائد هذه الآية استقباح الاستكبار، وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر، وكونه علامة لظلمة كامنة في النفس، باعثة على الفرقة والأنانية.
والحث على الطاعة والائتمار - وإن لم يعلم سر الأمر - وترك الخوض في البحث.
وأن الأمر يكون للوجوب.
وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر، هو الكافر على الحقيقة - لأن علم الله بالأشياء هو عين حقائقها - لأن العبرة بالخواتيم، وإن كان بحكم الحال مؤمنا. وهو الموافاة المنسوبة إلى أصحابنا رضوان الله عليهم.
فصل
في أن المأمورين بسجدة آدم عليه السلام هل كانوا جميع الملائكة، أم بعضهم؟
فالأكثرون على الأول، واستدلوا بوجهين:
الأول: صيغة الجمع المحلى بلام التعريف تفيد العموم، سيما وقد قورنت بأبلغ تأكيد في قوله:
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
[الحجر:30].
والثاني: وجود الاستثناء من الجمع دال على أن ما عدا المستثنى كان داخلا في الحكم. وقوله: { إلا إبليس } دل على أن الملائكة كلهم سجدوا لآدم، فدل على أنهم كلهم كانوا مأمورين بالسجود.
ومن الناس من أنكر ذلك وقال: " المأمورون بالسجدة هم ملائكة الأرض " واستعظموا لأن يكون أكابر الملائكة مأمورين بسجدة آدم.
والمشهور من آراء الباحثين من الحكماء مثل هذا، لأن الملائكة السماوية - وهي الجواهر الروحانية المحركة للأجرام العالية عندهم - يستحيل على أصولهم أن تكون منقادة للنفوس الناطقة الأرضية، فلهذا ذهب أكثرهم إلى أن المراد من الملائكة المأمورين بسجدة آدم هي القوى البشرية، المطيعة للنفس الناطقة، الخادمة إياها طبعا.
أو يكون المراد منها النفس الحيوانية، والنباتية، المنقادة للإنسان حيث سخرها الله له بما أعطاه من قوة تسخيره إياها، وتصرفه فيها لمصالح معاشه، ومعاده، وإليه ذهب صاحب إخوان الصفا.
والحق إن المأمور بالسجود، والانقياد لآدم جميع الملائكة السماوية، والأرضية، كما دل عليه قوله تعالى:
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
[الحجر:30]. إلا أن الملائكة الأرضية في وقت ومقام، والملائكة السماوية في وقت ومقام آخر. فإن للإنسان درجات ومقامات بحسب سيره إلى الله.
فما دام كونه في مقام النفسية، وعدم عروجه إلى عالم القدس العقلي، فلا معنى لكون أكابر الملائكة - وهم المحركون للأجرام السماوية - مطيعة له، لأنهم إنما يطيعون أمر الله، وعالم الأمر، ويلتمسون الأنوار العقلية، ويتشوقون إلى الاتصال بالملإ الأعلى، وهم القاعدون في صوامع الجبروت، ومصاقع الربوبية، ومجامع الإلهية.
وأما إذا خرج عن مقام النفسية إلى مقام العقلية الصرفة، وخلص عن التلونات، والتغيرات إلى المرجع والمآب، واستقر في مقعد من مقاعد الأنس والرحمة، منخرطا في سلك المقربين المهيمين، فحينئذ يطيع له ملائكة السماء طاعتهم للملإ الأعلى؛ لأنه صار معهم في مقام الوحدة الجمعية، والسعادة الكبرى، والبهجة العظمى التي يكل اللسان عن وصفها، وتضيق الأسماع والأذهان عن سمعها وفهمها.
وأما الملائكة المهيمون - وهم الذين لا تعلق لهم بعالم الأجسام لاستغراقهم بمشاهدة جمال الأحدية - فظاهر أنهم خارجون عن أمر السجدة لغير الله، والانقياد لما سواه، ولا يشكل هذا بعموم قوله
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
[الحجر:30]. لأن إطلاق الملائكة بناء على أنه مشتق من " الألوكة " بمعنى الرسالة - كما مر - إنما شاع على من له رسالة من الله إلى خلقه، والأرواح المهيمة مقامهم فوق ذلك. والدليل على ذلك قوله تعالى:
أستكبرت أم كنت من العالين
[ص:75]. أي الملائكة المرتفعين عن الالتفات لهذا العالم مطلقا - والله أعلم بأسرار خلقه، وآثار أمره.
[2.35]
[مقامات الإنسان]
إعلم أن للإنسان الكامل درجات، ومقامات، في بدايات أحواله، ومبادئ وجوده؛ كما أن له درجات، ومقامات في نهايات أموره، وعوائد بقائه.
فأول مقاماته في البداية، كونه مقدرا في علم الله، وفيضه الأقدس، أن يكون خليفة لله في الأرض؛ وهو مقام عينه الثابت الذي قيل: " إنه غير مجعول ". وهو مقام أخذ الميثاق.
ثم مقام مسجوديته للملائكة؛ وذلك في جنة الأرواح وعالم القدس، وفيه صور الأسماء الإلهية كلها.
والمقام الثالث: هو أول تعلق روحه بالبدن في عالم السماء، بعد عالم الأسماء بواسطة لطيفة حيوانية متوسطة بين الروح العقلاني وهذا البدن الكثيف الظلماني. والإنسان بواسطة تلك اللطيفة الحيوانية التي تكون على صورته في عالم الأشباح له أن يدخل دار الحيوان وجنة الأبدان، فقوله تعالى: { ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة } إشارة إلى هذا المقام.
والمقام الرابع: هو مرتبة هبوطه إلى عالم الأرض، وتعلقه بهذا البدن الكثيف الظلماني، المركب من الأضداد، المنشأ للعداوة والفساد، والحسد والعناد، المحجوب عن عالم المعاد، وهذا غاية النزول عن الفطرة الأصلية.
ثم يقع بعد ذلك الرجوع إلى الفطرة، والعود إلى المبدإ بالسير الرجوعي على عكس السير النزولي، بالخلاص عن هذه القيود، والتبري عن هذا الوجود، ورد الأمانات إلى أهلها، والخروج عن كل حول وقوة إلى حول الله وقوته، ففي هذا لرجوع أيضا مقامات ودرجات، كما هو مذكور في أحوال الآخرة.
جنة آدم أهي الجنة الموعودة، أم غيرها؟
واختلفوا في أن الجنة التي خرج منها آدم وزوجته، بعينها الجنة الموعودة، ودار الثواب، وجنة الخلد؟ أم هي جنة أخرى غيرها؟
قال بعض العرفاء: الجنة التي تكون الأرواح فيها بعد المفارقة من النشأة الدنياوية، غير التي بين الأرواح المجردة وبين الأجسام، لأن تنزلات الوجود ومعارجه دورية. والمرتبة التي قبل النشأة الدنياوية، هي من مراتب التنزلات ولها الأولية، والتي بعدها من مراتب المعارج ولها الأقربية.
وأيضا الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير، إنما هي صور الأعمال، ونتيجة الأفعال السابقة في النشأة الدنياوية بخلاف صور الجنة الأولى ، فلا يكون كل منهما عين الآخر. لكنهما تشتركان في كونهما عالما حيوانيا، وجوهرا نورانيا غير متعلق الوجود بالمادة الظلمانية، مشتملا على أمثلة ما في العالم.
وقد صرح صاحب الفتوحات المكية في الباب الحادي والعشرين وثلاثمأة من كتابه، بأن هذا البرزخ غير الأول. ويسمى الأول بالغيب الإمكاني. والثاني بالغيب المحالي. لإمكان ظهور ما في الأول في الشهادة، وامتناع رجوع ما في الثاني إليها، إلا في الآخرة.
" وقليل من يكاشفه بخلاف الأول. ولذلك يشاهد كبراؤنا، ويكاشف البرزخ الأول، فيعلم ما يريد أن يقع في العالم الدنيوي من الحوادث، ولا يقدر على مكاشفة أحوال الموتى " انتهى.
واحتجوا على المغايرة بينهما أيضا بوجوه:
أحدها: إن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب، لكانت جنة الخلد، وكان من دخلها لم يخرج منها، لقوله تعالى:
وما هم منها بمخرجين
[الحجر:48]. وقد خرج آدم وزوجته منها، فليست هي بجنة الخلد.
أقول: هذا ضعيف؛ لأن ذلك إنما يكون إذا استقر أهل الجنة فيها للجزاء، والثواب، والوصول إلى الغاية والنهاية، فأما قبل ذلك فإن كل شيء هالك إلا وجهه.
الثاني: إن آدم لو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله:
هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى
[طه:120]. ولما سمع قوله:
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
[الأعراف:20].
أقول: استحالة ذلك في بداية الأمر وقبل خروج النفس من القوة إلى الفعل ممنوع، فإن الإنسان ما لم يقع في دار التكليف والابتلاء، فهو بعد سريع القبول للوقائع.
الثالث: إن إبليس لما امتنع من السجود لعن، فما كان يقدر مع غضب الله عليه على أن يصل إلى جنة الخلد.
أقول: كما استحال عقلا أن يدخل إبليس بعد طرده ولعنه جنة الآخرة، كذلك استحال دخوله في الجنة السابقة، إلا أن العلماء ذكروا كيفية دخوله على سبيل الاختلاس، والاجتياز في أوقات قليلة نادرة، كسارق يريد أن يدخل دار السلاطين، ويختطف منها شيئا، ولذا قالوا: ويجوز أن يكون وسوسة إبليس من خارج الجنة من حيث يستمعان كلامه.
الرابع: إن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها، لقوله تعالى:
أكلها دآئم
[الرعد:35]. وقوله:
عطآء غير مجذوذ
[هود:108]. أي غير مقطوع فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم فلم يخرج منها آدم وزوجته لكنهما قد خرجا منها.
أقول: هذا كالوجه الأول ويرد عليه شبه ما مر، والتحقيق الذي عليه التعويل، أن الدارين واحدة بالذات، متغايرة بالاعتبار، وكذا جميع بدايات المقامات، بالقياس إلى نظائرها من النهايات، فعليه يحمل أقوال أهل المعرفة واختلافهم.
وأما أهل النكرة والحجاب، فمنهم من قال: إن هذه الجنة التي خرج منها آدم كانت في الأرض - لا في السماء - وهو قول أبي القاسم البلخي، وأبو مسلم الاصفهاني، وبه قال بعض أصحابنا، فحملوا الاهباط على الانتقال من بقعة، إلى بقعة كما في قوله:
اهبطوا مصرا
[البقرة:61].
وربما عين وقيل: " إنه بستان كان بأرض فلسطين. أو بين فارس وكرمان واستدل على ذلك بأنه لا نزاع في أن الله خلق آدم (عليه السلام) في الأرض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدل على أن ذلك لم يحصل وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله: { اسكن أنت وزوجك الجنة } ليس في غير الدنيا.
ومنهم من قال: إن تلك الجنة كانت في السماء السابعة. والدليل عليه قوله { اهبطوا } وهو قول الجبائي. قالوا: " إن الاهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى. والاهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض ".
ومنهم من قال: إن هذه الجنة هي دار الثواب، بدليل أن الألف واللام في لفظ - الجنة - لا يفيدان العموم، لأن سكون جميع الجنان محال. فلا بد من صرفهما إلى المعهود السابق إلى الفهم. والجنة التي هي المعهود المعلوم بين المسلمين هي دار الثواب، فوجب صرف اللفظ إليها وهو قول المفسرين، والحسن البصري، وعمرو بن عبيدة، وواصل بن عطاء وكثير من المعتزلة ، وأصحاب أبي الحسن الأشعري. وهو المختار عند الإمام الرازي في تفسيره الكبير.
ومنهم من قال: إن الكل: ممكن، والأدلة النقلية ضعيفة، ومع ضعفها متعارضة فوجب التوقف، وترك القطع.
فصل
في تعيين الوقت الذي خلقت فيه زوجة آدم (ع)
لا شبهة لأحد في أن ذلك كان بعد أن كرمه الله تعالى بكرامة تعليم الأسماء، وأمر الكل بالسجود له تعظيما، وسجدة الملائكة له انقيادا وتسليما، وإباء إبليس عنه عنادا واستكبارا، وعتوا، وافتخارا، وصيرورته ملعونا طريدا مريدا، وقبل هبوطه إلى الأرض، لقوله: { اسكن أنت وزوجك الجنة }.
فالثابت المحقق هو أن خلقتها كان في مقام الجنة، وهو ميلاد النفوس عند نزوله عن عالم القدس العقلي إلى النشأة النفسانية.
ويؤيد ما ذكرناه ما رواه السدي، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة: إن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة، وأسكنها آدم بقي فيها وحده، ما كان معه من يستأنس به، فخلقت حواء ليسكن إليها.
وروي: أن الله تعالى ألقى عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، ووضع مكانه لحما، وخلق حواء منه، فلما استيقظ وجد عنده رأسه امرأة قاعدة، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. فقالت الملائكة: ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي.
فعندها قال الله تعالى: { اسكن أنت وزوجك الجنة }.
وعن ابن عباس - أيضا - قال: " بعث الله جندا من الملائكة، فحملوا آدم وحواء (عليهما السلام) على سرير من ذهب، كما يحمل الملوك، ولباسهما النور، وعلى كل واحد منهما إكليل من ذهب، مكلل بالياقوت واللؤلؤ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى أدخلا الجنة ".
فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل ادخال الجنة، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة.
ثم من الأخبار ما يدل على أنهما جميعا خلقا في الأرض. ففي كتاب النبوة " إن الله تعالى خلق آدم من الطين، وحواء من آدم.
فهمة الرجال الماء والطين، وهمة النساء الرجال ".
ووجه التوفيق بين الكل معلوم عند أهل الهداية والمعرفة.
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد من الزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة، وفي سائر القرآن ما يدل على ذلك، فإنها مخلوقة منه.
ففي سورة النساء:
خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها
[النساء:1]. وفي الأعراف:
وجعل منها زوجها ليسكن إليها
[الأعراف:189].
وروى الحسن عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن المرأة خلقت من ضلع الرجل، فإن أردت تقويمها كسرتها، وإن تركت انتفعت بها واستقامت ".
واعلم أن كل شهادة مطابق لغيب، وكما المرأة هاهنا مخلوقة من الضلع الأيسر للرجل، أو من بقية مادة منوية فضلية حصلت هناك منه، فكذلك في عالم الأرواح حصلت النفس وهي جوهرة انفعالية من الجنبة السافلة للعقل، وهو جوهر فعال بالفعل، مخرج للنفس من القوة إلى الفعل.
وكما أن الرجل إذا تفرد هاهنا بذاته عمن يسكن إليها من زوجته يتوحش، ويضطرب، حاله في الخلوة والوحدة عناية من الله لتكثير النوع بحصول الأفراد، كذلك العقل إذا لم يتوجه إلى تربية النفس، والسكون إليها، وأراد التفرد بذاته عن فعله يلزم عليه التعطيل، ويلحقه الاضطراب في قرب نهار الأحدية الإلهية قبل أوانه، كما يلحق أبصار الخفافيش من نور الشمس عند رفع حجاب الليل، ويعتريه الذوبان تحت سطوع النور الإلهي الواجبي، كذوبان الجليد عند طلوع الشمس عليه من غير حجاب.
فهذا نكاح معنوي وقع بين العقل والنفس، والعاقد بينهما هو الله، وهكذا جرى الازدواج بين كل قوة فاعلة ومادة منفعلة كما بين الطبايع والصور الجسمانية وبين موادها القابلة بحكم النكاح الأول، الساري في جميع الذراري، ومن هذا قيل: " كل ممكن زوج تركيبي ".
وذكر الشيخ الجليل محمد بن علي بن بابويه القمي - رحمهما الله - في الفقيه رواية عن زرارة بن أعين، أنه قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن خلق حواء، وقيل له: إن أناسا عندنا يقولون: " إن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى ".
فقال: " سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا من يقول هذا؟! إن الله تبارك وتعالى لم يكن له القدرة أن يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه؟ ويجعل للمتكلم من أهل التشنيع سبيلا إلى الكلام أن يقول: " إن آدم كان ينكح بعضه بعضا " إذا كانت من ضلعه؟! ما لهؤلاء! حكم الله بيننا وبينهم ".
ثم قال (عليه السلام): إن الله تعالى لما خلق آدم من طين، وأمر الملائكة فسجدوا له ألقى عليه السبات. ثم ابتدع له حواء، فجعلها في موضع النقرة التي بين وركيه.
- وذلك لكي تكون المرأة تبعا للرجل - فأقبلت تتحرك، فانتبه لتحركها فلما انتبه نوديت أن تنحي عنه، فلما نظر إليها نظر إلى خلق حسن يشبه صورته. فكلمته بلغته " - في حديث طويل في آخره -.
" والخبر الذي روي أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر صحيح، ومعناه من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر. فلذلك صارت أضلاع الرجال أنقص من أضلاع النساء ".
فصل
قوله تعالى: { وقلنا }
قال بعض المفسرين: هذه نون الكبرياء والعظمة لا نون الجمع.
وأقول: كأنه إشارة إلى الجمعية الإلهية، المحتوية بحسب الأسماء والصفات على جميع العقول والذوات.
و " السكنى " من السكون. لأنها نوع من اللبث والاستقرار.
و { أنت } تأكيد للمستكن في " اسكن " ليصح العطف عليه.
و { زوجك } معطوف على موضع أنت. ولو عطف على الضمير المستكن لكان يشبه في الظاهر عطف الاسم على الفعل، فأتى بالمنفصل وعطف عليه.
و { رغدا } منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: " أكلا رغدا " أي: واسعا كثيرا. ويجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال من قوله: { كلا } ويقال: قوم رغد، ونساء رغد، وعيش رغد. فعلى هذا يكون تقديره: " وكلا منها متوسعين في العيش ".
و { حيث } يبنى على الضم كما تبنى الغايات: لأنه منع عن الإضافة إلى مفرد كما منعت هي من الإضافة، فما يأتي بعده جملة اسمية أو فعلية في تقدير المضاف إليه. وهو للمكان المبهم، أي: " أي مكان شئتما من الجنة " على وجه التوسعة البالغة، من جهة أنه لم يحظر عليهما بعض الأكل، ولا بعض المواضع، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة من أشجارها الكثيرة الفائتة للحصر.
والنكتة في عطف قوله: { كلا } على قوله: { اسكن } بالواو هاهنا، وبالفاء في الأعراف هي أن الفاء للسببية، والواو للجمعية، فكلما كان المعطوف عليه شرطا للمعطوف عطف بالفاء، وإن لم يكن شرطا عطف بالواو.
ثم قول القائل: " أسكن " قد يكون بمعنى " أدخل " وقد يكون بمعنى " إلزم مكانك الذي دخلته " والأكل مشروط بالأول - دون الثاني - فإذا أريد منه المعنى الأول ينبغي العطف للأكل عليه بالفاء كما في قوله:
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا
[البقرة:52]. إذ الأكل في موضع مشروط بالدخول فيه.
وإذا أريد منه المعنى الثاني، فينبغي العطف عليه بالواو المفيد للجمعية فقد - دون الترتيب - إذ الأكل في موضع غير مشروط بالدوام فيه، فبحسب اختلاف الاعتبارين اختلفت الكلمة العاطفة في السورتين والله أعلم.
فصل
اختلف المفسرون في هذا الأمر. فقيل: إنه أمر تعبد. وقيل: هو إباحة، لأنه ليس فيه مشقة، وما لا مشقة فيه فلا تكليف به.
وأما قوله: { وكلا } فهو إباحة بالاتفاق. وكذا { ولا تقربا } تعبد بالاتفاق. وهو مجزوم بالنهي، والألف ضمير الفاعلين.
وقوله: { فتكونا } يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون جوابا للنهي، فيكون منصوبا بإضمار " أن " وأن مع الفعل في تأويل المفرد، فيكون عطفا على المصدر والتقدير: " لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين " فالكلام حينئذ جملة واحدة، لكون المعطوف من جملة المعطوف عليه. وإنما سمي جوابا لمشابهة الجزاء بحسب المعنى، أي: إن تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين.
والثاني: أن يكون معطوفا على النهي، فيكون مجزوما. فالفاء عاطفة جملة على جملة فكأنه قال: " فلا تكونا من الظالمين ".
ومعنى { ولا تقربا هذه الشجرة }: لا تأكلا منها. وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) وحاصله: لا تقرباها بالأكل. ولهذا إنما وقعت المخالفة بالأكل بلا خلاف - لا بالدنو منها - ولهذا قال:
فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما
[طه:121].
واختلف في هذا النهي، فقيل: " إنه نهي التحريم. وقيل: نهي التنزيه، دون التحريم. كمن يقول لغيره: " لا تجلس على الطريق " وهو مذهب أصحابنا ، وموافق لأصولنا العقلية كما سيجيء بيانه.
فعندهم أن آدم (عليه السلام) كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة، فكان بالتناول منها تاركا نفلا وفضلا. ولم يكن آتيا بقبيح، وفاعلا لمحرم، لأن الأنبياء لا يجوز عليهم القبائح صغيرها وكبيرها.
وقالت المعتزلة: كان ذلك صغيرة من آدم (عليه السلام) على اختلاف بينهم في أنه وقع منه على سبيل العمد، أو السهو، أو التأويل.
واستدل صاحب مجمع البيان على امتناع مواقعة المعصية على الأنبياء (عليهم السلام) بأن الفعل القبيح ما يستحق فاعله الذم والعقاب، والمعاصي كلها كبائر عندنا، وإنما تسمى صغيرة باضافتها إلى ماهو أكبر عقابا منها؛ لأن الاحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه، وإذا بطل ذلك فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، وإذا كان الذم والعقاب منفيين عن الأنبياء، وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب.
ولأنه لو جاز عليهم لنفر عن قبول قولهم. والمراد بالتنفير أن النفس إلى قبول قول من لا يجوز عليه شيء من المعاصي أسكن منها إلى من يجوز عليه ذلك، ولا يجوز عليهم كل ما يكون منفرا عنهم من الخلق المشوهة، والهيئات المستكرهة.
وإذا صح ما ذكر علمنا أن مخالفة آدم (عليه السلام) لظاهر النهي كان على الوجه الذي بيناه هذا كلامه وهو المذكور في الكتب الكلامية من قبل أصحابنا القائلين بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) مطلقا، وللبحث في بعض مقدماته مجال.
وإنما قلنا إنه موافق لأصولنا العقلية من جهة أنه قد صح عندنا أن للإنسان نشآت ثلاث بحسب البداية والنهاية: نشأة الروح، ونشأة النفس، ونشأة الطبيعة، وهذه دار التكليف والاختيار، ودار الابتلاء والاختبار.
ومورد الأمر والنهي التشريعيين، وعليهما مدار الطاعة والعصيان، والعصمة والخذلان، والشكر والكفران.
وأما قبل هذه النشأة فالأمر فيها أمر قضاء وتكوين. والنهي فيها نهي إشعار وتحريص، وليس فيها مجال القدرة للعبد والاختيار، ولا يسع له التدبير والحزم والاجتهاد، ولهذا قال بعض أصحاب القلوب، إن سبب النهي هناك هو الدلال الذي تقتضيه غاية الجمال ولو لم ينه عنها فلعله ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانية فذكرها كان كالتحريص عليها، فإن الإنسان حريص على ما منع.
واعلم أن كل ما في هذا العالم فهو في العالم الأعلى على وجه ألطف وأصفى، فالمعصية هاهنا هي مخالفة الأمر الشرعي، المنافية للعصمة الثابتة للأنبياء (عليهم السلام)، وأما في عالم الغيب، فهي عبارة عن النقيصة الإمكانية المتفاوتة كثرة وقلة في الممكنات بحسب مراتب درجاتها عند الله قربا وبعدا، فكلما كان القرب منه تعالى أكثر كان جهات الإمكان أقل، وكلما كان البعد منه أكثر تضاعف جهات النقائص والإمكانات أوفر. وبالعكس.
وبعض تراكم الإمكان على العقل يوجب نزوله في عالم النفس كالجنة ومنازلها، وغاية تضاعف الإمكان في النفس تودب تعلقها بعالم الأبدان العنصرية كما أن غاية المعصية - وهي الكفر - توجب خلود النفس في دار العذاب.
وأيضا التخاصم، والتباغض هاهنا من صفات الحيوانات، يجب تنزيه الملائكة العلوية عنه. ولكن ورد في القرآن أن الملأ الأعلى يختصمون، فيجب حمل الخصومة فيهم على معنى ألطف وأشرف مما في الحيوانات، وهو كاختلاف إشراقاتهم العقلية، وتباين تعيناتهم الوجودية. ومن هذا القبيل صفة التنازع المذكور لأهل الجنان في قوله تعالى:
يتنازعون فيها كأسا
[الطور:23].
الشجرة المنهية
ثم اختلف في الشجرة المنهي عنها. فعن ابن عباس: " هي السنبلة " ، وعن ابن مسعود والسدي: " هي الكرمة ". وعن ابن جريح: " التينة ".
وقيل: " هي شجرة الكافور ". وهو المروي عن علي (عليه السلام).
وقيل: " هي شجرة العلم علم الخير والشر " وعن ابن جدعان " هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة ".
وقال الربيع بن أنس: " كانت شجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث ".
ولكل منها وجه تأويل، والموافق للحكمة أن يكون فيها إشارة إلى شجرة الطبيعة المتشعبة أفنانها، المتفننة قواها وفروعها، وهي
شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين
[الصافات:64 - 65].
والحكمة تقتضي أن يخرج الإنسان أولا من الجنان بأكل هذه الشجرة، ويسقط من عالم الفطرة إلى عالم التركيب والطبيعة، ثم يأخذ منها زاد الآخرة، ويفطم نفسه عن طيبات الدنيا التي هي خبيثات الآخرة - فطام الصغير عن رضعة أمه - ليلحق بدار الكرامة التي خرج منها.
ومن لم يزهد في الدنيا ولم يفطم نفسه عن تناول الطبيعة ومشتهياتها، فلا نصيب له في الآخرة، ولا طعام له إلا من الحميم، والغسلين. ويكون غذاء أهل الجحيم في الدار الآخرة من غسالات الطبايع، وأكدارها، وأوزارها، كما ان غذاء أهل الجنة من الصفايا واللطائف، وغذاء أهل القرب منهم من المعارف الإلهية والعلوم الربانية.
تأييد استبصاري
في تأويل معصية آدم
إعلم أن للإنسان همة عالية، وحرص شديد بحسب الجبلة، فلا يزال تقول نار طبيعته وجهنم حرصه: " هل من مزيد ". ولا تمتلي حتى يضع الجبار قدمه فيها.
ثم إنه ابيح له ولزوجته مشتهيات النفس كلها، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وقيل لهما: " اقتنعا بها ولا توقدا نار الفتنة " وهي نار الطبيعة التي شأنها تحليل المواد والتصرف فيها، وقد كانت كامنة في النفس، ولم تخرج من الكمون إلى البروز. أو لا ترى أن الإنسان إذا أخذ في تناول المطعوم انبعثت من طبيعته حرارة طابخة ونضجت مادة الغذاء؟ فأصل النار من النفس، ثم من الطبيعة.
ولا تقربا شجرة الطبيعة السفلية إن كنتما طالبين للسلامة عن المصيبة والمحنة، فارغين عن حرقة المحبة، وإلا فتكونا من الظالمين على النفس بتوريطها في ورطات الهلاك التي قلت النجاة عنها، وإحراقها بنار المحبة والمحنة، وألم البعد والفرقة، وتعب السفر في الدنيا لربح الآخرة. وقد غرقت في بحارها طوائف كثيرة، انكسرت فيها سفائنهم ومراكبهم.
وحمل " الظلم " على هذا المعنى أوفق بالمحافظة على قاعدة عصمة الأنبياء (عليهم السلام) وكل مذهب أفضى إلى انحفاظ عصمتهم كان أولى. وذلك كما في قوله تعالى:
وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب:72]. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قال بعض أولي البصائر: إنه تعالى قد وسع على آدم (عليه السلام) أسباب الانبساط أولا، ثم ضيق عليه الأمر آخرا. وأنشد:
وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة في جواره، وزوجه حواء. حتى شاهد جمال الحق في مرآة وجهه، وأنبت شجرة المحبة بين يديه ثم منعه، وكان في ذلك المنع تحريص وتذكير أيضا. ثم عاتبه بقوله: { فتكونا من الظالمين }.
وهذا كما أسكر موسى (عليه السلام) بأقداح الكلام، وأذاقه لذة شراب السماع، وقربه نجيا، حتى اشتاق إلى جماله، وطمع في وصاله قبل أوانه، وقال: { رب أرني } فعاقبه بسطوة
لن تراني
[الأعراف:143].
وذلك أن الولاء والبلاء توأمان، والمحبة والمحنة رضيعا لبان، والمطلوب كلما كان أدفع كان أعز وأمنع، والجمال لا بد له من الدلال، وبه يتميز العاشق الصادق من المدعي المحتال، فلما ذاقا شجرة الغرام خرجا من دا ر السلام، فما لأهل السلام ودار الغرام، وأين الفارغ السالي من المحب الغالي.
وبالجملة فلما جاء القضاء ضاق الفضاء، فلم يمس بعد ما كان مسجود الملك، محسود السماك إلى السمك، مشمول الرعاية، موفور العناية، حتى نزعه لباس الأمن والفراغ، وبدل باستيناسه الاستيحاش، يدفعونه الملائكة بعنف، أن اخرج من غير مكث ولا بحث.
فأزلتهما يد التقدير بحسن العناية والتدبير، وكان الشيطان من جملة أسباب التقدير، فصار هدف سهام الطعن والطرد، فلما وقعا من القربة في الغربة، ومن الألفة في الكلفة استوحشا من كل شيء. وهكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب، فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة " انتهى كلامه.
ويمكن تطبيقه على القوانين البرهانية، وإن كان ظاهره كلمات خطابية.
فصل
إن الذين جوزوا الذنوب على الأنبياء (عليهم السلام)، حملوا النهي في قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة } كقوله:
ولا تقربوهن حتى يطهرن
[البقرة:222]. وقوله:
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن
[الأنعام:152]. وكما أن هذين للتحريم، فكذا الأول.
والثاني: قال تعالى: { فتكونا من الظالمين }. أي: إن أكلتما منها ظلمتما أنفسكما، ولذلك لما أكلا قال:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف:23].
الثالث: إن هذا النهي لو كان نهي تنزيه لما استحق آدم بفعله الاخراج من الجنة، ولما وجبت التوبة عليه.
والجواب عن الأول: إن النهي وإن كان في الأصل للتنزيه أو للقدر المشترك، لكنه قد يجعل للتحريم لدلالة منفصلة.
وعن الثاني: إن قوله: { فتكونا من الظالمين }. أي: فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه، لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنة - التي لا تظمآن فيها ولا تجوعان ولا تضحيان ولا تعريان - إلى موضع ليس لكما فيه شيء. من هذا.
وعن الثالث: إنا لا نسلم أن الاخراج من الجنة كان لهذا السبب، بل لحكمة سابقة وقعت الاشارة فيها وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
[2.36]
هذا هو آخر درجات النزول لآدم (عليه السلام) من عالم القدس، ودار الكرامة، وذلك أن آدم (عليه السلام) لما كان مستصلحا لعمارة الدارين، وأراد الله بحكمته الكاملة منه عمارة الدنيا كما أراد عمارة الآخرة والجنة، كونه من التراب تكوينا، وركبه تركيبا يناسب عالم الحكمة والشهادة، وهي هذه الدار الدنيا.
وما كانت عمارة الدنيا تأتي منه وهو غير مخلوق من أجزاء أرضية سفلية بحسب قانون الحكمة، فمن التراب كونه، وأربعين صباحا خمر طينته - كما ورد في الحديث القدسي - ليبعد بالتخمير أربعين صباحا أربعين حجابا من الحضرة الإلهية، كل حجاب هو معنى مودع فيه يصلح لعمارة الدنيا، ويتعوق به عن الحضرة الإلهية ومواطن القرب. إذ لو لم يخرج عنها ولم يتنزل إلى الدنيا لم يصلح لعمارة الدارين جميعا، ولخلافة الله في أرضه، ثم لأن يكون زينة للعالم الأعلى وملكا في الآخرة ملكا كبيرا.
فبالتبتل إلى طاعة الله، والرجوع إليه بالعلم والعمل، والاقبال عليه، والانتزاع عن التوجه إلى السفليات، يخرج كل وقت عن حجاب أمر مودع فيه عند التركيب، وعلى قدر زوال كل حجاب ينجذب إلى مقام نزل منه، ويتخذ منزلا في القرب من الحضرة الإلهية، التي هي مجمع الأنس ومنبع العلوم، ومصدر الحقائق.
فإذا تم السلوك والتبتل، وزالت الحجب، انصبت على القلب مياه العلوم والمعارف، كما في قوله (صلى الله عليه وآله):
" من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت من قلبه على لسانه ينابيع الحكمة "
فهذه الأربعين صباحا في التمحيص والتطهير في مقابلة تلك الأربعين صباحا في التخمير والتركيب.
ثم اعلم أن العلوم الحقيقية والمعارف هي بعينها أعيان صورية في عالم الحس والشهادة، انقلبت بإكسير نور العظمة الإلهية بها، كما أن هذه الصور أصولها أيضا أعيان علية، وصور مفارقة عند الله صارت متمثلة في هذا العالم بتقدير الله. فلكل غيب شهادة، ولكل ظاهر باطن. فنزولها وصعودها على وفق هبوط آدم (عليه السلام) وعروجه تكميلا للحكمة وإظهارا للقدرة.
فصل
قال بعض الحكماء في لمية إخراج النفوس من جنة الأرواح لجناية وقعت: إن النفوس الجزئية لما هبطت من العالم الذي كانت، وسقطت عن مراتبها العالية لجناية وقعت من أبيها وأمها، غرقت في بحر الهيولى وغاصت في قعر أمواج الأجسام وقيل لها:
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب
[المرسلات:30]. فتفرقت في هياكل الأجسام وتمزقت بعد وحدتها وجمعيتها؛ وتشتت شملها، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: { اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }.
وعرض لها عند ذلك من الأهوال، والدهش، والمصائب مثل ما عرض لقوم ركاب البحر لما اشتدت بهم الريح، واضطرب بهم البحر، وهاجت بهم الأمواج، وانكسرت منهم السفينة، وغرقوا في بحر الطبيعة، وغاصوا في ظلمات الماء، وتفرقوا في كل فج عميق من الجزائر والسواحل.
فكما أن أولئك القوم في الوقت الذي انكسرت منهم السفينة تراهم بين غائص، وطاف، أو متعلق بخشبة أو بحبل، أو راكب بعضهم كتف بعض، كل واحد يقول: " نفسي، نفسي " من شدة الأهوال، لا يفكر بغيره، ولم يرد النجاة إلا لنفسه، ولا همه سواه، ولا يفكر فيما كانت فيه فهكذا حال النفوس في هذا العالم وكونها مع هذه الأجساد. فمن هذه الأشياء نسيت النفوس عالمها ودارها الحيواني، ولا نذكر شيئا مما كانت فيه من أمر عالمها، ومعادها، كما قال تعالى:
وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون
[الصافات:13 - 14].
ثم قال: إن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، واستبصرت ذاتها، وعرفت جوهرها، وتحققت بغربتها في عالم الأجسام، وغرقها في بحر الهيولى، وأسرها بالشهوات الطبيعية، وعاينت عالمها، واستبان لها فضل نعيمها على هذه اللذات الكدرة الظلمانية وتنسمت بروح عالمها وريحانها؛ اشتاقت إلى هناك وملت الكون مع هذه الأجسام، وزهدت في نعيم الدنيا، وتمنت الموت لهذا الجسد، والخروج من ظلمته، فيكون مثلها مثل جماعة خرجوا من الحبوس والمطامير مع ضوء الصبح، فشاهدوا هذا العالم دفعة واحدة.
فأما النفس الغير المستبصرة فمثلها كمثل العميان سواء عندهم ضوء النهار وظلمة الليل.
وسئل بعض الحكماء العارفين: " إنا من أي موضع جئنا إلى هذا العالم؟ "
فقال في الجواب: " اعلم إنا جئنا إلى هذا العالم من ذلك العالم. وحد هذا العالم من فوق فلك البروج سدرة المنتهى، تحت الفلك المستقيم إلى هذه الأرض وحد ذلك العالم من فوق الفلك المستقيم إلى تحت مرتبة القلم الإلهي، وهو العقل الكلي. ومجيئنا من ذلك العالم إنما هو من الجنة، جنة الله التي هي حظيرة القدس التي بها قدس المقدسون، وتلك هي فوق ذلك العالم.
فأما هذا العالم فهو دار عمل، وذلك العالم دار حساب والجنة هي دار جزاء المحسنين.
واعلم إنا جئنا من جنة القدس إلى ذلك العالم، ومن ذلك العالم إلى هذا العالم، ومن هذا العالم نذهب إلى فلك البروج، ومن فلك البروج نذهب إلى ذلك العالم الذي هو موضع الحساب، ومن موضع الحساب يرجع من أحسن عمله إلى جنة الله، وبقي بقاء سرمديا، ويبقى من أساء عمله تحت ذل الطبيعة، ونار الجحيم في دار جهنم،
ما دامت السماوات والأرض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد
[هود:107].
واحتاجوا إلى العمل من غير إرادة منهم، ليصلوا إلى الصور الموافقة لأرواحهم في الجنة، وهم ينالون من تلك الصور التي في الطعام والشراب لذة، ويجدون سكونا إلى الدنيا تحت الطبع والطبيعة.
وكذلك يكونون في قيد الطبيعة، يدخلون كارهين من غير إرادة تحت قيد العقل الذي بذره العقل العملي الذي جاء به الرسل (عليهم السلام) مما يشهد به شرائعهم حتى تستأنس النفس، وتطمئن بتلك الصور العملية، والعقلية، وتجد بها قرارا ، لأن أصلها أيضا من جنة الله تعالى، وبتلك الاستفادة يضيء لها طريق الصراط وقت ذهابها إلى معادها، ويخف حسابها، وتثقل موازينها.
فقد تبين الآن أن البشر بتقدير الابتداء، ومقام الاباء، فوق العقل والطبع، لكنهم اليوم محبوسون تحت الطبيعة، مقيدون بالعقل العملي، وخلاصهم يكون عند إطلاقهم عن وثاقهم، وخروجهم عن قيد العقل، وليس يخلصون عن قيد العقل إلا حين يخرجون من سجن الطبع والطبيعة. وهذه معان منغلقة يفتحها الشرع للمستحقين، وإنها محرمة على الجاهلين.
ثم سئل مسألة ثانية هي: إنا لأي شيء جئنا إلى هذا العالم، بعد أن كنا مغبوطين؟
فأجاب: إعلم إن مجيئنا إلى هذا العالم لم يكن باختيارنا وإرادتنا، لكن بالقهر جئنا، وبالقهر نمسك، وبالقهر نخرج. وإنا جئنا للتمحيص، والتطهير
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
[آل عمران:141]. وطهارة النفس إنما تكون بالعمل الشرعي، والعلم الإلهي، وبهذين تتم الطهارة والتوجه إلى المعاد، وكما أن طهارة الجسد يكون بالماء، أو بالتراب عند عدم الماء، كذلك طهارة النفس بالعلم الذي هو بمنزلة الماء، والعمل الذي هو بمنزلة التراب، فكل من أتى بالعمل الشرعي حتى يصل إلى العلم الإلهي، فيعلم حقيقته، ويعرف نفسه. فإنه يخلص عند مفارقته هذه الدنيا، التي هي سجن المؤمن، وجنة الكافر.
إشارة مشرقية
واعلم أن حكاية هبوط العقل الإنساني، والنفس الآدمية من عالم القدس إلى موطن الطبيعة الجسمانية، مما كثرت في مرموزات الأنبياء (عليهم السلام)، وإشارات الأولياء والحكماء.
ففي القرآن المجيد قد ذكر هبوط النفس وصعودها في آيات عديدة، كقوله:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[التين:4 - 6]. وكقوله:
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة:38]. وكقوله:
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
[الأعراف:24 - 25]. وكقوله:
ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر
[التكاثر:1 - 2] إلى قوله:
ثم لتسألن يومئذ عن النعيم
[التكاثر:8]. وكقوله:
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:71 - 72]. وكقوله:
كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
[الأعراف:29 - 30]. وكقوله:
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة
[الأنعام:94].
وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): " رحم الله امرئا أعد لنفسه، واستعد لرمسه، وعلم من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ ".
وفي كلامه (عليه السلام) أيضا: " وليحضر عقله، وليكن من أبناء الآخرة، فإنه منها قدم، وإليها ينقلب ".
وفي كلامه (عليه السلام) أيضا في بيان ماهية النفس ومبدئها ومعادها: " إعلم أن الصورة الإنسانية هي أكبر حجج الله على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالمين، وهي المختصر من اللوح المحفوظ، وهي الشاهد على كل غائب، والحجة على كل جاحد، وهي الطريق المستقيم إلى كل خير، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار ".
وفي كلمات الحكماء الراسخين إشارة لطيفة، ورموز شريفة إلى هبوط النفس وصعودها، وحكايات مرشدة إلى ذلك.
ومنها قصة سلامان وأبسال التي ذكرت في مقامات العارفين، ومنها قصة الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة، ومنها حكاية الطير المذكورة في رسالة لأبي علي بن سينا، ومنها حكاية حي بن يقظان. يفهم من كل منها أن للنفس قبل وجودها في هذا العالم وجودا سابقا، وفطرة أولية أصلية في المراتب المتقدمة، وأن لها بعد هذا الوجود رجوعا وعودا إلى ما هبطت منه إن لم يعقها عائق عن الرجوع إلى أصلها.
قال بعض الحكماء مشيرا إلى ذلك: إني كنت في هورقليا مع الخلان، والرفقاء، والاخوان، والآباء، في فضاء فسيح شديد البهاء، كثير الضياء، أبدع الله بعلمه القديم صور الكائنات في أحسن تقويم، فيها رياض خضر كان بينها نسج ديباج من الزهر، والنور، والزعفران، في أواسطها أنهار تجري على حصاة كأنها الدر، والياقوت، والمرجان، فيها بيوت علاية، وقصور شاهقة، فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة يطاف عليها ولدان وغلمان، وحور حسان لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان. وقد استعمل أبي الفلاحة في الأصقاع وتزيين البقاع بالعمارة.
فبعثني يوما لتعمير قطر، فإذا أنا بحمام كدر وغار مظلم منقوش بصورة العالمين، استقر فيه أبناء الجن والشياطين العارفين بعلم السيمياء، القادرين على إراءة الأشياء لا على ما هي عليها.
فشاهدت عجائب عديدة وغرائب كثيرة. منها أن رجلا في مزبلة عليها سماد طرية، وجيف منتنة، ويسأل الله أن يثبته على هذه الحالة أبدا. ومنها أن رجلا ضعيفا عاجزا به أوجاع وجراحات لا تحصى كثرة في خربة من المغارة المنقوشة يزعم ويدعي أن تلك الخربة عمارات، وتلك الجراحات وتلك النقوش والصور خدمه، وحشمه، وهو ملك عظيم قدير، يعاقب من يشاء، ويرحم من يشاء. فابتليت بصحبتهم طويلا، وخرجت عن الفطرة كثيرا.
فنسيت ما كنت عليه، فحسبت النار نورا، والظل حرورا، والقبيح حسنا، والحسن قبيحا، والموت حياة، والحياة موتا، والسراب شرابا، والذلة لذة، والراحة جراحة. حتى نبهني بعض آبائي الكرام، الذي زينوا حافات تلك الظلام من أنوارهم بمصابيح، وجعلوها رجوما لأولئك الشياطين، ومن انتمى إليهم من المردة الملاعين، ووضعوا فيها سلاليم ليسهل بها الرجوع والعروج، ومفاتيح ينفتح بها أبواب الخروج، فأرسلوا من حبل شعاعهم خيوطا ليعرج بها من مهاوي عالم الزور والغرور إلى معارج عالم النور والسرور، وذكروا أمورا بها يتذكر معاهد القدس فيجانس الإنس.
فتذكرت وعلمت أن أولئك الشياطين عارفين بالسيمياء، قادرين على تغيير حقائق الأشياء في المرائي الموضوعة، فيخيلون النور ظلاما، والصحة سقاما، فينسون أمر النفس وعهدها القديم، ويحيلون بين المرء ومطلوبه. فأعرضت عن هؤلاء وتتبعت لأنوارهم، واقتفيت لآثارهم، وتعجبت من تبدل الحالات، وتغير الخيالات.
وقال بعض آخر: إن النفس قطرة انفصلت من البحر، أو شعلة انقطعت من النار، فعادت واتصلت بما كان، وطارت بأجنحة الكروبيين.
ومنها ما ذكره انباذقلس الحكيم، وهو: إن النفس إنما كانت في المكان العالي الشريف، فلما أخطأت سقطت إلى هذا العالم، وإنما صارت إلى هذا العالم فرارا من سخط الله، لأنها لما انحدرت غلى هذا العالم صارت غياثا للأنفس التي قد اختلطت عقولها، فصارت كالإنسان المجنون. نادى الناس بأعلى صوته وأمرهم أن يرفضوا هذا العالم وما فيه، ويصيروا إلى عالمهم الأول الشريف، وأمرهم أن يستغفروا الإله عز وجل لينالوا بذلك الراحة والنعمة التي كانوا فيها.
ومنها ما قاله أفلاطون الرباني في كتاب له يدعى " فاذان ": " علة هبوط النفس إلى هذا العالم سقوط ريشها، فإذا ارتاشت ارتفعت إلى عالمها الأول ".
ومنها ما قال هو - أيضا - في بعض كتبه الذي يدعى: " طيماوس ": إن علة هبوط النفس إلى هذا العالم أمور شتى. وذلك أن منها ما هبطت لخطيئة أخطأها، وإنما هبطت إلى هذا العالم لتعاقب وتجازى على خطاياها. ومنها ما هبطت لعلة أخرى ".
غير أنه اختصر في قوله: وذم هبوط النفس وسكناها في هذه الأجسام.
وقال في موضع آخر من طيماوس: إن النفس جوهر شريف سعيد، وإنما صارت في هذا العالم من فعل الباري الخير، فإن الباري لما خلق هذا العالم أرسل إليه النفس، وصيرها فيه ليكون العالم حيا ذا عقل، لأنه لم يكن من الواجب إذا كان هذا العالم متقنا في غاية الاتقان أن يكون غير ذي عقل، ولم يكن ممكنا أن يكون العالم ذا عقل وليست له نفس. فلهذه العلة أرسل الباري النفس إلى هذا العالم وأسكنها فيه. ثم أرسل أنفسنا وأسكنها في أبداننا، ليكون هذا العالم تاما كاملا، ولئلا يكون دون ذلك العالم في التمام والكمال. فينبغي أن يكون في العالم الحسي من أجناس الحيوان ما في العالم العقلي.
ثم قال: إن هذا العالم مركب من هيولى وصورة، وإنما صور الهيولى طبيعة هي أشرف من الصور، وهي النفس العقلية، وإنما صارت النفس تصور في الهيولى بما فيها من قوة العقل الشريف، وإنما صار العقل مقويا للنفس على تصوير الهيولى من قبل الانية الأولى، التي هي علة الانيات العقلية، والنفسانية، والهيولانية، وسائر الأشياء الطبيعية، وإنما صارت الأشياء الطبيعية حسنة بهية من أجل الفاعل الأول، غير أن ذلك الفعل إنما هو بتوسط العقل والنفس.
ثم قال: إن الانية الأولى الحق هو الخير المحض، وهو الذي يفيض على العقل الحياة أولا، ثم على النفس، ثم على الأشياء الطبيعية.
ومنها ما قاله أرسطاطاليس وهو المحمود اسمه ونعته في شريعتنا، حتى أنه نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في حقه:
" هو نبي من الأنبياء جهله قومه "
وقال لعلي (عليه السلام):
" يا أرسطاطاليس هذه الأمة "
وفي رواية أخرى:
" يا علي أنت أرسطاطاليس هذه الأمة وذو قرنيها "
وبرواية: " أنا ذو قرنيها ". وقد روي أنه ذكر في مجلس النبي (صلى الله عليه وآله) أرسطاطاليس، فقال (صلى الله عليه وآله):
" لو عاش حتى عرف ما جئت به لاتبعني على ديني "
فلقد تكلم في باب النفس الكلية وهبوطها كلاما يشبه الرمز، وهو هذا:
" إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانبا، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدني، فأكون داخلا في ذاتي راجعا إليها خارجا من سائر الأشياء فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجبا بهتا.
فلما أيقنت بذلك رقيت بذهني من ذلك العالم إلى عالم العلية الإلهية، فصرت كأني موضوع فيها، متعلق بها، فأكون فوق العالم العقلي كله، فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا يقدر الألسن على صفته، ولا تعيه الأسماع، فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء ولم أقو على احتماله هبطت من العقل إلى الفكر والروية، فحجبت الفكرة عني ذلك النور، فأبقى متعجبا أني كيف انحدرت من ذلك الموضع الشامخ الإلهي... الذي هو علة كل نور وبهاء.
ومن العجب أني رأيت ذاتي ممتلئة نورا، وهي في البدن كهيئتها وهي غير خارجة منه غير أني أطلت الفكرة وأجلت الرأي فصرت كالمبهوت، وتذكرت عند ذلك أرقليطوس، فإنه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس، والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الشريف الأعلى وقال: إن من حرص على ذلك وارتقى إلى العالم الأعلى جوزي هناك أحسن الجزاء اضطرارا، فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب، والحرص في الارتفاع إلى ذلك العالم وإن تعب ونصب، فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها ولا نصب. وإنما أراد بقوله هذا تحريصا على طلب الأشياء العقلية لتجدها كما وجد، وتدركها كما أدرك ".
ولأرسطاطاليس في كتاب المعروف باثولوجيا - معناه معرفة الربوبية - تصريحات وإشارات على أن صورة الإنسان قبل هذه النشأة الحسية كانت في العالم العقلي موجودة على وجه أعلى وأشرف من هذا الوجود المادي الظلماني.
فقال في موضع منه: " إن الإنسان الحسي صنم للإنسان العقلي، والإنسان العقلي روحاني، وجميع أعضائه روحانية، ليس موضع العين غير موضع اليد، ولا مواضع الأعضاء كلها مختلفة، لكنها كلها في موضع واحد ".
وقال في موضع آخر منه: " إن في الإنسان الجسماني، الإنسان النفساني، والإنسان العقلي، ولست أعني أنه " هو هما " لكني " أعني أنه يتصل بهما لأنه صنم لهما، وذلك لأنه يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي وبعض أفاعيل الإنسان النفساني ففي الإنسان كلمات الإنسان العقلي وكلمات الإنسان النفسي، فقد جمع الإنسان الجسماني كلتي الكلمتين، إلا أنهما فيه قليلة، ضعيفة، نزرة، لأنه صنم للصنم.
فقد بان أن الإنسان الأول حساس إلا أنه بنوع أعلى وأشرف من الحس الكائن في الإنسان السفلي، وهو إنما ينال الحس من الإنسان الكائن في العالم الأعلى العقلي كما بيناه " انتهى كلامه.
وكلامه في النشآت الثلاث للإنسان يطابق القرآن كما وقعت الاشارة إليه، فإن الإنسان العقلي هو الإنسان التام الكامل، الذي كانت الملائكة كلهم مأمورين بسجوده وطاعته، والإنسان النفسي هو الذي كان في الجنة قبل هبوطه إلى هذا العالم، لأن الجنة من مسارح النفس ومراتعها، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والإنسان السفلي هو المخلوط من التراب، المعرض للموت والفساد، والشر، والعداوة، والخصومة كما في قوله: { اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }.
فصل
قوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها }
الزلة، والخطيئة، والمعصية، والسيئة بمعنى واحد بحسب العرف. وضد الخطيئة: الاصابة. يقال: " زلت قدمه زلا " و " زل في مقالته زلة " والمزلة: المكان الدحض. والأصل في ذلك الزوال. فالزلة زوال عن الحق وتحول عنه.
قال صاحب الكشاف: " معناه: فأصدر الشيطان زلتهما عنها ولفظة " عن " في هذه الآية كهي في قوله:
وما فعلته عن أمري
[الكهف:82].
ومن قرأ: " أزالهما " فهو من الزوال عن المكان.
وقال بعض العلماء: أزلهما الشيطان، أي: استزلهما. وهو من قولك: " زل في دينه، أو دنياه " نسب الازلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه ووسوسته وإغوائه عنها أي: عن الجنة وما كانا فيه من عظيم الرتبة والمنزلة.
والشيطان المراد به إبليس. فأخرجهما مما كانا فيه من النعمة والدعة.
ويحتمل أن يكون المراد أخرجهما من الجنة حتى أهبطا. أو من الطاعة إلى المعصية. وأضاف الاخراج إليه لأنه كان السبب فيه. كما يقال: " صرفني فلان عن هذا الأمر ".
واختلف في كيفية وصول إبليس إلى آدم وحواء حتى وسوس إليهما وإبليس كان قد أخرج من الجنة حين أبى السجود، وهما في الجنة.
فقيل: إن آدم كان يخرج إلى باب الجنة، وإبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه.
فكان يكلمه. عن أبي علي الجبائي.
وقيل: كان إبليس يدنو من السماء فيكلمهما.
وقيل: قام عند الباب فنادى.
وروي أنه " أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل في فم الحية حتى دخلت وهم لا يشعرون ". وهذا يشبه قول القصاص. ويحتمل أن يكون الحية إشارة إلى بعض قوى النفس الإنسانية التي بوسيلتها يوقع الشيطان الوسوسة في قلب الإنسانية، فكأنه دخل بوسيلتها في روضة قلبه.
وروي أيضا ما يقرب من هذا، وهو أن إبليس دخل الجنة في صورة دابة.
واختلفوا أيضا في أن إبليس هل باشر خطابهما، أو يقال: إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه. وقوله تعالى:
وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين
[الأعراف:21].
وكذا قوله:
فدلاهما بغرور
[الأعراف:22]. يقتضي المشافهة.
ودليل الثاني: إن آدم وحواء كانا يعرفانه، ويعرفان ما عنده من العداوة والحسد، فبعيد في العادة أن يقبلا قوله، وأن يلتفتا إليه، فينبغي أن يكون وسوسته بالواسطة.
فصل
قوله: { اهبطوا }
خطاب للجمع. وفيه وجوه:
أحدها: أنه خاطب آدم وحواء وإبليس، وهو اختيار الزجاج، وبه قال جمع من المفسرين، وهذا غير منكر وإن كان إبليس قد أخرج قبل ذلك بدلالة قوله:
فاخرج منها فإنك رجيم
[ص:77]. فجمع الخبر للنبي (صلى الله عليه وآله) لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط وإن كانت أوقاتهم متفرقة، كما يقال: " أخرج جميع من في الحبس " وإن أخرجوا متفرقين.
والثاني: إنه أراد آدم وحواء والحية وفيه بعد.
والثالث: إنه أراد آدم وحواء وذريتهما. لأن الوالدين يدلان على ذريتهما وتتعلق بهما.
والرابع: - وهو الأولى - أن يكون الخطاب يختص بآدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، لأنهما كانا أصلي الإنس ومتشعبهم، جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله:
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو
[طه:123]. وهو من قبيل قوله:
فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة:38].
والخامس: إن المراد هو آدم وحواء فقط، وخاطب الاثنين على الجمع كما هو عادة العرب، وعليه قاعدة علم الميزان، وذلك لأن الاثنين أول الجمع. قال تعالى:
إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين
[الأنبياء:78]. أراد حكم داوود وسليمان (عليهما السلام). وقد تأول قوله تعالى:
فإن كان له إخوة
[النساء:11]. على معنى فإن كان له أخوان.
والسادس: آدم وحواء والوسوسة - عن الحسن - وهذا ضعيف.
سر هبوط آدم
واعلم أن إخراج آدم وحواء من الجنة وإهباطهما إلى الأرض لم يكن على وجه العقوبة، لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء لا يجوز عليهم ما يوجب الذم والعقاب لهم عليه. ومن أجاز العقاب للأنبياء (عليهم السلام) فقد أساء عليهم الأدب، وأعظم الفرية على الله، وذلك لأن مقامهم بحسب الباطن عالم القدس العقلي، ومحل العصمة عن الشرور، والطهارة عن الخبائث الطبيعية، والأرجاس البدنية.
وإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة قد اقتضت تناوله من الشجرة، والحكمة الإلهية قد قدرت إهباطه إلى الأرض، وابتلاءه بالتكليف والمشقة تكميلا للسعادات، واخراجا للذريات من ظهره، وبثا للخيرات، وانفتاحا لأبواب البركات، فإن الرحمة الإلهية لما لم يجز وقوفها عند حد، يبقى وراءها الإمكان الغير المتناهي. لأن قوته غير متناهية، وجوده غير محصور عند حل ليكون الفائض من رحمة وجوده قدر متناه.
ثم أشرف الحوادث البدنية هي الأرواح الإنسية، المتعلقة بالقوالب البشرية، ولا يمكن خروج جميع النفوس الناطقة من القوة إلى الفعل دفعة واحدة على سنة الابداع، لا مع الأبدان.
فلا بد من تكثير هذا النوع الإنساني الذي تعلقت العناية الأولية بتدبير أفرادها، وتكثير أفرادها من التوالد والتناسل قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة، ففي كل مدة يفيض من عالم القدس الإلهي نفوسا إنسانية، يرجع ما كمل منها بالعلم والتقوى إلى الوطن الأصلي، والمكان العالي، وما لم يكمل يمكث في بعض البرازخ السفلية أزمانا طويلة، أو قصيرة، وأحقابا كثيرة، وقليلة بحسب كثرة العوائق والأوزار وقلتها، وإذا كان الاعتقاد فاسدا، والجهل راسخا، كان العقاب أبديا والخلاص مستحيلا.
فصل
في بيان عصمة الأنبياء عليهم السلام وما ذكر فيها على طريقة المتكلم
لا شبهة في أن النبي لا بد في إثبات نبوته ورسالته من معجزة، تقتضي صدق دعواه للنبوة، وما يتعلق بها من التبليغ وشرعية الأحكام، فما يتوهم صدوره عن الأنبياء من القبائح إما أن يكون منافيا لما تقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلق بالتبليغ أولا. والثاني: إما أن يكون كفرا، أو معصية غيره. والثاني: إما أن يكون كبيرة كالقتل والزنا، أو صغيرة. والثانية: إما أن تكون منفرة كسرقة لقمة، أو التطفيف بحبة. أو غير منفرة ككذبة، أو همة بمعصية. كل ذلك إما عمدا أو سهوا. بعد البعثة، أو قبلها.
والجمهور من الإسلاميين اتفقوا على وجوب عصمتهم عما ينافي مقتضى المعجزة وما يتعلق بالتبليغ - وإلا لارتفع الوثوق بالأداء - واتفقوا على أن ذلك كما لا يجوز عمدا، لا يجوز سهوا. وقد جوزه القاضي سهوا زعما منه أنه لا يدخل في التصديق بالمعجزة.
واتفقوا أيضا على وجوب عصمتهم عن الكفر، وقد جوزه الأزارقة من الخوارج، بناء على تجويزهم الذنب، مع قولهم بأن كل ذنب كفر. وجوز بعض فرق الشيعة إظهاره تقية واحترازا عن إلقاء النفس في المهلكة. ورد بأن أولى الأوقات بالتقية ابتداء الدعوة، لضعف الداعي وشوكة المخالف.
وكذا عن تعمد الكبائر بعد البعثة، فعند الأشاعرة سمعا، وعند غيرهم عقلا وجوزه الحشوية إما لعدم دليل الامتناع لهم، وإما لما سيجيء من شبه الوقوع.
وكذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع.
وكذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضا.
وذهب الإمامية إلى نفي الصغائر قبل البعثة وبعدها، مطلقا، لا عمدا، ولا سهوا، وذهب الأشاعرة إلى نفي الكبائر بعد البعثة مطلقا، والصغائر - عمدا لا سهوا - لكن لا يصرون ولا يقرون، بل ينهون وينتهون.
وذهب إمام الحرمين منهم، وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمدا.
لنا: لو صدر عنهم الذنب لزم أمور كلها فاسدة بالدلائل العقلية والسمعية:
أحدها: حرمة اتباعهم. لكن النبي واجب الاتباع بالاجماع وبقوله تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران:31].
الثاني: رد شهادتهم. لقوله تعالى:
إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا
[الحجرات:6].
الآية لكن التالي منتف للقطع بأن من يرد شهادته في القليل من متاع الدنيا، لا يستحق القبول في أمر الدين القائم إلى يوم الدين.
الثالث: وجوب منعهم وزجرهم، لعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكنه منتف لاستلزامه إيذاءهم، وهو محرم بالاجماع، وبقوله تعالى:
الذين يؤذون الله ورسوله
[الأحزاب:57]. الآية.
الرابع: استحقاقهم العذاب، والطعن، واللعن، واللوم، والذم، لدخولهم تحت قوله:
ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم
[الجن:23]. وقوله:
ألا لعنة الله على الظالمين
[هود:18]. وقوله:
لم تقولون ما لا تفعلون
[الصف:2]. وقوله:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم
[البقرة:44]. لكن كل ذلك منتف عنهم بالاجماع. لكون وقوعها من أعظم المنفرات.
الخامس: عدم نيلهم عهد النبوة لقوله تعالى:
لا ينال عهدي الظالمين
[البقرة:124]. فإن المراد به النبوة، أو الإمامة.
السادس: كونهم غير مخلصين، لأن المذنب قد أغواه الشيطان، والمخلص ليس كذلك، لقوله تعالى حكاية عن إبليس:
ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
[الحجر:39 -40]. لكن اللازم منتف بالاجماع، وبقوله تعالى في إبراهيم وإسحق ويعقوب:
إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار
[ص:46]. وفي يوسف:
إنه من عبادنا المخلصين
[يوسف:24].
السابع: كونهم حزب الشيطان ومتبعيه، واللازم قطعي البطلان. وذلك لأنه تعالى قسم الخلق صنفين فقال في أحدهما:
أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون
[المجادلة:19]. وقال في الآخر:
أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون
[المجادلة:22] ولا خفاء في أن حزب الشيطان من يفعل ما يرتضيه وهو المعصية.
الثامن: عدم كونهم مسارعين في الخيرات، معدودين عند الله من المصطفين الأخيار، إذ لا خير في الذنب لكن اللازم منتف لقوله تعالى في حق بعضهم:
يسارعون في الخيرات
[الأنبياء:90]
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار
[ص:47]. ولفظ " الخيرات " للعموم، فيتناول الكل، والثاني أيضا يتناول جميع الأفعال والتروك، بدليل جواز الاستثناء فيقال: " فلان من المصطفين الأخيار، إلا في فعله الفلاني " والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته. فثبت أنهم أخيار في كل الأمور، وذلك ينافي الذنب عنهم.
وقال تعالى:
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس
[الحج:75]. وقال:
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين
[آل عمران:33]. وقال في إبراهيم (عليه السلام):
ولقد اصطفيناه في الدنيا
[البقرة:130]. وفي موسى:
إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي
[الأعراف:144]. وقال تعالى:
واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار
[ص:45 - 47]. فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرية، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم.
التاسع: إن النبي أفضل من الملك - كما مر - والملائكة، معصومون عن المعصية، لقوله تعالى:
لا يعصون الله مآ أمرهم
[التحريم:6]. وإذا كان الملك معصوما وجب أن يكون المساوي له في الفضيلة معصوما - فضلا عن الأفضيل - وذلك لقوله:
أم نجعل المتقين كالفجار
[ص:28].
والعاشر: قوله تعالى في حق إبراهيم:
إني جاعلك للناس إماما
[البقرة:124]. والإمام من يؤتم به، ولو صدر عنهم الذنب لوجب الائتمام بهم في ذلك الذنب، وذلك تناقض.
وللمخالف في كل ما ذكرناه محل بحث وهو أن وجوب الاتباع والإئتمام إنما هو متعلق بالشريعة وتبليغ الأحكام، وبالجملة فيما ليس بذلة ولا طبع. ورد الشهادة إنما يكون بكبيرة أو إصرار على صغيرة من غير إنابة ورجوع. ولزوم الزجر والمنع، واستحقاق العذاب، واللوم إنما هو على تقدير التعمد وعدم الإنابة، ومع ذلك فلا يتأذى به النبي ، وبمجرد كبيرة سهوا، أو صغيرة - ولو عمدا - لا يعد المؤمن من الظالمين على الاطلاق، ولا من الذين أغواهم الشيطان، ولا من حزب الشيطان، سيما مع الانابة، وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كل فعل، وترك مسارعة البعض إليها لا ينافي صدور ذنب عن آخر سيما سهوا ومع التوبة.
وبالجملة فدلالة الوجوه على نفي الكبيرة سهوا، والصغيرة الغير المنفرة عمدا - على ما هو المتنازع فيه - محل نظر.
واحتج المخالف بما نقل من أقاصيص الأنبياء، وما شهد به ظاهر كتاب الله من نسبة المعصية والذنب إليهم، ومن توبتهم واستغفارهم وأمثال ذلك.
والجواب عنه - أما إجمالا - فهو أن ما نقل آحادا فمردود، وما نقل متواترا، أو منصوصا في الكتاب، فمحمول إما على ترك الأولى - كما عندنا - أو على السهو والنسيان - كما عند من جوزهما عليهم - أو كونه قبل البعثة - كما عند من جوز المعصية عليهم قبل البعثة - أو غير ذلك من المحامل والتأويلات.
وأما تفصيلا فهو مذكور في التفاسير، وفي الكتب المصنفة، وسيأتي ذكرها في تفسير تلك الآيات على الاستقصاء، ونشير إلى معاقدها هاهنا.
أما ما ورد في قصة آدم فأمران:
أحدهما: ما ورد في التنزيل من أنه عصى وخالف النهي عن أكل الشجرة، واعترف على نفسه وعوتب قولا وفعلا أما قولا: فبقوله تعالى:
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة
[الأعراف:22]. وأما فعلا فبنزع اللباس والإخراج من الجنة ثم تاب الله عليه واجتباه وبالجملة ففي قصته سبع دلالات على عدم عصمته:
الأول: كونه عاصيا، لقوله: { وعصى }.
والثاني: ألغي لقوله تعالى: { فغوى }.
وهو ضد الرشد.
والثالث: التوبة. لقوله تعالى:
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه
[البقرة:37]. وهي لا تكون إلا من الذنب.
الرابع: ارتكابه المنهي في قوله:
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة
[الأعراف:22].
الخامس: سماه ظالما في قوله:
فتكونا من الظالمين
[البقرة:35]. وهو سمى نفسه ظالما في قوله:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف:23]. والظالم ملعون لقوله تعالى:
ألا لعنة الله على الظالمين
[هود:18]. ومن استحق اللعن لولا التوبة كان صاحب كبيرة.
السادس: كونه خاسرا لولا مغفرة الله، لقوله:
وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف:23]. وذلك يقتضي كونه ذا كبيرة.
السابع: إنه أخرج من الجنة جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان.
ولكل من هذه الوجوه جواب تفصيلي سيأتي. والجواب إجمالا من وجوه:
أحدها: وهو المختار - إن النهي، للتنزيه، وإنما سمي ظالما وخاسرا، لأنه ظلم نفسه، وخسر حظه بترك ما هو الأولى له. وأما إسناد الغي والعصيان إليه فسيأتي. وإنما أمر بالتوبة تلافيا لما فات عنه، وجرى عليه ما جرى معاتبة له على ترك الأولى، لأن مثله عن مثلهم عظيم " حسنات الأبرار سيئات المقربين " ووفاء بما قاله للملائكة قبل خلقه.
وثانيها: إنه فعله عن نسيان، لقوله تعالى:
فنسي ولم نجد له عزما
[طه:115]. ولكنه عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان، وترك اليقظة، والتنبه لإصابة المراد، ولعل النسيان - وإن حط عن الأمة - لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم، كما قال: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل ".
وثالثها: إنه أدى فعله إلى ما جرى عليه على طريقة السببية المقدرة دون المؤاخذة، كتناول السم على الجاهل بشأنه، وفيه مصلحة باقية.
لا يقال: إنه باطل، لقوله تعالى:
ما نهاكما ربكما
[الأعراف:20].
وقاسمهمآ
[الأعراف:21]. الآيتين لأنه ليس فيهما ما يدل على أن تناوله حينما قاله إبليس، فلعل مقاله أورث فيه ميلا طبيعيا، ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله، إلى أن نسي ذلك وزال المانع، فحمله الطبع عليه بتقدير الله.
ورابعها: قيل إنه أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه، فإنه ظن أن النهي للتنزيه، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة، وتناول من غيرها من نوعها، وكان المراد بها الإشارة إلى النوع كما روي أنه (صلى الله عليه وآله) أخذ حريرا وذهبا بيده وقال:
" هذان محرمان على ذكور أمتي، حل لإناثها "
وإنما جرى عليه ما جرى تفظيعا لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده.
وثانيهما: قوله تعالى:
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها
[الأعراف:189]. إلى قوله:
جعلا له شركآء فيمآ آتاهما
[الأعراف:190]. قالوا: هذه الكنايات كلها عائدة إليهما، فيقتضي صدور الشرك عنهما.
والجواب: أنه لم يقل أحد في حق الأنبياء (عليهم السلام) الشرك في الألوهية مطلقا، فالوجه أن يقال: لا نسلم أن النفس الواحدة هي آدم، وليس في الآية ما يدل عليه.
بل قيل: الخطاب لقريش، وهم " آل قصي ". والنفس الواحدة " قصي ". ومعنى
وجعل منها زوجها
[الأعراف:189] جعلها من جنسها زوجة عربية قرشية. واشراكهما فيما آتاهما الله تسمية أولادهما بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد الدار، وعبد قصي.
أو يقال: إنه على حذف المضاف، أي جعل أولادهما شركاء له. بدليل قوله:
فتعالى الله عما يشركون
[الأعراف:190].
أو المراد، ما وقع له من الميل إلى طاعة الشيطان ووسوسته ميلا نفسانيا.
وأما الشبهة في حق نوح (عليه السلام) هو قوله تعالى:
ينوح إنه ليس من أهلك
[هود:46]. تكذيبا له في قوله:
إن ابني من أهلي
[هود:45].
والجواب: إنه ليس للتكذيب، بل للتنبيه على أن المراد بالأهل في الوعد هو الأهل الصالح. أو المعنى: إنه ليس من أهل دينك بحسب القرابة المعنوية، وإن أضفته إلى نفسك بحسب البنوة الصورية.
وقيل: إنه كان ابن امرأته، فالمعنى: إنه أجنبي منك، وكنت سميته بابنك لاختلاطه بأبنائك، والأجنبي إنما يعد من آل النبي إذا كان له عمل صالح وهو عمل غير صالح.
وأما الشبهة في حق إبراهيم - صلوات الله عليه - فهو إنه كذب في قوله
هذا ربي
[الأنعام:76].
بل فعله كبيرهم
[الأنبياء:63]. و
إني سقيم
[الصافات:89].
والجواب:
إن الأول: على سبيل الفرض والتقدير، كما يوضع الحكم الذي يراد ابطاله، أو على الاستفهام، أو على أنه كان في مقام النظر والاستدلال.
والثاني: على سبيل التعريض والاستهزاء.
والثالث: على أن به مرض الهم والحزن من عنادهم أو الحمى - على ما قيل -.
وأما الشبهة في حق يوسف فمن جهة يعقوب الإفراط، والمحبة، والحزن الشديد، والبكاء.
والجواب: إنه لا معصية في ميل النفس، سيما إلى من يلوح منه آثار الخير والصلاح، وأنواع الكمال. ولا في بث الشكوى والحزن إلى الله في مصائب يكون من جهة العباد، سيما قد قال: إنه كان من خوف أن يموت يوسف على غير دين الإسلام.
ومن جهة الاخوة ما فعلوا بيوسف وما قالوا: من الكذب.
والجواب: إنهم لم يكونوا أنبياء.
ومن جهة يوسف الهم المشار إليه بقوله:
ولقد همت به وهم بها
[يوسف:24]. وجعل السقاية في رحل أخيه، والرضا بسجود إخوته وأبويه.
والجواب: إن المراد:
وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف:24] والبرهان هو ما عنده من الصوارف العقلية الزاجرة للنفس عن فعل القبيح. أو المراد من " الهم " الميل الشهوي الحيواني الموجود في الطبائع البشرية، ولولا الزاجر الشرعي لما انتهى عن كل ما يمكنه من القبائح، ولولا المعرفة الكاملة للقوة العقلية المنورة بحقيقة التقوى لوقع منه فعل ما لا ينبغي أحيانا. وليس المراد الهم بالمعصية والقصد إليها.
وقيل: هو من باب المشارفة، أي: شارف أن يهم. وبالجملة فلا دلالة هاهنا على العزم والقصد إلى المعصية - فضلا عما يذكره الحشوية من الحشويات - ولهذا ورد في هذا المقام من الثناء على يوسف (عليه السلام) ما ورد، من غير أن يبقى عليه زلة، أو يذكر له استغفار وتوبة.
وأما جعل السقاية في رحل أخيه: فقد كان بإذنه ورضاه - بل بإذن الله - ونسبة السرقة إلى إخوته تورية عما كانوا فعلوا بيوسف، ومما يجري مجرى السرقة. أو هو قول المؤذن.
والسجدة كانت عندهم تحية وتكرمة، كالقيام والمصافحة. أو كانت مجرد انحناء وتواضع لا وضع الجبهة على الأرض.
وأما الشبهة في قصة موسى (عليه السلام) بقتل القبطي وتوبته عنه، واعترافه بكونه من عمل الشيطان فمحمول عندنا على أنه لترك ما هو الأولى. وقيل إنه كان خطأ وقبل البعثة.
وإذنه للسحرة في إظهار السحر بقوله:
ألقوا مآ أنتم ملقون
[يونس:80]. ليس رضا به، بل الغرض إظهار بطلانه أو إظهار معجزته، ولا يتم إلا به. وقيل: لم يكن حراما.
وإلقاء الألواح كان عن دهشة وتحير لشدة غضبه.
والأخذ برأس هارون وجره إليه لم يكن على سبيل الايذاء، بل يدنيه إلى نفسه ليتفحص منه حقيقة الحال ، فخاف هارون أن يحمله بنو إسرائيل على سبيل الايذاء، ويفضي إلى شماتة الأعداء، فلم يثبت بذلك ذنب له ولا لهارون، فإنه كان ينهاهم عن عبادة العجل.
وقوله للخضر:
لقد جئت شيئا نكرا
[الكهف:74]. أي: عجبا. وما فعله الخضر كان بإذن الله تعالى، فلم يثبت لهما ذنب أصلا.
وأما الشبهة في قصة داود (عليه السلام) فلم يثبت سوى أنه خطب امرأة كان قد خطبها أوريا، فزوجها أولياؤها داود - دون أوريا - أو سأل أن ينزل عنها فيطلقها، وكان ذلك عادة في عهده، فكان زلة منه لاستغنائه بتسعة وتسعين.
والخصمان كانا ملكين أرسلهما الله إليه لينبهاه، فلما تنبه استغفر ربه وخر راكعا. وسياق الآيات يدل على كرامته عند الله، ونزاهته عما ينسب إليه الحشوية، إلا أنه بالغ في التضرع، والتحزن، والبكاء، والاستغفار استعظاما للزلة بالنظر إلى ما له من رفيع المنزلة.
وتقرير الملكين تمثيل وتصوير للقضية، لا إخبار بمضمون الكلام ليلزم الكذب ويحتاج إلى ما قيل: " إن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة، فلما رآهما اخترعا الدعوى. أو كانا راعيي غنم ظلم أحدهما الآخر، والكلام على حقيقته ".
وأما الشبهة في قصة سليمان على نبينا وعليه السلام فأمور:
أحدها: ما يشير إليه بقوله تعالى:
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد
[ص:31]. إلى آخره وذلك أنه اشتغل باستعراض الأفراس حتى غربت الشمس، وغفل عن العصر - أو ورد كان له وقت العشي - فاغتم لذلك واسترد الأفراس فعقرها.
والجواب: إن ذلك كان لأجل الاستغراق في الالتفات إلى أسباب الدنيا، أو كان على سبيل النسيان - كما قيل - وعقر الجياد، وضرب أعناقها، كان لإظهار الندم، وقصد التقرب إلى الله، والتصدق على الفقراء من أحب ما له.
على أن من المفسرين من قال: المراد حبه للجهاد وإعلاء كلمة الله، وضمير { توارت } للجياد لا للشمس. وإنما طفق مسحا بالسوق والأعناق تشريفا لها وامتحانا، وإظهارا لاصلاح آلة الجهاد.
وثانيها: ما أشير إليه بقوله:
ولقد فتنا سليمان
[ص:34]. الآية فإن كان ذلك ما روي " أنه ولد له ابن، وكان يغذوه في السحابة خوفا من أن تقتله الشياطين أو تخبله، فما راعه أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه لخطئه في ترك التوكل، فاستغفر وتاب " فهذا مما لا بأس به، وغايته ترك الأولى، إذ ليس في التحفظ ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكل، على ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إعقلها وتوكل ".
وكذا ما روي أنه قال: " لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله " ولم يقل: " إن شاء الله " فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد له عين واحدة، ويد واحدة، ورجل واحدة، فألقته القابلة على كرسيه.
وأما ما روي من حيث الخاتم، والشيطان، وعبادة الوثن في بيته، وجلوس الشيطان على كرسيه فعلى تقدير صحته يجوز أن يكون اتخاذ التماثيل غير محرم في شريعته، وعبادة التمثال في بيته غير معلوم الوقوع.
وثالثها: ما يشعر به قوله تعالى:
وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي
[ص:35] من الحسد، وعدم إرادة الخير للغير.
والجواب: إن ذلك لم يكن حسدا، بل طلبا للمعجزة على وفق ما غلب في زمانه ولاق بحاله، فإنهم كانوا يفتخرون بالملك والجاه، وهو كان ماشيا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما، أو إظهارا لإمكان طاعة الله وعبادته مع هذا الملك العظيم.
وقيل: أراد ملكا لا يورث منه، وهو ملك الدين - لا الدنيا - أو ملكا لا أسلبه ولا يقوم فيه غيري مقامي، كما وقع ذلك مرة. وقيل: ملكا خفيا لا ينبغي للناس وهي القناعة. وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن لا يقوم غيره بشكره، ولا يحافظ فيه على حدود الله.
وأما الشبهة في قصة يونس (عليه السلام) بما يشعر به قوله تعالى:
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه
[الأنبياء: 87]. رزقه فلا يوجب شكا في قدرته لأن المراد: ذهب مغاضبا لقومه، فظن أي: استيقن أن لن نقدر عليه أن لن نضيق رزقه. ومنه قوله تعالى:
فقدر عليه رزقه
[الفجر:16]. أي ضيق وقتر.
ومعنى الظلم في قوله: { إني كنت من الظالمين } ترك الأفضل . وهو مثل هذه العبارة التي فرغ لها في بطن الحوت. هذا هو المروي عن الرضا علي ابن موسى (عليه السلام) في الجواب عن سؤال المأمون في هذا الموضع.
وأما في حق نبينا (صلى الله عليه وآله) فمثل:
واستغفر لذنبك
[غافر:55]. و
لقد تاب الله على النبي
[التوبة:117]. و
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح:2]. فمحمول على ترك الأفضل.
قال الرضا (عليه السلام) في جواب المأمون عن قوله:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح:2]. " إنه لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمأة وستين صنما، فلما جاءهم (صلى الله عليه وآله) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا:
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق
[ص:5 - 7]. فلما فتح الله على نبيه (صلى الله عليه وآله) مكة قال: يا محمد
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح:1 - 2] عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وتأخر ".
فقال المأمون لما سمع هذا الجواب بعد الأجوبة عن سائر السؤالات الموردة على عصمة الأنبياء (عليهم السلام): " لقد شفيت صدري يا ابن رسول الله وأوضحت لي ما كان ملتبسا، فجزاك الله عن أنبيائه وعن دين الإسلام خيرا.
وأما قوله:
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى:7] فمعناه فقدان الشرائع والأحكام. وقيل: إنه ضل في صباه في بعض شعاب مكة، فرده أبو جهل إلى عبد المطلب. وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب - وبالجملة - لا دلالة على العصيان والميل عن طريق الحق. ولذا قال تعالى:
ما ضل صاحبكم وما غوى
[النجم:2].
وأما قوله:
ووضعنا عنك وزرك
[الشرح:2]. فهو تمثيل لما كان يثقل عليه من حمل أعباء النبوة في أوائل البعثة ، أو من تهالكه على إسلام أهل العناد وتلهفه.
وأما قوله تعالى:
عفا الله عنك لم أذنت لهم
[التوبة:43]. تلطف في الخطاب، وعتاب على ترك الأفضل، وإرشاد إلى تدبير الحرب والاحتياط.
وأما قوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى
[الأنفال:67] إلى قوله:
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم
[الأنفال:68]. عتاب على ترك الأفضل، وهو أن لا يرضى باختيار أصحابه الفداء.
وكذا الكلام في قوله:
لم تحرم مآ أحل الله لك
[التحريم:1]. وقوله:
عبس وتولى أن جآءه الأعمى
[عبس:1 2].
وأما ما روي أنه قرأ بعد قوله:
أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى
[النجم:19 - 20]. " تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتها لترتجى " فلما أخبره جبرائيل بما وقع منه حزن وخاف خوفا شديدا فنزل قوله:
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
[الحج:52]. تسلية له.
فالجواب: إنه كان من إلقاء الشيطان في خياله لا تعمدا منه.
وقيل: بل الغرانيق هي الملائكة. وكان هذا قرآنا فنسخ.
وقيل: معنى " تمني النبي ". حديث النفس. وكان يوسوس إليه الشيطان غير الهدى، فينسخ الله وساوسه من نفسه ويهديه إلى الصواب.
وأما قوله تعالى:
وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه
[الأحزاب:37]. عتاب على أنه أخفى في نفسه عزيمة تزويج زينب عند تطليق زيد إياها، خوفا من طعن المنافقين، ولا خفاء في أن إخفاء أمر دنيوي خوفا من طعن أعداء الدين ليس من الصغائر - فضلا عن الكبائر - بل غايته له ترك للأولى. وكذا ميلان القلب لو ثبت.
وأما مثل قوله:
يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين
[الأحزاب:1].
ولا تطرد الذين يدعون ربهم
[الأنعام:52].
فلا تكونن من الممترين
[يونس:94]
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر:65]
فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب
[يونس:94].
فجوابه: إن الأمر لا يقتضي سابقة تركه، ولا النهي سابقة فعله، ولا الشرط وقوع مضمونه.
فظهر أن جواز الصغيرة على الأنبياء (عليهم السلام) عمدا - فضلا عن الكبيرة - مما لم يثبت بقاطع. وقد دلت الدلائل على وجوب عصمتهم. وأما وقوعها عنهم سهوا أو نسيانا فهو موضع اجتهاد.
فإن قيل: ما بال زلات الأنبياء (عليهم السلام) قد حكيت حيث يقرء بأعلى الصوت على وجه الزمان مع أن الله غفار ستار أمر بالستر على من ارتكب ذنبا؟
قلنا: ليدل على صدق الأنبياء (عليهم السلام)، وكون ما يتلقون بأمر من الله، من غير إخفاء لشيء، وليكون امتحانا للأمم كيف بأنبيائهم بعد الاطلاع على زلاتهم. وليعلموا أن الأنبياء (عليهم السلام) مع جلالة أقدارهم، وكثرة طاعاتهم كيف التجأوا إلى التضرع والاستغفار في أدنى زلة، وأقل تقصير.
فصل
قوله تعالى: { اهبطوا }
اختلفوا في أن هذا الأمر هل هو أمر تعبد أو إباحة؟ والأشبه عند قوم أنه أمر تكليف، لأن فيه مشقة شديدة، لأن مفارقة ما كانا فيه من الجنة إلى موضع لا يحصل المعيشة فيه إلا بالمشقة والكد من أشق التكاليف. وإذا ثبت هذا فبطل ما يظن أن ذلك كان عقوبة، لأن التشديد في التكليف لا يكون إلا لأجل الثواب، فكيف يكون عقابا مع ما يترتب عليه من النفع العظيم، والثواب الجزيل.
وعند قوم من أهل المعرفة أن أمره " إهبطوا " أمر تكوين لهما ولذريتهما، وذلك لأن الهبوط إلى الدنيا، أو الأرض من الجنة، أو السماء ليس واقعا تحت الاختيار، وكل ما ليس للعبد فيه اختيار فلا معنى للتكليف به. وأيضا قوله: { بعضكم لبعض عدو } حكم يعم الناس كلهم، معناه ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والقول بأن " الذرية ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف تناولهم الخطاب؟ " ساقط عند العارف بخطاب الله، وبأن الأزمنة كلها في حكم زمان واحد عند الله، وبأن السامع لأمر التكوين وقول " كن " يسمع الخطاب بسمع ذاتي عقلي، قبل هذا السمع الظاهري.
إشارة مشرقية
قد مر أن للإنسان نشآت ثلاث بحسب البداية النزولية، وكذلك بحسب النهاية الصعودية للكمل. وله هبوطان وصعودان. وهذه النشأة الدنيوية آخر منازل الهبوط، وأول منازل الصعود وهي دار التضاد والتفاسد، وعالم التغالب والتعادي، لضيق عرصتها الوجودية، وانحصار لذاتها الكونية، وقصور خيراتها من أن يسع للجميع، فلذلك ينبعث فيها حب التغالب المؤدي إلى العداوة. فقوله: { بعضكم لبعض عدو } إشارة إلى ما هو من خواص هذه النشأة التي هي مهبط آدم وأولاده.
ولهذا احتاج كل من في هذا العالم إلى قوة غضبية يذب بها عن نفسه الآفة والشر، وإلى قوة شهوية يجلب بها إلى نفسه النفع والخير، والحكمة في وجود هاتين القوتين في الحيوان عموما وفي الإنسان خصوصا هو ما سبق ذكره.
وفيه أيضا إشارة إلى وجوب وجود خليفة من الله في الأرض في حفظ هذا النوع الإنساني، وعدم جواز أن يترك الناس وآراؤهم، إذ لا بد لهم من الشركة في الماء والطين - كما لا يخفى - ولا يتم المشاركة إلا بالمعاملة، ولا المعاملة - وهي مثار الخصومات ومنبت العداوات - إلا بسنة وعدل. فإن لم يكن سنة سان، وعدل معدل منصوب من قبل الله، مخصوص بمعجزات وكرامات يدل على صدقه حتى يسمع دعوته، وينقاد حكمه، ويتبع قوله ورأيه، لأدت العداوات والخصومات إلى الفساد وسفك الدماء، والهرج والمرج.
وقيل: يعني بقوله: { بعضكم لبعض } آدم وذريته، وإبليس وذريته، ولم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إياه، ولكن حسده الملعون وخالفه، فنشأت بينهما العداوة، ثم إن عداوة آدم له إيمان وحكمة، للخلاص من شره. وعداوة إبليس كفر وحيلة.
وقال الحسن: بين بني آدم وبني إبليس.
وليس ذلك بأمر بل هو تحذير، لأن الله لا يأمر بالعداوة. فالأمر مختص بالهبوط، والعداوة تجري مجرى الحال. لأن الظاهر يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حالة عداوة بعضهم بعضا.
فصل
قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع }
المستقر: إما بمعنى المصدر، كقوله:
إلى ربك يومئذ المستقر
[القيامة:12]. أو بمعنى المكان الذي يستقر فيه، كقوله:
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا
[الفرقان:24]. وقوله:
فمستقر ومستودع
[الأنعام:98]. فالأكثر على أن المراد هاهنا هو المعنى الثاني، أي أنها مستقركم حالتي الحياة الدنيا والموت.
وعن ابن عباس، أن المستقر هو القبر، أي يكون قبوركم فيها.
وقيل: الأول أولى ، لأنه تعالى قرن المتاع به وهو لا يليق إلا بحال الحياة.
أقول: يحتمل أن يكون المستقر للأموات، والمتاع للأحياء، وفيه الإشارة إلى حال السائرين إلى الله، والواقفين في هذا المهبط.
وقوله: { إلى حين } أي: إلى يوم القيامة - إن أريد الخطاب للجميع - أو إلى ساعة الموت - إن أريد لكل واحد - فإن نسبة يوم القيامة - أي الكبرى - إلى الكل كنسبة حالة الموت - وهي القيامة الصغرى - إلى واحد واحد.
[2.37]
{ تلقى }: أي قبل وأخذ وتناول آدم على سبيل الطاعة من ربه ورب كل شيء: كلمات. والمراد فجعلها وسيلة. أو سأله بحقهن.
وإنما اكتفى لدلالة ما بعده عليه. ولأن معنى التلقي يفيد ذلك وينبئ عما حذف من الكلام اختصارا. ولذلك قال: { فتاب عليه } بالفاء الدالة على الترتيب، لأنه لم يتب ولا يتوب عليه إلا يسأله بتلك الكلمات، وكان الله قد علمه طريق الإنابة، وعرفه وجوب التوبة، وهداه إلى التوسل بتلك الكلمات.
وقرأ ابن كثير { آدم } بالنصب و { كلمات } بالرفع، ومعناه غير ذلك، وهو أن الكلمات تداركته بالنجاة والرحمة.
ويحتمل أن يقال: إن التلقي لما كان من المعاني الإضافية - وكان من تلقى رجلا فتلاقيا كل واحد صاحبه، وأضيف الاجتماع إليهما معا - صلح أن يشتركا في الوصف بذلك فيقال: كلما تلقيته فقد تلقاك، فجاز أن يقال: " تلقى آدم كلمات " أي: أخذها واستقبلها. وجاز بالنصب. أي: جاءت من الله وتلقته كلمات. على مثل قوله:
لا ينال عهدي الظالمين
[البقرة:124]. في قراءة ابن مسعود.
وتلك الكلمات هي كلمات الله التي لا تبيد ولا تنفد أبدا، وهي الجواهر العالية الموجودة بأمر الله، بل هي نفس أوامر الله، وصور ما في علم الله. وبمعرفتها، والاتصال بها، والاعتصام بعراها التي لا انفصام لها نجت النفس الآدمية عن عذاب يوم الآخرة.
وفي الأدعية النبوية: " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما ذرء في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء ".
واختلف في تلك الكلمات ما هي: فقيل:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف:23] - الآية - وهو المروي عن الحسن، وقتادة، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأن في ذلك اعترافا بالخطيئة، فلذلك وقعت موضع الندم، وحقيقته الإنابة.
وقيل: هي قوله: " لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب اني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب اني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " عن مجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام).
وقيل: بل هي " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ".
وعن ابن مسعود: إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف السيئة: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك؛ لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".
وروي عن أهل البيت (عليهم السلام): " إن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء مكرمة معظمة، فسأل عنها.
فقيل له: هذه أسماء لأجل الخلق منزلة عند الله تعالى والأسماء: " محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام) " فتوسل آدم إلى ربه بهم في قبول توبته ".
وعن ابن عباس: قال آدم: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: ألم تنفخ في الروح من روحك؟ قال: بلى قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم.
أقول: وفي كل من هذه الأقوال إشارة إلى ما أولناه أولا، فإن روح التسبيح والتحميد إنما يحصل للإنسان إذا توجه بقلبه إلى عالم التقديس، والتحميد بالبراءة عن أدناس عالم الطبيعة وذمائمها. وروح التوبة والإنابة إنما يحصل عند رجوعه إلى الحضرة الإلهية بالتجرد عما سواها، وليس في تحريك اللسان والشفتين بتلك الأدعية والأوراد كثير فائدة، ما لم يكن معها حركة باطنية، ورجوع معنوي إلى الجنة العالية التي كانت موطن أبينا المقدس.
فالمعنى فيها: إن آدم ترك الخلق وأم الحق ملتجئا إليه باطنا وظاهرا، باكيا، طالبا منه التوبة والرجوع، فتاب عليه ورجع.
وفيما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) إشارة إلى مقامات هؤلاء الأخيار، ودرجات هذه الذوات المكرمة، والنفوس المطهرة في عالم عرش الله قبل بداية هذا الكون الدنيوي، وبعد رجوعهم عن هذه الدار، واتصالهم بتلك الكلمات التي لا تبيد ولا تنفد.
وفيما روي عن ابن عباس إشارة إلى أن المراتب اللاحقة هي أعيان المراتب السابقة، وأن كل أحد يمكن وصوله إلى المقام الذي كان فيه بحسب الفطرة الأصلية، إن ساعده التوفيق.
فقوله: " ألم تخلقني بيدك " إشارة إلى مقامه السابق الربوبي الأسمائي. وقوله " ألم تنفخ في الروح من روحك " إشارة إلى مقامه السابق الروحي في عالم العقل المحض. وقوله: " ألم تسكني جنتك " إشارة إلى مقامه السابق النفسي في عالم الحياة النفساني الجناني، وهو عالم الجنة والمغفرة.
وقال النخعي: أتيت ابن عباس، وقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم وحواء، من ربه؟ قال: علم الله آدم وحواء أمر الحج. فحجا، وهي الكلمات التي يقال في الحج، فلما فرغا من الحج أوحى إليهما بأني قبلت توبتكما.
وروي لما أراد الله أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعا، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى ركعتين قال: " اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي، فاقبل معذرتي. وتعلم حاجاتي، فأعطني سؤلي. وتعلم ما في نفسي، فاغفر لي ذنوبي. اللهم إني أسئلك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي والرضا بما قسمت لي " فأوحى الله إلى آدم: " يا آدم قد غفرت لك ذنبك، ولم يأتني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه، وكشفت همومه وغمومه، ونزعت الفقر من بين عينيه.
وجاءته الدنيا وهو لا يريدها ".
فصل
قوله: { فتاب عليه } أي: رجع عليه بالرحمة، وقبول التوبة فإن العبد كلما توجه بوجهه إلى الله توجه تعالى بوجهه إليه. " من كان لله كان الله له ". وفي الحديث الإلهي:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ".
وإنما رتبه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمنه معنى التوبة، وهو الرجوع إلى الله بالقلب النقي، والعلم بقبح المعصية. وقد علمت أن توبة الرب متوقفة على توبة العبد، والاعتراف بالذنب والندم عليه، والعزم على أن لا يعود إليه.
وإنما اكتفى بذكر آدم لأن حواء كانت تبعا له في الحكم، ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن.
{ إنه هو التواب الرحيم } أي: الرجاع على عباده بالمغفرة، أو الذي يكثر اعانتهم على التوبة. وأصل التوبة - كما مر - الرجوع.
قال القفال: " التوبة كالأوبة معنى. يقال: توب، كما يقال: أوب. قال تعالى
قابل التوب
[غافر:3]. فقولهم: " تاب يتوب توبا وتوبة ومتابا، فهو تائب وتواب " كقولهم: " آب يئوب أوبا وأوبة، فهو آئب وأواب ".
والتوبة لفظ مشترك فيها الرب والعبد، فإذا وصف بها العبد، فالمعنى: رجع إلى ربه. لأن كل عاص هو في معنى الهارب من ربه، فإذا تاب فقد رجع من هربه، فيقال: تاب إلى ربه، والرب تاب على عبده. وقد يفارق الرجل خدمة رئيس فيقطع الرئيس معروفه عنده، ثم يراجع خدمته، فيقال: فلان عاد إلى الأمير، والأمير عاد عليه بإحسانه ومعروفه " انتهى كلامه.
فبالحقيقة رجوع العبد إلى الحق عبارة عن الخروج من قيد النفس بترك المعاصي والتعلقات، وتصفية القلب عن درن الشهوات، ليستعد للقاء الله والجنة. ورجوع الحق إلى العبد عبارة عن كشف الحقيقة له بإفاضة الخيرات عليه، وانزال البركات إليه.
وبالجملة كما ان بعد العبد عن الحق عنه - مع أنه مع كل شيء، وهو أقرب إليه من كل قريب فكذلك قرب العبد من الحق برفع الحجب الظلمانية، يستلزم قرب الحق منه بتجلي ذاته له بنور وجهه، لا بمعنى أن يحصل له تغير انتقال، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا كما يقوله الفلاسفة في صيرورة الجوهر المفارق العقلي خزانة لمعلومات النفس بعد أن لم يكن، من غير لزوم تغير في ذات تلك الخزانة، بل من حيث كونها خزينة. وذلك لأجل تغير حدث في النفس. حيث استعدت للاتصال بها والاستفاضة منها.
و { الرحيم } هو المبالغ في الرحمة، حيث يقبل التوبة من العبد وإن كانت المعصية شديدة والذنب عظيما. وفي الجمع بين هذين الوصفين، وعد للتائب بالإحسان مع العفو، وإتيانهما بصيغة المبالغة دال على أن العبد لو تاب ثم عصى وتاب مرارا يتوب الله عليه ويرحمه مرارا كما وردت به الآيات والأخبار والآثار، وقام عليه الدليل العقلي.
الآيات والأخبار في قبول التوبة
أما الآيات: فمثل:
توبوا إلى الله توبة نصوحا
[التحريم:8]. ومعنى النصوح الخالص لله، الخالي عن الشوائب. وقوله
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين
[البقرة:222]. وليس فيها تخصيص بوقت دون وقت.
وأما الأخبار فكثيرة:
منها قوله (صلى الله عليه وآله):
" التائب حبيب الله " و: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ".
ومنها ما روى أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في الكافي مسندا عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة. أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان ".
قلت: " فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة "؟
فقال: " يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر الله منه ويتوب، ثم لا يقبل الله توبته "؟
قلت: " فإنه فعل ذلك مرارا يذنب، ثم يتوب ويستغفر "؟
فقال: " كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد الله عليه بالمغفرة، وإن الله غفور رحيم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله ".
وروى أيضا في كتاب الكافي حديثا متفقا عليه عن أبي عبيدة، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) - يقول: " الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها ".
وهذا الحديث مما هو منقول من غير هذا الطريق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بزيادة ألفاظ أخر، وهو أنه قال (صلى الله عليه وآله):
" الله تعالى أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض مهلكة معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش - أو ما شاء الله - قال: " أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأقيم حتى أموت " فوضع يده على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد من هذا براحلته ".
وفي بعض الألفاظ: فقال من شدة فرحه إذا أراد شكر الله " أنا ربك، وأنت عبدي " ،
وروي أيضا فيه مسندا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تعالى أوحى إلى داوود أن: ائت عبدي دانيال، فقل له: " إنك عصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك.
فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك " فأتاه داوود فقال: " يا دانيال إني رسول الله إليك، وهو يقول: يا دانيال إنك عصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك. فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك " فقال له دانيال: " قد بلغت يا نبي الله " فلما كان في السحر قام دانيال فناجى ربه فقال: " يا رب إن داوود نبيك أخبرني عنك أني قد عصيتك فغفرت، وعصيتك فغفرت، وعصيتك فغفرت لي. وأخبرني عنك إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي. وعزتك وجلالك لئن لم تعصمني لأعصينك، ثم لأعصينك، ثم لأعصينك ".
وروي أن رجلا سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الرجل، يذنب ثم يستغفر، ثم يذنب ثم يستغفر، ثم يذنب ثم يستغفر؟ فقال (عليه السلام): " ثم يستغفر أبدا حتى يكون الشيطان هو الخاسر. فيقول: لا طاقة لي معه ".
وقال علي (عليه السلام): " كلما قدرت أن تطرحه في ورطة وتتخلص فافعل ".
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة "
وفي رواية: " ليران " بدل " ليغان ". و " سبعين مرة " بدل " مأة مرة ".
واعلم أن " الغين " شي يغشى القلب فيغطيه بعض التغطية، وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء، فلا يحجب عين الشمس، ولكن يمنع ضوءها.
قال القاضي البيضاوي في شرح المصابيح: " الغين " لغة في الغيم. وغان كذا أي: غطا عليه. وقال أبو عبيدة في معنى الحديث: أي يتغشى ما يلبسه. وقد بلغنا عن الأصمعي أنه سئل عن هذا الحديث، فقال للسائل: عن قلب من تروي هذا؟ فقال: عن قلب النبي (صلى الله عليه وآله). فقال لو كان غير قلب النبي (صلى الله عليه وآله) لكنت أفسره لك.
والعلماء ذكروا في تأويل هذا الحديث وجوها:
الأول: إن الله أطلع نبيه (صلى الله عليه وآله) على ما يكون في أمته بعده من الخلاف وما يصيبهم، فكان إذا ذكر ذلك وجد غينا في قلبه، فاستغفر لأمته.
الثاني: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى، فكان الاستغفار لذلك.
الثالث: وهو تأويل أرباب الحقيقة - إن الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة الإلهية، حتى يصير فانيا عن نفسه بالكلية. فإذا عاد إلى الصحو بعد المحو كان الاستغفار من ذلك الصحو.
الرابع: وهو تأويل أهل الظاهر " إن القلب لا ينفك عن الخطرات والخواطر والشهوات، وأنواع الميل والارادات، فكان يستعين بالرب في دفع تلك الخواطر ".
قال القاضي في ذلك الشرح: " ولله در الأصمعي في انتهاجه منهج الأدب، وإجلاله القلب الذي جعله الله موقع وحيه، ومنزل تنزيله، فإنه مشرب سد عن أهل اللسان موارده، وفتح لأهل السلوك مسالكه. وأحق من يعرب أو يعبر عنه مشايخ الصوفية، الذي بارك الحق أسرارهم، ووضع الذكر عنهم أوزارهم، ونحن بالنور المقتبس من مشكاتهم نذهب ونقول:
لما كان قلب النبي (صلى الله عليه وآله) أتم القلوب صفاء، وأكثرها ضياء، وأعرفها عرفانا، وكان (صلى الله عليه وآله) معتنيا مع ذلك لتشريع الملة، وتأسيس السنة، ميسرا غير معسر، ولم يكن له بد من النزول إلى الرخص، والالتفات إلى حظوظ النفس، مع ما كان ممتحنا به من أحكام البشرية، فكان إذا تعاطى شيئا من ذلك أسرعت كدورة ما إلى القلب، لكمال رقته وفرط نورانيته، فإن الشيء كلما كان أرق وأصفى كان ورود الكدورات عليه أبين وأهدى، وكان (صلى الله عليه وآله) إذا أحس بشيء من ذلك عده على النفس ذنبا فاستغفر منه " انتهى كلامه.
ولا يخفى أن التأويل الثاني والثالث أولى بأن ينسب غلى أهل الحقيقة مما ذكره وجعله منسوبا إليهم، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) من فرط الجامعية، وكمال المرتبة كان بحيث يسع قلبه الحق والخلق جميعا، ويفي قوته بضبطه الجانبين، ولم يكن بحيث إذا تعاطى شيئا من أمور السياسة أسرع إلي قلبه كدورة، لأن ذلك شأن ضعفاء العقول أمثالنا.
فصل
وأما الدليل العقلي على أن الإنسان متى تاب عن ذنبه فقد قبل الله منه وغفر له فهو مما يتوقف إثباته على تحقيق معنى التوبة، ومعنى وجوبها على الفور، ولنذكر نقاوة ما ذكره المحققون من علماء الإسلام، وحكماء هذه الشريعة التي أتانا بها سيد الأنام - عليه وآله السلام والتحية والإكرام - في معناها، وهو:
إن التوبة لا تحصل إلا بأمور ثلاثة: أولها، معرفة ضرر الذنوب، وكونها حجابا بين العبد ومحبوبه، وسموما قاتلة لمن يباشرها.
فإذا عرف ذلك وتيقنه حصل له من ذلك حالة ثانية، هي التألم لفوات المحبوب، والتأسف من فعل الذنوب. وهذا التألم والتأسف هو المعبر عنه بالندم.
وإذا غلب هذا التألم حصل حالة ثالثة هي القصد إلى أمور ثلاثة: أولها: تعلق بالحال، والاستقبال، والمضي. فالمتعلق بالحال هو ترك ما هو مقيم عليه من الذنوب. والمتعلق بالاستقبال هو العزم على عدم العود إليها إلى آخر العمر. والمتعلق بالماضي تلافي ما يمكن تلافيه من قضاء الفوات، والخروج من المظالم، فهذه الثلاثة أعني المعرفة، والندم، والقصد إلى المذكورات أمور مترتبة في الحصول، وقد يطلق على مجموعها إسم التوبة. وكثيرا ما يطلق على الثاني - أعني الندم - وحده، وقد يطلق على مجموع الأخيرين: الندم والعزم.
قال صاحب إحياء العلوم: اعلم أن التوبة معنى منتظم من ثلاثة أمور مترتبة: علم وحال وفعل.
.. أما العلم وهو مطلع هذه الخيرات، وأعني به الإيمان واليقين... بأن الذنوب سموم مهلكة... فيثمر نور هذا الإيمان متى أشرق على القلب نار الندم، فيتألم القلب به حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه، كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فسطع النور بانقشاع سحاب، أو انصراف حجاب، فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك، فتشتعل نيران الحب في قلبه، فتنبعث بتلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك.
فالعلم والندم والقصد المتعلقة بالترك في الحال والاستقبال، والتلافي للماضي، ثلاثة معان مترتبة في الحصول، يطلق اسم التوبة على مجموعها، وكثيرا ما يطلق على معنى الندم وحده، ويجعل العلم كالسابق والمقدمة، والترك كالثمرة والتابع... فيكون النجم محفوفا بطرفيه، مثمرة بثمرته. فهذا معنى التوبة.
وأما إثبات وجوبها على الفور: فاعلم أن وجوب التوبة كما أنه ظاهر بالآيات والأخبار، فهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته، وشرح صدره بنور الإيمان، حتى اقتدر أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل، مستغنيا عن قائد يقوده في كل خطوة. فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوة، وإما بصير يهدى إلى أول الطريق، ثم يهتدي بنفسه، وكذلك الناس في طريق الدين ينقسون هذا الانقسام.
فمن قاصر لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوة، فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصا من كتاب الله، أو سنة نبيه، وربما يعوزه ذلك فيتحير، فسير هذا - وإن طال عمره وعظم جده - مختصر، وخطاه قاصرة.
ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام، فهو على نور من ربه، يتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوصة، وعقبات متعبة، فيشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان، وهو لشدة نور باطنه يجتزئ بأدنى بيان، أو كأنه
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار
[النور:35] فإذا مسته نار فهو
نور على نور يهدي الله لنوره من يشآء
[النور:35] فهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة.
فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولا بنور البصيرة إلى التوبة ما هي؟ ثم إلى الوجوب ما معناه؟ ثم يجمع بينهما، فلا يشك في ثبوته لها. وذلك بأن يعلم أن معنى الواجب ما هو واجب في طريق الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك السرمد... ومعنى قول القائل " صار واجبا بالايجاب حديث محض " فإن ما لا غرض لنا عاجلا وآجلا في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به، أوجبه غيرنا، أو لم يوجبه.
فإذا عرف الوجوب، وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد، وعلم أن لا سعادة في دار البقاء إلا لقاء الله عز وجل، وأن كل محجوب عنه فشقي لا محالة، يحول بينه وبين ما يشتهيه، محترق بنار الفراق ونار جهنم، وعلم أن لا مبعد عن لقاء الله عز وجل إلا اتباع الشهوات، والأنس بما في هذا العالم الفاني، والاكباب على حب ما لا بد من فراقه، وعلم أن لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف الدنيا، والاقبال بالكلية على الله طلبا للأنس بذكره، والمحبة بمعرفة جماله وجلاله على قدر طاقته، وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله، واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله، المبعدين عن حضرته بكونه محجوبا مبعدا عن الله فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب، وإنما يتم الانصراف بالعلم، والندم، والعزم، فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يتألم، ولم يتندم، وما لم يتندم ولم يتوجع فلا يرجع، ومعنى الرجوع: الترك والعزم.
فلا شك في أن المعاني الثلاثة ضرورية للوصول إلى المحبوب. فهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة.
وأما من لم يترسخ لمثل هذا المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق، ففي التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك، فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله (صلى الله عليه وآله) والأئمة من بعده، وقد سبق بعض من الأخبار والأحاديث وهي كثيرة لا تحصى.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حاكيا عن الله يقول لملائكته:
" إذا هم عبدي بالحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها، وإذا هم بالسيئة فعملها فاكتبوها سيئة واحدة، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ".
وروي أن إبليس قال: يا رب إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة، فسلطني عليه. فقال الله تعالتى: جعلت صدورهم مساكن لك. فقال: رب زدني. فقال: لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة . قال: رب زدني. قال: تجري منه مجرى الدم. قال: رب زدني. قال: اجلب عليهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد.
قال: فشكى آدم إبليس إلى ربه، فقال: يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي، وأنا لا أطيقه إلا بك. فقال الله: لا يولد لك ولد إلا وكلت له ملكين يحفظانه من قرناء السوء. قال: رب زدني. قال: الحسنة بعشر أمثالها. قال: رب زدني. قال: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر.
وبالجملة الأخبار كثيرة في هذا الباب، والاجماع منعقد من الأمة على وجوبها لكن قد تدهش الغفلة عنه، فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة، ولا خلاف في وجوبها. ومن معانيها ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الاحوال، وذلك لا يشك في وجوبه. وأما الندم والتحزن عليه فواجب، وهو روح التوبة بعد العلم، وبه تمام التلافي.
فكيف لا يكون واجبا، بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فات من العمر، وضاع في سخط الله.
فإن قلت: تألم القلب أمر ضروري لا يدخل تحت الاختيار، فكيف يوصف بالوجوب؟
فاعلم أن سببه تحقق العلم بفوات المحبوب. وللعبد سبيل إلى تحصيل سببه، وبمثل هذا المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم بخلقة العبد وحدوثه في نفسه، فإن ذلك محال، بل العلم، والندم، والفعل، والارادة، والقدرة، والقادر، كلها من خلق الله وفعله
والله خلقكم وما تعملون
[الصافات:96]. هذا هو الحق عند ذوي البصائر، وما سوى هذا ضلال ووبال.
وقد مر مرارا تحقيق نسبة الأفعال إلى الله، وأن الكل بقضائه وقدره، لا بالمعنى الذي ذهب إليه الأشاعرة. ولا بالمعنى الذي زعمه المعتزلة، ولا الذي اشتهر من الحكماء. بل بالمعنى الذي هو محجوب إلا على قوم شرح الله صدورهم، وباشر قلوبهم نور الحق.
فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول: كل توبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة.
اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة فهي مقبولة، فالناظرون بنور البصائر، المستمدون من نور القرآن، علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله، ومتنعم في دار الآخرة في جوار الله، ومستعد لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله. علموا أن القلب الإنساني خلق في أصل الفطرة سليما، فكل مولود يولد على الفطرة وإنما يفوته الإسلام بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها، وعلموا أن نار الندم تحرق تلك الغبرة، وأن نور الحسنة تمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة، وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات، كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار. بل كما لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون.
فكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه، فكذلك القلب المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره، وكما أن استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب، وغسله بالصابون والماء الجاري ينظفه لا محالة، فكذلك استعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب، وغسله بماء الدموع، وحرقة الندم ينظفه ويطهره ويزكيه وكل قلب زكي طاهر فهو مقبول، كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول، وإنما عليك التزكية والتطهير، فأما القبول فمبذول، وقد سبق به القضاء الأزلي الذي لا مرد له، وهو المسمى فلاحا في قوله تعالى
قد أفلح المؤمنون
[المؤمنون:1]. وقوله:
قد أفلح من زكاها
[الشمس:9].
ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أجلى وأقوى من المشاهدة بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصي والطاعات تأثرا متضادا يستعار لأحدهما لفظ " الظلمة " - كما يستعار للجهل - ويستعار للآخر لفظ " النور " - كما يستعار للعلم - وأن بين النور والظلمة تضادا ضروريا لا يتصور الجمع بينهما، فكأنه لم يعرف من الدين إلا قشوره، ولم يعلق بقلبه إلا أسماؤه، وقلبه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين، بل عن حقيقة نفسه.
ومن جهل بنفسه فهو بغيره أجهل. وأعني به قلبه، إذ بقلبه يعرف غير قلبه. فكيف يعرف غيره، وهو لا يعرف قلبه؟
فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول، والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب وخلله، فلا يقوى الصابون على قلعه.
فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى تصير طبعا ورينا على القلب، فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب، نعم قد يقول باللسان: " تبت " فيكون ذلك كقول القصار: " قد غسلت الثوب ". وذلك لا ينظف الثوب أصلا ما لم يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن منه.
فهذا حال امتناع أصل التوبة، وهو غير بعيد، بل هو الغالب على كافة الخلق، المقبلين على الدنيا، المعرضين عن الله بالكلية.
فهذا البيان كاف عند ذوي البصائر في قبول التوبة، ولكنا نعضد جناحه بنقل الآيات والأخبار - كما مر ذكرها - فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به.
فقال تعالى:
هو الذي يقبل التوبة عن عباده
[الشورى:25]. وقال:
غافر الذنب وقابل التوب
[غافر:3]. إلى غير ذلك من الآيات.
وقال (صلى الله عليه وآله):
" لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم ".
وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا:
" إن العبد ليذنب الذنب فيدخله الجنة ". قيل: وكيف ذلك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: " يكون نصب عينه تائبا فارا منه حتى يدخل الجنة ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" لله أفرح بتوبة العبد - الحديث - "
والفرح وراء القبول، فهو دليل على القبول وزيادة.
وقال (صلى الله عليه وآله):
" إن الله عز وجل يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار، ولمسيء النهار إلى الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها "
فبسط اليد كناية عن طلب التوبة. والطالب وراء القابل، فرب قابل ليس بطالب.
وقال (صلى الله عليه وآله):
" إن الحسنات يذهبن السيئات، كما يذهب الماء الوسخ "
ويروى:
" إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة. فأنظره إلى يوم القيامة. قال: " وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ". فقال تعالى: " وعزتي وجلالي لا منعته التوبة ما دام فيه الروح ".
روى أبو سعيد الخدري، قال النبي (صلى الله عليه وآله):
" كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا. فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب. فأتاه فقال هل للقاتل من توبة؟ فقال: لا. فقتله، فكمل به مأة. ثم سال عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم. فقال له: إنه قتل مأة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم. ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناسا يعبدون الله، فاعبد معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق حتى أتى نصف الطريق فأتاه الموت. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا، مقبلا بقلبه إلى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي وتوسط بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد أن يسير إليها، فقبضته ملائكة الرحمة ".
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" إن عبدا إذا أصاب ذنبا قال: يا رب أذنبت ذنبا، فاغفر لي. فقال ربه: إن عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به. فقال له ربه: غفرت لعبدي فليعمل ما شاء "
- أخرجاه في صحيحهما -.
أبو أيوب، قال: كنت كتمتكم شيئا سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
" لولا إنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون، ثم يغفر لهم "
رواه مسلم.
قال عبد الله: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أقبل رجل عليه كساء، وفي يده شيء قد التف عليه، فقال:
" يا رسول الله إني مررت بغيضة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي. فكشفت لها عنهن، فوقعت عليهن فلففتهن معها ".
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ضعهن عنك ". فأبت أمهن إلا لزومهن. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتعجبون لرحم أم الفراخ فراخها "؟ قالوا: " نعم يا رسول الله " قال: " فوالذي بعثني بالحق لله عز وجل أرحم بعباده من أم الفراخ بفراخها. ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن "
فرجع بهن.
وعن أبي إدريس الخولاني. عن أبي ذر، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرائيل، عن الله عز وجل:
" يا عبادي إني حرمت على نفسي الظلم، وجعلته محرما بينكم، فلا تظالموا. يا عبادي الذي تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسيكم. يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وانسكم، وجنكم، كانوا على قلب أتقى رجل منكم لم يزد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وانسكم، وجنكم، كانوا على قلب أفجر رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وانسكم، وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فسألوني، وأعطيت كل إنسان منكم ما سأل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ".
قال: وكان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه اعظاما له.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال:
" من استفتح أول نهاره بالخير، وختمه بالخير، قال الله تعالى لملائكته: " لا تكتبوا على عبدي ما بين ذلك من الذنوب ".
وروي أن جبرائيل سمع إبراهيم (عليه السلام) يقول: يا كريم العفو. قال جبرائيل: وتدري ما كريم العفو؟ فقال: لا يا جبرائيل. قال: أن يعفو عن السيئة ويكتبها حسنة.
وفي الكافي مسندا عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: قال الله تعالى:
" إن العبد من عبيدي المؤمنين ليذنب الذنب العظيم مما يستوجب به عقوبتي في الدنيا والآخرة، فأنظر له فيما فيه صلاحه في آخرته، فأعجل له العقوبة عليه في الدنيا لأجازيه بذلك الذنب، وأقدر عقوبة ذلك الذنب، وأقضيه وأتركه عليه موقوفا غير ممضي، ولي في امضائه المشية، وما يعلم عبدي به. فأتردد لذلك مرارا على امضائه، ثم أمسك عليه فلا أمضيه كراهة لمساءته، وحيدا عن ادخال المكروه عليه، فأتطول عليه بالعفو عنه، والصفح، محبة لمكافأته، لكثير نوافله التي يتقرب بها إلي في ليله ونهاره، فأصرف ذلك البلاء عنه وقد قدرته، وقضيته، وتركته موقوفا ولي في امضائه المشية، ثم أكتب له عظيم أجر نزول ذلك البلاء، وأدخره وأوفره له أجره، ولم يشعر به، ولم يصل إليه أذاه. وأنا الله الكريم الرؤوف الرحيم ".
وفي الكافي أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته. ثم قال: إن السنة لكثير. من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته. ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم، قبل الله توبته. ثم قال: إن يوما لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته ".
فصل
اعلم أن المراد بقبول التوبة هو ما أشرنا إليه، والمراد به عند الجمهور اسقاط العقاب المترتب على الذنب، وهو في الحقيقة من لوازم ما وقعت إليه الإشارة، وسقوط العقاب بالتوبة الصحيحة مما أجمع عليه أهل الإسلام.
وإنما الخلاف في أنه هل يجب على الله؟ حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما. أو هو تفضل يفعله الله سبحانه كرما منه بعبده؟
فالمعتزلة على الأول، والأشاعرة على الثاني، وإليه ذهب الشيخ أبو جعفر الطوسي - ره - في كتاب الاقتصاد، والعلامة الحلي في بعض كتبه الكلامية، وتوقف المحقق الطوسي - طاب ثراه - في التجريد. وقال شيخنا البهائي - رحمه الله - في أربعينه: " إن مختار الشيخين هو الظاهر، ودليل الوجوب مدخول ".
أقول: الوجوب بالمعنى الذي ذكرناه قطعي لا ريب فيه.
فإن قلت: ما معنى قبول التوبة؟ أفتقول كما قاله المعتزلة بأن كذا واجب على الله؟
قلنا: إنا لا تعني به ولا نريد إلا ما يريده القائل بقوله: " إن الثوب إذا غسل بالصابون وجب زوال الوسخ. وإن العطشان إذا شرب وجب زوال العطش، وإنه إذا منع الماء مدة وجب العطش وإذا دام العطش، وجب الموت " وليس في شيء من ذلك ما يريده المعتزلة، ولا ما يريده الأشاعرة إذ لا علاقة، ولا سببية بين الأشياء عندهم. بل نقول خلق الله الطاعة مكفرة للمعصية، والحسنة ماحية للسيئة، كما خلق الماء مزيلا للعطش، والقدرة متسعة لخلاف ذلك، ولكن ما سبقت المشية إلا بذلك، فلا واجب على الله، لكن كل ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب كونه لا محالة.
فإن قلت: ما من تائب إلا وهو شاك في قبول توبته، والشارب لا يشك في زوال عطشه؟
قلنا: شكه في القبول كشكه في وجوب شرائط الصحة، فإن للتوبة أركانا وشروطا دقيقة، وليس يتفق وجود جميع شروطها، كالذي يشك في دواء شربه للاسهال في أنه هل يسهل، وذلك لشكه في حصول شروط الاسهال في الدواء باعتبار الحال، والوقت، وكيفية خلط الدواء وطبخه، وجودة عقاقيره وأدويته، فهذا وأمثاله موجب للخوف بعد التوبة وللشك في قبولها.
هذا ما قاله بعض أكابر الكشف والتحقيق.
وأما ما قاله أبو علي الطبرسي في تفسيره المسمى بمجمع البيان عند قوله تعالى:
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك
[غافر:7]. " إن في هذه الآية دلالة على أن اسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله؛ إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم، بل كان يفعله سبحانه لا محالة " ففيه نظر، لما مر من أن العبد ربما يشك في ذلك القبول مع أنه كان واجبا، لعدم احاطته بأسبابه، إذ الضرورة الذاتية لشيء لا تنافي الشك، والإمكان العقلي، وهو تجويز العقل لخلافه. ولأن السؤال قد يكون للأمر الواقعي، والغرض اظهار الانكسار، والمذلة، أو بسط الكلام مع المحبوب، وعرض الافتقار لديه، كما قالوا في قوله تعالى:
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا
[البقرة:286]. على بعض الوجوه.
فصل
في شروط التوبة
سئل ذو النون المصري رحمه الله عن التوبة، فقال: " إنها اسم جامع لمعان ستة: أولهن الندم على ما مضى. والثاني:العزم على ترك الذنوب في المستقبل. الثالث: أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله. الرابع: رد المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم. الخامس: اذابة كل لحم ودم نبت في الحرام. السادس: اذاقة البدن ألم الطاعات كما ذاق حلاوة المعصية ".
وهذا الذي ذكره ذو النون من الأمور الستة هو مما رواه الشيخ أبو علي الطبرسي في تفسيره عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه العبارة: " التوبة يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة. وللفرائض الاعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم. وأن تعزم على أن لا تعود. وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية. وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي ".
وأورد السيد الرضي في كتاب نهج البلاغة، إن قائلا قال بحضرته: " أستغفر الله " فقال له عليه السلام: " ثكلتك أمك. أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان الحديث ".
وفي كلام بعض أكابر الكشف: " إنه كما لا يكفي في جلاء المرآة قطع الأنفاس والأبخرة، كذلك لا يكفي في جلاء القلب من ظلمات المعاصي وكدوراتها مجرد تركها وعدم العود إليها. بل يجب محو آثار تلك الظلمات بأنوار الطاعات، فإنه كما يرتفع إلى القلب من كل معصية ظلمة وكدورة، كذلك يرتفع إليه من كل طاعة نور وضياء.
والأولى محو ظلمة كل معصية بنور طاعة يضادها، بأن ينظر التائب إلى سيئاته مفصلة، ويطلب لكل سيئة منها حسنة تقابلها، فيأتي بتلك الحسنة على قدر ما أتى بتلك السيئة، فيكفر استماع الملاهي مثلا باستماع القرآن والحديث، ومس خط المصحف جنبا باكرامه، وكثرة تقبيله، وتلاوته، والمكث في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه وأمثال ذلك. وكذا في حقوق الناس كما يعالج الطبيب الأمراض بأضدادها.
فصل
ومن المسائل في باب التوبة أنها هل تصح عن بعض الذنوب، أم لا إلا عن الجميع؟
واعلم أن هذا مما اختلفت أقوال العلماء فيه، فقال كثير من العلماء منهم المحقق الطوسي في التجريد: " إن هذه التوبة غير صحيحة ". وقال الآخرون: " إنها صحيحة ".
وقال صاحب الاحياء: " إن المقام لا بد فيه من تفصيل، ولا يجوز اطلاق الصحة مجملة في شيء من الطرفين، بل نقول - لمن قال: " لا تصح " -: إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلا، بل وجوده كعدمه. فهذا خطأ بلا شبهة، فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب، وقلتها سبب لقلته.
ونقول - لمن قال: " إنها تصح " -: إن أردت أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولا يوصل إلى النجاة والفوز، فهذا أيضا خطأ. بل استحقاق النجاة والفوز يكون بترك الجميع.
هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله.
اعلم أن القائل بأن " التوبة عن البعض غير صحيحة " حجته أن التوبة عبارة عن الندم عن المعصية لقبحها - لا لشيء آخر - وإلا لما كانت توبة، والقبح مشترك بين جميع المعاصي، فمن توجع وندم عن السرقة لكونها معصية - لا لخصوص كونها سرقة - استحال أن يندم عليه دون الزنا، لأن العلة شاملة لهما. إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف، يتوجع على قتله بالسكين، لأن توجعه بفوات محبوبه - سواء كان بالسيف أو السكين - فكذلك المعاصي توجب للعبد فوات محبوبه، والندم إنما يكون على فعل ما يوجب فوات محبوبه من حيث إنه قبيح. فلا معنى للتندم على بعض المعاصي دون بعض، لاشتراكها في كونها حجابا بين العبد ومقصوده.
هذا ما ذكروه وهو بظاهره موجه، إلا أن فيه تفصيلا ينكشف به الغطاء. فنقول: إن الأشياء قد تشترك في معنى واحد يتحقق ذلك المعنى فيها على وجه الكمال والنقص، والقوة والضعف، فيكون في بعضها أعظم وأشد، وفي بعضها أصغر وأضعف. ومن هذا القبيل المعاصي والذنوب، فإن الجميع مشتركة في معنى واحد - هو القبح أو الظلمة أو الحجاب - لكن بعضها أكبر قبحا وظلمة وحجابا، وبعضها أصغر.
فإذا تقرر هذا فنقول: التوبة عن بعض الذنوب إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر، أو عن الصغائر دون الكبائر، أو عن كبيرة دون كبيرة.
أما الأول: فممكن. لأنا نعلم أن الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقته ، والصغائر أقرب إلى العفو عنها، فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه بحسب استعظامه، وكونه مبعدا عن الله. وهذا مما ثبت وجوده في الشرع، فقد كثر التائبون في الأعصار، ولم يكن واحد منهم معصوما. فلا تستدعي العصمة. والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيرا شديدا، ويحذره السكر تحذيرا أخف منه على وجه يشعر بأنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلا. فيتوب المريض بقوله من العسل دون السكر. فهذا غير محال وجوده.
الثاني: أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض، وهذا أيضا ممكن لاعتقاد أن بعض الكبائر أشد وأغلظ عند الله، كالذي يتوب عن القتل، والنهب، والظلم، ومظالم الناس، لعلمه بأن حقوق الناس لا تترك، وما بين الله وبينه يسارع العفو إليه. وكذلك قد يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد دون بعض لكونها متفاوتة في أنفسها، وفي اعتقاد مرتكبها.
الثالث: أن يتوب عن صغيرة أو صغائر، وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة - كالذي يتوب عن الغيبة، وعن النظر إلى غير المحرم، وما يجري مجراه، وهو مصر على شرب الخمر - فهذا أيضا ممكن.
ووجه امكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف على معاصيه ونادم على فعله - ندما قويا، أو ضعيفا - ولكن يكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم الخوف منه لأسباب توجب ضعف الخوف - من الجهل والغفلة وأسباب قوة الشهوة - فيكون الندم موجودا، ولكن لا يكون مليا بتحريك العزم، ولا قويا عليه، فإن سلم عن شهوة أقوى منه، بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ترك المعصية.
وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه، لعدم مقاومة خوفه ضراوته، لضعف الخوف وقوة الضراوة. ويكون له ضراوة بالغيبة، واستماع الملاهي، والنظر إلى الغير المحرم، وخوفه من الله قد بلغ مبلغا يقاوم هذه الشهوة الضعيفة ويقمعها، ولا يقاوم شهوة أقوى من هذه الشهوة، كشهوة شرب الخمر.
بل لهذا الفاسق أن يقول: " إن غلبني الشيطان بواسطة غلبة هذه الشهوة القوية فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلية، بل أجاهده في بعض المعاصي، فعساني أغلب عليه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي ".
ولو لم يتصور هذا لما صح من الفاسق أن يصلي ويصوم. وقيل له: " إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح، وإن كانت لله فاترك الفسق لله. فإن أمر الله فيه واحد، فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله ما لم تقترن بترك الفسق " وهذا باطل، بل له أن يقول: " إن لله علي أمرين، ولي على المخالفة عقوبتان، وأنا ملي في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر، فاقهره فيما أقدر عليه، وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عني ما عجزت عنه بفرط شهوتي " فكيف لا يتصور هذا. وهو حال كل مسلم. إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته. ولا سبب له إلا هذا.
وإذا فهم هذا فهم أن غلبة الخوف على الشهوة في بعض الذنوب ممكن وجوده، والخوف إن كان من فعل ماض أورث الندم، والندم يورث العزم. وقد قال (صلى الله عليه وآله):
" الندم توبة "
ولم يشترط الندم عن كل ذنب. وقال (صلى الله عليه وآله):
" التائب من الذنب كمن لا ذنب له "
ولم يقل: التائب من الذنوب كلها.
وبهذه المعاني تبين سقوط قول القائل: إن التوبة عن أفراد الذنوب إذا كانت متماثلة في حق الشهوة، وفي حق التعرض لسخط الله غير ممكنة. نعم، يجوز أن يتوب على الكثير دون القليل، لأن لكثرة المعصية تأثيرا في كثرة العقوبة.
فصل
إن في هذه الآية حثا على التوبة، وتنبيها على أن العبد لا بد وأن يكون دائم الرجوع والانابة إلى الله تعالى، كما أنه دائم المغفرة والرحمة، وأنه ما من درجة في الخير والسعادة تحصل للعبد إلا وينبغي له أن يتوب عنها بتحصيل درجة فوقها لذاته، فإن الإنسان جوهر متجدد الذت، له في كل وقت حجاب من هويته. وقد قيل: " وجودك ذنب لا يقاس به ذنب " فيجب له في كل وقت توبة عن ذنب وجوده، واستغفار عن غشاوة هويته.
قال بعض الحكماء: " إن لك منه غطاء فضلا عن لباسك من البدن فاجهد أن ترفع الحجاب وتتجرد، فحينئذ تلحق فلا تسأل عما تباشره ".
وقال أيضا: " انفذ إلى الأحدية تدهش إلى الأبد. وإذا سألت عنها فهي قريب، وذلك لأن مراتب القرب إلى الله غير متناهية، لعدم تناهي التجليات الأسمائية الصفاتية، والشؤونات الإلهية، ولكونه تعالى وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى، شدة، وقوة، وهو مع ذلك العلو، والرفعة والورائية رجاع إلى عبده، تواب رحيم عليه، قريب إليه يسمع نداءه، ويجيب دعاءه، ويقضي حاجاته، ويقول:
إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
[البقرة:186] وينزل كل ليلة في الثلث الأخير منه إلى سماء الدنيا، فيقول: " هل من داع؟ هل من مستغفر؟ ".
ويروى أن في بني إسرائيل شاب عبد الله عشرين سنة، ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته، فساءه ذلك. فقال: " إلهي أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ " فسمع قائلا يقول - وهو لا يرى شخصا -: " أحببتنا فأحببناك. وتركتنا فتركناك. وعصيتنا فأمهلناك وإن رجعت إلينا قبلناك ".
وقال ذو النون المصري: " إن لله عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق قلوبهم، وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندما وحزنا، فجنوا من غير جنون، وتبلدوا من غير عي ولا بكم، وإنهم لهم البلغاء الفصحاء، العارفون بالله ورسوله، ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على البلاء، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت، وجالت فكرهم بين سرايا حجب الجبروت، واستظلوا تحت رواق الندم، وقرءوا صحيفة الخطايا، فأورثوا أنفسهم الجزع، حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع، فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا،واستلانوا خشونة المضجع، حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة، وسرحت أرواحهم في العلا، حتى أناخوا في رياض النعيم، وخاضوا في بحر الحياة، وعبروا جسور الهوى، وردموا خنادق الجزع، حتى نزلوا بفناء العلم، واستقوا من غدير الحكمة، وركبوا سفينة الفطنة، وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة، حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة ".
وقال بعض الفضلاء في وصف السالكين إلى الله، الراجعين إلى حضرة الجبروت كلمات مسجعة تشير إلى مقاماتهم وأحوالهم، وهي هذه: " لما جاءتهم عناية الفضل تركوا الفضول، وسافروا إلى منازل الوصول، وركب السادات على خيل السعادات، واستعانوا في سفرهم على سلوك الطريق بزاد التقوى، المعجون بماء التوفيق، وراضوا خيلهم في رياض الرياضة، وضمروها، وألجموها بلجام منع الالتفات إلى غير مولاها، وزجروها وضربوها بسيوط الخوف، وحركوها بإعمال أعمال السوق، وركضوها إلى غاية المنى في ميدان الشوق، وذبحوا نفوس الهوى بسيوف المخالفة، وطعنوا فرسان الطبع برماح ترك العادات السالفة، وطهروها بماء الدموع الطهور لنجاسات الذنوب، والعيوب، وسائر الشرور، حتى صحت لهم العبادة المفتقرة إلى الطهارة كالصلاة، وداووا قلوبهم من أمراض حب الدنيا والجاه، وأحرقوا أشجار خشبها بنار حزن القلب الأواه، وأحيوا ميتها بذكر الله.
واعجبا منا كيف نعرف تلك المواهب والأحوال ولا نتداوى من الداء العضال الذي بيننا وبينها حال. لقد عجزنا وملنا إلى الهوى والف العادة، لم نخرج عن الرغبات والطباع التي خرجت عنها السادة، ولم نتعظ بوعظ لسوء حظ لم تساعدنا السعادة " انتهى كلامه.
أقول: بقي في هذا الزمان من هذه المعاني حكاياتها، ومن حقائق العلم واليقين ألفاظها وعباراتها، بقي أقوال بلا أعمال، وأشخاص كالتماثيل بلا روح العلوم والأحوال.
وسئل عابد حين يبكي: " ما يبكي العابد؟ " فقال: " ما لي لا أبكي، وقد توعرت الطريق، وقل السالكون فيها. وهجرت الأفعال، وقل الراغبون فيها وأهل الحق. ودرس هذا الأمر، ولا أراه إلا في لسان كل بطال ينطق بالحكمة ويفارق الأعمال وقد افترش الرخصة وتمهد التاويل، واعتل بزلل العاصين ". ثم جعل يقول: " واغماه من فتنة العلماء! واكرباه من حيرة الأدلاء! أين الأبرار من العلماء؟ بل أين الأخيار من الزهاد؟ ".
[2.38-39]
لا بد في تكرار الأمر بالهبوط من نكتة فذكروا في ذلك وجهين:
أحدهما: قول الجبائي، وهو إن الهبوط الأول غير الثاني، فالأول كان من الجنة إلى سماء الدنيا، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض.
الوجه الثاني: إن التكرار للتأكيد.
واعترض الإمام الرازي على أول الوجهين من وجهين :
أحدهما: إنه قال في الهبوط الأول:
ولكم في الأرض مستقر
[البقرة:36]. فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكره عقيب الأمر بالثاني أولى.
وثانيهما: إن ضمير { اهبطوا منها } عائد إلى الجنة: وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة.
أقول: للمناقشة في كلا البحثين مجال:
أما الأول: فإن الاستقرار المذكور وإن لم يحصل إلا بعد الهبوط الثاني، لكن يجوز ذكره سابقا عليه لفوائد أخرى كالتشديد، والمبالغة في الاخراج، كمن يقول لأحد يريد اخراجه من داره " أخرج فإنك لا تليق بهذه الدار، ومكانك ينبغي أن يكون في بلاد الهند ".
ويؤيد قول الجبائي ما ورد في حكاية آدم وخروجه من الجنة أنه " لما أمر بالخروج أتى إلى باب الجنة ليخرج منها، فلما أراد أن يضع قدمه خارجا قال { بسم الله الرحمن الرحيم } فلما سمع جبرائيل منه أوقفه انتظارا للرحمة، فقال " إلهي ارحم عليه، فقد ذكر كلمة عظيمة " فأعاد الله الأمر بالهبوط، ونبه على أن له في هذا الأمر رحمة آجلة أعظم وأوسع من هذه الرحمة العاجلة " فالقصة دالة على أنه وقع لآدم وقفة في سور الجنة المضروب بينها وبين سماء الدنيا.
والمراد من السماء الدنيا على طريقة التوصيف مجموع عالم السماء، لأنها بالقياس إلى الجنة دانية، فالأمر بالهبوط الثاني كان متعلقا بنزول آدم من السماء إلى الأرض بعد خروجه من الجنة بالأمر الأول إلى بابها الذي هو في عالم السماء.
وأما الثاني: فعود الضمير إلى الجنة إنما وقع لأن ابتداء الهبوط كان منها، وليس قوله { منها } داخلا في المأمور به.
ثم قال: " وعندي وجه ثالث أقوى من الوجهين، وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط. فأعاد الله الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها، بل هو باق بعد التوبة، لأن الأمر بالهبوط كان تحقيقا للوعد المتقدم في قوله:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة:30].
وقيل: سبب التكرار اختلاف المقصود في الأمرين. فإن الأول: دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني: أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى نجا، ومن ضل هلك، كما يقال: " اذهب سالما معافيا، اذهب مصاحبا " وإن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين.
وهاهنا وجه آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون الهبوط الأول إلى البدن، والهبوط الثاني إلى الدنيا. ومنشأ الأول حاجة النفس لتكميلها إلى قواها، ودواعيها، كالشهوة، والغضب التي في البدن، ومنشأ الثاني حاجتها بواسطة تكميل البدن ومنافعه ومضاره إلى الأمور الخارجة عنه.
ومما روي في الأخبار والحكايات: أن آدم (عليه السلام) أهبط بالهند وحواء بجدة، وإبليس بموضع من البصرة، والحية باصبهان.
إشارة قرآنية
كراهية الإنسان للهبوط ثم للعروج
ثم إن في الآية اشعارا لطيفا بأعجب أحوال الإنسان، فإن من عجيب أحواله أن مفارقته عالم القدس والرحمة، وبعده عن درجة المقربين، وهبوطه إلى دار الدنيا، كان صعبا عليه في أول الأمر بمقتضى صفائه الذاتي، وفطرته الأصلي، ولم يرض بالكون في هذا العالم بل استكرهه واستوحشه، حتى صدر الأمر بهبوطه مرة بعد أولى، ثم إذا وقع في هذه الدار - دار الغربة والوحشة - ومضت عليه برهة من الزمان، نسي موطنه الأصلي، وداره، وأحباءه الذين صحبهم فيها، وألف هذا المنزل وتثبط فيه، وكره الخروج منه، واستأنس بأهل الدنيا، واستصعب مفارقتهم.
وللشيخ أبي علي بن سينا قصيدة يومئ إلى هذا المعنى وإلى بعض أحوال النفس من تجردها وتعلقها، هذه بعض أبياتها قال:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما سكنت فلما واصلت
كرهت مفارقة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى
ومنازلا بفراقها لم تقنع
و " المحل الأرفع ". هو العالم الأعلى النوري المجرد بالكلية عن ملابسة الأجساد، وهو أرفع درجة ومكانة من عالم الجنان، لأن الجنة جسمانية، وعالم النور المحض مجرد عقلي.
وقد سبق أن النفس الآدمية كان معدنها الأصلي أولا عالم العلم الإلهي، والقضاء الرباني حيث كان مقدرا في علمه تعالى، أنه جاعل في الأرض خليفة، والعلم بالشيء هو نحو من وجود ذلك الشيء، ثم نشأت بقدرته تعالى في عالم الأرواح العقلية حينما صارت منفوخا فيها روح الله، ومسجودا لملائكته، ثم سكنت بأمر الله في الجنة، وتناولت من ثمارها وأشجارها، ثم هبطت بعد ذلك إلى القالب، وبالقالب إلى هذا العالم.
و " الورقاء " حمامة خضراء يشبه لونها لون السماء. شبه النفس الإنسانية بالورقاء لكثرة استئناسها بصورة الإنسان، وشدة ميلها بالعود إلى المحل المعتاد الذي يتحقق به المعاد، وأصل التشبيه لها بالطير مطلقا لصفة تجردها عن البدن، وهو بمنزلة القفص للطير، والمشابهة لصفة الطيران. وإنما شبهت بالطائر الأخضر اشعارا بأنها من عالم السماء وقد ورد في الحديث:
" إن الأرواح بعد البدن تكون في قوالب طيور خضر "
وورد أيضا في الحديث:
" إنها في قناديل معلقة تحت العرش ".
ويمكن أن يكون المراد بالأرواح ما هو أرفع من النفوس، وهي العقول. والمراد من الطيور الخضر النفوس التي في عالم البرزخ، ومن القناديل المعلقة تحت العرش ما هي بمنزلة الأبدان هناك، وهي المثل المعلقة في عالم الأشباح المثالية.
و " الكاف " في قوله: " إليك " إن أريد بها نفسك، فالمراد من " الورقاء " الروح. ومن " المحل الأرفع " عالم القدس العقلي، وإن أريد بها بدنك، فالورقاء هي النفس، والمحل الأرفع هو عالم الجنة، والثاني أنسب بما بعده.
و " السفر " في قوله: " سفرت " كشف الوجه. و " التبرقع " ستره. وتقديم لفظ " الكل " عليها لرعاية الوزن. والمراد منه: أن النفس لتجردها محجوبة، متبرقعة عن الأبصار، ولنوريتها واسفرار وجهها مكشوفة، على البصائر و " هي ذات تفجع " أي: ذات جزع وفزع.
و " البلقع " أي: الخالي. والمراد به عالم الأجسام، لخلوها في نفسها عن الصور والهيآت، لأنها فائضة عليها من عالم العقل والنفس. أو البدن فإنه من حيث هو خراب خال عن القوى الروحانية، والنفسانية.
وحاصل القول: أن العناية الإلهية قد جرت في الأزل وتعلقت بهبوط النفس الإنسانية من عالم الأرفع النوري إلى الهيكل المزاجي الانسي، بواسطة وجود الاعتدال فيه، الذي هو ضرب من الوحدة الحقيقية وظل منها.
فنزلت النفس من جو الفضاء العقلي، والمصعد الأعلى السماوي إلى مستوكر البدن الظلماني على سبيل الكراهة والصعوبة، لأن مفارقة الوطن الأصلي - سيما عالم القدس النوري - تكون صعبة، ومجاورة الأضداد والأعداء أصعب منها. لكن بحكم التقدير الأزلي والقضاء الإلهي - حيث لا مرد لقضائه ولا مانع لحكمه - فارقت العالم الأعلى كرها وتعلقت بالمستوكر الأدنى جبرا وقهرا. وانفصلت عن الطهارات والتقدسات الروحية النورية، وتعلقت بالأدناس، والألواث البدنية، والقاذورات الطبيعية وهبطت في مقر السعير الظلماني، ومهوى الحضيض الجسماني، والجحيم النفساني، مقيدة بالسلاسل والأغلال في سجون التعلقات، أسيرة بأيدي الشياطين والأغوال لشجون الأوهام والخيالات، محترقة بنيران الشهوات، ملسوعة بسموم العقارب والحيات.
فلما قيدت كالحمامة بشبكة البدن وحبوب القوى، أنست بها بعد ما كرهتها وألفت بها بعدما أنفت، ونسيت عالمها بعد ما ذكرت، كما قال تعالى:
فنسي ولم نجد له عزما
[طه:115]. وقوله:
نسوا الذكر
[الفرقان:18]. وقوله:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة:67]. ورضيت بهذه الحياة الدنيا واطمئنت بها ويئست من الآخرة، وأخلدت إلى الأرض، واتبعت هواها، كما قال تعالى:
إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون
[يونس:7]. وقال:
يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور
[الممتحنة:13].
فلما جهل أبناء الدنيا عن أحوال الآخرة ومقاماتها، اشتغلوا عند ذلك بطلب الدنيا، ونعيمها، ولذاتها، وشهواتها، وتمنوا الخلود فيها، لأنها محسوسة لهم يشاهدونها بحواسهم - وتلك الدار ونعيمها ولذاتها ومشتهياتها غائبة عنهم وعن ادراك حواسهم - فتركوا البحث عنها، والرغبة فيها، والطلب لها، والسعي إلى ذكر الله وذكر الآخرة، فلا جرم احتاجت عند ذلك نفوسهم إلى من يذكرها العهد القديم، ويجدد عليها الذكر الحكيم، ويشوقها إلى ما عند الله، ويسوقها من دار الدنيا إلى الدار الآخرة.
فالرحمة الإلهية أجادت بإرسال الرسل إليها، وإنزال الكتب عليها، فمنهم من آمن لبقاء نور الفطرة في قلبه، ومنهم من صد عنه لانطماس نور فطرته ومسخه، وتراكم الظلمة على قلبه، واسوداده بالمعاصي، ولذلك قال: { فإما يأتينكم مني هدى } الآيتين.
فصل
سر الاتيان هنا بحرف الشك
" إن " للشرط، و " ما " مزيدة أكدت بها إن، ولهذا حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى الطلب، وجواب الشرط الأول الشرط الثاني مع جوابه، كقولك: " إن جئتني، فإن قدرت أحسنت إليك " والمعنى: " إن يأتينكم مني هدى بإنزال أو إرسال فمن تبعه منكم نجا من قيد الدنيا وعذاب الآخرة في الجحيم، وفاز بالجنة والنعيم، ومن كفر وكذب بالهدى والآيات فهو من أهل النار والعذاب الدائم، فقوله: { والذين كفروا وكذبوا } - إلى آخره - عطف على الجملة السابقة قسيم لها، فالمجموع بمنزلة قضية شرطية متصلة، تاليها بمنزلة منفصلة مانعة الجمع، مركبة من شرطيتين متصلتين.
وإنما وقع الكلام بحرف الشك والتردد، والحال أن اتيان الهدى إلى كافة الناس كائن لا محالة، لأن ذلك أمر غير واجب لا لما ذهبت إليه الأشاعرة من نفي الوجوب والايجاب العقليين بل لدقيقة علمية هي أن أسباب الأكوان وغاياتها بعضها علل ذاتية، وبعضها علل غير ذاتية لتلك الأكوان، ويقال للقسم الثاني: " العلل الاتفاقية " فكل ما لزم من الصفات والأفعال للأنواع في أوائل طبيعتها الأصلية، وبحسب كمالها الأول فهو ناشئ من الأسباب الذاتية، وكل ما لحقها في فطرتها الثانية وبحسب كمالها الثاني، فهو من الأسباب الاتفاقية كاستعداد مادة، أو مصادفة حالة غريبة، أو معاونة أمر مبائن.
إذا تقرر هذا فنقول: إن الإنزال والإرسال، والترغيب والترهيب، والموعد والوعيد، كلها أمور غريبة طارية على أفراد الإنسان، ليست ناشئة من عللها الذاتية المقتضية لأصل ذاتها ووجودها، وإلا لما انفك منها واحد من أفراد الناس. نعم هي تفضلات واحسانات من قبل الله إلينا، بعد وجود المبادئ والأسباب الذاتية، وإن كان الكل من فضله وجوده، وهي نافلة لوجوده، لكن الكلام بعد تحقق العلل الضرورية، وإن كانت الاتفاقيات أيضا منجرة إلى أمور ضرورية، لكونها مستندة إلى ما في علم الله وعالم قضائه الحتمي.
ولكن السبب الذاتي لشيء قد يكون غريبا لشيء آخر وكذا الشيء قد يكون بالنسبة إلى أسبابه القريبة اتفاقيا، وبالقياس إلى البعيدة لزوميا - كما مر في مسألة اختيار العبد - وإذا كان الأمر غير ضروري حسن الاتيان به بلفظ دال على الامكان والشك، فإن الشك في التصور بازاء الامكان في الوجود.
ومن هذا يعلم أن لا يقين في الحوادث والمتغيرات إلا من جهة العلم بأسبابها الذاتية الضرورية، ولهذا قالت الحكماء: " العلم بذي السبب لا يحصل إلا من جهة العلم بسببه ".
وقال صاحب الكشاف في وجه المجيء بكلمة الشك: " إنه للايذان بأن الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل، وإنزال الكتب، وأنه إن لم يبعث رسولا ولم ينزل كتابا كان الإيمان به وتوحيده واجبا بما ركب فيهم من العقول، ونصب لهم من الأدلة، ومكنهم من النظر والاستدلال ".
أقول: ما ذكره يوجب تخصيص الهدى والإرسال والإنزال، وهو تخصيص بغير دليل، لأن المراد منه كما ذكره بعضهم كل دلالة وبيان، فيدخل فيه غرائز العقول وقيام الأدلة، والقدرة على النظر والاستدلال، وكل كلام نزل على كل نبي.
فصل
إعلم أن الآية تدل على أمور:
الأول: التنبيه على جليل عناية الله وعظيم رحمته في حق آدم وذريته. إذ كأنه يقول: " إني وإن أهبطتكم إلى الأرض، وأوقعتكم إلى الدنيا من المنازل العالية فقد، عظمت عليكم الرحمة، وأنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى إلى الجنة على وجه أتم وأدوم زمانا، وأكثر عددا، لأن آدم وحواء لو لم يهبطا إلى الأرض، وبقيا في الجنة ابتداء من غير ابتلاء، لكان كثير غير محصور من الكمالات، والخيرات فيهما في حد القوة، من غير أن يخرج إلى الفعل - مع امكان الخروج - ولم يدخل معهما في الجنة أعداد نفوس غير محصورة من أولادهما، فعلم أن خروجهما من الجنة متضمن لخيرات كثيرة، ونعم جليلة لهما ولذرياتهما.
الثاني: إنه تعالى بين أن من اتبع هداه بحقه علما وعملا - بالاقدام على ما يلزم، والاحجام عما يحرم - فإنه يبلغ إلى منزلة لا يعتريه فيها خوف من المآل، ولا حزن في الحال. وهذا متضمن لجميع ما أعد الله لأوليائه، لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات.
لا يقال: هذا يستلزم أن يتساوى جميع أهل الهداية في السعادات، ولا يتفاوت فيها بين الأنبياء والأمم.
لأنا نقول: كل واحد من أهل السعادة ينال جميع ما يستلذه، ويسلم من جميع ما يستكرهه، وهم مع ذلك متفاوتون في السعادات، لتفاوتهم في الشهوات وتفاوت ادراكاتهم للخيرات، وكل ينال بقدر قوة وجوده وعلمه سعادة تليق بحاله وكماله.
الثالث: الآية تدل على أن المؤمن المتبع للهدى، المعرض عن آفة الهوى لا يلحقه خوف أصلا لا في القبر، ولا عند البعث، ولا عند حضور الموقف، ولا عند تطاير الكتب، ولا عند نصب الموازين، ولا عند الصراط، كما قال سبحانه:
لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون
[الأنبياء:103].
ومنهم من استدل بعموم قوله:
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت
[الحج:2]. وسائر العمومات الواقعة في أحوال القيامة وشدائدها، على أن أهوالها كما تصل إلى الكفار والفجار كذلك تصل إلى المؤمنين والأخيار.
والجواب: إن قوله:
لا يحزنهم الفزع الأكبر
[الأنبياء:103] خاص، وقوله:
يوم ترونها
[الحج:2] وأمثاله عام، والخاص مقدم على العام عند التعارض.
والرابع: إن الهدى قد يثبت ولا اهتداء، لأن الأول فعل الله وسنته، ولا تبديل لسنة الله. والثاني فعل العبد، وهو في معرض التجدد والانفكاك. فلذلك قال: { فمن تبع هداي }.
والخامس: بطلان القول بأن المعارف ضرورية.
السادس: ابطال التقليد فيها، لأن الآية دلت على أن الخلاص من الخوف والحزن إنما يترتب على اتباع الهدى، والمقلد لا يصدق عليه أنه اتبع الهدى، لأن ذلك يتوقف على البصيرة في المقلد.
السابع: إن بمجرد اتباع الهدى يحصل استحقاق الجنة، لأن قلب الانسان في نفسه لطهارته الأصلية صالح للوصول إلى عالم الجنان، وإنما عاقته عن ذلك كدورة الظلمات، والجهالات، وثقل الأوزار، والتعلقات، وباتباع الهدى عاد إلى فطرته الأصلية مع زيادة نور العلم والعبادة، فيستحق الجنة أتم استحقاق.
وقرئ " هدي " على لغة هذيل - بقلب الألف ياء - وقرأ يعقوب { فلا خوف عليهم } بنصب الفاء في جميع القرآن. والباقون بالرفع والتنوين.
فصل
{ والذين كفروا وكذبوا } الآية
قد جعل الله الكفر والتكذيب بالآيات في مقابلة الاتباع للهدى، وعلم أن المراد من الهدى الآيات، وجعل الكفار والمكذبين قسيما للمؤمنين المتبعين للآيات، فأوعد هؤلاء بالعذاب الدائم، والخلود في النار كما وعد أولئك بالأمن من العذاب والحزن.
و " الآية " في اللغة العلامة. ومنه قوله تعالى:
عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك
[المائدة:114]. أي: علامة لاجابتك دعاءنا، ويقال للمصنوعات من حيث دلالاتها على وجود الصانع وعلمه وقدرته، ولكل بعض من كتاب الله المتميز بفصل عنه غيره لدلالته على معرفة من معارف الله.
وهي مشتقة من " أي " لأنها تبين أيا من أي، أو من " أوى إليه " واصلها " أية " أو " أوية " كتمرة، فأبدلت عنها على غير قياس أو " أيية " أو " أوية " كرمكة فأعلت أو " آيية " كقائلة. فحذفت الهمزة كذا في البيضاوي.
والمراد من الآيات: المنزلة - كالكتب والرسل - أو ما يعمها والمعقولة. وعند التحقيق مرجعهما واحد، لأن معاني الكتب عين البراهين العقلية، وذوات الرسل عين مبادئها التي هي عقول بالفعل. والكل شواهد الجمال، وآيات العظمة والجلال، والاعراض عن معرفتها، وعن الاهتداء بها يوجب العذاب والنكال، والسقوط عن درجة الكمال، والانحطاط إلى مهوى الأرذال، ومهبط النزال.
وأما الكلام في أن العذاب هل يحسن من الله، أم لا؟ وبتقدير حسنه: هل يحسن على الدوام، أم لا؟ فقد مر ذكره في تفسير قوله:
ختم الله على قلوبهم
[البقرة:7].
واعلم أن الله سبحانه بين حال طائفتين من طوائف الناس بحسب العاقبة، لكون كل منهما في طرف التضاد في الآخر إحداهما: الكاملون في السعادة، والأخرى: الكاملون في الشقاوة، ولم يبين حال الأوساط إما لأن حالهم يستفاد من أحوال هاتين الطائفتين بوجه، وإما لأن المقام لا يقتضي تفصيل مراتب الناس بحسب العاقبة، لأن الكلام مسوق هاهنا في أحوال مبادئ نشأة الإنسان، وأوائل فطرته، وإنما انجر إلى ذكر نبذ من أحوال النهاية تبعا وإجمالا. والتفصيل فيها موكول إلى مواضع أخرى من القرآن، مثل قوله تعالى:
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم
[التوبة:106]. وكقوله:
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم
[التوبة:102].
والحق أن الموجب للعذاب الدائم ضرب من الكفر، وهو الذي يكون مع أهل النفاق المكذبين المعاندين، حيث يتركب فيهم الجهل مع الاستكبار والرسوخ فيه.
وأما الكفر بمعنى الصفة العدمية هي عدم الإيمان بالله ورسوله بواسطة قصور النفس عن درجة هذا الكمال، وانحطاطها عن اكتساب هذا النور، فلا يوجب ذلك إلا دوام الكون في النار، وعذابا أدنى من عذاب أهل الشرك والظلم نعوذ بالله.
وهاهنا آخر الآيات الدالة على أحوال مبادئ نعم الله على الإنسان، وكيفية تكونه أولا في عالم القدس والأنس، ونزوله ثانيا من أعلى المراتب إلى أدنى المنازل ليستعد بذلك النزول للبلوغ إلى السعادة القصوى، والمملكة العظمى في النهاية.
ويستفاد منه الدلالة على التوحيد، والنبوة، والمعاد:
أما التوحيد فمن حيث إن المبدع المنشئ له في أكمل النشأة، وأحسن التقويم، والمردد له في محال الجبروت، ومنازل الملكوت، والمقلب له في أطوار الخلقة، وأحوال الفطرة، قادر، حكيم، فاطر، عليم، محيط بكل شيء، وله الخلق والأمر.
وأما الدلالة على النبوة فمن حيث إن محمدا (صلى الله عليه وآله) أخبر عن هذه العلوم الغيبية التي عجزت عن كنه ادراكها عقول الحكماء المتفكرين، وقصرت أفهامهم عن تحصيلها من ماهية الروح الإنسانية، وترددها في مكامن الغيب قبل مظاهر الشهادة - من غير تعلم من أستاذ بشري، بل بوحي إلهي وعلم لدني. وهؤلاء بدقة أفكارهم لم يعلموا من الروح الإنساني إلا ما حدث عن مزاج البدن في الشهر الرابع من تكون النطفة في الروح، ولم يعلموا من بقائها إلا استمرار وجودها على نعت واحد وجوهرية واحدة، غير مطلعين على نشآتها السابقة على الكون في الرحم، ولا على تمام نشآتها اللاحقة بعد الموت، وتفاصيلها كالقبر والبعث، والحشر، والصراط، والحساب، والميزان، والجنة، والنار والرؤية، واللقاء.
وأما الدلالة على المعاد فمن حيث إن القادر الذي يخلق بدايات خلقة الإنسان لا بد وأن يخلق نهايات خلقه وغاياته فإن كل ما له بداية فله نهاية، والإنسان لجامعية ذاته، وشموله على الطبع، والحس ، والنفس، والروح والسر المنفوخ، فله بحسب كل منها بدايات متتابعة، ونهايات متلاحقة. وهذا بيان برهاني له شرح وتفصيل سيأتي إن شاء الله.
وأما ما قيل في اثبات المعاد في مواضع عديدة " إنه من قدر على خلق هذه الأشياء ابتداء قدر على خلقها اعادة " فهو بمجرده لا يثبت وجوب المعاد - بل إمكانه - إلا أن يضم إليه سائر الأدلة.
[2.40]
لما عمم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة، الدلالة على التوحيد، والنبوة، والمعاد، وذكرهم ما أنعم عليهم في أبيهم آدم (عليه السلام)، ونبههم على مكامن خلقتهم، ومبادئ، نشأتهم عقبها بإزالة شبه المنكرين، وقمع أوهام المعاندين، باقامة الحجة على طائفة مخصوصين، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة، لأنهم أكثر الناس انكارا للنبوة، كما أن كفار قريش كانوا أكثر الناس انكارا للتوحيد. وقيل: الخطاب لليهود والنصارى، وهم جميعا من أهل الكتاب، المحجوبين عن الدين، بل عن الحق مطلقا، واليقين.
فشرع أولا في ذكر الانعامات الخاصة على أسلاف اليهود وآبائهم، تذكيرا لنعمه، وعظيم مننه عليهم، واستمالة لقلوبهم، وتنبيها على ما يدل على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) من حيث اخباره عن المغيبات، والأحوال الماضية، والأديان السابقة، ثم أمرهم بايفاء عهد الله من الاقرار بالربوبية، والاعتراف بتمام نعمته في بعثة نبيه الخاتم للرسل، وانزال كتابه الجامع للكلم، والحاوي للحكم، المفصح المعرب عن كل دقيق وجليل، المصدق لما بين أيديهم من التوراة والانجيل، ليكافئهم الله بإيفاء عهدهم من حسن الجزاء وسعادة المسرى، ثم حذرهم ورهبهم عن التعرض لما يوجب سخطه، ويحجب عن رحمته من انكار الحق وكتمانه، وتلبيسه بالباطل، أو ترويج الباطل وابرازه في صورة الحق لاتباع الهوى وطلب العادلة وترك الآجلة.
فالكلام من هذه الآية إلى أوائل الجزء الثاني مسوق مع طائفة أهل الكتاب ومتكلمي اليهود والنصارى، احتجاجا عليهم وإنذارا لهم على أبلغ وجه وآكده. ومن تأمل في تضاعيف ما ذكر في هذه الآيات من الإشعار بفنون نعم الله العامة، والخاصة لطائفة أهل الكتاب، ثم اردافها بالترغيب البالغ بقوله:
وأني فضلتكم على العالمين
[البقرة:47] مقرونا بالترهيب البالغ بقوله:
واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا
[البقرة:48] - إلى آخر الآية - علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع.
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ:
{ يابني إسرائيل }: يا أولاد يعقوب. الابن، والولد، والنسل، والذرية، متقاربة المعاني، إلا أن " الابن " للذكر، و " الولد " يقع على الذكر والأنثى و " النسل " و " الذرية " يقعان على جميع ذلك. وأصل " ابن " من " البناء " ، وهو وضع الشيء على الشيء، لأنه يبنى على الأب لأنه الأصل، والابن فرع له منسوب إليه، كما ينسب المصنوع إلى صانعه. فيقال: " أبو الحرب " وكأن اطلاق الأب على العلة الموجدة، والإبن على المعلول في بعض ألسنة القدماء من هذه الجهة، لأن العلة الموجدة للشيء هي أصل وجوده، ووجود المعلول فرعه، فكانوا يسمون المبادئ بالآباء، يقولون للباري جل مجده: " أب الآباء " أعني علة العلل، لا بالمعنى الذي زاغت النصارى لأجل ذلك وصلت أفهامهم من قول المسيح (عليه السلام): " إني ذاهب إلى أبي وأبيكم " أي: ربي وربكم.
وإسرائيل لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - على نبينا وعليهم السلام - وقيل: أصله مضاف، معناه بالعبرية: صفوة الله. أو: عبد الله. لأن " اسر " معناه: عبد و " إيل " هو: الله في لغة العبرانيين، فصار مثل " عبد الله " مركبا اضافيا، وكذلك جبرائيل ومكائيل. والقراءة المشهورة " إسرائيل " مهموز، ممدود، مشبع الياء. وقرئ " إسرإل " بحذف الياء. و " إسراييل " بقلب الهمزة ياء. و " إسرال " بحذفها و " إسرائين " بالنون. قال أبو علي: " العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه ".
و " الذكر " الحفظ للشيء. وضده النسيان. والحق أن الذكر هو إدراك الشيء المحفوظ أولا، ولا بد فيه من قوتين باطنيتين: الواهمة، والحافظة، و " الاسترجاع " أخص منه، إذ لا بد فيه من قوى ثلاث - هما والمتصرفة - فالذاكرة من الإنسان وكذا المسترجعة ليست قوة بسيطة، بل قوة مركبة من القوتين أو أزيد، فلا يلزم بسببها اثبات قوة أخرى في الإنسان غير الخمس الباطنية.
وربما يطلق " الذكر " على جري لفظ الشيء على لسانك، وهو ليس بذكر للشيء حقيقة، كما أن لفظ الشيء ليس وجوده، بل ذكر الشيء عبارة عن احضار معناه في حضرة النفس. قال تعالى:
" أنا جليس من ذكرني "
فلو كان المراد به ذكر اللسان دون القلب يلزم أن يكون الله جليس هذا الجرم المخصوص.
وأما القلب الذاكر للحق فليس المراد به هذا العضو العنصري المتخصص بالوضع والأين. بل الذي أشير إليه في الحديث الإلهي:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن الوادع ".
و " الذكر " قد يكون بمعنى ما يتذكر، فيطلق على الكتاب الذي فيه تفصيل الدين
إنه لذكر لك ولقومك
[الزخرف:44]. فكل كتاب من كتب الأنبياء (عليهم السلام) ذكر.
و " الذكر " هو الصلاة والدعاء، وفي الأثر: " كانت الأنبياء إذا حزنهم أمر فزعوا إلى الذكر " أي: إلى الصلاة.
تقول: " وفيت بعهدك وفاء " و " أوفيت " لغة تهامة.
والعهد: الأمر والوصية.
والرهبة: الخوف. وضدها الرغبة. وفي المثل: " رهبوت خير من رحموت ". أي: لأن ترهب خير من أن ترحم.
فصل
قوله تعالى: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }
أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من تكثير الأنبياء فيهم، والكتب، وانجائهم من فرعون وجنوده، ومن الغرق على أعجب الوجوه، وانزال المن والسلوى عليهم، وكون الملك منهم في زمن سليمان (عليه السلام)، وغير ذلك.
وعد النعمة على آبائهم نعمة عليهم، لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء. وهذا كما يقال في المفاخرة: " قتلناكم يوم الفخار، وهزمناكم يوم ذي قار، وغلبناكم يوم النسار ".
وذكر النعمة بلفظ الواحد، والمراد به النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به أو اشتركوا مع آبائهم، حتى تناسلوا فصاروا من أولادهم، ومن ذلك خلقه إياهم على وجه يمكنهم اكتساب المعرفة بالله، والاستدلال على توحيده، والوصول إلى مكاشفة أسمائه وصفاته وملكوته وآياته، فيشكروا نعمته، ويستحقوا ثوابه وجنته.
واعلم أن " النعمة " يعبر بها عن كل خير، ومنفعة، ولذة، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة. و " الخير " هو المؤثر المختار بحسب الواقع.
و " المنفعة " ما يكون وسيلة إلى الخير بالذات، فهي تكون خيرا بالعرض، و " اللذة " قد تطلق بمعنى الشهوة، وهي التي تكون مختصة بادراك الحواس، كلذة البطن، والفرج، والمال، والجاه. وقد تطلق بمعنى ادراك الملائم سواء كان للعقل أو الحس. والأول تكون خيرا، إلا أنها يمكن أن تكون منفعة، وذلك إذا كانت على وجه يؤدي إلى الخير الحقيقي.
وكل واحد من هذه المعاني الثلاثة يمكن أن يصدق على بعض أفراد الآخرين، فإن الشيء يمكن أن يكون خيرا، ولذيذا، ومنفعة، كالعلم بمسألة إلهية يؤدي إلى العلم بمسألة أخرى منها، فإن العلوم الإلهية كلها خير، لأنه كمال عقلي باق دائما، وكل موجود باق دائما فهو خير، وهو أيضا وسيلة إلى خير آخر فيكون منفعة، وهو نفسه لذيذ عند العالم به، وإن لم يكن لذيذا عند فاقد القوة التي بها تدرك المعارف الإلهية. والله سبحانه أحب الأشياء عند العرفاء الأحباء، وهم أيضا أحب الأشياء عنده، كما يدل عليه قوله
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]. وهو أبغض الأشياء عند المبعدين المنكرين وبالعكس، كما في قوله (صلى الله عليه وآله):
" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ومن أنكر لقاء الله أنكر الله لقاءه ".
وحد القوم " النعمة " بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، أما كونها منفعة فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن يعد نعمة، وأما التقييد بكونها مفعولة على جهة الإحسان: فلأنه لو كان نفعا ولكن لم يقصد الفاعل نفعه - بل ضره - لم يكن نعمة عليه، كمن أحسن إلى أحد وأراد به اختداعه أو استدراجه إلى ضرر.
إذا عرفت هذا فاعلم أن جميع ما خلقه الله لعباده فهو نعمة منه، لأنه لا يخلو عن أمرين: إما خير، وإما منفعة أي: وسيلة إلى ما هو الخير بالذات. أما الخير بالذات: فيرجع حاصله مع انشعاب أقسامه إلى الإيمان، وحسن الخلق، وينقسم الإيمان إلى علوم المكاشفة، وهي العلم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأوليائه، وعلم المعاد واليوم الآخر.
وإلى علوم المعاملة: وهي تحصيل حسن الخلق.
والأولى عد علوم المعاملة من جملة المنافع، لأنها وسيلة إلى حسن الخلق الذي هو عبارة عن سلامة القلب، وطهارة النفس، وصفاء الضمير، وشيء منها ليس خيرا بالذات، لأنها عدمية، والعدم لا يكون خيرا بالذات، وإنما هو وسيلة إلى قبول الخير، وهو صورة المطلوب - أي الحضرة الإلهية وأفعاله وآثاره -.
فعلوم المعاملة من المنافع المؤدية إلى الخير الحقيقي، والسعادة الأخروية، إذ لا سبيل إلى سعادة الآخرة إلا بالعمل والسعي في طريقها و
ليس للإنسان إلا ما سعى
[النجم:39] وليس لأحد في العقبى إلا ما تزود في الدنيا.
وهي تنقسم إلى عفة وهي سياسة قوة الشهوة، حتى لا تكون مستولية ولا مطموسة وإلى شجاعة، وهي تعديل قوة الغضب، حتى لا يكون الإنسان من جهتها متهورا ولا جبانا مقهورا، بل يكون اقدامه واحجامه بمقتضى العقل المنور بنور الإيمان، وإلى حكمة، وهي اصلاح القوة الادراكية حتى لا تكون جربزة مكارة كالشيطان في استنباط دقائق الحيل في الدنيا، والتفريعات الجزئية من العلوم التي ضرها أكثر من نفعها. ولا يكون أيضا بليدا غير مرو في الأشياء النافعة.
وهذه الحكمة غير الحكمة التي أثنى عليها كتاب الله بقوله:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269]. فإنها كلما كانت أكثر فهي أجل وأشرف.
ومن تعديل هذه الثلاثة - أعني ملكة العفة، والشجاعة، والحكمة - تحصل للنفس ملكة أخرى تسمى بالعدالة، وهي ميزان أنزله الله تعالى على لسان رسوله، إذ قال:
ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان
[الرحمن:8 - 9]. فمن أخصى نفسه لترك شهوة الجماع، وترك النكاح مع الاستطاعة والأمن من الغائلة، أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والفكر فقد أخسر الميزان، ومن انهمك في الشهوات فقد طغى في الميزان، وإنما العدل أن يخلو الوزن والتقدير عن الطغيان والخسران، وتتعادل كلتا كفتي الميزان، وفي ذلك تحصل النجاة عن عالم الأضداد وخلاص النفس عن أسر عفاريت الظلمات، وأفاعي الشهوات، فإن التوسط بين الأطراف بمنزلة الخلو عنها.
فهذه هي الفضائل والخيرات المحضة، وهي سعادة الآخرة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لا جهل معه، وغنى لا فقر معه، وهي النعمة الحقيقية. ولذلك قال (صلى الله عليه وآله)
" لا عيش إلا في الآخرة "
وصدر هذا القول منه (صلى الله عليه وآله) مرتين: مرة في الشدة تسلية للنفس، وذلك في وقت حفر الخندق في شدة الضر، ومرة أخرى في السرور منعا للنفس من الركون إلى سرور الدنيا وذلك عند احداق الناس به في حجة الوداع.
وقال رجل:
" إني اسألك تمام النعمة " فقال (صلى الله عليه وآله): " وهل تعلم ما تمام النعمة؟ " قال: " لا ". قال: " دخول الجنة ".
وأما المنفعة - أعني النعمة التي هي وسيلة إلى ما هو خير حقيقي - فتنقسم إلى الأقرب الأخص بالخير، كفضائل النفس، وهي كما مر: عفة وشجاعة، وحكمة وعدالة. وإلى ما يليه في القرب، كفضائل البدن، وهو الثاني. وإلى ما يلي هذا في القرب، كالأسباب المطيفة بالبدن من المال، والأهل، والعشيرة، وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس، وبين الحاصلة لها كالتوفيق والهداية.
فجميع نعم الله التي هي دون الخير الحقيقي، والشرف الذاتي وهو المعرفة بالله، وأفعاله، من ملائكته، وكتبه، ورسله، ومعرفة النفس، ومواطنها، وغاياتها - المعبر عنهما بالإيمان بالله واليوم الآخر، كما مرت إليه الإشارة - منحصرة مع عدم تناهيها وعدم امكان العد والاحصاء فيها كما قال:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم:34]. في أربعة أنواع:
النوع الأول منها: هي الفضائل النفسانية التي ترجع إلى سلامة القلب، وطهارة النفس. وهي الأربعة المذكورة - العفة، والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهذه الفضائل لا تتم إلا بالنوع الثاني منها، وهي الفضائل البدنية، وهي أيضا أربعة: - الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر - ولا تتهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث، وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن - وهي أربعة: المال، والأهل، والجاه، وكرم العشيرة - ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجية البدنية إلا بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسانية الداخلة - وهي أيضا أربعة: هداية الله، ورشده، وتسديده، وتأييده - وقد مر شرح هذه المعاني في تفسير الفاتحة.
فمجموع هذه النعم ستة عشر قسما وهذه الجملة يحتاج بعضها إلى بعض، إما حاجة ضرورية أو نافعة.
أما الحاجة الضرورية فكحاجة سعادة الآخرة إلى حسن الخلق، وسلامة القلب، وكذلك حاجة الفضائل النفسانية - ككسب العلوم وتهذيب الأخلاق - إلى صحة البدن ضرورية.
وأما الحاجة النافعة على الجملة، كحاجة هذه النعم النفسية، والبدنية إلى النعم الخارجية مثل المال، والعز، والأهل، فإن ذلك لو عدم ربما تطرق الخلل إلى بعض النعم الداخلية، أو لا ترى أن الفقير في طلب العلم والكمال الذي ليس معه كفاية كساع إلى الهيجا بغير سلاح، أو كباز يروم الصيد بغير جناح.
ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): " نعم المال الصالح للرجل الصالح " وقال (صلى الله عليه وآله):
" نعم المال المال الصالح للرجل الصالح "
وقال (صلى الله عليه وآله):
" نعم العون على تقوى الله المال "
وكيف، ومن عدم المال مستغرق الأوقات في طلب القوت، وتهيئة اللباس، والمسكن، وضرورات المعيشة، ثم يتعرض لأنواع الأذى من الأدنى حتى يشغله عن الفكر، والذكر، ويحرم من فضيلة الحج، والصدقات، وافاضة الخيرات.
سئل بعض الحكماء، وقيل: ما النعيم؟ فقال: الغنى، فإني رأيت الفقير لا عيش له. قالوا: زدنا؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا عيش له. قالوا: زدنا؟ قال: العافية، فإني رأيت المريض لا عيش له. قالوا: زدنا؟ قال: الشباب، فإني رأيت الهرم لا عيش له.
وكأن ما ذكره اشارة إلى نعيم الدنيا، ولكنه من حيث إنه معين على الآخرة فهو نعمة. ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" من أصبح معافى في بدنه آمنا في سر به، وله قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ".
وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما، إذ قال (صلى الله عليه وآله):
" نعم العون على الدين المرأة الصالحة "
وقال في الولد:
" إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له الحديث ".
وأما العز والجاه فبه يدفع الإنسان عن نفسه الذل والضيم، ولا يستغني عنه مسلم، فإنه لا ينفك عن عدو يؤذيه، وظالم يشوش عليه عامة عمله وفراغه، ويشغل قلبه، وقلبه رأس ماله، وإنما تندفع هذه الشواغل بالعز والجاه. ولذلك قيل: الدين والسلطان توأمان
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
[البقرة:251].
ولا معنى للجاه إلا ملك القلوب، كما لا معنى للغنى إلا ملك الدراهم، وعلى هذه القصد كان الأنبياء الذين لا ملك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين، ويطلبون ما عندهم وكذلك كان أئمتنا سلام الله عليهم يتوجهون إلى الأمراء، ويقصدون التناول من خزانتهم، والاستيسار، والاستكثار في الدنيا بملاقاتهم، ومعاشرتهم، ولا تظنن أن نعمة الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) حيث نصره، وأكمل دينه، وأعزه في الأرض، وأظهره على جميع أعدائه، ومكن له في القلوب حتى اتسع عزه، وجاهه، كان أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذى ويضرت حتى افتقر إلى الهرب والهجرة.
وأما كرم العشيرة فهو أيضا من النعم الجليلة، ولذلك من الله تعالى على بني إسرائيل في هذه الآية، وفي قوله...، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" الأئمة من قريش "
ولذلك كان (صلى الله عليه وآله) من أكرم أرومة في نسب آدم (عليه السلام)، ولهذا المعنى قال (صلى الله عليه وآله):
" تخيروا لنطفكم "
وقال:
" إياكم وخضراء الدمن " فقيل: " وما خضراء الدمن؟ " قال: " المرأة الحسناء في المنبت السوء ".
فهذا أيضا من النعم، وليس المراد منه الانتساب إلى الأشرار، والظلمة، وأرباب الدنيا، بل الانتساب إلى أكابر الأخيار كشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، والعلماء والشهداء، والصالحين.
فإن قلت: فما منفعة الفضائل البدنية وغناؤها؟
فنقول: لا خفاء في شدة الحاجة إلى الصحة، والقوة، وإلى طول العمر، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" أفضل السعادة طول العمر في عبادة الله ".
وإنما يستحقر من جملتها أمر الجمال. فيقال: يكفي أن يكون البدن سليما من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات. نعم الجمال قليل الغناء. ولكن لعمري إنه من الخيرات أيضا. أما في الدنيا فلا يخفى نفعه فيها، وأما في الآخرة فمن وجهين:
أحدهما: إن القبيح مذموم، والطباع عنه نافرة، وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب، وجاهه في الصدر أوسع، فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه، إذ هو نوع قدرة، إذ يقدر جميل الوجه على تنجز حاجات لا يقدر عليها القبيح، وكل معين على حاجات الدنيا، فهو معين على الآخرة بواسطتها.
الثاني: إن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس، لأن نور النفس إذا تم إشراقه، تأدى إلى البدن، فالمنظر والمخبر كثيرا ما يتلازمان، ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيآت البدن، وقالوا: الوجه والعين مرآة الباطن، ولذلك يظهر فيه أثر الغضب، والسرور، والغم، ولذلك قيل: " طلاقة الوجه عنوان ما في النفس ".
واستعرض المأمون جيشا، فعرض عليه رجل قبيح المنظر فاستنطقه، فإذا هو ألكن. فأسقط اسمه من الديوان. وقال: " الروح إن أشرقت على الظاهر فصباحة وإن أشرقت على الباطن ففصاحة، وهذا ليس له ظاهر ولا باطن " وقد قال (صلى الله عليه وآله):
" أطلبوا الخير عند حسان الوجه "
وقال الفقهاء: " إذا تساوت درجات المصلين فأحسنهم وجها أولاهم بالإمامة " وقال سبحانه ممتنا بذلك:
وزاده بسطة في العلم والجسم
[البقرة:247].
وليس المراد بالجمال ما يحرك الشهوة، فإن ذلك أنوثة مذمومة، وإنما يعنى به ارتفاع القامة في الاستقامة مع الاعتدال في اللحم، وتناسب الأعضاء، وتناصف خلقة الوجه، بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه.
فإن قلت: كيف يكون المال، والجاه، والنسب، والأهل، والولد في حيز النعم وقد ذم الله تعالى المال، والجاه، وكذا رسوله صلى الله عليه وأهل بيته عليهم السلام وقال:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم
[التغابن:14] وقال تعالى:
إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة
[التغابن:15]. وقال:
وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات:13]. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " الناس أبناء ما يحسنون، وقيمة كل امرئ ما يحسنه " وقيل: " المرء بنفسه لا بأبيه " فما معنى كونها نعمة - مع كونها مذمومة شرعا -؟.
فاعلم أن من يأخذ العلوم من الألفاظ المنقولة المأولة، والعمومات المخصصة كان الضلال عليه أغلب، ما لم يهتد بنور الله تعالى إلى إدراك الأمور على ما هي عليها، ثم تبين النقل على وفق ما ظهر له منها بالتأويل مرة، وبالتخصيص أخرى.
فهذه نعم معينة على الآخرة لا سبيل إلى جحدها، إلا أن فيها فتنا ومخاوف، فمثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع: فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز عن سمها، وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة، وإن أصابها سوادي فهي عليه هلاك وبلاء.
وهو مثل البحر الذي تحته أصناف الجواهر واللآلي فمن ظفر بالبحر، فإن كان عالما بالسباحة، وطريق الغوص، وطريق الاحتراز عن مهلكات البحر، فقد ظفر بنعمه، وإن خاضه جاهل بذلك فقد هلك.
ولذلك مدح الله المال وسماه خيرا: ومدحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:
" نعم العون على تقوى الله المال الطيب "
وكذلك مدح الجاه والعز، إذ من الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) أن أظهره على الدين كله، وحببه في قلوب الخلق، وهو المعني بالجاه.
ولكن المنقول في مدحهما قليل، والمنقول في ذمهما كثير، حيث ذم الرياء وهو ذم الجاه. إذ الرياء المقصود فيه اجتلاب القلوب، ومعنى الجاه ملك القلوب وإنما كثر هذا وقل ذلك، لأن الناس أكثرهم جهال بطريق الرقية لحية المال، وطريق الغوص في بحر الجاه، فوجب تحذيرهم، فإنهم يهلكون بسم المال قبل الوصول إلى ترياقه، ويهلكهم تمساح بحر الجاه قبل العثور على جواهره، ولو كانات في أعيانهما مذمومين بالإضافة إلى كل أحد لما تصور أن ينضاف إلى النبوة الملك - كما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) - ولا أن ينضاف إليه الغنى - كما كان لسليمان (عليه السلام) - والناس كلهم صبيان والأموال حيات، والأنبياء والعارفون معزمون وقد يضر الصبي ما لا يضر المعزم. فإذن النعم الدنيوية كلها مشوبة، وقد امتزج داؤها بدوائها، ومرجوها بمخوفها ونفعها بضرها، فمن وثق ببصيرته، وكمال معرفته، فله أن يعرف منها فسادها، ويستخرج دواءها، وإلا فالفرار الفرار، والبعد كل البعد عن مظان الأخطار، فلا تعدل بالسلامة شيء في حق هؤلاء، وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى، وهداه لطريقه.
فهذه مجامع نعم الله وأجناسها الكلية، ولكل منها أعداد لا تحصى، وأسباب لا تتناهى، بل كل ما يوجد من الله تعالى في الدنيا، فهي مما يصدق عليه بوجه من الوجوه أنه نعمة، لأنه إما خير، وإما وسيلة إلى الخير. والشر مما لا ذات له، لأنه إما عدم ذات، أو عدم كمال لذات، فالموت، والكفر، والجهل، والفقر، وأمثالها التي هي شرور بالذات أمور عدمية، وأما الظلم والجحود، والقتل المحرم، والفسق والتكبر، والعناد، والجهل المركب، وأمثالها، فهي شرور بالعرض، لأنها مؤدية إلى ما هو شر بالذات، أعني عدم الحياةالأخروية، أو عدم كمال تلك الحياة. ولهذا شرح وتفصيل يليق بموضع آخر غير هذا الموضع.
هداية
لماذا ينسب الخير إليه تعالى والشر إلينا؟
اعلم أن كل ما يصل إلينا في كل وقت ولحظة من آناء الليل والنهار من النفع أو دفع الضر، فهو من الله تعالى على ما قال
وما بكم من نعمة فمن الله
[النحل:53]. وأما الشرور والآفات فهي من أنفسنا، ومن قصور قابلياتنا، وسوء استعداداتنا، التي هي أيضا منتهية بوجه الخير إلى الله، وبوجه الشر إلى الإمكانات، ولوازم الماهيات الناشئة من قصور الموجودات، فإن وجود المعلول لا ينفك عن نقص، وإلا لم يكن فرق بين المفيض والمفاض عليه.
فجميع ما في العالم على التحقيق - إما نعمة، أو متنعم به نفع، أو منتفع به خير، أو ما يؤدي إلى الخير، بل يمكن أن يقال: إن جميع ما في العالم. مما لا حد له ولا احصاء، هي نعمة من الله في حق الإنسان، إذ ما من شيء إلا وله الانتفاع.
أما التي أودعها فينا من المنافع، واللذات، والجوارح، والآلات، فظاهر انتفاعنا بها، لأنا نستعملها في جر المنافع، ودفع المضار الدنيوية، والأخروية.
وأما التي خلقها الله تعالى خارجة عنا فهي أيضا إما نستلذ بوجودها، أو ننتفع لمعرفتها، والاستدلال بها على وجود الصانع، وحكمته، وجوده، ولطفه، فهي كلها منافع منتفع بها إما حالا أو مآلا، فإنها وسائل إلى المعرفة والحكمة، وهي إما نفس السعادة واللذة الدائمة، أو وسيلة إليهما فصح أن جميع مخلوقات الله نعم على العبد، وهي غير متناهية لا يمكن عدها ولذا قال تعالى:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم:34].
فإن قلت: إذا كانت النعم غير متناهية فكيف يمكن الانتفاع بها؟ وأيضا إذا كانت غير متناهية لا يمكن علم العبد بها فكيف أمر الله إياه بتذكرها في قوله: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }؟
والجواب عن الأول أن المراد بالنعمة ما يمكن الانتفاع به - سواء انتفع به أحد، أم لا - فكل واحد من الأمور المخلوقة مما يمكن الانتفاع به للعبد، فيكون نعمة في حقه.
وأما عن الثاني: فإن الأشخاص غير متناهية، والطبائع النوعية متناهية، ويمكن لنا العلم بالطبائع والعنوانات، والحكم بها على وجه يسري في أشخاصها الغير المتناهية مجملة، كما في القضايا الكلية، مثل قولنا: " كل إنسان له قوة الكتابة " ففي هذا الحكم تصورنا طبيعة العنوان - أي ماهية الإنسان - بالكنه، وتصورنا أفراده كلها بالوجه، وحكمنا عليها بقوة الكتابة. وهذا ضرب من العلم، وهو يكفي للتذكر الذي يفيد العلم بوجود الصانع، وحكمته عن آثار صنعه وأنوار حكمته.
فقد ثبت أن جميع ما في العالم من المخلوقات، فهو نعمة في حق الإنسان، وقد مر أنها كلها خيرات بالقصد، شرور بالتبع.
هذا على ما هو مذهب أهل الحق، وأما على مذهب أهل السنة فيجوز من الله خلق الشرور وايلام البري، من غير أن يكون القصد فيه إلى اصلاح حالهم، أو مآلهم ثم اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر في الدنيا، أم لا؟
فمنهم من قال: هذه النعم في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن تلك نعمة، فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة، لما كان وسيلة إلى الضرر العظيم.
ولهذا قال تعالى:
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما
[آل عمران:178].
ومنهم من قال: إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين، لكن أنعم عليه في الدنيا - وهو قول الباقلاني - وهذا أقرب إلى الصواب.
لكن الإشكال المذكور في مثال الحلوى المسمومة باق، لا يمكن حله بقوة فكر المتكلم ، وصنعته وتلفيقه للكلام، وإنما ينحل وينكشف بقوة نور البصيرة الكاشفة لأسرار حكمة الله في خلق الكفار، وتنعيمهم مدة لعمارة هذه الدار، وتعذيبهم في دار القرار، فهذا التنعيم بعينه إما عين ذلك التعذيب، أو منجر إليه. قال تعالى:
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها
[الحج:19 - 22] وقيل لهم:
ذوقوا عذاب الحريق
[الحج:22].
أي الذين انقطعوا عن الله وعالم ملكوته، أعرضوا عن أصحاب القدس والتجريد، وأهل الروح والعقل باتباع الهوى، والشهوة، والطبيعة، قطعت لهم بتقطيع خياط القضاء ثياب من نار القدر على قدر نفوسهم، المحترقة بنار الهوى، وكبريت الشهوة، وحطب الطبيعة، وهي ثياب أخلاق ذميمة، نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبيعة. ويصب من فوق رؤوسهم - أي من مبدإ الإفاضة عليهم - حميم الشهوات النفسانية؛ لسوء قابليتهم لماء الإفاضة، فيصير حميما في حقهم على ما قيل:
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
فيذاب به ما في بطونهم وقلوبهم، ويخرج ما في نفوسهم من الملكات والأخلاق من القوة إلى الفعل يوم تبلى السرائر، فتصير مصورة بصور مؤلمة معذبة للروح، ولهم مقامع من حديد قلوبهم، وهي الملكات الذميمة الراسخة، كلما أرادوا أن يخرجوا من دار الجحيم، وسعير الهوى، ونار الهاوية من غم ما هم فيه أعيدوا فيها بمقامع تلك الأخلاق؛ لغلبة الجهل، واستيلاء الحرص عليهم، وقيل لهم: " ذوقوا عذاب ما أحرقت منكم نار الشهوات، وأذابت سموم الأخلاق المهلكات من محاسن الاستعدادات " كما قال (صلى الله عليه وآله):
" الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ".
ومما يدل على أن نعمة الله شاملة للكفار آيات كثيرة في هذا الباب، كقوله تعالى:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم
[البقرة:28]. وقوله:
ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بنآء
[البقرة:21 - 22]. وقوله: { يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } وهذا نص صريح في أن الله تعالى أنعم على الكفار، لأن المخاطب بذلك هم كفرة أهل الكتاب.
وقوله:
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية
[الأنعام:63]. إلى قوله:
ثم أنتم تشركون
[الأنعام:64]. وقوله:
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون
[الأعراف:10]. وقوله:
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها
[الأنفال:53]. وهذا صريح وقوله:
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار
[إبراهيم:28]. إلى غير ذلك من دلائل النعمة العامة، وشواهد الرحمة الواسعة، التي وسعت كل شيء من غير اختصاص بأهل الإيمان.
وأما حديث العذاب الدائم والخلود في النار للكفار فقد مضى لذلك ما فيه كفاية للمستبصر، وشكاية للمحجوب المستنكر.
فصل مشرقي
فضل هذه الأمة على بني إسرائيل
اعلم أن في الآية إشعارا لطيفا بانحطاط درجة هؤلاء المخالفين من أهل الكتاب عن منازل المحببن والمقربين حيث خاطبهم الله بذكر النعمة، واستمالهم وجذب قلوبهم بهذه الملاذ الدنيوية، والمقاصد النفسانية، كإنزال المن والسلوى لهم في التيه، وتظليل الغمام عليهم، وتفجير العيون الإثني عشر، واعطائهم الحجر الذي كرأس الرجل يسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوه، فإذا استغنوا عن الماء رفعوه، فاحتبس، واستنقاذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه، وتخليصهم من العبودية، وتنجيتهم من الغرق، وجعلهم ملوكا بعد أن كانوا عبيدا لآل فرعون والقبط، وإيراثهم أرضهم وديارهم كما قال:
وأورثنا بني إسرائيل
[غافر:53]. وإعطائهم عمودا من نور ليضيء لهم الليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى.
وهذه كلها من النعم الدنيوية ولو كانوا من أهل القلوب المنورة بأنوار المحبة والمعرفة لما احتاجوا في تعلم مسالك الدين، والاهتداء بهدى المؤمنين إلى تذكر أحوال النعم، بل كان المهم فيهم تذكر أحوال المنعم، وكيفية صفات جماله وجلاله، وآيات ملكوته وجبروته، وقد قال بعض العارفين: " عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون ".
فانظر إلى التفاوت بينهم وبين هذه الأمة المرحومة، حيث قال لهم: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } وقال لهذه الأمة بقوله:
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون
[البقرة:152]. ولم يقل: " فاذكروا نعمتي " أو " اشكروا نعمتي " أو " لا تكفروا نعمتي ".
وفيه أيضا إشارة إلى أن ذكر خواص هذه الأمة لله من نتائج خواص ذكر الله إياهم في الأزل بوجهين:
أحدهما: إن ذكره عبارة عن عمله، وعلمه بالعبد متقدم على إيجاده المتقدم على ذكره لله.
وثانيهما: إنه سبحانه أمرهم بالذكر مع " فاء التعقيب " فقوله: { فاذكروني أذكركم } فيه تقديم وتأخير معناه " أذكركم فاذكروني " وهذا كقوله:
رضي الله عنهم ورضوا عنه
[المائدة:119]. فإن رضاءهم عنه تعالى نتيجة رضاه عنهم، وكقوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54].
الذكر ومراتبه وخواصه
واعلم أيها الحبيب أن للذكر مراتب. وللذاكر أيضا مراتب، ونتيجة كل ذكر بما يوازيه ويناسبه في الفضل والثواب، ذكر اللسان، وذكر الأركان، وذكر النفس، وذكر القلب، وذكر الروح، وذكر السر.
فذكر اللسان الإقرار: فاذكروني أذكركم بالأمان. وذكر الأركان باستعمال الطاعات: فاذكروني بالطاعات، أذكركم بالكرامات. وذكر النفس بالاستسلام للأوامر والنواهي: فاذكروني بالاستسلام، أذكركم بنور الإسلام، وذكر القلب بتبديل الأخلاق الذميمة، وتحصيل الملكات الكريمة: فاذكروني بالأحوال والمقامات أذكركم بالاستغراق في المشاهدة. وذكر الروح بالتفريد والمحبة: فاذكروني بالتفريد والمحبة. أذكركم بالتوحيد والقربة، وذكر السر ببذل الوجود والفناء: أذكروني ببذل الوجود والفناء أذكركم بنيل الشهود والبقاء.
وهذا حقيقة قوله تعالى في الحديث الرباني:
" وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي "
والذكر الحقيقي هو أن يجعل الذاكر مذكورا، والمذكور ذاكرا. بل يكون الذكر والذاكر والمذكور واحدا، كما قال سبحانه:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر:16]. كما قال قائلهم:
رق الزجاج ورقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنه خمر ولا قدح
وكأنها قدح ولا خمر
وهذا الدعوى - أي فناء العبد عن نفسه وبقاؤه بنور الحق على ما هو مشهود العارفين بالعيان - مما أقيم عليه البرهان، وهو معلوم من علم النفس، وكيفية تطوراتها في الأطوار، واتحادها في مدارج الاستكمال بالعقل الفعال، كما هو مذهب كثير من الحكماء الأقدمين منهم فرفوريوس، مثاله حال الفراش مع الشمع واشتعاله بشعلة الشمع، فلما بذل الفراش للشمع وجوده نال من وجود الشمع مقصوده، كما قيل:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا - إلى آخره -
ومثال آخر: الحديدة الحامية بالنار، حيث إنها لا تزال تتقرب وتشبه بالنار حتى تزول عنها الهوية الحديدية، وتصير فانية في هوية النارية، وتفعل فعلها من الإحراق والإضاءة.
فلا تتعجب من النفس إذا استشرقت بنور الله، واتصلت بعالم الربوبية، وتخلقت بأخلاق الله، ففعلت ما فعلت بقدرة الله - لا بقدرتها - وسمعت بسمع الله، وبصرت ببصره، فلها أن تقول: " من رآني فقد رأى الحق ".
وهذا تحقيق قوله: " تخلقوا بأخلاق الله " وقوله تعالى:
" لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا، وبصرا، ويدا، ومؤيدا. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يبطش، وبي يمشي ".
فصل
قوله تعالى: { وأوفوا بعهدي }
هذا العهد هو عهد الإقرار بالربوبية المأخوذة عن الفطرة وهو الإيمان بالله وبتوحيده على وجه يستعلم من دين محمد (صلى الله عليه وآله)، والطاعة له ولرسوله، فإن الإيمان بالله واليوم الآخر من العبد، وتقربه إلى الحضرة الإلهية كان متدرجا في الاستكمال من ابتداء الخلق إلى بعثة محمد (صلى الله عليه وآله)، فعند بعثته (صلى الله عليه وآله) بلغ إلى حد الكمال الذي لا أكمل منه،. والتمامية التي لا غاية فوقها، كما قال تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
[المائدة:3]. أي: دين الإسلام ونعمة الإيمان.
فهذه النعمة التامة الإيمانية هي بعينها من جنس النعمة التي أمر الله بني إسرائيل بتذكرها، ليعلموا من تذكرها أن كمالها وتمامها لا يكون إلا بهذه الملة البيضاء المحمدية، والنعمة الحقيقية الإيمانية، فإن درجات المعرفة بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر كانت متفاوتة في كل زمان بحسب الكمال والنقص، والقوة والضعف، وكلما قرب من عصر نبينا (صلى الله عليه وآله) كانت أكمل، وأقوى، وأنور، وأصفى. فكانت هذه المعارف في الأمم السابقة على هذه الأمة - الذي هم خير الأمم - مشوبة بالحس، والخيال، والوهم، والعقل.
فكانت العقائد حسية في زمن آدم (عليه السلام) وما يقربه، لغلبة نور الحس على تلك الأمة، فكانوا أصحاب الأرصاد الفلكية والكوكبية، وأكثرهم كانوا عبدة الأصنام، ولم يقدروا على تجريد معارف الدين، وأصول اليقين عن الأجسام، فكانوا يعبدون الله ويؤمنون به وبملائكته في قوالب الأصنام، وأمثلة الأجسام.
وأما أمة موسى (عليه السلام) فكانت عقائدهم خيالية لغلبة نور الخيال على تلك الأمة بقوة كرامات موسى (عليه السلام). وكان كتابهم الألواح التعليمية، ولم يقدر نبيهم على تجريد عقائدهم عن الخيال، ولذلك طلبوا منه رؤية الله، وكان يبشرهم برسول آخر الزمان (صلى الله عليه وآله).
وأما أمة عيس روح الله (عليه السلام) فكان الغالب عليها نور العقل، والحكمة، والتجريد لا نور الحقيقة والتوحيد، وكانوا يعرفون الله وملكوته مجردا منزها عن العالم وأعيانه، والأجسام وأعراضه، إلا أنه لم تصل قوة إيمانهم إلى حيث يجردون الله وملكوته عن التجسيم والتنزيه جميعا، وعن المزاولة والمزايلة مطلقا، كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " مع كل شيء لا بمزاولة، وغير كل شيء لا بمزايلة ".
فهذا نور الحقيقة وهو فوق نور الحس ونور الخيال ونور العقل، وطوره وراء هذه الأطوار الثلاثة من الأنوار، وأنواعها الفائضة، كل منها على قوم، وهي كلها حجب إلهية نورية، كما أشير إليها في قوله (صلى الله عليه وآله):
" إن لله سبعين حجابا من نور ".
وتلك الحجب كانت كلها موجودة في الأمم السابقة غير مرفوعة عنهم، وهي موجودة في هذه الأمة متفرقة، وبها افترقت إلى ثلاث وسبعين، كما أخبر عنه النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله:
" ستفترق أمتي الحديث "
، ولم يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب، إلا وظن أنه قد وصل.
وإليها الإشارة بقول إبراهيم الخليل، وهو فاتح باب التوحيد، وشيخ الموحدين، وأبو العارفين - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - فعبر عن نور الحس بالكوكب، وعن نور الخيال بالقمر، وعن نور العقل بالشمس، ثم عبر عنها وجاوزها جميعا قائلا:
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام:79]. وأشار إلى خواص هذه الأمة في دعائه بقوله:
ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك
[البقرة:128].
وبالجملة كان هذا النور الأحمدي في أصلاب عقائد العقول المتقدمة ، وأرحام استعدادات النفوس الماضية، منتقلا من طور إلى طور، ومن حالة إلى حالة مبشرين ومنذرين به، حتى استقر إلى غايته، وبلغ نهايته، ووصل إلى المبدإ الذي فارقه واتصل به آخر القوس الصعودية من دائرة الوجود إلى مبدإ القوس النزولية منها، فكان قاب قوسين أو أدنى.
فهذا هو معنى العهد الذي أخذ الله الميثاق به على الأنبياء (عليهم السلام)، وقد أثبت على طبقه في الكتب المتقدمة من وصف نبينا (صلى الله عليه وآله) وأنه سيبعثه الله في آخر الزمان، على ما صرح به في سورة المائدة:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم
[المائدة:12] إلى قوله:
لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات
[المائدة:12].
وقال في الأعراف:
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
[الأعراف:156 - 157].
قال ابن عباس: " إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا، فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه، وأدخلته الجنة، وجعلت له أجرين: أجرا باتباع ما جاء به موسى، وجاءت به أنبياء بني إسرائيل، وأجرا باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن في قوله تعالى:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون
[القصص:52] إلى قوله:
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا
[القصص:54].
واعلم أنه قد وقعت في كتب الأنبياء المتقدمين المنقولة إلى العربية، المشهورة بين أممهم بشارات وإنذارات ناصة على بعثة نبينا (صلى الله عليه وآله).
فمنها: ما جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: " إن الرب الهكم يقيم لكم نبيا مثلي من بينكم ومن إخوانكم ".
وفي هذا الفصل: " إن الرب تعالى قال لموسى: " إني مقيم لكم نبيا مثلك من بين إخوانكم، وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه " والمراد ب " بني إخوة إسرائيل " هو إسماعيل على ما هو المتعارف فلا يصرف إلى من بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل (عليهم السلام)، ولا إلى عيسى، لأنهم لم يكونوا من بني إخوتهم، ولا مثل موسى في كونه صاحب شريعة مستأنفة فيها بيان مصالح الدارين. فتعين محمد (صلى الله عليه وآله).
ومنها ما جاء في الفصل العشرين من هذا السفر: " إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير، وظهر من جبال فاران، وصف عن يمينه عنوان القديسين، فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب، ودعا لجميع قديسيه بالبركة ".
يريد الاخبار عن إنزال التوراة على موسى (عليه السلام) بطور سيناء، وإنزال الإنجيل على عيسى (عليه السلام) بساعير، فإنه كان يسكن من سيعير بقرية تسمى " ناصرة " وإنزال القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله) بمكة، فإن " فاران " في طريق مكة قبل العدن بميلين ونصف وهو كان المنزل، وقد بقي اليوم على يسار الطريق من العراق إلى مكة.
قال اليهود: إن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضا، وكذا من جبل فاران أيضا، فانتشرت المواضع.
وما ذكروه باطل، لأن الله لو خلق نارا في موضع فإنه لا يقال: " جاء الله من ذلك الموضع " إلا إذا تبع تلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع، أو ما شابه ذلك، وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء، فما كان ينبغي إلا أن يقال: " جاء الله من طور سيناء فقط " فأما أن يقال: " ظهر من ساعير ومن جبل فاران " فلا يجوز وروده، كما لا يقال: " جاء الله من الغمام " إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران، كما يتفق في الربيع.
وتصديق ذلك ما في كتاب حبقوق، وهو: جاء الله من طور سيناء، والقدس من جبال فاران، لقد انكشفت السماء من بهاء محمد (صلى الله عليه وآله)، وامتلأت الأرض من حمده، يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزة؛ تسير المنايا أمامه، ويصحب سباع الطير أجناده، قام فمسح الأرض، وتأمل الأمم، وبحث عنها، فتضعضعت الجبال القديمة، واتضعت الروابي الدهرية، وتزعزعت سور أهل مدين، وركبت الخيول، وعلت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في فيك إغراقا نزعا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، تخور الأرض بالأنهار، ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف عنك شؤبوب السيل، ونفرت المهاوي نفيرا ورعبا ورهبا، ورفعت أيديها وجلا وخوفا، وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما، وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضبا، وتدوس الأمم زجرا، لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراث آبائك ".
هكذا نقل علي بن رزين الطبري إمام النصارى.
قال أبو الحسين في كتاب الغرر: وإني رأيت في نقولهم: " وظهر من جبال فاران، لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود، وترتوي السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك ".
فظهر أن المراد بقوله تعالى: " ظهر الرب من جبل فاران " ليس ظهور بالنار، بل ظهور شخص موصوف بتلك الصفات، وليس إلا محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن قالوا: المراد مجيء الله تعالى، ولهذا قال في آخر الكلام وإنقاذ مسيحك ".
قلنا: لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول، وبأنه جاء للمساعي القديمة.
وأما قوله: " وإنقاذ مسيحك " فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى.
ومنها: ما جاء في السفر الأول: إنه تعالى قال لإبراهيم (عليه السلام): إن هاجر تلد، ويكون من ولدها من يكون يده فوق الجميع، ويد الجميع، مبسوطة إليه بالخشوع.
ومنها: ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه: قومي فأزهري مصباحك، يريد مكة، قد دنا وقتك، وكرامة الله طالعة عليك، قد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب، والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك، ويأتيك ولدك من بلد بعيد وتتزين بناتك على الأرائك والسرر، وحين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه تميل إليك ذخائر البحر، ويحج إليك عساكر الأمم، وتساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه ، وتسير إليك أغنام فاران، ويدفع إلى مذبحي ما يرضيني، وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا ".
قوله: " وأحدث لبيت محمدتي حمدا " معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول: " لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك. تملكه وما ملك ثم صار في الإسلام لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك " فهذا هو الحمد الذي جدده الله لبيت محمدته.
ومنها: أنه روى السمان في تفسيره: إن في السفر الأول من التوراة " إن الله أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) فقال: " أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه، فكبرته وعظمته جدا، وسيلد إثني عشر عظيما وأجعله لأمة عظيمة ".
ودلالة هذا الكلام أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لأمة عظيمة غير نبينا (صلى الله عليه وآله).
ومنها: دعاء إبراهيم وإسماعيل لرسولنا (صلى الله عليه وآله) وعليهما لما فرغا من بناء الكعبة، وهو قولهما:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم
[البقرة:129].
ولهذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
" أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى "
وهو قوله تعالى:
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
[الصف:6].
ومنها ما ورد في الإنجيل:
فمنها: ما ورد في الإصحاح الرابع عشر منه: أنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم فارقليطا، ليكون معكم إلى الأبد.
وروي بهذه العبارة: أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له " وتصديق ذلك
إن أتبع إلا ما يوحى إلي
[الأنعام:50].
وقوله:
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي
[يونس:15].
وقيل في تفسير فارقليط وجوه:
أحدها: روح الحق واليقين.
وثانيها: الشافع المشفع.
وثالثها: قال بعض النصارى: معناه الفارق بين الحق والباطل، وكان الأصل " فاروق " ، كما يقال: " راووق " للذي يروق به. وأما " ليط " فهو التحقيق في الأمر، وهو ك " أست " في لغة العجم.
رابعها: إنه مشتق من الحمد.
وهذا الاسم ليس إلا لنبينا (صلى الله عليه وآله)، فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود، ويقال: إن صفته في التوراة: ان مولده بمكة، ومسكنه بطيبة، وملكه بالشام، وامته الحمادون.
ومنه: ما في الإصحاح الخامس عشر: " فأما فارقليط روح القدس الذي يرسله أبي باسمي، هو يعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء، وهو يذكركم ما قلته لكم، ثم قال: " وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون، حتى إذا كان ذلك تؤمنوا به " وقوله: " باسمي " يعني بالنبوة.
ومنه ما في السادس عشر: " أقول لكم الآن حقا يقينا إن انطلاقي عنكم خير لكم، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط، وإن انطلقت أرسلت به إليكم، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم، ويدينهم، ويوبخهم، ويوقفهم على الخطيئة والبر ". ثم قال: " إذا جاء روح الحق واليقين يرشدكم ويعلمكم ويزيدكم بجميع الحق، لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه ".
ومنها ما في الزبور، قال داود (عليه السلام): " اللهم ابعث جاعل السنة حتى يعلم الناس أنه بشر " يعني: إبعث محمدا حتى يعلم الناس أن عيسى بشر.
قال بعض العلماء: وأمثال هذا كثير في كتب الأنبياء المتقدمين، يذكرها المصنفون الواقفون على كتبهم، ولا يقدر المخالف على دفعها أو صرفها إلى ملك أو نبي آخر، ولا على أن يكتمها، ولقد جمع أبو الحسين البصري في كتاب غرر الأدلة ما تفرقت من نصوص التوراة على صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله).
فصل
قوله تعالى: { أوف بعهدكم }
المراد من هذا العهد عند المعتزلة هو ما دل عليه العقل، من أن الله يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع، فصح وصف ذلك الوجوب بالعهد، لأنه بحيث يجب الوفاء به.
وأما عند الأشاعرة فحيث لا وجوب ولا إيجاب عندهم على الله، فإما أن يكون إطلاقه عليه تعالى تجوزا، من باب صنعة المشاكلة، كقوله:
يخادعون الله وهو خادعهم
[النساء:142].
ومكروا ومكر الله
[آل عمران:54]. وذلك لأن معناه الأمر بمعنى المأمور به، والموصوف به هو العبد، دون الله. أو يقال: إنه لما وعد بالثواب - والكذب على الله محال - فكل ما وعد به استحال أن لا يوجد، لأنه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذبا والمفضي إلى المحال محال. فايفاء ذلك العهد - أي: مدلول ذلك الخبر - واجب الوقوع. وذلك آكد مما ثبت باليمين أو النذر هذا تلخيص ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره.
أقول: فيه بحث لأن نسبة الوجوب إليه تعالى إما على سبيل " عليه " أو على سبيل " عنه ". فالأول: مذهب المعتزلة، والثاني: مذهب الحكماء. وشيء منهما لا يقول به الأشاعرة. فقولهم: " لما أخبر تعالى بالثواب فيجب وقوعه " ما معنى هذا الوجوب؟ إن كان أحد المعنيين المذكورين، فلا يصح إطلاقه عندهم على فعله تعالى، وإن كان معناه أمرا ثالثا غير ذينك المعنيين، فما لم يبين لا يمكن إثباته ولا نفيه، فالآية حجة عليهم.
والحق في تفسيره أن يقال: لما تقرر وسبق إليه الإشارة: أن المراد من هذا العهد هو النور النبوي الرباني المعبر عنه بالأمانة المعروضة على السماوات والأرض، الذي كلف الإنسان بتحمله، وكان ذلك النور محتجبا بالحجب الكونية في أوائل الخليقة، ثم لا يزال يظهر شيئا فشيئا بحسب ارتفاع الحجب الظلمانية والنورانية في كل زمان، وخروج النفوس الإنسانية من حدود القوة إلى حدود الفعل في كل أوان، حتى ظهر بعض ذلك النور في زمن سائر الأنبياء كإبراهيم، وموسى، وعيسى (عليهم السلام)، وظهر تمامه في زمن خاتم الأنبياء عليه وآله السلام.
فإيفاء العبد بهذا العهد هو معرفة هذا النور الذي أنزل الله على قلب رسوله (صلى الله عليه وآله)، بل هو بالحقيقة رسول الله، كما دل عليه قوله:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة:15].
فالنور هو لوح ضميره الذي هو نور من أنوار الله، وسر من أسراره. وأما الكتاب فهو كلام الله النازل عليه، الدال على معرفة الحق الأول، وآياته، وملائكته، وكتبه العقلية، والنفسية، وأحكامه القضائية والقدرية، وكيفية تعلق علمه وقدرته بجميع الموجودات، وكيفية عنايته وحكمته في خلق السماوات والأرض وانبساط نور وجوده على صفحات الماهيات، وهياكل الممكنات، ومعرفة المعاد، وكيفة حكمه برجوع الأشياء كلها يوم القيامة إلى الواحد القهار، والإيمان بجميع هذه المعارف إيمانا يقينيا شهوديا.
فمن آمن بهذه المعارف إيمانا بالغيب مع إصلاح الجزء العملي من القلب فقد سعد ونجا من العذاب، ومن عرفها عرفانا شهوديا راسخا فقد فاز فوزا عظيما، وكاد أن يكون من المقربين مشاهدا لما هو الخير المطلق، والحسن المطلق، والجمال المطلق الحق منخرطا نوره في سلك نوره.
وأما إيفاء الله عهد العبد فهو إفاضة أنوار الرحمة عليه في كل مرتبة من مراتب عبوديته، وبحسب كل مقام من مقامات سلوكه إلى الله، حتى إذا قطع المنازل والمراحل الحسية، والخيالية، والعقلية، وبلغ الحد الأقصى فاض عليه من نور جماله الأزلي، وصيره من المحبوبين بعدما كان من المحبين، وجعله من الواصلين إلى العين، بعد ما كان من السامعين للأثر، فصار علمه عينا، وإيمانه عيانا، وقراءته قرآنا، وكلامه متكلما.
فصل
قوله: { وإياي فارهبون }
معنى " الرهبة " هو الخوف والخشية، وهي حالة تحدث في القلب من قبيل الخواطر، وكذا الرجاء.
والمقدور للعبد مقدماتهما.
والخوف عند العلماء على ظن مكروه تناله، والخشية نحوه، لكن الخشية تقتضي ضربا من الاستعظام والمهابة. وضد الخوف الجرأة، لكن قد يقابل بالأمن، فيقال: " خائف وآمن " " خوف وأمن " لأن الأمن يوجب الجرأة على الله فبالحقيقة الجرأة تضاده.
قال المتكلمون: الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه وأما أهل المعرفة: فالخوف عندهم كما يكون من العقاب يكون من القرب. قال الله تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28].
والحق أن عذاب الآخرة إنما يصل إلى الكفار وأهل النار بواسطة أنهم صاروا في الدنيا مبعدون عن مقام القرب، فإذا بطلت هذه الحياة الدنيا، وانكشف الغطاء، وبعثوا إلى الآخرة، وجاء الحق للحساب والميزان، لم يتحملوا سطوة القهارية فيتعذبون بسطوع شمس الآخرة على رؤوسهم، ويعاقبون بنار الجحيم، وتذوب بها أبدانهم وجلودهم.
بل كل عذاب وألم - سواء كان في الدنيا أو في الآخرة - إنما يرجع إلى عذاب القرب لمن لم يكن مستعدا له، لأن جميع ما يعد عند الناس من جملة المؤذيات، والمولمات، فإنما هو من مظاهر رحمته وجوده، ومن منازل عنايته وحكمته، والتضاد الحاصل بينها إنما يقع من لحوق الأعدام والنقائص بها، التي منشؤها البعد عن المقامات الإلهية. فما يتعذب متعذب، أو يتضرر من شيء مؤلم مضر إلا بواسطة تضاد بين المتألم وما يؤلمه، والمتضرر وما يتضرر به، ومنشأ التضاد بين الشيئين - كما علمت - فقد وجود أحدهما لما في وجود الآخر، وقصوره عن رتبة الجمعية بينهما.
أو لا ترى أن كثيرا من الهيآت والكيفيات المتضادة والقوى المتخالفة قد اجتمعت في الحقيقة الإنسانية بواسطة القوة الجمعية، التي فاضت على الإنسان من عالم الأمر؟ فالنار، والماء، والأرض، والهواء، مع كونها أمورا متضادة إلا أنها قد اجتمعت في المركب بواسطة الوحدة الاعتدالية التابعة للصورة الوحدانية الحافظة للمزاج، وكلما كانت الصورة أقوى جوهرا، وأقرب منزلة إلى عالم الحافظة للمزاج، وكلما كانت الصورة أقوى جوهرا، وأقرب منزلة إلى عالم الأمر الواحد، فهي أوسع جمعية للمتضادات إلى أن ينتهي إلى العقل البسيط، المدرك بذاته للأشياء التفصيلية إدراكا حضوريا، وشهودا نوريا، وإحاطة جمعية شمولية.
وهذا ما قاله بعض الحكماء: " إن العقل كل الموجودات " فالإنسان ما لم يصل إلى مقام العقل يجوز في حقه أن يتعذب ببعض أنوار القهارية وسطوات الإلهية، ومن لم يعرف هذه المعاني صار يتعجب من معنى عذاب القرب وخوفه، مع أن الحق تعالى محض الرحمة. وأما العلماء الراسخون فإنهم يخشون الله - دون عقابه - ولا يخشون شيئا آخر، ولهذا قال تعالى: { وإياي فارهبون } دلالة على الحصر، وأن المرء يجب أن لا يخاف أحدا إلا الله، فكل خوف يرجع إلى خوف جلاله.
وإذا ثبت هذا في الرهبة والخوف ثبت في الرغبة والرجاء، فيجب أن لا يرجو أحدا إلا الله، لأن كل محبة ورجاء يرجع إلى حب الله ورجائه، إذا كان المنظور إليه في كل شيء كونه أثرا من آثار قدرته، ولمعة من لمعات نور جماله.
قال بعض العرفاء: الخوف خوفان: خوف العقاب، وخوف الجلال. والأول: نصيب أهل الظاهر، والثاني: نصيب أهل القلب. والأول: يزول. والثاني: لا يزول.
أقول: وهكذا ينقسم الرجاء إلى الثواب ورجاء الله. الأول نصيب أهل الحجاب، والثاني نصيب أهل اليقين. أما خوف أهل القلب فهو قوله تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28]. وقوله:
ذلك لمن خشي ربه
[البينة:8]. وقوله
ويحذركم الله نفسه
[آل عمران:30]. وقوله:
وإياي فاتقون
[البقرة:41].
وقد جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين خوف العقاب، وخوف الجلال، وخوف الجمال ومقابل كل منها في دعائه، حيث كان يقول
" اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك وبك منك "
تنبيها على منازل الخلق وتفاوت أحوالهم في الرغبة والرهبة.
وأما خوف الظاهر، فقوله:
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد
[إبراهيم: 14].
وأما رجاء أهل اليقين فقوله:
يرجو الله واليوم الآخر
[الأحزاب:21].
وأما رجاء أهل الظاهر، فقوله:
وآخرون مرجون لأمر الله
[التوبة:106].
واعلم أن الخوف والرجاء يجب أن يكونا مجتمعين في القلب، غير منفك أحدهما عن صاحبه.
فمن آيات الخوف هذه الآية، وقوله:
وإياي فاتقون
[البقرة:41]. وقوله:
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون
[المؤمنون:115]. وقوله:
أيحسب الإنسان أن يترك سدى
[القيامة:36]. وقوله:
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون
[العنكبوت:2]. وقوله:
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به
[النساء:123]. وقوله:
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف:104]. وقوله:
وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا
[الفرقان:23].
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
[الزمر:47].
ومن آيات الرجاء قوله:
لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
[الزمر:53]. وقوله:
ومن يغفر الذنوب إلا الله
[آل عمران:135].
غافر الذنب وقابل التوب
[غافر:3].
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات
[الشورى:25]
كتب ربكم على نفسه الرحمة
[الأنعام:54].
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون
[الأعراف:156].
إن الله بالناس لرءوف رحيم
[البقرة:143].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" يقول الله عز وجل أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "
ثم يقول الله:
" وعزتي وجلالي لا أجعل من آمن بي في ساعة من ليل أو نهار كمن لا يؤمن بي ".
ومن آياته اللطيفة الجامعة بين الخوف والرجاء، قوله تعالى:
نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم
[الحجر:49 - 50]. لئلا يستولي عليك الرجاء بالمرة، وقوله
شديد العقاب
[غافر:3] عقبه بقوله:
ذي الطول
[غافر:3]. لئلا يستولي عليك الخوف بالمرة.
وأعجب من ذلك قوله تعالى: { ويحذركم الله نفسه } ثم قال في عقبه:
والله رؤوف بالعباد
[آل عمران:30].
وأعجب من ذلك وألطف قوله تعالى:
من خشي الرحمن بالغيب
[ق:33]. علق الخشية بالرحمن، دون اسم الجبار، والمنتقم، والمتكبر، ونحوه، لتكون الخشية مع ذكر الرحمة، لئلا تكون الخشية تطير قلبك بالمرة، فيكون تخويفا في تأمين، وتحريكا في تسكين. وفي ذلك أيضا إشارة إلى ما سبق من أن وجوده تعالى رحمة للمطيعين وعذاب للعاصين كما قيل في الفرس:
أي نوش لبان جو زهرنابى بر من
أي راحت ديكران عذابي برمن
وقال سهل التستري: " الخوف ذكر، والرجاء أنثى " أي منهما يتولد حقائق الإيمان. وقيل: " إن الله تعالى جمع للخائفين ما فرقه على المؤمنين، وهو الهدى والرحمة والعلم والرضوان، فقال تعالى:
هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون
[الأعراف:154]. وقال:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28]. وقال:
رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه
[البينة:8]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " رأس الحكمة مخافة الله ". وروي عنه (صلى الله عليه وآله): " إنه كان داوود النبي (عليه السلام) يعوده الناس يظنون أن به مرضا وما به مرض إلا خوف الله والحياء منه ". وقال سهل: " كمال الإيمان بالعلم، وكمال العلم بالخوف " وقال أبو علي الرودباري: " الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم في طيرانه ".
فصل
أسباب الخوف والرجاء
واعلم أن النظر في أفعال الله ومعاملاته مع الخلق، كما يؤدي إلى الرجاء العظيم كذلك النظر فيها يؤدي إلى خوف شديد.
أما جانب الرجاء: فمن تأمل لطائف نعم الله بعباده في الدنيا، وعجائب حكمته التي راعاها في فطرة الإنسان، حتى أعد له كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء، والنمو، وغيرها، وما هو محتاج إليه في طلب الفضيلة، وما هو زينة له كاستقواس الحاجبين وحمرة الشفتين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغير ذلك مما لا ينثلم بفقده غرض مقصود - وإنما يفوت به من الجمال - فالعناية إذا لم يقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن يفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة، فكيف يرضى بسياقتهم إلى الهلاك المؤبد؟ فسنة الله لا تجد لها تبديلا.
فالغالب أن أمر الآخرة على هذا القياس يكون، فهذا إذا تأمله أحد قوى أسباب رجائه. وكذا التأمل في أنه يهب كفر سبعين سنة بإيمان سنة، بل بإيمان ساعة.
وقوله:
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
[الأنفال:38].
وفي أنه كيف عاتب إبراهيم (عليه السلام) في دعائه على المجرمين بالهلاك.
وكيف عاتب موسى (عليه السلام) في أمر قارون، فقال له: " استغاث بك مرارا فلم تغثه، فوعزتي لو استغاث بي مرة لأغثته وعفوت عنه ".
وكيف عاتب يونس في شأن قومه: " إنك تحزن على شجرة من يقطين أنبتها في ساعة وأيبستها في ساعة، ولا تحزن على مأة ألف أو يزيدون ".
ثم كيف قبل عذرهم وصرف عذابه الأليم عنهم بعد ما أضلهم.
ثم كيف عاتب سيد المرسلين فيما روي أنه دخل من باب بني شيبة، فرأى قوما يضحكون. فقال لهم:
" أتضحكون! لا أراكم تضحكون " حتى إذا كان عند الحجر رجع إليهم القهقرى وقال: " جاءني جبرائيل فقال: " يا محمد إن الله يقول: يا محمد لا تقنط عبادي من رحمتي. نبئ عبادي أني الغفور الرحيم ".
وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
" الله أرحم بالعبد من الوالدة الشفيقة بولدها "
وفي الخبر المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله)
" إن لله مأة رحمة، فواحدة منها قسمها بين الإنس والجن والبهائم، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وذخر منها تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة ".
وإذ قد أعطاك من الرحمة الواحدة كل هذه العطايا الكريمة العزيزة من معرفته والكون من هذه الأمة المرحومة. ثم غير ذلك من النعم الباطنة والظاهرة، فمرجو من فضله العميم أن يتم ذلك الأمر، فان من بدأ بالإحسان والإكرام فعليه الاتمام، ويجعل لك من تسعة وتسعين رحمة الحظ الوافر فأسأله أن لا يخيب آمالنا بفضله وكرمه.
وأما من جانب الخوف فأولا: إن إبليس عبده ثمانين ألف سنة فلم يترك - فيما قيل - موضع قدم إلا وسجد لله تعالى فيه سجدة، ثم ترك له أمرا واحدا، فطرده من بابه، وضرب بوجهه عبادة ثمانين ألف سنة، ولعنه إلى يوم الدين، وأعد له عذابا أليما أبد الآبدين، حتى روي أن الصادق الأمين صلوات الله عليه وآله، رأى جبرائيل متعلقا بأستار الكعبة وهو يتضرع: " إلهي لا تغير اسمي، ولا تبدل جسمي ".
ثم آدم صفي الله، خلقه بيده وأسجد له ملائكته وحمله على أعناقهم إلى جواره فأكل أكلة واحدة لم يؤذن فيها، فنودي " ألا! لا يجاورني من عصاني " فأمر الملائكة الذين حملوا سريره يرمونه من سماء إلى سماء، حتى أوقعوه بالأرض، ولم يقبل توبته - فيما روي - حتى بكى على ذلك مأة سنة، ولحقه من الهوان والبلاء ما لحقه وبقيت ذريته في تبعات ذلك أبد الآبدين.
ثم إن نوحا - شيخ المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين - احتمل في أمر دينه ما احتمل، لم يقل إلا كلمة واحدة على غير وجهها، إذ نودي:
لا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين
[هود:46]. حتى روي في بعض الأخبار أنه لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله سبحانه وتعالى أربعين سنة.
ثم إن إبراهيم الخليل - صلوات الله عليه - لم يكن منه إلا هفوة واحدة، فكم خاف وتضرع وقال:
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين
[الشعراء:82]. حتى روي أنه كان يبكي من شدة الخوف، ويرسل الله إليه الأمين جبرائيل فيقول: " يا إبراهيم هل رأيت خليلا يعذب خليله بالنار "؟ فيقول: " يا جبرائيل إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي ".
ثم موسى بن عمران (عليه السلام) لم يكن منه إلا لطمة واحدة عن حدة، فكم خاف واستغفر وقال:
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي
[القصص:16].
ثم في زمانه بلعم بن باعورا كان بحيث إذا نظر يرى العرش وهو المعني بقوله تعالى:
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ
[الأعراف:175]. ولم يقل: " آية واحدة " مال إلى الدنيا وأهلها ميلة واحدة، وترك لولي من أوليائه خدمة واحدة، سلب عنه معرفته، وجعله بمنزلة الكلب المطروح، فقال:
مثله كمثل الكلب
[الأعراف:176] فأوقعه في بحر الضلالة والهلاك إلى الأبد، حتى كان بعض العلماء يقول: " كان أمره بحيث يكون في مجلسه اثنى عشر ألف محبرة من المتعلمين يكتبون عنه، ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا " أن ليس للعالم صانع " نعوذ بالله، ثم نعوذ بالله من سخطه وخذلانه - فانظر إلى الدنيا وشؤمها وما يحدث للعلماء - فتنبه.
ثم إن داوود (عليه السلام) خليفته في أرضه وقع منه شيء، فبكى على ذلك حتى نبت العشب من دموعه وقال: " إلهي أما ترحم بكائي وتضرعي؟ " فأجيب: " يا داود، قد نسيت ذنبك وذكرت بكاءك ".
ونقل مجاهد: إنه بكى داوود (عليه السلام) أربعين يوما ساجدا - لا يرفع رأسه - حتى نبت المرعى من دموعه، حتى غطى رأسه، فنودي: " يا داوود أجائع أنت فتطعم؟ أم عار فتكسى "؟ فنخب نخبة هاج العود فاحترق من حر خوفه. ثم أنزل الله عليه التوبة والمغفرة. فقال: " يا رب اجعل خطيئتي في كفي " فصارت خطيئته مكتوبة في كفه، وكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته، وكان يؤتى بالقدح - ثلثاه ماء - فإذا تناول أبصر خطيئته، فما يضعه على شفتيه حتى يفيض القدح من دموعه.
وروي أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات - حياء من الله - وكان يقول: " يا إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي ".
ثم يونس غضب غضبة واحدة في غير موضعها فسجنه في بطن الحوت تحت قعر البحر أربعين يوما، وهو ينادي
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
[الأنبياء:87] وسمعت الملائكة صوته، فقالوا: " إلهنا وسيدنا صوت معروف في مكان مجهول " فقال الله تعالى: " ذلك عبدي يونس " فشفعت الملائكة.
ثم مع ذلك كله غير اسمه فقال:
وذا النون إذ ذهب مغاضبا
[الأنبياء:87]. فنسبه إلى سجنه، ثم قال:
فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون
[الصافات:142 - 144]. ثم ذكر منته ونعمته فقال:
لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم
[القلم:49]. فانظر إلى هذه السياسة أيها المسكين.
وكذلك هلم جرا إلى سيد المرسلين أكرم خلقه (صلى الله عليه وآله)
فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير
[هود:112]. حتى كان يقول:
" شيبتني سورة هود وأخواتها "
قيل: عنى هذه الآية وأشكالها في القرآن، قال الله تعالى:
واستغفر لذنبك
[محمد:19]. إلى أن من الله تعالى عليه بالغفران، فقال:
ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك
[الانشراح:2 - 3]. وقال:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح:2].
فكان بعد ذلك يصلي الليل حتى تورمت قدماه، فيقولون:
" أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: " أفلا أكون عبدا شكورا " وكان يصلي بالليل ويبكي ويقول في سجوده: " أعوذ بعفوك من عقابك، وبرضاك من سخطك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
كان بعض العلماء يقول: " لا تأمن من قطع من ربع دينار خير عضو منك أن يكون عذابه هكذا غدا " نسأل الله الكريم أن لا يعاملنا إلا بفضله، إذ لا طاقة لنا بعدله.
وفي الأدعية السجادية في الصحيفة الكاملة - على قائلها وآبائه السلام والتحية -: " اللهم إن تشأ تعف عنا فبفضلك، وإن تشأ تعذبنا فبعدلك، فسهل لنا عفوك بمنك، وأجرنا من عذابك بتجاوزك، فإنه لا طاقة لنا بعدلك ولا نجاة لأحد منا دون عفوك ".
قال صاحب كتاب الإحياء بعد ذكر مخاوف الأنبياء (عليهم السلام): " فهذه مخاوفهم ونحن أجدر بالخوف منهم، لكن ليس الخوف بكثرة الذنوب، بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا، وكثرة طاعتنا، بل قادتنا شهواتنا، وغلبت علنيا شقوتنا، وصدتنا عن ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا، فلا قرب الرحيل ينبهنا، ولا كثرة الذنوب تحركنا، ولا مشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا، ولا خطر العاقبة يزعجنا، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يتدارك بفضله وجوده أحوالنا فيصلحنا، إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد ينفعنا.
ومن العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا، وغرسنا، واتجرنا، وركبنا البحار، والبراري، وخاطرنا، وإن أردنا طلب رتبة العلم تفقهنا، وتعبنا في حفظه، وتكراره وسهرنا، ونجتهد في طلب أقواتنا، ولا نثق بضمان الله، ولا نجلس في بيوتنا فنقول: " اللهم ارزقنا " ثم إذا طمحت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم، قنعنا بأن نقول بألسنتنا: " اللهم اغفر لنا وارحمنا " والذي إليه رجاؤنا وبه اغترارنا ينادينا ويقول:
أن ليس للإنسان إلا ما سعى
[النجم:39] فما هذه إلا محنة هائلة إن لم يتفضل الله علينا بتوبة نصوح... فنسأل الله أن يسوق إلى التوبة سرائر قلوبنا ".
تذكرة
اعلم أن في الآية دلالة على أن كثرة النعم يعظم المصيبة وعلى أن تقدم العهد يعظم المخالفة، وعلى أن الخطب في العلماء والتشديد عليهم في باب الذنوب أعظم، وعلى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما كان مبعوثا إلى العرب، كان مبعوثا إلى بني إسرائيل.
وفي قوله: { وإياي فارهبون } دلالة على أن الكل بقضاء الله، ولا استقلال للعبد في فعله، وإلا لوجب أن لا يخاف إلا من نفسه، لأن مفاتيح ثوابه بيده - لا بيد الله -.
وفيها أيضا دلالة على وجوب معرفة الله على وجه يعلم به كون الكل بقضائه، وأن لا تأثير لأحد في حكمه ولا راد لقضائه، وهذا متوقف على علوم كثيرة، ومسائل شريفة يجب الخوض فيها، لأنها مما لا يتم هذا الواجب إلا بها، ومقدمات الواجب واجبة، فالعلم به تعالى، وبصفاته، وبكيفية أفعاله بقدر الطاقة واجب، والله أعلم بأسراره.
قرئ: " اذكروا " وهو من باب الافتعال. وقرئ: " نعمتي " بإسكان الياء واسقاطها في الدرج، وهو مذهب من لا يحرك الياء المكسورة ما قبلها. وقرئ " اوف " بالتشديد للمبالغة.
[2.41]
أمرهم بالإيمان بعد ما أمرهم بإيفاء عهد الله تنبيها على أنه العمدة في ذلك، بل لأحد أن يقول: إن الإيمان بما أنزل الله على رسوله هو عين الإيفاء بعهد الله على التأويل الذي سبق ذكره في معنى العهد، وهو النور الذي تتنور به القلوب، ويسلك به سبيل الآخرة، وينكشف به حقائق الأمور، ويطلع به الإنسان على الحضرة الإلهية، وأفعاله، وآثاره، ولطفه، وحكمته في الدنيا والاخرة، قال تعالى: { قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين }.
فالنور هو جنس معاني القرآن، والكتاب آيات ألفاظه، وهو أي القرآن منزل من الله إلى قلب النبي (صلى الله عليه وآله) إن اريد به المعاني. ومنزل من السماء الدنيا على سمعه الشريف إن أريد به ألفاظه.
وكلاهما عند غيبته عن إدراك هذه الحواس الدنيوية، فإن السمع الذي كان به يسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلامه، والبصر الذي كان يبصر به شخص جبرائيل (عليه السلام) كانتا بوجه غير هاتين الحاستين العنصريتين، وإن كانتا بوجه عينهما.
أمرهم بالتصديق بهذا القرآن المنزل، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة والإنجيل؛ لأن الذي في القرآن مصدق لهما، ومؤكد للإيمان بهما من حيث إنه مطابق لهما في القصص، والمواعيد، والدعاء إلى التوحيد، والأمر بالعبادة، والعدل بين الناس، والنهي عن المعاصي، والفواحش، وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح، من حيث إن كل واحد منها حق بالإضافة إلى زمانه، مراعى فيها صلاح الأنام، ومن خوطب بالكلام من الله، حتى لو نزل المتقدم من الأحكام في أيام المتأخر منها لكان على وفقه بأبلغ وجه ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ".
وقيل: معناه أنه تصديق بالتوراة والإنجيل، لأن فيهما الدلالة على أنه حق، وأنه من عند الله. وفيهما البشارة ببعثة محمد (صلى الله عليه وآله)، وبيان نعوته، وصفاته، فكان الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبالقرآن تصديقا للتوراة والإنجيل، وتكذيبه (صلى الله عليه وآله) تكذيبا لهما.
والتفسير الثاني أولى لأن يكون حجة عليهم، إذ على التفسير الأول لقائل أن يقول: التوافق في بعض المعاني لا يوجب أن يكون القرآن من عند الله، فلا يلزم عليهم وجوب الإيمان به.
وأما على الثاني فيلزم عليهم الإيمان بحقية القرآن، وتصديق الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا اشتمل الكتابان على كون محمد (صلى الله عليه وآله) صادقا، فالإيمان بهما يوجب الإيمان بما يقوله (صلى الله عليه وآله). ومعلوم أن الآية إنما نزلت احتجاجا عليهم، ودلالة لهم على وجوب الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله). وبالجملة فالدال على إثبات نبوته هاهنا وجهان:
أحدهما: شهادة كتب الأنبياء (عليهم السلام) عليه، وهي لا تكون إلا حقا.
والثاني: إخباره عما في كتبهم، ولم يكن له معرفة بما فيها إلا من قبل الوحي.
وقوله: { مصدقا } حال منتصب ب { آمنوا } كأنه قال: " آمنوا بالقرآن مصدقا " و { معكم } صلة { لما } والعامل فيه الاستقرار، أي للذي استقر معكم والضمير في { به } عائد إلى الموصول في قوله: { بما أنزلت } أو في قوله: { لما معكم } على التفسير الثاني.
وقوله: { ولا تكونوا أول كافر به } أي: أول فريق، أو فوج كافر به، أو: ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به كقولك: " كسانا حلة " أي: كل واحد منا. والمعنى: " لا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب بالقرآن " لأن قريشا قد كانت كفرت به بمكة قبل اليهود.
وعن أبي العالية: معناه " لا تكونوا السابقين إلى الكفر به، فيتبعكم الناس. أي: " لا تكونوا أئمة الكفر " وهذا متوجه، فإن الناس في المذاهب، والملل يتبعون أهل الكتاب والعلم في أكثر الأزمنة. ومعلوم أن الخطاب في الآية مع أئمة أهل الضلال وعلمائهم، الذي شأنهم كتمان الحق، الذي في الكتب، وتلبيسه بالباطل، وتحريف الكلم عن مواضعه - كما هو عادة علماء السوء -.
وعن أبي جريح: معناه: ولا تكونوا أول جاحدين صفة النبي (صلى الله عليه وآله) في كتابكم فعلى هذا تعود " الهاء " في { به } إلى النبي (صلى الله عليه وآله).
قيل: معناه ولا تكونوا مثل أول كافر به. يعني: من أشرك من أهل مكة، أي: لا تكونوا وأنتم تعرفونه مكتوبا في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو جاهل، مشرك، لا كتاب له.
وقيل: ضمير { به } راجع إلى الكتاب. أي: لا تكونوا أول كافر بكتابكم. أي لا تكونوا أول من كذب كتابكم من أمتكم، لأن تكذيبكم لمحمد (صلى الله عليه وآله) تكذيبكم لكتابكم.
وقيل: معناه، ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة، لأن قريشا لم تكن مع المعرفة.
وقيل: معناه لا تكونوا أول الكافرين به عند السماع، بل تثبتوا، وراجعوا عقولكم، وتدبروا في معانيه حتى يظهر لكم حقيته وصدقه.
وقيل معناه: لا تكونوا أول كافر به من كفار اليهود، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قدم المدينة وكانت بها القريظة والنضير، فكفروا به، ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر.
وقال المبرد: هذا الخطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم، فقيل لهم: لا تكفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله)، فإنه سيكون بعدكم الكفار، فلا تكونوا أول الكفار.
واعلم أنه إنما عظم أول الكفر؛ لأنهم إذا كانوا أئمة لهم، وقدوة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم، وكفرهم أشد، إذ كما أن السابقين إلى الإيمان كانوا أعظم قدرا في الثواب، وأشد قربا إلى الله، لقوله:
والسابقون السابقون أولئك المقربون
[الواقعة:10 - 11] كذلك السابقون إلى الكفر، كانوا أعظم ذنبا ممن بعدهم، وأشد ضلالا وأكثر بعدا عن الحق.
ولما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ".
وقيل: إن الأولية موجبة لمزيد القبح والإثم، وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر، فإما أن يقتدي بهم غيرهم فيه أو لا، فالأول: يوجب أن يكون لهم وزر ذلك الكفر، ووزر من كفر إلى يوم القيامة. والثاني: يوجب أن يجتمع فيه أمران، السبق إلى الكفر، والتفرد به، ولا شك في أنه منقصة عظيمة.
فصل
ليس في نهيه تعالى: عن أن يكونوا أول كافر به دلالة على أنه يجوز أن يكونوا آخر كافر به، لأن المقصود النهي عن الكفر على كل حال، وخص الأول بالذكر لما ذكر من عظم موقعه، وكما أن قوله تعالى:
رفع السماوات بغير عمد ترونها
[الرعد:2]. لا يدل على وجود عمد لا يرونها. وقوله:
وقتلهم الأنبياء بغير حق
[النساء:155]. لا يدل على جواز قتلهم بحق وقوله، عقيب هذه الآية: { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير. وكما قال الشاعر:
من أناس ليس في أخلاقهم
عاجل الفحش ولا سوء الجزع
وليس يريد أن فيهم فحشا آجلا. فكذا هاهنا. بل الغرض من هذه السياقة التنبيه على استعظام كفر من قرأ في الكتب نعت محمد (صلى الله عليه وآله)، ثم جحد به. ولأن في قوله: { وآمنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم } دلالة على أن كفرهم أولا وآخرا محظور، لأن تحقق وجود الشيء موقوف على ارتفاع جميع أنحاء عدمه أو ضده، وكذا تحقق الإيمان بما أنزل في كل وقت متوقف على ارتفاع جميع أنحاء الكفر به في ذلك الوقت، ولأن الإيمان نوع من نور اليقين، فإذا حصل في القلب لا يمكن رفعه، فكل من آمن أولا إيمانا بالحقيقة فهو مؤمن أخيرا لا يزال.
فصل
قوله: { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا }
أي: ولا تستبدلوا الإيمان بالرسول، وتعلم الحكمة، والاطلاع على آيات الله بثمن قليل من مال الدنيا وجاهكم الحقير عند أبنائها.
وفي الكشاف: " الثمن القليل هو الرئاسة التي كانت لهم في قومهم، خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاستبدلوها - وهي بدل قليل ومتاع يسير - بآيات الله، وبالحق الذي كل كثير إليه قليل، وكل كبير إليه حقير. فما بال القليل الحقير! وقيل: كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا، ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلم وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع، وكان ملوكهم يدرون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا ".
واعلم أن العادة جارية في كل زمان بأنه إذا ظهر واحد من أهل الحق وأولياء الله، فأول من يسعى في ابطال حقه ويريد إطفاء نوره في أكثر الأمر هم علماء السوء ورؤساء حملة الكتاب، أو المغترون بالشريعة التي كانوا عليها، وذلك لأن ظهور حاله يوجب كشف نقائصهم وجهالاتهم على الناس، وفي ذلك انحطاط منزلتهم عند الخلق، ونقصان جاههم، وسقوطهم عن أعين السلاطين، وجميع ذلك هو مطمح أنظارهم في اكتساب العلوم والديانة.
فالله سبحانه أشار إلى أن محافظتهم على هذه الأمور الدنيوية في ترك متابعتهم الرسول (صلى الله عليه وآله) وإن كان ثابتا إلا أن لهم في ذلك تفويت للسعادة الأخروية بتحصيل مقامات العلم واليقين.
فإن كمال النفس الإنسانية بتحصيل ما عليه الواجب من صيرورتها جوهرا عقليا مضاهيا للجواهر القدسية والملائكة العقلية، فإذا ترك ذلك التحصيل واشتغل بتحصيل اللذات الدنيوية وحفظ الرياسات الحيوانية، فكأنه باع الملك، واشترى الحيوان، وباع البهجة القصوى، والسعادة الأبدية باللذة الحيوانية الفانية ولا شك أنه باع أمرا جليلا بثمن قليل، لأن لذة الدنيا بحذافيرها بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليلة جدا، بل كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي.
والثمن والعوض والبدل نظائر وبينها فروق:
و " الثمن " هو البدل في البيع، وكذا " القيمة ". والبدل أعم في ذلك. والفرق بين الثمن والقيمة أن الثمن قد يكون وفقا، وقد يكون بخسا، وقد يكون زائدا، والقيمة لا تكون إلا مساوية من غير زيادة ولا نقصان.
قال الفراء: إنما أدخل الباء في " الآيات " دون " الثمن " وفي سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله:
وشروه بثمن بخس
[يوسف:20] لأن العروض كلها أنت مخير فيها، إن شئت قلت: " اشتريت الثوب بكساء " وإن شئت قلت: " اشتريت بالثوب كساء " أيهما جعلت ثمنا لصاحبه جاز. فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت " الباء " في الثمن كقوله:
وشروه بثمن بخس
[يوسف:20] لأن الدراهم ثمن أبدا.
قيل: المعنى { لا تستبدلوا بآياتي } أي: بما في التوراة والإنجيل من بيان صفة محمد (صلى الله عليه وآله) ونعته { ثمنا قليلا } أي: عرضا يسيرا من الدنيا.
وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية أنه قال: " كان حيي ابن أخطب، وكعب بن أشرف، وآخرون من اليهود لهم مأكلة من اليهود في كل سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) فحرفوا لذلك آيات في التوراة فيها صفته وذكره، فذلك الثمن الذي أريد في الآية ".
وروي عن ابن عباس أيضا: أن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا، وانهم لو اتبعوا محمدا لانقطعت عنهم تلك الهدايا، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر.
واعلم أن خطاب الله في القرآن ينبغي أن يحمل على العام الشامل لكل أحد، وإن كان منشأ النزول مخصوصا، حتى تكون علوما كلية باقية أبد الدهر فقوله: { ولا تشتروا بآياتي } أي بمعرفتها { ثمنا قليلا } يجب أن يكون حكما عاما يكون به النهي عن صنع كل من ترك تعلم آيات الحكمة واليقين بواسطة محافظته على دنياه، وخوفه عن زوال جاهه عند الخلق، وسقوط منزلته لديهم.
فمن هاهنا يعلم أن كل من جحد حقا من حقوق الله، وأنكر علما من المعارف اليقينية، والعلوم الربانية حذرا من أن يلزم عليه اتضاع من أمر دنياه بظهور علم هو فوق علمه - كالعلم الأعلى بالقياس إلى العلوم الجزئية - أو خمول في شهرته وصيته، أو كساد في مجمع وعظه ومدرسة علمه الناقص، فهو داخل في جنس أولئك المخاطبين بهذه الآية.
فصل
قوله: { وإياي فاتقون }
أي بالإيمان واتباع الحق، والاعراض عن الدنيا، ويقرب معناه مما تقدم من قوله { وإياي فاتقون }.
والفرق بين الرهبة والتقوى بالتأكد والضعف، وكان الوجه أن الأولى مقدمة للثانية ولهذا أوردت الرهبة في الآية السابقة، والتقوى في اللاحقة. وأيضا لما عم الخطاب في الآية الأولى العالم والمقلد جميعا وقع الأمر فيها بالرهبة التي هي مبدأ السلوك، وحيث خص أهل العلم أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه.
علماء السوء وما ورد فيهم
واعلم أنه قد وردت في علماء السوء تشديدات عظيمة دلت على أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة. والمراد بعلماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا، والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها، والأحاديث الدالة على أن هؤلاء أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأن لزوم الحجة عليهم أشد كثيرة:
فمن طريق أهل البيت عليهم السلام ما رواه محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله بسنده المتصل عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال في كلام له: " العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه، فهذا ناج. وعالم تارك لعلمه فهذا هالك. وإن أهل النار ليتأذون عن ريح العالم التارك لعلمه.
وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله، فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله، فأدخله الله الجنة. وأدخل الداعي إلى النار بتركه علمه، واتباعه الهوى، وطول الأمل. أما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وطول الأمل ينسي الآخرة ".
وروى أيضا عن عدة من أصحابه، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له خطب به على المنبر: " أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون.
إن العالم العامل بغيره وفي نسخة: " بغير بصيرة " بدل: " بغيره " - كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم، والحسرة أدوم على هذا العالم، المنسلخ عن علمه، منها على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما حائر بائر ".
روى أيضا بسنده المتصل عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوأ مقعده من النار ".
وروى أيضا مسندا عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ".
وبهذا الإسناد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)، قال: قال عيسى ابن مريم: " ويل لعلماء السوء، كيف تلظى عليهم النار ".
وروى أيضا مسندا عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة " ثم قرأ:
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة
[النساء:17].
وروى أيضا عن علي بن إبراهيم، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " طلبة العلم ثلاثة، فاعرفوهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل.
فصاحب الجهل والمراء موذ، ممار، متعرض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم، وصفة الحلم، قد تسر بل بالخشوع، وتخلى من الورع، فدق الله من هذا خيشومه، وقطع منه حيزومه.
وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق، يستطيل على مثله من أشباهه، ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله على هذا خبره، وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة، وحزن، وسهر، قد تحنك في برنسه وقام الليل في جندسه، يعمل ويخشى وجلا، داعيا، مشفقا، مقبلا على شأنه، عارفا بأهل زمانه، مستوحشا من أوثق إخوانه، فشد الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه ".
وأما من طريق غيرهم فوقع في الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ".
وقال أيضا:
" العلم علمان: علم على اللسان، فذلك حجة الله على ابن آدم. وعلم في القلب، فذلك العلم النافع ".
وقال أيضا:
" لأنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال " فقيل: " وما ذاك؟ " فقال: " أئمة مضلون ".
وقال أيضا:
" من ازداد علما ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعدا ".
وقال عيسى (عليه السلام): " إلى متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين؟! ".
فهذا وغيره من الأخبار يدل على عظيم العلم، وأن العالم إمأ متعرض لهلاك الأبد أو لسعادة الأبد، وأنه بالخوض في العلم قد حرم السلامة إن لم تدركه السلامة.
وأما الآثار: فقال الحسن: " لا تكن ممن يجمع علم العلماء، وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء ".
وقال أيضا: " عقوبة العلماء موت القلب " وأنشد:
عجيب لمبتاع الضلالة بالهدى
ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وقال أسامة بن زيد:
" سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يؤتى بالعالم، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا . فيطوف به أهل النار فيقولون " مالك؟ " فيقول: " كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهى عن الشر وآتيه " ".
وإنما يضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عصى عن علم، ولذلك قال تعالى:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار
[النساء:145]. لأنهم تعدوا بعد العلم، وجعل اليهود شرا من النصارى، مع أنهم ما جعلوا لله ولدا، ولا قالوا:
إن الله ثالث ثلاثة
[المائدة:73] ولكن كفروا وأنكروا بعد المعرفة، وقال تعالى:
فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
[البقرة:89]. وقال تعالى في قصة بلعم ابن باعورا:
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها
[الأعراف:175] حتى قال
فمثله كمثل الكلب
[الأعراف:176]. فكذلك حكم العالم الفاجر، فإن بلعم أوتي كتاب الله، فأخلد إلى الشهوات، فشبهه بالكلب. أي: سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت، فهو مخلد إلى الشهوات.
وقال عيسى (عليه السلام): " مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب ولا تترك الماء تخلص إلى الزرع. ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها خضر وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامرة وباطنها عظام الموتى ".
وفي المثنوي للمولى الرومي - رحمه الله - أبيات جيدة في بيان حالهم، وكشف عوارهم، فهذه الأخبار والآثار تدل على أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالا، وأسوأ عاقبة، ومآلا، وأشد عذابا من الجاهل السليم القلب. وأن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة.
فصل
علامات علماء الآخرة
فإن قلت: كيف يمكن لأحد أن يعرف علماء الآخرة حتى يقتدي بهم، والعلم الحقيقي حالة باطنية؟ وبماذا يمتازون عن علماء الدنيا؟
قلت: إن لهم علامات ذكرها بعض المحققين:
منها: أن لا يطلب الدنيا بعلمه. فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها، وكدورتها، وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها، وصفاء نعيمها، وجلالة ملكها، ويعلم أنهما متضادان، كالضرتين، مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى،... وأنهما كالمشرق والمغرب، متى قربت من أحدهما بعدت عن الآخر إذ الآخرة عالم النور والقصور، والدنيا عالم الظلمة والقبور، وأنهما ككفتي الميزان متى رجحت إحداهما خفت الأخرى، كما قال أبو نصر الفارابي في نظم له:
عابوا علي خصاصتي فأجبتهم
حظ وعلم كيف يجتمعان
رجحان ذا خسران ذا وكلاهما
يتخالفان ككفتي ميزان
حاز الجهول الرزق بالسبب الذي
وقع اللبيب به على حرمان
فمن لم يعلم حقارة الدنيا وكدورتها، وامتزاج لذتها بألمها، ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك، فكيف يكون من العلماء من لا عقل له؟! ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوام نعيمها وجحيمها فهو كافر مسلوب الإيمان، فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له؟! ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة، وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع، فهو جاهل بشريعة الأنبياء كلهم - صلوات الله عليهم - بل هو كافر بالقرآن من أوله إلى آخره، فكيف يعد من زمرة العلماء؟! ومن علم هذا كله ثم يؤثر الدنيا وجاهها ورياستها على الآخرة، فهو أسير الشيطان مغلول بغله، مقيد بحبله، قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته، فكيف يعد من أحزاب العلم من هذه درجته؟!
وفي أخبار داود: " إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي ".
وقال مالك بن دينار: " قرأت في بعض الكتب، إن الله عز وجل يقول:
" إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه ".
وقال عيسى (عليه السلام): " كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى الآخرة وهو مقبل على دنياه؟ وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به - لا ليعمل به -؟ ".
وقال صالح بن حميان: " أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة ".
وروى أبو الدرداء، أنه (صلى الله عليه وآله) قال:
" أوحى الله إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون مشوك الكباش، وقلوبهم كقلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر: اياي يخادعون، وبي يستهزئون! لأفتحن لهم فتنة تذر الحكيم حيرانا ".
وروى الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه الله علما فبذله للناس، ولم يأخذ عليه طمعا، ولم يشتر به ثمنا، فذلك يصلي عليه طير السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون. يقدم على الله سيدا شريفا حتى يرافق النبيين. ورجل آتاه الله تعالى علما في الدنيا فضن به على عباد الله عز وجل وأخذ عليه، واشترى به ثمنا، يأتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار، ينادي مناد على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان آتاه الله تعالى في الدنيا علما فضن به على عباد الله تعالى وأخذ عليه طمعا، واشترى به ثمنا قليلا. يعذب حتى يفرغ الله من حساب الخلائق ".
وأشد من هذا ما روي: إن رجلا كان يخدم موسى (عليه السلام)، فجعل يقول: " حدثني موسى صفي الله حدثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله " حتى أثرى وكثر ماله، ففقده موسى، فجعل يسأل عنه فلا يحس له أثرا، حتى جاءه رجل في يده خنزير وفي عنقه حبل أسود. فقال له موسى: " أتعرف فلانا "؟ قال: " نعم هو هذا الخنزير ". فقال موسى: يا رب: أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله فيما أصابه هذا. فأوحى الله إليه: " لو دعوتني بالذي دعا به آدم فمن دونه، ما أجبتك. ولكن أخبرك لم صنعت به هذا. لأنه يطلب الدنيا بالدين ".
وأغلظ من هذا ما ورد عن معاذ بن جبل: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع. وفي الكلام تنميق وزيادة، ولا يؤمن على صاحبه الخطأ، وفي الصمت سلامة وعلم.
ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد في غيره، فذلك في الدرك الأول من النار. ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان، فإن يرد عليه شيء من علمه، أو تهون بشيء من علمه غضب، فذلك في الدرك الثاني من النار. ومن العلماء من يجعل علمه وغرائب حديثه لأهل الشرف، ولا يرى أهل الحاجة أهلا له، فذلك في الدرك الثالث من النار. ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا، ويفتي بالخطأ والله يبغض المتكلفين، فذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغزر علمه، فذلك في الدرك الخامس من النار. ومن العلماء من يتخذ علمه مروة ونبلا وذكرا في الناس، فذلك في الدرك السادس من النار. ومن العلماء من يستفزه الزهو والعجب، فإن وعظ عنف، وإن وعظ أنف، فذلك في الدرك السابع من النار. فعليك بالصمت، فيه تغلب الشيطان، وإياك أن تضحك من غير عجب، أو تمشي في غير أرب.
وفي الخبر:
" إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب، وما يزن عند الله جناح بعوضة ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل. فاحذروهم واعتزلوهم ".
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء ".
وقال أبو ذر لسلمة: " يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم شيئا إلا وأصابوا من دينك أفضل منه ".
وهذه فتنة عظيمة للعلماء، وذريعة صعبة للشيطان عليهم، لا سيما من له لهجة مقبولة وكلام حلو، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أن في وعظك لهم، ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع إلى أن يخيل إليه أن الدخول عليهم من الدين.
ومن علامات علماء الآخرة أن لا يكون أحدهم متسرعا إلى الفتوى، بل يكون متوقفا محترزا ما وجد إلى الخلاص سبيلا، فإن سئل عما يعلمه تحقيقا بنص كتاب، أو بنص حديث، أو إجماع، أو دليل قاطع، أجاب. وإن سئل عما شك فيه، قال: " لا أدري ". وإن سئل عما يظنه باجتهاد وتخمين احتاط، ودفع عن نفسه، وأحال على غيره - إن كان في غيره غنية - هذا هو الحزم، لأن تقلد خطر الاجتهاد عظيم. وفي الخبر:
" العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري ".
وقال الشعبي: " لا أدري نصف العلم. ومن سكت حين لا يدري لله تعالى فليس أقل أجرا ممن نطق ، لأن الاعتراف بالجهل اشد على النفس ".
وهكذا كانت الصحابة. قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: " أدركت في هذا المسجد مأة وعشرين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ما منهم من أحد يسأل إلا ود أن أخاه كفاه ذلك ". وفي لفظ آخر: " كانت المسألة تعرض على أحدهم، فيردها إلى الآخر حتى يعود إلى الأول ".
كان ابن عمر إذا سئل عن الفتوى قال: " اذهب إلى الأمير الذي تقلد أمور الناس " وكان يقول: " تريدون أن تجعلونا جسرا تعبرون علينا إلى جهنم ".
وقال ابن مسعود: " ليس شيء أشد على الشيطان من عالم يتكلم بعلم ويسكت بعلم، يقول: أنظروا إلى هذا، سكوته أشد علي من كلامه ".
ووصف بعضهم " الأبدال " فقال: أكلهم فاقة، وكلامهم ضرورة ".
ومر أمير المؤمنين (عليه السلام) وعبد الله بن مسعود برجل يتكلم على الناس، فقال: " هذا يقول: اعرفوني ".
وقال بعضهم: " إذا كثر العلم قل الكلام ".
ومن علاماتهم أن يكون أكثر اهتمامهم بعلم الباطن، ومراقبة القلب، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه، والرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة، والجلوس مع الله في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة، والانقطاع إلى الله عما سواه. فذلك مفتاح الإلهام، ومنبع الكشف، فكم من متعلم طال بعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهم في التعلم، ومتوفر على العمل، ومراقبة القلب فتح الله عليه من لطائف الحكم ما يحار فيه عقول ذوي الألباب.
ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ".
وفي بعض الكتب: " يا بني إسرائيل لا تقولوا: العلم في السماء من ينزل به؟ ولا في تخوم الأرض، من يصعد به؟ ولا من وراء البحار، من يعبر فيأتي به؟ العلم مجبول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي بأدب الروحانيين، وتخلقوا إلي بأخلاق الصديقين. أظهر العلم من قلوبكم حتى يغطيكم ".
فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجرد للذكر والفكر تخلو عنها كتب التفاسير، ولا يطلع عليها أذكياء المفسرين. وإذا انكشف ذلك للمراقب، ويعرض على المفسرين استحسنوه وعلموا أن ذلك من تنبيهات القلوب الزكية، وألطاف الله تعالى بالهمم العالية المتوجهة إليه. وكذلك في علوم المكاشفة، وأسرار علوم المعاملة، ودقائق علم النفس، وخواطرها، وهواجسها، فإن كل علم من هذه العلوم بحر لا يدرك غوره، وإنما يخوضه كل طالب بقدر ما رزق، وبقدر ما وفق بحسن العمل.
وروي في الإسرائيليات إن حكيما من الحكماء صنف ثلاثمأة وستين مصحفا في الحكمة، حتى وصف بالحكيم، فأوحى الله إلى نبيهم: " قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقا، ولم تردني شيئا من ذلك. وإني لا أقبل من نفاقك شيئا " فندم الرجل وترك ذلك وخالط العامة في الأسواق، وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه، فأوحى الله إليه: " قل له: الآن وافقت رضائي ".
ومنها: أن يكون أكثر بحثه في علم الأعمال عما يفسدها، ويشوش القلب، ويهيج الوسواس، ويثير الشر. فإن أصل الدين التوقي من الشر. ولذلك قيل:
عرفت الشر لا لش
شر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر
من الناس يقع فيه
ولأن الأعمال البدنية لا تتم إلا بالقصود والنيات، وإنما الشأن في معرفة ما يفسدها ويشوشها، وهذا مما تكثر شعبه ويطول تعريفه، وكل ذلك مما يغلب مسيس الحاجة إليه، وتعم البلوى به في طريق سلوك الآخرة.
وأما علماء الدنيا فإنهم يتبعون غرائب التفريع في الأقضية والحكومات، ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع، وإن وقع ذلك فإنما يقع لغيرهم - لا لهم - فإذا وقع كان في العالمين به كثرة، ويتركون ما يلازمهم ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار من خواطرهم، ووساوسهم، وأعمالهم.
وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم بمهم غيره النادر ايثارا للقبول والقرب من الخلق على القرب من الله، وحرصا على أن يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلا، عالما بالدقائق. وجزاؤه من الله أن لا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق، بل يتكدر عليه صفوه بنوائب الزمان، ثم يرد القيامة مفلسا متحسرا على ما يشاهده من ربح العاملين، ونور المقربين.
وهذا هو الخسران المبين.
فهذه عدة علامات جلية يمكن تعريفها لكل من أراد، ذكرها صاحب كتاب الإحياء. ولهم علامات أخرى باطنية لا يعرفها إلا ذو بصيرة كشفية.
ومن علاماتهم أيضا ما ذكر صاحب كتاب إخوان الصفا بقوله:
فمن إحدى علامات أولياء الله المنبعثين من موت الجهالة ورقدة الغفلة، المستبصرين بعين اليقين ونور الهداية، العارفين بحقائق الدنيا: أنهم قوم تستوي عندهم الأماكن والأزمان، وتغاير الأمور وتصاريف الأكوان. فقد صارت الأيام كلها عندهم عيدا واحدا، وجمعة واحدة، وصارت الأماكن كلها لهم مسجدا واحدا، والجهات كلها قبلة ومحرابا واحدا، وصارت حركاتهم كلهم عبادة لله، وسكناتهم كلهم طاعة، واستوى عندهم مدح المادحين وذم الذامين، لا يأخذهم في الله لومة لائم، قياما لله بالقسط شهداء وهم على صلاتهم دائمون، وتحققوا بقوله تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة:115].
وإنما استوت عندهم الأماكن كلها وصارت محرابا ومسجدا وقبلة واحدة لتصديقهم قول الله تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة:115] وصاروا شهداء لمشاهدتهم له وتصديقهم لقوله:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم
[المجادلة:7].
وإنما استوت عندهم الأيام كلها فصارت كلها جمعة وعيدا لمشاهدتهم يوم القيامة الذي هو أول البعث لمحمد (صلى الله عليه وآله) إلى تمام ألف سنة، كما قال (صلى الله عليه وآله):
" بعثت أنا والساعة كهاتين ".
وإنما استوت عندهم تصاريف الأحوال وتغاير الأمور لتصديقهم قول الله تعالى:
مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم
[الحديد:22 - 23]. وصار دعاؤهم مستجابا لأنهم لا يسألون إلا ما يكون، ولا يكون إلا ما قدر في سابق العلم. فقلوبهم في راحة من التعلق بالأسباب، وأبدانهم فارغة من التكلف فيما لا يعني، ونفوسهم ساكنة عن الوسواس، وهم في راحة من أنفسهم، والناس منهم في راحة وأمان، لا يريدون لأحد سوء، ولا يضمرون لأحد شرا - عدوا كان أو صديقا - كما قال علي (عليه السلام): " والله ما دنياكم عندي إلا كعفطة عنز ".
[2.42]
عطف على ما قبله، وقوله تعالى:
وآمنوا بمآ أنزلت
[البقرة:41] أمر بترك الكفر والضلال. وقوله: { ولا تلبسوا الحق بالباطل } إشارة إلى الأول، لأنه تشويش الدلائل على الحق. وقوله: { وتكتموا الحق } إشارة إلى الثاني، لأنه منع للوصول إلى الدلائل.
و " اللبس ": الخلط.
و " الباء " التي في " الباطل " إما للاستعانة كقولك " كتبت بالقلم " وكان المعنى: " ولا تلبسوا الحق بسبب ابداء الشبهات على السامعين " وإما للصلة كقولك: " لبست كذا بكذا " وكان المعنى: " ولا تجعلوا الحق ملتبسا عليهم بسبب الباطل الذي تكتبونه في خلاله، أو تذكرونه في تأويله ". أو " لا تكتبوا في التوراة ما ليس منها، حتى لا يتميز، فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه أو تكتبونه ".
وقوله: { وتكتموا الحق } جزم داخل تحت حكم النهي، كأنهم أمروا بالإيمان، وترك الضلال، ونهوا عن الاضلال بالتلبيس على من سمع الحق، والاخفاء على من لم يسمعه. أو منصوب باضمار " أن " و " الواو " بمعنى الجمع، أي: لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق " كقولك: " لا تأكل السمك وتشرب اللبن " ويؤيده أنه في قراءة ابن مسعود: " وتكتمون " بمعنى " كاتمين " ، فإنه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق، ولا شك في أن كلا منهما مما يمكن وقوعه وجدانا، وإن الجمع بينهما أقبح، وهم يفعلونهما جميعا.
وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في شأن محمد (صلى الله عليه وآله) بعضها بحيث يمكن اخفاء دلالتها - إذ فيها نوع خفاء، فكانوا يكتمونها - وبعضها في الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على العقول السليمة وجه دلالتها، إذا لم يشوشها شبهة مضل وتلبيس ملبس مجادل، فكانوا يشوشون وجه الدلالة على المتأملين الناظرين بسبب ابداء الشبهات والمجادلات. فهذا هو المراد بقوله: { وتلبسوا الحق بالباطل } وهو المذكور أيضا في قوله:
وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق
[غافر:5].
وقوله: { وتكتموا الحق } إشارة إلى القسم الأول. وقوله : { وأنتم تعلمون } وقع حالا. أي: عالمين بأنكم لابسون، كاتمون. فإنه أقبح، إذ الجاهل ربما يتصور له عذر. والتقييد به لا يدل على جوازهما حال عدم العلم. بل على أن الاقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضارا أفحش من الاقدام عليه عند الجهل بكونه ضارا. فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد، كان إقدامهم عليه أقبح.
وبالجملة، الخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب، وهم يجحدون ما يعلمون، وجحد المعاند أعظم من جحد الجاهل.
وقيل معناه: " وأنتم تعلمون البعث والجزاء ".
وقيل معناه: " وأنتم تعلمون ما أنزل وسينزل ممن كذب على الله تعالى ". وقيل معناه: " وأنتم تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ وغيره ".
والآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره، ويحرم عليه كتمانه.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هؤلاء عارفين بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله)، وذلك مبني على معرفة الله تعالى؟ وعندكم: إن من عرف الله لا يجوز أن يكفر. وهؤلاء صاروا كفارا وماتوا على كفرهم؟
قلت: للعلم مراتب: الظن، واليقين، والمشاهدة. والعلم الذي هو منشأ السعادة الأخروية، والخلاص من العقاب الدائم هو اليقين الحاصل من البرهان الضروري الدائم، وهو بذر المشاهدة الباطنية الدائمة، وأما الظن فلا يغني من الحق شيئا. ولكن يكفي لصحة العمل، وابلاغ الحجة. فلا يمتنع أن يكونوا عارفين بالله وبالتوراة وبصفات النبي (صلى الله عليه وآله) على وجه لا يستحق به الثواب، لأن الثواب مترتب على العلم إذا عمل بمقتضاه.
وعند بعض أصحابنا، القائلين بالموافاة، إن استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة، فإذا لم يوافوا بالإيمان لم يستحقوا الثواب. فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين، وأن يكونوا مستحقين للثواب، لابطالهم ذلك بالكفر. والمعتمد هو الأول.
فصل
في ترهيب علماء السوء
قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: " هذا الخطاب - وإن ورد فيهم - فهو تنبيه لسائر الخلق، وتحذير من مثله، فصار الخطاب وإن كان خاصا في الصورة فإنه عام في المعنى: انتهى قوله.
واعلم أن أكثر من يوجد فيه تلبيس الحق بالباطل، أو كتمانه من العلماء هم الفقهاء، الذين غلبت على أنفسهم الأهواء، كحب الجاه، والتقرب من الملوك والسلاطين، وطلب المال. فإنهم لما غلبت عليهم الأهواء، وطلب المراتب عند الملوك تركوا المحجة البيضاء، وجنحوا إلى التأويلات البعيدة، ليمشوا بها أغراض الملوك، وأعراضهم فيما لهم فيه هوى نفس، ليستندوا في ذلك إلى أمر شرعي، مع كون الفقيه ربما لا يعتقد ذلك ويفتي به.
وذكر الشيخ العارف المحقق محيي الدين الأعرابي في الفتوحات: " إنا رأينا جماعة من الفقهاء والقضاة على هذا الشأن ".
وقال: " لقد أخبرني الملك ظاهر بن الملك صلاح الدين - وقد وقع بيني وبينه كلام في مثل هذا - فنادى بمملوك وقال: جئني بالجرمدان.
فقلت: ما شأن الجرمدان؟ فقال: أنت تنكر علي ما يجري في بلدي ومملكتي من المنكرات والظلم. وأنا - والله - أعتقد مثل ما تعتقد أنت فيه من ذلك. فعليهم لعنة الله. ولقد أفتاني فقيه هو فلان - وعين لي أفضل فقيه عنده في بلده في الدين والتفشف - بأنه لا يجب علي صوم شهر رمضان هذا بعينه. بل الواجب علي شهر في السنة. والاختيار لي فيه أي شهر شئت من الشهور قال السلطان: فلعنته في باطني ولم أظهر له ذلك، وهو فلان وسماه لي رحم الله جميعهم.
وليعلم أن الشيطان قد مكنه الله من حضرة الخيال وجعل له السلطان فيها. فإذا رأيت الفقيه يميل إلى هوى تعرف أنه تردى عند الله، زين الله له سوء عمله بتأويل غريب يمهد له فيه وجها، فحسنه في نظره، فإذا مهد له هذا السبيل جنح إلى نيل هواه وشهوته بوجه شرعي في زعمه، فلا يزال هكذا فعله " انتهى كلامه.
واعلم أن علماء العلوم الحقيقية آمنين سالمين من هذه الأمراض والفتن، فإن علومهم وحالاتهم مختفية عن العوام والحكام، وإنما يعرض هذه الأمراض والفتن - أكثر ما يعرض - للوعاظ والفقهاء الذي اقتصروا على علم الفتاوى والحكومات، والمعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعايش، وخصصوا علم الفقه بها وسموه علم المذهب وعلم الدين، فربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة فلم يتفقدوا الجوارح، ولم يحرسوا اللسان عن الغيبة، والبطن عن الحرام، والرجل عن المشي إلى السلطان، وكذا سائر الجوارح. ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر، والحسد، والرياء، وسائر الملكات المهلكات.
قال الغزالي في كتاب الإحياء مشيرا إليهم: " هؤلاء هم المغرورون من وجهين: أحدهما من حيث العمل والآخر من حيث العلم.
أما من حيث العمل: فمثلهم كمثل المريض، إذا تعلم نسخة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه - لا - بل مثلهم كمثل من به علة البواسير أو البرسام، وهو مشرف على الهلاك، محتاج إلى تعلم الدواء واستعماله، واشتغل بتعلم دواء الاستحاضة وبتكرار ذلك ليلا ونهارا، مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحيض، ولكن يقول: ربما يقع علة الاستحاضة بامرأة تسألني عنها. فذلك غاية الغرور.
فكذلك المتفقه المسكين قد تسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات، والحسد والكبر والرياء وسائر المهلكات الباطنة، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلافي، ويلقى الله وهو عليه غضبان، فترك ذلك كله واشتغل بعلم السلم، والاجارة، والظهار، واللعان، والجراحات، والديات، والدعاوى والبينات، وبكتاب الحيض. ولا يحتاج إلى شيء من ذلك في عمره لنفسه، وإذا احتاج غيره كان للمفتين كثرة.
فيشتغل بذلك ويحرص عليه لما فيه من الجاه والرياسة. وقد دعاه الشيطان ولا يشعر، إذ المغرور يظن أنه مشغول بفرض دينه، وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ عن فرض العين معصية.
هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال: وقد قصد بالتفقه وجه الله، وأما غروره من حيث العلم فحيث اقتصر على علم الفتاوى وظن أنه علم الدين، وترك علم كتاب الله وسنة رسوله، وترك أيضا علم تهذيب الأخلاق وترك الفقه في الله بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى.
فتراه آمنا من الله، مغترا به، متكلا على أنه لا بد أن يرحمه، فإنه قوم دينه، وإنه لو لم يشتغل بالفتاوى لتعطل الحلال والحرام، فقد ترك العلوم التي هي أهم، وهو غافل مغرور، وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه، ولم يدر ان ذلك الفقه هو الفقه في الله، ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة، ليستشعر القلب بلازم التقوى، إذ قال الله تعالى:
فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
[التوبة:122].
والذي يحصل به الانذار غير هذا العلم، فإن مقصود هذا العلم حفظ الأموال بشروط المعاملات، وحفظ الأبدان بالأموال، وبدفع القتل والجراحات. والمال في طريق الله آلة، والبدن مركب. وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق، وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة. فهي الحجاب بين الله وبين العبد، فإذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله.
فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الآخرة على علم حرز الراوية والخف. ولا شك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج، ولكن المقتصر عليه ليس من الحج في شيء.
ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات، ولم يهمه إلا طريق المجادلة، والالزام، وافحام الخصوم، ودفع الحق لأجل الغلبة والمباهاة، فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب المذاهب، والتفقد لعيوب الأقران، والتلقف لأنواع الشبهات المؤذية للقلوب.
وهؤلاء هم سباع الإنس، وطبعهم الإيذاء، وهمهم السفه، ولا يقصدون العلم إلا للمباهاة. فكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة - كعلم القلب، وهو علم سلوك الطريق إلى الله بمحو الصفات المذمومة وتبديلها بالمحمودة - فإنهم يستحقرونه ويسمونه التزويق وكلام الوعاظ.
وأما التحقيق فهو عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين المتصارعين في الجدل.
[2.43]
لما أمرهم أولا بما يتعلق بالعلوم الدينية كالإيمان بالمعارف الإلهية المنزلة على النبي (صلى الله عليه وآله) في القرآن، ثم نهاهم ثانيا عن الكفر بها طلبا للعاجل، وعن المغالطة وتلبيس الحق بالباطل، وكتمان دلائل النبوة، فكلفهم بعد ذلك بالتزام الأعمال الشرعية، وذكر من جملتها ما هو كالدعائم والأصول فيها - وهو الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنية، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية - أعني صلاة المسلمين وزكاتهم، وأن غيرهما كلا صلاة ولا زكاة، وبالجملة أمرهم بفروع الإسلام العملية كما أمرهم بأصوله العلمية.
وفيه دليل على أن الكفار مأمورون بالفروع وإن لم يصح منهم إلا بعد الإيمان.
الصلاة
واعلم أن لفظ الصلاة من الأسماء الشرعية، ولا شيهة في أنها عربية، فلا يجوز أن يكون الشرع ارتجلها ابتداء من غير نقل، وإلا لم يصح قوله تعالى:
إنآ أنزلناه قرآنا عربيا
[يوسف:2]. فلا بد أن يكون له في اللغة معنى آخر. فاختلفوا في أصله:
فقيل: الدعاء. قال الأعشى.
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
أي: دعوت. وقيل: اللزوم. قال الشاعر:
لم أكن من جناتها - علم
الله - وإني بحرها اليوم صال
أي: ملازم بحرها. فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله به.
وقيل: أصلها من " الصلا " وهي: عظم العجز. لرفعه في الركوع والسجود.
وقيل: مأخوذة من " المصلي " وهو الفرس الذي يتبع غيره.
وعلى القول الأول أكثر العلماء، إذ لا صلاة إلا ويقع فيها الدعاء أو ما يجري مجراه. وربما تخلو صلاة عن متابعة الغير، وإذا عم وجه الشبه في كل الصور كان أولى مما يختص ببعضها. وأيضا اطلاق اسم الجزء على الكل أمر شائع مشهور، فالحمل عليه أولى.
قال بعض الصوفية: اشتقاق الصلاة قيل من " الصلى ". وهي النار. والخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها تعرض على النار ثم تقوم. وفي العبد اعوجاج لوجود نفسه الأمارة بالسوء، وسبحات وجه الله الكريم التي لو كشف حجابها لأحرقت من أدركته، يصيب بها المصلي من وهج السطوة الإلهية والعظمة الربانية ما يزول اعوجاجه، بل يتحقق به معراجه. فالمصلي كالمصطلي بالنار. ومن اصطلى بنار الصلاة وزال بها اعوجاجه لا يعرض على نار جهنم.
وروى أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني - ره - في الكافي، والصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه: أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" ما من صلاة يحضر وقتها إلا نادى ملك بين يدي الناس: أيها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم، فاطفؤها بصلاتكم ".
وقد ورد:
" إن الله إذا تجلى لشيء خضع له "
ومن يتحقق بالصلة في الصلاة تلمع له طوالع التجلي فيخشع، والفلاح للذين هم في صلاتهم خاشعون، وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح، وشهد القرآن المجيد بالفلاح للمصلين.
وروى ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" لما خلق الله تعالى جنة عدن، وخلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال لها: تكلمي. قالت: { قد أفلح المؤمنون } [المؤمنون:1] ثلاثا ".
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين يدي الرحمن، فإذا التفت قال له الرب: إلى من تلتفت؟! إلى من هو خير لك مني؟ إبن آدم أقبل إلي، فأنا خير لك مما تلتفت إليه ".
وأبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال له:
" لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه ".
وقال بعضهم: " الصلاة في اللغة هي الدعاء. فكأن المصلي يدعو الله بجميع جوارحه، فصارت أعضاؤه كلها ألسنة، يدعو بها ظاهرا وباطنا، وتشارك الظاهر والباطن بالتضرع والتقلب في الهيئات والتملقات، تملق متضرع سائل محتاج. فإذا دعا بكليته أجابه مولاه، لأنه وعد فقال:
ادعوني أستجب لكم
[غافر:60]. أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالاجابة، وليس بينهما شرط.
" والاستجابة والاجابة هو نفوذ دعاء العبد. وإن الداعي الصادق، العالم بمن يدعوه بنور يقينه تخرق دعوته الحجب، وتقف الدعوة بين يدي الله متقاضية للحاجة ".
" وإذا كانت الصلاة للذكر فكيف يسع فيه النسيان، قال الله تعالى:
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون
[النساء:43]. فمن قال، ولا يعلم كيف يصلي - وقد نهاه الله عن ذلك - فالسكران يقول الشيء لا بحضور عقلي، وكذلك الغافل الذي يصلي لا بحضور القلب فهو كالسكران ".
" وقيل في غرائب التفسير في قوله تعالى لموسى (عليه السلام)
اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى
[طه:12] أي: " همك بامرأتك وغنمك ". فالاهتمام بغير الله سكر في الصلاة.
" وقيل: إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا يرفعون أبصارهم يمينا وشمالا. فلما نزلت:
الذين هم في صلاتهم خاشعون
[المؤمنون:2]. جعلوا وجوههم حيث يسجدون. وما رئي بعد ذلك أحد منهم ينظر إلا إلى الأرض.
وخص الله هذه الأمة بانزال فاتحة الكتاب، وفيها تقديم الثناء على الدعاء ليكون أسرع إلى الاجابة، وهي تعليم الله عباده كيفية الدعاء. وفاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم.
وقيل: سميت مثاني لأنها نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرتين. مرة بمكة، ومرة بالمدينة. وكان له (صلى الله عليه وآله) بكل مرة نزلت منها فهم آخر. بل كان له بكل مرة قرأها - على الترداد مع طول الزمان - فهم آخر.
وهكذا أهل التحقيق من المصلين من أمته، ينكشف لهم عجائب أسرارها، ولوامع أنوارها، ويقذف لهم كل مرة درر بحارها.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليسكن أطرافه، ولا يتميل تميل اليهود، فإن سكون الأطراف من تمام الصلاة ".
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تعوذوا بالله من خشوع النفاق. وقيل: وما خشوع النفاق؟ قال: خشوع البدن ونفاق القلب.
واليهود يتميلون في الصلاة. قال بعض الصوفية: سببه أنه كان موسى (عليه السلام) يعامل بني إسرائيل على ظاهر الأمور، لقلة ما في باطنهم من نور المعرفة، وكان يهيب الأمور في أعينهم ويعظمها، ولهذا المعنى أوحى الله أن يحلي التوراة بالذهب.
ووقع لي - والله أعلم - أن موسى (عليه السلام) كان يرد عليه الوارد في صلاته ومحال مناجاته، فيتموج به باطنه كبحر ساكن يهب عليه، فتتلاطم الأمواج، فكان تمايل موسى (عليه السلام) لتلاطم أمواج بحر القلب إذا هبت عليه نسيمات الفضل. وربما كانت الروح يتطلع إلى الحضرة الإلهية، فيهم بالاستعلاء، وللقلب بها تشبه وامتزاج، فيضطرب القالب ويتمايل، فيرى اليهود ظاهره، فتمايلوا من غير حظ لبواطنهم من ذلك.
ولهذا المعنى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" انكارا على أهل الوسوسة: هكذا خرجت عظمته من قلوب بني إسرائيل، حتى شهدت أبدانهم، وغابت قلوبهم. لا يقبل الله صلاة امرئ لا يشهد فيها قلبه كما يشهد به بدنه. وإن الرجل على صلاته دائم لا يكتب له عشرها إذا كان قلبه ساهيا لاهيا ".
تنبيه
فضل الصلاة
واعلم أن الله تعالى أوجب الصلوات الخمس وقد قال (صلى الله عليه وآله)
" الصلاة عماد الدين "
و
" من ترك الصلاة فقد كفر "
وعنه (صلى الله عليه وآله) في طريق أهل البيت (عليهم السلام):
" ما تقرب العبد إلى الله تعالى بشيء بعد المعرفة أفضل من الصلاة "
الصلاة تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة.
قال سهل بن عبد الله التستري: يحتاج العبد إلى السنن الرواتب لتكميل الفرائض، ويحتاج إلى النوافل لتكميل السنن، ويحتاج إلى الآداب لتكميل النوافل، ومن الأدب ترك الدنيا.
وقد ورد في الأخبار: إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله تعالى الحجاب بينه وبينه، وواجهه الكريم، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء يصلون بصلاته ويؤمنون على دعائه، وإن المصلي لينثر عليه البر من أعنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه مناد: لو علم المصلي من يناجي لما التفت، أو ما انفتل ".
وقريب من هذا ما رواه أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: " للمصلي ثلاث خصال: إذا هو قام في صلاته حفت به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء، وتناثر البر عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه، وملك موكل به ينادي: لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل ".
وقيل: قد جمع الله تعالى للمصلين في كل ركعة ما فرق على أهل السماوات فلله ملائكة في الركوع مذ خلقهم الله، لا يرفعون رؤوسهم من الركوع إلى يوم القيامة وهكذا في السجود والقيام والقعود. والعبد المتيقظ يتصف في ركوعه بصفة الراكعين منهم. وفي السجود بصفة الساجدين منهم. وفي كل هيئة هكذا. ويصير كالواحد منهم وبينهم.
وقيل: في الصلاة أربع هيآت، وستة أذكار. فالهيآت: القيام والقعود والركوع والسجود. والأذكار: هي التلاوة والتسبيح والحمد والاستغفار والدعاء والصلاة على النبي وآله. فصارت عشرة كاملة، يتفرق هذه العشرة إلى عشرة صفوف من الملائكة، كل صف عشرة آلاف، فيجتمع له في الركعتين ما يتفرق على مأة ألف من الملائكة.
وفي طريق أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - أحاديث كثيرة في فضل الصلاة وأسرارها، نقلها جميعا يؤدي إلى التطويل:
منها: إنه قال النبي (صلى الله عليه وآله):
" مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب، والأوتاد، والغشاء، وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب، ولا وتد، ولا غشاء ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" إنما مثل الصلاة فيكم كمثل السري - وهو النهر - على باب أحدكم، يخرج إليه في اليوم والليلة، ويغتسل منه خمس مرات ".
وقال الصادق (عليه السلام): " من قبل الله منه صلاة واحدة لم يعذبه ".
أقول: وذلك لأن الصلاة مشتملة على معرفة الله، وصفاته، وتوحيده، واليوم الآخر، وكل من أداها بشروطها، عارفا بأصولها وأركانها، فهو من أهل القرب والولاية، فكيف تمسه النار، وهو في بحبوحة القرب.
وقال الصادق (عليه السلام): أقرب ما يكون العبد إلى الله عز وجل وهو ساجد قال الله تعالى
واسجد واقترب
[العلق:19].
وقال أبو جعفر (عليه السلام): ما من عبد من شيعتنا يقوم إلى الصلاة إلا اكتنفته بعدد من خالفه ملائكة يصلون خلفه، ويدعون الله عز وجل له حتى يفرغ من صلاته.
فصل
في الزكاة
وأما الزكاة فهي في اللغة بمعنى النماء قال: " زكى الزرع " إذا نمى. وبمعنى التطهير، قال تعالى:
أقتلت نفسا زكية
[الكهف:74]. أي: طاهرة وقال:
قد أفلح من زكاها
[الشمس:9]. أي: طهرها. وقال
ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه
[فاطر:18]. أي تطهر بطاعة الله. ولعل اخراج نصف دينار من عشرين دينارا - مثلا - سمي في الشرع " زكاة " نظرا إلى هذين الوجهين.
فعلى الوجه الأول: يستجلب الزكاة بركة في المال، وفضيلة في النفس، فهي نماء في المعنى، وإن كان نقصان في الصورة، لأن في هذا الإعطاء يدفع الله البلاء عن المال، ويزيد في قوة النفس بترك الحرص في الحال طلبا للثواب في المآل.
ولهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" عليك بالصدقة، فإن فيها ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق، وتكثر في المال، وتعمر الديار. وأما التي في الآخرة فتستر العورة، وتصير ظلا فوق الرأس، وتكون سترا من النار ".
وعلى الوجه الثاني فتطهر المال من الوسخ والخبث، وتطهر النفس من الرذيلة والبخل. قال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله):
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
[التوبة:103].
واعلم أن سر الزكاة وعلة وجوبها تطهير النفس من محبة المال، وفي كلام سقراط الحكيم: " محبة المال وتد الشر " وقال (صلى الله عليه وآله):
" حب الدنيا رأس كل خطيئة "
قرأ بعض الفضلاء هذا الحديث هكذا: " حب الدينار أس كل خطيئة ".
وأما مواساة الفقراء: فهي واقعة بالعرض، ولا تضيق قدرة الله عن أن يرزقهم من وجه آخر، غير ايجاب الزكاة على الأغنياء.
وروى أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني - رحمه الله - عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " مانع الزكاة يطوق بحية قرعاء تأكل من دماغه ". وذلك قول الله عز وجل:
سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة
[آل عمران:180].
وروي عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما لأصحابه:
" ملعون كل مال لا يزكى. ملعون كل جسد لا يزكى ".
وبرواية أخرى عن الصادق (عليه السلام): " ملعون ملعون مال لا يزكى ".
وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " ما من عبد منع من زكاة ماله شيئا إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه، ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب، وهو قول الله تعالى:
سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة
[آل عمران:180]
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القامة شجاعا أقرع. له زبيبتان يطوقه، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شحمة الأذن ثم يقول: أنا مالك. أنا كنزك. - ثم تلا-: { ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ آتاهم الله من فضله } [آل عمران:180] "
الآية.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيرى سبيله، إما إلى الجنة، أو إلى النار ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" ولا صاحب ابل لا يؤدي منه حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر - أرض مستوية - أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة. وإما إلى النار.
ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها، وتطأه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه اخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار ".
وروي أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" ما من رجل يكون له ابل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها، ردت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس ".
واعلم أن هذه التمثيلات المشاهدة يوم القيامة، كما ورد في هذه الأحاديث كلها حق وصدق يجب الإيمان بها، ولكني أراك - يا حبيبي - عاجزا عن فهمها، وسر حقائقها، وروح معانيها، لأنك ونظرائك عاكفون على أصنام الأجسام الدنيوية لا تجاوزونها في باب الاعتقاد.
ولو نظرتم إلى هذه الأجسام الدنيوية المشاهدة لهذه الحواس أيضا لعلمتم أن أصلها نشأت من المعاني والجهات العقلية، التي اقتضت وجودها اقتضاء ذاتيا، كعلوم الباري جل ذكره، أو ادراكات المبادئ المقومة إياها، فهذه الأجسام كأنها معان تجسمت، وتكونت، وانحصرت في مضائق الأبعاد والأحياز، وكأنها أرواح تجسدت، وعقول تشكلت، إلا أن بعضها وجدت على سبيل الحركة والاستعداد بمشاركة انفعال من المواد، وبعضها نشأت على سنة الإبداع في الإيجاد.
وأما الدار الآخرة - وهي دار القرار ودار جلال الله وكبريائه - فالقدرة فيها أوسع، وأقوى، فبأن يتكون به الأشكال، والأمثال، والأبعاد والأجرام من المعاني، والاعتقادات، والأفكار، والملكات، كان أليق وأولى.
فليعلم أن هذا الثعبان المطوق في عنق مانع الزكاة، والحية القرعاء التي تأكل من دماغه، والشجاع الأقرع المتمكن من أن يأخذ بلهزمتيه - المتمثل له يوم الآخرة - وكذا الابل، والبقر، والغنم، التي ستطأه يوم القيامة بأخفافها، وتنطحه بقرونها، ليست بأمور خارجة عن ذات الميت - أعني ذات روحه، لا ذات جسده، فإن الروح هي التي تتألم وتتنعم - بل هي مما كانت معه قبل موته متمكنة من صميم باطنه: لكنه لم يكن يحس بلذعها، وكيها، ووطئها، ونطحها، لخدر، وسكر، كانا فيه؛ لغلبة الشهوات والشواغل الملهية عن ذكر الآخرة، المنسية للقاء عالم المعاني والحقائق المتمثلة بصورها الأصلية.
فإن لكل معنى صورة أصلية هي مثال ذاتها بالحقيقة وصورة مجازية لها تعلق ما بتلك الصورة الأصلية، فيه مثال المثال.
فالأشكال الأخروية هي مثالات المعاني والحقائق، والأجسام الدنيوية هي أمثال وضعية تمثلت بتوسط الحركات والانفعالات، فهي كالنسخة الثانية لكتاب الحقائق، ولهذا مما يقع فيها الخطأ في الحكاية عنها لمن قلت ممارسته لقراءة الكتب، فيرى الظلمة نورا، والظل حرورا، والهاوية قصورا، والمحنة سرورا، والعذاب راحة، والنقمة نعمة، والقبيح حسنا، والحسن قبيحا.
فجميع ملاذ الدنيا ينقلب آلاما في الآخرة، وذلك مما يشاهده أهل البصيرة بعيون قلوبهم الصافية عن غشاوة الشك والامتراء، فهم يشاهدون كيف تتمثل هذه الهيئات النفسانية وتتجسم يوم القيامة، ويقرؤون كتابهم وكتاب غيرهم قبل نشر الكتب، ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
فيعلمون أن جميع ما ورد في باب مانع الزكاة حق وصدق، ويعلمون سر قوله تعالى:
فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
[التوبة:35] وسر قوله:
ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة
[النحل:107]. وقوله:
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها
[الأحقاف:20] الآية.
ولو كانت هذه الأمور المؤلمة المعذبة عند الموت خارجة عن ذات الميت - كما يظنه الظاهريون - لكانت أهون، إذ ربما يتصور أن ينحرف عنه الثعبان، أو ينحرف هو عنه، أو يقع بينهما حاجز، لا بل هو متمكن من صميم فؤاده، يلذعه لذعا أعظم مما يفهمه من لذع هذه الثعابين، وهو بعينه صفته التي كانت معه في الدنيا أي محبته للمال التي منشأ تألمه بفقده في المآل.
فصل
قوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين }
أي: صلوا مع المصلين المسلمين. فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
وفي رواية أصحابنا: " صلاة الرجل في جماعة تفضل صلاة الفرد بأربع وعشرين صلاة. فيكون خمسا وعشرين صلاة " لما فيها من تظاهر النفوس.
وعبر عن الصلاة بالركوع تسمية للكل بأشهر أجزائه. لأن الركوع أول ما يشاهد من الأفعال التي يستدل بها على أن الإنسان يصلي. فعلى هذا لا تكرار لفظا ولا معنى. لأن في الأول أمر باقامتها، وفي الثاني أمر بفعلها مع الجماعة.
وقيل: كأنه كرر لفظ الصلاة تأكيدا. ويحتمل أيضا أن يكون الأول: إشارة إلى مطلق الصلاة، أو الصلاة التي تعرفونها. والثاني: إشارة إلى الشرعية. وقيل: خص الله الركوع بالذكر، لأن صلاة اليهود لا ركوع فيها. ففيه تكليف لهم بصلاة المسلمين. وقيل: المراد من الركوع: الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع. قال الشاعر:
لا تذل الضعيف علك أن
تركع يوما والدهر قد رفعه
فكأنه تعالى لما أمرهم بالصلاة والزكاة أمرهم بعد ذلك بالانقياد، والخضوع، وترك التمرد. كما قال الله في مقام المدح:
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
[المائدة:54]. وقد وقع هكذا في قوله تعالى:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
[المائدة:55].
[2.44]
الهمزة للتقرير مع التقريع والتعجيب.
البر - في اللغة - والإحسان والصلة نظائر. يقال: فلان بار، وصول، محسن. وضد البر: العقوق. والبر، والبر، لغتان. وقولهم: " لا يعرف الهر من البر " قال الأخفش: " معناه لا يعرف من يهر عليه ممن يبر عليه ". وقال المازني: " الهر: السنور. والبر: الفأرة أو دويبة تشبهها ".
والبر اسم جامع لأعمال الخير، ومنه " بر الوالدين " و " عمل مبرور ". وقد يكون بمعنى الصدق، كما يقال: " بر في يمينه " أي: صدق ولم يحنث. وقيل: البر التوسع في الخير، من البر - وهو الفضاء الواسع - يتناول كل خير. ولذلك قيل: " البر ثلاثة: بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب ".
والنسيان، والسهو، والغفلة، متقاربة في المعنى، والتفاوت بينهما بالشدة والضعف، كما أن للذكر مراتب متفاوتة: ما بالفعل، وما بالقوة القريبة، أو البعيدة.
{ وأنتم تتلون الكتاب } أي تقرؤون التوراة وتدرسونها، وتعلمون ما فيها، من الحث على أفعال البر، والاعراض عن أفعال الإثم. أو أنتم من أهل التلاوة والدراسة والمذاكرة للكتب العلمية، ولستم من العوام والجهال { أفلا تعقلون } قبح ما تفعلون؟!
والعقل، والفهم، والمعرفة، واللب، نظائر. وضد العقل الحمق.
والعقل في الأصل: الحبس والربط. والعقال: الرباط. يقال: " عقلت البعير أعقله عقلا " إذا شددت يده بالعقال. فسمي به الادراك الإنساني، لأنه يحبسه عن فعل ما يقبح، ويعقله عن فعل ما يحسن، ثم تسمى به القوة التي بها النفس تدرك هذا الادراك.
وقيل: العقل مجموع علوم لأجلها يمتنع الحي من كثير من المقبحات، ويفعل كثيرا من الواجبات. وإنما سميت تلك العلوم " عقلا " ، لأنها تعقل عن فعل القبيح، ولا يوصف القديم تعالى بأنه عاقل، لأنه لا يعقله شيء عن فعل القبيح، وإنما لا يختاره لغناه عنه، وعلمه بقبحه، ولعلمه بوجوه الحكمة والمصلحة المقتضية لفعل الخير علما ذاتيا.
وقيل: العقل هو العلم الذي يزجر عن قبيح الفعل، ومن كان زاجره أقوى فهو أعقل. وقيل: العقل معرفة يفصل بها بين القبيح والحسن في الجملة. وقيل: هو التمييز الذي فارق به الإنسان سائر الحيوان وهذه الأقوال متقاربة المعاني.
ولفظ " العقل " يطلق في عرف الحكماء على معاني أخرى: منها قوة في النفس تسمى عقلا نظريا ومنها قوة أخرى فيه تسمى عقلا علميا - ولكل منهما مراتب أربعة يطلق عليها اسم العقل - ومنها جوهر مفارق في الوجود والتأثير عن الأجسام وما يتعلق بها، وهو أشرف أقسام الممكنات ولا واسطة بينه وبين الباري جل ذكره.
فصل
واختلفوا في أن المراد من { البر } في هذه الآية ماذا؟
فعن ابن عباس: إنها نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون الناس سرا باتباع محمد (صلى الله عليه وآله) ولا يتبعونه.
وعن السدي: كانوا يأمرون بطاعة الله وينهونهم عن معصيته، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعاصي.
وعن ابن جريح: إنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة، وهم يتركونهما.
وعن الزجاج: كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة، وكانوا يشحون بها. لأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب، وأكل الربا، والسحت.
وعن أبي مسلم: إن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم، ويدعوكم إلى الحق، وكانوا يرغبونهم في اتباعه، فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) حسدوه وكفروا به.
وفيه وجوه أخرى مذكورة في التفسير الكبير وغيره، واقتصرنا عنها بما هو أولى وأقرب.
وفي قوله: { أفلا تعقلون } توبيخ عظيم أي: كأنكم في عدم تفطنكم لقبح ما أقدمتم عليه - وهو غير خاف على أوائل العقول وبداياتها - مسلوبوا العقول. وإلا فلا وجه لصدور مثله عمن يعقل ويميز بين الحسن والقبح. ونحوه قوله تعالى
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون
[الأنبياء:67].
وفيه حجة اعتزالية وله جواب أشعري. والتحقيق خارج عما يدركه كل من الفريقين بإحدى العينين.
وقيل معناه: أفلا تعلمون أن الله يعذبكم ويعاقبكم على ذلك. قيل: أفلا تعلمون أن ما في التوراة حق، فلم لا تصدقون محمدا (صلى الله عليه وآله) ولا تتبعونه.
فصل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولك أن تقول: إذا كان فعل البر واجبا، والأمر به واجبا، فلماذا وبخهم الله تعالى على الأمر بالبر؟
والجواب: لم يوبخهم على الأمر بالبر. وإنما وبخهم على ترك فعل البر المضموم إلى الأمر به، لأن ترك البر ممن يأمر به أقبح من تركه ممن لا يأمر به. كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
ومعلوم أنه لم يرد به منعه عن النهي عن الخلق المذموم، وإنما نهاه عن اتيان مثله ، فالمراد بالآية حث الواعظ على تزكية النفس، والاقبال عليها بالتكميل، ليقوم فيقيم، ويكمل فيكمل. لا منع الفاسق عن الوعظ - كما توهم - فإن الاخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الاخلال بالآخر.
وقال بعضهم: ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل يجب أن لا يكون الآمر والناهي مرتكبا للمحرمات، واشترط العدالة محتجا بالنقل والعقل:
أما النقل: فهذه الآية، وقوله تعالى:
لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
[الصف:2 - 3]. وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: كنا نأمر بالخير ولا نأتيه. وننهى عن الشر ونأتيه ".
وأما المعقول: فهو أنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن ينكر عليها على كشف وجهها في أثناء الزنا. ومعلوم أن ذلك مستنكر عقلا. وأن هداية الغير فرع الاهتداء، والإقامة بعد الاستقامة. ولهذا قيل: " إن الاصلاح زكاة نصاب الصلاح ".
والجواب: إن المكلف كما هو مأمور بفعل المعروف، مأمور بالأمر به للغير. وكما هو مأمور بترك المعصية، مأمور بمنع الغير عن فعلها مطلقا. ثم المنع عن الجمع بين فعل المعصية ومنع الغير عنها، أو أمرهم بالطاعة يتصور على وجهين، لكونه ذا جزئين. وفساد المركب من الجزئين إما أن يكون لفساد أحد جزئيه بخصوصه، أو لفساد انضمام أحدهما بالآخر.
فهاهنا ثلاثة احتمالات، لكن أحدها - وهو كون المنع متعلقا بفعل الطاعة - ظاهر البطلان بالاتفاق. فبقي احتمالان آخران:
أحدهما: أن يكون المنع متوجها إلى فعل المعصية، كنسيان النفس فيما نحن فيه.
والثاني: أن يكون متوجها إلى الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مع فعل المعصية. فيكون المنع هاهنا عن ترغيب الناس بالبر مع نسيان النفس، والحق في معنى الآية عندنا هو الأول - لا الثاني - فسقط احتجاج الخصم بالآيتين، وبما تضمنه حديث الاسراء.
وأما احتجاجه العقلي بما ذكره من المثال، فلا نسلم ان مجرد إنكاره عليها على كشف وجهها مستقبح عقلا. بل الاستقباح والاستنكار على مجموع الزنا والانكار عند التحليل يرجع إلى فعل الزنا لا إلى ذلك الانكار
وأما حديث الفرعية، فكلام شعري كما لا يخفى.
وأيضا: فالصغائر النادرة لا تخل بالعدالة، ولفاعلها أن ينهى عن المنكر بالاتفاق مع اندراجه في الآيتين والحديث، وما هو جوابكم فهو جوابنا.
وأيضا: لو تمت دلائلكم لاقتضت عدم وجوب الأمر والنهي إلا على المعصوم فينسد باب الحسبة.
بقي في هذا المقام شيء، وهو أن من أمر بالخير ولا يعمل به، أو نهى عن الشر وأتى به، قد علم من حاله أنه مستاهل في دينه، ذو وهن في اعتقاده، وإلا فما كان يفرغ من توبيخ نفسه إلى نصيحة غيره.
فصل
الوعظ دون اتعاظ الواعظ
اعلم أن المقصود من الوعظ، والترغيب بالطاعة، والتحذير عن المعصية إرشاد الغير، وهدايته إلى طلب الخير، ودفع الشر، وتحصيل السعادة، والحذر عن الشقاوة. ولا شبهة لأحد من العقلاء في أن الإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير، فمن وعظ ولم يتعظ، ومن أمر بالإحسان ولم يحسن إلى نفسه، فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، ولهذا قال: { أفلا تعقلون }. تعجيبا لأن يقع مثل ذلك عن العقلاء.
وأيضا من وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب، والاقدام على المعصية مما ينفر القلوب، فكأن من عصى كان مقصوده أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب.
فالجمع بين الوعظ والمعصية جمع بين الضدين، وهو غير لائق بالعقلاء.
ولهذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك " وذلك لأن من وعظ وأظهر علمه للخلق ثم نسي نفسه ولم يتعظ وفعل المعصية، صار وعظه وإظهاره للعلم سببا لرغبة الناس في المعصية، لأنهم يقولون: " إن هذا رجل عالم، لو أنه اطلع على ضرر المعصية لما أقدم عليها، ولولا أنه اطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما اجترأ على فعل المعصية ".
فقد صار وعظه داعيا للناس إلى التهاون بالدين، والجرأة على المعاصي، سيما والنفوس مجبولة على الحرص بالمنكرات والشهوات، إذا لم يكن رادع شرعي أو عقلي، فإذا كان غرض الواعظ الردع والزجر ثم أتى بما يوجب الرخصة والترغيب، فكأنه فعل شيئا متناقضا، وهو من العاقل موضع العجب.
فصل
الوعاظ الغير المتعظين
أكثر ما تعتري هذه الصفة - أي اصلاح الناس والأمر لهم بالبر مع نسيان النفس وإصلاحها وعدم تفقد أحوال القلب - للمقتصرين على العلوم الظاهرة من غير تحقيق فيها، والناقلين للأخبار والروايات من غير دراية. لما فيها من جلب خواطر الناس، والشهرة، وطلب الرياسة، والإمامة.
فالواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به حلاوة ولذة لا يوازيها لذة، فإذا غلب ذلك على نفسه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام - وإن كان باطلا - ويفر عن كل كلام يستثقله العوام - وإن كان حقا - ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام، ويعظم منزلته عندهم، فلا يسمع حديثا وحكمة إلا ويكون فرحه بها من حيث إنه يناسب أن ينقل في محفل الناس أو يذكر على رأس المنبر.
وهذه فتنة عظيمة، فمن لا باعث له في الوعظ والحسبة إلا طلب الجاه، والمنزلة، والتفاخر، فهو منافق مطرود عن باب الله، لأنه باع آجل آخرته، واشترى به ثمنا قليلا من عاجل دنياه، ولو كان له حظ من العلم لعلم أن لذة الدنيا بالقياس إلى لذة المعرفة بالله شيء حقير خسيس.
فمن اشتغل بالأمر والنهي يجب عليه أن يكون فرحه بحفظ العلوم من حيث عرف بها طريق النجاة، وطلب السعادة، وطريق سلوك الدين، ليعمل بها أولا، ويهذب نفسه، ويحصل له اليقين. ثم إذا فرغ من أمر نفسه اشتغل بغيره، شكرا لله بأن يقول: " إذا أنعم الله علي بهذه النعمة فأقضيها ليشاركني في نفعها إخواني ".
فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والثروة، فينبغي أن يتركه، ويخالف الهوى فيه إلى أن يرتاض نفسه، ويقوي دينه ويقينه، ويأمن عن فتنة نفسه، فعند ذلك يشتغل باصلاح غيره من وعظ أو قضاء أو تدريس.
فالمعلوم من حال من صرف أوقاته لنقل الأقوال وحفظ الروايات وغرضه عرضها على الناس مع عدم اصلاح نفسه بتهذيب الأخلاق، واقتناء العلوم الحقيقية، التي ليس فيها شهرة، وتفاخر، وكسب منزلة عند الناس - أنه غير معتن بأمر الدين، ولا ذو اهتمام بتحصيل المنزلة عند الله بطلب المعرفة واليقين، وتجريد النفس عن شواغل الهوى، وشهوات الدنيا. ولهذا ورد أخبار كثيرة في مذمة أمثاله:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له خطب به: " أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون... وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه ".
وعن مصعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وعلي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب - رفعه - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إن من أبغض الخلق إلى الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلامه بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة. فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته.
ورجل قمش جهلا في جهال الناس، عان بأغباش الفتنة، قد سماه أشباه الناس عالما ولم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر، حتى ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، وإن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به.
فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت، لا يدري أصاب أو أخطأ. لا يحسب العلم في شيء مما أنكر، ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهبا، إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، لكيلا يقال له: " لا يعلم " ثم جسر يقضي. فهو مفتاح عشوات، ركاب شبهات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم ، تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بقضائه الفرج الحلال.
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه ". فقيل: " من هو يا رسول الله "؟ فقال: عالم لا ينتفع بعلمه ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" مثل الذي يعلم الناس ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه ".
وفي الخبر:
" يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار، فيقولون لم دخلتم النار وإنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟! فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله ".
وقيل: " من وعظ بقوله ضاع كلامه. ومن وعظ بفعله نفذت سهامه " وقيل:
يا معشر الوعاظ يا ملح البلد
ما يصلح الملح إذ الملح فسد
وقال الثوري: " إن فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل المال والولد. وكيف لا يخاف فتنته وقد قيل لسيد البشر
لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
[الإسراء:74].
وكتب رجل إلى أخ له في الدين: " إنك قد أوتيت علما فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم ".
وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء الدنيا: " يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأبوابكم طالوتية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومذاهبكم شيطانية، ومآثمكم جاهلية. فأين المحمدية؟ وأنشد:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها
فكيف إذ الرعاة لها ذئاب
وقال سفيان بن عيينة: " أجهل الناس من ترك العمل بها علم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم وأخشاهم لله ". وهذا قول صحيح يحكم بأن العالم إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم، فلا يغرنك تشدقه واستطالته، وحذاقته، وقوته في المناظرة والمجادلة، فإنه جاهل القلب عليم اللسان. وشره أعظم.
فصل
التعرف بعلماء الآخرة
إن العالم في الحقيقة هو العارف الصوفي المخلص لله دينه عن شوائب أغراض الدنيا وشهواتها، فإن أردت تحقيق هذا أصور لك مثالا ينكشف به للمعتبر فضل العالم العارف بصفات نفسه على العالم الظاهري المغرور بكثرة روايته: إذا دخل عالم مجلسا وقعد وميز لنفسه مجلسا يجلس فيه كما في نفسه من اعتقاده بمحله وعلمه، فدخل داخل من أبناء جنسه وقعد فوقه، فانقبض العالم وأظلمت عليه الدنيا، ولو أمكنه لبطش بالداخل.
فهذا عارض عرض له، ومرض اعتراه، وهو لا يفطن أن هذه علة غامضة، ومرض يحتاج إلى المداواة، ولا يتفكر في منشإ هذا المرض، ولو علم منشأه لاشتغل بمداواته، وإنما منشأ ذلك عدم ممارسته العلوم الحقيقية، وعدم اطلاعه على معرفة النفس وأحوالها ومراتبها. فإنها أم الفضائل وأصل الحكمة، ومفتاح سائر المعارف - وجهله بأن هذه نفس ثارت وظهرت بجهلها، وتفرعنت لوجود كبرها، وبقايا كفرها، وأنانيتها برؤية نفسها خيرا من غيرها، وتكبرها باظهار ذلك بفعل أو قول.
وأما العالم الصوفي الزاهد فلا يميز نفسه بشيء دون المسلمين، فلا يرى نفسه في مقام يميزها بمجلس مخصوص مميز. ولو قدر أن يبتلى بمثل هذه الواقعة، وينقبض من تقديم غيره عليه وترفعه يرى حال النفس وظهورها، ويرى أن هذا داء يحتاج فيه إلى الدواء، وأنه إن استرسل فيه بالاصغاء إلى النفس، صار ذلك بالرسوخ مرضا مهلكا.
فيرفع في الحال داءه إلى الله، ويشكو إليه ظهور نفسه، ويحسن الانابة بقطع دابر ظهور النفس، ويرفع القلب إلى الله مستغيثا من النفس، ويشغله في طلب دوائها.
وربما أقبل على من قعد فوقه بمزيد التواضع والانكسار تكفيرا لذنبه الموجود، وتداويا لدائه الحاصل.
فينكشف ويتبين بهذا الفرق بين الرجلين، وهذا من أوائل علوم الصوفية ومبادئ أحوالهم. فما ظنك بنفائس علومهم وشرائف أحوالهم.
وفي وصايا لقمان لابنه: " يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا يقصر عالم حتى يقصر يقينه فكان اليقين أفضل من العلم، لأنه أدعى إلى العمل، وما كان أدعى إلى العمل كان أدعى إلى العبودية، وما كان أدعى إلى العبودية كان أدعى إلى القيام بحق الربوبية وإلى كمال الحظ من اليقين.
أقول: قد تبين من كلامه أن العلم هو الأول والآخر، والفاعل والغاية. وذلك لأن العمل يترشح من العلم، والعلم هو ثمرة العمل.
والعلماء الأخرويون أدلاء الأمة، وأعمدة الدين، وسرج ظلمات الجهالات الجبلية، ونقباء ديوان الإسلام، ومعادن أحكام الكتاب والسنة، وأمناء الله في خلقه وأطباء العباد من أمراض الجهالات. فهم
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
[الفرقان:63]. وأما غيرهم من علماء الدنيا، الراغبون إلى المناصب، والترفعات، والرياسات فهم عبدة طاغوت الهوى وأولياء الشيطان.
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" سيكون عليكم أمراء تعرفون، منهم وتنكرون. فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم. ولكن من رضي وتابع أبعده الله ".
وقال سفيان: " في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوار للملوك ".
وقال حذيفة: " إياكم ومواقع الفتن ". قيل: " وما هو؟ " قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه ".
وقد كان علماء التابعين فيهم من هو أقوم بعلم الفتوى والأحكام من بعضهم. وكانوا إذا سئلوا عن فتوى أحالوه إلى غيرهم من الصحابة، وكانوا يردون إليهم في علم الفتاوي والأحكام، فيعلمونهم حقائق اليقين ودقائق المعرفة، لأنهم كانوا أقوم بذلك من التابعين. إذ قد صادقهم طراوة الوحي المنزل، وغمرهم غزير العلم المجمل والمفصل.
روي أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن شيء يقول: " سلوا سعيد ابن المسيب " وكان عبد الله بن عباس يقول: " سلوا جابر بن عبد الله، لو نزل أهل البصرة على فتياه لوسعهم ". وكان أنس بن مالك يقول: " سلوا مولانا الحسن، فإنه قد حفظ ونسيناه ".
وقد ورد في الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن الشيطان ربما يسوفكم بالعلم " قلنا: " يا رسول الله وكيف ذلك؟ " قال: " يقول: أطلب العلم ولا تعمل، حتى تعلم. فلا يزال للعلم قائلا وللعمل مسوفا حتى يموت وما عمل ".
فصل
علماء الكشف وعلومهم
واعلم أن هذه الآفات ونظائرها إنما تعتري علماء اللسان، وأرباب المناظرات والبحوث، وأصحاب المنقولات، وطلاب الفتاوى والحكومات.
وأما علماء العلوم الكشفية والمعارف الإلهية، فعلومهم يؤدي إلى الأحوال، وأحوالهم مستتبع الآداب والأعمال: لأنهم تأدبوا بين يدي الله بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين. فلذلك كان العلم المجبول في قلوبهم منكشفا عليهم، فحصروا نفوسهم عن تقاضي جبلاتها، وقمعوها عن هواها بصريح العلم في كل قول وفعل. ولا يصح إلا لمن لطف سره، وزكا روحه، وسلك به إلى الحضور بين يدي الله.
قال بعض أصحاب المعارف في العوارف: " إن نفوس العلماء الزاهدين بعد الأخذ مما لا بد لهم منه في أصل الدين وأساسه من الشرع، أقبلوا على الله وانقطعوا إليه، وخلصت أرواحهم إلى مقام القرب منه، فأفاضت أرواحهم على قلوبهم أنوارا، تهيأت بها قلوبهم لإدراك العلوم.
فأرواحهم ارتفعت عن حد إدراك العلوم الجزئية بعكوفها على العالم الأزلي، وتجردت عن وجود يصلح أن يكون وعاء للعلم، وقلوبهم بنسبة وجهها الذي يلي النفس صارت أوعية وجودية، فتألفت العلوم. وتالفتها العلوم بمناسبة انفصال العلوم باتصالها باللوح المحفوظ، والمعني بالانفصال انتقاشها في اللوح المحفوظ لا غير. وانفصال القلوب عن مقام الأرواح لوجود انحذابها إلى النفوس، فصار بين المنفصلين نسبة اشتراك موجب للتألف، فحصلت العلوم لذلك. وصار العالم الرباني راسخا في العلم... ".
"... قال ابن مسعود: وليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم الخشية ". وقال: " إن الله لا يعبأ بذي علم ورواية، إنما يعبأ بذي فهم ودراية ".
وقال صاحب العوارف أيضا: " علوم الوراثة مستخرجة من علوم الدراسة ومثال علوم الدراسة كاللبن الخالص السائغ للشاربين، ومثال علوم الوراثة كالزبد المستخرج منه، فلو لم يكن لبن، لم يكن زبد. ولكن الزبد هو الدهنية المطلوبة من اللبن، والمائية في اللبن جسم قائم به روح الدهنية. فالمائية به القوام. قال الله تعالى:
وجعلنا من المآء كل شيء حي
[الأنبياء:30]. و " الشيء " يعم الموجودات كلها. فعلوم الإسلام علوم اللسان، وعلوم الإيمان علوم القلب، وله مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
وقال أيضا بعد ما ذكر جملة من تفاصيل علوم النفس: " وهذا كله علوم من ورائها علوم، عمل بها وظفر بمقتضاها علماء الآخرة. وحرم ذلك علماء الدنيا. الراغبون فيها. وهي علوم ذوقية لا يكاد النظر يصل إليها إلا بذوق ووجدان، كالعلم بكيفية حلاوة السكر لا يحصل بالوصف، فمن ذاقه عرفه.
وينبئك عن شرف علم الصوفية وزهاد العلماء، أن العلوم كلها لا يتعذر تحصيلها مع محبة الدنيا، والإخلال بحقائق التقوى، وربما كان محبة الدنيا عونا على اكتسابها لأن الاشتغال بها شاق على النفوس، فجبلت النفوس على محبة الجاه والرفعة، حتى إذا استشعرت حصول ذلك بحصول العلم أجابت إلى تحمل الكلف، وسهر الليل والصبر على الغربة والأسفار، وتعذر الملاذ والشهوات. وعلوم هؤلاء القوم لا تحصل مع محبة الدنيا، ولا تنكشف إلا بمجانبة الهوى، ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى. قال الله تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله
[البقرة:282]. جعل العلم ميراث التقوى وغير علوم هؤلاء القوم ميسر من غير ذلك بلا شك.
فعلم فضل علماء الآخرة، حيث لم يكشف النقاب إلا لأولي الألباب. وأولوا الألباب حقيقة هم الزاهدون في الدنيا. قال بعض الفقهاء: " إذا أوصى رجل بماله لأعقل الناس يصرف إلى الزهاد، لأنهم أعقل الخلق ".
قال سهل بن عبد الله التستري: " للعقل ألف اسم ولكل اسم منه ألف اسم، وأول كل إسم منه ترك الدنيا ".
ثم ذكر حكاية لطيفة، قال: " حدثنا فلان، عن فلان - وذكر السند إلى أبي عبد الله الخواص، وكان من أصحاب حاتم الأصم - قال: دخلت معه الري، ومعه ثلاثمائة وعشرون رجلا، يريدون الحج، وعليهم لباس الصوف، ليس معهم جراب ولا طعام، فدخلنا الري على رجل من التجار متنسك يحب المتقشفين فأضافنا تلك الليلة، فلما كان من الغد قال لحاتم: يا أبا عبد الرحمن ألك حاجة؟ فإني أريد أن أعود فقيها لنا هو عليل؟ فقال حاتم: إن كان لكم فقيه عليل فعيادة المريض لها فضل، والنظر إلى الفقيه عبادة فأنا أيضا أجيء معك - وكان العليل محمد بن مقاتل، قاضي الري - قال: سر بنا يا أبا عبد الرحمن.
فجاء إلى الباب، فإذا باب مشرف حسن. فبقي حاتم متفكرا يقول: " باب عالم على هذا الحال " ثم أذن لهم فدخلوا. فإذا دار فوراء، وإذا بزة وستور وغلمان. فبقي حاتم متفكرا. ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه، فإذا هو بفرش وطيئة وإذا هو راقد عليها وعند رأسه غلام وبيده مذبة.
فقعد الرازي فسلاه وحاتم قائم، فأومى إليه ابن مقاتل: أن اقعد. فقال: لا أقعد.
فقال له ابن مقاتل: لعل لك حاجة؟ قال: نعم.
قال: وما هي؟ قال: مسألة أسالك عنها.
قال: سلني. قال: فقم واستو جالسا حتى أسألكها.
فأمر غلمانه فأسندوه. فقال له حاتم: علمك هذا من أين جئت به؟
قال: الثقاة حدثوني.
قال: عمن؟ قال: عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال: ورسول الله من أين جاء به؟ قال: عن جبرائيل.
قال حاتم: فيا أداه جبرائيل عن الله إلى رسول الله، وأداه رسول الله إلى أصحابه، وأداه أصحابه إلى الثقات وأداه الثقات إليك، هل سمعت في العلم من كان في داره أمير أو منعته أكثر، كانت له المنزلة عند الله أكثر؟ قال: لا.
قال: فكيف سمعت؟ قال: من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكن، وقدم لآخرته كان له عند الله المنزلة أكثر.
قال حاتم: فأنت بمن اقتديت؟ بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، أم بفرعون ونمرود أول من بنى بالجص والآجر؟! يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل، الطالب للدنيا، والراغب فيها، فيقول: العالم إذا كان على هذا الحال لا أكون أنا شرا منه.
وخرج من عنده. فازداد ابن مقاتل مرضا. فبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل. فقالوا له: أبا عبد الرحمن: " بقزوين عالم أكبر شأنا من هذا " وأشاروا به إلا الطنافسي.
قال: فسار إليه متعمدا، فدخل عليه، فقال: رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني أول مبتدأ ديني، ومفتاح صلاتي، كيف أتوضأ للصلاة؟
قال: نعم - وكرامة - يا غلام هات إناء فيه ماء فأتى به فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: هكذا فتوضأ فقعد فتوضأ حاتم ثلاثا ثلاثا، حتى إذا بلغ غسل الذراعين غسل أربعا. فقال له الطنافسي: " يا هذا أسرفت ".
فقال له حاتم: " فيماذا أسرفت؟ " قال: غسلت ذراعيك أربعا ".
قال حاتم: " يا سبحان الله أنا في كف ماء أسرفت . وأنت في هذا الجمع كله لم تسرف؟! " فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك، ولم يرد منه التعلم، فدخل البيت، ولم يخرج إلى الناس أربعين يوما وكتب تجار الري وقزوين ما جرى بينهما.
فلما دخل بغداد. اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل ألكن أعجمي ليس يكلمك أحد إلا قطعته.
قال: معي ثلاث خصال، بهن أظهر على خصمي.
قالوا: أي شيء هي؟ قال: " أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه ".
فبلغ ذلك أحمد بن حنبل، فجاء إليه فقال: " سبحان الله ما أعقله ". فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا؟ ".
قال حاتم: يا أبا عبد الرحمن لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال: أن تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك عنهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيسا. فإذا كان هذا سلمت. ثم سار إلى المدينة.
قال الله تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28]. ذكر بكلمة " إنما " فتنفي العلم عمن لا يخشى الله، فلاح لعلماء الآخرة أن الطريق مسدود إلى أنصبة المعارف، ومقامات القرب إلا بالزهد والتقوى.
.. فبصفاء التقوى وكمال الزهد يصير العبد راسخا في العلم.
قال الواسطي: الراسخون في العلم هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب، وسر السر. فعرفهم ما عرفهم، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات فانكشف لهم من مدخور الخزائن... فنطقوا بالحكم "...
... وقال الخزاز: " هم الذين كملوا في جميع العلوم، وعرفوها، واطلعوا على همم الخلائق أجمعين ". وهذا القول من أبي سعيد لا يعني به أن الراسخ في العلم ينبغي أن يقف على جزئيات العلوم ويكمل فيها... بل المراد إن المتقي حق التقوى والخشية من الله، صفا باطنه وانجلى مرآة قلبه، ووقعت له محاذاة بشيء من اللوح المحفوظ. فادرك بصفاء الباطن أمهات العلوم وأصولها، فيعلم منتهى همم العلماء في علومهم وغاية أقدامهم فيها... والعلوم الجزئية متجزية في النفوس بالتعلم والممارسة، فلا يغنيه علمه الكلي من أن يراجع في الجزئي أهله ، الذين هم أوعيته، فنفوس هؤلاء امتلأت من الجزئي واشتغلت به، وانقطعت بالجزئي عن الكلي. والعالم الرباني بخلاف ذلك كما سبق ذكره وكل ميسر لما خلق له.
قيل للشبلي - رحمه الله - عند النزع: " قل: لا إله إلا الله ". فقال:
إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
[2.45]
" الصبر " في اللغة منع النفس محابها وكفها عن هواها، ولا بد للصبر من قوة في الإنسان بها يصبر عن الملذات، ويصبر على المعاصي؛ لأن لكل فعل وأثر مبدأ لا محالة، ومبدأ الأفعال والانفعالات يسمى عند أهل الحكمة " قوة ". ففي الإنسان قوة تسمى بالصبر، تسمية للشيء باسم سببه، كما أن له قوة تسمى بالشهوة، وهاتان متقابلتان تقابل التضاد وسيأتي تحقيق التضاد بينهما.
قال سهل بن عبد الله: الصبر انتظار الفرج من الله، وهو أفضل الخدمة وأعلاها.
وقال بعضهم: الصبر أن تصبر على الصبر بأن لا تطالع فيه الفرج.
ومن أقسامه الصبر على المعصية، بكف الصابر نفسه عن الجزع، ويقال: " فلان قتل صبرا " وهو أن ينصب للقتل ويحبس عليه حتى يقتل.
وفي الحديث:
" أقتلوا القاتل، واصبروا الصابر "
وذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر، فأمر بقتل القاتل وحبس الممسك.
والخشوع، والخضوع، والاخبات، نظائر. وضد الخشوع: الاستكبار، و " خشع الرجل " إذا رمى ببصره إلى الأرض. و " اختشع " إذا طأطأ رأسه كالمتواضع وهو قريب المعنى بالخضوع إلا أن الخضوع في البدن والأعضاء، والخشوع في الصوت والبصر. قال سبحانه
خاشعة أبصارهم
[القلم:43] و
خشعت الأصوات للرحمن
[طه:108]. أي: سكنت.
واختلف في من نزلت الآية؟ فقوم قالوا: المخاطبون هم المؤمنون، إذ لا صلاة لغيرهم ولا صبر يتصور لهم على أمور وعن أمور لم يعرفوا أحكامها عن دين محمد (صلى الله عليه وآله).
وهذا ضعيف، لتعبد غيرهم بصلاة وصبر في الجملة، وإن لم يتعبدوا بهما على هذه الكيفية، لأن كل أحد يعلم بعقله الذي هو حجة الله عليه أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن، وأن الصلاة التي هو التواضع، والتذلل للمعبود الأول، والاشتغال بذكره، وعرفانه، تريح القلب عن محن الدنيا وآفاتها.
وقوم قالوا: هم اليهود، وتتناول المسلمين على وجه التأديب.
والأولى أن تكون خطابات القرآن غير مختصة بقوم دون قوم، لتكون قوانينه كلية عقلية - كما مر -.
فمن خصص الخطاب باليهود قال: إن حب الرياسة والترفعات التي تكون لعلماء الدنيا، الراغبين في المناصب - كالقضاء، والحكومة، والإمامة، والشيخوخة، والوعظ، والحسبة، وغيرها - كانت تمنعهم عن اتباع النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنهم خافوا زوال الرئاسة إذا اتبعوه، فأمرهم الله تعالى بالاستعانة فقال: { واستعينوا } على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه في طاعتي، واتباع أمري، وترك ما نهيتكم عنه، والتسليم لأمري، واتباع رسولي محمد (صلى الله عليه وآله) { بالصبر } على ما أنتم فيه من ضيق المعاش، وفوت الجاه الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه.
والمروي عن أئمتنا (عليهم السلام) ان المراد بالصوم الصبر.
وجاء في الحديث:
" وهو شهر الصبر "
لشهر رمضان، لأن الصائم يصبر نفسه ويكفها عما يفسد الصيام، فيكون فائدة الاستعانة به أن يذهب بالشره وهوى النفس، فإن سد آفة الشهوة بالجوع يوجب سد سائر الآفات، كآفة الغضب، والتكبر، وحب الجاه، وغيرها، إذ الجميع مما يتقوى بقوة البدن من الطعام والشراب.
ولذلك ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" الصوم وجاء "
وقال:
" سدوا مجاري الشيطان بالجوع "
إذ الشيطان مركبه الدم، كما ورد في قوله (صلى الله عليه وآله):
" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم "
ولا شك في أن تقليل الغذاء يوجب تقليل الكيموس الصالح للدم، وبقلة الدم يضعف جنود الشيطان، كالشهوة، والغضب، والتكبر، والرياسة، وسائر المهلكات.
وفائدة الاستعانة بالصلاة، أن هذه الآفات كلها، منشؤها الاحتجاب عن عالم النور وما عند الله من الخير والسعادة، بالانكباب إلى عالم الظلمة والزور، وعند الاشتغال بالصلاة يتلى فيها ما يذكر العهد القديم، ويرغب إلى ما عند الله، ويزهد في الدنيا، وحب الرياسة. قال سبحانه:
إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت:45].
ولأنها تتضمن التواضع والتذلل لله بوضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على الأرض، فيدفع حب الجاه والرئاسة عن القلب ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا حزبه أمر من أمور الدنيا يستعين بالصوم والصلاة، ويقول:
" أرحنا يا بلال ".
ومن قال: " إن الخطاب بها للمسلمين " قال: المراد به { استعينوا } على تحصيل الآخرة، وما تنجز وعده للمؤمنين من الدرجات العالية، والمقامات الرفيعة، أو على مشقة التكاليف الدينية { بالصبر } أي بحبس النفس على الطاعات، وحبسها عن المعاصي والشهوات وب { الصلاة } لما فيهما من مجامع العبادات القلبية، والبدنية، من الطهارة البدنية عن الأخباث والأرواث، والطهارة النفسانية عن نجاسة العقائد الفاسدة، كالكفر وقصد الرياء، وستر البدن بالثوب الساتر للسوئتين، وكف النفس عن الأطيبين، وصرف المال في الطهور والساتر، والتوجه بالبدن إلى بيت الله، وبالقلب إلى وجه الله، والعكوف للعبادة باخلاص النية، وخشوع الجوارح، واتعابها، وتسخير القوى واستعمالها في سبيل الطاعة، ومجاهدة جنود الشيطان، وأبناء الظلمات في التقرب إلى نور الأنوار، ومناجاة الحق بخطابه وقراءة كتابه، والتدبر في آياته، وذكر مصير الخلق إليه ورجوعهم إلى دار ثوابه أو دار عقابه، والاقرار بتوحيده، وحقية رسوله بالشهادتين والصلاة عليه وآله. فليس في العبادات شيء أفضل من الصلاة لكونها أجمع الحسنات والقربات.
وقال بعضهم: ليس في أفعال القلوب أعظم من الصبر، ولا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة، فالأمر بالاستعانة بهما.
وروي عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ، ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيهما.
أما سمعتم قوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة } وقوله: { وإنها لكبيرة }.
قيل في إعادة هذا الضمير وجوه:
أحدها - وهو قول الأكثرين -: إنه عائد إلى الصلاة لأنها الأقرب، ولعموم جدواها، وشمول فرضها واستجماعها ضروبا من الصبر، وتأكيد حالها، وتفخيم شأنها.
وثانيها: إنه عائد إليها ظاهرا. والمراد به الاثنان وإن كان الضمير واحدا، ويشهد لذلك قوله تعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
[التوبة:34]. وقوله:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها
[الجمعة:11]. وقوله:
والله ورسوله أحق أن يرضوه
[التوبة:62]. وكقول القائل: " أنت بما عندك وأنا بما عندي راض ".
وثالثها: إنه عائد إلى الاستعانة التي يدل عليها قوله { واستعينوا }.
ورابعها: إنه عائد إلى جميع الأمور التي سبق ذكرها مما أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله:
اذكروا نعمتي التي
[البقرة:40] إلى قوله: { واستعينوا }.
وخامسها: أن يكون عائدا إلى محذوف، وهو الاجابة للنبي (صلى الله عليه وآله) - عن الأصم - أو مؤاخذة النفس بهما، أو تأدية ما تقدم، أو تأدية الصلاة، أو ضروب الصبر عن المعاصي. وهذه الوجوه الأخيرة ضعيفة، لأنه لم يسبق لها ذكر.
وربما قيل: إن العربي قد يضمر الشيء اختصارا، ويقتصر فيه على الايماء إذا وثق بعلم المخاطب به، كما في قوله تعالى:
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة
[فاطر:45]. ولا ذكر للأرض. وكقول القائل: " ما عليها أفضل من فلان " يعني الأرض. أو كقوله: " ما بين ساكنيها أعلم من فلان " يعني المدينة.
فصل
في الكشف عن ماهية الصبر محاذيا لما ذكره بعض المحققين
اعلم أن الصبر منزل من منازل السالكين، ومقام من مقامات الدين، وجميع مقامات الصالحين إنما ينتظم من ثلاثة أمور: معارف، وأحوال، وأعمال. فإن القلب الإنساني بمنزلة مرآة بالقوة. فالأعمال بمنزلة تصقيلها وتنقيتها عن الريون، والأخباث، والطبائع، والكدورات، والأحوال بمنزلة صفائها ونقائها ومواجهتها للمطلوب، والمعارف عبارة عن حضور صور الحق المطلوب فيها. فالأعمال تراد للأحوال، والأحوال تراد للمعارف - هذا نظر المحققين -.
وأما المحجوبين: فزعموا عكس ما ذكرناه، وهو أن تحصيل العلوم للأحوال، وثمرة الأحوال الأعمال: لما سمعوا أن العلم بدون العمل وبال، وما ورد في الخبر:
" نعوذ بالله من علم لا ينفع "
وأمثال ذلك. ولم يعلموا أن المراد منه علوم الأعمال - لا علوم المكاشفات الحاصلة من الأحوال - ولم يتدبروا في قوله تعالى:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر:99]. وقوله (صلى الله عليه وآله):
" رب زدني علما "
وقوله:
" نعوذ بك من أن أقول في العلم بغير علم، وأن أعمل في الدين بغير يقين "
وقوله (عليه السلام):
" قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك ".
نعم المعارف هي الأصول، وهي تورث الأحوال.
والأحوال توجب الأعمال. فالمعارف كالأشجار بقواها الأصلية، كالغاذية، والمنمية. والأحوال كالأغصان والألوان. والأعمال كالنتائج والأثمار.
وهكذا النظر في جميع مقامات الدين، ومنازل السالكين، واسم الإيمان تارة يخص بالمعارف، وتارة يطلق على الكل لاستلزامها الأحوال والأعمال.
فكذلك الصبر. فإنه لا يتم إلا بمعرفة سابقة، وبحالة قائمة، وبعمل لاحق. والصبر على التحقيق عبارة عن الأوليين، والعمل كالنتيجة الحاصلة لهما، بل الانتظام من الأمور الثلاثة حاصل في كل مقام من المقامات الحيوانية أيضا - كالشهوة، والغضب والتكبر، والرياسة، والعجب - وغيرها.
فإن في الشهوة - مثلا - علم بالمشتهى كالتخيل ونحوه - هذا بمنزلة المعارف - وفيها رغبة وميل إليه - وهذا من باب الأحوال - وفيها أيضا حركة كالأكل والجماع - وهي من جملة الأعمال - واللائق باسم الشهوة هما الأولان، والحركة من النتائج لهما.
وقد مرت الاشارة إلى مثل هذا في الشكر، من أن العلم بالمنعم وانعامه هو أصل الشكر. وأن من علم أنه يعجز عن الاتيان بشكر نعم الله فقد أدى غاية الشكر لله. فأصل الصبر معرفة ما لأجله الصبر على الشدائد، ثم توطين النفس على ذلك، ثم حبسها على الآلام وعن الشهوات. قال تعالى مخاطبا لنبيه:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل:127].
وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أمر الله تبارك وتعالى أنبياءه (عليهم السلام) بالصبر، وجعل الحظ الأعلى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث جعل صبره بالله - لا بنفسه - فقال: { وما صبرك إلا بالله }.
وما ذكرنا من الترتيب في باب معاني الصبر - أي: علمه وحاله وعمله - لا يعرفه إلا من عرف الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم، فان الصبر من خاصية الإنس، ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة. أما في البهائم فلنقصانها. وأما في الملائكة فلكمالها.
فالملائكة مخلوقة من عقل بلا شهوة. والبهائم مخلوقة من شهوة بلا عقل. والإنسان بين شهوة وعقل. وقد خلقه الله ذا أطوار، كما قال تعالى:
وقد خلقكم أطوارا
[نوح:14]. ولم يقل: " ذوي أطوار " ليدل على أن انتقال الإنسان في أطواره الذاتية انتقال جوهري، وحركة ذاتية معنوية بنفسه في نفسه. وبيانه يفتقر إلى كلام طويل وخوض عميق في التحقيق لا يناسب هذا المقام.
وبالجملة فقد أعطاه الله قوة له أن ينتقل بها من حد البهيمة إلى حد الملك ويسمى باعثا دينيا.
وبيانه: إن البهائم سلطت عليها الشهوات - كما ذكر - وصارت مسخرة لها، فلا باعث لها على الحركة والسكون، إلا الشهوة الداعية لها إلى المشتهيات، وليس لها قوة أخرى تصادم قوة الشهوة وتسخرها وتردها عن مقتضاها، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى تلك الشهوة " صبرا ".
وأما الملائكة، فإنهم جردوا للمعرفة والشوق إلى الحضرة الربوبية، والابتهاج بدرجة القرب منها، ولم يسلط عليها شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف.
وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الحداثة والصبا ناقصا مثل البهيمة، لم يخلق فيها إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليها في حيوانيته وحياته الدنيا، ثم تحدث فيه شهوة اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح على الترتيب؛ ثم شهوة التفاخر والتكاثر. قال تعالى:
أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد
[الحديد:20].
وليس له في الابتداء قوة الصبر البتة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر، قام القتال بينهما لتصادم مقتضياتهما ومطالبهما، وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم، ولكن الله بفضله، وسعة جوده كرم ابن آدم، وفضله على كثير ممن خلقه، ورفع درجته عن درجة البهائم.
فوكل عند تمام شخصه لمقارنة البلوغ ملكين: أحدهما يهديه، والآخر يقويه، فتميز بمعونة الملكين عن البهائم. واختص بصفتين.
إحداهما معرفة الله ومعرفة رسوله، ومعرفة اليوم الآخر، ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب، والنجاة عن العذاب في الدار الآخرة - وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف - والبهيمة لا معرفة لها ولا هداية لها إلى معرفة العواقب، بل إلى مقتضى شهوتها في الحال فقط، فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ، وأما الدواء النافع مع كونه كريها مضرا في الحال، فلا تعرفه ولا تطلبه، فصار الإنسان يعرف بنور الهداية أن اتباع الشهوات لها معقبات مكروهة في العاقبة.
ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر، وحبس الشهوة عنها. فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلا، ولكن لا قدرة له على دفعه، فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه، فوكل الله به ملكا آخر يسدده ويقويه بجنود لم تروها، وأمر هذا الجند بقتال جنود الشهوة، فتارة يضعف هذا الجند، وتارة يقوى ذلك بحسب امداد الله عبده. كما أن نور الهداية أيضا يختلف في الخلق اختلافا لا يحصر.
فلنسم هذه الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم باعثا دينيا. ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضاها باعث الهوى وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى، والحرب بينهما سجال، ومعركة هذا القتال قلب العبد، ومدد باعث الدين من الملائكة، الناصرين لحزب الله تعالى. ومدد باعث الهوى من الشياطين الناصرين لأعداء الله.
فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة، فإن ثبت حتى قهره واستمر على مخالفة الشهوة، فقد نصر حزب الله والتحق بالملائكة. وإن تخاذل وضعف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها التحق بأتباع الشياطين، فإن ترك الأعمال المشتهاة عمل يثمرها حال يسمى الصبر.
وهو ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى، وذلك الثبات حال يثمرها المعرفة بالله واليوم الآخر بعداوة الشهوات ومضادتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة.
فإذا قوي يقينه - أعني المعرفة التي تسمى إيمانا - وعلم بكون الشهوة عدوا قاطعا لطريق الله قوي ثبات باعث الدين. وإذا قوي ثباته تمت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة فلا يتم ترك الشهوة إلا بقوة باعث الدين، المضاد لباعث الشهوة وقوة المعرفة، والإيمان بقبح تبعة الشهوات وسوء عاقبتها.
وهذان الملكان هما المتكفلان بهذين الجندين بإذن الله تعالى وتسخيره إياهما، وهما من الكرام الكاتبين، وبهما الاستعانة في العلم والعمل، والصوم والصلاة. أحدهما ملك الصوم، لأن بقوته تكف النفس عن الشهوات المفطرات، والآخر ملك الصلاة، لأن بهدايته تعرف كيفية الصلاة.
ولذا قال تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة } وقال: { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون } تنبيها على أن الأصل في الصبرر والصلاة خشوع القلب، ويقينه بالآخرة، وبالخشوع لله، والرغبة إليه، وإلى دار كرامته وجنته، والخوف منه ومن عذابه في دار نقمته وسجنه، يصبر الإنسان عن الشهوات، ويقهر عليها، وبنور معرفته، وعلمه بلقاء ربه ورجوع الكل إليه يهتدي إلى محاربة الأعداء، وقهر الشياطين لينخرط في سلك المقربين.
وإذا عرفت أن رتبة الملك الهادي أعلى من رتبة الملك المقوي، وان الصلاة أشرف من الصوم، ولهذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلاة:
" إنها معراج المؤمن "
وفي الصوم:
" إنه جنة من النار "
وقال النبي (صلى الله عليه وآله):
" قرة عيني في الصلاة "
وقال:
" الصوم وجاء "
لم يخف عليك أن جانب اليمين الذي هو أشرف الجانبين من جنبتي الدست ينبغي أن يكون مسلما له، فهو إذن صاحب اليمين، والآخر صاحب الشمال. وعند القيامة يتلاقيان كما في قوله تعالى:
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد
[ق:17].
ثم للعبد طوران في الغفلة والفكر، وفي الاسترسال والمجاهدة. فهو بالغفلة معرض عن صاحب اليمين ومسيء إليه، فيكتب عليه اعراضه سيئة، وبالفكر مقبل عليه ليستفيد منه الهداية، فهو به محسن، فيكتب له حسنة. وكذا بالاسترسال معرض عن صاحب اليسار، تارك للاستمداد منه، فهو به مسيء إليه، فيكتب عليه سيئة، وبالمجاهدة مستمد من جنوده فيكتب له به حسنة.
وإنما تثبت هذه الحسنات والسيئات باثباتهما، ولهذا سميا " كرام الكاتبين ". أما الكرام فلكرامتهما وانتفاع العبد بكرمهما وبرهما - والملائكة كلهم كرام بررة - وأما الكاتبين فلإثباتهما الحسنات والسيئات.
وإنما يكتبان في صحائف مطوية في سر القلب، ومطوية أيضا عن سر القلب، حتى لا يطلع عليه في هذا العالم، لانغماره في البدن انغمار صحيفة مكتوبة في تراب الأرض، واستتارها تحته عن الأبصار ما لم يبرز عنه، وكذلك صحيفة القلب ينشر يوم القيامة من غبار البدن على البصائر يوم كشف السرائر.
فالملكان، وكتبهما، وخطهما، وصحائفهما، وجملة ما يتعلق بهما من عالم الغيب والملكوت - لا من عالم الشهادة - وشيء من الملكوت لا تدركه الأبصار في هذا العالم، ثم تنشر الصحائف عن القلب مرتين: مرة في القيامة الصغرى، ومرة في القيامة الكبرى.
وأعني بالقيامة الصغرى حال الموت، إذ قال (صلى الله عليه وآله):
" من مات فقد قامت قيامته "
وفي هذه القيامة يكون العبد وحده. وعندها يقال:
لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة
[الأنعام:94]. وفيها يقال:
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء:14].
أما في القيامة الكبرى - الجامعة لكافة الخلق - لا يكون وحده، بل ربما يحاسب على ملإ من الخلق ورؤوس من الأشهاد. وفيها يساق المتقون إلى الجنة، والمجرمون إلى النار زمرا - لا آحادا - وأهوالها أعظم. وسيأتيك بيانها إن شاء الله تعالى.
فصل
في تتمة القول في الصبر وأقسامه
اعلم أن الصبر دواء مر، وشربة كريهة، يجلب إليك كل منفعة، ويدفع عنك كل مضرة. فإذا كان هذا الدواء بهذه الصفة، فالإنسان العاقل يكره النفس على شربه وتجرعه، ويصبر على مرارته وحدته، وهو يقول: " مرارة ساعة، وراحة سنة ".
وقيل: " لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر ".
والصبر جار في الصابر مجرى الأنفاس، لأنه يحتاج إلى الصبر عن كل منهي، ومكروه، ومذموم ظاهرا وباطنا. ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
وقيل: " أشد مراتب الصبر وأقسامه كف الباطن عن حديث النفس " وإنما يشتد ذلك على من يفرغ له، بأن يقمع الشهوات الظاهرة، وآثر العزلة، وجلس للمراقبة، والذكر، والفكر. فإن الوسواس لا يزال يجاذبه من جانب إلى جانب. وهذا لا علاج له إلا قطع العلائق بالكلية بالفرار عن الأهل، والأولاد، والرفقاء، والأصدقاء.
ولا يكفي ذلك أيضا ما لم يجعل الهموم هما واحدا - وهو الله - ثم إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ما لم يكن له مجال في الفكر، وسير بالباطن في ملكوت السماوات، والأرض، وعجائب صنع الله، وسائر أبواب معرفة الله، حتى إذا استولى ذلك على قلبه دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه.
وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة، والصلوات، والأذكار الظاهرة المترتبة في كل لحظة، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، فإن التفكر الباطني، ومناجاة السر مع الله هو الذي يستغرق القلب في الشهود، دون الأوراد الظاهرة.
ولذلك قال: { واستعينوا بالصبر والصلاة } أي: استعينوا في طلب السعادة الحقيقية بالانقطاع عن الخلق، وعن الدواعي الدنيوية والعلائق كلها، وبالمناجاة بالسر مع الله، وهي روح الصلاة، كما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" المصلي مناج ربه ".
فبالانقطاع عن العلائق كلها يسلم له الوقت، ويقع له الفرصة فيصفو القلب وينتشر الفكر، وتحصل له المناجاة بالمكالمة الحقيقية مع الله، وحينئذ ينكشف له من أسرار الله، وخفايا نوره. وحكمته في ملكوت السماوات والأرض ما لا يقدر على شيء منه في زمان طويل، لو كان مشغول القلب بالعلائق، والانتهاء إلى هذا المقام غاية ما يمكن تحصيله بالاكتساب، وأن ينال بالجهد.
فأما مقادير ما ينكشف، ومبالغ ما يرد من لطف الله في الأحوال والأعمال، فذلك يجري مجرى الصيد. وهو بحسب الرزق، والمعول فيه على جذبة من جذبات الحق - فإنها توازي عمل الثقلين - ولا مدخل للعمل والاختيار.
نعم للاختيار مدخل في أن يتعرض العبد لتلك الجذبة، بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا، فإن المجذوب إلى أسفل السافلين، لا ينجذب إلى أعلى عليين. وكل منهوم بالدنيا فهو منجذب إليها. فقطع العلائق الجاذبة عن القلب هو المراد بقوله (صلى الله عليه وآله):
" إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها ".
وهو التهيئة لها، وتنقية أرض القلب عن حشايش التعلقات، وبث بذر المعرفة والإيمان فيها، انتظارا لرحمة الله، وتعرضا لمهاب رياح الجود والكرم في الأوقات الشريفة، ومظان الاجابة، واستدرارا لأمطار المكاشفات، ولطائف مياه المعارف من خزائن الملكوت عند اجتماع الهمم، وتساعد القلوب كما في يوم عرفة، ويوم الجمعة، وأيام رمضان.
كما ينتظر الزارع الذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش، ويبث البذر فيها. إذ كل ذلك لا ينفعه إلا بمطر، ولا يدري متى يقدر الله أسباب المطر، إلا أنه يثق بفضل الله وتحريكه أسباب السماوات للرزق بأمره على من يشاء، إذ قال:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون
[الذاريات:22].
فهذا هو علاج الصبر على الوساوس والشواغل، وهو آخر درجات الصبر، وإن الصبر عن العلائق كلها مقدم على الصبر عن الخواطر، وأشد العلائق على النفس علقة رياسة الخلق وحب الجاه فإن لذة الرياسة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء.
قال الغزالي: " وكيف لا يكون أعلى اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية والربوبية مطلوبة ومحبوبة بالطبع للقلب، لما فيه من المناسبة للأمور الربوبية، وعنه العبارة بقوله تعالى:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85]. وليس القلب مذموما على حبه ذلك، وإنما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد عن عالم الأمر، إذ حسده على كونه من عالم الأمر، فأضله وأغواه.
وكيف يكون مذموما عليه، وهو يطلب سعادة الآخرة، وليس يطلب إلا بقاء لا فناء فيه، وعزا لا ذل فيه، وأمنا لا خوف فيه، وغناء لا فقر فيه، وكمالا لا نقصان فيه.
وهذا كلها من أوصاف الربوبية.
وليس العبد مذموما على طلب ذلك... ولكنه آجل، وقد خلق الإنسان عجولا راغبا في العاجلة. فجاء الشيطان وتوسل إليه بواسطة العجلة التي في طبعه، فاستغواه بالعاجلة، وزين له الحاضرة، وتوسل إليه بواسطة الحمق، فوعده بالغرور في الآخرة، ومناه مع ملك الدنيا ملك الآخرة، كما قال (صلى الله عليه وآله):
" والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله "
فانخدع المخذول بهذا الغرور، واشتغل بطلب عز الدنيا، كما قال تعالى:
كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة
[القيامة:20 - 21]. فالمؤمن باليوم الآخر يصبر عن اللذة العاجلة.
قال الجنيد: " المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الحق شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد. والصبر مع الله أشد ".
فذكر شدة الصبر عن شواغل القلب، ثم شدة هجران الخلق، لأن المراد به ترك خاطر الجاه والرياسة على الخلق. فأشار إلى أن الصبر عنه أشد من الصبر من شواغل الدنيا، ثم شدة الصبر مع الله، لأن غلبة نوره يدهش الروح، ويذيب القلب، كما تفعل نور الشمس بالأبصار الضعيفة وحرارتها بالجمد.
قيل: وقف رجل على الشبلي، فقال: أي الصبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله تعالى. فقال: لا. فقال: الصبر لله. فقال: لا. فقال: الصبر مع الله. فقال: لا. فغضب الشبلي، فقال: ويحك أي شيء هو؟ فقال الرجل: الصبر عن الله. فصرخ الشبلي صرخة كاد أن يتلف روحه.
قال صاحب العوارف: " وعندي في معنى الصبر عن الله وجه، ولكونه من أشد الصبر على الصابرين وجه: وذلك أن الصبر عن الله يكون في أخص مقامات القرب والمشاهدة، يرجع العبد عن مولاه استحياء واجلالا، وتنطبق بصيرته خجلا وذوبانا، ويتغيب في مفاوز استكانته، وتخفيه لاحساسه بعظيم أمر التجلي.
وهذا من أشد الصبر، لأنه يود استدامة هذا الحال تأدية لحق الجلال، والروح تود استدامة هذا الحال باستلماع نور الجمال، وكما أن النفس منازعة في عموم حال الصبر، فالروح في هذا الصبر منازعة، فاشتد الصبر عن الله تعالى لذلك.
وقال أبو الحسن بن سالم: " هم ثلاثة: متصبر، وصابر، وصبار. فالمتصبر من صبر في الله. فمرة يصبر، ومرة يجزع. والصابر من صبر في الله لله ولا يجزع، ولكن يتوقع منه الشكوى، وقد يمكن من الجزع. وأما الصبار فذلك الذي صبره في الله، وبالله. فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يعجز ولا يتغير من جهة الوجود والحقيقة لا من جهة الرسم والخلقة " واشارته في هذا إلى ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة.
فصل
قوله تعالى: { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين }
الفناء في الله بالصبر عن النفس وهواها وجاهها ومآلها. والبقاء بالله بالصلاة والمناجاة معه صعب شديد إلا مع خشوع القلب، وانكساره، وافتقاره، وعبوديته لتصحيح نسبة الامكان، وهو قصارى مجهود العابدين، فإن كل سالك طبيعي أو ارادي لو نظرت إليه لوجدت أن بناء انتقاله من حالة إلى حالة أخرى، وانقلابه من صورة إلى صورة أشرف وأقوى هو ضعف نشأته الأولى، وزوال رسوخه، وشدة فعليته، وحصول حالة امكانية استعدادية شبيهة بالعدم.
فالعناصر مثلا ما لم تنكسر منها شدة كيفياتها، وتأكد صورها النوعية، حتى صار كل منها كأنه متوسطة بين أن تكون، وبين أن لا تكون، فلم تقبل صورة أخرى أشرف من صورها - وهي صورة الجمادية -.
ثم من الجماديات ما هو أقوى صورة، فأبعد من أن ينقلب نباتا، كاليواقيت والفلزات، وما ينقلب منها نباتا فهو كالبذور وغيرها، التي يستولي عليها الوهن والقصور في صورتها الجمادية، ويكاد أن يضمحل ويستحيل في مكانها عائدة إلى الفساد لولا عناية الله لها بالامداد، ونقلها إلى صورة النبات من حدود الجماد.
وكذا الحال في النطف الصائرة حيوانا وإنسانا، كل ذلك لأجل امكاناتها التي هي كصورة الخشوع والخضوع لما فوقها، ولما يقهرها ويسخرها، فحركاتها إلى الله، وتوجهها نحوه تعالى بالاضطرار، والافتقار إلى الواحد القهار.
فكذلك الحكم في أفراد الإنسان، فكل من خشع قلبه وخضع لله بالمحبة والانقياد، وجاوز عن حد نفسه وهواه طلبا لمولاه، انفتح عليه أبواب الرحمة، وفاض عليه أنوار الإلهية، ووصل إليه خلع الكرامة، وكل من وقف في مقام نفسه وأنانيته وطلب هواه، فهو مطرود عن باب الله، محجوب عن لقائه بيد سدنة النيران وحجاب القهرمان.
فمن خشع قلبه لله سهل عليه ترك هوى النفس، والصبر عن الدنيا وما فيها بالصوم عنها. كما قيل: " صم عن الدنيا واجعل فطرك الموت " وبالقدوم على الله بالصلاة التي روحها عرفان الحق، والتعبد له ظاهرا وباطنا.
وملاك الأمر كله معرفة الله، ومعرفة النفس، وحشرها إليه تعالى، والتصديق بلقاء الله، ولذلك وصف الخاشعين بقوله عز اسمه: { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون }.
[2.46]
أي يتوقعون لقاء الله ونيل ما عنده، ويتيقنون أنهم يحشرون إلى الله. فالظن هاهنا بمعنى العلم، كما في قوله تعالى:
إني ظننت أني ملاق حسابيه
[الحاقة:20]. ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود " يعلمون " وأن الظن هو الاعتقاد الراجح الذي يقارنه تجويز النقيض، وذلك يقتضي أن صاحبه غير جازم بيوم القيامة، وذلك كفر فكيف يمدح الله لهم عليه.
وعلاقة التجوز أنه شابه العلم في الرجحان، ولتضمين معنى التوقع.
ومن حمل اللفظ على ظاهره، وجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت، فإما أن يقول: المراد " الذين يظنون الموت في كل لحظة فإنهم لا يفارق قلوبهم الخشوع فهم يتبادرون إلى التوبة، لأن خوف الموت من دواعي التوبة ". وإما أن يفسر " ملاقاة الرب " بملاقاة ثوابه، وذلك مظنون غير معلوم، أو يقول: إن المعنى: " يظنون أنهم ملاقوا بذنوبهم " فإن الإنسان الخاشع لا وقع لطاعاته عنده، فيغلب على ظنه أنه يلقى الله بذنوبه، فعند ذلك يتسارع إلى التوبة، والانابة، والصبر، والصلاة.
وهاهنا وجه آخر، وهو أن العلم بكيفية المعاد، وبأن أفراد الإنسان وغيرهم ملاقون ربهم يرجعون إليه بالحقيقة علم شريف، غامض، لا يحصل لأحد على وجه اليقين إلا للكمل من العرفاء، وليس لعامة أهل الإيمان إلا مرتبة الظن به على سبيل التخيل، والتسليم.
ولأجل غموضه، وعلو سمكه عن مدارك العقول، كرر ذكره في القرآن، وكثر المنكرون له في كل زمان، حتى أنك ترى كثيرا من العقلاء القائلين بوجود الصانع للعالم وتوحيده، منكرين للمعاد، وحشر الخلائق إليه تعالى، فالظن به حاصل لكل مؤمن خاشع لله، وذلك الظن كاف في أن يبعث له على الصبر، والصلاة، وسائر العبادات.
وأما مرتبة علم اليقين بلقاء الله، والرجوع إليه، فهي ثمرة العبادات، وغاية الصبر، والصلاة.
فصل
كلام في رؤيته تعالى
قال الإمام الرازي في تفسيره: استدل بعض الأصحاب بقوله تعالى: { ملاقو ربهم } على جواز رؤية الله.
وقالت المعتزلة: لفظ " اللقاء " لا يفيد الرؤية. والدليل عليه الآية والخبر والعرف:
أما الآية فقوله تعالى:
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه
[التوبة:77]. والمنافق لا يرى ربه. وقوله:
ومن يفعل ذلك يلق أثاما
[الفرقان:68]. وقال تعالى في معرض التهديد
واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه
[البقرة:223]. فهذا يتناول المؤمن والكافر. والرؤية لا تثبت للكافر. فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة من الرؤية.
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وآله:
" من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان "
وليس المراد " رأى الله " لأن ذلك وصف أهل النار.
وأما العرف فهو كقول المسلمين " من مات لقى الله " ولا يقولون: " رأى الله " وأيضا: فاللقاء يراد به القرب ممن يلقى على وجه يزول الحجاب بينهما، ولذلك يقول إذا حجب عن الأمير: " ما لقيته بعد ذلك " وإن كان قد رآه، وإذا أذن له في الدخول عليه يقول: " لقيته " وإن كان ضريرا.
ويقال: " لقي فلان جحدا شديدا " و " لقيت من فلان الداهية " و " لقي فلان جماعة ". وكل ذلك يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية، ويدل عليه قوله تعالى:
فالتقى المآء على أمر قد قدر
[القمر:12].
ثم قال: " قال الأصحاب: " اللقاء " في أصل اللغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه بسطحه. يقال: " لقي هذا ذاك " إذا ماسه واتصل به، ولما كانت الملاقاة بين الجسمين المذكورين سببا لحصول الإدراك. فحيث يمتنع اجراء اللفظ على المماسة وجب حمله على الإدراك، لأن اطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز، فثبت أنه يجب حمل أنه يجب حمل اللقاء على الإدراك.
أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصور لدليل يخصه، فوجب اجراؤه في البواقي على الإدراك وعلى هذا التقدير زالت السؤالات انتهى كلامه.
أقول: من أراد أن يقتنص حقائق المعارف الإلهية - خصوصا العلم بهذه المسألة الغامضة، التي تحيرت فيها مدارك أهل الفكر والنظر، وعجزت عن ادراكها عقول الأوائل والأواخر إلا من أيده الله بنوره، وفتح بصيرته لمشاهدة عالم الآخرة - بوسيلة الألفاظ الوضعية، والاطلاقات العرفية، فالضلال أسرع إليه من الهدى.
واعلم يقينا أن من فارق طريق التسليم، والقبول، والإيمان بالغيب - كسائر الضعفاء - وخاض في مثل هذه الأدلة الكلامية في باب معرفة الله، ومعرفة لقاء الله يوم الآخرة، فقد تعرض لخطر عظيم من سوء العاقبة، فإنه إذا جاء وقت حضور الموت، وكشف الغطاء، ظهر عليه بطلان ما اعتقده، وفساد الأدلة التي لفقها ونسجها كبيت العنكبوت، واعتمد عليها في حياته تعصبا وجهلا.
إلا إذا جاوز من حدود معقولة إلى نور المكاشفة الذي يشرق في عالم النبوة والولاية والقرب ، ويقع اشراقه على قلب من توجه بمرآة باطنه إلى باطن النبوة، وحاذى بها شطره، وصحح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله بإحكام المحبة، وسلوك طريق المتابعة له. ولآله عليهم السلام، حتى نال شيئا مما نالوه، ووقف على شيء مما وقفوه، وشرب من ماء عين اليقين كما شربوه. وحينئذ لاح له أحوال الملكوت، وأسرار القيامة، ولقاء الله، ومعنى رجوع الكل، وذلك هو الكبريت الأحمر، والفاروق الأكبر، لا يقع إلا بيد ملوك الآخرة وسلاطينها، وليس يحصل للأسراء المحبوسين في عالم الحس والمحسوسات، المقيدين بقيود التعلقات إلا اسم ورسم فالاسم لعوامهم، والرسم لعلمائهم، لأنهم المقتصرون على السمعيات والرسوم، وما يلفقون بأفكارهم منها، فلذلك أمرهم دائر في هذه المسألة بين اعتقاد رؤيته تعالى بهذا البصر الدائر في اليوم الآخر، وبين حمل اللقاء على لقاء الثواب، وكل منها بمعزل عما هو معلوم أولي الألباب.
واعلم أنك لو أردت أن تكون عالما ربانيا مفسرا للكلام الإلهي من دون أن تتعب نفسك، وتداوم على الأمور المقربة للقدس - من الرياضة، والخضوع، والخشوع، والصبر والصلاة، وتجريد الذهن عن الخواطر، وسد أبواب المشاعر، ودوام النظر في الإلهيات - فقد حدثت نفسك يممتنع، أو شبيه بالممتنع.
والناس يجتهدون في طلب أمر باطل، أو تحصيل موهوم خيالي غاية الاجتهاد، ويرتكبون الأمور الشاقة وترك المألوفات لا لغرض شريف. فقبيح لطالب الحق أن يرضى بالقعود ولا يجتهد في السعي إلى ذكر الله ودرك ما عند الله.
فإن طلبت واجتهدت لا تلبث زمانا طويلا إلا ويأتيك بارقة نورانية، ثم تتوالى عليك حتى يصير وروده لك ملكة، فتعلم أن فيك نورا شارقا لذيذا، تعلم باشراقه أن جميع الأشياء متوجهة نحو الأول تعالى توجها جبليا، سالكة إليه سلوكا جوهريا ذاتيا ولها رجوع إليه تعالى كما تكرر ذكره في القرآن، وساعده البرهان.
وأنت قبل أن يحصل لك الارتقاء إلى هذا المقام، يجب أن تعتقد أن جميع الموجودات بحسب مالها من الكمالات - عقلية كانت، أو نفسانية، أو طبيعية - طالبة لكمالاتها الثانية، ومتشبهة بعللها ومباديها في تحصيل ذلك الكمال بحسب ما يتصور في حق كل منها ويليق به، وأن لكل نوع من الأنواع المفارقة، والأثيرية، والعنصرية كمال ما، وعشق إلى ذلك الجمال، وإن تصور فقد ذلك الكمال، فشوق ارادي لماله حياة ظاهرة، أو طبيعي لما ليس له حياة ظاهرة. والكل عند أهل الله حيوان، فاهم، عاقل. ولولا عشق العالي لانطمس السافل.
وإذا ثبت هذا، وثبت أن لكل موجود غاية في وجوده كما أن له فاعلا، وأن لكل فاعل في فعله غرض ولفعله غاية، ولو كان لكل غاية غاية من غير أن تنتهي إلى غاية الغايات لتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية - وهو محال - ويلزم أيضا بطلان الغاية بالكلية - كما لا يخفى - فلا بد أن يكون لجميع الموجودات غاية أخيرة تنتهي إلى الغايات بأسرها، ولا بد أن تكون عين المبدإ الأول للكل وإلا لزم تعدد الباري، فإن الغاية الذاتية للشيء يجب أن تكون دائما متقدمة على وجوده، وهي نفس ما هو الفاعل بالحقيقة.
وأما التقسيم الذي وقع في كلام الحكماء " وهو أن ما لأجله الشيء قد يكون في بعض الأمور في نفس الفاعل، كالفرح، والغلبة، وقد يكون في بعضها في غير الفاعل وذلك تارة في القابل، مثل آخر الحركات التي تصدر عن فكر، أو طبيعة كصورة الكرسي في الخشب - وتارة في شيء ثالث - كمن يفعل فعلا ليرضى به فلان، فيكون رضى فلان غاية خارجة عن الفاعل والقابل ".
والتحقيق أن هذا التقسيم إنما يجري فيما هو غاية بالعرض، وأما الغاية بالذات فلا تكون خارجة عن ذات الفاعل أبدا. فإن من فعل فعلا ليرضى به فلان إنما غرضه الأصلي حصول راحة، أو لذة تعود إلى نفسه، وإلا لما فعله.
فالغاية الذاتية بالحقيقة ما اتصل بالفاعل، أو وصل إليه الفاعل، فإن محصل صورة الكرسي في الخشب بعمل، وقاصد رضاء فلان بفعل، ليس غرضه إلا طلب أولوية تعود إلى نفسه. وكذا الباني في بناء بيت للاستقرار، أو للأجرة، لا يبنيه إلا لحصول غاية أخيرة، وهي الأولوية العائدة إلى نفسه.
ومما يجب أن تعلم أن في الغاية أشياء ثلاثة:
أحدها: الغاية بمعنى ما يجعل الفاعل فاعلا ويسمى " علة غائية " وهي علة فاعلية لفاعلية الفاعل. ولا شبهة في تقدمه على الفعل - بل على الفاعل من حيث هو فاعل - وهذا في الفاعل الأول - أي صانع العالم - عين ذاته، فإن ذاته بعينه فاعل للأشياء، وعلة غائية، لأجل علمه بوجوه الخير، الذي هو الداعي لايجاد الخير في العالم، وذلك الداعي هو عين ذاته.
وثانيها: الغاية بمعنى ما يترتب على الفعل وينتهي إليه الفعل ترتبا وانتهاء ذاتيا - كصورة الخشب والسيف، التي انتهت إليه حركة النجار والسياف -.
وثالثها: الغاية بمعنى الضروري اللازم لما هو الغاية الأخيرة من غير أن يتوجه إليه الفعل والحركة، كالدكنة الحاصلة في السيف مثلا. والذبول والموت من هذا القبيل، فإن الحرارة مستولية على البدن للأفاعيل النباتية، أو الحيوانية، لأجل الغايات المطلوبة منها، فإذا استولت تقلل الرطوبات الغريزية شيئا فشيئا لأجل تلك الغايات، فيحصل للمادة الذبول بالعرض. وكذا يطرأ على البدن الموت بهذا السبب، أو لأجل تمامية النفس، وانصرافها، وتوجهها إلى النشأة الثانية. ويقال لهذا القسم: " غاية اتفاقية ".
وقد تكون الغاية الاتفاقية لشيء غاية ذاتية لشيء آخر، فلها سبب اتفاقي، والسبب الاتفاقي يجوز أن يتأدى إلى غاية ذاتية. وقد يجوز أن لا يتأدى، مثل الحجر الهابط من الجبل إذا شج، فربما هبط إلى مهبط، وربما لم يهبط. فإن وصل إلى غايته الطبيعية، يكون بالقياس إليها سببا ذاتيا، وبالقياس إلى الغاية العرضية سببا اتفاقيا. وأما إذا لم يصل إليها كان بالقياس إلى الغاية الذاتية باطلا.
والاتفاق من حيث هو اتفاق لا يكون دائميا ولا أكثريا. بل يقع على سبيل الندرة، لما علمت أن ما هو اتفاق بالقياس إلى سبب فهو ذاتي بالقياس إلى سبب آخر، فالأسباب الطبيعية، أو الإرادية متقدمة على السبب الاتفاقي - تقدم ما بالذات على ما بالعرض - وجميع الأمور الطبيعية، والاتفاقية، متوجهة نحو غايات بالذات لا بالعرض، وأن الاتفاق طار عليها، وأن الغايات الاتفاقية، غايات بالعرض وأما وجودها فهو بالذات، وله غاية أيضا بالذات.
فثبت وتحقق أن وجود العالم بأسره ليس على سبيل الاتفاق، وإن كان للاتفاق فيه مدخل، وذلك بالقياس إلى بعض أفراد العنصريات، حيث لا تعتبر الأسباب المقتضية المكتنفة، ولا يقاس إلى الأسباب القصوى للكل، وإلى السبب الأول، والغاية العظمى، وغاية الغايات.
وكذا وجود العالم خير كله، وقع من فاعل هو خير محض. والشر واقع بالعرض بعلة عرضية منتهية إلى عدم، أو نقص، أو ذات ناقصة، كإبليس ونحوه.
فبطل ما حكاه قوم عن انباذقلس، أو ذيمقراطيس من القول بالاتفاق، وكذا ما قالت الثنوية القائلة بوجود مبدإ آخر للشرور بالذات، وكذا ما زعمه أقوام من أن الباري يفعل الأشياء ويتركها من غير نظام، وغاية، وداع. فان ما زعموه يجري مجرى القول بالاتفاق، أو القدر الذي قاله الثنوية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقد ذكر الحكماء في كتبهم ابطال هذه المذاهب الخبيثة ببيانات، ودلائل موضحة، من جملة تلك الدلائل أن البقعة الواحدة إذا سقط فيها حبة بر، وحبة شعير، أنبت البر برا، والشعير شعيرا البتة.
ومنها: إن الغايات الصادرة عن الطبائع الأصلية في حال ما تكون غير معوقة كلها كمالات. وإنها إذا تأدت إلى أمور ضارة كان ذلك في الأقل. فلهذا ما يقال: لم لا ينبت الشعير برا؟ ولم لا يتولد شجرة مركبة من تين وزيتون؟ ولم لم تبق الأنواع محفوظة على الأكثر.
ومنها: إنا إذا أحسسنا بقصور من الطبيعة نعينها بالصناعة. وإذا طرأ وهن، أو آفة، أو مرض يعوق الطبيعة عن فعلها. نعالجها بالدواء، كما يفعله الطبيب معتقدا أنه إذا زال العارض، وصلح القابل، واشتدت القوة، توجهت الطبيعة إلى فعلها من الصحة، وليس للروية، والفكر مدخل في حصول الغاية.
فليس إذا عدمت الروية وجب أن لا تكون الطبيعة لفعلها غاية. فإن الروية لا تجعل الفعل ذا غاية، بل لها مدخل في تعيين الفعل الذي يختاره من بين أفعال يمكن صدورها عنا، لكل منها غاية تخصه، فإن لكل فعل يلزمه غاية بالضرورة لا بفعل فاعل، وليس الفاعل يجعل الفعل ذا غاية، بل الغاية مما يجعل الفاعل ذا فعل يفعله لأجل تلك الغاية.
ولو كانت النفس مسلمة من المعارضات لكانت يصدر عنها فعل متشابه على نهج واحد طلبا لما هو كمال لها، وحال السماويات وملكوتها هكذا، لكونها سليمة عن المعارضات، والقواطع للطريق، فلا جرم هي مؤدية إلى غاياتها.
وقد علمت أن الغاية غير خارجة عن ذات الفاعل، فيكون الفعل الصادر عن فاعله مؤديا وواصلا إليه، متقلبا إليه، بل منقلبا إياه وقد صار أعلى وأشرف مما كان.
وكذا الكلام في الغاية، حيث إن لها غاية أيضا. والكلام في غاية الغاية كالكلام في الغاية، بل غاية الغاية إذا كان وجودها وجودا إمكانيا أولى بأن يكون لها غاية، كما أنها أولى بأن يكون لها فاعل. لأن وجودها أقوى، وأشرف، وأدوم. فكيف يكون عبثا بلا غاية، أو اتفاقا، أو جزافا؟ فسلسلة الغايات تنتهي إلى واجب الوجود.
هذا في غير الإنسان. وأما في الإنسان فقد ينتهي بعض من أفراده من أدنى المراتب إلى أعلى الغايات لكونه مختصا من بين سائر الأنواع بالاستحالة إلى الحالات والتطور في الأطوار والنشآت، فرجوع الأشياء إلى الباري نحو آخر، ورجوع السالك الإنساني المجذوب إليه نحو آخر.
وذلك لأن سائر الأشياء - ما سوى الممكن الأشرف والعقل الأول - معنى انتهائها، ورجوعها إلى الرب تعالى، إما عبارة عن انتهاء مبادئها، وغاياتها، وأسبابها إليه تعالى. فهي راجعة إلى الوسائط، والوسائط متأدية إلى الممكن الأشرف المتوسط بينها وبين سائر الممكنات، وهو منته راجع إليه تعالى دائما، لأنه تعالى غايته ولا غاية له سواه. وإما عبارة عن معية الحق الأول لكل موجود - معية قيومية - لشمول نور وجوده للأشياء.
وأما معنى رجوع العبد وعوده إليه تعالى، فهو عبارة عن وصوله إلى الحضرة الإلهية بعد طي منازله، ومقاماته البعيدة والقريبة، فمن ابتداء حركته الرجوعية إلى وصوله إلى لقاء الله تعالى قد قطع جميع القوس العروجية، وهي نصف دائرة الوجود من المادة الأرضية إلى الحضرة المقدسة، وهو بإزاء النصف النزولي منها، وهو من الحضرة المقدسة الهوية الأولى إلى الهاوية السفلى.
والعجب من بعض الحكماء - كأبي علي وأتباعه - كيف أنكروا على بعض المتقدمين فيما ذهب إليه من القول بأن النفس الإنساني تتحد بالعقل الفعال عند الاستكمال. وقد بالغ الشيخ أبو علي في الرد على مقدم المشائين بعد أرسطو المسمى بفرفوريوس وهو عندي أعظم تلامذة ذلك الحكيم الموحد الرباني لوثاقة قوله، ومتانة رأيه، وحسن سماعه، واهتدائه بكلام معلم القوم بالتوحيد، والمعاد ما لم يسمع غيره، ولم يهتد به من سواه من شركائه في التعليم، والصناعة، كالإسكندر الافروديسي، وثامسطيوس، وغيرهما من شراح كلماته وأسراره، ونقلة كتبه وأسفاره، وحفظة علومه وأخباره.
ووجه العجب أنه كيف خفي الحال على مثل أبي علي ومن يحذو حذوه حتى شنعوا على القول باتحاد العقل المنفعل بالعقل الفعال؟! وقد شاهدوا من الإنسان الانتقال في الصور والأحوال.
فكان قد أتى عليه شيء من الدهر لم يكن شيئا إلا القوة والاستعداد، والحامل لها الهيولى التي هي أخس المواد، ثم اكتسى بصورة العنصرية، بل الأرضية التي هي أظلم الأجساد - فإنها الغالب على مادة بدنه - ثم تصور بصورة المنوية - وهي من أوهن الأشياء وأضعفها - وهكذا تدرج في الاستكمال حتى صار حيوانا سميعا بصيرا.
ثم استكمل وصار قابلا للاهتداء إلى طريق الحق - إما عارفا مهتديا، وإما جاهلا ضالا - كما أشار تعالى إليه بقوله:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر
[الإنسان:1] إلى قوله:
إما شاكرا وإما كفورا
[الإنسان:3].
فمن جوز صيرورة اللاشيء - كالمادة الأولى - شيئا أي صورة بناء، على ما هو التحقيق من الاتحاد بين المادة والصورة المقومة إياها، اتحادا في الوجود، وإن كانا مختلفين في المعنى والمفهوم، كالاتحاد بين الجنس والفصل، لأن الجنس والفصل هما عين المادة والصورة بالذات وغيرهما بالاعتبار وكذا جوز صيرورة الجماد كالنطفة حيوانا، والحيوان جوهرا عاقلا بالقوة. كيف أنكر صيرورة العاقل بالقوة عاقلا بالفعل؟ أو صيرورة العقل المنفعل عقلا فعالا؟! فإن المباينة هناك ليست بأقل من المباينة هاهنا.
فإن قال قائل: إن المادة ما صارت صورة قبلتها، فإن الإنسان من مبدإ تكونه في الرحم عند الشهر الرابع أو من حين استقرار النطفة فيه إلى آخر كماله في العلم والولاية شيء واحد بعينه في الوجود والجوهرية بالذات، وقد طرأ عليه صفات وأعراض، حتى لم يكن فرق بين أجهل الناس كأبي جهل وأعقلهم كمحمد (صلى الله عليه وآله) فقد كابر مقتضى عقله وفطرته.
بل الإنسان أبدا في التحول إلى النشآت والأطوار، إلى أن ينقلب إلى الدار الآخرة. وهذا عام لكل أحد، سواء أتم حركته التحولية في القوس الرجوعية - حتى إذا وصل منتهاه، وبلغ إلى مناه، وفاز بلقاء مولاه - أو قصر في ذلك فضل عن الطريق، وهوى في هاوية الهوى، أو نزل إلى أفق البهائم، وترك الترقي إلى أفق الملإ الأعلى، وخان في الأمانة التي أودعها الله فيه، وأنعم بها عليه.
بل هو أسوأ حالا من البهيمة، لأنها تتخلص بالموت، وأما هو فلا بد له من الرجوع. لأن عنده أمانة سترجع إلى مودعها، وكانت تلك الأمانة في مبدإ الفطرة قبل نزولها إلى القالب مشرقة زاهرة كالشكس، فإذا هبطت إليه وغربت فيه مدة ستطلع من مغربها، وستعود إلى مبدئها وبارئها إما مظلمة منكسفة، وإما مشرقة زاهرة.
والمشرقة غير محجوبة عن الحضرة الإلهية. والمظلمة أيضا راجعة إليه مع الحجب الظلمانية. لما أشرنا إليه أن الأشياء كلها راجعة إليه، صائرة إليه تعالى بوجه آخر، إذ المرجع والمصير للكل إليه. إلا أن النفوس المجرمة الشقية ناكسة رؤوسها عن جهة ربها إلى جهة الهوى والهاوية، كما قال تعالى:
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة:12]. فانقلبت وجوههم إلى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم من جهة أعلى عليين إلى جهة أسفل سافلين، وذلك حكم الله فيمن حرمه التوفيق، وأضله الهوى عن طريق الهدى نعوذ بالله من سوء العاقبة.
فصل
في زيادة الاستبصار في تحقيق المصير إلى لقاء الله في دار القرار
اعلم أنه كما أفادنا النظر في الوجود وعلله اثبات فاعل أول، كذلك أفادنا فيه إلى اثبات غاية أخيرة له، ويجب أن تكون تلك بعينها ما فرضناه فاعلا، إذ الغاية ما يجعل الفاعل فاعلا ويكمله إذا كان مما يعتريه قصور، أو نقص.
وأما الفاعل التام الذي فوق الكل ووراء الوراء فليس له كمال منتظر يبلغ، بل الأشياء مما يصير به تاما كاملا، إذ به تمام كل شيء، وكمال كل ذي كمال، فما سواه ناقص بذاته كامل به.
فالله هو الأول الذي لا أول له، وهو الآخر الذي لا آخر له، ليس كمثله شيء لأنه أصل الوجود، ومنه ابتداء الأمر، وإليه ينساق الوجود، وهو العلة الفاعلية للوجود، والعلة الغائية له.
فإن قيل: كيف يكون ما هو العلة الفاعلية علة غائية، والعلة الفاعلية قبل الشيء لينبعث منه الشيء، والعلة الغائية يجب أن تكون متأخرة الوجود عن الشيء ليستتبعها الشيء؟
فالجواب: إن العلة الغائية - إن تأملت - فهي في الحقيقة عين العلة الفاعلية دائما - لا في هذا الموضع خاصة - فإن الجائع إذا أكل ليشبع، فإنما أكل ليشبع لأنه تخيل الشبع، فحاول أن يستكمل له وجود الشبع، فيصير من حد التخيل إلى حد العين. فهو من حيث إنه شبعان تخيلا هو الذي يأكل ليصير شبعان وجودا، فالشبعان تخيلا هو العلة الفاعلية، والشبعان وجودا هو الغاية.
فالأكل صادر من الشبع، ومصدر للشبع، فالشبع هو الذي كان علة فاعلية للأكل، وعلة غائية له، ولكن باعتبارين مختلفين، فهو باعتبار الوجود العلمي فاعل، وباعتبار الوجود العيني غاية.
والأمر فيما نحن فيه على عكس ذلك بوجه. فإن الله عز وجل حيث أنبأنا عن غاية وجود العالم، قال:
" كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لأعرف "
فدلنا على أن غاية وجود العالم هو الله معروفا، فهو موجودا علة فاعلية للعالم، وهو مشهودا علة غائية.
فهذا وجه من تحقيق هذا الكلام، وهاهنا وجه آخر أدق من هذا، فغاية الوجود هي لقاء الله عز وجل، لذلك بني العالم، ولأجله نظم النظام، وإلى ذلك ينساق الوجود. و
أن إلى ربك المنتهى
[النجم:42].
تتمة
غاية سير الأشقياء والسعداء
واعلم أن هاهنا غايات وهمية مجعولة للأوهام، زينت لطوائف من الناس، فهم سالكون إليها في لبس وعماية من غير بصيرة ولا دراية، وهم كل الناس، إلا عباد الله المخلصين.
واعلم أن هؤلاء الطوائف ليسوا بمحل نظر ولي الوجود، ولا يعبأ الله بهم، فإنهم مع ولي الوجود في شقاق بعيد، فإنهم متوجهون إلى غير ما وجه الله إليه الوجود، ونظم له النظام، فهم في شق والوجود في شق. فهم ليسوا بعباد الله، ولا الله مولاهم وسيدهم، وإنما أولياؤهم ما تولوا إليه من الهوى والشهوات،
قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعآؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما
[الفرقان:77]. وإذ لما هم عليه من الهوى نظام جزئي، فله لا محالة ولي وهو شيطان من الطواغيت. فإن شئت سمهم عبدة الهوى، وإن شئت سمهم عبدة الطواغيت فقد نزل بكل ذلك القرآن.
فمن تولى الله وأحب لقاءه وجرى على ما أجرى عليه النظام الحقيقي، تولاهم وهو يتولى الصالحين. ومن تعدى ذلك فطغى وتولى الطواغيت، واتبع الهوى - ولكل نوع من الهوى طاغوت - ولاه الله ما تولاه، فشخص لكل معبوده، ووجه إليه.
وإنك لتعلم أن النظامات الوهمية، والغايات الجزئية، تضمحل ولا تبقى حتى هلاك هذه الدار، انتقل الأمر إلى الواحد القهار، فمن كان وليه الطاغوت - والطاغوت من جوهر هذه النشأة الدنيوية - فكلما أمعنت هذه النشأة في العدم والدثور ازداد الطاغوت في الاضمحلال.
فطاغوت الإنسان من حين مات الإنسان يأخذ متحركا في العدم، والإنسان يتبعه، لأن الله تعالى يولي كلا ما تولاه. وهذا منه عدل، فيذهب به الطاغوت ممعنا في وروده العدم، متقلبا به في الدركات حتى يحله دار البوار لا يموت فيها ولا يحيى.
لا يموت، لأن ذلك عند خراب الدنيا بالكلية، وإذا خربت فتح الله خزائن الحياة، وأفاض بكل النور، ومسح به البرية مسحة، التحم بها وجودهم التحاما لا يداخلهم الفساد بعد ذلك. ولا يحيى لأنه استقبل بوجهه الطاغوت، والطاغوت عدم وباطل، والمسحة النورية الوجودية إنما تأتيه من وراء ظهره، وانما تأتي من قبل الوجه عباد الله الذين استقبلوا الله بوجوههم.
فإذا حل دار البوار اشتعل فيه النار، وأحاط به سرادقها. لأن نار النيران قد خلقها عز وجل وأسكنها دار البوار. وهي نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، والعذاب الأكبر للذي قدم من ذنوبه العذاب الأدنى فافهم ما تلوناه عليك فإنه لباب المعرفة.
نتائج ما مضى من التحقيق
وبما حقق به المقام وفسر به الكلام انفسح احتجاج المجسمة بهذه الآية على تجسم الإله - تعالى عن ذلك - من أن الرجوع إلى غير الجسم محال.
واضمحل أيضا احتجاج التناسخية بها من أن الرجوع إلى شيء يقتضي السابقة إليه، فدل على كون النفوس قديمة في عالم الروحانيات، إذ قد علمت أن هذا الرجوع رجوع معنوي بعد تطور النفس في الأطوار، وطي مراتب الأكوان في النشآت الطبيعية، والحسية، والخيالية، والوهمية، والعقلية. وأن هذا الرجوع رجوع غائي، وحكم السابقية فيه على محاذاة حكم اللاحقية.
غاية الأمر أن للنفس نحوا من الحصول سابقا - ولو باعتبار صورتها العقلية، أو العلمية، أو الاسمية كما عليه العرفاء - وأين هذا من التناسخ، وبينهما من الفرق كما بين الأرض والسماء، والظلمة والضياء. فظهر فساد قول المجسمة والتناسخية.
وظهر أيضا ضلال الثنوية، لما علمت أن توجه الأشياء إلى ما هو الخير الحقيقي.
وقد علمت أيضا فساد رأي القائلين بالبخت والاتفاق. وظهر لك أيضا كذب الطباعية، والدهرية من أوساخ البرية القائلين: بأن ليس لطبائع الأنواع كالأفلاك والعناصر وما فيهما غاية أخرى يؤدي إليها.
ولما دريت امتناع " تكون الأشياء عنه تعالى حاصل من غير داع وغاية هي عين الفاعل الأول " علمت فساد رأي الأشاعرة النافين للداعي والحكمة.
وعلمت أيضا بطلان رأي المعتزلة لاثباتهم الداعي له تعالى في فعله أمرا مغايرا لذاته، كذات الوقت، أو الأصلح بحال العبد، أو ما يجري مجراهما، وذهلوا عن أن ذلك يؤدي إلى القول بنقصانه تعالى في ذاته عما هو الأولى له، والأليق به، واستكماله بالممكن - تعالى عن ذلك علوا كبيرا -.
فبقي أن يكون المذهب المنصور هو الذي عليه أهل الله وأهل اليقين، المنتمون إلى أهل بيت الولاية والعصمة سلام الله عليهم أجمعين.
[2.47]
إن الله تعالى قد كرر الخطاب معهم، وأعاد هذا الكلام عليهم مرة أخرى توكيدا للحجة، وتفصيلا بعد الاجمال، لأنه أوقع في النفوس، وتذكيرا لنعمة التفضيل الذي هو أجل النعم على الخصوص، وتحذيرا من ترك اتباع محمد (صلى الله عليه وآله).
قال القفال: النعمة - بكسر النون - صفة المنعم. أي ما ينعم به الرجل على صاحبه. قال تعالى:
وتلك نعمة تمنها
[الشعراء:22]. - وأما النعمة - بفتح - النون - فهو بمعنى ما يتنعم به في العيش. قال تعالى:
ونعمة كانوا فيها فاكهين
[الدخان:27].
وقوله: { أني فضلتكم } منصوب المحل عطفا على { نعمتي } أي اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم على العالمين.
ولا يلزم أن يكونوا أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله) لوجوه:
أحدها: ما ذكر في الكشاف: " إن المراد به التفضل على الجم الغفير من الناس، كقوله تعالى:
باركنا فيها للعالمين
[الأنبياء:71] وكما تقول: " رأيت عالما من الناس " والمراد منه الكثرة لا الكل.
واعترض عليه في التفسير الكبير بأن هذا ضعيف، لأن لفظ " العالم " مشتق من العلم. وهو الدليل.فكل ما كان دليلا على الله أو كان عالما فكان من العالم. وهذا تحقيق قول المتكلمين: " إن العالم كل موجود سوى الله " وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات.
أقول: وهذا غير وارد، إذ ليس مراد الزمخشري أن مدلول لفظ " العالم " حقيقة مختص ببعض المحدثات، بل إنه اريد به كثير من العالم مجازا، أو بحسب العرف الطارئ.
وثانيها: ما قاله ابن عباس: إنه أراد به عالمي زمانهم، لأن امتنا أفضل الأمم بالاجماع، كما ان نبينا أفضل الأنبياء. وبدليل قوله تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران:110].
وثالثها: أن المراد تفضيلهم في أشياء مخصوصة، وهو إنزال المن والسلوى وما أرسل الله فيهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب - إلى غير ذلك من النعم العظيمة - كإغراق فرعون، والآيات الكثيرة التي يسهل معها الاستدلال، ويهون بها المشاق. وتفضيل الله إياهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق.
وهاهنا وجه آخر لا يبعد القول به: وهو أن هذا التفضيل من جملة النعم العامة عليهم وعلى غيرهم من أفراد نوعهم والتي جاءت من بعد النعم الخاصة لهم، فيكون إشارة على فضيلة البشرية كما في قوله تعالى:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
[الإسراء:70]. غاية الأمر، أن كان المراد من العالمين غير الملائكة والأشخاص الكريمة العلوية ليكون على وفاق قوله: { كثير ممن خلقنا }.
واعلم أنه قال في التفسير الكبير: إن قوله: { وأني فضلتكم على العالمين } يدل على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله تعالى - لا في الدنيا، ولا في الدين - لأن قوله: { وأني فضلتكم على العالمين } يتناول جميع نعم الدنيا والدين، فذلك التفضيل إن كان واجبا لم يجز جعله منة عليهم، لأن من أدى واجبا فلا منة له على أحد.
وإن لم يكن واجبا مع أنه قد خصص البعض بذلك دون البعض فهذا يدل على أن رعاية الأصلح غير واجبة لا في الدنيا، ولا في الدين.
أقول: فيه نظر لأن الوجوب من وجه لا ينافي عدمه من وجه آخر.
ثم إنا لا نسلم أن المؤدي للواجب إلى أحد لا يجوز له المنة على المؤدى إليه. فإن الأب يجب عليه تأديب الولد، ونفقته، وكسوته، ورعاية أحواله، ومع ذلك لو من عليه بها لم يكن هذا قبيحا منه. وكذا المعلم لأحد في المعارف الإلهية لو من على من خرج بهدايته من ظلمة الضلالة، وعمه الحيرة، وجهنم الجهالة، إلى نور الهدى، وبصيرة اليقين، وجنة العرفان، لكانت المنة له عليه عظيمة.
على أن الحق في هذه المسألة ما ذهب إليه المحققون، من أن الأشياء إنما تجب بإيجاب الله تعالى، لأن الأشياء وجبت عليه، أو أوجبت شيئا آخر عليه.
[2.48]
قرأ أهل مكة والبصرة { لا تقبل } بالتاء، والباقون بالياء.
لما بين سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانهم بيوم القيامة. واتقاؤه عبارة عن اتقاء ما يكون فيه من الشدائد والأهوال، وإلا فنفس اليوم لا يتقى. كيف ولا بد أن يرده أهل الجنة والنار جميعا، ولكن ليس انتصابه انتصاب الظروف، بل انتصاب المفعول به، لأن معناه " اتقوا هذا اليوم واحذروه " وليس معناه " اتقوا في هذا اليوم " لأن يوم القيامة لا يؤمر فيه باتقاء شيء، بل إنما يؤمر في غيره باتقائه أو اتقاء ما يقع فيه.
و " الجزاء " عند أهل اللغة المكافأة والمقابلة. يقال: " جزى يجزي جزاء " و " جازاه مجازاة " ومنه الحديث أنه قال (صلى الله عليه وآله) لأبي بردة في الجذعة التي أمره أن يضحي بها:
" ولا تجزي عن أحد بعدك "
وقال (عليه السلام):
" البقرة تجزي عن سبعة "
أي: تقضي وتكفي. فقوله: { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق فيكون مفعولا به أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية.
وقرئ: " ولا تجزئ " من " أجزأ عنه " إذا أغنى عنه، فعلى هذا لا يكون إلا مصدرا بمعنى شيئا من الإجزاء. وقرأ أبو السرار القنوي " لا تجزي نسمة عن نسمة شيئا ".
وتنكير الجزاء والجازي والمجزي عنه للتعميم والاقناط الكلي عن غير الله. والجملة منصوبة المحل صفة ل " يوما " والعائد فيها محذوف، تقديره: " لا تجزي فيه نفس " ومنهم من لم يجوز حذف الضمير المجرور، لأنك لا تقول " هذا رجل قصدت " أو " هذه واد سكنت " وأنت تريد " إليه " أو " فيها ". فقال: اتسع فيه فأجري مجرى المفعول به، فحذف عنه الجار، ثم حذف الضمير كما حذف في قوله:
فما أدري أغيرهم ثناء
وطول العهد، أم مال أصابوا؟
و " الشفاعة " أن يستوهب أحد لأحد شيئا أو يطلب له، وهي بمعنى الوسيلة والوصلة، والقربة. وأصلها من " الشفع " الذي هو ضد " الوتر " كأن المشفوع كان فردا، فجعله الشفيع شفعا بضم نفسه إليه.
والضمير في { ولا يقبل منها } راجع إلى النفس الثانية العاصية أي: لو جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها. ويجوز عوده إلى الأولى أي: لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها، كما لا تجزي عنها شيئا.
و " العدل " هاهنا: الفدية. وقيل: البدل. والفرق بين العدل والعدل أن العدل هو مثل الشيء من جنسه، والعدل هو بدل الشيء.
وقد يكون من غير جنسه. قال سبحانه:
أو عدل ذلك صياما
[المائدة:95]. وأصله التسوية سميت به الفدية لأنها سويت بالمفدى .
ونظير هذه الآية قوله تعالى:
ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة
[الزمر:47]. وقوله تعالى:
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم
[المائدة:36]. وقوله:
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به
[آل عمران:91]. وقوله تعالى:
وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ
[الأنعام:70].
و " النصرة " هي المعونة، وقيل: النصرة أخص من المعونة لاختصاصها بدفع الضر. قال القفال: والنصر يراد به المعونة، وفيه معنى الاغاثة. تقول العرب: " أرض منصورة " أي: ممطورة. والغيث ينصر البلاد إذا أنبتها، فكأنه أغاث أهلها. ويسمى الانتقام نصرة وانتصارا. قال تعالى:
ونصرناه من القوم
[الأنبياء:77]. قالوا معناه: فانتقمنا له.
فقوله: { لا ينصرون } يحتمل هذه الوجوه. فإنهم يوم القيامة لا يغاثون، وإذا عذبوا لم يجدوا من ينتقم لهم من الله. وبالجملة النصر يتضمن دفع الشدائد، فأخبر تعالى أنه لا دافع هناك عن عذابه.
والضمير في { لا ينصرون } لما دلت عليه النفس الثانية، لكونها نكرة واقعة في سياق النفي، يعني النفوس الكثيرة. وتذكيره لأنها بمعنى العباد والأناسي.
فصل
حث الآية على العمل
اعلم أنه تعالى وصف يوم القيامة بأشد الشدائد، وأعظم الأهوال، وذلك لأنه إذا وقعت على أحد واقعة، أو دفع إلى كريهة، وحاولت أعوانه، وأصدقاؤه دفاع ذلك عنه، بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية، وذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته. فإن رأى من لا طاقة له بممانعته، عاد بوجوه الضراعة، وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والمعونة لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله، من جنسه، أو ببدله من غير جنسه. فإن لم تغن هذه الثلاثة، تعلل بما يرجوه من نصر الناصرين، أو انتقام المنتقمين، فأخبر تعالى أنه لا يغني في الآخرة شيء من هذه الأمور عن المجرمين.
ففي هذه الآية أعظم تحذير للإنسان عن المعاصي، وأقوى ترغيب له في التوبة والتلافي، لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك، ولا شفاعة، ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة.
والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي بحسب المعنى تعم المكلفين كلهم، لأن الأوصاف المذكورة فيها هي التي يوصف بها اليوم، فيعم كل من يحضر في ذلك اليوم.
فصل مشرقي
واعلم أن البيان الكشفي للسبب اللمي، والسر العقلي في إثبات هذه الأوصاف، والأحكام ليوم الآخرة، أن المؤثر على قسمين:
الأول: أن يكون تأثيره بمشاركة الوضع، ومصادفة المادة بعضها بعضا.
والثاني: أن لا يكون تأثيره كذلك، بل بمجرد الذات، والذي يؤثر في الشيء بالذات - لا بمشاركة المواد والأوضاع - إما السبب الفاعلي، أو الغائي، أو الصوري، لأنه لا تأثير للسبب المادي بالاقتضاء والإيجاب، إذ ليس شأنها إلا القبول والانفعال.
إذا تقرر هذا فجميع هذه الأمور المعدودة في الآية - من المكافأة، والشفاعة، والفدية، والنصرة - هي من التأثيرات التي وقعت بين الأشخاص المتشاركين في الأوضاع والأمكنة، فتؤثر فيهم هذه الأسباب المعدة، ولهم أيضا جهة القبول والانفعال من جهة المادة المنفعلة التي يؤثر فيها كل شيء.
وأما الآخرة ففيها هذه الأسباب والأنساب منقطعة، والذي يكون هناك معه المهمات ويطلب منه الاقتراحات - أعني الباري جل ذكره - لا يؤثر فيه شيء، ولا ينفعل عن شيء، لأنه القاهر على كل شيء. فالمؤثر هناك في شيء منحصر في سبب صوري للشيء، أو فاعلي له، أو غائي له.
فالصورة كالإيمان، والكفر، والخلق الحسن والخلق الردي. وأما الفاعل فهو الله بلا واسطة، أو بواسطة بعض عباده المقربين، الذين هم بأمره يفعلون، لأنهم من عالم الأمر، ويفعلون ما يؤمرون. وأما الغاية فهو الله بالحقيقة، أو ما ينعكس من نور جماله لمن يعجز عن إدراكه، والعلة الصورية معلولة للفاعل والغاية، لأنها العلة المباشرة، وهما علتان مفارقتان.
فجميع اللذات الروحانية - كلقاء الله، ومجاورة مقربيه - والجسمانية - كالجنة، والحور، والقصور، والأنهار، والأشجار، وغيرها - متسببة عن الله تعالى بواسطة صورة الإيمان والإحسان. وجميع الآلام الروحانية ، والجسمانية - كالاحتجاب عن الرب تعالى وملكوته، والتعذب بالجحيم، والزقوم، والعقارب، والحيات، وغيرها - متسببة عنها بواسطة صورة الكفر والإساءة.
فلا سبب ولا نسب هناك إلا ما ذكرناه، ولا وسيلة هناك لأحد عنده، ولا شفيع، ولا ظهير، ولا معاون، ولا نصير، لعدم انفعاله وتأثره عن الغير. ولا مكافئ له، ولا ممانع، ولا مدافع، ولا منتقم منه، إذ لا مساوي له في القوة، إذ لا واجب الوجود غيره، والوجود يفيض منه، ويترشح على غيره، فكيف يساويه في القوة، أو يزيد عليه حتى يدافعه، أو ينتقم منه، بل هو الغالب على أمره، والقاهر فوق عباده.
وبالجملة لا وسيلة لأحد من أحد في أمره، ولا رابطة بين أحد وأحد إلا بالروابط الذاتية. قال تعالى:
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله
[الانفطار:19]. وقال:
واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا
[لقمان:33]. ثم هاهنا سؤالان:
أحدهما: إن الباري - جل شأنه - كما أنه موجد الآخرة وما فيها كذلك موجد الدنيا وما فيها، فما وجه أن الوسائط والأسباب هاهنا موجودة مؤثرة، والإنسان ينتفع بها في جلب الملاذ، ودفع المضار، وفي الآخرة لا تأثير لها، ولا وجود للوسائط؟
وثانيهما: إن النصوص دالة على أن الشفاعة ثابتة للملائكة، والأنبياء، والكاملين من أهل الإيمان، وقال تعالى:
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك
[غافر:7].
وبالجملة - الأمة مجتمعة على أن لمحمد (صلى الله عليه وآله) شفاعة مقبولة في الآخرة، وإن اختلفوا في كيفيتها. فعند المحققين هي مختصة بدفع المضار، واسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين. وقال المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين. وهي ثابتة عندنا للنبي (صلى الله عليه وآله)، ولأصحابه المنتجبين، وللأئمة من أهل بيته الطاهرين، ولصالحي المؤمنين, والملائكة، وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين.
ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، وهو قوله (صلى الله عليه وآله):
" ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "
وما جاء في روايات أصحابنا - رضي الله عنهم - مرفوعا، إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" أشفع يوم القيامة فأشفع، ويشفع علي فيشفع ويشفع أهل بيتي فيشفعون. وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار ".
وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" يدخل الجنة بشفاعة رجل من امتي أكثر من بني تميم ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" إن من امتي من يشفع للفئة، ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل، حتى يدخلوا الجنة ".
وعن أبي جعفر (عليه السلام) - في باب فضيلة النكاح -: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
" تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم غدا في القيامة، حتى أن السقط يجيء محبنطيا على باب الجنة، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: لا حتى يدخل أبواي ".
فهذه النصوص تنافي الآيات الدالة على نفي الشفاعة، والنصرة، وما يجري مجراهما، كما في مثل قوله: { ولا يقبل منها شفاعة } فإنه نكرة في سياق النفي، فيعم جميع أقسام الشفاعة. وقوله: { ولا هم ينصرون } يدل على نفي النصرة. وكقوله تعالى
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة:254]. تقتضي نفي الشفاعة بالكلية.
والجواب عن الأول: إن الدار الدنيا واقعة في آخر منازل الوجود، فإن الوجود نزل إلى جوهر مادي ينفعل عن كل مؤثر يصادفه؛ لكونه محض القوة والاستعداد، ومنه تنشأ الحركات والاستحالات، وهي حالة بين صرافة القوة ومحوضة الفعل.
فمبدأ الحوادث في هذا العالم هي الهيولى والحركة، فإن الهيولى بأوضاعها المستفادة من الحركة تحدث فيها من المبدإ الجواد، والوسائط الوجودية، موجودات حادثة في أزمنة معينة، وتحصل منها سلسلة عرضية من المتجددات الزمانية، والمكانية، وأما الدار الآخرة فهي أقرب إلى الله من هذه الدار، وما فيها من الموجودات - وإن كانت جسمانية الحقيقة - لكنها أشبه بالصورة بحسب وجودها منها بالمادة، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
[مريم:95]. وقوله:
ونرثه ما يقول ويأتينا فردا
[مريم:80]. لأن ملائكة الموت قد توفتها، ونزعت أرواحها وصورها عن هذه القوالب المادية.
ولهذه الأرواح في النشأة الثانية قوالب مناسبة لأرواحها في الدوام والتجدد، ولا يؤثر فيها تأثير غريب. بل أرواح ذلك العالم يؤثر في أشباحها بالايلام والتنعيم، بحسب ما كسبت وحصلت في الدنيا لنفوسها من صور الأخلاق، وهيآت الملكات الحسنة النورانية، أو القبيحة الظلمانية.
فكل ما يصل من اللذات والآلام إلى كل أحد، فهو إنما يصل إليه من نفسه بوسيلة ذاته من جهة العلل الذاتية، لا من جهة الأسباب العرضية، والعلل الاتفاقية الكونية، لكونها منقطعة مسلوبة يوم القيامة. قال تعالى:
أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب
[البقرة:165 - 166] وقوله:
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون
[المؤمنون:101].
وقد تكرر وتكثر في القرآن ذكر هذا المعنى، والتنبيه عليه، كقوله تعالى:
يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
[عبس:34 - 37]. وقوله:
هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
[النمل:90]. وقوله:
إنكم لذآئقو العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون
[الصافات:38 - 39]. وقوله:
إنما تجزون ما كنتم تعملون
[الطور:16]. وقوله:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى
[النجم:39 - 40]. وقوله:
فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون
[يس:54]. وقوله:
ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون
[الأعراف:43]. إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" إنما هي أعمالكم ترد عليكم ".
كل ذلك اعلام واشعار بأن الثواب والعقاب في القيامة بنفس الأخلاق، والصفات، التي ترسخت أصولها في القلب بواسطة تكرر الأعمال، والأفعال الواقعة في الدنيا من أفراد الناس، وسينكشف كيفية تجسم الأعمال في الآخرة عند تفسير بعض الآيات المشيرة على أحوال البعث.
وأما الجواب عن الثاني: إن جميع ما ورد في باب الشفاعة يوم القيامة يرجع إلى أسباب ذاتية وأمور داخلية.
فإن معنى كون الرسول (صلى الله عليه وآله) شفيعا أن الإيمان بحقيته، والاعتراف برسالته ، يوجب هيئة في النفس، بها يستحق لنور الرحمة، والنجاة من عذاب النار، والمؤثر في الشفاعة صورة النبي، الحاصلة في النفس العارفة به صلوات الله عليه وآله، وليست أمرا منفصلا عن ذات المؤمن، وكذا الحال في سائر الشفعاء والأخلاء يوم الدين.
والمنفي في هذه الآية وفي غيرها كقوله تعالى:
ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة:254]. وقوله:
ولا شفيع ولا حميم
[غافر:18] وقوله:
لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء:88 - 89]. وقوله:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف:67]. عن الدار الآخرة من الشفاعة وما يشبهها، غير الثابت منها في الآيات، والأخبار، بالمعنى والحقيقة، لأن المنفي منها أمور خارجية، والثابت منها أمور داخلية من باب الصور المشهودة للإنسان في عالم الباطن.
فإن القيامة حضورها في داخل حجب السماوات والأرض وباطنها، لا في ظهرها وخارجها، ورؤية الأشياء هناك كرؤية الصور والألوان في باطن المرآة من جهة صقالة وجهها، ورؤية الأشياء هاهنا كرؤية الصور والألوان على ظهر المرآة.
وبالجملة الأسباب العرضية والاتفاقية مسلوبة في القيامة، والأسباب الذاتية الداخلية ثابتة. فالآيات والأخبار الدالة على نفي الشفاعة، والوسيلة، والقرابة، وغيرها، إنما تحمل على نفي ما هو منها من قبيل القسم الأول. والتي تدل على إثباتها تحمل على إثبات ما هو منها من قبيل القسم الثاني.
فمن قبيل الأول ما في قوله تعالى:
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع
[غافر:18]. وقوله:
وما للظالمين من أنصار
[البقرة:270]. وقوله:
فما تنفعهم شفاعة الشافعين
[المدثر:48]. ومن قبيل الثاني المستثنى الواقع في قوله تعالى:
يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه
[يونس:3].
فالنفي متعلق بما هو من قبيل الأول. والاستثناء بما هو من قبيل الثاني. وكذا قوله:
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
[الأنبياء:28]. وقوله:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة:255]. فإن لفظ " الإذن " أينما وقع في القرآن كان إشارة إلى السبب الفاعلي الذاتي - دون العرضي الجسماني - فافهم واستقم.
فصل
الخلود في النار، والخلاص منها
استدلت المعتزلة القائلون بخلود مرتكب الكبيرة - ولو مرة واحدة - في النار بهذه الآية وعلى إنكار الشفاعة بوجوه ثلاثة:
أحدها: بقوله: { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفس عن نفس شيئا.
والثاني: بقوله: { ولا يقبل منها شفاعة } لكونها نكرة في سياق النفي، فيعم كما مر.
والثالث: { ولا هم ينصرون } إذ الشفاعة ضرب من النصرة، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
وأجيب بوجهين:
أحدهما: إن اليهود كانوا يزعمون أن آباءهم يشفعون لهم فالآية نزلت فيهم. لا يقال: العبرة بعموم الحكم، لا بخصوص السبب. لأنا نقول: خصوص السبب مما له مدخل في احتمال التخصيص، وذلك كاف في سند المنع.
والثاني: إن الآية وإن كان ظاهرها العموم إلا أنها قابلة للتخصيص.
واعلم أن مسألة إثبات الوعيد لأهل الكبائر إذا لم يتوبوا موضع خلاف لأهل القبلة. فالمعتزلة، والخوارج، قاطعون بوعيدهم مؤبدا. وطائفة قاطعون بوعيدهم منقطعا - لا مؤبدا - وهو قول البشر المريسي، والخالدي.
وذهب بعضهم بأنه لا وعيد لهم. وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر، وإليه ذهب بعض المرجئة.
والذي عليه أصحابنا الإمامية، والمنقول عن أئمتنا (عليهم السلام)، وعليه رأي أكثر الصحابة، والتابعين، والصوفية، ووافقهم الأشاعرة في إثبات العفو عن بعض العصاة.
للقطع بأن الله يعفو عن بعض السيئات، وإن لم يتب عنها، وأنه إذا عذب أحدا من أصحاب الكبائر، فلا يعذبه أبدا. لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه، والبعض المعذب على التعيين.
وقال بعض ضلال المتفلسفة: إن الأرواح وإن تكدرت بقبائح أعمال الأشباح إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس، ولا يزاحمها شيء من نتائج الأعمال إلا أياما معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية. ثم يتخلص من العذاب ويرجع إلى حسن المآب.
ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية، ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي.
وطائفة من المتصوفة زعموا أن السالك إذا بلغ حد المعرفة التامة لم تضره المعاصي.
وكل هذه الثلاثة خيال فاسد ومتاع كاسد، وإنها قول من لم يجرب نفسه، ولم يعرف مكر الله فأمن منه، ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس بالأخلاق الذميمة، البهيمية، والسبعية، وكيف تتطهر، وتتصفى، بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية، فقد تصدأ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14] فلا يجلوها إلا مرور الدهور، وكرور الأعصار، وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق بأن يتأدى رسوخ الصفات الظلمانية إلى حيث يزول عن القلب قابلية نور الإيمان والمعرفة، فيبقى خالدا مخلدا في النار في ويل طويل وزفير وعويل نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
واعلم أنه يمكن أن يتحمل للقول الأول من هذه الثلاثة وجه يندفع به فساده، وهو أن المراد بالأرواح مرتبة غير النفوس التي هي مورد المقت والعذاب، وموضع الآلام والأسقام. فإن الروح إذا أريد به جوهر قدسي من عالم الأمر له تعلق بالنفوس البشرية فهو سعيد في الدنيا والآخرة.
وقد وقعت الإشارة إلى هذا المعنى فيما سبق من أن نسبة الروح الحيواني إلى الروح النطقي كنسبة الدابة إلى راكبها، وأن التي قامت الحدود بها وتحس بألم القتل، والضرب، هي النفس الحساسة، وأن النفس الناطقة على شرفها مع عالمها في سعادتها دائمة.
وقد سبقت أيضا الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله)
" أنه قام لجنازة يهودي فقيل له: " إنها جنازة يهودي " فقال (صلى الله عليه وآله): " أليست نفسا؟ "
أراد (صلى الله عليه وآله) بها نفسه الناطقة، فقام تعظيما لشرفها، ومكانتها لأنها منفوخة من روح الله، فهي من عالم القدس والطهارة لا يكدرها شيء من الأرجاس. بل إن من النفس الحيوانية محل الشقاء في الدنيا، والآخرة، وهي في الإنسان باقية بعد البدن، محشورة في الآخرة كما أقيم عليه البرهان، وهو من العرشيات المختصة بهذا العبد عناية من الله.
وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة " من أن عصاة المؤمنين لا يعذبون، وإنما النار للكفار " تمسكا بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار مثل قوله تعالى:
قد أوحي إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى
[طه:48]. وقوله :
إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
[النحل:27]. فجوابه: إن المراد من العذاب ما هو على وجه الخلود. وكذا المراد من الخزي والسوء.
وأما تمسكهم بمثل قوله (صلى الله عليه وآله):
" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة "
وفي رواية:
" وجب عليه الجنة "
فهو ضعيف، لأنه إنما ينفي خلود النار لا الدخول فيها.
واعلم أن الإيمان إذا كان حقيقيا بالغا إلى حد علم اليقين، يمكن القول بعدم دخول صاحبه في النار، ولكن قل ما يحصل هذا المقام لأحد إلا مع اجتنابه عن الكبيرة، وذلك لكونه متوقفا على صفاء كامل في القلب، وتجرد بالغ عن أغراض النفس ولذاتها الحيوانية.
والذي يدل على أن الإيمان القوي يمنع صاحبه عن دخول النار، ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه يقال يوم القيامة:
" اخرجوا من النار من في قلبه مثقال من الإيمان، ونصف مثقال، وربع مثقال، وشعيرة، وذرة "
كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان، وأن هذه المقادير لا يمنع دخول النار.
وفي مفهومه أن من كان إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار. وأن من في قلبه ذرة من الإيمان لا يستحق الخلود في النار - وإن دخلها -.
ولا خفاء في أن درجات الإيمان مختلفة في القوة والنورية، كالتفاوت بين الأنوار المحسوسة في الإضاءة والإشراق، فصح أن يقال إيمان واحد من الناس - كالنبي والولي - لو وزن مع إيمان سائر الخلائق لرجح. كما يصح أن يقال: " لو وزن نور الشمس بنور السرج كلها لرجح " فإيمان آحاد العوام نوره كنور السراج، وإيمان الأولياء والصديقين كنور القمر ونور النجوم، وإيمان الأنبياء كنور الشمس. وإليه الإشارة في قوله (صلى الله عليه وآله)
" ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان "
إشارة إلى تفضيل قلب المؤمن العارف على غيره من العوام.
فصل
أدلة المعتزلة على قولهم بالخلود وجواباتها
وأما المعتزلة فاستدلوا بالعمومات الواردة في وعيد الفساق، وبالآيات الدالة على الخلود المتناولة للكافر وغيره، كقوله تعالى:
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
[النساء:14]. وليس المراد تعدي جميع الحدود بارتكاب المعاصي كلها وإثباتا، فإنه محال، لما بين البعض من التضاد، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية. فيحمل على مورد الآية من حدود المواريث.
وقوله:
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها
[النساء:93]. وقوله:
وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها
[السجدة:20] ومثل هذا مسوق للتأبيد ونفي الخروج.
ومثل قوله:
إن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغآئبين
[الانفطار:14 - 16]. وعدم الغيبة عن النار خلود فيها.
وقوله:
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة:81]. وقوله:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
[النساء:10].
وبالعمومات الدالة على نفي الشفاعة، كقوله تعالى:
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع
[غافر:18]. والظالم هو الآتي بالظلم، وذلك يعم الكافر وغيره.
وقوله تعالى:
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة:254] وقوله:
وما للظالمين من أنصار
[البقرة:270]. ولو كان الرسول (صلى الله عليه وآله) شفيعا من أمته، لكان ناصرا لهم.
وقوله تعالى:
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
[الأنبياء:28] والفاسق ليس بمرتضى عند الله، وإذا لم يشفع الملائكة فكذا الأنبياء إذ لا قائل بالفرق.
وقوله:
فما تنفعهم شفاعة الشافعين
[المدثر:48]. وبقوله تعالى:
ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك
[غافر:7]. ولو كانت الشفاعة حاصلة للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل معنى.
وبالأخبار الدالة على الوعيد، كقوله (صلى الله عليه وآله):
" من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب حرمها في الآخرة "
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة ".
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم "
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار ".
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" يا كعب بن عجرة - اعيذك بالله من امارة السفهاء. إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم، وصدقهم بكذبهم، فليسوا مني ولست منهم، ولن يردوا علي الحوض - الحديث - يا كعب، لا يدخل الجنة لحم نبت من حرام ".
وعن أبي هريرة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" لألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا. قد بلغتك ".
وعنه، قال (صلى الله عليه وآله):
" ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصيمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر. ورجل باع حرا فأكل ثمنه. ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوف أجرته ".
فهذه وجوه متمسكهم في القطع بالوعيد ونفي الشفاعة، والجواب عنها بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم، بدليل صحة ادخال " الكل " أو " البعض " عليها. نحو: " كل من دخل داري فله كذا " أو " بعض من دخل داري فله كذا " ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض. ولأن الأكثر قد يورد بلفظ " الكل ".
وبعد تسليم كون الصيغ للعموم فاحتمال المخصصات قائم، فإن العموم غير مراد في الآية الأولى، للقطع بخروج التائب وأصحاب الصغائر، وصاحب الكبيرة الغير المنصوصة - إذا أتى بطاعات يزيد ثوابها على عقوباته - فليكن مرتكب الكبيرة من المؤمنين أيضا خارجا بما سيجيء من الآيات والأدلة.
وبالجملة فالعام المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقا، ولو سلم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبد لا على الوقوع - كما هو المتنازع فيه - لجواز الخروج بالعفو.
ويجاب عن الآية الثانية بأن معنى { متعمدا } مستحلا قتله - على ما ذكره ابن عباس - والتعمد على الحقيقة إنما يكون من المستحل. أو بأن التعليق بالوصف مشعر بالحيثية التعليلية، فيختص بمن قتل المؤمن لإيمانه. أو بأن " الخلود " ، وإن كان ظاهرا في الدوام، فالمراد هنا المكث الطويل جمعا بين الأدلة.
لا يقال: " الخلود " حقيقة في التأبيد، لتبادر الفهم إليه. ولقوله تعالى:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد
[الأنبياء:34]. ولأنه يؤكد بلفظ التأبيد مثل
خالدين فيهآ أبدا
[الجن:33]. وتأكيد الشيء تقوية لمدلوله. ولأن العمومات المقرونة بالخلود متناولة للكفار، والمراد في حقهم التأبيد بالاتفاق. وكذا في حق الفساق، لئلا يلزم إرادة المعنى المشترك، أو المعنى الحقيقي والمجازي معا.
لأنا نقول: لا كلام في أن المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق، والشائع في الاستعمال هو الدوام، لكن قد يستعمل في المكث الطويل ك " سجن مخلد " و " حبس مخلد " فيكون محتملا. على أن في جعله لمطلق المكث الطويل نفيا للمجاز والاشتراك، فيكون أولى.
ثم إن المكث الطويل - سواء جعل معنى حقيقيا أو مجازيا - أعم من أن يكون مع دوام - كما في حق الكفار - أو انقطاع - كما في حق الفساق - فلا محذور في إرادتهما جميعا. وحينئذ فلا نسلم أن التأبيد تأكيد - بل تقييد - ولو سلم، فالمراد تأكيد لطول المكث. إذ قد يقال: " حبس مؤبد " و " وقف مؤبد ".
ويجاب عن الثالثة: بأنها في حق الكافرين المنكرين للحشر، بقرينة قوله
ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون
[السجدة:20]. مع ما في دلالتها على الخلود من المناقشة، لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج باليأس أو الذهول أو نحو ذلك.
وعن الرابعة بعد تسليم افادتها النفي عن كل فرد، ودلالتها على دوام عدم الغيبة إنها مختصة بالكفار. جمعا بين الأدلة.
وكذا الخامسة والسادسة حملا للمحدود على حدود الإسلام، ولإحاطة الخطيئة غلبتها بحيث لا يبقى معها الإيمان. هذا مع ما في الخلود من الاحتمال وعلى هذا القياس الجواب عن سائر أدلتهم النقلية على وجه التفصيل.
وللمعتزلة أيضا أدلة عقلية على ثبوت مذهبهم:
منها: إن الفاسق لو دخل الجنة لكان باستحقاق - لامتناع دخول غير المستحق كالكافر - واللازم منتف لبطلان الاستحقاق بالإحباط، أو الموازنة.
والجواب: بمنع المقدمتين، وبطلان الإحباط والموازنة.
ومنها: إنه لو انقطع عذاب الفاسق، لانقطع عذاب الكافر قياسا عليه بجامع تناهي المعصية.
والجواب - على تقدير علية التناهي - بمنع تناهي الكفر قدرا، ومنع اعتبار القياس في مقابلة النص في الاعتقادات.
ومنها: إن الوعيد بالعقاب الدائم لطف بالعباد لكونه أزجر عن المعاصي فإن منهم من لا يكترث بالعذاب المنقطع عند الميل إلى المستلذات ثم لا بد من تحقيق الوعيد تصديقا للخبر وصونا للقول عن التبديل.
والجواب: منع انحصار اللطف في وعيد الدوام، فإن من يكترث باللبث في الجحيم أحقابا، فلا يستكثر الخلود فيها عقابا، وإذ قد كان كل وعيد لطفا، ولا شيء من الوعيد لطفا للكل، فليكن لطف الخلود في النار مختصا بالكفار، وكفى بوعيد النيران - بل وعد الجنان - لطفا ومزجرا لأهل الإيمان.
فصل
احتجاجات القاطعين بعدم خلود أهل الكبائر
وأما القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكبائر فاحتجوا بقوله تعالى:
إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
[النحل:27].
يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
[الزمر:53].
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم
[الرعد:6].
لا يصلاهآ إلا الأشقى الذي كذب وتولى
[الليل:15 - 16].
وبالعمومات الواردة في الوعد، مثل:
والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك
[البقرة:4] الآية. حكم بالفلاح على كل من آمن.
فصل
احتجاجات القائلين بعفو بعض العصاة
وأما القاطعون بثبوت العفو في حق البعض، والتوقف في حق البعض، وهم أصحابنا رضوان الله عليهم، وأهل السنة فقد تمسكوا بنحو قوله تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء:48] وبقوله عز من قائل حكاية عن عيسى:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
[المائدة:118].
وظاهر أن هذه الشفاعة وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة، إذ لو كان كافرا لا يليق الشفاعة في حقه لنبي، ولو كان صاحب صغيرة، أو تائبا عن الكبيرة، لم يجز منه تعالى عذابه عقلا. وإذا صحت الشفاعة لعيسى (عليه السلام) صح القول بها في حق محمد (صلى الله عليه وآله) بالضرورة.
وبقوله تعالى حكاية عن الخليل (عليه السلام):
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
[إبراهيم:36]. بمثل البيان المذكور.
ومما يؤكد دلالة هاتين الآيتين على هذا المطلب ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) تلا قول إبراهيم: { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } وقول عيسى: { إن تعذبهم فإنهم عبادك } ثم رفع يديه وقال: " اللهم - امتي، امتي " وبكى. فقال الله:
" يا جبرائيل - اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله: " ما يبكيك؟ " فأتاه جبرائيل (عليه السلام) فسأله. فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) - قال: " يا جبرائيل - اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك: ولا نسؤك "
- رواه مسلم في صحيحه.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا
[مريم:85 - 87]. أي المجرمون لا يستحقون أن يشفع لهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهدا، فكل من اتخذ عهدا عنده وجب دخوله في الآية، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهد التوحيد والإسلام، فوجب أن يكون داخلا. وأما اليهود فنترك العمل بها في حقهم لضرورة الإجماع.
ومن ذلك قوله تعالى في صفة الملائكة:
لا يشفعون إلا لمن ارتضى
[الأنبياء:28]. بيانه إن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله من حيث إيمانه وتوحيده، وكل من هو مرتضى عنده بحسب هذا الوصف صدق عليه أنه مرتضى عنده، لأن مفهوم المطلق جزء مفهوم المقيد، فمتى صدق المقيد صدق المطلق، فثبت أن المؤمن الفاسق مرتضى عند الله، فهو داخل في شفاعة الملائكة، ومن دخل في شفاعتهم دخل في شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ لا قائل بالفرق.
لا يقال: إن الفاسق ليس بمرتضى من حيث فسقه، وإذا لم يكن مرتضى من وجه لم يكن مرتضى، فوجب أن لا يكون أهلا للشفاعة بالبيان المذكور.
لأنا نقول: قد تقرر في العلوم العقلية أن المهملتين لا تتناقضان، فقولنا: " الفاسق مرتضى " لا يناقض قولنا: " إنه ليس بمرتضى " لجواز أن يكون مرتضى من وجه، غير مرتضى من وجه آخر. فمتى ثبت أنه مرتضى بحسب إسلامه ثبت كونه مرتضى، وإذا كان المستثنى مجرد كون أحد مرتضى، فوجب دخوله تحت المستثنى وخروجه عن المستثنى منه، فثبت أنه من أهل الشفاعة وهو المطلوب.
ومن ذلك قوله تعالى:
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم
[الرعد:6]. وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله)
" لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له " أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية: { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } [الرعد:6]. وفي تفسير قوله: { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [الضحى:5]. قال: " لا يرضى محمد (صلى الله عليه وآله) وأحد من امته في النار ".
وكان أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: أنتم أهل العراق تقولون: أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله:
يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
[الزمر:53] الآية ونحن أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
[الضحى:5].
وأما الأخبار: فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة، عجل عقابها في الدنيا الزلازل والفتن. وإذا كان يوم القيامة رفع إلى كل رجل من امتي رجل من أهل الكتاب، فقيل: هذا فداؤك من النار ".
وفي الخبر:
" لو لم يذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون ليغفر لهم "
وفي لفظ آخر:
" لذهب بهم وجاء بخلق آخر يذنبون فيغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم ".
وفي الخبر:
" لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شر من الذنوب "
قيل: " ما هو؟ قال: " العجب ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها ".
وفي الخبر:
" ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة ما خطرت قط على قلب أحد، حتى أن إبليس ليتطاول رجاء أن يصيبه ".
وفي الحديث الطويل:
" إن الأعرابي قال: يا رسول الله من يلي حسنات الخلق؟ فقال: الله تبارك وتعالى. قال: هو بنفسه؟ قال: نعم. فتبسم الأعرابي، فقال (صلى الله عليه وآله): مم ضحكت يا أعرابي؟ فقال: إن الكريم إذا قدر عفى، وإذا حاسب سامح. فقال (صلى الله عليه وآله): صدق. ألا ولا كريم أكرم من الله، هو أكرم الأكرمين ثم قال: فقه الأعرابي ".
وفي الخبر المشهور:
" إن الله كتب على نفسه قبل أن يخلق الخلق: " إن رحمتي تغلب غضبي " ".
وفي الحديث:
" من كان آخر كلامه " لا إله إلا الله " لم تمسه النار "
و
" من لقي الله لا يشرك به شيئا حرمت عليه النار ".
وفي خبر آخر:
" لو علم الكافر سعة رحمة الله ما أيس من جنته أحد ".
ولما تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [الحج:1] فقال: " أتدرون أي يوم هذا؟ يوم يقال لآدم: قم فابعث نصيب النار من ذريتك ". فقيل: " من كم؟ " قال: " من كل ألف تسعمأة وتسعة وتسعين إلى النار، ،وواحدا إلى الجنة ".
قال: فأيس القوم وجعلوا يبكون يومهم وتعطلوا عن الأشغال والعمل، فخرج عليهم رسول الله وقال: " ما لكم لا تعملون؟ " قالوا: " ومن يشتغل بالعمل بعد ما حدثتنا بهذا "؟ قال: " كم أنتم في الأمم؟ أين يأجوج ومأجوج امم لا يحصيها إلا الله تعالى؟ إنما أنتم في سائر الامم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وكالرقمة في ذراع الدابة ".
وفي رواية أبي سعيد، عن النبي (صلى الله عليه وآله):
"....ثم تضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم... فيمر المؤمن كطرفة العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب. فناج مسلم، ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم. حتى إذا خلص المؤمنون من النار.
فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار. فيخرجون خلقا كثيرا.
ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا.
ثم يقولون. ربنا لم نذر فيها خيرا... فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة - يقال له : نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل... فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتم. فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه ".
ومما رواه الثقات بروايات مختلفة أخصرها لفظا، أنه قال (صلى الله عليه وآله):
" إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض. فيأتون آدم، فيقولون: اشفع إلى ربك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم (عليه السلام) فإنه خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم (عليه السلام)، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى (عليه السلام)، فإنه كليم الله. فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى (عليه السلام) فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى (عليه السلام) فيقول: لست لها. ولكن عليكم بمحمد (صلى الله عليه وآله).
فيأتونني، فأقول: أنا لها. فأستأذن على ربي، فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن. فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدا. فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب امتي، امتي.
فيقال: انطلق، فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان.
فأنطلق، فأفعل. ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا. فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب أمتي، أمتي. فيقال: انطلق وأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان.
فأنطلق، فأفعل. ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر ساجدا. فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي، أمتي. فيقال: انطلق وأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار.
فأنطلق فأفعل، ثم أعود إليه الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال " لا إله إلا الله " قال: ليس ذلك لك. ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لاخرجن منها من قال: لا إله إلا الله ".
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على ثبوت الشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله)، وثبوت العفو منه تعالى أكثر منها، وهي أكثر من أن تحصى.
فصل
إن المعتزلة - القاطعين بنفي العفو والشفاعة - ذكروا في آيات الرجاء، وأحاديث الشفاعة تمحلات شديدة وتعسفات عنيفة، وقيدوا الحكم في كثير من الآيات باشتراط التوبة، وقالوا: في هذا الحديث ونظائره من أحاديث يوم القيامة وجوها من الايراد:
منها: إن هذه الأخبار أخبار طويلة جدا، فلا يمكن ضبطها بلفظ الرسول (صلى الله عليه وآله). فالظاهر أن الراوي إنما رواها بلفظ نفسه، وعلى هذا التقدير لا يكون شيء منها حجة
ومنها: إنها مشتملة على التشبيه وذلك باطل، فيتطرق بسببه التهمة إليها.
ومنها: إنها وردت على خلاف ظاهر القرآن، وذلك أيضا مما يطرق التهمة إليها.
ومنها: إنها خبر عن واقعة عظيمة تتوفر الدواعي على نقلها، فلو كان صحيحا لوجب بلوغه حد التواتر، وحيث لم يكن كذلك تطرقت التهمة إليها.
ومنها: إن الاعتماد على خبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن في المسائل العلمية غير جائز، وهذه المسألة علمية لا يعول فيها على الظن.
والجواب عن هذه المطاعن بأن كل واحد من هذه الأخبار، وإن كان مرويا بالآحاد، ولكن القدر المشترك بين مجموعها - لأنها كثيرة - فهو متواتر المعنى، فيكون حجة علمية.
وذكروا أيضا في استدلال القاطعين بثبوت الشفاعة بقوله (صلى الله عليه وآله):
" ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "
وجوها من الإشكال:
أحدها: إنه خبر واحد على مضادة القرآن، فإنا بينا ان كثيرا من الآيات تدل على نفي هذه الشفاعة، وخبر الواحد إذا ورد على خلاف القرآن وجب رده.
وثانيها: إنه يدل على أن شفاعته ليست إلا لأهل الكبائر، وهذا غير جائز، لأنه يقتضي حرمان أهل الثواب عن هذا النصيب.
وثالثها: إن المراد الاستفهام الانكاري، كقوله تعالى حكاية عن الخليل:
هذا ربي
[الأنعام:77]. أي: " أهذا ربي؟ " فالمراد: ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي؟
ورابعها: إن لفظ الكبيرة غير مختص بالمعصية، بل يتناول الشفاعة كما قال تعالى:
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
[البقرة :45] فلعل المراد منه أهل الطاعات الكبيرة.
وخامسها: إنه يصدق عليهم بعد التوبة أنهم من أصحاب الكبائر لأن صدق المشتق لا يقتضي دوام الاتصاف بمبدإ الاشتقاق، فنحن نحمل الخبر على أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة، ويكون تأثير الشفاعة في أن يتفضل الله عليهم بما انحبط من ثواب طاعاتهم المتقدمة على فسوقهم. هذه وجوه أجوبتهم وكلها تعسفات.
وجوه أخرى في تأييد مسألة الشفاعة
واعلم أن هاهنا وجوها أخرى نقلية وعقلية يمكن التمسك بها لهذا المطلب:
الأول: إن الآيات والأخبار الدالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة البتة كثيرة، وليس ذلك قبل دخول النار إن كان، فتعين أن يكون إما بعده، وهو مسألة انقطاع العذاب أو بدونه، وهو مسألة العفو التام كقوله:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
[الزلزلة:7]. و
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
[غافر:40].
وكقوله (عليه السلام):
" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة "
وما يجري مجراه.
وبالجملة: إذا دلت الآيات والأخبار على الوعد والوعيد، فلا بد من التوفيق بينهما، فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب، ثم إلى دار العقاب - وهو باطل بالاجماع - أو يصل إليه العقاب، ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى مخلدا وهو المطلوب هاهنا.
الثاني: النصوص المشعرة بالخروج من النار، كقوله:
النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله
[الأنعام:128].
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
[آل عمران:185].
وكقول النبي (صلى الله عليه وآله):
" يخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا وصاروا فحما وحميما، فينبتون كما ينبت الحبة في حميل السيل ".
الثالث: إن من واظب على الإيمان والعمل الصالح مأة سنة، وصدر عنه في أثناء ذلك، أو بعده جريمة واحدة، كشرب جرعة من الخمر، فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه أبد الآباد، ولو لم يكن هذا ظلما فلا ظلم، أو لم يستحق بهذا ذما، فلا ذم.
الرابع: إن المعصية متناهية زمانا - وهو ظاهر - وقدرا - لما يوجد من معصية أشد منها - فجزاؤها يجب أن يكون متناهيا، بخلاف الكفر فإنه لا يتناهى قدرا، وإن تناهى زمانه.
الخامس: إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات - وهو الإيمان - ولم يأت بما هو أقبح القبائح - وهو الكفر - فلا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي.
ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي: " إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة، فتوحيد سبعين سنة كيف لا يهدم معصية سنة؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي ".
وأما التمسك بأن " الخلود في النار أشد العذاب، وقد جعل جزاء لأشد الجنايات - هو الكفر - فلا يصح جعله جزاء لما هو دونه كالمعاصي " فهو ضعيف إذ ربما يدفع بتفاوت مراتب العذاب في الشدة، وإن لم يتفاوت في عدم الانقطاع.
فصل
سر الخلود في النار
واعلم أن تكرر المعاصي إذا تأدى إلى رسوخ ملكات سبعية، أو بهيمية، أظلمت مرآة القلب بها، ومنعت عن قبول نور الرحمة الإلهية، أو نور الشفاعة النبوية، أمكن القول بأن صاحب هذه الكبيرة مخلد في النار.
وهذا هو المشار إليه في قوله تعالى:
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته
[البقرة:81]. أي: صارت ملكة راسخة تصورت نفسه في القيامة بصورة حيوان غلبت عليه تلك الصفة، فحشرت نفسه بصورة القردة والخنازير.
وكذا صدور بعض المعاصي - ولو مرة - كقتل المؤمن متعمدا كاشف عن كون مرتكبه غير معتن بشأن الدين، ولا معتقد بأمر الآخرة.
فصل
في سر معنى الشفاعة
إن نسبة افاضة نور الوجود والرحمة إلى نور الأنوار - جلت عظمته - كنسبة افاضة النور المحسوس على وجه الأرض إلى الشمس. والقوالب كالقوابل، فهو سبحانه تام الفيض، عام الجود، فحيث لا يحصل، فإنما لا يحصل لعدم القابلية.
فكما أن النور الحسي الوارد من الشمس على سطوح الأجسام قد يكون استقاميا، وقد يكون انعكاسيا الأول: كوجه ظاهر الأرض في النهار. والثاني: كداخل البيوت إذا انعكس شعاع الشمس إليه من سطح الماء، أو الحائط الصقيل، أو كوجه الأرض في الليل إذا كان البدر موجودا، فإن نور القمر من نور الشمس، وقع فيه، وانعكس منه على وجه الأرض فكذلك فيض الرحمة الإلهية يقع على قوابل الماهيات استقاميا، وانعكاسيا.
فإن من الجائز أن لا يكون الشيء مستعدا لقبول فيض الوجود عن واجب الوجود لبعد مناسبته في ذاته، إلا أن يكون مستعدا لقبول ذلك الفيض من شيء كان قبله عن الواجب جل ذكره، فيكون ذلك الشيء كالمتوسط بين الواجب تعالى وبين ذلك الشيء الأول. فأرواح الأنبياء (عليهم السلام) كالوسائط بين نور الأنوار وبين أرواح العوام من الخلق في وصول نور الرحمة إلى الأرواح العامية، وهذا معنى الشفاعة.
فالإيمان بشفاعة الأنبياء لأممهم واجب - لأنها - كما علمت - نور يشرق من الحضرة الإلهية على جواهر النبوة، وينتشر منها إلى كل جوهر استحكمت علاقة مناسبتها مع جوهر النبوة لشدة المحبة والمتابعة، وكثرة المواظبة على السنن، وكثرة الذكر له بالصلاة عليه. وجوهر النبوة هو بعينه جوهر الروح القدسي الإلهي المسمى عند الفلاسفة بالعقل الفعال.
فكما أن المناسبات الوضعية بين المنير بالذات، والواسطة، والمستنير بها تقتضي الاختصاص بانعكاس النور الحسي - كما إذا وقع نور الشمس على الطست من الماء، وينعكس منه إلى موضع مخصوص من حائط البيت - لا على غيره - لمناسبة بينه وبين الماء في الوضع، وتلك المناسبة مسلوبة عن سائر أجزاء الحائط، وذلك الموضع هو الذي إذا خرج منه خط إلى ظاهر سطح الماء وحصلت بينه وبين ذلك السطح زاوية، هي بعينها مساوية لزاوية حصلت من الخط الخارج من موقع ذلك الخط إلى قرص الشمس وذلك السطح فكذلك المناسبة المعنوية إذا حصلت بين روح من الأرواح البشرية وبين جوهر النبوة تقتضي حصول فيض الرحمة بواسطة ذلك الجوهر.
فمن استولى عليه التوحيد والعرفان، فقد تأكدت مناسبته مع الحضرة الإلهية، وأشرق عليه النور من غير واسطة، ومن استولى عليه السنن، والاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيت النبوة والولاية (عليهم السلام)، ومحبتهم، ولم يترسخ قدمه في ملاحظة الوحدانية لم يستحكم مناسبته إلا مع الواسطة، فافتقر إلى واسطة في اقتباس النور. كما يفتقر الحائط الذي ليس بمكشوف للشمس إلى واسطة الماء المكشوف للشمس إلى مثل هذا.
فهذا هو سر الشفاعة والكلام وإن كان في صورة التمثيل، لكنه مما أقيم عليه البرهان، ولا شبهة فيه لأهل اليقين والعرفان.
[2.49]
لما قدم تعالى ذكر نعمته على بني إسرائيل إجمالا في قوله
اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم
[البقرة:40]. بين بعد ذلك تفصيل تلك النعم؛ ليكون أوقع في التذكير، وأبلغ في الحجة عطفا عليه، كأنه قال: " اذكروا نعمتي، واذكروا إذ أنجيناكم، وإذ فرقنا بكم البحر " كعطف جبرائيل، وميكائيل على الملائكة في قوله:
وملائكته ورسله وجبريل وميكال
[البقرة:98].
والإنجاء والتنجية بمعنى واحد وهو التخليص. ولهذا قرئ: { وأنجيناكم } ويقال للمكان المرتفع: " نجوة ". لأن الصائر إليه ينجو من كثير من المضار، ولأن المكان العالي بائن مما انحط عنه، فكأنه متخلص منه. وربما يفرق بينهما بأن الإنجاء يستعمل في الخلاص قبل وقوعه في المهلكة، والتنجية يستعمل في الخلاص بعد وقوعه في المهلكة.
وفي الكشاف: " أصل " آل " أهل. ولذلك يصغر بأهيل - ابدل هاؤه ألفا - وخص استعماله بأهل الخطر والشأن كالملوك وأشباههم. ولا يقال: آل الأسكاف والحجام ".
وحكى الكسائي: " اويل " فزعموا أنها ابدلت، كما قالوا: " هيهات " و " ايهات ". وقيل: " لا - بل هو أصل بنفسه ". وقال علي بن عيسى: " الأهل أعم من الآل. يقال: أهل الكوفة. وأهل البلد. وأهل العلم. ولا يقال: آل الكوفة. وآل البلد. وآل العلم ". قال أبو عبيدة: " سمعت أعرابيا فصيحا يقول: أهل مكة آل الله. فقلنا: ما تعني بذلك؟ قال: أليسوا مسلمين؟ المسلمون آل الله ". وقال ابن دريد: " آل كل شيء شخصه. وآل الرجل أهله وقرابته ".
والظاهر الآل مأخوذ من الأول - وهو الرجوع - فكل من يؤول إلى أحد بنسب أو قرابة جسمانية أو معنوية فهو آله. وأهله: كل من يضمه بيته.
قال بعض الأفاضل: " آل النبي كل من يؤول إليه. وهم قسمان: الأول: من يؤول إليه مآلا صوريا جسمانيا، كأولاده ومن يحذو حذوهم من أقاربه الصوريين، الذي يحرم عليهم الصدقة. والثاني: من يؤول إليه مآلا معنويا روحانيا، وهم أولاده الروحانيون من العلماء الراسخين، والأولياء الكاملين، سواء سبقوا بالزمان أو لحقوه.
ولا شك أن النسبة الثانية آكد من الأولى، وإذا اجتمعت النسبتان كان نورا على نور، كما في الأئمة المشهورين من العترة الطاهرة - صلوات الله عليهم أجمعين -.
وكما حرم على الأولاد الصوريين الصدقة الصورية، " حرم على الأولاد المعنويين الصدقة المعنوية، أعني تقليد الغير في العلوم والمعارف " انتهى كلامه تلخيصا.
وآل الخيمة: عمده. وآل السفينة: ألواحه. وآل الجبل: أطرافه ونواحيه.
وفرعون: اسم لملك العمالقة. كما يقال لملك الروم: قيصر، ولملك القرس: كسرى، ولملك الترك: خاقان، ولملك اليمن: تبع.
فهو على هذا بمعنى الصفة. ولعتوهم اشتق منه " تفرعن الرجل " إذا عتى. ويقال لهم: الفراعنة.
وقيل: إن اسم فرعون مصعب بن ريان، وقيل: هو ابنه، واسمه وليد ابن مصعب من بقايا عاد، وفرعون يوسف: ريان، وكان بينهما أكثر من أربع مأة سنة. وقال وهب: " انهما واحد " وهو غير صحيح. وذكر ابن منبه: أن أهل الكتابين قالوا: اسمه قابوس. وكان من القبط، وربما ينسب إلى العلم ويسمى " افلاطون القبط ". وقال ابن اسحق: هو من أشد الفراعنة.
{ يسومونكم } أي يبغونكم. من سامه خسفا إذا أولاه ظلما. وأصله من السوم، وهو الذهاب إلى طلب السلعة.
{ سوء العذاب }: أفظعه، فإنه يقبح بالقياس إلى سائره، وهو مصدر " ساء، يسوء ". ونصبه على المفعول. والجملة حال من الضمير في { أنجيناكم } أو من { آل فرعون } لأن فيها ضمير كل منهما.
واختلف أهل التفسير في العذاب الذي نجاهم الله تعالى منه، فقال بعضهم: ما ذكر في الآية وهو قوله: { يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم } بيانا ل { يسومونكم } ولهذا لم يعطف.
وقال بعضهم: إنه جعلهم خولا وخدما، وجعلهم في أعماله أصنافا. فصنف كانوا يخدمونه، وصنف يحرثون له، وصنف يزرعون له، ومن لا يصلح منهم للعمل ضربوا عليهم الجزية. وكانوا مع ذلك يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم ويدل عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم:
يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم
[إبراهيم:6]. فعطفه على ذلك دلالة على التغاير. والمعنى: " يقتلون أبناءكم ويستبقون بناتكم " أي يدعونهن أحياء ليستعبدن، وينكحونهن على وجه الاسترقاق وهذا أشد من الذبح.
وإنما لم يقل: " بناتكم " لأنه سماهن بالإسم الذي يؤول حالهن إليه. وقيل: إنما قال { نسآءكم } على التغليب، فإنهم كانوا يستبقون الصغار والكبار منهن.
وقرئ يذبحون - بالتخفيف -.
وقيل: أراد بقوله: { يذبحون أبنآءكم } الرجال البالغين دون الأطفال، ليكون في مقابلة النساء لأنهن البالغات، وذلك لأنهم الذين يخاف منهم الخروج والتجمع دون الأطفال.
وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال - دون الرجال - وهو أولى بوجوه من التأييد: لحمل اللفظ على ظاهره. وللشهرة. ولتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم، ولحاجة فرعون وقومه إليهم في صنائعهم الشاقة الصعبة قال السدي: كان قد جعلهم في الأعمال القذرة الصعبة، ككنس المبرز، وعمل الطين، ونحت الجبال ولأنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى (عليه السلام) في التابوت حال صغره معنى.
وأما وجه مقابلة الأبناء مع النساء فقد مرت الإشارة إليه، وهي أن البنات لما لم يقتلن، ووصلن إلى حد النساء، صح عليهن إطلاق النساء حقيقة ومجازا، باعتبار ما يؤلن. وأما البنين فلما قتلوا حال الطفولية ولم يبلغوا لم يصح إطلاق الرجال عليهم لا في الحال، ولا بحسب المآل.
فصل
سبب قتل الأبناء، وسره
لا بد في قتل الأبناء من سبب صوري داع لفرعون عليه - لأنه كان من العقلاء والعاقل لا يختار شيئا إلا لمرجح باعتقاده - ومن سبب حكمي، فإن الله تعالى لا يقضي بقتل طائفة إلا لحكمة:
أما الأول فذكروا فيه وجوها:
الأول: إن فرعون رأى في المنام كأن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل. فهاله ذلك ودعا السحرة والكهنة، فسألهم عن رؤياه. فقالوا: إنه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك. فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل عن السدي.
الثاني: قول ابن عباس: إنه وقع إلى فرعون وتبعته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء ملوكا. فخافوا واتفقت كلمتهم على إعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه. فلما رأوا أن كبارهم يموتون وصغارهم يذبحون فخافوا الفناء، فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقة، فصاروا يقتلون عاما دون عام. فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك. وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها.
الثالث: إن المنجمين أخبروا فرعون بذلك، وعينوا له السنة، فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السنة.
وخير هذه الأقوال أوسطها، لأن الذي يستفاد من علم التعبير، وعلم النجوم لا يكون أمرا مفصلا، وإلا قدح في كون الإخبار عن الغيب معجزا. بل يكون أمرا مجملا تخمينيا. والظاهر من حال الرجل العاقل أن لا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه.
فإن قيل: إن فرعون - مع كفره - كيف أقدم على هذا الأمر بسبب اخبار إبراهيم (عليه السلام)؟
يقال: لعله كان عارفا بالله، وبصدق رسله، إلا انه كان كافرا - كفر الجحود والعناد - أو كان شاكا في دينه، مجوزا لصدق ذلك، ففعل ما فعل احتياطا.
وأما الثاني: فقد أشار بعض أصحاب الكشف والمعرفة إلى هذه اللمية بقوله في الفص الموسوي من كتابه المسمى بفصوص الحكم: " حكمة قتل الأبناء من أجل موسى (عليه السلام) ليعود إليه بالإمداد حياة كل من قتل من أجله، لأنه قتل على أنه موسى - وما ثم جهل - فلا بد أن تعود حياته إلى موسى، أعني حياة المقتول من أجله، وهي حياة طاهرة على الفطرة، لم تدنسها الأغراض النفسية، بل هي على فطرة " بلى " ، فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنه هو، فكل ما كان مهيئا لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له كان في موسى (عليه السلام)، وهذا اختصاص إلهي بموسى لم يكن لأحد قبله " - انتهى كلامه -.
واعلم أن أرواح الكمل من الأنبياء والأولياء كلية لا بمعنى أنها مفهومات كلية بل بمعنى أن كلا منها مع شخصيته ووحدته، له مقام جمعي، يجمع شؤونات الأفراد، لقوة وجوده، وكماله، وتمامه، فالوجود كلما قرب إلى الوحدة الجمعية الإلهية، صار أكثر حيطة، وأجمع أعدادا، كما أن الإنسان الواحد له نفس واحدة جامعة لجميع القوى النباتية والحيوانية، وذلك لأن وجودها أعلى مرتبة من وجود النفوس النباتية والحيوانية، فيحيط بها، ويستحفظها، ويستخدمها. وكذلك حال أرواح الأنبياء بالقياس إلى أرواح أممهم.
فإذا وقع في العالم وباء، أو موتان. أو قتل عام، يحدث عند ذلك شخص عظيم من عظماء النبوة، أو الملك، أو الحكمة، لرجوع قوى نفوسهم إلى قوة نفس واحدة، كما إذا وقع فساد في بعض القوى الحساسة والمحركة في الإنسان، يرجع قوته إلى ما سواه من القوى بالإمداد والجمعية، بل الوجود كله من عين واحدة - يجمع تارة وينتشر أخرى -.
فهذه هي الحكمة التي ذكروها في هذا المقام. قال الشيخ العطار:
صد هزاران طفل سر ببريده شد
تاكليم الله صاحب ديده شد
قال بعض المحققين: " اعلم أن التعينات اللاحقة للوجود بعضها كلية معنوية كالتعينات الأولية اللاحقة للوجود بحسب الفطرة الأولى، وهي التي يتعين بها أسماء الله الحسنى أولا، سواء كانت جنسية أو نوعية، وبعضها شخصية كتعينات الطبائع النوعية الواقعة بحسب الفطرة الثانية في عالم الحركات، وهي التي منشؤها اختلاف العوارض، والاستعدادات اللاحقة للإعداد من جهة استعداد المواد.
والتعينات الأولية تقتضي في عالم الأرواح حقائق روحانية مجردة، وطبائع كلية، وأولها وأقدمها التعين الأول، والمسمى بالعقل الأول، وام الكتاب والقلم الأعلى، والنور المحمدي، لقوله (صلى الله عليه وآله):
" أول ما خلق الله العقل "
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" أول ما خلق الله نوري ".
وهو يتفصل بحسب التعينات والتنزلات الأولية الروحانية إلى العقول السماوية، والأرواح العلوية، والكروبيين، وأرواح الكمل من الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).
فالعقل الأول تعين كلي، يشمل جميع هذه التعينات، التي كل منها أيضا كلي بالإضافة إلى ما دونها، ويمدها ويفيض عليها النور والحياة، وقياس احاطته الوجودية لتلك العقول والأرواح الكلية، كقياس الإحاطة العمومية لجنس الأجناس بالنسبة إلى سائر الأجناس والأنواع التي تحته.
وقد علمت أن الكلية في هذا المقام تستعمل بمعنى آخر، فلا تخلط ولا تخبط، فإن الأرواح المتعينة بالتعينات الكلية الأسمائية، من المجردات العقلية، والنفوس الملكية، والفلكية، والأرواح النبوية، ممدات ومفيضات لما تحتها من الأرواح الجزئية، المتعينة بالتعينات البشرية، وحاكمة عليها، وسائسة لها سياسة الأنبياء (عليهم السلام) أممها. فنفوس الأمم بالنسبة إليها كالقوى الجسمانية، والنفسانية، بالنسبة إلى أرواحنا المدبرة لأبداننا.
وإذا تقرر هذا فنقول: أرواح الأنبياء هي المتعينة بالتعينات الكلية في الصف الأول، وأرواح أممهم - بل كثير من الملائكة والأرواح والنفوس الفلكية - كالقوى، والأعوان، والخدم بالنسبة إليهم.
ومن هذا يعرف سجود الملائكة لآدم أبي البشر (عليه السلام)، وسر طاعة الجن والإنس لسليمان (عليه السلام)، وسر امداد الملائكة لمحمد (صلى الله عليه وآله) في قوله:
ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة
[آل عمران:124].
فعلى هذا كانت الأبناء الذي قتلوا في زمان ولادة موسى (عليه السلام)، هي الأرواح التي كانت تحت حيطة روح موسى (عليه السلام)، وفي حكم أمته، وأعوانه، وخدمه.
فلما أراد الله تعالى اظهار آيات الكلمة الموسوية، ومعجزاتها، وحكمها، وأحكامها، قدر الأسباب العلوية والسفلية من الأوضاع الفلكية، والحركات العلوية، المعدة للمواد السفلية، والامتزاجات العنصرية، وكان علماء القبط، وحكماؤهم، أخبروا فرعون وقومه، أنه يولد في هذا الزمان مولود من بني إسرائيل، يكون هلاك فرعون، وذهاب ملكه على يده. فأمر فرعون بقتل كل من يولد في هذا الزمان من الأبناء، حذرا مما قضى الله تعالى وقدر، ولم يعلم أن لا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
فكان ذلك سببا لاجتماع تلك الأرواح في عالمها، وانضمامها إلى روح موسى، وعدم تفريقها، وانبثاثها عنه بالتعلق البدني، فيتقوى بهم، ويجتمع فيه خواصهم. وكل ذلك اختصاص من الله لموسى، فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة باتصال تلك الأرواح متوجهة إليه بمحبتها، ونوريتها، خادمة له، ولهذا كان محبوبا إلى كل من يراه، لنوريته، بتشعشع أنوار تلك الأرواح منه " انتهى كلامه.
أقول: ولا يتوهمن أحد أن المراد من هذا الكلام أن أرواح المواليد المقتولين انتقلت بعد القتل، وصارت بعينها مجتمعة في عالم الأرواح، وحصل من اجتماعها روح موسى (عليه السلام) - كما يوهمه ظاهر الكلام - فإن ذلك ليس بصحيح، إذ الأرواح ليست كالأجسام - تقبل الافتراق والاجتماع - وأيضا انتقالها من أبدانهم إلى بدن موسى (عليه السلام) يقتضي التناسخ، وهو مستحيل عندنا.
بل الغرض أن القوة النورية الفائضة من الله تعالى بوساطة الأسباب العلوية، المنبسطة على المواد العنصرية في كل زمان، كأنها مبلغ واحد قوة وشدة، لا كمية ومقدارا.
وهذه القوة إذا صادفت قوابل كثيرة، واستعدادات مختلفة متفننة، انصرفت بإذن الله إليها، وتفرقت تفرقا معنويا حسب تفريق المواد الصالحة لها، وإذا بطلت المواد الكثيرة، ورجعت قواها، وأرواحها الجزئية إلى عالمها ومرجعها، ثم حصل في الوجود قابل صالح لفيضان تلك القوة النورية الوجودية، انصرفت بكليتها إليه، فصارت القوة الفائضة كأنها مجموع تلك القوى والأرواح، لا أنها هي هي بعينها من حيث هوياتها المتعينة الشخصية وإلا لزم التناسخ كما علمت.
فصل
قوله تعالى: { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم }
{ بلاء } أي محنة، إن اشير ب " ذلكم " إلى صنيعهم من قتل الأبناء، واستحياء النساء، لما في كل منهما من المحنة العظيمة. أو نعمة، إن اشير به إلى الإنجاء من الله.
وأصل البلاء الاختبار، لكن لما كان اختبار الله عبادة تارة بالمحنة، وتارة بالمنحة، أطلق على كليهما. فالمراد من { بلاء من ربكم } إما بتسليط فرعون وقومه عليكم. وإما ببعث موسى وتوفيقه لتخليصكم بإيحاء الله إليه للإنجاء.
و { عظيم } صفة بلاء.
وقيل: في هذه الآية تنبيه بليغ للعبد المؤمن على أن ما يصيبه من خير أو شر فهو اختبار من الله تعالى، فعليه القيام بالشكر على مساره، وبالصبر على مضاره، ليكون من خير المختبرين، وحاله أحسن الحسنين. وإياه والغرور بالمسار، والشكاية من المضار، ليكون شر المختبرين، وحاله أقبح القبيحين.
[2.50]
هذه هي النعمة الثانية من الله على بني إسرائيل، المذكورة في هذا الموضع.
قوله: { فرقنا } أي فلقناه وفصلنا بين أبعاضه حتى حصلت فيه مسالك لكم، إذ الفرق هو الفصل بين شيئين إذا كانت بينهما فرجة، والفرق: الطائفة من كل شيء ومن الماء إذا تفرق بعضه عن بعض، فكل طائفة من ذلك فرق. ومنه قوله تعالى:
فكان كل فرق كالطود العظيم
[الشعراء:63] وقرئ: إذ فرقنا - بالتشديد - قال ابن جني: فرقنا أشد تفريقا ن فرقنا. فمعنان: شققنا بكم البحر، لأن المسالك كان إثنا عشر على عدد الأسباط.
وقوله: { بكم } الباء إما للسببية الفاعلية، أي حصلت فيه فرق، ومسالك بسلوكهم فيه كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، أو الغائية، أي بسبب إنجائكم ولأجله. أو للملابسة، ويكون في موضع الحال، أي فرقناه متلبسا بكم، كقول الشاعر:
" تدوس بنا الجماجم والتريبا "
أي: تدوسها ونحن راكبوها.
والنجاة: ضد الغرق، كما أنها ضد الهلاك. و " أغرق في الأمر " إذا جاوز الحد فيه.
والمراد من { آل فرعون } هو وقومه، فاختصر لدلالة الكلام عليه، لأن الغرض مبني على إهلاك فرعون وقومه، كقولك: " دخل جيش الأمير ". ويكون الظاهر أنه معهم. ويجوز أن يراد بآل فرعون شخصه، كقوله تعالى:
آل موسى وآل هارون
[البقرة:248]. يعني موسى، وهارون.
وقوله: { وأنتم تنظرون } أي تشاهدون غرقهم، وإطباق البحر عليهم. وهذا أبلغ في الشماتة، وإظهار المعجزة، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة. وقيل: جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل. وقيل: معناه ينظر بعضكم بعضا، بحدوث الكوى والروازن في فرق البحر. وقيل معناه: وانتم بمشهد ومنظر منهم، حتى لو نظرتم إليهم لأمكنكم ذلك. وهو قول الزجاج.
ولا يخفى ضعفه، إذ لم يكن لأصحاب موسى (عليه السلام) ما يشغلهم عن الرؤية، فإنهم قد جاوزوا البحر، وأقوال المفسرين متظاهرة على أنهم رأوا انفراق البحر، والتطام أمواجه بآل فرعون حتى غرقوا. فلا وجه للعدول عن الظاهر.
قصة غرق فرعون
والقصة - كما روي عن ابن عباس: إن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر. فسرى بهم ليلا، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. وكان موسى في ستمأة ألف وعشرين ألفا. فلما عاينهم فرعون قال:
إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغآئظون وإنا لجميع حاذرون
[الشعراء:54 - 56].
فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا: " يا موسى
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا
[الأعراف:129] هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه ".
فقال موسى (عليه السلام):
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون
[الأعراف:129]. فقال له يوشع بن نون: " بم امرت "؟ قال: " امرت ان أضرب بعصاي البحر " قال: " إضرب ".
وكان الله تعالى أوحى إلى البحر " أن أطع موسى إذا ضربك " قال: فبات البحر أفكل - أي رعدة - لا يدري في أي جوانبه يضربه. فضرب بعصاه البحر فانفلق. وظهر اثنا عشر طريقا، لكل سبط منهم طريق.
فقالوا: " إنا لا نسلك نديا " فأرسل الله ريح الصبا حتى جففت الطريق، كما قال تعالى:
فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا
[طه:77]. فجروا فيه.
فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض " مالنا لا نرى أصحابنا " فقالوا لموسى: " أين أصحابنا "؟ فقال: " في طريق مثل طريقكم " فقالوا: " لا نرضى حتى نراهم " فقال موسى (عليه السلام): " اللهم أعني على أخلاقهم السيئة ". فأوحى الله إليه أن أشر بعصاك هكذا وهكذا - يمينا وشمالا - فأشار بعصاه يمينا وشمالا، فظهر كالكوى ينظر منها بعضهم إلى بعض.
فلما انتهى فرعون إلى ساحل البحر - وكان على فرس حصان أدهم - فهاب دخول الماء، تمثل له جبرائيل على فرس انثى وديق، وتقحم البحر. فلما رآها الحصان تقحم خلفها، ثم تقحم قوم فرعون، فلما خرج آخر من كان مع موسى من البحر ودخل آخر من كان مع فرعون البحر، أطبق الله عليهم الماء فغرقوا جميعا، ونجا موسى ومن معه.
فصل
اعلم أن هذه القصة قد تضمنت نعما كثيرة دنيوية ودينية، والدينية في حق قوم موسى، وقوم محمد صلى الله عليهما وآلهما.
أما الدنيوية لهم:
فمنها: نجاتهم عن الغرق، وإهلاك عدوهم وقومه.
ومنها: اختصاصهم بهذه المعجزة الباهرة، والكرامة الظاهرة.
ومنها: استئصال عدوهم من جهتهم. وأصل الخلاص من مثل هذا البلاء نعمة عظيمة، فكيف إذا قورن بالإكرام العظيم وإهلاك العدو.
ومنها: أن أورثهم أرضهم، وديارهم، ونعمهم، وأموالهم.
ومنها: أنه كما غرق العدو وهلك، غرق آله جميعا وهلكوا، وإلا لكان الخوف بعد باقيا من حيث إنهم ربما اجتمعوا، واحتالوا بحيلة وقع منها الضرر بهؤلاء، ولكن لما أهلكم الله جميعا فقد حسم مادة الخوف بالكلية.
ومنها: أنه وقع ذلك بمحضر من الأولياء والأعداء جميعا، حتى لا يخفى على أحد منهم، وهذا يوجب ابتهاجا عظيما، وإليه الإشارة بقوله: { وأنتم تنظرون } إلى غير ذلك من النعم الدنيوية.
وأما النعم الدينية في حق قوم موسى عليه السلام:
فمنها: أنهم لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة حصل لهم العلم الضروري على وجود الصانع الحكيم، وعلى صدق موسى (عليه السلام)، وزالت عنهم الشكوك، فكأنه تعالى رفع عنهم كلفة النظر الدقيق، والاستدلال الشاق.
ومنها: أنهم لما عاينوا ذلك لزمهم الانقياد والطاعة لموسى (عليه السلام) وقبول قوله، ولهم في ذلك سعادة الدارين.
ومنها: عرفوا أن الأمور كلها جارية على قضاء الله وقدره، فإنه لا عزة في الدنيا أكمل من عزة فرعون، ولا شدة أشد مما كانت لبني إسرائيل، ثم الله تعالى قلب الأمر في ساعة واحدة، فجعل العزيز ذليلا، والذليل عزيزا، وذلك يوجب انقطاع القلب عما سوى الله، والاقبال بالكلية إلى خدمته، وطاعته، والتوكل عليه.
وأما النعم الحاصلة لهذه الأمة المرحومة منها فكثيرة:
أحدها: أنها جاءت حجة لنا على أهل الكتاب، لأنه كان معلوما من حال نبينا أنه كان اميا لم يقرأ ولم يكتب. فإذا أخبرهم بما لا يعلم إلا من الكتب علموا أنه أخبر عن الوحي، فصار دينه حقا.
وثانيها: أنا إذا تصورنا ما جرى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أن من أطاع الله فقد سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفه فقد استحق غضب الله عليه في الدنيا والآخرة، فصار ذلك مقربا لنا من الطاعة ومبعدا عن المعصية.
وثالثها: أن أمة موسى (عليه السلام) مع هذه المعجزات الباهرة، والكرامات المحسوسة الظاهرة، خالفوه في أمور حتى قالوا له:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف:138] وأما هذه الأمة فمع كون معجزتهم هي القرآن الذي خفي اعجازه، ولا يظهر إلا بالنظر الدقيق انقادوا للنبي (صلى الله عليه وآله) في كل الأحكام، وما خالفوه في شيء البتة، وهذا يدل على أنهم أفضل من أمة موسى (عليه السلام).
وبهذا يخرج الجواب عن اشكال ربما خطر بالبال، وهو أن يقال: كيف لم يعط الله تعالى نبينا (صلى الله عليه وآله) مثل ما أعطى موسى (عليه السلام) من الآيات الباهرات، لتكون الحجة أظهر، والشبهة أسقط؟
لأنا نجيب: بأن الله أعطى كل نبي معجزة مناسبة لقومه وعلى حسب صلاح حالهم، فنصب الأعلام الباهرة، والمعجزات القاهرة لاستصلاح أمة موسى (عليه السلام)، وقد كان في قومه من فظاظة القلب، وبلادة النفس، وكلالة الحدس، ما لم يمكنهم معه الاستدلال بالآيات الخفية، والبراهين العقلية. ألا ترى أنهم لما عبروا النهر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا - بعد ما شاهدوا من هذه الآيات -:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون
[الأعراف:138].
وكان في العرب والعجم من أمة نبينا (صلى الله عليه وآله) من جودة القريحة، وحدة الفطنة، وذكاء الذهن، ما كان يمكنهم معه الاستدلال بالفكر، واقتناص الحقائق بالنظر الدقيق، والتفطن بما يحتاج إلى التأمل والتدبر، والاستفادة بنور العقل الفعال في ملاحظة الآيات، فجاءت آياتهم مشاكلة لقرائحهم المتوقدة، ومجانسة لأذهانهم من الدقة والحدة.
على أن في جميعها من الحجة الظاهرة، والبينة الزاهرة ما ينفي خلاج الشك عن قلب الناظر المستبين، ويفضي به إلى فضاء العلم اليقين، ويوضح له مناهج الصدق، ويولجه موالج الحق، وما يستوي الأعمى والبصير.
ولا ينبئك مثل خبير.
فصل
سؤال آخر: وهو إن فرعون - كما هو المشهور - كان من أهل الفكر والبحث، وقد لقب ب " أفلاطون القبط " فلما شاهد فلق البحر - وكان من العقلاء - فلا بد وأن يعلم أن ذلك من فعل الله، ومن فعل عالم قادر لما يشاء، مخالف لسائر القادرين، فكيف بقي على الكفر مع ذلك؟
وأجيب: بأنه كان عارفا بربه، إلا أنه كان كافرا على سبيل الجحود والعناد.
ورد بأنه إذا عرف ذلك بقلبه، فكيف استجاز تورط نفسه في الهلاك واقتحم البحر؟!
وأجيب: بأن حب الشيء يعمي ويصم، فحبه للجاه والتلبيس، حمله على اقتحام تلك المهلكة.
وهذا الجواب ليس بشيء. والأولى أن يقال: إن اقتحام البحر لم يكن باختياره، بل وقع ذلك باقتحام حصانه الذي ركبه، كما مر في القصة. أو يقال: إنه لم يجزم بهلاك نفسه عند دخوله في البحر حتى إذا أدركه الغرق، ولهذا قال عند الغرق:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل
[يونس:90].
إيمان فرعون مقبول، أم لا؟
واعلم أنه للعلماء خلاف في أن إيمان فرعون حين موته مقبول أم لا؟ فذهب بعض المحققين على الأول، والأكثر على الثاني كما هو المشهور.
وقال الشيخ ابن عربي في الباب السابع والستين ومأة من الفتوحات:
" لما حال الغرق بينه وبين أطماعه، لجأ إلى ما كان مستسرا في باطنه من الذلة والافتقار... فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين كما قالت السحرة
آمنا برب العالمين رب موسى وهارون
[الشعراء:47 - 48]. وقوله: { وأنا من المسلمين } خطاب منه للحق، لعلمه أنه تعالى يسمعه ويراه، فخاطبه الحق بلسان العتب، وأسمعه { آلآن } أظهرت ما كنت تعلمه
وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
[يونس:91] في اتباعك. وما قال له: { وكنت من المفسدين } فهي كلمة بشرى له عرفنا بها؛ لنرجو رحمته مع اسرافنا واجرامنا، ثم قال
فاليوم ننجيك ببدنك
[يونس:92] فبشره قبل قبض روحه
لتكون لمن خلفك آية
[يونس:92] يعني: لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثلما كانت لك.
وليس في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع، ولا أن إيمانه لم يقبل وإنما في الآية أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال رؤيته إلا قوم يونس. فقوله:
فاليوم ننجيك ببدنك
[يونس:92] إذ العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك، وقد أريت الخلق نجاته من العذاب، فكان ابتداء الغرق عذابا، فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصية، فقبضت على أفضل عمل، وهو التلفظ بالإيمان - كل ذلك - حتى لا يقنط أحد من رحمة الله.
والأعمال بالخواتيم. فلم يزل الإيمان بالله يجول في باطنه، وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية، فلم يدخلها قط كبرياء.
وأما قوله تعالى:
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا
[غافر:85] فكلام محقق في غاية الوضوح، فإن النافع هو الله، فما نفعهم إلا الله.
وقوله:
سنت الله التي قد خلت في عباده
[غافر:85]. يعني الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد. وقد قال تعالى:
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها
[الرعد:15] فغاية هذا الإيمان أن يكون كرها، وقد أضافه الحق إليه. والكراهة محلها القلب، والإيمان محله القلب. والله لا يأخذ العباد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها، بل يضاعف له فيها الأجر. وأما في هذا الموطن، فالمشقة فيه بعيدة، بل جاء طوعا في إيمانه، وما عاش بعد ذلك كما قال في راكب البحر عند ارتجاجه
ضل من تدعون إلا إياه
[الإسراء:67]. فنجاهم، فلو قبضهم عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة، فقبض فرعون ولم يؤخر في أجله في حال إيمانه لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى.
وأما قوله تعالى:
فأوردهم النار
[هود:98]. فما فيه نص أنه يدخلها معهم، بل قال:
أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
[غافر:46] ولم يقل: " أدخلوا فرعون وآله " ، ورحمة الله أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطر إذا دعاه. وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون حال الغرق، والله يقول:
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء
[النمل:62]. وهذا آمن بالله خالصا، وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض، أو يحال بينه وبين هذا الإخلاص، فرجح جانب لقاء الله على البقاء بالتلفظ بالإيمان، وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة.
هذا ما يعطي ظاهر اللفظ. وهذا معنى قوله:
إن في ذلك لعبرة لمن يخشى
[النازعات: 26]. يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى. وقدم ذكر الآخرة ليعلم أن ذلك العذاب - أي الغرق - نكال الآخرة، وهذا هو الفضل العظيم " انتهى كلامه.
ويفوح من هذا الكلام رائحة الصدق، وقد صدر من مشكاة التحقيق، وموضع القرب والولاية.
تنبيه
قد ذكر هاهنا إشكال: وهو أن فلق البحر بضرب عصا من موسى (عليه السلام) والدلالة على وجود الصانع وقدرته كالأمر الضروري، فكيف يجوز فعله في زمان التكليف؟
والجواب: أما على طريقة الأشاعرة فظاهر. وأما على طريقة المعتزلة: فقد أجاب الكعبي بأن عامة بني إسرائيل كانت بعيدة العهد عن الفطنة والذكاء، ممنوة بالبلادة، والفظاظة، وقصور الفهم. فلا جرم احتاجوا في التنبه على حقية الإيمان بالله، ورسله، إلى معاينة الآيات العظام، كفلق البحر، ورفع الطور فوقهم، وإحياء الموتى.
ألا ترى أنهم مع ذلك لم يقنعوا بهذه الدلائل الباهرة، فتارة قالوا:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف:138]. وتارة قالوا:
ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة:55]. وأخرى:
اتخذوا العجل
[النساء:153]. إلها لهم. وأخرى:
كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق
[البقرة:61]. كل ذلك لغلبة الكثافة على طبائعهم، والغشاوة على بصائرهم، والطبع والرين على قلوبهم.
وأما هذه الأمة فلذكاء عقولهم، وصفاء قلوبهم، كانوا على خلاف ذلك، فلا جرم وقع الاقتصار معهم على الآيات الدقيقة، والمعجزات العقلية.
وأما على طريقتنا فنقول: ليس في فلق البحر، وقلب العصاء حية، وما يجري مجراهما، زيادة على الدلالة على صدق موسى (عليه السلام) في جميع ما يدعيه، من إثبات الإله الحق، وادعاء النبوة، وغير ذلك بالدليل العقلي، وأما كون ذلك من الضروريات التي لا حاجة معها إلى البرهان النير العقلي فغير مسلم، كيف وقد ثبت في علم الميزان: " إن المحسوس - بما هو محسوس - لا يكون كاسبا لشيء ولا مؤديا إلى مطلوب " فليس من المحسوس حد لشيء، ولا برهان على شيء، كما ليس له حد ولا عليه برهان.
وهذا أمر محقق عند أئمة الحكمة والتحقيق، ولذا قال بعض: " الدين الحاصل بالمعجزة دين اللئام " ، وحاشا المؤمن المتيقن أن يكون بناء إيمانه ويقينه على رؤية المعجزة الفعلية من الرسول. بل بناء ذلك على البرهان العقلي، أو الشهود الباطني الذي لا يعتريه وصمة شك، وشوب ريب. وأما انفلاق البحر وغيره فمما للشبهة فيه مجال - كما لا يخفى على أهل البحث -.
ثم إن العلم الضروري، والكشف الحاصل للإنسان يوم القيامة، نحو آخر من العلم لم يحصل مثله من انفلاق البحر وغيره، لأن ذلك مما يحصل برؤية الأسباب والعلل. ومشاهدتها وظهور الأسباب بأعيانها ليس مثل العلم بها من جهة آثارها.
[2.51]
الوعد، والموعد، والوعيد والعدة، والموعدة مصادر. والفعل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما. والمفعول الثاني فيه إما { أربعين ليلة } أو المقدر، وهو أن يعطيه الله التوراة ونحو ذلك، لأنه لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله موسى أن ينزل عليهم التوراة.
و { وعدنا } قراءة أهل البصرة وأبي جعفر، وقرأ الباقون { واعدنا } - بالألف - وكذا في الأعراف، وطه.
أما حجة من قرأ بغير الألف فواضح، لأن الوعد كان من الله، والمواعدة لا تكون إلا من الجانبين. وأما حجة الباقين فوجوه:
أحدها: إن الوعد وإن كان من الله، فقبوله كان من موسى (عليه السلام)، وقبول الوعد يشبه فعل الوعد. وهذا كما يطلق أهل الميزان النقيض لكل واحدة من القضيتين اللتين أحدهما سلب للأخرى، مع أن نقيض الشيء رفعه، فيكون السالبة نقيضا للموجبة - دون العكس - إلا أنه أطلق عليهما المتناقضتان باعتبار أن أحدهما رفع، والأخرى مرتفعة به، ففيها أيضا معنى الرفع في الجملة، وبهذا القدر صح إطلاق المتناقضتين عليهما، وإن لم يصح إطلاق النقيضين على كل منهما بانفراده، وكذا الحكم في الزوجين والمتممين، حيث إن لكل منهما مدخلا في الزوجية والتتميم.
وثانيها: إنه لا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله تعالى، بمعنى أنه يعاهد الله.
وثالثها: إن الله تعالى وعده الوحي، وهو وعد الله المجيء للميقات إلى الطور وهذا أقوى. والقراءتان جميعا قويتان.
و { موسى } اسم مركب من اسمين بلغة القبط، ف " مو " هو الماء. و " سى " الشجر. سمي بذلك لأن التابوت الذي كان جعلت أم موسى إياه فيه - حين خافت من فرعون، وألقته في البحر، فدفعته الأمواج بين أشجار عند بيت فرعون - وجدته جواري آسية امرأة فرعون عند الماء والشجر، وقد خرجن ليغتسلن بذلك المكان، فسمي (عليه السلام) باسم المكان الذي وجد فيه، وهو الماء والشجر.
وهذا أصح الأقوال. وفيه وجهان آخران مقدوحان:
أحدهما: إن وزنه " فعلى " ، والميم فيه أصلية من " ماس، يميس، موسا " إذا تبختر في مشيه. وكان (عليه السلام) كذلك.
وثانيهما: إن وزنه مفعل، من " أوسيت الشجرة " إذا أخذت ما عليها من الورق. فكأنه سمي بذلك لصلعه.
ووجه انقداحهما أن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلمون بلغة العرب، وأيضا إن هذا الاسم علم، والعلم لا يفيد معنى غير الذات الشخصية.
وهو (عليه السلام) موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين -.
وانتصاب { أربعين } إما بالظرفية، أو على أنه مفعول ثان.
والثاني أولى، لأن الوعد ليس فيها كلها، كما في جواب " كم " ولا في بعضها كما في جواب " متى " بل يقضي الأربعين، فيكون انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني، فالتقدير: وعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة. أو تمام أربعين ليلة على حذف المضاف، كقولهم: " أربعين يوما منذ خرج فلان " أي: تمام الأربعين.
و { ليلة } منتصبة على التمييز للعدد " أربعين " ، وهو شهر ذي القعدة، وعشر ذي الحجة.
ويحتمل أن يكون المراد، أنه تعالى وعد موسى قبل هذا الأربعين أن يجيء إلى الموعد - أي الطور - بعد انقضاء هذا الأربعين، حتى تنزل عليه التوراة ويحتمل أن يكون المراد، أنه أمر بأن يجيء إليه هذا الأربعين، ووعد بأنه ينزل بعد ذلك التوراة، وهذا الثاني هو المؤيد بالأخبار.
وعبر عنها بالليالي، لأنها غرر الشهور، فإن أول كل شهر إنما يبين بليله الذي يظهر فيه هلاله. وقيل: لأن الظلمة سابقة على النور وفيه تأمل.
فصل
كانت المواعدة ثلاثين ليلة أو أربعين؟
واعلم أن قوله تعالى هاهنا يدل أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين، وفي الأعراف حيث قال:
وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر
[الأعراف:142]. يفيد أن المواعدة كانت أولا على ثلاثين ليلة، ثم بعد ذلك واعده بعشر، فلا بد في التوفيق بينهما من نكتة.
قال الحسن: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة، ثم بعد ذلك وعده بعشر، لكنه وعده أربعين ليلة جميعا، وهو كقوله تعالى:
ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة
[البقرة:196].
هذا ما في التفسير. وذكر بعض العلماء أنه روي أن موسى (عليه السلام) وعد بني إسرائيل - وهم بمصر - أن الله تعالى إذا أهلك عدوهم فرعون، وقومه، واستنقذهم من أيديهم، يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان الحلال والحرام، والحدود والأحكام فلما فعل ذلك، وأهلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب. فأمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوما - وهو ذو القعدة -.
ولم يكن صوم موسى (عليه السلام) ترك الطعام في النهار وأكله بالليل. بل طوى الثلاثين من غير أكل. فلما تمت ثلاثون ليلة أنكر خلوف فمه. فتسوك بعود خرنوب فقالت الملائكة: " كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك " فأمره الله تعالى أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة. وقال له: " أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك "؟
واعلم أنه قد حصل لموسى (عليه السلام) في هذه المدة المضروبة له من الله استعداد المكالمة له مع الله بواسطة انقطاعه عن الطعام والشراب، واجتنابه عن اللذات، والشواغل الحسية.
وكذلك استفاضة العلوم اللدنية، والمعارف الإلهية، وهي ضرب من المكالمة - لأن حقيقة التكلم إظهار ما يدل على المعاني الغائبة عن الحواس، سواء كان بخلق الألفاظ، أو بإفاضة صور الحقائق على النفس - لا تحصل إلا بتخلية المدارك والحواس عن الاشتغال بشواغل الدنيا وأغراضها، وتخلية الجوف عن الطعام، ومنع اللسان عن الكلام إلا بذكر الله، وعدم اشتغال القلب بما سوى الحق، فإن جميع ذلك مما يعد النفس الشريفة الزكية للمكالمة الحقيقية مع الله تعالى، وإفاضة صور الحقائق عليها.
ولا يختص ذلك بمدة دون أخرى. غير أن تعيين الأربعين والحكمة في ذلك لا يطلع عليه إلا الأنبياء والكمل من الأولياء (عليهم السلام).
وذكر بعض العرفاء نكتة لطيفة في بيان ذلك وهي: " إن الله سبحانه لما أراد تكوين آدم (عليه السلام) من التراب، قدر التخمير بهذا القدر من العدد، كما وردت " خمرت طينة آدم بيده أربعين صباحا ". فكان آدم (عليه السلام) لما كان مستصلحا لعمارة الدارين؛ لكونه مركبا من جوهرين:
أحدهما: ملكوتي أخروي وهو روحه.
والآخر: ملكي دنيوي وهو قالبه، فأراد الله منه عمارة الدنيا وعمارة الجنة، فكونه من التراب تكوينا يناسب عالم الحكمة والشهادة أولا، ويناسب عالم الغيب والرحمة ثانيا.
وما كانت عمارة النشأة الأولى تتأتى منه إلا ويكون خلقته من أجزاء أرضية وقوى سفلية، بحسب قانون الحكمة. فمن التراب كونه، وأربعين صباحا خمر طينته، وأودع فيه بحسب كل تخمير مرتبة من القوى والآلات، وطبقة من التجسم والأعضاء والأدوات، يوجب كل مرتبة وطبقة منها نوعا من البعد عن الحضرة الإلهية في القوى النزولية.
فاحتجب عن عالم القدس والوحدة، بالتوجه إلى عمارة الدنيا، وزينة التركيب لبعده بالتخمير أربعين صباحا بأربعين حجابا عن الحضرة الإلهية، كل حجاب معنى مودع فيه يصلح لعمارة الدنيا وزينتها، من القوى النفسانية، والحيوانية، والنباتية، والطبيعية. ويتعوق به عن مراتب القرب.
ولو لم يتعوق الآدمي بهذه الحجب والكثائف عن عالم القدس، ومواطن القرب ما تعمرت الدنيا. فمنشأ بعده عن مقام القرب لعمارة الدنيا، وفي ذلك من لطائف صنع الله والحكمة ما لا يخفى.
فالتبتل إلى طاعة الله، والاقبال إليه، والرجوع عن أمر المعاش، وما يتعلق بالدنيا كل يوم يخرج عن حجاب من هذه الحجب، ويتخذ منزلا في القرب في القوس العروجية من الحضرة الإلهية - التي هي مجمع العلوم، ومنبع المكاشفات ومصدر الحقائق - فإذا تمت الأربعون زالت الحجب بالكلية، وانصبت إلى قلبه أنهار العلوم والمعارف انصبابا.
ففي كل يوم بإخلاصه في العمل لله تعالى يكشف له طبقة من طبقات الحجب الجسمية، والأغشية الظلمانية، والنشأة الترابية الطبيعية، ويزول عنه طور من الأطوار الكونية الخلقية المبعدة له عن الله، ويظهر عليه سلطان النشأة الأخروية، إلى أن ينكشف باستعمال الأربعين أربعين طبقة من أطباق حجابه وأطوار بعده عن الله، واشتغاله بعمارة الدنيا، ولذلك ورد في الحديث:
" من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت من قلبه على لسانه ينابيع الحكمة ".
فهذا أصل يستفاد منه سر تعيين الأربعين في الخلوة والرياضة والعلم عند الله.
عقدة وحل
الغرض من تعمير الدنيا
ولعلك تقول: إن الحكمة في تعلق الروح الإنساني بهذا القالب الكثيف لو كانت لمصلحة تعود إلى الكائنات الأرضية لكان يلزم منها استخدام العالي للسافل.
وأيضا في تبعيد الروح الإنساني عن عالم القدس والقرب إلى عالم الظلمة، والكدورة، والعاهات، ضرب من التعذيب له، والتخريج عما فطر له من الروح والراحة. فأي فائدة في تعذيب أشرف الجواهر الحيوانية، لأجل صلاح سائر المركبات الحيوانية، والنباتية، والمعدنية؟!
وهذا الإشكال مما لا يخلو الجواب عنه عن صعوبة، لتوقفه على تحقيق مهية الإنسان ومعرفة أطواره ونشآته، وذلك متعلق بعلوم كثيرة من علوم المكاشفات. وقد مرت إشارة إلى سر نزول الروح الإنساني إلى هذا العالم فيما سبق عند قوله تعالى:
وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
[البقرة:36].
والذي نذكر هاهنا في دفع هذا الاشكال هو أن المراد بتكوين الإنسان عامرا لهذه النشأة وزينة للكائنات، هو تعميره على وجه تعود فائدة التعمير إليه، فإن الإنسان الكامل ذو أجزاء كثيرة، وأطوار متعددة، له بحسب كل قوة منها كمالية وتمامية لا تحصل إلا بها، وليس الغرض من خلافته في الأرض وتعميره للدنيا إلا تبقية شخصه ونوعه، وتكميل ذاته على وجه يصير مظهرا للأسماء الإلهية، وجامعا للحقائق الكونية والأسرار الربوبية، خليفة لله في الأرض والسماء، وزينة للنشأة الباقية بعد الأولى.
وأما تكون سائر الأكوان من النبات والحيوان بسببه فهو إما لأجل انتفاعه بها واستخدامه لها كما دل عليه قوله في حق الجميع:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة:29]. وقوله تعالى في باب الأنعام والدواب:
أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون
[يس:71 - 72]. وقوله في باب النباتات:
ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
[النحل:11]. وقال في باب المعادن والجمادات:
وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم
[النحل:81]. وغير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المطلب.
وإما لأجل أن لا يكون ضائعا مهملا ما بقي من فضالة مادة الإنسان، وكثائف طينته التي صرفت لطائفه في تخمير قالبه، فكما أن البناء يستعمل الخشب في غرضه فما فضل لا يضيعه، بل يتخذه قسيا وخلالا وغير ذلك، فكذلك الغاية القصوى في إيجاد هذا العالم وتمامه خلقة الإنسان الذي من شأنه أن يعرج بالعلم والتقوى إلى جوار الله وملكوته.
وأما تكون سائر المكونات، فلئلا يفوت حق كل عنصر ومادة، ويصل إلى كل مخلوق من الخير والسعادة قدرا يليق به، وشرح هذا المقام مما يطول.
فصل
قوله تعالى: { ثم اتخذتم العجل }
أي: اتخذتموه إلها ومعبودا، لأن بمجرد فعلهم لتصويره لا يكونون ظالمين، لأن فعل التصوير ليس بمحظور، وإنما هو مكروه عند أكثر الفقهاء. وأما الخبر الذي روي " إنه عليه وآله الصلاة والسلام لعن المصورين " فالمراد من شبه الله بخلقه، أو اعتقد أنه صورة جسمانية.
وقوله: { من بعده } أي: من بعد خروج موسى وغيبته، أو من بعد وعد الله إياكم بالتوراة، أو من بعد غرق فرعون وهلاك قومه، أو من بعد ما رأيتم من الآيات الباهرات.
{ وأنتم ظالمون } في اتخاذكم العجل معبودا وإصراركم على ارتكاب الباطل، ومتابعة الهوى والظلمات.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -: كان السامري رجلا اسمه موسى بن ظفر - وقيل: اسمه " ميحا " - وكان من قوم يعبدون البقر، فكان حب عبادة البقر في نفسه، وقد كان أظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما قصد موسى إلى ربه، وخلف هارون في بني إسرائيل، قال هارون لقومه: " قد حملتم أوزارا من زينة القوم " - أي آل فرعون - " فتطهروا منها، فإنها نجس " يعني: إنهم استعاروا من القبط حليا واستبدوا بها، فقال هارون: " طهروا أنفسكم منها فإنها نجسة " وأوقد لهم نارا فقال: " اقذفوا ما كان معكم فيها " فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلي، فيقذفون فيها.
وكان السامري رأى أثر فرس جبرائيل، فأخذ ترابا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار، فقال لهارون: " يا نبي الله ألقي ما في يدي "؟ قال: " نعم " وهو لا يدري ما في يده. ويظن أنه مما يجيء به غيره من الحلي والأمتعة. فقذف فيها وقال: " كن عجلا جسدا له خوار " فكان البلاء والفتنة.
فقال:
هذآ إلهكم وإله موسى
[طه:88] فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط.
قال ابن عباس: " فكان البلاء والفتنة " لم يزد على هذا. وقال الحسن: " صار العجل لحما ودما ". وقال غيره: " لا يجوز ذلك، لأنه من معجزات الأنبياء ".
ومن وافق الحسن قال: " إن القبضة من أثر الملك، وكان الله قد أجرى العادة بأنها إذا طرحت على أي صورة كانت حييت، فليس ذلك بمعجزة، إذ سبيل السامري فيه سبيل غيره " ومن لم يجز انقلابه حيا تأول الخوار على أن السامري صاغ عجلا، وجعل فيه خروقا يدخله الريح، فيخرج منها صوت كالخوار، ودعاهم إلى عبادته، فأجابوه وعبدوه كذا عن الجبائي.
تذكرة
السامري والعجل
ذكر بعض العلماء أن هذه الواقعة على الوجه المنقول مما يأبى العقل عن إذعانها، لأن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم المتخذ من الذهب، الذي لا يتحرك، ولا يحس، ولا يعقل، يستحيل أن يكون إلها في السماوات والأرض، وهب أنه ظهر منه خوار، ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلها.
ولا يمكن تصحيح هذه الواقعة إلا على وجه، وهو أن السامري ألقى إلى القوم أن موسى إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية، فأنا أتخذ لكم طلسما مثل طلسمه، وروج عليهم ذلك بأن جعله بحيث يخرج عنه صوت عجيب، فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى (عليه السلام) في الإتيان بالخوارق، ولعل القوم كانوا مجسمة وحلولية، فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام.
وذكر العارف المحقق محيي الدين الأعرابي في فصوص الحكم: " إن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيي ذلك الشيء وسرت الحياة فيه، ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبرائيل (عليه السلام) - وهو الروح -.
وكان السامري عالما بهذا الأمر، فلما عرف أنه جبرائيل، عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه، فقبض قبضة من أثر الرسول - بالضاء أو بالصاد، أي: بملء، أو بأطراف أصابعه - فنبذها في العجل، فخار العجل، إذ صوت البقر إنما هو خوار، ولو أقامه صورة أخرى، لنسب إليها اسم الصوت الذي لتلك الصورة، كالرغاء للإبل، والثؤاج للكباش، واليعار للشياه، والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام. فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى " لاهوتا " و " الناسوت " هو المحل القائم به ذلك الروح " - انتهى.
تبصرة
بماذا نعرف الرسول؟
اعلم أن طريق الإيمان بالله، ورسله، وآياته عند العرفاء، وأرباب اليقين، ليس مما يحصل بالنظر في المعجزة، وخرق العادة الواقع من الرسل، فإني قد آمنت بصدق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) في جميع ما أتى به، وبصدق موسى (عليه السلام)، لا بشق القمر وقلب العصا حية، بل باعلامات إلهية، وإلهامات ربانية في القلب التي لا يتطرق إليها شائبة شك وريب، ولا يقربها وصمة شبهة وعيب.
وهي موزونة مع ذلك بميزان صحيح العيار من موازين القسط ليوم الحساب الذي وضعه الله من السماء العقلية في أرض القلب الإنساني، الموضوع تحت سماء العقل المرفوع، وأمر باقامته كما دل عليه قوله تعالى:
والسمآء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام
[الرحمن:7 - 10].
وقد أقمت هذا الميزان الصحيح كما أمر الله به، ووزنت به جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد، وسر حشر الأجساد، وعذاب أهل الفجور، وثواب أهل الطاعة، فوجدت جميعها مطابقة لما في هذا القرآن الذي هو تنزيل من الله العزيز المنان، ولما في الأحاديث الواردة من النبي وآله (صلى الله عليه وآله)، وتيقنت أن جميع ما صح عن رسول الله وآله (صلى الله عليه وآله) حق وصدق.
وأما طريق النظر في المعجزة، فذلك مما يتطرق إليه التباس كثير، فلا يوثق به كل الوثوق بل من بنى إيمانه على قلب العصا ثعبانا، يكفر بخوار عجل السامري، فإن التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جدا، والعالم الذي هو عالم العصمة والطهارة عن الخبط والغلط، هو عالم القلب، وأما عالم البدن فالخطأ والالتباس فيه كثير.
وأكثر الناس اعتمادهم على ما تدركه الحواس، وعكوفهم على ما ينتمي إلى الأوضاع الحسية، ولهذا يغلطون كثيرا، ولو لم يكن لهم قائد يقتدون به، يسلك بهم كمن يقود الأعمى في الليل المظلم، لوقعوا في الحميم، وسلكوا طريق الجحيم، وهؤلاء طائفة لا يعرفون الحق إلا بالرجال.
وأما العرفاء الإلهيون فهم يعرفون أهل الحق بالحق، كما قال أمير المؤمنين وإمام العارفين (عليه السلام): " لا تعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله " فكانت معرفة العارفين المحققين بصدق النبي (صلى الله عليه وآله) ضرورية، كمعرفتك إذا رأيت رجلا عربيا يدعي الفقه، ويناظر في مسألة من مسائل الفقه، ويحسن في البحث عنه، ويأتي بالفقه الصحيح الصريح، فإنك لا تتمارى في أنه فقيه، ويقينك الحاصل بفقهه من مناظرته أوضح من اليقين الحاصل به لو قلب ألف عصا ثعبانا، لأن ذلك يتطرق فيه احتمال السحر، والطلسم، والتلبيس بغيره، ويحصل به إيمان ضعيف هو إيمان العوام والمتكلمين، فأما إيمان الناظرين من مشكاة الملكوت، فلا يتطرق إليه تلك الاحتمالات، وهذا النحو من العلم والإيمان إنما يحصل بتعليم من الله ومن جبرائيل بواسطة الرسول (صلى الله عليه وآله).
وهذا أوضح من الاعتقاد الذي يحصل من النص أو بالمعجزة، فإن ثلاثة أنفس لو ادعوا عندك أنهم يحفظون القرآن، فقلت: " ما برهانكم "؟
فقال أحدهم: إنه نص علي الكسائي أستاذ المقرئين. أو نص على أستاذي فلان وأستاذي نص علي، فكأن الكسائي نص علي.
وقال الثاني: برهاني أني أقلب العصا حية - وقد قلب العصا حية -.
وقال الثالث: برهاني أن أقرأ القرآن بين يديك من غير مصحف - وقرأ - فليت شعري أي هذه البراهين أوضح؟ وقلبك بأيها أشد تصديقا؟ لا شك أنك بالذي قرأ القرآن، فهو غاية البرهان، وبه يحصل غاية الإيمان إذ لا يخالج فيه ريب.
أما نص أستاذه عليه ، ونص الكسائي على أستاذه، فيتصور أن يقع فيه أغاليط، سيما عند طول الأزمنة وبعد الأسفار. وأما قلب العصا حية: فلعل ذلك لحيلة وشعبذة، وإن لم يكن كذلك فغايته أنه فعل أمرا عجيبا، ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظا للقرآن؟!
تنبيه
ذكر نكات تلمح إليها الآية
اعلم - أيها العاقل الفهيم - أن في هذه الآية تحذيرا بليغا من التقليد والجهل بالدلائل والبراهين، فإن أولئك القوم لو عرفوا الله بالحجج الواضحة، والشواهد الباطنة معرفة تامة لما وقعوا في شبهة السامري.
وفيها أيضا دلالة على أن أمة محمد (صلى الله عليه وآله) خير الأمم، لأن أولئك اليهود مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة اغتروا بهذه الشبهة الركيكة، وأما هذه الأمة فإنهم مع حاجتهم في معرفة اعجاز القرآن إلى الأدلة الدقيقة لم يغتروا بالشبهات القوية، وذلك يدل على أن هذه الأمة أكمل عقلا، وأزكى خاطرا، وأشد تعمقا في الحق من غيرهم.
وفيها أيضا تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مما كان يشاهد من مشركي مكة والمنافقين وأمر له بالصبر على مخالفتهم، كما صبر موسى (عليه السلام) في هذه الواقعة المنكرة من قومه، وقد خلصهم (عليه السلام) من فرعون، وأراهم المعجزات القوية، فاغتروا بهذه الشبهة الركيكة.
وفيها أيضا دلالة على مذمة الاقتداء بالأسلاف والآباء من غير بصيرة، فإن أشد الناس مجادلة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعداوة للذين آمنوا هم اليهود، وكانوا يتفاخرون بأسلافهم ويلتزمون دين أشياخهم وآبائهم، فكأنه تعالى قال: " هؤلاء إنما يتفاخرون بأسلافهم ويقتدون على آثارهم. ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة وسخافة العقل والغباوة إلى هذا الحد، فكيف من يقتدي بهم ويقتفي آثارهم "؟!
وفيها أيضا تنبيه يستفاد من قوله: { وأنتم ظالمون } على أن ضرر الكفر والمعاصي لا يعود إلا إلى صاحبه، لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم وحرفوها عن جوار الله ودار كرامته إلى الهاوية ودار الهوان والعذاب، وذلك يدل على أن جلال الله منزه عن الاستكمال بطاعة العباد والانتقاص بمعصيتهم .
[2.52]
العفو، والصفح، والمغفرة، والتجاوز نظائر. قال ابن الأنباري:
عفا الله عنك
[التوبة:43]. معناه: محى الله عنك. مأخوذ من قولهم: " عفت الريح الأثر " إذا درسته ومحته. فعفو الله محوه الذنوب عن العبد.
والظاهر أن المراد من قوله: { عفونا عنكم } تركنا معاجلتكم بالعقاب في الدنيا { من بعد } اتخاذكم العجل إلها { لعلكم تشكرون } أي: تعرفون الله ورسوله. فإن تمام الشكر بأفضل أجزائه، وهو المعرفة.
لما وقعت إليه الإشارة سابقا من أن كل مقام من مقامات الدين ينتظم بأمور ثلاثة -: العلم، وهو أعلاها، والحال، وهو أوسطها. والعمل، وهو أدناها - فالشكر لله عبارة عن اعتقاد كونه خالقا، ورازقا للعباد، ومنعما عليهم في الدنيا والآخرة بواسطة الملائكة والأنبياء. ويلزم ذلك الاعتقاد الفرح بذكر الله، ومعرفته، وحب لقائه، وخلوص القلب عن الالتفات بغير الله، وتصفيته عن كل خاطر رديء، ويلزمه أيضا العمل بالأركان والجوارح بقدر ما يتيسر ويطاق.
واسم " الشكر " تارة يقع على الثلاثة، وتارة يخص بالأول - نظرا إلى سره، وروحه، وباطنه - وتارة يخص بالآخر - نظرا إلى ظاهره المكشوف للحس - كما أن اسم الإيمان تارة يقع على الاعتقاد بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والرسل، والأئمة (عليهم السلام)، مع الإقرار باللسان، والعمل بالأركان. وتارة يقع على نفس الاعتقاد الصحيح، وهو النور الباقي للمؤمن إلى يوم القيامة، يسعى بين يديه وعن يمينه.
وقالت المعتزلة - ومنهم صاحب الكشاف -: " معنى قوله: { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } أي: غفرنا لكم بسبب إتيانكم بالتوبة التي هي قتلكم أنفسكم ". وفيه بحث من وجهين:
الأول: إن قبول التوبة واجب عقلا. وأداء الواجب لا يكون إنعاما. فلو كان المراد ذلك فلا يحسن عده في معرض الإنعام والامتنان. والآية مسوقة في تعديد نعم الله على بني إسرائيل.
والثاني: إن العفو اسم لإسقاط العقاب عن المستحق، فأما إسقاط ما يجب إسقاطه فلا يسمى عفوا. فعلم أن ذلك المعنى الذي حملوا الآية عليه ضعيف عقلا ولغة.
تنبيه
اعلم أن هذه الآية دالة على بطلان قول المعتزلة أن " لا عفو عن الكبائر " إذ لا كبيرة أكبر من اتخاذ العجل إلها، وإذا ثبت أنه سبحانه عفى عن كفر قوم موسى (عليه السلام) ولم يؤاخذهم على شركهم، فبأن يعفو عن فسق أمة محمد (صلى الله عليه وآله) كان أحق وأحرى.
تنبيه آخر
قد دلت الآية أيضا على أن الله تعالى لم يرد من العباد إلا الخير والطاعة، ولا يريد منهم الشر والعصيان. فإنه تعالى لما بين أنه إنما عفى عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا، فلم يرد منهم في هذا العفو إلا الشكر، وهو أعظم الطاعات.
وأما ما ذكره صاحب التفسير الكبير من قوله: " لو أراد الله منهم الشكر لأراد ذلك إما بشرط أن يصل للشاكر داعية الشكر، أو لا بهذا الشرط. والأول باطل، لأن تلك الداعية إن كانت من فعل العبد لافتقر هذه الداعية إلى داعية أخرى، والكلام فيها عائد. وإن كانت من الله فحيث خلق الله الداعي حصل الشكر لا محالة. وحيث لم يخلق استحال حصول الشكر منه من غير هذه الداعية. والثاني أيضا باطل، وإلا فقد أراد منه المحال، لأن حصول الفعل بدون الداعي محال، وطلب المحال محال على أصولهم ".
فمندفع، لأنا نختار أن حصول الشكر من العبد بالاختيار مشروط بحصول الداعية فيه سواء كانت بالاختيار، فيستدعي داعية أخرى، أو بالاضطرار، فيكون من فعل الحق، وعلى أي الوجهين ينتهي بالأخرة إلى حصول داعية ليست هي من فعل العبد، بل من فعل الله الحاصل في العبد اضطرارا.
وقد مر مرارا أن اختيار العبد ينتهي آخر الأمر إلى ما هو حاصل فيه بالاضطرار فإن علم الإنسان وداعيته مخلوقان لله بالاتفاق، والنزاع ليس إلا في ترتب هذه الأمور وافتقار بعضها إلى بعض أو في عدم الترتيب. فإن الأشاعرة ومن يحذو حذوهم أنكروا حكمة الله في هذا الترتيب، ونفوا القول بالعلة والمعلول، ولهذا أسندوا القبائح والشرور كلها إلى الله أولا وبالذات تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
حكمة قرآنية
معنى " لعل " في القرآن
اعلم أن في لفظة " لعل " - وهي من كلمات الترجي والإمكان - إشارة بليغة إلى أن فعل الشكر إنما يحصل من العبد باختياره ، فإن أفعال العباد من جهة نسبتها إلى مبادئها القريبة واقعة باختياره على سبيل الاحتمال والإمكان. ومن جهة نسبتها إلى السبب الأول ومبادئها البعيدة - من قضاء الله وقدره وعلمه وقدرته - واقعة من العبد على سبيل البت والوجوب.
ففعل العبد من جهة وقوعه باختياره يحكم عليه ب " القدر والتفويض " أي: بكونه واقعا بقدرتنا، مفوض إلينا - ومن جهة وقوعه بمشية الله وقضائه وقدره، والوسائط المترتبة المستندة - على ترتيبها في سلسلة العلل والمعلولات - إلى الله، يحكم عليه ب " الجبر " كما سبق.
فلفظة " لعل " كلما جاءت في القرآن فهي بحسب الاعتبار الأول، وهو وقوع الأمور من أسبابها القريبة.
فصل
الفرق بين الحمد والشكر
اعلم أن العلماء فرقوا بين الحمد، والشكر، ومعناهما، وحكمهما، وملخص الفرق المستفاد من أقوالهم: إن الحمد من أشباه الأذكار كالتسبيح والتهليل، فيكون من المساعي الظاهرة، والشكر من أشباه النيات والأخلاق، كالصبر والتفويض والرضا. فيكون من المساعي الباطنة، لأن الشكر يقابل الكفران. والحمد يقابل اللوم. ولأن الحمد أعم وأكثر، والشكر أخص وأقل.
كما قال تعالى:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]. فثبت أنهما معنيان متميزان.
ثم الحمد - كما هو المشهور من كلام الجمهور - هو الثناء على أحد بالفعل الجميل.
وأما الشكر فقد تكلموا في معناه وأكثروا القول فيه:
فعن ابن عباس أنه قال: " هو الطاعة بجميع الجوارح لرب العالمين في السر والعلانية ". وهذا كما اشتهر على ألسنة الجمهور: " أنه عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله " وإلى نحوه ذهب بعض المشايخ، فقال: " إنه أداء الطاعات في الظاهر والباطن ".
وقال بعضهم: " اجتناب المعاصي ظاهرا وباطنا ". وقال غيره: " الاحتراس عن اختيار معاصي الله ". أي: تحترس على قلبك ولسانك وأركانك، حتى لا تعصي الله بشيء من هذه الثلاثة.
وقال آخر: " الشكر تعظيم المنعم على مقابلة نعمته، على حد يمنعه من جفاء المنعم وكفرانه ". ولو قيل: " تعظيم المحسن على مقابلة إحسانه " ليصح أن يكون من الله الشكر للعبد المحسن.
فإن قلت: فما موضع الشكر؟
فاعلم أن موضعه النعم الدينية والدنيوية مطلقا.
وأما الشدائد والمصائب الدنيوية في النفس، أو الأهل، أو المال، فقال بعضهم: لا يلزم العبد الشكر عليها، وإنما يجب عليها الصبر.
وأما الشكر فهو على النعمة خاصة.
وقال بعضهم: لا شدة إلا وفي جنبها نعم الله. فيلزم الشكر على تلك النعم المقترنة به، دون نفس الشدة.
وقال بعضهم - وهو الأولى -: إن شدائد الدنيا مما يلزم العبد الشكر عليها، لأن تلك الشدائد نعم بالحقيقة، لأنها تعرض للعبد بمنافع عظيمة، ومثوبات جزيلة وأعواض كريمة، في العاقبة، تتلاشى في جنبها مشقة هذه الشدائد. مثال ذلك من يسقيك دواء كريها مرا للداء الشديد، فيؤدي ذلك إلى صحة النفس وصفوة العيش فيكون إيلامه إياك بمرارة الدواء منة بالغة بالحقيقة، وإن كان في صورة مكروهة.
فالحاصل من هذا الكلام رجع إلى أن البلية والشدة يجب الشكر عليها من حيث إنها نعمة، لأنها توجبها لا من حيث إنها بلية وآفة، فلا شكر على الشرور والأعدام من حيث إنها شرور وأعدام.
هذا هوالتحقيق، وعلى هذا يحمل قوله (صلى الله عليه وآله):
" الحمد لله على كل حال ".
ثم إن النعمة قسمان: دنيوية، ودينية:
فالدنيوية ضربان: نفع، ودفع. فنعمة النفع - وهي المصالح والمنافع - ضربان: الخلقة السوية في سلامتها وعافيتها، وما سلامة البدن موقوفة عليها من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح وغيرها من فوائدها. وأما نعمة الدفع فهي أن صرف عنك المفاسد والمضار. وهي ضربان أحدهما: في النفس بأن سلمك من زمانتها، وسائر آفاتها، وعللها. والثاني: دفع ما يلحقك من ضرب من أنواع العوائق أو يقصدك بسوء من إنس، أو جن، أو سباع، أو هوام، أو نحوها.
وأما النعم الدينية فضربان: نعمة التوفيق ونعمة العصمة، فنعمة التوفيق أن وفقك الله أولا للإسلام، ثم الطاعة. ونعمة العصمة أن يعصمك أولا عن الكفر والشرك، ثم عن البدعة والضلالة، ثم عن سائر المعاصي وتفصيل ذلك لا يحيط به إلا السيد الحكيم الذي أنعم عليك كما قال جل جلاله
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم:34].
فصل عرشي
اعلم أن تحقيق الشكر، والعلم بكيفية حصوله من الإنسان، يستدعي معرفة أصول عظيمة عقلية، ومسائل شريفة علمية، منها معرفة النفس الإنسانية، وهي أم الفضائل ومفتاح العلوم الحقيقية، ولنذكر هاهنا استقصاء يسيرا مما وجدناه من كتب العرفاء، لما فيه من عظيم الجدوى.
فنقول: قد علمت سابقا أن الشكر من جملة مقامات السالكين، ومنزل من منازل أهل الدين، وكل مقام ومنزل لهم ينتظم من، علم، وحال، وعمل. العلم هو الأصل، فيورث الحال، والحال يورث العمل.
أما العلم هاهنا فهو معرفة المنعم وإنعامه. وأما الحال فيه فهو الابتهاج الحاصل فيه بإنعامه. وأما العمل فيه فهو القيام بما هو مؤد إلى مقصود للمنعم وغاية إنعامه. ويتعلق ذلك العمل بالقلب والجوارح واللسان. ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر.
فالأصل الأول العلم:
وهو متعلق بثلاثة أمور: بعين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه، وبذات المنعم، ووجود صفاته، التي بها يتم الإنعام، وبصدور الإنعام منه عليه، فإنه لا بد من منعم، ومنعم عليه، يصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة.
فهذه الأمور لا بد من معرفتها في حق غير الله، فأما في حق الله فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها منه، وهو المنعم بالحقيقة، والوسائط مسخرون من جهته، فهذه المعرفة هي معرفة أن " لا مؤثر في الوجود إلا الله " وهو توحيد الأفعال. وهذه المعرفة وراء التقديس، والتوحيد في الذات الواجبية، إذا دخل هذا التوحيد والتقديس فيها، بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان التقديس.
ثم إذا عرف ذاتا مقدسة عن النقائص الإمكانية - فضلا عن المثالب المادية والمكانية - فيعرف أنه لا مقدس إلا واحد، وما عداه غير مقدس وهو التوحيد.
ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط، والكل نعمة منه، فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة - أي بعد المعرفتين الأوليين - فينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة والانفراد بالفعل.
وعن هذا عبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال:
" من قال " سبحان الله " فله عشر حسنات. ومن قال: " لا إله إلا الله " فله عشرون. ومن قال : " الحمد لله " فله ثلاثون حسنة ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" أفضل الذكر " لا إله إلا الله " وأفضل الدعاء " الحمد لله ".
وقال (صلى الله عليه وآله):
" ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد ".
ولا تظنن أن هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات، من غير حصول معانيها في القلب. ف " سبحان الله " كلمة تدل على التقديس، و " لا إله إلا الله " كلمة تدل على التوحيد. و " الحمد لله " على معرفة النعمة من الواحد الحق. فالحسنات بإزاء هذه المعارف، التي هي من أنوار الإيمان واليقين.
واعلم أن تمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأفعال، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى المنعم عليه لوزيره، أو وكيله دخلا في تيسير ذلك، وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة، فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه، بل منه بوجه، ومن غيره بوجه. فيتوزع فرحه عليهما. فلا يكون موحدا في حق الملك.
نعم لا ينقص عن توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه، وبالكاغد الذي كتب عليه، فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما، لأنه لا يثبت لهما دخلا من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك. وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن أيضا مضطران من جهة الملك في الإيصال، وأنه لو رد الأمر إليهما، ولم يكن من جهة الملك أمر حتم وقضاء جزم لما سلما.
فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن والوكيل كنظره إلى القلم والكاغد، فلا يورث شركا في توحيده من إضافة النعمة إلى الملك.
فكذلك من عرف الله، وعرف أفعاله، علم أن الشمس، والقمر، والنجوم مسخرات بأمره - كالقلم مثلا في يد الكاتب - وأن الحيوانات التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها، فإن الله تعالى هو المسلط للدواعي عليه، شاءت أو أبت أي من حصول الداعي كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلا إلى مخالفة الملك، ولو خلي ونفسه لما أعطاك ذرة مما في يده.
فكل من وصل إليك نعمة الله تعالى على يده فهو مضطر، إذ سلط الله عليه الإرادة، وهيج عليه الدواعي، وألقى في قلبه أن خيره في الدنيا والآخرة هو أن يعطيك ما أعطاك. وبعد خلق الله له هذا الاعتقاد فلا يجد سبيلا إلى تركه، فهو إذن إنما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك. فالمنعم عليك بالحقيقة هو الذي سخره لك، وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطرا إلى الإيصال إليك.
فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله، وعرفت فعله، وكنت موحدا، وقدرت على شكره، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكرا، ولذلك قال موسى (عليه السلام) في مناجاته: " إلهي خلقت آدم بيدك، وإذا سويته فنفخت فيه من روحك وفعلت، وفعلت، فكيف شكرك؟ " فقال: " علم أن ذلك مني، فكانت معرفته شكرا ".
فإذن لا شكر إلا بأن تعرف أن الكل منه، فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفا إلا بالنعمة - لا بالمنعم - فلا تفرح بالمنعم وحده، بل بغيره. فبقدر نقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح، وبنقصان فرحك وابتهاجك بالمنعم ينقص عملك. فهذا بيان هذا الأصل.
الأصل الثاني:
الحال المستثمر من أصل المعرفة، وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخشوع والتواضع، وهذا أيضا شكر في نفسه، كما أن المعرفة شكر، ولكن إنما يكون شكرا إذا كان جامعا لشروط:
أحدها: أن يكون فرحك بالمنعم - لا بالنعمة، ولا بالإنعام - ومثاله: أن الملك إذا أنعم بفرس على إنسان، تصور فرحه بالفرس من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يفرح به من حيث إنه فرس، وانه مال ينتفع به، ومركوب يوافق غرضه، وانه جواد نفيس ولو وجده في صحراء وأخذه لكان فرحه مثل هذا الفرح.
والثاني: أن يفرح به من حيث إنه يستدل به على عناية الملك وشفقته عليه، حتى أنه لو وجده في صحراء لم يفرح به أصلا، لاستغنائه عنه أو لاستحقاره بالإضافة إلى ما هو مطلوبه من نيل المحل في قلب الملك.
الثالث: أن يفرح به ليركبه ويخرج به في خدمة الملك؛ لينال بخدمته رتبة القرب عنه، ويرتقي إلى درجة الوزارة من حيث إنه لم يقنع بأن يكون محله في قلب الملك أن يعطيه فرسا، ولا يكتفي بهذا القدر من العناية، بل هو طالب لأن لا ينعم الملك على أحد إلا بواسطته، ثم إنه لا يريد من الوزارة الوزارة أيضا، بل مشاهدة الملك والقرب منه، حتى أنه لو خير بين الوزارة دون القرب، وبين القرب دون الوزارة لاختار القرب.
فهذه ثلاث درجات: فالأول لا يدخل فيه معنى الشكر أصلا، لأن نظر صاحبه مقصور على الفرس لا بمعطي الفرس فهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه، فهو بعيد من معنى الشكر.
والثانية داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم، ولكن لا من حيث ذاته، بل من حيث معرفة عنايته التي يستحثه على الإنعام في المستقبل، وهذا حال الصالحين، الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفا من عقابه ورجاء لثوابه.
وإنما الشكر التام في الفرح الثالث، وهو أن يكون فرح العبد بنعم الله من حيث إنه يقتدر بها على التوسل إلى القرب منه، والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام فهذه الرتبة العليا، وأمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة الآخرة ومعينة عليها.
ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى، وتصده عن سبيله لأنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة.
ولذلك قال الشبلي: " الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة " وقال الخواص " شكر العامة على المطعم والملبس، وشكر الخاصة على واردات القلوب ".
وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن، والفرج، ومدركات الحواس، وخلا عن لذة القلب، فإن القلب - أعني الروح - لا يلتذ في حال الصحة والسلامة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه، وإنما يلتذ من غيره إذا مرض بسوء العادات، كما يستلذ بعض الناس بأكل الطين، وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة، ويستحلي الأشياء المرة، فإذن هذه شرائط الفرح بنعمة الله.
الأصل الثالث:
وهو العمل. وصرف الجوارح وسائر النعم في المصارف التي خلقها الله وأنعمها لأجلها، وذلك لأمرين:
أحدهما: لدوام النعمة.
زالثاني: لحصول الزيادة.
فأما دوام النعمة فلأن الشكر قيد المنعم، به تدوم وتبقى، وبتركه تزول وتحول، ولما علمت أن كل نعمة - بل كل عين، أو صفة، أو قوة - فهي مخلوقة لأجل غاية وفائدة هي مصرفها، فإذا صرفت في مصارفها دامت، وإلا زالت. كما قال الله تعالى:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
[الرعد:11].
وقال:
فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف
[النحل:112]. وقوله:
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم
[النساء:147]. وفي الحديث أنه قال:
" إن النعم أوابد كأوابد الوحوش، فقيدوها بالشكر ".
وأما الزيادة فلأن الشكر لما كان قيد النعمة فهو يثمر الزيادة، وصرف الشيء في مصرفه الطبيعي يوجب اشتداده وازدياده كما قال تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم:7]. وقوله:
والذين اهتدوا زادهم هدى
[محمد:17]. ألا ترى أن السيد الحكيم إذا رأى العبد قد قام بحق نعمة يمن عليه بأخرى ويراه أهلا لها، وإلا فيقطع عنه ذلك؟
تذييل
فإن قلت: هل لنا أن نشكر الخلق على إحسانهم إلينا للنعم الواصلة إلينا من الله بأيديهم - وقد ذكر أن الوسائط مسخرون ولا تأثير لهم في الإفادة أصلا -؟
قلنا: نعم تأدبا بأدب الله وأدب رسوله (صلى الله عليه وآله)، فإن شكر المحسن على الإحسان والدعاء له من شعار الصالحين، وأخلاق العارفين، وذلك منهم مع كمال توكلهم على ربهم وصفاء توحيدهم في الأفعال، وقطعهم النظر عن الأغيار في التأثير والآثار ورؤيتهم النعم كلها من المنعم الجبار، فإنهم يفعلون ذلك اقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ورد في كثير من الأحاديث والأخبار.
وبيان ذلك أن الناس على ثلاثة أقسام:
فالعامة حجبوا عن الله بالخلق في المنع والعطاء. والصوفيون السالكون في الابتداء حجبوا بالله عن الخلق ورأوا الأشياء من الله، حيث طالعوا ناصية التوحيد، وخرقوا الحجاب الذي منع الخلق عن صرف التوحيد، فلم يثبتوا للخلق منعا ولا عطاء.
وأما الكمل من العلماء الإلهيين فحيث ارتقوا إلى ذروة التوحيد شكروا الخلق بعد شكر الحق، وأثبتوا لهم وجودا وتأثيرا في المنح والعطاء، بعد أن رأوا وشاهدوا السبب الأول أولا.
وذلك لسعة علمهم وقوة معرفتهم بحيث يسع علمهم للجانبين، ولا يحجب نظرهم بأحد من الخلق والحق عن الآخر، فلا يحجبهم الخلق عن الحق كعامة المسلمين الساكنين في مقام التسليم، ولا يحجبهم الحق عن الخلق كأرباب الإرادة والمبتدئين من السالكين، بل شاهدوا الحكمة والترتيب ونفوذ نور الحقيقة في مطاوي الممكنات، ومكامن الماهيات، فيشكرون الخلق لأنهم الوسائط والأسباب.
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" أول ما يدعى إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء "
وقال (صلى الله عليه وآله):
" من عطس أو تجشى فقال: " الحمد لله على كل حال " رفع الله بها عنه سبعين داء أهونها الجذام "
وقال (صلى الله عليه وآله):
" ما من عبد ينعم عليه نعمة فحمد الله إلا كان الحمد أفضل منها ".
فقوله (صلى الله عليه وآله):
" كان الحمد أفضل منها "
يحتمل أنه رضي الحق بها شكرا، ويحتمل أن الحمد أفضل منها نعمة، فيكون نعمة الحمد أفضل من النعمة التي حمد عليها، فإذا شكروا المنعم الأول يشكرون الواسطة المنعم من الناس، ويدعون.
وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه إذا أفطر عند قوم قال:
" أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، ونزلت عليكم السكينة والوقار "
وعنه (صلى الله عليه وآله):
" من قال لأخيه: " جزاك الله خيرا " فقد أبلغ في الثناء ".
[2.53]
هذه هي النعمة الرابعة عليهم من الله تعالى
الفرقان والقرآن
والفرقان في اللغة مصدر فرقت بين الشيئين فرقا وفرقانا، يطلق على ما به يحصل الفرقان، والمراد به هاهنا إما نفس التوراة باعتبار كونه فارقا بين الحق والباطل، أو شيئا داخلا فيه، أو خارجا عنه.
فالأول: قول ابن عباس. وإنما صح العطف لتغاير اللفظين، بل لتغاير المفهومين فإن مفهوم " الكتاب " يغاير مفهوم " الفارق " فهو كقولك: " رأيت الغيث والليث " تريد الرجل الجامع بين الجود والشجاعة، ونظيره قوله تعالى:
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء وذكرا
[الفرقان:48]. يعني الجامع بين هذه الأوصاف.
والثاني: يكون إشارة إلى بعض ما في التوراة، كبيان أصول الدين وفروعه.
وأما الثالث: فقيل: إن المراد به انفراق البحر الذي آتاه موسى (عليه السلام).
وقيل: الفرق الحاصل بين أهل الحق - وهم موسى وأصحابه المؤمنون - وبين أهل الباطل - وهم فرعون وأصحابه الكافرون - وذلك بأشياء كثيرة منها: نجاة هؤلاء، وغرق هؤلاء - هذا بحسب الظاهر. وأما بحسب الباطن فهؤلاء نجوا من غرق بحر الطبيعة التي هي بحر مسجور، فخلصوا من عذاب نيرانها في القيامة، وهؤلاء غرقوا فيها واحترقوا بنار جهنم في القيامة، وقد قال سبحانه: " هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي " وهذا الفرق المعنوي بعينه حاصل إلى الآن بين المحقين والمبطلين، مشهود لأرباب الشهود الباطني.
وقيل: الشرع الفارق بين الحلال والحرام.
وقيل: النصر الذي فرق بينهم وبين عدوهم، كقوله:
يوم الفرقان
[الأنفال:41]. يريد يوم بدر.
وقيل: إن المراد بالفرقان: القرآن. ويكون تقديره: " وآتينا موسى التوراة، وآتينا محمدا الفرقان، لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب ". وهو قول الفراء وقطرب وثعلب. وهذا تعسف شديد، لأن فيه حمل القرآن على مثل هذا المجاز من غير ضرورة، مع أنه تعالى أخبر أنه آتى موسى الفرقان.
إشارة
الفرقان والقرآن عند أهل الله
وهاهنا دقيقة أخرى لأهل الله في معنى الفرقان، والتمييز بينه وبين معنى القرآن، وهو أن للنفس الناطقة ضربين من العلوم الإلهية:
أحدهما: ما يقال له: " العلم الإجمالي، والقضائي، والعقلاني " ويسمى عند قوم من الحكماء ب " العقل البسيط " ويتصف به العقل الفعال، وهو من صفات المقربين، ومن الملائكة المقدسين، والأنبياء، والأولياء الكاملين.
وثانيهما: ما يقال له: " العلم التفصيلي، والقدري والنفساني " ويتصف به العقل المنفعل، وهو من صفات المتفكرين في الآفاق والأنفس.
فإذا تقرر هذا فنقول: إن القرآن عند أهل الله خاصة - وهم أهل القرآن - عبارة عن العقل البسيط، والعلم الإجمالي. والفرقان عندهم عبارة عن العلوم الانفعالية التفصيلية الحاصلة من ذلك العقل البسيط، فذلك العقل القرآني مبدأ لحصول الصور العلمية الفكرية للنفس.
إذا علمت هذا فاعلم أن الله خصص نبينا حبيب الله (صلى الله عليه وآله) من بين سائر الأنبياء (عليهم السلام) بإنزال القرآن والفرقان جميعا، ولهذا وصف ما أنزل الله عليه بهما جميعا، كما أنه (صلى الله عليه وآله) اختص من بينهم بإنزال الكلام وتنزيل الكتاب جميعا، والمنزل على سائر الأنبياء (عليهم السلام) فرقان فقط وليس بقرآن، كما أن المنزل عليهم كتاب فقط وليس بكلام.
ومن هذا الوجه يعلم فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم، لأن فائدة الإنزال والتنزيل ترجع إلى الأمم، فبقدر فضيلة الكتاب يعلم فضيلة المنزل عليهم، فيستفاد من هذا البيان أنه يوجد في هذه الأمة جماعة تكون درجتهم درجة إدراك العقل البسيط القرآني، وأنه لم توجد هذه الدرجة في سائر الأمم، بل في أنبيائهم خاصة، وإلا لكان كتابهم المنزل عليهم من مثل هذا القرآن، وليس كذلك.
وقد مر الفرق أيضا بين كلام الله وكتابه من أن الكلام من عالم الأمر، والكتاب من عالم الخلق. ومن أن الكلام منزل على قلب حبيب الله (صلى الله عليه وآله) بالحق، وكتب سائر الأنبياء (عليهم السلام) نازلة عليهم في الألواح والصحف، وبين الإنزالين بون بعيد وفرق عظيم.
وقد ذكرنا أيضا فرقا آخر بين الكلام والكتاب، بأن أحدهما يكون صفة نفسانية وخلقا، والآخر يكون فعلا وأثرا مبائنا. وكذلك العقل البسيط الإجمالي القرآني صفة ذاتية للعالم به، بل ربما يكون عين العالم. وأما الصور والعلوم التفصيلية فهي من قبيل الآثار، والأفعال، بالقياس إلى العقل الكامل الفعال. فلهذا كان القرآن خلق نبينا (صلى الله عليه وآله) كما هو المروي.
قوله تعالى: { لعلكم تهتدون } أي بتدبر الكتاب والتفكر في آياته.
[2.54]
هذا هو الإنعام الخامس من الله لهم، وذلك لأنه نبههم على عظيم ذنبهم، ثم نبههم على طريق تخلصهم من عذاب يوم القيامة، وذلك من أعظم النعم في الدين، ثم إنه تاب عليهم قبل فنائهم بالكلية، فكان ذلك نعمة في حق الباقين.
يعني: أذكروا يا أهل الكتاب { إذ قال موسى لقومه } الذين عبدوا العجل عند رجوعه من الوعد الذي وعده ربه: { ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم }. أي نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى (عليه السلام)، أو أضررتم بها حيث وضعتم العبادة غير موضعها { باتخاذكم العجل } إلها.
والمفعول الثاني محذوف لدلالة القرينة عليه، فإن الظلم إما بمعنى النقص، أو الإضرار الذي ليس بمستحق ولا فيه نفع، ولا رفع مفسدة لا علما ولا ظنا، فلما عبدوا العجل فقد نقصوا أنفسهم عن تمام الإنسانية، فإن الإنسان إذا كفر بالله انسلخ عن الفطرة، وانخرط في سلك البهائم والحشرات. أو كانوا أضروا بأنفسهم لأن لا ضرر أعظم مما يؤدي إلى عذاب الأبد، ولذلك قال تعالى:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان:13].
{ فتوبوا إلى بارئكم } أي: ارجعوا وأنيبوا إلى خالقكم بالطاعة والتوحيد.
والفرق بين " البارئ " و " الخالق " أن الباري هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من صورة إلى صورة، ومن حال إلى حال. وأصل التركيب في اللغة لخلوص الشيء عن غيره إما على سبيل التقصي، كقولكم: " برئ المريض من مرضه، والمديون من دينه " أو على سبيل الإنشاء، كقوله: " برأ الله آدم من الطين ".
سؤال: لم اختص هذا المقام بذكر هذا الاسم دون غيره من الأسماء الحسنى؟
جواب: لأن الباري هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت لقوله تعالى:
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت
[الملك:3]. ومتميزا بعضه من بعض بصور متباينة وأشكال مختلفة، فكان فيه تقريع لهم بما وقع منهم من ترك عبادة العالم الخبير، الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال والصور المختلفة، وأبرياء من التفاوت إلى عبادة البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة وفي أمثال العرب: " أبلد من ثورة " حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله.
قوله: { فاقتلوا أنفسكم } تتميما لتوبتكم، إما بترك الشهوات واللذات وإماتة القوى الحيوانية، بمنعها عن دواعيها كما قيل: " من لم يعذب نفسه لم ينعمها، ومن لم يقتلها لم يحيها " وفي كلام بعض أعاظم الحكماء: " مت بالإرادة تحيى بالطبيعة ". وفي الحديث النبوي على قائله وآله أشرف سلام الله:
" موتوا قبل أن تموتوا "
وروي أنه قال أيضا:
" من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي فلينظر إلي "
أو بالبخع، أو بقتل بعضكم بعضا فإن الأقوال فيه مختلفة.
وقال قوم من المفسرين - كالقاضي عبد الجبار وغيره -: لا يجوز أن يراد به قتل كل من التائبين نفسه، واحتجوا عليه بوجهين:
أحدهما: إنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ولو كانوا مأمورين به لعصوا بتركه.
وثانيهما: إن القتل اسم لنقص البنية بفعل مزهق للروح في الحال، وأما ما يؤدي إلى الزهوق وقتا آخر فإنما سمي قتلا على سبيل المجاز. فإذا كان كذلك فلا يجوز من الله الأمر بقتل الإنسان نفسه، لأن الأوامر الإلهية والتكاليف الشرعية إنما وقعت لمصلحة للمكلف به في المستقبل، ولا يتصور وجودها بعد عدمه.
وفي هذه المقدمات مواضع نظر، على أن المصلحة لا يجب أن تعود إليه، بل ربما تعود مصلحة قتله لنفسه إلى غيره، بأن ينتفع به ذلك الغير، ثم الله يوصل العوض العظيم إليه. ثم على تقدير عودها إليه لا يلزم أن يكون في الدنيا بل تكون في العقبى.
سلمنا أنه يلزم عودها إليه في الدنيا. لكن لم لا يجوز أن يكون علمه بكونه مأمورا بهذا القتل، وامتثاله للأمر مصلحة له في هذا الآن، أو الزمان القليل؟ كما أنه لو أمر بأن يقتل نفسه غدا، فإن علمه بذلك يصير داعيا له إلى ترك المعاصي من ذلك الزمان إلى ورود الغد، فالوجه الأول أقوى، ولهذا عول عليه المفسرون.
فعلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها إما إلى ما ذكرنا أولا، أو إلى غيره وهو اثنان:
أحدهما: أن يقال: أمر سبحانه التتائبين أن يقتل بعضهم بعضا وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم وهذا كقوله سبحانه:
فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم
[النور:61]. أي ليسلم بعضكم على بعض. وكقوله:
ولا تقتلوا أنفسكم
[النساء:29] ومعناه لا يقتل بعضكم بعضا.
وتحقيق ذلك أن المؤمنين كنفس واحدة، بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، فإنهم ذو آراء متناقضة، ومذاهب متخالفة، وأخلاق متشتتة بعضها: بهيمية، وبعضها سبعية، وبعضها شيطانية. ولذلك حشروا إلى صور مختلفة بحسب ما غلب واستولى على نفوسهم من الأخلاق كما هو معلوم من مباحث علم المعاد. أما نفوس أهل الإيمان والتوحيد فقد ثبت في موضعه أنها ستصل بعالم القدس.
ومذهب بعض أئمة الحكمة والتوحيد من الأقدمين أن النفس العارفة العاقلة عند خروجها عن القوة إلى الفعل في باب العاقلية والمعقولية تتحد بروح القدس المسمى عندهم بالعقل الفعال، فعلى هذا صح القول بأنها كنفس واحدة.
وكذا على مذهب أفلاطن ومن وافقه من عظماء الحكماء في باب، أن لكل نوع صورة مفارقة في عالم الأرواح العالية هي حقيقة ذلك النوع وتمامه، وهي جوهر واحد قائم عند الله ماثل بين يديه. ومع وحدته هو تمام كل واحد من أفراد ذلك النوع، وكذلك لنوع الإنسان وأفراده صورة واحدة في عالم الربوبية هي تمام جوهر الإنسانية، وأن أفراد الناس إذا لم ينسلخوا عن الفطرة الإنسانية بالكفر ونحوه، يكونون متحدين في تمام حقيقتهم، وكمال وجودهم العقلي الباطني بجوهر قدسي واحد، هو نفس حقيقة الجميع، وكانت هذه النفوس البشرية أجزاء لذلك الجوهر، لأنه الأصل.
وهذه هي الفروع الصادرة منه، العائدة إليه عند تمامها وكمالها.
وإليه الإشارة بقوله تعالى:
يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
[النساء:1]. وقوله:
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة
[لقمان:28]. ولذا قيل في قوله:
ولا تلمزوا أنفسكم
[الحجرات:11]. أي إخوانكم من المؤمنين. وفي قوله:
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا
[النور:12]. أي بأمثالهم من المؤمنين.
ثم قال المفسرون القائلون بهذا القول: إن أولئك التائبين برزوا صفين فضرب بعضهم بعضا إلى الليل.
وثانيهما: إن الله أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة وأمر التائبين أن يسلموا للقتل، وهذا أقرب هذين الوجهين.
وعن ابن إسحاق والجبائي أن معنى { فاقتلوا أنفسكم } استسلموا للقتل. فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم على وجه التوسع.
واعلم أن الروايات مختلفة في باب المأمورين بالقتل، ففي بعضها أن موسى (عليه السلام) أمرهم أن يقوموا صفين، فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، وجاء هارون باثني عشر ألفا ممن لم يعبد العجل، ومعهم الشفار المرهفة، وكانوا يقتلونهم، فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين، وجعل قتل الماضين شهادة لهم.
وفي بعضها: إن السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور هم الذين قتلوا ممن عبد العجل سبعين ألفا، فما تحركوا حتى قتلوا ثلاثة أيام ذكره محمد بن إسجاق.
وفي بعضها: - وهي رواية الكلبي -: لما أمرهم موسى (عليه السلام) أجابوا، فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل، فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة.
فأتاهم هارون بالإثني عشر ألفا الذين ما عبدوا العجل، وبأيديهم السيوف وقال التائبون: إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف، فاتقوا الله واصبروا، فلعن الله رجلا قام من مجلسه، أو مد طرفه إليهم، أو اتقاهم بيد أو رجل، يقولون " آمين " فجعلوا يقتلونهم إلى السماء، وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان: " البقية، البقية يا إلهنا " فأوحى تعالى إليه: " قد غفرت لمن قتل. وتبت على من بقي " قالوا: وكان القتلى سبعين ألفا.
وفي بعضها: إن بني إسرائيل كانوا قسمين: منهم من عبد العجل، ومنهم من لم يعبده، ولكن لم ينكر على من عبده، فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة.
وفي الكشاف وغيره: روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، فقتلوا إلى المساء، حتى دعا موسى وهارون، فقالا: " يا رب هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية " فانكشفت السحابة ونزلت التوبة، وسقطت الشفار من أيديهم.
وقوله: { ذلكم خير لكم عند بارئكم } أي: فعل التوبة، أو القتل من حيث كونه طهارة عن الشرك، أو وصلة إلى الحياة الأبدية، والبهجة السرمدية، خير لكم عند خالقكم، فإن حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا ونعيم الآخرة أبدا، وبين التمتع في الدنيا أياما قليلة، والعذاب في الآخرة أبدا، وضرر الدنيا أولى بالتحمل، لأنه متناه من ضرر الآخرة، لأنه غير متناه، ونعيم الآخرة أولى بالإيثار من نعيم الدنيا لأنه دائم وهذا منقطع. ولأن الموت واقع لا محالة، فليس في تحمل القتل إلا تقديم أمر ضروري الوقوع لا محالة، وفي عدم تحمله تأخيره، وأما النجاة من العقاب الدائم والفوز بالثواب الدائم، فهو سعادة لا أعظم منها.
وقوله: { فتاب عليكم } أي: قبل توبتكم.
واعلم أنه قد تقرر عند أهل المعرفة والشهود، وثبت بالأخبار المتكثرة المتظافرة أن الإنسان كلما قرب من الحق قرب هو تعالى منه، وكلما رجع إلى الله رجع إليه. وفي الحديث الإلهي:
" من قرب إلي شبرا قربت إليه ذراعا، ومن قرب إلي ذراعا قربت إليه باعا ".
قوله: { إنه هو التواب الرحيم } أي قابل التوبة عن عباده مرة بعد أخرى، كثير العطوفة عليهم، يمحو السيئات ويغفر الخطيئات.
[2.55-56]
هذا هو الإنعام السادس عليهم من جهة مكافأتهم على ما قالوا في الدنيا بالصاعقة ثم إحيائهم بعد الموت ليتوبوا. ولأهل التفسير في هذه القضية قولان:
الأول: إن هذه القضية كانت واقعة بعد أن كلف الله عبدة العجل بالقتل.
قال محمد بن إسحاق: لما رجع موسى (عليه السلام) من الطور إلى قومه ورأى ما هم فيه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال، وحرق العجل وألقاه في البحر، اختار من قومه سبعين رجلا، فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى (عليه السلام): " سل ربك حتى يسمعنا كلامه ". فسأل موسى (عليه السلام) ذلك فأجابه الله إليه، فلما دنا إلى الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ذلك، ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه. فقال للقوم أدخلوا وعوا. وكان موسى (عليه السلام) متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد منهم النظر إليه، وسمعوا كلام الله مع موسى (عليه السلام)، يقول له: " إفعل كذا، ولا تفعل كذا " فلما تم الكلام انكشف عن موسى (عليه السلام) الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعا وقام موسى (عليه السلام) رافعا يديه إلى السماء يدعو ويقول: إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي لقبول توبتهم، فأرجع إليهم وليس معي واحد، فما الذي يقولون في؟ فلم يزل مشتغلا بالدعاء حتى رد الله إليهم أرواحهم. فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: " لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم ".
القول الثاني: إن هذه الواقعة كانت بعد القتل.
قال السدي: ولما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيه موسى (عليه السلام) في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلا، فلما أتوا الطور قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } فأخذتهم الصاعقة وماتوا، فقام موسى (عليه السلام) يبكي ويقول: " يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل؟ فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بقيتهم هؤلاء، فلما رجعت إليهم ولا يكون معي منهم أحد ماذا أقول لهم؟ " فأوحى الله إلى موسى " إن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلها ". فقال موسى:
إن هي إلا فتنتك
[الأعراف:55] إلى قوله:
إنا هدنآ إليك
[الأعراف:56]. ثم إنه تعالى أحياهم، فقاموا، ونظر كل واحد منهم إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى، قالوا: يا موسى إنك لا تسأل الله شيئا إلا أعطاك، فادعه ليجعلنا أنبياء. فدعا موسى (عليه السلام) بذلك.
فأجاب الله بذلك.
واعلم أن كل واحد من القولين محتمل ولا ترجيح لأحدهما على الآخر..
قال صاحب الكبير: " وليس في الآية ما يدل على أن الذين سألوا الرؤية هم المتخذوا العجل إلها أو غيرهم ".
أقول: وجدنا في الفسير المنسوب إلى مولانا حسن بن علي العسكري (عليه السلام) ما يدل على الثاني لأنه فيه أن معنى قوله تعالى: { فاقتلوا أنفسكم } أي: " فليقتل بعضكم بعضا. فقتل من لم يعبد العجل من عبده " فظهر أن المقتولين هم العابدون للعجل. فالسائلون للرؤية غيرهم.
وفي التفسير المذكور أيضا: " إن القوم كانوا ستمائة ألف، كلهم قتلوا إلا اثني عشر ألفا، وهم الذين لم يعبدوا العجل ".
وقوله: { جهرة } أي: عيانا. قال صاحب الكشاف: " هي مصدر من قولك: " جهر بالقراءة وبالدعاء " كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها. وانتصابها على المصدرية، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس. أو على الحال بمعنى " ذوي جهرة " وقرئ " جهرة " - بفتح الهاء - وهي إما مصدر ك " الغلبة " وإما جمع " جاهر ".
وقال القفال: أصل الجهرة من الظهور. يقال: " جهرت الشيء " إذا كشفته، و " جهرت البئر " إذا كان ماؤها يغطى بالطين فنقيته حتى ظهر الماء. ويقال: " صوت جهير " و " رجل جهوري الصوت " إذا كان صوته عاليا. وإنما قالوا { جهرة } لئلا يتوهم أن المراد بالرؤية العلم والتخيل، كما يراه النائم.
وفي هذا المقام موضع أبحاث عقلية:
الأول: إن بعض المتكلمين من أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - وسائر المعتزلة استدلوا بقوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة } على امتناع الرؤية عليه.
تقريره: أنها لو كانت جائزة فكانوا التمسوا أمرا مجوزا، فوجب أن لا ينزل عليهم العذاب، كما لم ينزل بهم العقوبة لما التمسوا النقل من طعام إلى طعام.
وقال بعضهم: ما ذكر الله سؤال الرؤية في كتابه إلا وقد استعظمه، منها هذه الآية. ومنها قوله:
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة
[النساء:153]. ومنها قوله:
وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
[الفرقان:21]. فالرؤية لو كانت جائزة لما كان سائله مستحقا للصاعقة، ظالما ومستكبرا في نفسه وعاتيا عتوا كبيرا. فدلت الآيات على أن رؤية الله ممتنعة على عباده.
ولقائل أن يقول: لا نسلم دلالتها على امتناع الرؤية، وليس كل عقوبة وجب أن يكون واردة على طلب أمر محال في ذاته، فربما كان سبب العقوبة كونهم ادعوا لنفسهم منصبا عاليا يستحيل حصوله لهم؛ لانحطاط درجتهم عن استحقاق لذلك غاية الانحطاط، وإن كان الأمر في نفسه ممكنا.
ولأنه لما تمت الدلائل الباهرة، والمعجزات الجلية على صدق المدعى، كان طلب دليل آخر زائد تعنتا ولجاجا، والمتعنت اللجوج يستوجب المقت والعذاب.
ولأنه يجوز أن يعلم الله في زجر الخلق عن طلب الرؤية مصلحة مهمة، كما علم أن في إنزال الكتاب من السماء، وإنزال الملائكة منها عليهم مفسدة عظيمة، لا جرم زجرهم عن ذلك واستنكره، ولغير ذلك من الوجوه.
واستدل بعض المجوزين للرؤية بأن الله قد أجرى إنزال الكتاب من السماء مجرى الرؤية في كون كل منهما عتوا، فكما أن إنزال الكتاب أمر ممكن في نفسه فكذا الرؤية. ومن هذا القبيل استدلال بعضهم على إمكانها بأن الله علق رؤيته على استقرار الجبل في قوله:
فإن استقر مكانه فسوف تراني
[الأعراف:143]. من أن استقرار الجبل أمر ممكن في نفسه، والمتعلق على الممكن ممكن، فإن المحال لا علاقة له بشيء، فتكون رؤية الله جائزة.
والجواب: أن إنزال الكتاب على وجه اقترحوه أمر محال لما حقق في العلوم الحقيقية من كيفية نزول الكلام والكتاب، وقد سبق في المفاتيح ما يوضح ذلك لأهل البصيرة. وكذا نقول استقرار الجبل حين التجلي أمر محال.
وأما الذي أجاب به بعضهم " من أن الظاهر يقتضي كون كل واحد من نزول الكتاب والرؤية ممتنعا، لكن ترك العمل به في إنزال الكتاب، فيبقى معمولا به في الرؤية " ففي غاية السخافة كما لا يخفى، لأنه ما أقام دليلا على أن الاستعظام لا يتحقق إلا إذا كان المطلوب ممتنعا، وإنما وقع التعويل على ضرب الأمثلة والمثال لا يقنع به في هذا الباب، والعمل بالظاهر إنما يصح - حيث يصح - في الأحكام الفرعية دون العقائد الأصلية.
البحث الثاني:
إن الرؤية - على أي وجه كانت - هل هي ممكنة للعباد؟ أم هي ممتنعة؟.
اعلم أن أكثر الناس يتنازعون في مسألة لا يعرفون بعد موضوعها ولا محمولها، فقبل تحرير محل النزاع يخاصم بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم بعضا. وهذه المسألة من هذا القبيل، فإن الواجب أولا على كل مسلم أن يعرف ربه ويعرف نفسه، ثم يتكلم في هذا المقام.
وهذان العلمان من العلوم الغامضة التي لا تتيسر إلا بجهد جهيد، وخوض شديد، مع ذهن صاف وصدر منشرح، وقلب منور مشتعل في الصدر كالمصباح في القنديل. وأكثر الناس غلاظ الطبائع قساة القلوب. فإذا من حصل له علم بماهية نفسه وعرف ربه بصفاته اللائقة به من العلم، والقدرة والإرادة، والحياة، وغير ذلك وعرف الصفات على وجه تصح نسبتها إلى الذات الإلهية، وعلم تنزيه الله عن النقائص والعيوب والتشبيهات: ثم علم معنى الرؤية إذا نسبت إلى الحق، ومعنى الرؤية إذا نسبت إلى الخلق، فحينئذ لم يبق له مجال شك، ولا يسع لأحد محل خصومة وخلاف في هذه المسألة.
قال تعالى:
وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها
[البقرة:189]. والقوم تركوا وصية ربهم، واستدلوا على هذا المطلب الشريف الشامخ الإلهي، بالعمل بالظاهر من الوقائع، والحكايات، والأمثال المشهورة، وهذا بعينه اتيان البيت من ظهره وسطحه. ولذلك علومهم وكمالاتهم دائما ظاهرية سطحية، وهم المسمون عند أهل المعرفة الحقة بالظاهريين وعلماء القشر.
فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول: رؤية الله تعالى إما أن يراد بها رؤيته بهذه الآلة المخصوصة، أو بعين القلب. وكل منها إما أن يتعلق بذاته تعالى من حيث ذاته أو بمظهر خاص من المظاهر. فهذه أربعة أقسام بحسب الاحتمال العقلي قبل إقامة البرهان.
أما الأول: وهو أن يرى الإنسان بهذه الباصرة الداثرة ذاته الأحدية، فلا شبهة لذي بضاعة علمية في أن ذلك من الممتنعات، لأن الإحساس بالشيء حالة وضعية للجوهر الحاس بالقياس إلى المحسوس الوضعي، ففرض ما لا وضع له ولا جهة له محسوسا، كفرض ما لا جهة له في جهة، أو ما لا وضع له ذا وضع، وهذا فرض أمرين متناقضين، فيكون المفروض - بل الفرض - محالا.
وأما الثاني: وهو أن يرى بهذا البصر الجسماني مظهرا من مظاهر ذاته، ومجلى ومثالا للحق تعالى، سواء علم كونه مثالا ومظهرا له، أو لم يعلم فهذا أمر جائز، بل واقع، لقوله (صلى الله عليه وآله):
" من رآني فقد رأى الحق "
وقوله تعالى:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح:10]. وقوله:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80].
وأما معنى كون الشيء مثالا ومظهرا له تعالى فيحتاج تحقيقه إلى علوم كثيرة باطنية ليس هاهنا موضع بيانها وسنشير إلى لمعة منها.
وأما القسم الثالث: هو أن يرى بعين القلب مظهرا مثاليا. ولا تنفك هذه الرؤية من العلم بكون المظهر مثالا له تعالى، فهذا مما لا يمكن وقوعه من العبد في الدنيا.
وأما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو عن غيره " أنه رأى في صورة كذا وكذا " فذلك لظهور سلطان الآخرة، وتجرد الروح عن الدنيا وما فيها، فإن للنفس في ذاتها سمعا، وبصرا، ويدا، ورجلا، وجميع الحواس والجوارح المستورة عن مشاعر هذا العالم، وهذه الحواس والقشور حجب، وأغشية ظلمانية على تلك الحواس، والقوى، والأعضاء، وهي المقبورة المحشورة من الخلق عند قيام الساعة.
وأما القسم الرابع: وهو أن يرى بالعين الباطنة ذات الله تعالى - فهذا مختص بالعلماء الراسخين، سيما الأنبياء والأولياء منهم (عليهم السلام) - سواء كانوا في الدنيا أو ارتحلوا إلى الآخرة، فإن هذه رؤية بحقائق الإيمان لا بجوارح الأبدان.
والدليل على هذا ما رواه محمد بن يعقوب الكليني في الكافي، ومحمد بن علي بن بابويه القمي في كتاب التوحيد - طاب ثراهما - عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) إنه قال: " جاء حبر إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره؟ قال: وكيف الرؤية؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار.
ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ".
والذي يدل أيضا على تحقيق رؤية الله بالمعنى الثاني أو الرابع في الدنيا، ما روى محمد بن علي بن بابويه عليه الرحمة في كتاب التوحيد مسندا عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن الله عز وجل، هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف:172] ثم سكت ساعة. ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة: ألست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: جعلت فداك فأحدث بهذا عنك؟ فقال: لا لأنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى عما يقوله المشبهون والملحدون.
البحث الثالث: في معنى كون الشيء مثالا ومظهرا لأمر:
اعلم أن الله منزه عن المثل، إذ لا ماهية له، والمماثل للشيء هو المساوي له في النوع. ولأن كل ما سواه ممكن الوجود في ذاته مستفيد الوجود منه تعالى، والبرهان قائم على أن أفراد ماهية واحدة لا يمكن كون بعضها علة، وبعضها معلولا.
ولكن لا ينزه عن المثال وهو عبارة عن أمر إذا عرف، عرف الممثل له. وإذا شوهد، شوهد. وذلك لأجل رابطة وجودية بينهما، فإن من رأى صورة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد رأى حقيقته المقدسة، فإن الشيطان لا يتمثل به، كما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله). وليس المعنى أن من رآه رأى شخصه الذي مات ودفن في روضة المدينة، لاستحالة خروج شخصه الجسماني من القبر وحضوره في مواضع كثيرة غير محصورة في لحظة واحدة، إذ ربما رآه ألف نائم في أمكنة مختلفة بصور مختلفة في العظم والصغر، والشيب والشباب، وغير ذلك في وقت واحد، ووجود جسم واحد في مكانين - فضلا عن الأمكنة الكثيرة - مستحيل، ومن جوز ذلك فقد خرج عن حد العقل الإنساني، ودخل في حدود البهيمية.
فقد علم أن المراد من رؤيته في المنام رؤية حقيقته المقدسة، التي هي حامل جوهر النبوة، وحامل الرسالة، في صورة مثالية يصدق عليها أنها هي هو بعينه (صلى الله عليه وآله). كما أن من رأى زيدا فقد رأى الحقيقة الإنسانية، التي هي ماهية، كلية، عقلية، توجد في عالم العقل، وفي كل شخص إنساني، فتوجد تلك الحقيقة الواحدة في أماكن متعددة وأزمنة متخالفة، وتتحد بأشخاص غير متناهية، فتكون عين تلك الأشخاص بوجه، وغيرها بوجه؛ لأنها ليست من حيث هي هي متكممة، ولا متحيزة، ولا مشكلة ولا ملونة، ولا في أين، ولا في زمان.
ومع ذلك فهي موجودة بعين وجودات هذه الأشخاص كلها، متحدة بها مع اتصاف الأشخاص بهذه الصفات الكونية، والتضاد الواقع بينها، كالسواد، والبياض ، والحرارة، والبرودة، والعلم، والجهل، وغير ذلك.
والسبب في هذا أن نحو وحدة الحقيقة الكلية نحو آخر من الوحدة، وكذا وجودها ضرب آخر من الوجود، فلها سعة وجودية بها تسع هذه الوجودات الشخصية العدد مع عدم حاجتها في ذاتها إلى شيء منها.
فعلى هذا القياس الحقيقة النبوية، لأن حقيقة النبي (صلى الله عليه وآله) حقيقة مقدسة شريفة، وله مقام كلي مع الله لا يسعه أحد - لا ملك مقرب ولا نبي مرسل - كما ورد من قوله (صلى الله عليه وآله):
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
- والذي كان له وقتا صار له مقاما، إذ الفرق بين الوقت والمقام في عرف أهل الله كالفرق بين الحال والملكة النفسانيين في عرف أهل النظر. فذات النبي (صلى الله عليه وآله) مع الله البتة، ولكن توجد مع ذلك في مظاهر ومجالي بحيث من رأى مثال حقيقته فقد رآه بالحقيقة - لا بالمجاز -.
وكذلك ذات الله تعالى منزه عن الشكل والصورة، ولكن ينتهي تعريفه للعبد بواسطة مثال محسوس إلى حيث يصلح أن يكون مثالا لجماله الحقيقي، الذي لا شكل، ولا صورة، ولا لون له، ويكون ذلك المثال صادقا حقا، وواسطة في المعرفة. فيقول الرائي النائم: " رأيت الله في المنام " لا بمعنى أنه رأى ذاته الأحدية، مجردة عن الأشباح والأمثلة. بل بمعنى أنه رأى مثال ذاته والمثال غير المثل.
وهم وإزالة
ولعلك تقول: إذا أمكنت رؤية الله بضرب مثال، فلماذا لما طلب موسى (عليه السلام) الرؤية لقومه أخذتهم الصاعقة؟! ولما طلب لنفسه قال:
لن تراني
؟! [الأعراف:143] فهلا أظهر له - أو لهم - مثالا صادقا يرونه شاهدين؟.
فنقول: إن الرؤية المثالية له تعالى على أنحاء متفاضلة، وفي عوالم متفاوتة في القرب والبعد منه تعالى، فرب مثال بالنسبة إلى مثال آخر كالحقيقة بالنسبة إلى مثال. ألا ترى أن حقيقة جبرائيل حقيقة عقلية، وكان جبرائيل قد يتمثل أحيانا في هذا العالم بصورة شخص أعرابي، وكثيرا ما كان متمثلا بصورة دحية الكلبي، وكان رجلا حسن الوجه، وقد يتمثل له (صلى الله عليه وآله) في عالم آخر بصورة هي بالحقيقة صورته وقد طبق الخافقين، وذلك أنه سأله رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يريه نفسه على صورته، فواعده ذلك سحرا، فطلع جبرائيل، فسد الأفق إلى المغرب.
والمشهور أنه رآه بصورته الحقيقية مرتين، مرة ما ذكرنا. ومرة أخرى عند سدرة المنتهى كما دل عليه قوله تعالى:
ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى
[النجم:13 - 15]. وكان ما يراه غالبا في صورة الآدمي.
فإذا تقرر هذا نقول: أما الذي طلبه موسى (عليه السلام) من رؤية الله فهو رؤية لا يمكن تحققها إلا بالصعق، والاندكاك، والموت، وما يجري مجراه. ولذلك وقع النهي والعقاب لأن ذلك لا يمكن بهذا العين البالية الدائرة.
فصل
في معنى الصاعقة
قد اختلفوا في معنى " الصاعقة ": هل هي بمعنى الموت؟ أو الشيء الذي هو سبب الموت؟
فالقول الأول - وهو أنها هي الموت - قاله الحسن وقتادة، محتجين بقوله تعالى:
فصعق من في السماوات ومن في الأرض
[الزمر:68].
وحجة القائل بالثاني ما وقع في سورة الأعراف:
فلما أخذتهم الرجفة
[الأعراف:155]. وهذا أولى لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: { وأنتم تنظرون } لامتناع كونهم ناظرين حين تحقق الموت.
وثانيها: قوله تعالى في حق موسى (عليه السلام):
وخر موسى صعقا
[الأعراف:143]. والاتفاق حاصل على أنه لم يمت حينئذ، ولأنه قال:
فلمآ أفاق
[الأعراف:143] و " الافاقة " تكون عن الغشي - لا عن الموت -.
وثالثها: إن الصاعقة هي التي توجب الصعق، فلو فرض كون معنى الصعق هو الموت، فهي سبب الموت.
ولا يبعد القول: بأنهم لما طلبوا الرؤية، أخذهم شبه الغشي والسقوط، وكانوا ينظرون بعيون قلوبهم جمال الله في عالم آخر مثالي، ثم بعثهم الله بدعاء موسى (عليه السلام) عن هذا الصعق الشبيه بالموت، ولفظ " الموت " ومرادفه قد يطلق على مثل هذه الحالة من النوم وغيره، كما في قوله تعالى:
وهو الذي يتوفاكم بالليل
[الأنعام:60]. وكقوله تعالى في حق عيسى (عليه السلام):
إني متوفيك ورافعك إلي
[آل عمران:55] وكذا لفظ " البعث " يطلق على مقابل هذا المعنى، كقوله تعالى:
ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى
[الأنعام:60]. وكقوله في أصحاب الكهف:
ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا
[الكهف:12].
ثم القائلون بأن الصاعقة المراد بها هي سبب الموت اختلفوا في أنها أي شيء كانت هي؟
فمنهم من قال: " إنها نار وقعت من السماء فأحرقتهم ". ومنهم من قال: " إنه أرسل الله جنودا سمعوا بحسيسها، فخروا صعقين ميتين يوما وليلة ".
ولقائل أن يقول: الإنسان إذا مات قطع تعلق النفس عن بدنه وفسد البدن عن صلاحية تعلقها. فإذا فرض إحياؤه، كان ذلك بتعلق النفس مرة أخرى ببدن في هذا العالم. فكان ذلك نسخا والتناسخ محال، بخلاف الحشر فإنه في عالم آخر؟
والجواب: إن التناسخ إنما يلزم لو تعلقت النفس من بدن إلى آخر مباين في هذا العالم - كما ذكرت - ولكن البدن إذا كان واحدا، وكان التعلق متعددا فلا يلزم ذلك.
ولعل الأبدان - فيما نحن فيه - لم تفسد بالكلية، ولم تخرج عن صلوح تعلق النفس بها.
فصل
قوله تعالى: { ثم بعثناكم }
قال صاحب الكبير: " فإن قلت: هل دخل موسى (عليه السلام) في هذا الكلام؟ قلت: لا. لأنه خطاب مشافهة، فلا يلزم تناوله لموسى (عليه السلام). ولأنه لو تناوله أيضا لوجب تخصيصه بقوله تعالى:
فلمآ أفاق
[الأعراف:143] لأن لفظة " الافاقة " لا تستعمل في الموت ".
أقول: قضية صعق موسى (عليه السلام) غير هذه القضية، فلا يجب هذا التخصيص. ولا يلزم بطلان قول من قال كابن قتيبة: " إن موسى قد مات ".
وقوله تعالى: { لعلكم تشكرون } لفظ " الشكر " يتناول جميع الطاعات والتكاليف، ولهذا قال تعالى:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ:13]. فالمراد بعثكم بعد الموت لتتمكنوا من فعل الطاعات، والتلافي لما صدر عنكم من السيئات.
وفي الكبير: " فإن قيل: كيف يجوز أن يكلفهم الله وقد أماتهم، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت؟
قلنا: الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء. وإنما يمنع من ذلك لأنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته ومعرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام. وبعد العلم الضروري فلا تكليف، فإذا كان المانع هو ذاك فلم يمتنع التكليف في حقهم، ويكون موتهم ثم الإحياء بمنزلة النوم أو الإغماء ".
[2.57]
هذا هو الإنعام السابع لبني إسرائيل، وقد ذكره الله هاهنا وفي سورة الأعراف بهذه الألفاظ.
والاظلال من الظلة. وهي والغمامة، والسترة، نظائر.
و { الغمام } السحاب، والقطعة منها غمامة. وإنما سمي غماما لأنه يغم السماء، أي: يسترها. وكل ما ستر شيئا فقد غمه، والغمة: الغطاء على القلب، من الغم. و " فلان في غمة من أمره " إذا لم يهتد له.
و { المن } أصله الإحسان إلى من لا يستثيبه، والاسم: المنة.
و { السلوى } طائر كالسماني. قال الأخفش: هو للواحد والجمع كالدفلى. وقيل: واحده " سلواة ".
والمعنى: جعلنا لكم الغمام ظلة وسترة تقيكم حر الشمس في التيه، وأنزلنا عليكم المن - وهو الترنجبين - وبعثنا إليكم السلوى.
روي أنه سخر الله لهم السحاب، يسير بسيرهم، يظلهم من الشمس، وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى.
{ وأنزلنا عليكم المن } وهو الترنجبين، وكان ينزل عليهم مثل الثلج من طلوع الشمس لكل إنسان صاع، ويبعث الجنوب فتحشر عليهم السلوى - وهي السماني - فيذبح الرجل منها ما يكفيه.
قال الطبرسي في مجمع البيان: " المن فيه وجوه:
أحدها: إنه المن الذي يعرفه الناس، يسقط على الشجر عن ابن العباس.
وثانيها: إنه شيء كالصمغ، كان يقع على الأشجار، طعمه كالشهد والعسل عن مجاهد.
وثالثها: إنه كالخبز المرقق، عن وهب.
ورابعها: إنه جميع النعم التي آتاهم الله، مما من الله تعالى به عليهم، مما لا تعب فيه ولا نصب.
والسلوى، قيل: وهو السماني. وقيل هو طائر أبيض يشبه السماني، عن ابن عباس ".
قوله: { كلوا } على إرادة القول.
{ وما ظلمونا } بأن كفروا هذه النعم. يعني: فظلموا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا. فوقع الاختصار لدلالة الكلام على هذا الحذف. وهذا دليل على أن الله لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه، وإنما تعود منفعة الطاعة إلى المطيع، ومضرة المعصية إلى العاصي.
وكيفية قصتهم أنه لما ابتلاهم الله بالتيه إذ قالوا لموسى (عليه السلام):
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
[المائدة:24]. حين أمرهم بالسير إلى بيت المقدس وحرب العمالقة، فوقعوا في التيه، فصاروا كلما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ أو ستة، فكلما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه كذلك حتى تمت المدة، وبقوا فيها أربعين سنة، وفي التيه توفي موسى وهارون (عليهما السلام) ثم خرج يوشع بن نون، ولما حصلوا في التيه ندموا على ما فعلوا، فألطف الله تعالى لهم بالغمام لما شكوا حر الشمس.
ومما روى أصحابنا الإمامية في هذه القصة عن الصادق (عليه السلام) أنه كان ينزل عليهم المن من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه، فلذلك يكره النوم في هذا الوقت.
وعن ابن جرير: وكان الرجل منهم إن أخذ من المن والسلوى زيادة على طعام يوم واحد فسد، إلا يوم الجمعة، فإنه لم يفسد إذا أخذوا منها ليوم الجمعة والسبت، لأنهم لا يأتيهم يوم السبت.
وكانوا يخبزونه مثل القرصة، فيوجد له طعم كالشهد المعجون بالسمن، وكان إذا ولد فيهم مولود يكون عليه ثوب يطول بطوله كالجلد.
وفي هذه القصة أسرار عجيبة، وما أشبه حال قوم موسى (عليه السلام) في التيه بحال البقر والغنم والله أعلم.
[2.58]
هذا هو الإنعام الثامن، فإن الآية معطوفة على الآيات المتقدمة المذكورة فيها النعم المتقدمة التي آخرها تظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى. فأردف بنعمة أخروية.
والدخول، والولوج، والاقتحام نظائر. إلا أن الاقتحام دخول على صعوبة.
والقرية والبلدة، والمدينة نظائر.
والسجود: الانحناء الشديد.
و " حطة " مصدر، ك " ردة " و " جدة ". وهي خبر مبتدإ محذوف. أي سؤالنا حطة الذنوب. وأصله النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات، كقوله تعالى:
فصبر جميل
[يوسف:18]. وقيل معناه: أمرنا حطة. أي: أن نحط هذه القرية ونستقر فيها.
قال صاحب الكشاف: والأجود أن تكون منصوبة بإضمار فعلها، وينتصب محل ذلك المضمر ب { قولوا }.
والغفران والصفح والعفو نظائر. والغفر في اللغة: الستر. يقال: " غفر الله له غفرانا " أي: ستر الله على ذنوبه. والخطيئة والزلة والمعصية نظائر.
والمحسن: الفاعل للإحسان، أو للحسن. يقال: " أحسن إلى غيره " و " أحسن في فعله ". والفرق بينهما أن الأول لا يقال إلا في النفع بخلاف الثاني، وحد الحسن من طريق الحكمة هو الفعل الذي يدعو إليه العقل. وضده القبيح، وهو الفعل الذي يزجر عنه العقل.
فصل
القرية التي أمروا بدخولها
اختلف المفسرون في أن المراد من هذه القرية أي قرية؟ فالأكثر على أنها بيت المقدس. ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر:
ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم
[المائدة:21]. ولا شك أن المراد منهما واحد.
وعن ابن عباس وابن زيد أنها " أريحا " وهي قرية قرب بيت المقدس، وكان فيها بقايا من قوم عاد، وهم العمالقة، رأسهم عوج بن عنق.
وقيل: إنها نفس مصر.
واعترض على الأول بأن الفاء في قوله تعالى:
فبدل الذين ظلموا
[البقرة:59] يقتضي التعقيب، فوجب أن يكون هذا التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمر في حياة موسى (عليه السلام).
والجواب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن هذا القول من الله وقع على لسان موسى (عليه السلام)، أو على لسان يوشع، وإذا حملنا على لسان يوشع زال الإشكال.
وقوله: { كلوا } أمر إباحة. أي: كلوا منها أنى شئتم { رغدا } أي: موسعا عليكم، مستمتعين بما شئتم من طعام القرية بعد المن والسلوى.
وأما قوله: { وادخلوا الباب } فهو أمر تكليف حتم. ومن هاهنا يعلم أن قوله: { ادخلوا هذه القرية } أيضا أمر تكليف لأن دخول الباب مشروط به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأيضا قوله تعالى في المائدة:
ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم
[المائدة:21]. يدل على الوجوب. ولا شك أن المراد من الدخول في الآيتين واحد.
قوله تعالى: { وادخلوا الباب سجدا } اختلفوا في الباب على وجوه: فعن ابن العباس، والضحاك، ومجاهد، وقتادة: أنه باب يدعى " باب حطة " من بيت المقدس.
وحكى الأصمعي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القرية، ومدخلا إليها.
واختلفوا في المراد بالسجود. فقال الحسن: أراد به نفس السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض. وهو بعيد، لمعنى الحالية فيه، فيمتنع الدخول حين السجود.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن المراد هو الركوع. لأن الباب كان صغيرا يحتاج فيه إلى الانحناء للولوج. وهذا أيضاف بعيد لعدم الحاجة فيه إلى الأمر.
والأقرب أن المراد الخضوع، لأنه لما امتنع حمله على حقيقة السجود فيجب حمله على التواضع، لأنهم إذا أخذوا في الخضوع تائبين، والتائب من الذنب لا يخلو عن خشوع واستكانة.
وأما قوله تعالى: { وقولوا حطة } فالوجه فيه أن التوبة صفة قلبية، فلا يطلع عليها الغير. وهي وإن كانت تتم من غير حاجة فيها إلى قول - كما في الأخرس - لكن لأجل أن يعرف الغير عدوله من الفسق إلى التوبة، ولإزالة التهمة عن نفسه يحتاج فيها إلى القول، ألا ترى أن من كان معروفا بمذهب باطل، ثم استبصر وعدل إلى الحق، فإنه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ، لزوال التهمة ولعودهم إلى موالاته بعد معاداته، ولنصرة الحق وتقويته في إظهار شعائر الدين، فلأجل ذلك أمروا بأن يدخلوا الباب خاضعين بقلوبهم، ذاكرين بلسانهم، حتى يكونوا جامعين بين عمل الجنان بالندم، وعمل الأركان بالخضوع أو الانحناء، وعمل اللسان بالاستغفار وهذا أجود الوجوه.
وعن الأصم: ان هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب، لا يعرف معناها في العربية.
وعن أبي مسلم الإصفهاني معناه: أمرنا حطة. أي نحط في هذه القرية ونستقر فيها. وزيفه القاضي بأن قوله: { نغفر لكم خطاياكم } يدل على أن الغفران متعلق به، ولو كان الوجه ما ذكره لم يكن للمغفرة تعلق بقولهم حطة. وفيه ما لا يخفى.
فصل
هل كان التكليف بالتوبة متعلقا بذكر هذه اللفظة؟
أم مطلق قول دال على الندم والخضوع؟
فالمروي عن ابن عباس أنهم كانوا مأمورين بهذه اللفظة بعينها، وهو محتمل، لكنه بعيد من وجوه:
أما أولا: فلأن هذه اللفظة عربية.
وأما ثانيا: فلأنهم كانوا مأمورين بالتوبة والخضوع، والمقصود حاصل بغير هذه اللفظة.
وأما ثالثا: فلأن التوبة تحط الذنوب - سواء قيل هذا اللفظ، أم لا - فذكره بعينه لا فائدة فيه.
وروي عن ابن عباس أيضا: أمروا أن يقولوا: " هذا الأمر حق ".
وقال عكرمة: أمروا أن يقولوا: " لا إله إلا الله " لأنها تحط الذنوب. وبالجملة كل ما يحط الذنوب فصح أن يترجم عنه ب " حطة ".
وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " نحن باب حطتكم ".
قوله تعالى: { وسنزيد المحسنين } أي: من كان محسنا منكم كانت كلمة الاستغفار له زيادة في ثوابه، ومن كان مسيئا كانت له مغفرة لذنوبه.
وقيل: سنزيدهم على ما يستحقونه من الثواب تفضلا، كقوله تعالى:
ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله
[فاطر:30]. وكقوله:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس:26].
وقيل: المراد به أن يزيدهم الإحسان على ما سلف من الإحسان، بإنزال المن والسلوى، وتظليل الغمام وغير ذلك، فإن الزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا، كما يمكن أن تكون من منافع الآخرة.
فصل
القراءة في { نغفر لكم } مختلفة. فقرأ ابن المبارك بالنون وكسر الفاء. ونافع بالياء وفتحها. والباقون من أهل المدينة بالتاء، وضمها، وفتح الفاء. والحسن وقتادة وأبو حياة بالياء وضمها، وفتح الفاء.
قال القفال: والمعنى في القراءات كلها واحد، لأن الخطيئة إذا غفرها الله فقد غفرت، وإذا غفرت فقد غفرها الله. والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث. كقوله تعالى:
وأخذ الذين ظلموا الصيحة
[هود:67]. و: أخذت الذين.
فصل
لأهل الإشارة أن يأولوا الآية: ادخلوا أيها السالكون إلى المنازل، والمقامات، حسب تطورات النفوس، وتقلبات القلوب هذه الأرض المقدسة، التي هي عالم القدس والملكوت، بقدم الصدق واليقين في العلم والعمل، وكلوا من طيبات الأغذية العلمية والأرزاق المعنوية. وادخلوها من بابها الذي هو الحقيقة الإنسانية، والإنسان المعنوي. فإنه لا يمكن الدخول إلى ذلك العالم القدسي الإلهي إلا بالولوج في هذا الباب الذي باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب. مخبتين ساجدين لله، محبين لجماله، فانين في جلاله عن هذه الأنانية، قائلين: " حط يا إلهي عنا أوزارنا، ونح عنا وساوس نفوسنا الحيوانية، واغفر لنا ذنوب وجوداتنا، وجرائم قوانا المجرمة الظلمانية بنور تقديسك وتطهيرك ".
ويؤيد هذا التأويل ما ورد من طريق أهل بيت النبي عليه وعليهم السلام أنهم قالوا: " نحن باب حطتكم " وقوله (صلى الله عليه وآله):
" أنا مدينة العلم وعلي بابها "
وروي أيضا عن الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) أنه قال: " مثل الله على الباب مثال محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وأمرهم أن يسجدوا تعظيما لذلك المثال، ويجددوا على أنفسهم العهد القديم من موالاتهما ".
[2.59]
قيل: الرجز - بكسر الراء -: العذاب في لغة أهل الحجاز، وهو غير الرجس. لأن الرجس: النتن. وقال الزجاج: " إن الرجز والرجس معناهما واحد ".
والظاهر أن الرجز قد يجيء بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى:
ولما وقع عليهم الرجز
[الأعراف:134]. يعني: العقوبة. وكذا قوله: { ويذهب عنكم رجز الشيطان }. وهو نجاسة معنوية. كما أن التوبة طهارة قلبية. والرجس في الأصل ما يعاف عنه.
والمعنى خالفوا الأمر وبدلوا ما أمروا به من التوبة والاستغفار، فلم يفعلوا ولم يقولوا قولا دالا على التوبة طلبا لما اشتهوا من أغراض الدنيا ودواعي النفس والهوى. فقالوا غير ذلك، فاستحقوا العذاب. فأنزلنا عليهم العقوبة من السماء بظلمهم وفسقهم.
ومن هاهنا علم أن المأمور به لم يكن لفظا بعينه، وهو لفظ " الحطة " فجاؤوا بلفظ آخر، وذلك لأنه لو فرض أنهم جاؤوا بلفظ آخر يفيد هذا المعنى مستقلا بمعنى ما أمروا به لم يستحقوا المؤاخذة والعذاب، ولم يكونوا ظالمين بوضع لفظ في غير موضعه. كما لو قالوا مكان لفظ " حطة ": " نستغفرك ونتوب إليك " أو: " اللهم اغفر لنا ذنوبنا واعف عنا سيئاتنا " وما يجري مجراه.
واختلف في ذلك الغير، فقيل: إنهم قالوا بالسريانية: " هطا شمقاتا ".
في تفسير مولانا الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام): إنهم دخلوها مستقبليها بأستاهم وقالوا: " هيطا شمقاتا " أي حنطة حمراء نتقوتها أحب إلينا من هذا الفعل وهذا الأمر.
وقيل: قالوا: " حنطة " تجاهلا واستهزاء.
وقيل : كانوا قد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا، وقد صغر لهم الباب توطئة لذلك، فدخلوه راجعين على أستاهم، فخالفوا في القول والدخول جميعا.
وهم
ومن الناس من يحتج بهذه الآية على وجوب التوقيف في الأدعية الواردة، وعدم تبديلها بلفظ آخر.
والجواب: إنهم إنما استحقوا العذاب لتبديلهم القول إلى قول آخر مضاد له في المعنى، فمن بدل لفظا بلفظ آخر مع بقاء المعنى، لم يظهر من هذه الآية استحقاقه للذم.
فصل
واعلم أن هاهنا سؤالات:
الأول: لم قال في سورة البقرة: { إذ قلنا } وقال في الأعراف:
وإذ قيل لهم
؟ [الأعراف:161].
الثاني: لم قال هاهنا: { وإذ قلنا ادخلوا } وفي الأعراف:
اسكنوا
؟ [الأعراف:161]
الثالث: لم قال هاهنا: { فكلوا } بالفاء، وفي الأعراف: { وكلوا } بالواو؟
والرابع: لم قال هاهنا: { نغفر لكم خطاياكم } وفي الأغراف:
نغفر لكم خطيئاتكم
؟ [الأعراف:161]
والخامس: لم ذكر قوله: { رغدا } هاهنا، وحذفه في الأعراف؟
السادس: لم ذكر هاهنا:
وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة
[البقرة:58] وفي الأعراف قدم المؤخر؟
السابع: لم قال هاهنا:
وسنزيد المحسنين
[البقرة:58] مع الواو. وفي الأعراف بدونها؟
الثامن: قال في الأعراف: { فبدل الذين ظلموا قولا } وهاهنا بدون لفظ { منهم } فما الفائدة في هذه الزيادة؟
التاسع: لم قال هاهنا: { فأنزلنا } عليكم { رجزا من السمآء } وفي الأعراف:
فأرسلنا عليهم
؟ [الأعراف:162]
العاشر: لم قال هاهنا: { بما كانوا يفسقون } وفي الأعراف:
بما كانوا يظلمون
؟ [الأعراف:162]
والجواب عن الأول: إن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله إزالة للإبهام. ولأنه ذكر في أول الكلام:
اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم
[البقرة:40] فالمناسب بهذا المقام أن يقول:
وإذ قلنا
[البقرة:58] وأما في الأعراف فلا يبقى إبهام هناك بعد التصريح المقدم.
وعن الثاني: إن الدخول مقدم على السكون ولا بد منه، فذكر " الدخول " في السورة المتقدمة و " السكون " في المتأخرة.
وعن الثالث: إن كل فعل عطف على شيء وكان الفعل بمنزلة الجزاء، وذلك الشيء بمنزلة الشرط عطف بالفاء دون الواو، وأما إذا لم يكن مشروطا به فعطف بالواو. ولما كان الأكل منها هاهنا قبل الدخول فيها، مشروطا بحدوثه، وبعده غير مشروط بحدوثه - بل بالكون فيها - لا جرم للإشعار بالمعنيين تارة عطف بالفاء، وتارة بالواو. كما في قوله تعالى:
اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها
[البقرة:35] فإنه عطف في البقرة بالواو، وفي الأعراف بالفاء. فإن " اسكن " قد يقال لمن لم يدخل دارا فيراد منه الدخول، ويقال لمن دخل فيراد منه اللزوم والبقاء.
وعن الرابع: ان الخطايا جمع الكثرة - دون الخطيئات لأنها جمع السلامة - ففي البقرة لما أضاف القول إلى نفسه قرن به ما يناسب جوده وكرمه.
وعن الخامس: مثل ما ذكرناه.
وعن السادس: إن الواو للجمع المطلق، والمخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين، والمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة، لأن التخلية مقدمة على التحلية، فلا جرم كلف المذنبين أن يقولوا أولا: " حطة " ثم يدخلوا الباب سجدا. وأما غير المذنب، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة ساجدا لله أولا، ويقول " حطة " ثانيا. فلما احتمل كون أولئك المخاطبين على هذين النوعين، لا جرم ذكر حكم كل منهما في سورة أخرى.
وعن السابع: إن هاهنا أمران التوبة والعبادة - أعني مفادي لفظتي السجدة والحطة - وذكر بأزائهما جزاءان: المغفرة والزيادة. فقوله: { نغفر لكم خطاياكم } بأزاء التوبة التي هي الحطة. وقوله: { وسنزيد المحسنين } بأزاء العبادة التي هي السجدة. فترك الواو يفيد كون كل واحد من الجزاءين متوزعا على واحد من الشرطين كما في الأعراف، وإيرادها يفيد كون المجموع جزاء واحدا لمجموع الفعلين.
وعن الثامن: إن في الأعراف لما وقع في أول القصة ما يدل على التخصيص والتبعيض، حيث قال:
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف:159]. فعلم أن منهم من هو على هذه الصفة. فلما عد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم قال في آخر القصة:
فبدل الذين ظلموا منهم
[الأعراف:159] فذكر لفظ " من " التبعيض. كما ذكره في أول القصة، ليكون الآخر مطابقا للأول، فيكون الهادون من أمة موسى (عليه السلام) غير الظالمين منهم. وهاهنا لم يذكر في الآيات السابقة ما يدل على التخصيص، ولم يذكر إلا الأمة الجائرة، فلا حاجة إلى هذا التبعيض.
وعن التاسع: إن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر دفعة، والارسال يفيد الدوام والاستمرار، ويشير إلى الاستيلاء عليهم والسلطنة الموجبة لاستئصالهم بالآخرة.
[2.60]
الاستسقاء: طلب السقيا. ويقال: " سقيته وأسقيته " بمعنى. وقيل: أسقيته: دللته على الماء.
وعصا وعصوان وثلاث أعص. وجمعه عصي - بكسر العين والصاد، وتشديد الياء -.
والانفجار: الانشقاق. والانبجاس أضيق منه.
والعين: من الأسماء المشتركة، ويمكن أن يكون استعمالها في بعض المعاني على سبيل المجاز والتشبيه. فالعين في الحيوان مشبهة بالعين في الماء في خروج الدمع منها كخروج الماء. وبالعين في الشمس في خروج الشعاع منها.
والأناس جمع لا واحد له من لفظه.
{ ولا تعثوا } أي: لا تفسدوا ولا تطغوا.
وقرئ: اثنتا عشرة - بكسر الشين وبفتحها - وهما لغتان، أولاهما لغة أهل الحجاز. لكن القراء السبعة بأجمعهم على إسكان الشين لأنه أخف.
والمعنى: أذكروا نعمة أخرى أنعمها الله عليكم مضافة إلى النعم السابقة. وهي النعمة التاسعة منه تعالى على بني إسرائيل، جامعة للنشأتين. أما الدنيا فلشدة حاجتهم إلى الماء عند الظمإ في التيه، وأما الآخرة فلكونها من أظهر الدلائل على وجود صانع، عليم، حكيم، رؤوف، رحيم، وعلى صدق نبيهم موسى (عليه السلام).
{ وإذ استسقى موسى } أي: سأل الله أن يسقي قومه ماء، وذلك في الحال التي تاهوا في التيه، فشكوا إلى الله الظمأ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك الحجر، وهو عصاه المعروف، وكان من آس الجنة دفعه إليه شعيب، وكان آدم (عليه السلام) حمله من الجنة معه إلى الأرض، وكان طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة نورا، وبه ضرب البحر فانفلق، وهو الذي صار ثعبانا.
واللام في الحجر إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم، إذ روي أنه حجر طوري حمله معه، وكان مربعا له أربعة أوجه تنبع من كل ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط، وكانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر إثني عشر ميلا. وكانوا لا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كان به منهم في المنزل الأول.
وقيل: أهبطه آدم (عليه السلام) من الجنة، فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب (عليه السلام)، فدفعه إلى موسى (عليه السلام) مع العصا.
وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة، ففر به فقال جبرائيل: يقول الله تعالى:
" ارفع هذا الحجر، فإن لي فيه قدرة، ولك فيه معجزة "
فحمله في مخلاته.
وإما للجنس أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجر. وعن الحسن: لم يؤمر أن يضرب حجرا بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة، وأبين في القدرة.
وروي أنهم قالوا: " كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة " فحمل حجرا في مخلاته، فحيث ما نزلوا ألقاه.
وقيل: كان يضربه بعصاه فيتفجر، ويضربه بها، فييبس.
فقالوا: لو فقد موسى عصاه متنا عطشا. فأوحى الله إليه: " لا تقرع الحجارة وكلمها تعطك ".
واختلفوا في صفته. فقيل: كان من رخام. وكان ذراعا في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان.
وقوله: { فانفجرت } الفاء متعلقة بمحذوف. أي: فضرب فانفجرت. أو: فإن ضربت فقد انفجرت. كما في قوله:
فتاب عليكم
[البقرة:54] وهي على هذا التقدير فاء فصيحة.
ولا منافاة بين قوله: { فانفجرت } هنا، وبين قوله:
فانبجست
[الأعراف:160] في سورة الأعراف. لأن الانبجاس هو ضرب من الانفجار، إلا أنه أقل. وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون أول ما يضرب عليه العصا كان ينبجس الماء، ثم يكثر حتى يصير انفجارا.
وقيل: كان ينبجس عند الحاجة، وينفجر عند الحاجة.
وقيل: كان ينبجس عند الحمل وينفجر عند الوضع.
وقوله: { قد علم كل أناس مشربهم } أي: علم كل سبط وكل فريق منهم موضع شربهم. وإنما علموا ذلك؛ لأنه كان بأزاء كل عين جدول لسبط من الأسباط. ولا يبعد كون كل جدول منقسما إلى جداول صغار حسب تعدد الطوائف والفرق الداخلة تحت كل سبط. وكون كل إنسان مأمورا بأن لا يشرب إلا من جدول معين، لئلا يقع بينهم التشاح والتنازع.
وأما إضافة المشرب إليهم فإنه لما كان الماء مباح الأصل ، وقد عين لكل سبط وطائفة ما ظهر من الشق الذي يليه، والجدول الذي يخصه صار ذلك كالملك. فصحت الإضافة إليهم.
وقوله تعالى: { كلوا واشربوا } على إرادة القول. أي: قلنا لهم، أو قال موسى لهم. وفي الكلام حذف. أي: " كلوا من المن والسلوى واشربوا من ماء العيون ". أو المراد: " كلوا ما يتكون من الماء من الأغذية، وما ينبت من الأرض من جهة سقي الماء " فإنه لما أنعم الله عليهم بإخراج العيون، وجري المياه، فقد أنعم عليهم بالمآكل الحاصلة منها.
وهذه الآية حجة للمعتزلة على أن الرزق هو الحلال، لأن الأمر بالأكل من الرزق وقع من الله. وهذا الأمر إن لم يكن للوجوب، فلا أقل للإجابة. فلو تحقق رزق حرام، لزم كونه مباحا وحراما. وهذا غير جائز.
وقوله: { لا تعثوا } أي: لا تتمادوا ولا تعتدوا حال إفسادكم. لأن العثي ليس إلا الفساد.
فصل
في البحث العقلي
للقائل أن يقول: كيف ينفجر ذلك الماء الكثير من ذلك الحجر الصغير؟
والجواب: ان الله قادر على جميع الممكنات، وذلك من آيات الله الباهرة. والأعاجيب الظاهرة، الدالة على صدق أنبيائه ورسله (عليهم السلام)، لكونها معجزة لهم لوقوعها عند سؤالهم. فيظهر منها أشد ظهور أنه هو المنشئ للأشياء، الفاعل لما يشاء. الذي يتذلل له الصعاب، ويتسبب له الأسباب، فلا عجب من ظهور أمور غريبة في بعض الأزمنة، دالة على بدائع صنعه، وغرائب حكمته، وصدق أنبيائه.
ومثل هذا الأمر الغريب بل أغرب وأعجب منه قد وقع من نبينا (صلى الله عليه وآله) في بعض الغزوات وقد ضاق بهم الماء، فوضع يده في ميضاة، ففار الماء بين أصابعه حتى استكفوا.
وإنما قلنا هذه المعجزة أعظم غرابة من معجزة موسى (عليه السلام)، لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة بخلاف نبوعه من الأصابع.
فمن أنكر أمثال ذلك من الملاحدة، والدهرية الذين ما عرفوا الصانع العالم بالكليات والجزئيات،
وما قدروا الله حق قدره
[الأنعام:91] فالكلام معهم إنما يكون في أصل إثبات الصانع، وعلمه، وقدرته، وشمول علمه لجميع المعلومات، وسعة قدرته لجميع المقدورات، ولا معنى للتشاغل معهم في الفروع بعد ما خالفوا في الأصول.
بقي الكلام في إمكان هذا الأمر، إذ المحال لا يكون مقدورا، لأنه لا شيئية ولا ذات له حتى يكون مقدورا. فنقول:
هاهنا أربعة شقوق:
أحدها: وجود ذلك الماء العظيم مع عظمه في باطن الحجر.
والثاني: وجوده فيه مع تداخل أجزائه بعضها في بعض.
والثالث: تكونه فيه شيئا فشيئا وخروجه منه على التدريج.
والرابع: تكونه لا من أسباب طبيعية ومدد جسماني، بل من أسباب نفسانية وتصورات وهمية. والشقان الأوليان باطلان، والأخيران جائزان.
أما بطلان الشق الأول - وهو كون ذلك الماء مع عظمه مستكنا في ذلك الحجر، ثم ظهر خارجا عنه - فلأن الظرف الصغير لا يحوي الجسم العظيم، لاستلزامه أن لا يكون الكل أعظم من جزئه. وهو محال.
وأما بطلان كونه موجودا فيه على نحو التداخل فللدلائل الدالة على استحالة التداخل، سيما على وجه التضاعف.
وأما إمكان الشق الثالث فلأن مادة العناصر قابلة لأن يتكون منها الصور الغير المتناهية على التعاقب، فيجوز أن يستحيل بعض أجزاء الحجر ماء، أو ينقلب الهواء المجاور له إلى الماء بعد نفوذه إليه من المسامات الضيقة، كما يجتمع قطرات الماء على الطاس المكبوب على الجمد، بسبب انقلاب الهواء إليه، بحيث كلما زيل عن ظهر الإناء ينزل ويجري بدله لأجل برودة الإناء.
وأما إمكان الشق الرابع فلما بين في موضعه، من تأثيرات النفوس القوية في مادة الكائنات بتصويرها أية صورة أرادوا، لا من أسباب طبيعية واستعداد مادي، بل بمجرد إنشاء اختراعي، يبرز من مكمن الغيب إلى عالم الشهادة - كما بين وحقق في مسائل النبوات -.
ومن اعتبر أحوال نفسه، وبدنه، هان عليه دفع هذا الاستبعاد، فإن من شأن مادة بدننا، وعالمنا الصغير، أن يحدث ويتكون فيها الحوادث الكونية من وجهين:
أحدهما: على مجرى الأمور الطبيعية، فيتكون فيه أمر من قبل أسباب على نحو الإعداد في مادة قبل مادة.
وثانيهما: على سياق آخر غير مجرى الطبيعة، بل من جهة فاعلية وتصوير نفساني تؤثر في مادة البدن. كالغضب الشديد.
وهو هيئة نفسانية تؤثر في تسخين البدن وتحليل الرطوبات، وربما يحرق الأخلاط. وكالخوف فإنه برودة في الأعضاء وربما تبطل بسببه الحرارة الغريزية، وكالشهوة فإنها تحدث ريحا وماء، لا عن امتلاء طبيعي وانتفاخ طبيعي. فعلى هذا قياس نفس العالم الكبير عند بدنه.
فإن قلت: كيف يكون الشق الأول وهو وجود الجسم العظيم في المكان الصغير ممتنعا غير مقدور، وقد روى محمد بن علي بن بابويه القمي - ره - في كتاب التوحيد بسنده المتصل: أنه جاء رجل إلى الرضا (عليه السلام) فقال: " هل يقدر ربك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ " قال: " نعم. وفي أصغر من البيضة. قد جعلها كلها في عينك، وهي أقل من البيضة. لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعمال عنها ".
وروى أيضا محمد بن يعقوب الكليني - ره - حديثا آخر مثله عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عند سؤال عبد الله الديصاني عن ذلك.
قلت: لا منافاة بين ما ذكرنا وبين المروي عنهما (عليهما السلام)، فإن كون الأجسام في المشاعر والمرائي نحو آخر من الوجود، والذي حكمنا بامتناعه هو وجود العظيم في الصغير في نشأة. فإن وجود الأجسام المرئية في آلة النفس وجود إدراكي يختص ظهورها به للمدرك لها دون غيره، بخلاف وجود الأجسام في موادها الكونية.
وتحقيق هذا المقام يفتقر إلى تحقيق معرفة النفس وأحوالها، وكيفية علم النفس بالأشياء الخارجة عن ذاتها. ومن أمعن في كيفية الإبصار - سيما على الوجه الذي حققناه موافقا للشواهد السمعية من الكتاب والسنة، ومحققا لمسألة المعاد، وحشر الأجساد - لقضى آخر العجب من ظهور قدرة الله وعجائب صنعه عليه، وسيأتي ذكره عند كلامنا في تفسير آيات المعاد.
والذي يدل على صحة ما حملنا الرواية المذكورة عليه ما رواه ابن بابويه أيضا في الكتاب المذكور مسندا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) " هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ " فقال (عليه السلام): " إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون ".
فهذا الحديث صريح في أن الذي سأله ذلك القائل ممتنع بالذات غير مقدور ولا كائن. فلو لم يكن معنى الرواية الأولى ما أولناها إليه لكان بين الروايتين تدافع، وجلت أحاديث أئمتنا (عليهم السلام) أن يكون بعضها يناقض بعضا، لعصمتهم عن الخطإ.
وروي أيضا فيه مسندا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: " أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغر الأرض ولا يكبر البيضة؟ " فقال له: " ويلك.
إن الله لا يوصف بالعجز. ومن أقدر ممن يلطف الأرض ويعظم البيضة ".
فدلت هذه الرواية على أن دخول العظيم في الصغير في نشأة الدنيا لا يمكن إلا بأن يصغر العظيم بالتكاثف، ويعظم الصغير بالتخلخل، وأن تصغير الأرض إلى حد يكون مقدارها أقل من البيضة، أو تعظيم البيضة إلى حد يكون مقداره أكبر من الأرض. غاية القدرة.
تنوير فيه تنبيه
ليس للمتفلسف أن يمنع تكون الماء من ذلك الحجر في مقدار من الزمان متعاقبا، بعد ما يرى أن الأرض لها مقدار معين ممسوح بمساحة معلومة العدد بالذراعات، والذي يتكون من الأرض على التعاقب من أفراد الإنسان، وغيره من الحيوانات، والنباتات، لا يمكن حصرها وعدها، سيما على مذهبه من قدم العالم، وتسرمد الأنواع المتوالدة، وعدم تناهي أفرادها في الجانبين. فلا نسبة لما يتكون من الحجر إلى الحجر في جنب ما يتكون من الأرض إلى الأرض.
فإن قال قائل: إن ما يتكون من الأرض من المواليد الثلاثة، فإنها تعود جثتها وأجسادها إليها إذا استحالت ترابا، فلا ينقص مقدارها.
قلنا: وهاهنا أيضا مثل ما ذكرت على طريق الأولى.
تتمة:
ذكر في التفسير الكبير وجوه دلالة ذلك الانفجار على الإعجاز:
أحدها: نفس ظهور الماء من الصماء.
وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجر الصغير.
وثالثها: خروجه بقدر حاجتهم.
ورابعها: خروجه عند ضرب العصا.
وخامسها: انقطاعه عند الاستغناء.
فالكل من أعظم الدلائل على قدرة الله وحكمته وتصديق رسله (عليهم السلام ).
[2.61]
قرأ أهل المدينة النبيئين بالهمزة، والباقون بغير الهمزة.
والطعام: ما يتغذى به. والطعم - بضم الطاء -: الأكل. والطعم من الكيفيات المحسوسة بحاسة الذوق، والمراد من تلك الكيفيات المسماة بالمحسوسات هي الموجودة في الخارج. وأما التي وجدت منها في المشاعر من صورها المطابقة لها، فهي بحسب ذلك الوجود الصوري ليست عندنا داخلة في هذا الجنس بل في جنس الكيفيات النفسانية كالشهوة والغضب، والإرادة والكراهة، والعلم والجهل.
وفي ذلك سر المعاد وحشر الأجساد، فإن لهذه الموجودات وأشكالها ومقاديرها، وألوانها، وطعومها، وروائحها، وأصواتها، وجودا في عالم النفس، غير هذا الوجود المادي، الدنيوي، الدائر الفاسد.
والدعاء أصله النداء. ويستعمل في قول القائل لمن فوقه: " إفعل كذا ".
والإنبات: إخراج النبات، لكن الله لا يباشر هذا الفعل الدني إلا باستخدام بعض الملائكة الأرضية، بعد استخدامه للملائكة السماوية.
والبقل: ما ينبت في الربيع من الخضراوات التي ليس لها ساق. يقال: " بقلت الأرض " و " أبقلت " وهما لغتان فصيحتان.
و " القثاء " فيها لغتان: ضم القاف وكسرها. والثاني أجود لأنه لغة القرآن. وقرئ في الشواذ بالضم.
والفوم: الحنطة عن ابن عباس، وقتادة، والسدي. وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وقال الفراء، والأزهري: هو الحنطة والخبز. قال العرب: " فوموا لنا " أي: اختبزوا لنا. وقال قوم: هو الحبوب التي تخبز. وقال الكسائي: هو الثوم. أبدل " ثاؤه " " فاء ". قال الفراء: هذا أشبه بما ذكره بعده من البصل. وقال الزجاج: وهذا بعيد، لأنه لا يعرف " الثوم " بمعنى " الفوم ".
قال الطبرسي - ره - " وهو ضعيف. لأنه قد روي في الشواذ عن ابن مسعود وابن عباس: وثومها ".
وفيه نظر. لأن الذي روي من قراءة " ثومها " بدل " فومها " لا يدل على كونهما مترادفين قطعا.
وقوله: { أدنى } أي أقرب وأدون. فيكون من الدنو، ويجوز أن يكون من الدناءة بمعنى الخسة.
والمصر: البلد العظيم. وأصله الحد بين الشيئين، وقد يراد به العلم. وتنوينه وصرفه لسكون الوسط. أو على تأويل البلد. وقيل: أصله: مصيرائيم باليائين فعرب.
و { ضربت عليهم الذلة } أي: فرضت، ووضعت وألزموها، كما في قولهم: ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة، وضرب الأمير على الرعية الخراج.
و " المسكنة " مصدر المسكين، وهي الفاقة والحاجة.
{ وبآءو بغضب من الله } أي: انصرفوا ورجعوا. أو استووا. من قولك: " باء فلان بفلان " إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته. أي صاروا أحقاء بغضبه. و " باء " لا يستعمل إلا في الشر.
والنبي من " النبأ " بمعنى الخبر، أو من " نبأ " بمعنى ارتفع، أو منقول من " النبي " بمعنى الطريق. والكل مناسب لمعناه العرفي. وهو إنسان مبعوث من الله إلى عباده. فالنبي (صلى الله عليه وآله) مخبر عن الله، مرتفع عنده. وهو طريق إلى وصول الحق ورضوانه.
والمعنى: وإذ قال أسلافكم: يا بني إسرائيل بعد ما أنعم عليهم من النعم والإحسان التي منها المن والسلوى وهما من الأطعمة اللذيذة، قالوا من سوء الاختيار وكفران النعمة: يا موسى لن نصبر على طعام واحد - أي ما رزقوا في التيه - وهما وإن كانا اثنين، لكن وحدتهما عبارة عن عدم تبدلهما، واختلافهما كقولهم: " مائدة الأمير واحدة " أي: لا تختلف ألوانها، وإن كانت ألوانها كثيرة. ولذلك سئموا. أو المراد أنهما ضرب واحد، فإنهما معا من طعام أهل التلذذ والمترفين. ونحن قوم فلاحون أهل زراعة، ولا نريد إلا ما ألفناه.
{ فادع لنا } أي: فاسأل ربك لأجلنا { يخرج } أي: يوجد ويظهر، مما تنبته الأرض من الخضروات.
فقال تعالى أو قال موسى (عليه السلام): { أتستبدلون الذي هو } أقرب منزلة وأدون قدرا: وأسهل وجودا، بالذي هو خير منه وأعلى قدرا، وأعز وجودا؟ يريد: أتستدعون الأدون بدلا من الأفضل: اهبطوا مصرا من الأمصار. وقرئ بضم الباء أي: انحدروا إليه من التيه. يقال: " هبط الوادي " إذا نزل و " هبط منه " إذا خرج.
وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين، وهي إثنى عشر فرسخا في ثمانية فراسخ.
ويحتمل أن يراد به العلم، وإنما وقع منصرفا مع اجتماع السببين - التعريف والتأنيث - لسكون وسطه. كقوله: نوحا ولوطا وفيهما العجمة والتعريف. فإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد.
وفي مصحف عبد الله، وقرأ به الأعمش: " إهبطوا مصر " بغير تنوين. كقوله: { وادخلوا مصر }.
واختلفوا في قوله: { اهبطوا مصرا } فروي عن ابن مسعود وأبي بن كعب ترك التنوين، وقال الحسن: " ألف " في مصرا زيادة من الكاتب. فحينئذ تكون معرفة. فيجب أن يحمل على ما هو المخصص بهذا الاسم، وهو البلد المعروف الذي كان فيه فرعون.
وأما الذين قرؤوا بالتنوين فقد اختلفوا. فمنهم من قال: البلد الذي كان فيه فرعون، وانصرافه لما مر وقال الآخرون: أي بلد كان. فإن الذي سألتم من هذه الأمور يوجد في الأمصار.
إشارة
قرب أحوال القوم من الحيوانات
قد تقرر أن الغذاء شبيه بالمغتذي، ومن هاهنا أيضا يعلم مع القرائن الآخرة كعبادتهم العجل، وكونهم أربعين سنة في الصحراء، وكون أبدانهم قابلة لأن يقرض منها أجزاؤها بالمقاريض من غير أن يجرح لضخامة أبدانهم، وكون أثوابهم كالجلود كانت تزيد بزيادة قدهم، وغير ذلك - أن أقوام بني إسرائيل كانت خارجة في المزاج عن عرض المزاج الإنساني الذي نشأ في ما بعد زمانهم، وكانت طبائعهم قريبة الشبه من طبائع الأنعام، وأغذيتهم كأغذيتها مما تنبت الأرض من قشور الأغذية، وكثافتها، ونخالتها، كالعلف والتبن، لا من لبوبها ولطافتها كالحبوب، والأدهان، والدسومات، والحلاوات، التي يختص بالتغذي بها الإنسان دون غيره من الحيوان.
ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى في تشبيههم بالحمار:
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
[الجمعة:5].
فصل
واختلف في سؤالهم هذا: هل كان معصية؟ فقيل: لم يكن معصية، لأن الأول كان مباحا، فسألوا تبديله بمباح آخر. وقيل: بل كان معصية لأنهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم، ولذلك ذمهم. وهذا أوجه.
وربما رجح الأول بأنه لو كان السؤال معصية لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء (عليهم السلام).
والجواب: لا نسلم أن موسى (عليه السلام) دعا ربه لإجابة مسؤولهم عنه. بل لما أبوا شيئا اختار الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوا، كما في قوله:
ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها
[الشورى:20].
ثم اختلف في الأمر في قوله: { اهبطوا } للوجوب، أو للندب، أو للتخيير ؟ والظاهر أنه للتخيير والإباحة. يعني: إذا لم تصبروا على ما هو خير لكم اهبطوا مصرا فإن ما سألتم يوجد في الأمصار.
أما قوله: { وضربت عليهم الذلة } أي: صارت محيطة بهم، مشتملة عليهم، كالقبة المضروبة على جماعة. أو لزمتهم ضربة لازم، كما يضرب الطين على الحائط، فيلزمه. ولأجل هذا يكون اليهود أذلاء صاغرين، أهل مسكنة وخسة. إما في الحقيقة، وإما لتفاقرهم، وتصاغرهم خيفة أن يضاعف عليهم الجزية.
ومن العلماء من عد هذا من معجزات نبينا (صلى الله عليه وآله)، لأنه أخبر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، ووقع الأمر على طبق ما أخبره، فكان هذا إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا.
وأما الاستدلال بهذه الآية على فضيلة الأغنياء على الفقراء، - لأنه تعالى ذمهم على الفقر - فغير موجه، لأن المراد به خسة الذات، وفقر القلب، وهوان النفس. لأن كثيرا ما يوجد في اليهود مياسير ومتمولين، ولكن لا يوجد يهودي غني القلب، مترفع النفس. قال النبي (صلى الله عليه وآله):
" الغنى غنى النفس ".
وقوله: { وبآءو بغضب من الله } أي: رجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد نزل بهم العذاب، ووجب عليهم الغضب، وحل بهم السخط، لكونهم أحقاء بذلك، فبدل الله اليهود بالعز ذلا، وبالنعمة بؤسا، وبالرضاء عنهم غضبا عليهم جزاء بما كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه (عليهم السلام). وكفرهم بآيات الله عبارة عن جحودهم حجج الله وبيناته، وإنكارهم لما رأوا من الدلائل الباهرة، والشواهد الظاهرة.
وقيل أراد ب " آيات الله " ما في التوراة، والإنجيل، والقرآن.
وقيل: آيات الله صفة محمد (صلى الله عليه وآله).
وقوله: { ويقتلون النبيين بغير الحق } أي: بغير جرم، كزكريا، ويحيى، وغيرهما.
فصل
في هذه الآية سؤالات:
أحدها: لم وقع تقييد القتل بكونه بغير الحق، وقتل النبي لا يكون إلا بغير الحق؟
والجواب من وجهين:
الأول: ان هذا خرج مخرج الصفة اللازمة إشعارا باللزوم، كما في قوله تعالى:
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له
[المؤمنون:117]. ومعناه: أن ذلك لا يمكن أن يكون عليه برهان. وأمثاله كثيرة في كلام العرب.
والثاني: إن الإتيان بالباطل، قد يكون الآتي به اعتقده حقا لشبهة وقعت له في قلبه، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلا. ولا شك أن هذا القسم أقبح.
وثانيها: قوله: { يكفرون } داخل تحته قتل الأنبياء، فلم أعاد كرة أخرى؟
والجواب: إن الكفر بآيات الله معناه هو الجهل بها، والجحود والإنكار لها، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.
وثالثها: كيف يجوز التخلية بين الكفار وقتل الأنبياء؟
والجواب: إنما جاز ذلك لينال أنبياء الله من رفيع الدرجات، وسني المقامات، ما لا ينالونه بغير القتل، وليس ذلك بخذلان لهم. كما أن التخلية بين المؤمنين والأولياء وبين قاتليهم ليست بخذلان لهم.
ورابعها: إن الحق وقع معرفا في هذه الآية وبغير التعريف في آل عمران وهو قوله تعالى:
ويقتلون النبيين بغير حق
[آل عمران:21].
والجواب: إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل، كما في قوله (صلى الله عليه وآله):
" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاثة: كفر بعد إيمان. وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق "
فالحق المذكور بلام التعريف إشارة إلى هذا. وأما الحق المنكر غيره. ففيه تأكيد. أي: لم يكن هناك حق، لا هذا المعروف بين المسلمين ولا غيره أصلا.
فصل
وأما قوله: { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي: ذلك الغضب، وضرب الذلة والمسكنة، لأجل عصيانهم واعتدائهم في السبت.
وقيل: المراد اعتداؤهم في قتل الأنبياء، فهو تأكيد لتكرير الشيء بغير لفظه الأول، وهو كقول الرجل لعبده - وقد احتمل منه ذنوبا سابقة فعاقبه عند آخرها -: " هذا بما عصيتني، وهذا بما خالفت أمري، وهذا بما تجرأت علي وهذا بكذا " فيعد عليه ذنوبه المختلفة، أو يعد عليه ذنوبه بألفاظ مختلفة تبكيتا.
ومعنى الاعتداء هاهنا: الظلم، والتجاوز عن الحق إلى الباطل.
نكتة:
واعلم أن درجات المعصية متفاوتة، أقواها الكفر بالله وبعده الكفر برسله وأنبيائه، وبعدهما الظلم من أحد على نفسه، وبعدها الظلم على غيره.
فاعلم أنه لما ذكر سبحانه إنزال العقوبة بهم، بين سبب ذلك فبدأ أولا بما فعلوه في حق الله، وهو جهلهم بآياته، وكفرانهم لنعمه. ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء. ثم ثلثه بما كان يصدر منهم من المعاصي التي تخصهم. ثم ربع ذلك بما يصدر منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء في السبت وغيره وذلك في غاية حسن الترتيب.
[2.62]
{ هادوا } بضم الدال. وقرئ بالفتح.
والقراءة المعروفة في { الصابئين } وكذا { الصابئون } بإثبات الهمزة في كل القرآن. وعن نافع والزهري بترك الهمزة. وعن أبي جعفر بيائين خالصتين فيهما. وترك الهمزة يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من " صبا، يصبوا " أي: مال إلى الشيء.
والآخر: قلب الهمزة ياء.
واختيار الهمزة أولى، لأنه قراءة الأكثر، ولأنه أقرب إلى معنى التفسير، لأن أهل العلم قالوا: الصابي هو الخارج من دين إلى دين لم يشرع له، فمن قرأ بغير الهمزة يحمل على قلب الهمزة.
واختلف في اشتقاق اسم " اليهود ". فقيل: هو من " الهود " أي: التوبة لتوبتهم من عبادة العجل. وقيل: إنما سموا بذلك لانتسابهم إلى " يهودا " أكبر أولاد يعقوب. وقيل لأنهم هادوا - أي: مالوا - عن دين الإسلام. وقيل: لأنهم يتهودون - أي يتحركون - عند قراءة التوراة، ويقولون: " إن السماوات والأرض تحركت حين آتى الله موسى (عليه السلام) التوراة ". واليهود اسم جمع واحدهم " يهودي " ، كالزنج والزنجي.
و { النصارى } جمع نصران، كسكران وسكارى. ومؤنثه: " نصرانة " والياء في نصراني للمبالغة. واختلفوا في اشتقاقه. فعن ابن عباس: هو من " ناصرة " قرية كان يسكنها عيسى (عليه السلام). وقيل: إنما سموا بذلك لقوله (عليه السلام):
من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله
[آل عمران:52].
و { الصابئون } جمع الصابي. وهو من انتقل من دين إلى دين آخر. قال أبو علي قال أبو زيد: صبأ الرجل في دينه يصبو صبوءا إذا كان صابئا. وصبأ ناب الصبي، يصبأ صبأ: إذا طلع. وصبأت عليهم إذا طلعت عليهم، وطرأت مثله. فمعنى الصابي التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه، ومنتقل إلى سواها، لأنهم تركوا دين التوحيد إلى عبادة روحانيات النجوم، وملائكة السماوات، أو تعظيمها وجعلها وسائل وشفعاء لهم إلى الله.
وقال قتادة: وهم قوم معروفون، ولهم مذهب يتفردون به، ومن دينهم عبادة النجوم، وهم يقرون بالصانع وبالمعاد، وببعض الأنبياء.
وقال مجاهد والحسن: الصابئون بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور.
وقال الخليل: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال منتصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح (عليه السلام).
وعامة الفقهاء يجيزون أخذ الجزية منهم، وعند أصحابنا الإمامية لا يجوز ذلك لأنهم لا كتاب لهم.
المعنى:
واعلم أن من عادة الله الرحيم بعباده، إذا ذكر وعيدا عقبه بضده، لئلا ييئس عباده من رحمته، وإذا ذكر آية رجاء عقبها بآية الخوف، لئلا يأمن عباده من مكر الله.
فهاهنا لما ذكر أحوال كفرة أهل الكتاب، وما نزل بهم من العقوبة، أخبر بما وعد للمؤمنين من كل طائفة من الثواب الجزيل والأجر العظيم، دالا على أنه سبحانه كما يجازي المسيء بإساءته يكافئ المحسن بإحسانه، كما قال تعالى:
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى
[النجم:31]. فقال: { إن الذين آمنوا }.
واختلفوا في المراد منهم. فقال قوم: هم الذين آمنوا بعيسى (عليه السلام)، ثم لم يتهودوا ولم يتنصروا ولم يتصبأوا، وانتظروا خروج محمد (صلى الله عليه وآله).
وقيل: هم طلاب الدين، منهم: حبيب النجار، وقس بن ساعدة، وزيد ابن عمرو بن نفيل، والبراء الشني، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وبحيرا الراهب، ووفد النجاشي. آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) قبل مبعثه. فمنهم من أدركه وتابعه، ومنهم من لم يدركه.
وقيل: مؤمنوا الأمم الماضية. وقيل: هم المؤمنون من هذه الأمة.
وقال السدي: هو سلمان الفارسي وأصحابه النصارى، الذين كانوا قد تنصر على أيديهم قبل مبعث الرسول، وكانوا أخبروه بأنه سيبعث، وأنهم يؤمنون به إن أدركوه.
وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية: { من آمن بالله واليوم الآخر } فإن ذلك يقتضي أن المراد من الإيمان في أول الآية غير المراد به في آخرها ونظير هذا قوله:
يا أيها الذين آمنوا
[النساء:136].
والأجود أن يكون معنى الإيمان في الأول، الإيمان الظاهري المعروف بين الأمة، ومعناه في الثاني هو الإيمان الحقيقي، الذي هو عبارة عن عرفان الله بوحدانيته، وصفاته الإلهية، وأفعاله المحكمة، وعرفان اليوم الآخر، وحقيقته رجوع الأشياء إليه، وحشر الإنسان إلى الدار الآخرة كل ذلك على وجه اليقين والتحقيق.
وهذا أمر في غاية العزة والشرف، وقل من المعروفين بالإيمان من تصور هذه الأشياء، تصورا حقيقيا، أو بوجه خاص رسمي. والقرآن مشحون بالإشعار بما ذكرناه، كقوله:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف:106]. وقوله:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103]. وقوله:
يا أيها الذين آمنوا آمنوا
[النساء:136].
فالإيمان الحقيقي غير الإيمان الظاهري المجازي. فعلى هذا لا حاجة إلى حمل قوله: { الذين آمنوا } على غير طائفة أهل هذه الملة الإسلامية، بل هذه الأقوال لو ذكرت في قوله: { من آمن بالله واليوم الآخر } لكان أولى بأن يقال: من الذين هم مؤمنوا بني إسرائيل، ومن الذين هم مؤمنوا قوم عيسى (عليه السلام)، ومن مؤمني جماعة الصابئين، ومن المؤمن بالله واليوم الآخر، من هؤلاء الطوائف، سواء كانوا في سابق الزمان قبل ظهور الإسلام، أو في عهد الإسلام. ولكن الإيمان بهذا المعنى الحقيقي أمر باطني لا يعرف الموصوف به إلا الله وأنبياؤه وأولياؤه (عليهم السلام).
ويؤيد هذا التفسير قول سفيان الثوري، حيث نقل صاحب الكبير عنه: أنه تعالى لما ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين، ثم طريقة اليهود.
فالمراد من قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب، وهم المنافقون. فذكر المنافقين، ثم اليهود، والنصارى، والصابئين. فكأنه تعالى قال: " أولئك المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من الفائزين عند الله بالأجر العظيم ".
ومن هاهنا يعلم أن المقصود الأصلي من بعثة الأنبياء، وإنزال الكتب، هو الإيمان بالمبدإ والمعاد، مع العمل الصالح، حتى لو فرض أحد لم يكن يرى نبيا من الأنبياء، ولم يصل إليه خبره، أو كان في أزمنة الفترات، وهو مع هذا عالم بالله واليوم الآخر، عامل بالعمل الصالح، لكان من السعداء الناجين.
وروي عن ابن عباس أن هذه منسوخة بقوله:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران:85]. وهذا بعيد لأن النسخ لا يجوز أن يرد على الخبر الذي هو متضمن للوعد. وإنما يجوز دخوله في الأحكام الشرعية، التي يجوز تغيرها، وتبدلها، بتغير المصلحة، فالأولى أن يمنع صحة هذا النقل عن ابن عباس.
وذهب بعضهم إلى أن حكم الآية ثابت. والمراد بها: إن الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم من المنافقين، واليهود، والنصارى، والصابئين إذا آمنوا بعد النفاق، وأسلموا بعد العناد، كان لهم أجرهم عند ربهم، كمن آمن في أول استدعائه إلى الإيمان، من غير نفاق، ولا عناد، لأن قوما من المسلمين قالوا: " إن من أسلم بعد نفاقه وعناده كان ثوابه أنقص، وأجره أقل " فأخبر الله بهذه الآية أنهم سواء في الأجر والثواب.
فصل
قوله: { بالله } متعلق بقوله: { آمنوا } أي: آمنوا بتوحيد الله، وعلمه، وقدرته، وسائر صفاته الكمالية، وصفاته التقديسية، وعدله، وحكمته.
وقوله: { واليوم الآخر } أي: بيوم القيامة، والبعث، والنشور، والحساب، والكتاب، والجنة، والنار، وقوله: { عمل صالحا } أي: عمل ما به يصلح لدخول الجنة، والقرب من الله من الطاعات والعبادات. وإنما لم يذكر ترك المعاصي لأن تركها من جملة الأعمال الصالحة.
{ فلهم أجرهم } أي: جزاؤهم معد وموجود لهم. وهذا يدل على أن الأجر والثواب من النتائج اللازمة، والغايات التابعة، للإيمان والعمل الصالح، كما أن الألم والعقاب من لوازم الكفر والمعاصي.
وقوله: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } مضى تفسيره. وقيل معناه: لا خوف عليهم فيما قدموا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا. وقيل: لا خوف عليهم في العقبى، ولا هم يحزنون على فوات الدنيا.
فصل
ما هو الإيمان؟
إعلم أن هذه الآية دالة على أن الإيمان هو التصديق والاعتقاد بالقلب، لأنه تعالى قال: { من آمن بالله واليوم الآخر } ثم عطف عليه بقوله: { وعمل صالحا } والعطف يدل على المغايرة. ومن حمل ذلك على التأكيد، أو الفصل فقد ترك الظاهر بلا حجة، وكل موضع يذكر فيه أمر ثم يذكر فيه ما يدخل تحته فهو محمول على التوسع والمجاز. مثل قوله تعالى:
فيهما فاكهة ونخل ورمان
[الرحمن:68]. وقوله:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح
[الأحزاب:7]. وغيرهما ولو لم يحمل على المجاز لقلنا: إنه ليس بداخل في الأول.
واعلم أن من اعتبر في الإيمان عمل الأركان، كأنه رأى أن الإيمان من لوازمه غالبا إتيان العمل الصالح، أو أراد بالإيمان الإيمان الظاهري، فمن ادعى الإيمان وترك الصلاة والزكاة والحج، وغيرها فلا يعدونه من جملة المؤمنين، لكن الإيمان الحقيقي يمكن أن يتحقق بدون العمل، كمن استبصر، وتنور قلبه بنور العرفان، وقضى نحبه مقارنا بإيمانه، فهو مؤمن عند الله حقا.
[2.63]
" الميثاق " مفعال من الوثيقة إما بيمين أو بعهد أو غير ذلك من الوثائق كالعقل والفطرة.
و " الطور " في اللغة: الجبل. وقيل: اسم جبل بعينه ناجى الله عليه موسى (عليه السلام). وهو المروي عن ابن عباس. وهذا هو الأقرب، لأن لام التعريف حمله على معهود عرف كونه مسمى بهذا الاسم. والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة فوقه، فقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم، فجعله فوقهم وإن كان بعيدا منهم، لأن القادر على أن يجعل الجبل فوق الهواء قادر على قلعه ونقله من موضع بعيد إليهم. وسيجيء إعادة الكلام في تحقيق هذا المرام.
وقال ابن عباس: أمر الله جبلا من جبال فلسطين، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة، وكان المعسكر فرسخا في فرسخ.
والقوة هاهنا بمعنى القدرة. وهي في الأصل يقال لمبدإ التغير في شيء آخر من حيث هو آخر. سواء كان فعلا أو انفعالا. وقد يقال لما به يمكن أن يصدر عن الشيء فعل أو انفعال وأن لا يصدر. وهي بهذا المعنى يقابل الفعل بمعنى الحصول والتحقق. وقد يقال لما به يكون الشيء غير متأثر عن مقاوم، ويقابله الضعف والوهن. والقوة الفعلية إذا كانت مع شعور وإرادة تسمى قدرة، وهي المراد هنا.
واعلم أن أكثر المتكلمين على أنه ليست قدرة إلا لما من شأنه الطرفين: الفعل والترك . وأما الفاعل الذي يدوم فعله - وإن كان بمشيئته - فهم لا يسمونه قادرا والحق خلافه. فإن من فعل بمشيئة وإرادة يصدق عليه أنه لو لم يشأ لم يفعل، سواء اتفق عدم المشيئة، أو لم يتفق. لأن صدق الشرطية لا يتوقف على تحقق طرفيها.
واعلم أن القوة الفعلية قد تكون مبدأ الوجود، وقد تكون مبدأ التغير، والإلهيون من الحكماء إنما يعنون بالفاعل مبدأ الوجود، والطبيعيون يعنون به مبدأ التحريك. والأحق باسم الفاعل من يطرد العدم بالكلية عن الشيء بالكلية، وما هو إلا الواحد الذي بقوته أخرج الأشياء من الليس المطلق إلى الأيس. وأبدع الأشياء من غير مثال. وأما الذي جعله الله واسطة للتهيؤات والاستعدادات، فالأولى أن لا يسمى بالفاعل، لكن بالمحرك والسائق وما يجري مجراهما.
المعنى:
ثم عاد إلى خطاب بني إسرائيل بذكر إنعامه عليهم. وهذا هو الإنعام العاشر من الإنعامات الواقعة عليهم. فقال: اذكروا { إذ أخذنا ميثاقكم } أي: عهدكم.
والمفسرون اختلفوا في المراد من هذا الميثاق ما هو؟ فذكروا وجوها:
الأول: ما أودع في العقول وارتكز في الفطر من الدلائل على وجود الصانع، وقدرته، وحكمته، وما نصب لهم من الحجج الواضحة، والبراهين الساطعة على ذلك وعلى صدق الأنبياء والرسل (عليهم السلام).
وهذا النوع من الميثاق أقوى المواثيق والعهود، لأنها لا تحتمل الخلف، والنقص، والتبدل، بوجه البتة.
والثاني: إن المراد به الذي أخذه الله على النبيين في قوله تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
[آل عمران:81] الآية.
الثالث: ما روي عن عبد الله بن عوف بن أسلم أن موسى (عليه السلام) لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم: " إن فيها كتاب الله وحكمته، فخذوها " قالوا: " لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابي " فأخذتهم الصاعقة فماتوا. ثم أحياهم، ثم قال لهم بعد ذلك: " خذوا كتاب الله " فأبوا. فرفع فوقهم الطور وقيل لهم: " خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم " فأخذوه.
فرفع الطور هو الميثاق. وذلك لكون رفعه آية باهرة عجيبة توجب الانقياد من التكذيب إلى التصديق. ومن الشك إلى اليقين. فأقروا لموسى (عليه السلام) لأجله - مضافا إلى سائر الآيات - بالتصديق، ولله بالعبودية والطاعة، وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كانوا من عبادة العجل، وأن يقوموا بالتوراة. فأخذوا التوراة وسجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم.
وهذا هو معنى أخذ الميثاق، لأنه عهد موثق جعلوه لله. وكان في حال رفع الجبل فوقهم، لأن في هذه الحال قيل لهم: { خذوا مآ آتيناكم بقوة } يعني: التوراة بقوة، أي: بجد ويقين لا شك فيه. وهو قول ابن عباس والسدي.
وقريب منه ما روى العياشي أنه سئل جعفر الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: { خذوا مآ آتيناكم بقوة } أبقوة الأبدان، أو بقوة القلوب؟
فقال: بهما جميعا.
وقيل: أخذه بقوة هو العمل بما فيه بعزيمة وجد.
والرابع: إن لله ميثاقين على عباده: الأول: حين أخرجهم من ظهر آدم (عليه السلام) وأشهدهم على أنفسهم. الثاني: إنه ألزم الناس متابعة الأنبياء. والمراد هاهنا هو هذا العهد. وهو قول ابن عباس. وعلى هذا يكون " الواو " في قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور } للعطف، وعلى تفسير غيره للحال.
قال القفال: إنما قال: " ميثاقكم " ولم يقل مواثيقكم لأنه أراد به الدلالة على أن شيئا واحدا أخذ من كل واحد منهم كما أخذ من غيره. فلا جرم كان كله ميثاقا واحدا. ولو قيل: " مواثيقكم " ، لاشتبه أن يكون هناك مواثيق مختلفة أخذت عليهم - لا ميثاق واحد -.
وقوله: { واذكروا ما فيه } الضمير في " فيه " يعود إلى الموصول - يعني التوراة - أي: احفظوا ما في التوراة، وادرسوه من أحكام الحلال والحرام، ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه.
فإن قلت: هلا حملتموه على معنى أصل الذكر؟
قلنا: لأن الذكر الذي ضد النسيان هو من فعل الله ليس بإرادة العبد.
فكيف يجوز الأمر به، ولذلك حملناه على المذاكرة، والمدارسة، والمحافظة عليه.
فصل
كيف يمكن رفع الجبل؟
من المتفلسفة من أنكر إمكان وقوف مثل الجبل ونحوه من الأثقال في الهواء من غير دعامة ولا عماد. وأما مثل الصواعق، وذوات الأذناب، وغيرها مما فيه حرارة مصعدة، أو أدخنة غليظة بقوة حرارتها تقاوم الهابط من الجو، فيمكن وقوفها زمانا في الهواء. وكذا الأرض معلقة فيما بين الهواء لأنها متدافعة من جميع الجوانب لتكافؤ ثقل أطرافها، فوقفت بطبعها عند المركز. بخلاف وقوف الجبل في الهواء إذ لا سبب له.
والجواب من وجهين:
أحدهما: إن أسباب وقوف الثقيل في الهواء ليست منحصرة فيما ذكرتم من الدعامة، أو الحراة المصعدة، أو تدافع الجوانب أو ما يجري مجراهما فإن هاهنا أسبابا إلهية، سماوية، أو نفسانية، مقتضية لمثل هذه الأفاعيل الغريبة، فإن للنفس أن تصعد الجسم الثقيل بمجرد الهمة والعزم.
ومن هذا القبيل وقوف الطير في جو السماء. كقوله تعالى:
أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن
[الملك:19]. ومن هذا الباب صعود الحيوان إلى فوق بقوة نفسانية - لا بدعامة جسمانية - ومنه قلع باب خيبر ورفعه، فإنه (عليه السلام) قال: " قلعته بقوة ملكوتية، لا بقوة جسمانية " فإن نسبة النفوس القوية، العالية، إلى غير بدنها من أجسام هذا العالم، كنسبة سائر النفوس الضعيفة إلى بدنها، فلا جرم أثرت همة نفس موسى (عليه السلام) بقوة استفادها من الله في رفع الجبل فوق قومه.
وثانيهما: إن للأجرام والأعظام نحوين من الوجود: أحدهما: وجود مادي متعلق بمادة واستعداد خاص. والآخر: وجود صوري متعلق بالفاعل، غير متعلق بمادة قابلة للحركة والفساد.
والذي يراه الإنسان في هذا العالم ويشاهده بحسه الظاهر على وجهين:
أحدهما: الشائع المتعارف الأكثري، وهو أن يأخذ الحس البصري صورة ما يراه وينتزعها من مادته.
والآخر: أن ينحدر إلى حسه من جهة الباطن - وهذا على سبيل الندرة - ومن هذا القبيل رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه تمثل جبرائيل (عليه السلام) لهم بصورة دحية الكلبي، وهذا باب من المعجزة. وقد يقع لبعض الكهنة وغيرهم من هذا القبيل رؤية بعض الأجسام بأسباب باطنية. ولهذا قد يصعب الفرق بين المعجزة والكهانة على النفوس العامية.
ومن وقف على حكاية الجوهري رأى عجبا من هذا الباب، حيث خرج بالعجين من بيته إلى الخباز ليطبخ له الخبز في الفرن، وكانت عليه جنابة، فجاء إلى شط النيل ليغتسل، فرأى - وهو في الماء - مثل ما يراه النائم، كأنه تزوج في بغداد، وأقام مع المرأة ست سنين، وأولدها أولادا. ثم رد إلى حاله - وهو في الماء - ففرغ من غسله، وخرج ولبس ثيابه وجاء إلى الفرن وأخذ الخبز وجاء إلى بيته وأخبر أهله بما أبصره.
فلما كان بعد أشهر جاءت تلك المرأة التي رأى أنه تزوجها في تلك الحالة تسأل عن داره، فلما اجتمعت به عرفها، وعرف الأولاد وما أنكرهم. وقيل لها: متى تزوج؟ فقالت: " منذ ست سنين، وهؤلاء أولاده مني ". فخرج في الحس ما رآه في الباطن أولا.
وهذه إحدى المسائل الستة التي أوردها ذو النون المصري، التي تحيلها العقول المتفلسفة، والحكايات في هذا الباب كثيرة ذكرها يؤدي إلى الإطناب. فعلى هذا لم يبق شك في جواز رفع جبل طور فوق بني إسرائيل معجزة لموسى (عليه السلام)، فقد خص الله أولياءه بقوى شريفة، قوية، نورانية، يقوى على مثل هذه الأحكام. فلا ينكره إلا جاهل بما ينبغي للجناب الإلهي من الاقتدار.
وفي معراج رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفاية في هذا المقام مع خرقه للأفلاك، ونفوذه في مسافاتها البعيدة، التي قطعها في الزمان القليل. كما سنوضح لك في تفسير سورة الإسراء إن شاء الله تعالى.
[2.64]
هذه الآية من أرجى الآيات، وأقواها دلالة على رحمته، وتجاوزه عن سيئات عباده العاصين، لأن وقوع قوله: { فلولا فضل الله } إلى آخره عقيب ذكر هذه القبائح الشنيعة، والآثام الردية كعبادة العجل، وكفران النعمة، وجحود النبوة، وإنكار المعجزات الجلية الواضحة، ونقض الميثاق المؤكدة من قبل الله، وغير ذلك من صفات القلوب القاسية المظلمة يدل على كمال رأفته وعفوه.
قال القفال: قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور أعرضوا عن التوراة، وتركوا العمل بها، ونزلوا عنها بأمور كثيرة، فحرفوا التوراة، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بهم، وعصوا أمرهم. ومنها ما عمله أوائلهم. ومنها ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا، يخالفون موسى (عليه السلام)، ويعرضون، ويلقونه بكل أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتى أنه خسف الأرض ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون. وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرؤون بها.
ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة، لكن في الجملة معروفة.
وذلك إخبار من الله عن عناد أسلافهم، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) من الكتاب وجحودهم لحقه، وقد ذكر تعالى من أوصافهم ما ذكر.
المعنى:
و { لولا فضل الله عليكم ورحمته } بعد ما توليتم عن كتابه عقيب تلك الآيات والحجج { لكنتم من الخاسرين } في الدنيا والآخرة. ولكن بفضله ورحمته أمهلكم، وأدامكم، لترجعوا إلى التوبة، وتعودوا إليه لعلكم تفلحون.
وقيل معناه: { فلولا فضل الله عليكم } بالتوبة بعد إذ نكثتم الميثاق الذي واثقتموه، ونبذتم العهد الذي أخذناه عليكم وراء ظهوركم، إذ رفع فوقكم الطور، وأنعم عليكم بالإسلام { ورحمته } التي رحمكم بها، فتجاوز عنكم بمراجعتكم إلى طاعة ربكم { لكنتم من الخاسرين }.
وقال أبو العالية: فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن، فيكون معناه: لولا إقداري لكم على الإيمان، وإزاحة علتكم فيه لكنتم من الخاسرين.
وقيل معناه: { فلولا فضل الله عليكم } في رفع الجبل فوقكم للتوفيق. واللطف الذي تبتم عنده حتى زال العذاب عنكم، وسقوط الجبل عليكم { لكنتم من الخاسرين } أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم.
ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله: { ثم توليتم من بعد ذلك }. ثم قيل: { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } رجوعا بالكلام إلى أوله. أي: لولا لطف الله بكم في إظهار تلك الآيات من رفع الجبل وغيره لدمتم على ردكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم، فلطف لكم بذلك حتى تبتم.
فصل
الخير من الله والشر ليس إليه
قد تقرر في الأصول العقلية أن الخير ذاتي له، وهو المعبر عنه بالرحمة.
والشرور ليست من قبل الله بالذات، بل لأجل قصور بعض الذوات عن قبول الخير والرحمة، وانحرافها عن مسلك الهداية، ولذلك قال تعالى: { مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك }.
فحينئذ لقائل أن يستشكل ويقول: إن كلمة " لولا " تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، فهذا يقتضي أن انتفاء الخسران من لوازم فضل الله تعالى. فحيث حصل الخسران وجب أن لا يحصل هناك لطف الله ورحمته. وهذا يقتضي أن الله لم يفعل بالكافر شيئا من اللطف والرحمة. وهذا يخالف ما حققه المحققون وما ذهب إليه بعض المتكلمين من أن لطف الله واجب، واقع في حق المؤمن والكافر جميعا.
والجواب المنقول من الكعبي: " إنه تعالى سوى بين الكل في الفضل ولكن بعضهم انتفع به دون بعض، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم: " لولا أن أباك فضلكم لكنت فقيرا " وضعفه صاحب الكبير بأن " أهل اللغة نصوا على أن لولا يفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، وهو يقتضي انتفاءه في نفسه لا عدم الانتفاء به مع ثبوته. فكلام الكعبي ساقط ".
والذي به ينحل الإشكال أن يقال: إن الله فعله من قبله غير مختلف. فالخير نازل من عنده، والجود مبذول، والرحمة واحدة بالنسبة إلى الخلق أجمعين لا تبديل لسنة الله. ولكن الوصول مختلف، لاختلاف الغرائز والفطر، لطافة، وكثافة، وسعة وضيقا. كالمعلم يفيد تعليما واحدا وتختلف غرائز المتعلمين في قبول ذلك العلم، لتفاوت غرائزهم في الذكاء والبلادة، والاستقامة والاعوجاج، والشمس شأنها في التنوير واحد، ومواضع الأرض مختلفة في قبول الضوء.
ففعل الله ولطفه في المؤمن كفعله ولطفه في الكافر. لكن قلب المؤمن أبيض وأجرد، وقلب الكافر أسود وأكدر. ولفظ الجود، واللطف، والكرم - وما يجري مجراها - قد يراد بها ما عند الفاعل، وقد يراد بها ما عند القابل، والذي عند الفاعل واحد لا يختلف. والذي عند القوابل مختلفة.
فمن قال: " إن لطف الله شامل للمؤمن والكافر " أراد به أنه تعالى لا يمسك من جوده ولطفه على أحد. ولم يرد " أن لطفه واصل حاصل عند الكافر، ومع ذلك لا ينتفع به ". لأن ذلك محال، كما أن يقال: " إن ضوء الشمس موجود في سطح من الأرض، ولكن ليس بمستضيء " أو " أثر حرارة النار موجود في جسم كذا، ولكن ليس بمستسخن ". ولا شك في بطلانه. فكذا ما نحن فيه.
فعلم أن الخير مبذول، والرحمة فائضة، واللطف شامل. ألا ترى إلى قوله تعالى مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله):
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص:56]. مع أن شأنه الهداية
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء
[الروم:52]. إنك لا تسمع من في القبور مع أن شأنه الإسماع.
[2.65]
{ اعتدوا } أي ظلموا وجاوزوا ما حد لهم.
و { السبت } من أيام الأسبوع. قال الزجاج: السبت قطعة من الدهر يسمى به ذلك اليوم. وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يوم سبت به خلق كل شيء، أي قطع وقرغ. وقال قوم: إنما سمي بذلك لأن اليهود يسبتون فيه، أي: يقطعون فيه الأعمال. وقال آخرون: سمي بذلك لما لهم فيه من الراحة. لأن أصل السبت هو السكون والراحة. ومنه قوله تعالى:
وجعلنا نومكم سباتا
[النبأ:9]. ويقال للنائم " مسبوت " لاستراحته وسكون جسده.
والخاسئ: البعيد المطرود: يقال للكلب إذا دنا: " إخسأ " أي: تباعد، وانصرف صاغرا.
والكلام فيه حذف مضاف، كأنه قال: " ولقد علمتم اعتداء من اعتدوا في السبت " ليكون المذكور من العقوبة جزاء لاعتدائهم، لأن الجزاء يكون للفعل لا للذات.
وحقيقة الاعتداء غير مذكورة هاهنا. والذي يدل عليه اللفظ هاهنا أنه كان أمرا محرما فعله في السبت. وتفصيله مذكور في قوله تعالى:
وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر
[الأعراف:163]. الآية.
وعن ابن عباس: إن هؤلاء القوم كانوا في زمن داود (عليه السلام) ب " إيلة " على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة، حتى لا يرى الماء لكثرتها، وفي ذلك الشهر في كل سبت خاصة. فحفروا حياضا عند البحر، وشرعوا إليها الجدوال، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم في السبت، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك، وهم خائفون من العقوبة، فلما طال العهد عليهم ونشأت الأبناء فعلت بسنة الآباء واتخذوا الأموال، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت، ونهوهم فلم ينتهوا وقالوا: " نحن في هذا العمل منذ زمان، فما زادنا إلا خيرا " فقيل لهم: " لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب والهلاك " فأصبح القوم وهم قردة خاسئون، فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا.
وعن ابن عباس أيضا: وكانوا يتعاوون وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم يتناسلوا، فأهلكهم الله تعالى، وجاءت ريح فهبت بهم، وألقتهم في الماء، ولم يتناسلوا وما مسخ الله أمة إلا أهلكها.
فهذه القردة ليست من نسل أولئك الممسوخين. وإجماع المسلمين على أنه ليس في القردة والخنازير من هو من أولاد آدم، ولو كانت من أولاد الممسوخين لكانت من بني آدم. خلافا لأهل التناسخ. فإنهم زعموا أن من الحيوانات كالكلب، والخنزير، والقردة، ما هو من أولاد الناس الممسوخين.
ومنهم من زعم أن جميع الحيوانات نشأت من الإنسان. قالوا: إنه باب الأبواب. كل نفس تعلقت أولا ببدن إنسان، فإن استكملت بالعلم والعمل تجردت إلى عالم الملكوت.
وإلا انتقلت إلى بدن حيوان تناسبه في الخلق، وترددت في الأبدان إلى أن تزول عنها الهيآت، فتنجوا إلى ذلك العالم.
والغرض من ذكر هذه القصة - والله أعلم - أمران:
أحدهما: معجزة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنه لم يخالط القوم ولم يقرأ الكتب. فدل ذلك على أنه عرف من الوحي.
والثاني: الإنذار والتخويف، لئلا يغتر أحد بالإمهال والتأخير في إنزال العقوبة.
وقوله: { قردة خاسئين } قال صاحب الكشاف: " هما خبران أي: كونوا جامعين بين القردية والخسؤ. وهو الصغار والطرد ".
فصل
واعلم أن الأمر من الله على ضربين:
تشريعي وهو المعروف، كقوله تعالى:
وكونوا مع الصادقين
[التوبة:119].
وتكويني، كقوله: { كن فيكون }. والمراد هاهنا المعنى الثاني. لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة، فيكون أمرا تكوينيا.
ومن هذا القبيل كلمة الله قد يكون ألفاظا، وقد يكون ذواتا جوهرية. كقوله:
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
[النساء:171]. وقد مر في المفاتيح تحقيق الكلمة والكلام مما لا مزيد عليه.
فصل
هل الآية تنفي القول ببطلان التناسخ؟
وهاهنا بحث عقلي وهو أن التناسخ ممتنع بالبراهين القوية، كما أوردنا في الكتب الحكمية. فهاهنا إن كانت النفس باقية والصورة متبدلة، فهو بعينه التناسخ - وهو محال كما عرفت - وإن كان الشخص الذي كان إنسانا قد عدم ووجد شخص من القردة، فكان إهلاكا للبعض من الناس وإحداثا للبعض من القردة.
وقد يدفع الإشكال بما روي عن مجاهد أنه سبحانه مسخ قلوبهم - بمعنى الطبع والختم - لا أنه مسخ صورهم، وهو مثل قوله تعالى:
كمثل الحمار يحمل أسفارا
[الجمعة:5]. ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجع فيه تعليمه: " كن حمارا ".
واحتج على امتناعه بأمرين:
الأول: إن الإنسان هو هذا الهيكل المشاهد والبنية المخصوصة المحسوسة: فإذا أبطلها الله وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله، كان ذلك إعداما للإنسان وإيجادا للقرد. وكان حاصل المسخ على أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنسانا، وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام قردا. وبالجملة يكون إعداما وإيجادا ولا يكون مسخا.
والثاني: لو جاز ذلك لما آمنا في كل ما نراه قردا، أو كلبا، أو خنزيرا، أنه كان إنسانا عاقلا. وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات.
وكلا الوجهين في غاية السخافة، ولا يدفع بهما إمكان التناسخ.
أما الأول: فلأن الإنسان ليس عبارة عن الهيكل والشكل المحسوس، إذ كثيرا ما يتبدل الهيكل بالنمو والذبول، والسمن والهزال. والشخص بعينه باق لا يتبدل، والباقي غير الزائل. فالإنسان وراء هذا الهيكل، سواء كان أمرا جسمانيا ساريا في البدن، أو مختصا بعضو كقلب، أو دماغ.
أو أمرا غير جسماني كما يقوله الفلاسفة. وعلى التقادير فلا امتناع في بقائه مع تبدل شكله إلى شكل آخر.
وأما الثاني: فلأن القدح في اليقينيات، والشك في المشاهدات، إنما يلزم لو جوز أن هذا الكلب، أو القرد بالفعل إنسان عاقل. وأما كونه إنسانا في وقت، وقد انسلخ عن الإنسانية وصار كلبا أو حيوانا آخر. فهذا لا يوجب الشك في المشاهدات كيف وهذا - أي القول بالنسخ - مذهب جمع كثير من الفضلاء، وينسب إلى أفلاطن وسقراط، والأقدمين.
وإن وجهنا نحن كلامهم إلى غير ما فهمه الجمهور منه، من أن ذلك بحسب النشأة الآخرة، ودار القيامة والبعث، لا في الدنيا، فإن انسلاخ النفس عن بدن طبيعي إلى بدن طبيعي آخر منفصل عن الأول ممتنع. وأما تقلب القلوب، وتحول الباطن بحسب رسوخ الأخلاق، والملكات، من نشأة بشرية إلى نشأة ملكية، أو شيطانية، أو سبعية، أو بهيمية، جائزة عند العرفاء المحققين، والحكماء الكاملين. وعليه براهين كثيرة ليس هاهنا موضع بيانها.
ومن لم يعرف حكمة الأقدمين من الحكماء، الذين أنوار حكمتهم مقتبسة من مشكاة النبوة، حمل كلامهم في تناسخ الأرواح، وتصورها في الآخرة بصور الأبدان، المناسبة لأخلاقها، المكتسبة في هذا العالم على مذهب التناسخية المعروف. وشأنهم أرفع من هذا، بل مذهبهم يوافق مذهب الأنبياء (عليهم السلام) في أن النفوس الإنسانية تحشر في الآخرة على صور أعمالهم ونياتهم، ويحشر الناس على صور مختلفة، وعلى هذا يحمل آيات المسخ والأحاديث الدالة على ثبوته. ولهذا قيل: " ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ ".
فإذا تقرر ما ذكرناه فنقول: إن ما ذكره مجاهد - وإن كان غير مستبعد جدا وله وجه حسن - لا ذكره بعض المفسرين كالإمام الرازي وغيره: " بأنه مجاز شائع، فإن الإنسان إذا أصر على جهالة بعد ظهور الآيات، ووضوح البينة، فقد يقال في العرف إنه حمار وقرد. وإذا كان هذا المجاز من المجازات المشهورة لم يكن في المصير إليه محذور البتة " - بل لما أشرنا إليه من حقيقة المسخ بحسب الباطن والقلب، كما وجهنا إليه كلام الأقدمين من الحكماء. ولكن مع ذلك لا حاجة بنا إلى العدول إلى ما ذكره عن الظاهر المتعارف.
وذلك لمعنى لطيف نذكره، وهو أن مسخ الصورة وتبدلها على وجهين:
أحدهما : تنتقل النفس من بدن إنسان مثلا عند موته إلى بدن حيوان آخر حين ولادته، وهو المسخ المعروف عند التناسخية وهذا باطل عند المحققين.
والثاني: أن يتحول شخص واحد من صورته إلى صورة حيوان آخر، كما وقع في بني إسرائيل وهذا جائز لا دليل على استحالته.
والسبب فيه أن الأبدان تابعة للنفوس، والأشكال فائضة عليها من المبدإ بوساطة النفوس. ولهذا ما ترى تغيرات البدن عند تغيرات النفس، من الشهوة والغضب والخوف والفرح وغيرها، فإذن لا إستبعاد من كون بعض النفوس في شدة خلقها الردي وتأكدها بحيث تؤثر في البدن تأثيرا شديدا يشكل البدن بشكل يناسب ذلك الخلق، فيكون مسخ الظاهر تبعا لمسخ الباطن على وجه الاتصال.
وهذا مما كان في أمة موسى (عليه السلام)، وسبب هلاك ذلك الممسوخ زوال عقله، فلا يمكن تدبير بدنه بغذاء يناسبه، فيموت بعد ثلاثة أيام ونحوها.
ودليل استحالة التناسخ لا يجري في هذا النحو من المسخ المتصل، بل يجري في المسخ المنفصل.
وإنما لم يكن هذا المسخ في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) لعدم رسوخ صفاتهم الردية النفسانية على ذلك الحد، أو لعدم قبول أبدانهم وأمزجتهم ذلك التحول في الشكل لاعتدال مزاجهم.
واعلم أن مسخ الباطن كثير في هذه الأمة، فترى الصور صور الأناسي، والباطن انقلب إلى غير تلك الصور من ملك، أو شيطان، أو صورة بهيمة، أو سبع، وبالجملة صورة حيوان مناسب لما هو باطنه عليه من كلب، أو خنزير، أو قرد، أو أسد. وكل ذلك يخالف ما فطر عليه الإنسان في مقام بشريته الطبيعية إما عال أو سافل.
ومسخ البواطن قد كثر في هذا الزمان، كما ظهر المسخ في الصورة الظاهرة في بني إسرائيل، حين جعلهم الله قردة وخنازير. كما دلت عليه هذه الآية وغيرها، ولا يجوز حملها على المجاز. وما ذكرنا من مسخ الباطن في هذه الأمة مما يشاهده العارف البصير فيرى الصورة الأخروية بعين قلبه لذلك الممسوخ في الباطن.
ولله في العالم أعين شاهدة لمثل هذه الصور المحجوبة عن أعين الناس ، كما نقله بعض الفضلاء، عن أستاذه أنه كان في غلبة الحال، إذ دخل عليه شخص من عظماء البلد، فقال لخادمه: " أخرج هذا الحمار من البيت " فتعجب التلميذ، وانفعل منه ذلك الرجل. ثم سئل الأستاذ: " لم قلت كذا وهو فلان؟ " فقال: " إني ما قلت إلا كما رأيت ".
ويدل على هذا المسخ أيضا ما ورد في الحديث من قول النبي (صلى الله عليه وآله) يخبر عن ربه في صفة قوم من أمته إنهم: " إخوان العلانية أعداء السريرة، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر ".
[2.255]
ولما كانت الشواهد القطعية والدلائل العقلية والنقلية مطابقة متوافقة على أن آية الكرسي سيدة آيات القرآن لما فيها من معنى السيادة، المأخوذ في مفهومها المتبوعية، الثابتة لواحد من نوعه، والتابعية لغيره من أفراد ذلك النوع أو الفضيلة والشرف له في المعنى المشترك بينه وبين أمور واقعة تحت معنى نوعي أو جنسي، فسيد الإنسان ما يكون في باب الإنسانية المعتبرة فيها معرفة الله وعبوديته كاملا غاية الكمال كنبينا (صلى الله عليه وآله) وسيد الأنيباء من يكون له الأكملية في معنى النبوة كهو (عليه السلام) وسيد الكواكب ما يكون نوره أقوى وأشد من أنوار الكواكب، إذ روح الكواكب وملاكها هو النورية الحسية والإشراق، والشمس أشد الكواكب نورية وإشراقا فتكون هي حرية بهذا الاسم فيما بينها.
وهكذا الحال في كل معنى مشترك يكون له فرد كامل شديد الكمال، سواء كان إطلاق السيادة في الجميع على سبيل الحقيقة - وذلك إذا لم يعتبر فيها العقل والشعور - أو على سبيل التشبيه في غير ذوي العقول، والتحقيق فيهم لاعتبار ذلك فيها.
وإنما تحققت السيادة في آية الكرسي على سائر الآيات لما فيها من تحقق الأفضلية في المعنى، الذي هو روح القرآن ولبابه الأصفى، وسره ومقصده الأقصى، وهو دعوة العباد الى الجبار، وسياقتهم إلى العزيز الغفار، وهذا المطلب كأنه أمر مشترك جنسي، أو نوعي، منحصر في ستة أنواع، أو أصناف بعضها كالدعائم والأصول المهمة، وبعضها كالروادف والتوابع المعينة المتمة، أما الدعائم الأصولية فبعضها معرفة الحق الأول، المسلوك إليه، المصمود به لما فيه من الصفات العظمى، والأسماء الحسنى، والأفعال القصوى، وبعضها معرفة الصراط المستقيم، الذي يجب ملازمته في السلوك إليه، وبعضها معرفة الحال عند الوصول إليه فهذه ثلاثة أقسام.
وأما الروادف المعينة:
فأحدها: معرفة أحوال المحبين للدعوة ولطائف صنع الله فيهم.
وثانيها: حكايات الجاحدين وكشف فضائحهم، وجهلهم بالمجادلة والمحاجة على الحق.
وثالثها: معرفة منازل الطريق وكيفية أخذ الزاد والاستعداد.
والمقصود في الأول، إما التشويق والترغيب، أو الاعتبار والترهيب، وفي الثاني إما الإيضاح، والتثبيت، والتقرير - وذلك في جنبة الحق - أو الإفضاح، والتحذير، والتنفير - وذلك في جنبة الباطل - وفي الثالث: سرعة الوصول إلى أصل الأصول، ورفع العوائق عن التوجه والسير إلى خلاق الخلائق ومحقق الحقائق.
ثم القسم الأول من الأقسام الثلاثة الأصولية يتوزع على معارف ثلاث: معرفة الذات، ومعرفة الصفات، ومعرفة الأفعال.
أما الأولى: فهي الكبريت الأحمر الذي لم يظفر بقدر يسير منها إلا ملوك الآخرة وسلاطينها، الذين هم الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، لكونها أضيق المعارف مجالا، وأعسرها مقالا، وأعصاها على الفكر، وأبعدها عن قبول الذكر، ولا يطلع عليها إلا واحد بعد واحد من أكابر الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، وذلك بعد فنائهم عن ذواتهم، واندكاك جبل إنياتهم ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تقديسات وتنزيهات، وسلوب نقائص وكثرات.
وأما الثانية: فالمجال في الصفات أفسح، ونطاق النطق فيها أوسع، وبلوغ الأفهام إليها أسهل وأيسر، لكونها معاني كلية ومعقولات عامية يقع الاشتراك فيها بوجه بين الحق والخلق، ويوجد ظل ضعيف من حقائقها فيما سوى الواحد الأول، ولذلك أكثر آيات القرآن مشتملة على أمهاتها وهي العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والحكمة.
وأما الثالثة: فبحرها أيضا متسع الأكناف، ولا تنال بالاستقصاء فيها الأطراف، بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، إذ ما سواه فعله من حيث هو أثره، وكون وجوده تابعا له ظلا لنوره. لكن القرآن يشتمل على معرفة الجلي منها الواقع في عالم الحس والشهادة ككليات الأجرام الشديدة البنيان، ومعظمات الطبائع والأركان، حيث يذكر فيه خلق السماوات ، والكواكب، والأرض، والجبال، والبحار، والحيوان، والنبات، وإنزال الأمطار والثلوج، وتصريف الرياح، وإثارة السحاب المسخر بين السماء والأرض إلى غير ذلك من الآيات وسائر أسباب النشوء والحياة، إذ كل ذلك من الأمور الجلية الظاهرة للحواس.
وأما الأمور الخفية منها فهي التي لا تصل إليها أفهام أكثر الناس، وهي أعجبها ترتيبا، وأشرفها رتبة، وأعظمها جلالة، وأدلها على عظم مبدعها وخالقها برهانا لكونها من عالم الملكوت والروحانيات. ولما كان الروح الإنساني المسمى باللطيفة الربانية من جملة أجزاء الآدمي ومن سنخ الملكوت وعالم الغيب، فيمكن له عند استكماله بالعلم، والتجرد عن الدنيا أن يدرك بالبصيرة الباطنية خلائق عالم الملكوت الأعلى وحقائقها الغيبية، وهم على مراتب متفاوتة، ودرجات مختلفة.
منها: الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الإنس وهي التي سجدت لآدم.
ومنها: الشياطين المتمردون عن الطاعة المسلطون على أفراد الإنسان إلا من أخلص لله سبحانه، وهي التي امتنعت عن السجود.
ومنها: الملائكة السماوية، وأعلى منهم الكروبيون وهم العاكفون على حظيرة القدس، الذين لا التفات لهم إلى هذا العالم، لاستغراقهم في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وجلال الساحة الإلهية.
واعلم أن إدراك أكثر الخلق مقصور على عالم الحس والتخيل، وهو النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت، والقشر الأقصى عن اللب الأصفى، ومن لم يجاوز هذه الدرجة فكأنه لم يشاهد من الزمان إلا قشرية، ومن عجائب الإنسان إلا بشرية.
فإذا تمهد ما ذكرناه من بيان أبواب القرآن وأقسامه - وأن الغرض من الجميع والمقصود الذي هو روح القرآن وسره ولبابه هو سياقه الإنسان إلى جوار رب الملائكة والإنس والجان - تحقق وتقرر أن لبعض آيات الكتاب العزيز فضيلة وشرافة على غيره منه، وعلم حقية ما دلت عليه الأخبار والآثار النبوية والأحاديث المروية عن خير البرية عليه وآله الصلوات الزكية والتسليمات المرضية، الدالة على شرف بعض السور على بعض من قوله (صلى الله عليه وآله):
" فاتحة الكتاب أفضل القرآن ".
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" قل هو الله أحد يعدل ثلث القرآن ".
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" يس قلب القرآن ".
وكذلك الأخبار الدالة على فضيلة بعض الآيات من قوله (صلى الله عليه وآله):
" آية الكرسي سيدة آي القرآن ".
وما وردت من الأخبار والآثار الدالة على تفضيل بعض السور، وتخصيص بعض الآيات، وكثرة الثواب في تلاوتها والمنافع المذكورة في القوارع القرآنية المذكورة على ألسنة الرواة، والمثبتة في كتب الأحاديث المروية بالأسانيد العامية والخاصية المنتمية الى سادات الأمة ورؤساء العصمة والإمامة، وأهل بيت النبوة والولاية (عليهم السلام) أكثر من أن تحصى.
ومن توقف بعد هذه الدلائل النقلية والقواعد العقلية العرفانية في تفضيل بعض السور والآيات، وضعف نور بصيرته عن إدراك التفرقة بين آية الكرسي وآية الزانيات، وسورة الإخلاص النازلة في معرفة الرب، وسورة تبت يدا أبي لهب فحرام عليه أن ينسرح في ميدان معرفة الصانع بل يجب عليه أن يغض بصره عن آثار رحمة الله، ولا ينظر إليها ويشتغل من لباب القرآن بالقشور ويتوجه إلى القرطاس المنقوش من الرق المنشور، ويكتفي من العلوم الشرعية التي تستنبط أصولها وفروعها من آيات الكتاب بنوادر الطلاق ودقائق علم السلم، والرهانة، وغرائب النحو واللغة، وصنعة الكلام وطريقة المجادلة مع الخصام التي هي متاع الأنعام " قد علم كل أناس مشربهم " " قوة كل طائر على قدر حوصلته " نظم:
كر بيرد يشه جندانكه هست
كى كمال صرصرش آيد بدست
إذا لم تستطع أمرا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
فمن رجع إلى ملاحظة المقصود الأصلي من إنزال القرآن وروح المعنى المراد منه والقدر المشترك بين أقسامه - الذي هو سياقة الخلق إلى جوار رحمة الله سبحانه - وأنه مما يتفاوت في تلك الأقسام كمالا، ونقصا، وشدة، وضعفا، إما لأجل التدرج في التعليم من مرتبة أخرى فوقها، أو التلطف في الهداية من جهة الانتقال من فن إلى فن لكيلا يلزم الإسهاب والإملال بسبب التكرار والمواظبة على نهج واحد في المقال، وإما لأجل اختلاف القرائح والطبائع في اللطافة والكثافة، والذكاء والغباوة.
فلكل إنسان بحسب عقله طور من الأطوار، كما أن لكل حيوان بحسب جسميته شكل من الأشكال كالفرس، والحمار، والبعير، والإنسان، المتخالفة في الحركات والآثار، فتفظن وتيقن أن المقصد الأقصى واللباب الأصفى من أقسام القرآن وعلومه هي معرفة ذات الله تعالى، وصفاته، وأفعاله، ويعلم أن سائر الأقسام مرادة لهذا القسم، وهو مراد لنفسه لا لغيره، فإن العلم الأعلى والحكمة الإلهية هو رئيس سائر العلوم الحقيقية ومخدومها، لأن غاية العلوم الآلية التي هي مقصودة لغيرها هي المعارف الربانية وهي ليست غاية لشيء آخر غيرها بل غاية الغايات وآخر سير الأفكار ونهاية الحركات، وما عداها من العلوم الكلية والجزئية هي خدمها، وتوابعها، وعبيدها، وهو السيد المطاع، والرئيس المقدم، الذي تتوجه إليه وجوه الأتباع وتتولى شطره قلوب الخدم، فيحذون حذوه، وينحون نحوه، ويخدمون غرضه.
وإذا تأمل الناظر المتفكر وتدبر بعين البصيرة في جملة المعاني التي تشتمل عليها آية الكرسي من المعارف الإلهية والمطالب الربوبية - من التوحيد والتقديس وشرح الصفات العليا والأفعال العظمى - لم يجدها مجموعة في آية واحدة من آيات القرآن إلا هذه الآية، فلذلك لا تستحق السيادة والرياسة على سائر آي القرآن إلا هي وحدها، فإن
شهد الله
[آل عمران:18] ليس فيه إلا التوحيد و
قل هو الله أحد
[الإخلاص:1] ليس فيه إلا التوحيد والتقديس و
قل اللهم مالك الملك
[آل عمران:26] ليس فيه إلا الأفعال وكمال القدرة " والفاتحة " فيها مرامز إلى هذه الصفات من غير شرح، وهي مشروحة في آية الكرسي.
والذي يقرب منها في جميع هذه المعاني آخر الحشر وأول الحديد، إذ يشتمل على أسماء وصفات كثيرة، ولكنها آيات لا آية واحدة، وهذه آية واحدة، فإذا قابلتها بآحاد تلك الآيات وجدتها أجمع للمقاصد الإلهية، التي هي روح القرآن فلذلك تستحق السيادة على الآي كلها، وتكون مصداقا لما ورد في فضلها وشرفها من الأخبار والآثار.
منها: ما ورد منه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" آية الكرسي سيدة آي القرآن ".
ومنها: أنه قال (صلى الله عليه وآله):
" ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ".
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول:
" من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه عن دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه، وجاره، وجار جاره، والأبيات حوله " ".
وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): " أين أنتم عن آية الكرسي؟ " - ثم قال: - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" يا علي سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي. يا علي إن فيها لخمسين كلمة، في كل كلمة خمسون بركة ".
وعن أبي بن كعب قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟ قلت: " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " قال: فضرب في صدري ثم قال: ليهنئك العلم والذي نفس محمد بيده ان لهذه الآية للسانا وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش "
نقلها أبو علي الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان.
ومنها: ما وري عن أبي جعفر الباقر عليه الصلاة والسلام قال: " من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر ".
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) " ان لكل شيء ذروة، وذروة القرآن آية الكرسي ".
كيف وفيها " الحي القيوم " وهما من اسم الله الأعظم كما سيظهر لك لمعة من أنواره ونكتة من أسراره، ويشهد له ما ورد في الخبر بأن:
" الإسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران ".
وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال:
" لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنظر ما يصنع قال فجئت فإذا هو ساجد يقول: " يا حي يا قيوم " لا يزيد على ذلك، ثم رجعت إلى القتال، ثم جئت وهو يقول ذلك فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه ولا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له ".
وناهيك إيقانا بهذا أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعال عن أن يقال: " إنه هو أشرف من غيره " لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة، وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جماله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات.
فقد ثبت مجملا وتحقق بما أشرنا إليه قبل الخوض في بيانه أن لآية الكرسي بخصوصها سيادة وشرافة على كل واحدة واحدة من آيات القرآن، لأنها أجمع من كل منها وأشمل لمعان هي روح القرآن ولبابه الأصفى - من معرفة الذات، والصفات، والأفعال - إذ ليست هذه المعاني مجموعة في غيرها من الآيات وهي بأسرها مذكورة فيها، فإن قوله تعالى: { الله } إشارة إلى الذات الموصوفة بالوجوب والغنى الذاتيين " والإلهية " إفادة الوجود وإعطاء الكمال والخير والجود لغيره وقوله: { لا إله إلا هو } إشارة إلى توحيد الذات، ونفي المماثل في الوجود، والشريك في الإيجاد، والشبيه في الصفة.
وقوله: { الحي القيوم } إشارة إلى نعت الذات وجلالتها وعظمتها لما فيه من معنى الحياة المأخوذ فيه العلم والقدرة وسائر ما يتعلق بهما ويتعلق به (ومتعلقاته - ومتعلقا به - ن) إذ " الحي " هو الذي يدرك ويفعل، ومعنى " القيومية " المستفاد منه جميع الصفات الكمالية والبراءة عن جميع النقائص الإمكانية، فإن معنى " القيوم " هو الذي يقوم بنفسه ويجب بذاته ويقوم به غيره، فلا يتعلق قوامه بشيء، وهو يسلتزم سلب النقائص كلها، إذ ما من نقيصة إلا ومنبعه الافتقار الذاتي والإمكان، ويتعلق به قوام كل شيء وهو يستلزم استجماع الخيرات والفضائل كلها ومنبعية كمالات الأشياء ومقاصدها بأسرها التي تتم بها قصوراتها وتجبربها نقصاناتها، وهذا غاية العظمة والجلالة.
وقوله: { لا تأخذه سنة ولا نوم } من الصفات التقديسية السلبية، لأنه تنزيه وتقديس له عما ينافي القدم والإلهية من صفات الحوادث، وسمات المركبات. ولا شك أن التقديس عن وصمة التنقيص نوع من العرفان بل أوضح أقسامه في حق من لا سبيل إلى اكتناه ذاته بالبرهان.
وقوله : { له ما في السماوات وما في الأرض } إشارة إلى الأفعال كلها خلقها وأمرها، وعقولها ونفوسها، وأعاليها وسوافلها، وأن جميعها يبتدي ويصدر منه، وينتهي ويرجع إليه.
وقوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } إشارة إلى انفراد بالملك والأمر وتوحده بالوجود والتقوم، وفناء ذوات الكل عند ذاته، واضمحلال أشعة نفوسهم عند سطوع النور الأول، وأن من يملك الشفاعة والوساطة فإنما يملكها بتشريفه إياه والإذن فيه بالأمر التكويني المتعلق أولا بذوات الوسائط المستمعة بآذان قابلياتها الواعية الصافية، وقلوبها السامعة الفاهمة خطاب الحق يقول: " كن " وأمره في دخولها دار الكون قبل غيرها، وإجابة دعوته تعالى وامتثال أمره في دخولها باستماع الخطاب وإدخال غيرها باسماع كلامه تعالى إياه لقوله تعالى:
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا
[النبأ:38].
وقوله: { يعلم ما بين أيديهم } ، الآية إشارة إلى صفة العلم على الوجه التفصيلي الذي هو آخر مراتب العلم ونفي صفة العلم المساوق للحياة بل الوجود عن غيره، إلا من عطائه وموهبته حسب إرادته ومشيئته.
وقوله: { وسع كرسيه السماوات والأرض } إشارة إلى عظمة ملكه وبسطة قدرته. وفيه سر شريف ومعرفة غامضة سينكشف لك ما يحتمل سماعه طاقة أمثالك عند إيضاحنا نبذا من شرح صفة الكرسي واتساعه السماوات والأرض.
وقوله: { ولا يؤوده حفظهما } إشارة إلى كمال قدرته وعدم تناهي قوته وتنزهها عن الدثور، والكلال، والنقصان، والزوال.
وقوله: { وهو العلي العظيم } إشارة إلى أصلين عظيمين في الأسماء والصفات سنشير إلى شرحهما حسبما تحتمله الأسماع.
فمن تأمل جملة هذه المعاني من التوحيد، والتقديس، والجمال، والجلال، والعظمة، والبسطة، والقهر، والملك، والملكوت، تأملا تاما، كاملا وتفكر فيها تفكرا شافيا كافيا، وجدها غاية مقصد السالكين، ونهاية مطلوب المحتاجين، بحيث بها يمكن أن يصل كل ذي حاجة ومسكنة إلى مبتغاه ومتمناه، وبها ينتهي كل طالب مشتاق إلى شيء مطلوب، وكل مشتهي متمني إلى نفسه ومرغوب مناه ومهواه، إذ فيها أصل السعادات ومنشؤها، وغاية الخيرات ومنتهاها.
فلنشرع في تفسير هذه المعاني وشرحها حسب ما ألهمنا الله بها، ومنحها على قدر وسعنا وطاقتنا، ومبلغ استطاعتنا وقوتنا، لا على قدر جلالة تلك المعاني وعظمتها، ومبلغ شرافتها وحقيقتها، ولنورد جملة هذه المعاني في عدة فصول تكون هي للحقائق العلمية دعامات وأصول، مدرجا كل جملة من المقاصد المتعلقة بكلام مفرد إسنادي خبري في مقالة واحدة ليسهل أخذها على المتأمل الطالب، ويتيسر ضبطها على السالك الراغب، موردا في كل باب قبل الإشارة إلى ما هو صريح الحق والصواب، وقرة عيون أولي البصائر والألباب، طائفة من كلمات القوم وتأليفاتهم، وفوائدهم وتدقيقاتهم في الكتاب، ملخصا لثمرات كلامهم، ومقربا لأبعاد مرامي سهامهم، ومقصرا لمسالك أقدامهم، ومجاوزا عن ما يعدونه غاية مرامهم، وملتقطا من عقود نظامهم فرائده من غير إخلال، ومجتنبا من عنقود ثمارهم فوائده من غير إهمال، ليكون معوانا على ما نحن بصدده، ومعدا للناظر فيما يحتاج إلى مدده.
وها أنا أشرع فيما وعدناه، وأخوض فيما قصدناه، بإذن مبدإ الجود ومنتهاه، وغاية الوجود ومبتغاه.
المقالة الأولى
فيما يتعلق باسمه تعالى " الله "
وفيه أبحاث وتحقيقات لفظية ومعنوية أوردناها في مسائل:
المسألة الأولى
في كيفية كتابة هذا اللفظ
يجب إبقاء " لام التعريف " في الخط على ما هو أصله في لفظ " الله " كما في سائر الأسماء المعرفة وأما حذف " الألف " قبل " الهاء " فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة، ولأنه يشبه " اللاة " في الكتابة.
قال أهل الإشارة: الأصل في قولنا " الله " " الإله " وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ - ألف ولامان وهاء - فالهمزة من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهذا حال العبد يبتدئ من النكرة والجهالة ويترقى قليلا في مقامات العبودية حتى يصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ويدخل في عالم المكاشفات والأنوار، ثم يأخذ بالرجوع قليلا قليلا حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل: " النهاية هي الرجوع إلى البداية ".
ومن اللطائف المتعلقة بمواد هذا الاسم وحروفه أنك إذا أسقطت " الهمزة " بقي " لله "
ولله جنود السماوات والأرض
[الفتح:4]. فإن تركت من هذه البقية " اللام " الأولى بقيت البقية على صورة " له "
له ما في السماوات والأرض
[البقرة:116]، وإن تركت " اللام " الباقية أيضا بقيت الهاء المضمومة من " هو "
قل هو الله أحد
[الإخلاص:1]، و " الواو " زائدة حصلت من إشباع الضمة بدليل سقوطها في التثنية والجمع " هما، هم ".
فانظر إلى تقدس هذا الاسم وتنزهه عما يشبه القوة والبطلان ويوهم النقصان والإمكان، ولو بحسب مرتبة من مراتبه، وتفطن منه إلى صمدية مسماه وترفعه عن التعطل والقصود في إفاضة الوجود والرحمة على ما سواه.
روي أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية قصد أو أمر أن يكتب " بسم الله " على بابه الخارج، فلما ادعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعاه فلم ير به أثر الرشد وقال: " إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا؟ " قال تعالى يا موسى: " لعلك تريد إهلاكه، أنت تنظر إلى كفره، وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه " فالنكتة فيه أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمنا من العذاب - وإن كان كافرا - فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون.
المسألة الثانية
في كيفية التلفظ باسم الجلالة
إعلم أن القراء والمجودين استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ " الله " بعد الفتحة والضمة دون الكسرة.
أما الأول: فللفرق بينه وبين لفظ " اللات " في الذكر، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان، فكان العمل فيه أكثر؛ فيكون أدخل في الثواب، وهذا كما جاء في التوراة: " أجب ربك بكلك " وربما قال بعضهم بالوجوب مستدلا بأنه أمر شائع فلا يجوز خلافه.
وأما الثاني: فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار.
وربما قيل بالتفخيم في الأحوال الثلاثة، ونقل ذلك عن بعض القراء.
وإنما لم تعد اللام الغليظة حرفا والرقيقة حرفا آخر كما عد الدال حرفا والطاء حرفا آخر - مع أن نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، فإن الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان - لاطراد استعمال الغليظة مكان كل رقيقة ما لم يعق عائق الكسرة، وعدم اطراد الطاء مكان كل دال.
أقول: وهاهنا وجه آخر وهو أن الوجدان يجد تفرقة بينهما سوى التفاوت بالجزئية والكلية في المخرج، وهو التفاوت بالرخاوة والشدة، مع أن كليهما من الحروف الشديدة عند القراء، وهي حروف " أجد قط بكت " إذ لا شبهة لأحد أن جميع هذه الحروف ليست في درجة واحدة من الشدة، كما أن الرخويات ليست متساوية في حد من الرخاوة.
وحذف الألف لحن تبطل به الصلاة، وإنما ورد في الشعر للضرورة، ولا ينعقد به اليمين عند أصحابنا، إذ ليس حينئذ من الأسماء المختصة ولا الغالبة.
وأما الشافعية فاليمين لما كان عندهم على ضربين: الصريح - وهو الذي ينعقد عندهم بمجرد التلفظ بالاسم من غير نية وهو الحلف بالأسماء المختصة - والكنائي - وهو ما يحتاج فيه إلى النية بأن ينوي الحالف الذات المقدسة وهو الحلف بالأسماء المشتركة كالحي والسميع، والبصير - فاليمين بالاسم المذكور ينعقد عندهم مع النية. وأما على ما ذهب إليه أصحابنا فاليمين لا ينعقد إلا بشرطين أحدهما: النية، والثاني: كونه من الأسماء المختصة له تعالى وهو مفقود عند حذف الألف.
المسألة الثالثة
في أنه من أي لغة كان - عربي، أو عبري، أو سرياني -
وفي أنه اسم، أو صفة، جامد أو مشتق
قد اختلفت ألسنة الفحول، وتشعبت آراء أرباب العقول، وتفننت أنظار علماء النقول وأصحاب الأبنية والأصول، واضطربت أقوالهم في لفظة الجلالة، كما تاهت أفكار العقلاء في مدلولها وتحيرت أذهانهم في مفهومها، وكما اضمحلت ذوات العارفين في حقية مسماها، واندكت جبال إنياتهم في هوية الأول المحتجب بشدة ضوئه الأبهر، ونوره الأقهر عن عيون خفافيش العقول، فكأنه قد وقعت رشحة من بحر تعززه وتمنعه، وعكست شعلة من نار كبريائه وجلاله على منصات ظهور جماله، حتى اللفظ الذي بإزاء هويته، فتلجلج لسان الفصحاء عند بيانه، وتمجمج البلغاء في الإخبار عن شأنه.
فقيل: هو لفظ عبري.
وقيل: هو سرياني، وأصله " لاها " فعرب بحذف الألف من آخره، وأدخل اللام والألف عليه.
وقيل: بل هو عربي وأصله " إله " حذفت الهمزة وعوض عنها بالألف واللام، ومن ثم لم يجز إسقاطهما حال النداء ولا وصل الهمزة تحاشيا عن حذف العوض أو جزئه.
فقيل: في النداء: " يا ألله " بالقطع كما يقال: " يا إله " وإنما خص القطع به تمحيضا لهما في العوضية للاحتراز عن اجتماع أداتي التعريف - وفيه ما فيه -.
و " الإله " من أسماء الأجناس كالرجل والفرس فيقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كما غلب " النجم " على الثريا، و " السنة " على عام القحط، و " البيت " على الكعبة.
وأما " الله " - بحذف الهمزة - فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره فاختلفوا فيه هل هو اسم أو صفة؟ فالمختار عند جماعة من النحاة كالخليل وأتباعه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن لفظ الجلالة ليس مشتق وأنه اسم علم له سبحانه لوجوه:
أحدها: إنه لو كان مشتقا لكان معناه كليا لا يمتنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه، وحينئذ لا يكون قولنا: " لا إله إلا الله " موجبا للتوحيد المحض، ولا الكافر يدخل به في الإسلام، كما لو قال: " أشهد أن لا إله إلا الرحيم " أو " إلا الملك " بالاتفاق.
ويرد عليه: أنه يجوز أن يكون أصله الوصفية، إلا أنه نقل إلى العلمية.
والثاني: إن الترتيب العقلي يقتضي ذكر الذات، ثم تعقيبه بالصفات، نحو " زيد الفقيه الأصولي النحوي " ثم إنا نقول " الله الرحمن الرحيم " ولا نقول بالعكس، فنصفه، ولا نصف به، فدل ذلك على أن " الله " اسم علم.
ويرد عليه: أن هذا لا يستلزم العلمية لجواز كونه اسم جنس أو صفة غالبة يقوم مقام العلم في كثير من الأحكام، ويخدشه أيضا قوله تعالى:
صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات
[إبراهيم:1 - 2] في قراءة حفص.
وأجيب بأن قراءة حفص عند من قرأ بها ليست لأجل أنه جعله وصفا، وإنما هو للبيان، كما في قولك: " مررت بالعالم الفاضل زيد ".
والثالث: قوله تعالى:
هل تعلم له سميا
[مريم:65]. وليس المراد الصفة وإلا لزم خلاف الواقع، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا " الله ".
ولقائل أن يمنع تالي شق الأول مسندا بأن المراد من الصفة كمالها المعرى عن شوب النقص.
والرابع: إنه سبحانه يوصف بصفات مخصوصة فلا بد له من اسم خاص تجري عليه تلك الصفات، إذ الموصوف إما أخص أو مساو للصفة.
وفيه أولا: أن هذه مغالطة من باب الاشتباه بين أحكام اللفظ وأحكام المعنى، فإن الاختصاص بالنعوت والأوصاف يوجب مساواة ذات الموصوف أو أخصيتها بالقياس إلى الصفة لا وقوع لفظ مخصوص بأزاء الذات، والأول لا يسلتزم الثاني.
وثانيا: إنه على تقدير التسليم لا نسلم لزوم العلمية، لأن الصفات مفهومات كلية وأن تخصص بعضها ببعض لا ينتهي إلى التعين الشخصي، غاية ما في الباب أن يصير كليا منحصرا في فرد، فيكفي لموصوفها عنوان هو أمر كلي منحصر في فرد.
وثالثا: إنه يرد عليه ما ورد أولا على الثاني.
وأما القائلون بالاشتقاق فحجتهم أمور:
منها: قوله تعالى:
وهو الله في السماوات وفي الأرض
[الأنعام:3]. إذ لو كان علما لم يكن ظاهر هذه الآية مفيدا معنى صحيحا - لا كما وجهه بعضهم من أنه يشعر بالمكانية لأن ذلك حديث آخر يتعلق بعلم أرفع من مباحث الألفاظ ولعل الألفاظ المشعرة بالتجسم في القرآن غير محصورة والسر في الجميع شي واحد ليس هذا الموضع محل بيانه - بل لأن المعنى الجامد لا يصلح للتقييد بالظروف وغيرها بخلاف المعنى الوصفي، فإنه لا يجوز أن يقال " هو زيد في البلد " وإنما يقال: " هو العالم في البلد " أو " الواعظ في المجلس ".
والجواب: إن الاسم قد يلاحظ معه معنى وصفي اشتهر مسماه به فيتعلق بالظرف كما في " أسد علي " لتضمنه معنى الصائل أو المقدم، فكذلك يلاحظ هاهنا معنى المعبود بالحق لكونه لازما لمسماه مشتهرا في ضمن فحواه.
ومنها: إنه لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى كان العلم له ممتنعا.
ومنها: إن العلم للتمييز، ولا مشاركة فلا حاجة إليه.
والجواب عن الوجهين: إن وضع العلم لتعين الذات المعينة ولا حاجة إلى الإشارة الحسية، ولا يتوقف على حصول الشركة.
قال بعض العلماء: يشبه أن يكون النزاع بين الفريقين لفظيا غير مؤد إلى فائدة لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن " الإله " مشتق من " أله - بالفتح - آلهته " أي: عبد عبادة. وأنه اسم جنس يقال على كل معبود، ثم غلب على المعبود بحق كما مر، وأما " الله " بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره، ولم يفهم سواه وهذه خاصية العلم.
وقيل: اشتقاقه من " ألهت إلى فلان " أي: سكنت. وهذا المعنى أيضا لا يتحقق إلا بالقياس إلى جنابه المقدس فإن النفوس لا تسكن إلا إليه والعقول لا تقف إلا لديه لأنه غاية الحركات، ومنتهى الرغبات، كما برهن في الحكمة الإلهية ولأن الكمال محبوب لذاته
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد:28].
وقيل: من " الوله " وهو ذهاب العقل، وهو بالحقيقة ثابت للذوات بالنسبة إلى قيوم الهويات وجاعل الإنيات، سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان المستغرقون في لجة يم الإيقان، والواقفون في ظلمات الجهالة والعميان المتزحزحون في تيه الخذلان.
وقيل: من " لاه " بمعنى ارتفع، وهو تعالى مرتفع عن شوب مشابهة الممكنات ومتعال عن وصمة مناسبة المحدثات.
وقيل: من " أله في الشيء " إذا تحير فيه، لأن العقل وقف بين الإقدام على إثبات ذاته - نظرا إلى وجود مصنوعاته - والتكذيب لنفسه؛ لتعالي ذاته عن ضبط وهمه وحسه، ولذلك قال المحققون: السالك الواصل إلى درك الواجب لذاته هو نحو البرهان المأخوذ عن معنى الوجود وأن له مبدءا قيوما لذاته فهو الشاهد على ذاته وعلى كل شيء لا العقل، إذ ليس له إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدارك الجمال والجلال، فعجز العقل هاهنا عن درك الإدراك إدارك.
وقيل: من " لاه يلوه " إذا احتجب. لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول فإنه إنما يستدل على كون الشعاع مستفادا من الشمس بدورانه معها وجودا وعدما، وطلوعا وأفولا، وشروقا وغروبا، ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان بكون الشعاع مستفادا منها، ولما كانت ذاته باقية على حالها وكذا الممكنات التابعة له، فربما يخطر ببال ضعفاء العقول أن هذه الأشياء موجودة بذواتها، وكثير منهم لا يمكنه تصور دوام المجعول مع الفاعل التام مع أن البقاء لأحدهما بالأصالة والحقيقية، وللآخر بالتبعية والمجاز إذ المهيات والأعيان مظلمة الذوات بذواتها لازمة الفقدان والعدم بأنفسها، إلا أنها مرائي لحقيقة الأول ومجالي لظهور نور الحق لم يزل فاختفى الحق بالخلق وظهر الخلق بنور الحق، فلا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال ظهوره، كما لا سبب لظهور الخلق إلا غاية بطونه وبطلانه، فالحق محتجب والخلق محجوب.
وقيل: من " أله الفصيل " إذا ولع بأمه، لأن العباد يتضرعون إليه في البليات
وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه
[الروم:33] هذا شأن الناقصين، وأما العارفون الكاملون فهم في بحر شهوده مغرقون وهو جليسهم وأنيسهم.
شكى بعض المريدين كثرة الوسواس فقال له الشيخ: " كنت حدادا عشر سنين، وقصارا عشرا، وبوابا عشرا " فقيل: " وكيف ما رأينا منك؟ " فقال: " القلب كالحديد، ألنته بنار الخوف عشرا، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشرا، ثم وقفت على باب القلب عشرا أسل سيف لا إله إلا الله، فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله تعالى، ويدخل فيه حب الله فلما خلت عرصة القلب عن غيره وقويت محبته، سقطت من بحر عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة، وفنى عن الكل، ولم يبق فيه إلا محض سر لا إله إلا الله.
وقيل: من " أله الرجل يأله " إذا فزع من أمر نزل به، فآلهه أي آجره، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله ولا يجار عليه.
كشف تحقيقي
الحق أن وضع الاسم المخصوص للذات الأحدية والهوية الغيبية مع قطع النظر عن النسب والإضافات غير متصور أصلا لا لما قيل " إن ذاته تعالى من حيث هي غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليها بلفظ ". إذ يرد عليه ما ذكره بعض المحققين: إن أقصى ما يلزم منه عدم تمكن البشر من وضع الاسم له جل شأنه، والمدعى أن ليس له تعالى علم أصلا، وقد صح أن أسماءه توقيفية، فيجوز أن يضع هو لذاته المقدسة اسما، على أن القول بعدم تمكن البشر من وضع العلم محل كلام، إذ يكفي في وضع الاسم تعقل المسمى بوجه يمتاز عما عداه.
بل لأن الغرض من وضع الألفاظ والنقوش الكتابية ليس إلا الدلالة على المعاني الذهنية الدالة على الحقائق الخارجية، إذ لو كانت الحقيقة بنحو وجودها الخارجي حاضرا عند المخاطب سقط اعتبار اللفظ، بل لا يحتاج إلى إشارة عقلية ولا حسية لكونها مدركة بصريح المشاهدة، ولما لم يتصور لحقيقة الباري صورة ذهنية مطابقة لذاته، فلا يمكن الدلالة عليه بالألفاظ الدالة على الصورة الذهنية المطابقة له، ولا اسم لذاته المخصوصة أيضا إذ لا يمكن نيل ذاته المقدسة إلا بصريح ذاته وإشراق نور وجهه الكريم بعد فناء السالك عن ذاته، واندكاك جبل إنيته، واضمحلاله في العين، وإماطة أذى هويته في طريق الحق من البين، وحينئذ فلا اسم له، ولا رسم، ولا نعت، ولا خبر عن الغيب المحض والمجهول المطلق، فالسالك ما دام في حجاب وجوده وعينه فلا فائدة للألفاظ في حقه، ولا خبر عن الحق أصلا، وإذا وصل إلى الشهود الحقيقي فلا أثر منه عند الغير كما قيل:
اين مدعيان در طلبش بيخبراند
كانرا كه خبر شد خبرى باز نيامد
ومن هاهنا يتبين ويتحقق أن وضع الألفاظ للمفهومات والصور الذهنية لا للأعيان الخارجية، سواء كان الغرض تعرف أحوال تلك الأعيان وأحكامها أم لا - كما في الأحكام الذهنية -.
ومما يؤكد أن وضع الألفاظ للصور الذهنية أنه قد ثبت في مقامه أن لا سبيل للعلم بأنحاء الوجودات الخارجية للمهيات إلا بالحضور العيني والمشاهدة الإشراقية، أو الإحساس، فعلى هذا كيف يتصور أن يفهم من مجرد إطلاق اللفظ الهوية الخارجية، إلا بسبب سبق علم شهودي أو إحساس بتلك الهوية، وإذا لم يكن الأمر العيني مما يتصور في حقه المشاهدة الاكتناهية أو الإحساس كذاته تعالى فلا فائدة لوضع الألفاظ لذاته المخصوصة بوجه أصلا.
فإن قلت: لا شبهة في أن للعلوم والصور الذهنية دلالات على المعلومات والأعيان الخارجية - وإن لم يحضر الأمر الخارجي - فالعلم بها لا يتوقف على حضورها. وأيضا لا شك أن الأحكام الخبرية ليست كلها جارية على مجرد الصور العقلية، وإلا لكانت القضايا كلها ذهنيات فلم يبق قضية حقيقة أو خارجية، فللحكم على الشيء لا بد من إدراكه.
قلنا: نحن لا ننكر أن للصورة العقلية دلالة على الشيء الخارجي بوجه من الوجوه، لكنا نقول: هذه الدلالة على الأمر الخارجي بهويته المخصوصة لا يمكن إلا بعد العلم الحضوري به، فاللفظ إذا دل عليه فإنما دل أولا على الصورة الذهينة، وبتوسطها على الأمر الخارجي بالشرط المذكور، وأما القضايا والأحكام الخارجية أو الحقيقية فالحاضر بالذات للعقل عند إطلاق اللفظ في الحمليات مطلقا ليس إلا الصور الذهنية، إلا أنها قد تكون مأخوذة على وجه يصير عنوانا لحقيقة خارجية، كما في المحصورات الخارجية، فإن المحكوم عليه في قولنا " كل إنسان كاتب " هو الصورة العقلية للإنسان المأخوذة من حيث هي هي على وجه يصير مرآة لملاحظة الأفراد على سبيل الإجمال، بمعنى أن كل واحد واحد من الأفراد لو كان حاضرا مشهودا بهويته العينية لكان متحدا مع تلك الصورة المأخوذة كذلك.
وهكذا الحكم في الأفراد المقدرة في القضية الحقيقية بخلاف الطبيعة الذهنية، فإن المحكوم عليه فيها مجرد الصورة من حيث كونها متعينة، في الذهن ففي القبيلين المدرك بالذات ليس إلا صورة الشيء الخارجي ووجهه دون هويته وذاته، إلا أن في أحدهما اعتبر المطابقة مع ما في الخارج على الوجه المذكور، وفي الآخر لم يعتبر، وهذا هو الفرق بين العلم بوجه الشيء وبين العلم بالشيء من وجه، مع الاتفاق في كون المعلوم بالذات هو الوجه، لا الكنه.
فقد استنار وانكشف أن حقيقته المقدسة باعتبار الأحدية الغيبية لا وضع للألفاظ بأزائه، إذ لا يمكن له إشارة عقلية كما لا يمكن إشارة حسية، وهذا سر قوله عليه وآله الصلاة والسلام:
" إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما أنتم تطلبونه ".
المسألة الرابعة
في أن موضوع لفظ الجلالة ماذا؟
إعلم أن أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة:
أولها: إسم الشيء بحسب ذاته كزيد.
ثانيها: إسمه بحسب جزء من أجزائه كالحيوان على الإنسان.
ثالثها: إسمه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحار.
ورابعها: إسمه بصفة إضافية كالمالك والمملوك، والمتيامن والمتياسر.
وخامسها: إسمه بصفة سلبية كالجاهل والأعمى.
وسادسها: إسمه بصفة حقيقية مع إضافة لها إلى شيء كالعالم والقادر.
وسابعها: إسمه بصفة حقيقية مع صفة سلبية كإطلاق الجوهر بمعنى الموجود بالفعل لا في الموضوع على ما له وجود زائد على مهيته.
ثامنها: إسمه بصفة إضافية مع صفة سلبية كالأول فإن معناه سابق غير مسبوق.
تاسعها: صفة حقيقية مع إضافة وسلب. فهذه أقسام الأسماء المقولة على الشيء ولا يكاد تجد اسما خارجا عنها سواء كان لله أو لمخلوقاته.
إذا تقرر هذا فلقائل أن يقول: لما تبين وتحقق أن حقيقته تعالى المقدسة عن لوث الأفهام والأوهام بحسب هويته الغيبية (العينية - ن) غير قابلة لاسم ولا رسم، ولا حد، ولا إشارة، وإنما ألفاظ الأسماء والصفات جارية على ذاته باعتبار مفهومات هي نعوت كمالية أو إضافية أو سلبية فالاسم " الله " لا يكون موضوعا للذات الأحدية بل لواحدة من الصفات الحقيقية أو الإضافية سواء كانت مع السلوب أم لا.
لكن لقائل أن يعارض ذلك ويقول: إن الاسم " الله " لو لم يكن موضوعا للذات لكان إما موضوعا لصفة كمالية بخصوصه - كالعالم مثلا أو القادر أو غيرهما - فكان المفهوم من كلمة " الله " هو بعينه المفهوم من " العالم " مثلا، ولم يكن لقولنا " الله عالم " معنى زائدا على معنى أحد جزئيه، بل يكون مثل قولنا " الله الله " " والعالم عالم " حيث لم يفد المجموع معنى غير ما أفاده أحد جزئيه، والتالي باطل فالمقدم مثله.
وإما أن يكون موضوعا لصفة إضافية محضة كالأولية، والسببية، والآخرية، والغائية وهو أيضا باطل بمثل البيان المذكور. وإما أن يكون موضوعا للسلوب المحضة كالقدوسية، والفردية، والجلالة، وهو ظاهر الاستحالة، لأنا لا نفهم من هذا اللفظ إلا تحصيل أمر حقيقي، أو إضافي، لا رفع أمر.
وإما أن يكون موضوعا لجزء من الذات وهو أيضا مستحيل لاستلزامه تركب الواجب تعالى عنه علوا كبيرا، والحال في كونه موضوعا للمركب من بعض المعاني المذكورة مع بعض يعرف بما ذكرناه من الاستحالة.
فلم يبق من الاحتمالات التسعة المذكورة الحاصلة من وقوع الأسماء على المسميات إلا واحد وهو كون الاسم " الله " واقعا على الذات دالا عليها مطابقة لاستحالة غيره لما علمت من استحالة التوالي بأسرها عند فرض المقدمات الثمانية المحتملة في بادئ النظر وأن فساد التوالي يستلزم فساد المقدمات، وكذا استحالة المفهوم المردد بين التوالي يسلتزم استحالة المفهوم المردد بين شقوق المقدم، واستحالته يوجب ثبوت نقيضه - وهو الذي ادعيناه من كون لفظ الجلالة بأزاء الذات الأحدية المعراة عن الاعتبارات - حقيقية كانت، أو إضافية، أو سلبية - وإلا يلزم كون هذا الاسم مع جلالته مهملا غير موضوع لمعنى هو ظاهر البطلان.
وأقول في الجواب: إن هذا الاسم - في التحقيق الذي لا مجمحة فيه - من الأعلام الجنسية للذات المستجمعة للصفات الكمالية بأسرها، المنزهة عن النقائص الإمكانية برمتها، فهو علم لهذا المفهوم الجامع المقدس المنحصر في ذات الواجب القيوم بذاته، وليس من أسماء الأجناس، إذ ليس إسم جنس لذاته لعدم كونه تعالى كليا طبيعيا كما زعمته طائفة من المتصوفة - تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا - ولا أيضا إسم جنس لصفة من الصفات بخصوصها، أي صفة كانت، إيجابية، أو سلبية، كما مر ذكره.
فلم يبق من الاحتمالات إلا الذي ادعيناه، إذ لا يرد عليه شيء من النقوض والإيرادات المذكورة وهو خارج عن الشقوق التسعة المشهورة، ودعوى انحصار أقسام الأسامي فيما ذكر ممنوع، لأنه غير مستند إلى أمر عقلي بل مجرد استقراء غير تام يكاد يوجد اسم خارج عن الجميع، سواء كان لله أو لغيره، وسواء كان الواضع هو الله أو غيره.
فإن قلت: هذا الاسم أشرف الأذكار وهو الاسم الأعظم عند بعضهم وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون مسماه الذات الأحدية؛ لأن شرف الذكر والاسم بشرف المذكور والمسمى، كما أن شرف العلم بشرف المعلوم.
قلنا: قد مر أن ذكر الذات الأحدية باعتبار هويته الغيبية وكذا تسميته بخصوصه والإشارة إليه بعينه والإشعار به غير متصور أصلا، بل أمر مستحيل؛ لأنه من الحيثية المذكورة مجهول مطلق لما سوى ذاته تعالى - والمجهول المطلق من حيث هو مجهول مطلق لا يخبر عنه، ولا يذكر، ولا يشاء إليه بوجه من الوجوه.
وهذا لا القدح في كون هذا الاسم أشرف الأذكار وأعظم الأسماء، فإن المذكور، والمسمى في كل ذكر وإسم من الأذكار والأسماء الحسنى معنى من المعاني العقلية الاعتقادية الصادقة في حقه تعالى، اللائقة بجناب إلهيته وقيوميته وليس شيء منها نفس ذي المقدسة؛ لتعاليه عن أن يحوم حول إدراكه فكر أو قياس، أو ينال ذاته عقل ووهم أو حواس إلا أن ما يدل عليه هذا الاسم باعتبار الاستجماع الذي أشار إليه لم يبعد أن يقال إنه أشرف المذكورات الدالة عليها سائر الأسماء، فلو اتفق لعبد من عباده الوقوف على ذلك الاسم على ما يكون - بأن تجلى له معناه وانكشف له فحواه أوشك أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات.
ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه:
منهم من قال: هو " ذو الجلال والإكرام " متمسكين بقوله (صلى الله عليه وآله):
" ألظوا بياذا الجلال والإكرام ".
ورد: بأن الجلال من الصفات السلبية، والإكرام من الإضافية، ومن البين أن الذات المأخوذة مع الصفات الحقيقية، أو الذات المطلقة المأخوذة بلا قيد أشرف من السلوب والإضافات.
ومنهم من قال: إنه " الحي القيوم " لما مر سابقا من الروايات
" ولقوله (صلى الله عليه وآله) لأبي بن كعب: " ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟ فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فقال: ليهنئك العلم يا أبا المنذر "
وعورض: بأن " الحي " هو الدراك الفعال، وهذا ليس فيه عظمة، ولأنه صفة. وأما " القيوم " فمعناه كونه قائما بنفسه مقوما لغيره، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، والثاني إضافي وسنذكر لك ما يليق بهذا المقام وبيان كون هذين الاسمين من الأسماء العظام.
ومنهم من قال: إن أسماء الله كلها عظيمة لا يبغي أن يتفاوت بينها.
ورد: بما مر من أن اسم الذات أشرف من اسم الصفة.
وفيه: أن الذات البحتة لم يوضع لها اسم.
والأولى أن يقال: إن المفهوم من بعض الأسماء أشرف من بعض بكثير، إلا أن القول بأن الاسم الأعظم غير منحصر في واحد أو اثنين غير بعيد عن الصواب كما سنشير إليه وبه يندفع التدافع بين النصوص الواردة في أعظمية اسم والواردة في أعظمية اسم آخر غيره.
ومنهم من قال: إن الاسم الأعظم " هو الله " وهو قول منصور، لأنك قد علمت أنه علم للذات المستجمعة للصفات الكمالية والإلهية مع التقدس عن جميع النقائص الكونية فهو يجري مجرى العلم للذات الحقيقية الأحدية وينوب منابه فكأنه دال على ذاته المخصوصة الأحدية وهذا المقام غير متحقق لشيء من الأسماء العظام لعدم دلالته على ما دل عليه هذا الاسم إلا على سبيل الالتزام مع بيان وبرهان كما في " الحي القيوم ".
ويؤيده ما روي عن أسماء بنت زيد أنها روت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } وفاتحة سورة آل عمران: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } "
وعن بريدة:
" إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى "
ولا شك أن الاسم " الله " في الآيتين، والحديثين أصل والصفات مترتبة عليه.
والتحقيق: أن شرافة اسم على اسم باعتبار شرافة مدلوله بأحد الدلالات، فمن نظر إلى أن مدلول الاسم " الله " بحسب الدلالة المطابقية هو الذات المستجمعة لجميع الصفات الجمالية والجلالية، ولا يوجد في الأسماء ما له هذه الجامعية في الدلالة الوضعية إلا اسم " الله " حكم بأنه الأعظم، ومن نظر إلى أن " الحي القيوم " يدل مفصلة على ما دل عليه اسم " الله " مجملا من تلك الأوصاف والنعوت الإلهية الوجوبية لكن على بعضها دلالة وضعية، وعلى بعضها دلالة عقلية، والدلالة التفصيلية أرجح في طلب القرب والوصول من الدلالة الإجمالية، حكم بأن هذا أعظم الأسماء، ومن نظر إلى أن كل واحد من الأسماء الحسنى يرشد إلى الآخر ويدل عليه دلالة عقلية عند التأمل الصادق فيه والمواظبة على ذكره حكم بأنه لا رجحان لاسم على اسم بل كل واحد منها إذا نظرت إليه فهو عين جميع الأسماء بحسب المفاد، كقوله تعالى:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسمآء الحسنى
[الإسراء:110].
المسألة الخامسة
في إعرابه ونظمه
هو مرفوع بالابتداء، وخبره إما محذوف وهو " موجود " أو " ثابت " أو " واحد " بقرينة ما بعده، وهو " لا إله إلا هو " مؤكدا له، ويحتمل أن يكون الجملة خبرا بنفسها لا تابعا، ويحتمل أن يكون " الله " خبر مبتدإ محذوف أي: هو الله دون غيره.
ومعناه على الأول: أن الله بنفس ذاته موجود لا يزيد وجوده على هويته، كما في الممكنات التي لها مهيات قابلة للوجود والعدم غير مقتضية لشيء منهما بذواتها فيحتاج إلى ما يرجع أحد الطرفين فيها على الآخر، فتؤدي سلسلة الافتقار إلى موجود لا يزيد على ذاته دفعا للدور والتسلسل، وكذا يقاس كونه واحدا.
وعلى الثاني: أن الموجود الحق بنفس هويته إله للعالم لا بصفة زائدة على ذاته، أي: صنعة الإلهية في الواجب ليست كصنائع ذوي الصناعات الإمكانية التي صانعيتها إنما تتحقق بشيء زائد على ذاتها، كما أن لنا شيئين نتجوهر بأحدهما - وهو النطق - ونكتب بالآخر - وهو صنعة الكتابة - وكذا النار تتجوهر بصورتها المخصوصة وتحرق بحرارتها، وكذا الشمس تتذوت بشيء وتضيء وجه الأرض بشيء، ثم لا يكفي في هذه المبادئ الفاعلية الذات والصفة، بل يحتاج مع ذلك إلى قابل وحركة حتى تظهر منها آثارها، لأن شأنها الإعداد والتحريك لا الجود والإفاضة، وأما الإله المحض والجواد الحق فلا ينقسم بشيئين، بأحدهما تجوهر ذاته وبالآخر إلهيته بل هو بذاته إله وبنفسه خلاق، وإلا لاحتاج في إيجاد صفة إلهيته إلى إلهية أخرى، وهكذا حتى يتسلسل أو يدور وكلاهما، ممتنع فهو الله بذاته، هو الرحمن الرحيم بنفسه لا بصفة زائدة بها تحصل الإلهية.
أما ارتباطه بما سبق فهو أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب المجيد أنه يمزج هذه الأنواع الثلاثة بعضها ببعض - أعني علم التوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص - والمقصود من ذكر القصص إما تقدمة دلائل التوحيد وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف، وهذا الطريق هو الأحسن في الهداية واللائق بالإنسان، فإن الكلام في النوع الواحد كأنه مما يوجب له الملال، فأما إذا وقع الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع فكأنه ينشرح به الصدر، ويفرح به القلب، وينشط به الذهن، وينتعش الطبع، فيصير به الكلام أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه، وإذ قد تقدم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد.
المسألة السادسة
في تحرير القول بأن هذا الاسم عين ذاته تعالى أو غيرها
إعلم أنه قد اختلفت كلمة أهل الكلام في أن الاسم مطلقا هل هو عين المسمى أو غيره؟ فالأول: منسوب إلى الأشاعرة، والثاني: إلا المعتزلة.
والمتأخرون - عن آخرهم حتى النحارير - تحيروا في تحرير محل النزاع. ومورد الخلاف بحيث يصير قابلا للمتقابلين قبل قيام الدليل، غير قطعي الاستحالة (الدلالة- ن) في أحد الجانبين، وجزم بعضهم أن البحث فيه لفظي أو عبث، وهو كذلك بحسب الظاهر على ما هو مصطلح أهل الكلام.
وأما على ما هو عرف العرفاء في الأسماء فالخطب فيه عظيم والبحث فيه مهم كما سيلوح لك منه شيء، كيف ولا يشك عاقل في أن لفظ " الأسد " ليس حيوانا مفترسا، ولا لفظ " الأسود " قابضا للبصر، ولا لفظ " النار " محرقا، ولا التلفظ بالعسل والسكر يوجب الحلاوة.
وربما استدل بعضهم على هذا الأمر الفطري بأن الاسم حاصل من أصوات غير قارة، ومختلف باختلاف الأمم، ومتعدد تارة كالمترادفة، ومتحد أخرى كالمشترك، والمسمى بخلافه في الأولين وبعكسه في الأخيرين، وبأنهما متضايفان والمضافان متغايران - وفيه تأمل - وبأن اللفظ عرض ممكن والمسمى قد يكون جوهرا بل واجبا.
واستدلت المعتزلة بقوله تعالى:
تبارك اسم ربك
[الرحمن:78] وبوقوع النكاح والطلاق شرعا بالحمل على الأسماء.
وأجيب عن الأول: بأنه كما يجب علينا تنزيه ذاته تعالى عن النقائص يجب تنزيه اسمه عن الرفث وسوء الأدب، وبأنه قد يراد لفظ " الاسم " مجازا كما في قول لبيد: " إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ".
وعن الثاني: بأن المراد الذات التي يعبر بهذا اللفظ.
هذا ما قيل في هذا المقام.
وأقول: الاسم في عرف المحققين من أكابر العرفاء المعتبرين عبارة عن الذات المأخوذة مع بعض الشؤون والاعتبارات والحيثيات، فإن للحق سبحانه بحسب
كل يوم هو في شأن
[الرحمن:29]. شؤونا ذاتية ومراتب غيبية يحصل له بحسب كل منها اسم أو صفة حقيقية، أو إضافية، أو سلبية، ولكل منها نوع من الوجود حتى السلوب فإنها مما يعرضها الوجود من وجه كما إذا تمثلت في ذهن من الأذهان، أو يكون له مصداق ينتزع منه إذا قيس إلى الأمر المسلوب.
والفرق بين الاسم والصفة في اعتبار العقل كالفرق بين المركب والبسيط إذ الذات معتبرة في مفهوم الاسم دون مفهوم الصفة، لأنها مجرد العارض، فالاسم - الله - عبارة عن مرتبة الألوهية الجامعية لجميع الشؤون والاعتبارات للذات المندرجة فيها جميع الأسماء والصفات التي ليست إلا تجليات ذاته، وهي أول كثرة وقعت في الوجود وبرزخ بين الحضرة الأحدية الذاتية الغيبية وبين المظاهر الخلقية، وهو بعينه جامع بين كل صفتين متقابلتين واسمين متقابلين لما علمت أن للذات مع كل صفة معينة واعتبار تجل خاص من تجلياته اسما، وهذه الأسماء الملفوظة هي " أسماء الأسماء ". ومن هاهنا تحقق وانكشف أن المراد بأن الاسم عين المسمى ما هو.
وقد يقال الاسم للصفة، إذ الذات مشتركة بين الأسماء كلها والتكثر فيها بسبب تكثر الصفات، وذلك التكثر إنما يكون باعتبار مراتبه الغيبية التي هي مفاتيح الغيب، وهي معان معقولة في عين الوجود الحق، بمعنى أن الذات الإلهية بحيث لو وجدت في العقل أو أمكن أن يلحظها الذهن لكان ينتزع منها هذه المعاني ويصفها بها، فهو في نفس الأمر مصداق لهذه المعاني من دون حاجة إلى تحقق صفة في ذاته.
وهذا مراد المحققين من الحكماء وغيرهم أن صفاته غير ذاته، ومعنى كلام أمير المؤمنين وإمام الموحدين (عليه السلام): " كمال التوحيد نفي الصفات " لأن المدعي أن مجرد وجود الذات هو بعينه وجود الصفات بالعرض لا أن لصفاته تعالى وجودا في أنفسها، ولذاته وجودا آخر في نفسه - كما في صفات الممكنات - ليلزم فيه تعالى جهتا قبول وفعل ولا أيضا شيء من الذات بأزاء صفة وشيء منها بأزاء صفة أخرى ليلزم التركيب في ذاته تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فصفاته الحقيقة، على كثرتها - موجودة بوجود واحد بسيط أحدي هو وجود الذات، وهو بعينه مصداق تلك الصفات كلها وليس المدعى أن ليست الصفات مفهومات متغايرة في الذهن وإلا لكانت مترادفة الألفاظ - وهو ظاهر الفساد - فهي في أنفسها كسائر المفهومات الكلية ليست من حيث هي هي موجودة ولا معدومة ولا عامة ولا خاصة، ولا كلية ولا جزئية بالذات بل بالتبعية، فتصير كلية في الذهن جزئية في الخارج، موجودة في العقل معدومة في العين ولها الحكم والأثر فيما له الوجود العيني، بل ينسحب عليها أحكام الوجود بالعرض وهي تتنور بنوره وتتصبغ بصبغة من الوجوب والوحدة والأزلية، كما يجري عليها أحكام الإمكان عند ظهورها في الأعيان الثابتة التي هي ناشئة منها باعتبار تعينها في علم الحق.
وتحقيق هذا المرام يطلب من كتب العرفاء الكرام.
قال الشيخ محيي الدين بن عربي في الفص اليوسفي من كتابه: " الوجود الحق هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه لا من حيث أسماؤه، لأن أسماءه لها مدلولان: أحدهما: عينه وهو عين المسمى والمدلول الآخر: ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به عن الاسم الآخر ويتميز في العقل، فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر، وبما هو غيره، فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ولا ثبت كونه إلا بعينه " انتهى كلامه.
أقول: مراده من " الحق المتخيل " ما لوحنا إليه من أن كلا من مفهومات الأسماء الإلهية وإن كانت بحسب نفس معناها عارية عن صفة الوجود الحقيقي - من الوجوب، والقدم، والحقية، والأزلية - إلا أنها مما عليها تلك الأحكام وتنصبغ بها بالعرض، وتقبلها بتبعية العين، وهذا النحو من الاتحاد والعينية بالعرض فيما بين ذاته تعالى والأسماء الذي ذهب إليه محققوا العرفاء ضرب من الاتحاد بالعرض غير ما ألفه الجمهور وشاع في الكتب العقلية، إذ ليس هذا الاتحاد كاتحاد العرضيات والمشتقات مع ذات الموضوع لها كاتحاد الأبيض والأعمى مع زيد مثلا، بمعنى أن الوجود المنسوب أولا وبالذات إلى " زيد " هو بعينه منسوب إلى العرضي المشتق ثانيا وبالعرض - أي على سبيل المجاز - مع جواز أن يكون لهذه العرضيات نحو آخر من الوجود يناسبها في ذاتها مع قطع النظر عن عروضها للموضوع، فإن لمفهوم الأبيض نحوا من الوجود في نفسه الذي يتحقق بعين وجوده الرابطي وهو جود العرض فإن وجود العرض هو بعينه وجوده لمحله، وهذا غير الوجود بالعرض، فإن هذا عندهم مجازي دون ذاك، وقد تبين الفرق بينهما في علم الميزان.
فالحاصل: أن اتحاد العرضيات بالموضوع اتحاد بالعرض، وموجوديتها به موجودية مجازية لصدقها عليه بحسب مرتبة من الواقع بعد مرتبة وجود الموضوع، وأما اتحادها بالأعراض التي هي مبادئ اشتقاقها فهو اتحاد بالذات ووجودها كوجود تلك الأعراض وجود حقيقي لاتحاد العرض والعرضي بالذات كما هو التحقيق عند المحققين.
وأما عينيه صفاته المقدسة وأسمائه الحسنى مع الذات الأحدية فليست من هذا القبيل من المعية التي هي بين العرضي والذاتي في الطبائع الإمكانية إذ ليست لصفاته نحو من الوجود غير ذاته تعالى ولا كمعية الذاتيات مع الذات لأن الحق تعالى ليس ذا مهية كلية أصلا - فضلا عن أن يكون مركبا من مقومات متحدة في الوجود - بل حقيقته ليس إلا وجودا مقدسا بسيطا صرفا لا اسم له ولا رسم ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان، ولا حد له ولا برهان عليه وهو البرهان على كل شيء والشاهد على كل وجود.
فمعنى كون صفاته عين ذاته حسبما أشرنا إليه أن الذات الأحدية بحسب مرتبة هويته الغيبية وإنيته العينية - مع قطع النظر عن انضمام أمر أو اعتبار حيثية غير ذاته بوجه من الوجوه - بحيث يصدق في حقه هذه الأوصاف الكمالية والنعوت الجمالية ويعرف منه هذه الأحكام ويستفاد منه هذه المعاني ويظهر من نور ذاته هذه المحامد القدسية، ويتراءى في شمس وجهه هذه الشمائل العلية وهي في حدود أنفسها مع قطع النظر عن نور وجهه لا شيئية لها ولا ثبوت أصلا، فهي بمنزلة ظلال وعكوس لها تمثل في الأوهام والحواس.
وكذا الحكم في الأعيان الثابتة وسائر المعقولات والأعيان المعلومة، ما هي إلا نقوش وعلامات دالة على أنحاء الوجودات الإمكانية التي هي رشحات جود الحق، وأشعة نور الوجود المطلق، ومظاهر أسمائه وصفاته، ومجالي جماله وجلاله، وأما نفس تلك الأعيان والمهيات مع قطع النظر عن الوجودات فلا وجود لها بالذات لا عينا ولا عقلا كقوله تعالى:
إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان
[النجم:23].
ولعل الكلام انجر إلى ما لا يطيق تقريره أسماع الأنام بل يضيق عن فهمه نطاق أكثر الأفهام، وتضعف عن سلوكه الأقدام.
المسألة السابعة
في أنه هل لمعنى هذا الإسم حد أم لا؟
الحد عند الحكماء قول دال على تصور أجزاء الشيء ومقوماته فما لا جزء له لا حد له، وما لا حد له لا برهان عليه، لأنهما متشاركان في الحدود كما بين في الميزان، وإذا تقرر هذا فلا شبهة في أن ذات الباري تعالى لتقدسه عن شوب التركيب - سواء كان من الأجزاء الوجودية، أو المقدارية، أو الذهنية، أو التحليلية على ما اقتضاه برهان التوحيد - لا حد له ولا برهان عليه.
وأما أن مفهوم لفظ " الله " هل له حد أم لا؟ فالحق هو الأول، لأن معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكمالية، فكل منها عند التفصيل جزء من مفهومه، والفرق بين الحد والمحدود ليس إلا بالإجمال والتفصيل في نحوي الإدراك، فإن الألفاظ المذكورة في الحد تدل على ما دل عليه لفظة المحدود بعينه بدلالة تفصيلية، وليس من شرط الحد أن يكون تأليفه من جنس وفصل، بل من أجزاء الشيء، سواء كانت بعضها أعم من بعض مطلقا أو متساوية، أو متباينة، أو لها أعمية من وجه، إلا أن المشهور بين الجمهور أن الحد لا يكون إلا من جنس وفصل؛ لما رأوا أن الحقائق المتأصلة التي لها طبيعة نوعية لا تكون إلا كذلك.
وبالجملة: كل لفظ وضع لمعنى إجمالي قابل للتحليل إلى معان متعددة يدل عليها بألفاظ متعددة يكون الأول محدودا والثاني حدا وهكذا اسم " الله " بالقياس إلى جميع الأسماء الحسنى، فإن نسبة المجموع إليه بحسب المعنى نسبة الحد إلى المحدود، وهذا لا يضر بساطة الذات المقدسة وأحدية الوجود القيومي تعالى عن التصور والتمثيل والتخيل والتعقل لغيره، فإن كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية والاصطلاحية فهي خارجة عن ساحة العز والكبرياء، إنما يجد الذهن سبيلا إليها من ملاحظة مظاهرها ومجاليها ومشاهدة مربوباتها ومحاكيها.
قال ابن عربي في الفص النوحي: " إن للحق في كل خلق ظهورا خاصا فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته، وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة فيؤخذ في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره، وكذلك كل محدود، فالحق محدود بكل حد، وصور العالم لا تنضبط ولا يحال بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته فلذلك يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة. وهذا محال حصوله، فحد الحق محال.
ثم قال: " فحد الألوهية له بالحقيقية لا بالمجاز " انتهت ألفاظه.
ويتلخص من كلامه أن مسمى لفظ " الله " هو المنعوت بجميع الأوصاف والنعوت الإلهية، ثم لما تقرر عندهم أنه ما من نعت إلا وله ظل ومظهر في العالم وثبت أيضا أن الاشتراك بين كل اسم ومظهر ليس بمجرج اللفظ فقط حتى يكون ألفاظ " العلم " و " القدرة " وغيرها موضوعة في الخالق بمعنى وفي المخلوق بمعنى آخر وإلا لم تكن هذه المعاني فينا دلائل على تحققها في الباري على وجه أعلى وأشرف - والمتحقق خلافه - فبطل كون الاشتراك فيها بمجرد اللفظ، نعم هذه المعاني في المخلوق في غاية الضعف والقصور وفي الحق تعالى في غاية العظمة والجلالة.
فتكون الأسماء الحسنى مع مظاهرها ومجاليها التي هي المهيات المسماة بالأعيان مشتركة في أصل المعنى سواء كانت المظاهر من الصور المنوعة الجسمانية المدركة بالحواس الظاهرة التي هي من عالم الشهادة وعالم الخلق ومظهر الاسم " الظاهر " المشتمل على الأسماء الكثيرة التي تحت حيطته ولها مظاهر مختلفة من هذا العالم الظاهر، أو كانت من الصور العقلية المجردة الذوات المدركة بالمدارك الباطنة العقلية والروحية التي هي من عالم الغيب ومظهر الاسم " الباطن " المشتمل على أسماء كثرة على اختلافها تحت حيطة ذلك الاسم، كما أن مظاهرها المختلفة الأنواع مندرجة تحت عالم الأمر.
وحد الشيء كما عرفت عبارة عن صورة عقلية تفصيلية يدل عليها بألفاظ متعددة دالة على ما يدل عليه لفظ واحد هو معنى إجمالي لذلك الشيء بل معناها عين معناه، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان صورتان إداركيتان، إحداهما: موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى: موجودة بوجودات متعددة تفصيلية فيقال للمفصلة " إنها حد " وللمجملة " إنها محدودة " فعلى هذا يلزم أن يكون مفهومات جميع الأسماء ومظاهرها التي هي أجزاء العالم ظاهرا وباطنا على كثرتها حدا حقيقيا لمفهوم اسم " الله ".
والمراد من لفظة " الحق " في قوله: " فالحق محدود بكل حد " هو مفاد لفظ " الله " باعتبار معناه العقلي ومفهومه الكلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحدية وغيب الغيوب، إذ لا نعت له، ولا حد، ولا اسم، ولا رسم، ولا سبيل إليه للإدراك والتعقل، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلا بعد فناء هويتهم واندكاك جبل وجودهم.
ويؤيد ذلك ما قال في الفص الإسماعيلي: " إعلم أن مسمى " الله " أحدي بالذات، كل بالأسماء، وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة يستحيل أن يكون له الكل، وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم لأنه ينال الواحد منها شيئا والآخر منها شيئا لأنها لا تقبل التبعيض فأحديته مجموع كله بالقوة " انتهى.
المسألة الثامنة
في تحقيق أن مسمى " الله " معبود للكمل من العرفاء دون غيرهم بحسب الحقيقة
إعلم أن أكثر الناس لا يعبدون الله من حيث هو الله، وإنما يعبدون معتقداتهم في ما يتصورونه معبودا لهم فإلههم في الحقيقة أصنام ينحتونها ويتصورونها بقوة اعتقاداتهم العقلية والوهمية، وهذا هو الذي أشار إليه عالم من أهل بيت النبوة والولاية سلام الله عليهم أجمعين: " كل ما ميزتموه بأوهامكم وعقولكم في أدق معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم " - إلى آخر الحديث - أي: فلا يعتقد معتقد من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صورة معتقدهم فقط إلها إلا بما جعل في نفسه وتصوره بوهمه، فإلهه مجعول لنفسه، منحوت بيد قوته المتصرفة، فلا فرق بين الأصنام التي اتخذت آلهة وبينه في أنها مصنوعة لنفوسهم سواء كانت في خارجها أو في داخلها، بل الأصنام الخارجية أيضا إنما عبدت من جهة اعتقاد الألوهية من عابدها في حقها، فالصورة الذهنية معبودة حينئذ بالذات، والصورة الخارجية معبودة بالعرض.
فمعبود عبدة الأصنام كلها ليست إلا صور معتقداتهم وأهواء أنفسهم كما أشير إليه بقوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23] فكما أن أصحاب الأصنام الجسمية يعبدون ما عملوها بأيدهم، فكذلك أصحاب الاعتقادات الجزئية في حق الحق يعبدون ما كسبته أيدي عقولهم
أف لكم ولما تعبدون من دون الله
[الأنبياء:67].
وأما الكمل من العرفاء فهم الذين يعبدون الحق المطلق المسمى باسم " الله " من غير تقييد باسم خاص وصفة مخصوصة، فيتجلى لهم الحق تعالى المنعوت بجيمع الأسماء، وهم لا ينكرونه في جميع التجليات الأسمائية والأفعالية الآثارية بخلاف المحجوب المقيد الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، وذلك لغلبة أحكام بعض المواطن عليه واحتجاب بعض المجالي عن بعض في حقه.
ومن هذا الاحتجاب منشأ الاختلاف بين الناس فيكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، وكل أحد يثبت للحق تعالى غاية ما يراه ويعتقده لائقا بالربوبية من العظمة والجلالة وينكر غيرها وقد أخطأ وأساء الأدب معه تعالى وهو عند نفسه أنه قد بلغ الغاية في المعرفة والتأدب.
وكذلك حال كثير من الملكوتيين والملائكة إلا الإنسان الكامل الذي علمه ربه علم جميع الأسماء ومظاهرها، كما قال تعالى:
وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة:31 -32] الآية.
فإذا تجلى الحق سبحانه بالصفات السلبية التنزيهية للعقول المسبحة المنزهة تقبله تلك العقول ويمجدونه ويسبحونه وينكره كل من لا يكون مجردا بل يكون كالوهم والخيال والنفوس المنطبعة، إذ ليس من شأنهم إدراك الحق إلا في مقام التشبيه كأكثر الناس.
وإذا تجلى بالصفات الثبوتية فتقبله القلوب والنفوس الناطقة، لأنها مشبهة من حيث تعلقها بالأجسام ومنزهة من حيث تجرد جوهرها، وينركه المحجوبون بالتجرد المحض كأكثر الفلاسفة، فيقبل كل نشأة من النشآت العقلية والنفسية والخيالية من التجليات الإلهية ما يناسبها ويليق بحالها، وأما الإنسان الكامل والعارف الفاضل فهو الذي يقبل الحق ويهتدي بنوره في جميع تجلياته ويعبده بجميع أسمائه وصفاته، فهو عبد الله في الحقيقة.
ولهذا سمي بهذا الاسم أكمل نوع الإنسان (صلى الله عليه وآله)، فإن الاسم الإلهي كما هو جامع لجميع الأسماء وهي تتحد بأحديته كذلك طريقة جامع طرق الأسماء كلها، وإن كان كل واحد من تلك الطرق مختصا باسم يرب مظهره ويعبده ذلك المظهر من ذلك الوجه ويسلك سبيله المستقيم الخاص بذلك المظهر، وليس الجامع لها إلا ما سلكه المظهر الجامع النبوي الختمي المحمدي صلوات الله عليه وآله وخواص أمته الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء، وهو الغرض من بعثة الأنبياء ونصب الأولياء، وبه تحصل النجاة من عذاب نار القطيعة وجهنم البعد، والاحتجاب عن رب الأرباب، مع أن كل أحد يرجع إلى ربه بوجه، كما قال:
كل إلينا راجعون
[الأنبياء :93]. إلا أن أكثرهم ناكسة رؤوسهم، محجوبة عقولهم، مقيدة أبدانهم بالسلاسل والأغلال، وجميع الطرق تتشعب وتتفرع من طريق التوحيد.
ويؤيد ذلك ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما أراد أن يبين ذلك للناس خط خطا مستقيما، ثم خط من جانبيها خطوطا خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع، والخطوط الخارجة منها جعل سبل الشيطان كما قال الله تعالى:
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام:153]. يعني السبيل التي لكم فيها السعادة والنجاة، وإلا فالسبل كلها إليه، لأن الله منتهى كل سبيل فإليه يرجع الأمر كله، ولكن ما كل من رجع إليه وآب سعد ونجى عن التفرقة والعذاب، فسبيل السعادة واحد:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108]. وأما جميع السبل فغايتها كلها إلى الله أولا ثم يتولاه الرحمن آخرا، ويبقى حكم الرحمن فيها إلى الأبد الذي لا نهاية لبقائه.
وهذه مسألة عجيبة قل من استقام عقله عند سماعها، ودرك معناها، ووصل فهمه إلى نيل فحواها، لكن المقصود من بيان هذه ونظائرها ليس كل من له صلاحية المخاطبة العرفية دون المكاشفة الذوقية، بل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإن كان نوع من الانتفاع عام لغيره، أو لا ترى أن الخطاب في الكلام المجيد شامل لكل أحد والفهم يختص بمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه؟ لقوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران:7] - في قراءة الوصل - والدليل عليه قوله تعالى:
بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم
[العنكبوت:49]. وقوله:
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب
[ق:37]. وقوله:
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء
[النمل:80]
وكما أن الأذواق مختلفة في الانتفاع والالتذاذ بالأرزاق الصورية والأغذية الجمسانية بحسب سلامة القوة الذوقية ومراتب البعد من الأمراض والمحذرات المزاجية، كذلك الفهوم والمدارك مختلفة في الانتفاع والاستمداد بالأرزاق المعنوية والأغذية الروحانية بحسب سلامة الفطرة عن الأمراض الباطنية ومراتب خلوص القلب عن الوساوس الوهمية والتعلقات النفسانية. لقوله تعالى في حق الكل:
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق
[النحل:71] وقوله في حق الأنبياء:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة:253] وقوله:
ورفع بعضهم درجات
[البقرة:253] وقوله في حق الملائكة:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات:164].
فظهر أن مشارب الناس وحظوظهم مختلفة، وأذواقهم متفاوتة في باب الأخذ عن مشارع العلم ومنابع الحكمة
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269]
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
المقالة الثانية
فيما يتعلق بقوله سبحانه: { لا إله إلا هو }
وفيه مشارع:
المشرع الأول
في نظمه بما سبق وما لحق
إعلم أن الغاية القصوى في القرآن عاما وفي هذه الآية خاصة توحيده تعالى ذاتا، وصافتا، وأفعالا، إذ به يرتقي الإنسان من أسفل سافلين إلى أعلى عليين.
وبحسب مراتب التوحيد له تعالى يكون تفاوت درجات الموحدين قربا وبعدا وكمالا ونقصا، وفضيلة ورذيلة، وشرافة وخسة، قرب موحد فاز بتوحيد الذات الواجبية بوجه ولم يفز بتوحيد الصفات والأفعال كأكثر المتكلمين وهم أصحاب أبي الحسن الأشعري، ورب فائز بتوحيد الذات والصفات دون الأفعال كجمهور الفلاسفة القائلين بعينية الصفات للذات، المثبتين للوسائط الجاعلات، والعلل المؤثرات الموجبات، وهو نوع من الشرك إلا أن محققيهم مطبقون على أن الفاعل الحقيقي هو الحق تعالى والوجود معلول له على الإطلاق، والوسائط معدات وميهئات، وسوابق ومقدمات، قدمها الباري بمقتضى نظمه البديع، وحكمته الأنيقة، لا أن لها دخلا في التأثير والإيجاد بل في التهييء والإعداد.
إذا تقرر هذا فنقول: قوله " الله " إشارة إلى توحيد الذات، وقوله { لا إله إلا هو } إشارة إلى توحيد الصفات، وقوله " الحي القيوم " إشارة إلى توحيد الأفعال.
أما بيان الأول: فلأن معنى اسم " الله " كما علمت هو الذات المستجمعة للصفات الكمالية الذاتية الوجوبية، ولا شبهة في أن التركيب من الأجزاء ينافي الوجوب الذاتي لكونه مستلزما لافتقار المركب إلى كل واحد من الأجزاء، والافتقار ناشئ عن النقصان والإمكان الذاتيين، وهما منافيان للكمال والوجوب الذاتيين، فمعنى الإلهية المستلزمة لكون الشيء مبدأ سلسلة الوجود والإيجاد ينافي التركيب المستلزم للحاجة.
وأما بيان الثاني: فلأن التعدد في الصفات الكمالية الإلهية يسلتزم التعدد في وجود الذات لافتقار كل صفة إلى موصوف، ولكون كل صفة لشيء فرع وجود ذلك الشيء فيلزم من تعددها تعدده - ولو بحسب العقل - فلو تعددت الصفات الخاصة بالواجب تعالى - كالإلهية للعالم، والقادرية على ما يشاء، والعالمية بجميع الأشياء - يلزم تركب كل من الذات والصفة، والتركيب ينافي الإلهية - تنافي الإمكان للوجوب -.
لا يقال: التركيب والتعدد في مجموع الذات والصفة لا ينافي بساطة الذات، والواجب الوجود هو الذات فقط دون المجموع من الذات والصفة.
لأنا نقول: الكلام في الصفات الكمالية، فإذا لوحظ وجود الذات بحسب نفسه وقطع النظر عن ما يزيد عليه " أهو موصوف بالصفة الإلهية الكمالية أم لا؟ " لا سبيل إلى الثاني وإلا لزم افتقاره إلى الغير في كمال ذاته، ولم يكن أيضا مبدأ لسلسلة الممكنات كلها سواء كانت صفاتا أو أفعالا والبرهان قد دل على وجود أمر بسيط تفتقر إليه الأشياء - هذا خلف - فهو بنفس ذاته المقدسة إله ومبدأ للكل، فمقوم ذاته هو بعينه مقوم إلهيته وكذلك سائر الصفات التي تستوجبها الإلهية وتسحقها الواجبية - من الوجود والعلم والقدرة والإرادة - فيجب أن يكون مصداق حملها جميعا على ذاته نفس هويته البسيطة من غير تركب وتعدد، لا باعتبار مغايرة الصفات، ولا باعتبار المغايرة بينها وبين الذات.
وبالجملة تأكد الوحدة في الذات الواجبية يستلزم استحالة التعدد في الصفات الإلهية مطلقا، سواء كان مع تعدد الموصوف عينا كفرض إلهين منفصلين، أو عقلا فقط كفرض صفات واجبة متعددة لموصوف واحد كما ذهب إليه الصفاتيون تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
واعلم أن الفساد والاستحالة في هذا الشق أشنع وأفحش والظلم فيه أشد عندي إذ يلزم فيه فوق ما يلزم في الأول - من التركيب اللازم للتعدد المنافي للوجوب - شيء آخر، وهو خلو الواجب في حد نفسه عن الواجبية والصفات الكمالية بحسب أول الوضع، وهي مفسدة مختصة بهذا الشق دون الشق الأول إذ لأحد أن يفرض واجبين يكون صفات كل منهما عين ذاته إلى أن يقوم البرهان على استحالته، والبرهان وإن جميع بينهما في هذه الاستحالة أيضا لكن بحسب التأدية والاستجرار، لا بمقضى الوضع صريحا من أول الأمر.
وكما أن فوق كل ذي علم عليم إلى أعلم العلماء وهو صاحب القوة القدسية فكذلك تحت كل ذي جهل جهيل إلى أجهل الجهال وهو الجاهل بلزوم أحد النقيضين للآخر إذ لزم من أول الوضع، وإن كانت جميع الجهالات مشتركة في التأدية إلى الجهل بوضع شيء بعينه مع نقيضه، ومتفاوتة مراتبها بحسب مراتب سرعة التأدية وبطئها، وطول مسافة المقدمات وقصرها إلى النتيجة، فالرسوخ في الجهل يتحقق إما بعدم التفطن بفساد الشيء البين الفساد مع الإصرار به - وهذا هو الغاية - أو بعدم العلم باندارج الأكبر للأصغر مع قلة الحدود والوسائط بينهما مع اعتقاد نقيض النتيجة، وفي مقابله الرسوخ في العلم وهو سرعة التفطن بالنتيجة مع كثرة الحدود والمبادئ الذي يقال له: " الحدس الشديد " وغاية القوة القدسية التي للأنبياء والأولياء.
وعدم الرسوخ في كل منهما يعرف بمعرفة الرسوخ فيه إذ مراتب كل منهما، لكونهما وجودين متقابلين مختلفة شدة وضعفا ورسوخا وفتورا.
وأما بيان الثالث: فلأن " القيوم " لكونه صيغة مبالغة يدل على كمال الاستقلال في التقويم والإيجاد شدة وعدة، فلو كان في الوجود فاعل آخر - سواء كان تاما في الفاعلية أو ناقصا مباينا أو مشاركا للأول - يلزم خلاف المفروض وهو كونه تعالى ضعيفا في الفاعلية قاصرا فيها.
أما على تقدير كون الثاني تاما في الفاعلية والإيجاد، فلأنه يلزم أن يكون بعض الممكنات خارجا عن صنعه وإيجاده، فلم تكن قدرته شاملة له لامتناع توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد معين، فيكون عدد مقدوراته ناقصا يمكن الزيادة عليه، فلم تكن قيوميته في الغاية بحسب العدد.
وأما على تقدير كون الثاني مشاركا له في الفاعلية - سواء كان جزءا أو معينا أو معدا، أو آلة، أو سببا غائيا، أو مصلحة، أو انتظارا لفرصة، أو غير ذلك - لم يكن بحسب ذاته قويا (قيوما - ن) على ما تقوى عليه ذاته مع الشريك.
فقيوميته تدل على أن لا فاعل غيره، كما أن ذاته تدل على أن لا واجب سواه لقوله:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران:18].
فهذه العلوم الثلاثة التوحيدية - أعني توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال - أعلى طبقات العلوم، وأعلى هذه وأشرفها هو علم الذات، ثم علم الصفات، ثم علم الأفعال، ولهذا وقع بهذا الترتيب في قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وكذا وقعت الدلالة على هذه العلوم الثلاثة في قوله سبحانه:
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
[البقرة:163] بهذا المنهج، فإن قوله " إلهكم إله واحد " توحيد للذات، وقوله " لا إله إلا هو " توحيد الصفات على ما قررناه وقوله " الرحمن الرحيم " أي رحمن الدنيا ورحيم الآخرة توحيد الأفعال.
هذا طريق التدرج في مسلك الإلهية.
وأما طريق التدرج في مسلك العبودية فبعكس هذا الترتيب، وهو الترقي من الأفعال إلى الصفات، ومن الصفات إلى الذات، فكما أن طريق الإلهية يقتضي التدرج النزولي إلى أدنى المراتب
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
[ق:16] " أنا عند المنكسرة قلوبهم، أنا عند المندرسة قبورهم " " لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط إلى الله " وذلك لأن كمال النورية والظهور يوجب كمال القرب والدنو، ألا ترى أنه إذا كان في سطح واحد سواد وبياض ترى البياض لوضوحه أقرب، والسواد لخفائه أبعد، ففي طريق العبودية يقع التدرج الصعودي إلى أعلى المراتب، وهو مقام العندية " لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ".
فوقع بيان هذه المراتب في كلام الله تعالى على سنة الإلهية كما علمت وفي كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) على سنة العبودية، حيث قال:
" أعوذ بعفوك من عقابك "
فهذه ملاحظة توحيد الأفعال ثم قال:
" وأعوذ برضاك من سخطك "
هذا بملاحظة توحيد الصفات، ثم قال:
" وأعوذ بك منك "
هذا بملاحظة توحيد الذات فلم يزل إلى القرب يترقى من طبقة إلى طبقة ومن مرتبة إلى مرتبة في الشرف والقرب حتى انتهى إلى النهاية ، ثم عند النهاية اعترف بالعجز والقصور، لأن الذات الأحدية ليس لأحد فيها قدم، فقال: " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
فهذا أدق العلوم وأشرفها، ومثله في الشرف والغموض علم الآخرة وعلم المعاد وهو متصل بعلم المعرفة.
هذه العلوم الأربعة قد أودعنا في بعض كتبنا ورسائلنا شيئا من مجامعها وأوساطها دون القدر الذي رزقنا منه مع قصر العمر، وطول الشواغل، وقلة الأعوان والرفقاء، وكثرة الأضداد والمعاندين، ولم يشبع الكلام حسب ما جعله الله قسطي لأنه مما تكل عنه أكثر الأفهام ويستضر به الضعفاء وهم أكثر المترسمين بالعلم وإني ما رأيت في مدة عمري هذا وقد بلغ سنه إلى نيف وأربعين من عند خير من علم الآخرة على وجه يطابق القرآن والحديث، وعمل بمقتضى الكشف الصحيح بل قل من العلماء من أحكم ظواهر العلوم الحقيقية ومبادئها فضلا عن أواخرها وأقاصيها، حتى ارتاضت نفسه، واستقامت على سواء السبيل، فلم يبق له طلب وشوق إلا إلى الحق، وحرام في العلم الأول الواجبي والقضاء السابق الإلهي أن يرزق شيء من هذه العلوم الأربعة خصوصا معرفة الذات وعلم الآخرة، إلا مع رفض الدنيا، وطلب الخمول، وترك الشهرة مع فطنة وقادة، وقريحة منقادة، وذكاء بليغ، وفطرة صافية، وحدس شديد.
المشرع الثاني
في قراءة التهليل
إعلم أن " لا إله إلا هو " بالمد، وكذلك جميع التهليل. روى الهاشمي عن ابن كثير المد الطويل مع أنه من جملة القراء الذين يقصرون المدات المنفصلة وهي التي تحصل حيثما يكون حرف المد في كلمة وسببه وهو " الهمزة " في كلمة أخرى، وذلك لورود الأثر في باب المد لهذه الكلمة، وهو ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" من قال لا إله إلا الله ومدها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ".
ومن العجب أن بعض المتشفعين (المتقشفين - ن) المعلنين بالذكر في المجالس استدلوا بمثل هذا الحديث على فضيلة الجهر ورفع الصوت في الذكر، والصياح في الدعاء والنداء وهو ظن فاسد ووهم كاسد، وقد ورد في القرآن ما ينادي بخلافه كقوله تعالى:
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول
[الأعراف:205] ومثل ما ورد في الحديث عن النبي
" خير الذكر الخفي، وخير العبادة أخفاها، وخير المجالس أوسعها "
الحديث.
قال بعض أصحاب القلوب: يا رافع الصوت بالدعاء، ويا جهوري الصياح في النداء أمن الضرب تتألم أو مع أكفائك تتكلم؟ أقسام جهل قسمك؟ أم رزاق نسي اسمك؟ سبحان اله عما يصفون وتعالت ذاته عما يشركون، أنام من خلق الأنام؟ أتظنون أن لا تأكلوا أرزاقكم دون أن ترفعوا أصواتكم انتهى.
ثم لا شبهة في أن لسان الحال أفصح، ورواح الرحمة أبسط وأفسح، وفائدة الذكر والتهليل هو القرب من الحق الجليل، وهو إنما يحصل بمكالمة الباطن بلسان الحال دون مقارعة الأسماع بآلة الاصطكاك بالمقال، وكلما كانت العبادة اسر وأخفى فهي أبعد عن شائبة الرعونة والرياء، ولهذا المعنى اختار المخلصون من أهل الله والسالكون سبيل العبودية الخلوة عن الخلق للذكر والمناجاة، وآثروا العزلة عن الناس حذرا عن الوسواس، واستوحشوا من رؤيتهم خوفا عن مزاحمة الأغيار، بل لا يحتملون الهمس من الخفيف في أوقات انزعاجهم إلى الحق، كيلا يشوش حالهم ولا يتكدر عيشهم ومنالهم.
هذا حال المريدين السالكين قبل الوصول، وأما عند تحققهم بالوجود البقائي بعد تمام حركاتهم ذاهبين إلى ربهم أولا ثم ذاهبين فيه أخيرا فلا يتفاوت عندهم الخلوة والجلوة، والإسرار والإظهار، بل ربما كان لهم ولغيرهم في الجهر والإعلان مصلحة دينية وحكمة شرعية ترجع إلى نفس الإنسان بشخصه أو إلى إصلاح مدينة فاضلة كما في الجمعة والجماعات والأعياد والجيوش، وحيث ما ورد في الشرع الأقدس من استحسان رفع الصوت والإعلان كما في الأذان وفي مواضع من الصلوات المكتوبة وغيرها.
ويناسب ذلك ما روي عن أهل الشرائع القديمة أنهم ندبوا في شريعتهم إلى رفع الأصوات بالأذكار في معابدهم، وكذا ما قاله بعض قدماء الحكماء: ارتفاع الأصوات في بيوت العبادات بحسن النيات وصفاء الطويات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات والكواكب السائرات.
وما قال بعض أرباب القلوب في بعض مخاطباته للنفس: " أذكري أيتها المدينة الفاضلة ربك بأصواتك المتجامعة والصياح، والتفخيم، والتعظيم، ما أبهاك يا مدينة تحيي بذكر الله أسواقها ومشارعها وسككها وبيوتها وسطوحها عند بلوغ رأس النيرات إلى مراسم التسبيح، وكبري تكبيرا جهريا تهزم به جنود الشيطان، وتقهر عبدة الطاغوت، وترعد خبيثات النفوس، وتهز الأرواح وتحرك الأشباح الصيحة الجمهورية فريضة في كتاب الله المسطور بالبنان ".
وبما قررنا ظهر أن كلا من الجهر والإخفات، والإعلان والإسرار مستحسن بوجه وحيثية، واندفع التدافع الذي يتراءى بحسب الظاهر بين ما ورد في باب كل منهما من الاستحسان والاستهجان، وذلك لأن ملاك الأمر في أعمال العبد وأفعاله النية الخالصة، والتوجه التام إلى معبوده والإقبال بالكلية إلى مقصوده، إذ العبادة والعمل بدون الإخلاص في النية معطل ومهمل، كجسد لا روح فيه وبذر لا ثمرة منه، كقوله تعالى:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة:5]. فالأمر إنما تعلق بالعبادة بهذا الوجه.
فإذا كان تمام العمل بالإخلاص فالإنسان ما دام في هذه النشأة الدنيوية ولم يطلق روحه عن أسر هذه القيود الجسمانية لا يأمن عما يشوش روحه ويبعدها عن حاق النية الإلهية، فيحتاج غالبا في أوقات انزعاجه إلى الحق إلى العزلة والخلوة والاستيحاش عن الخلق، والإسرار في العبادات والأذكار، تخلصا عن فتنة السمعة والرياء في الإظهار، وتحفظا على إدامة مراسم العبودية لله الواحد القهار، وإقامة لوظائف المذلة والتواضع والانكسار، تقربا إلى العزيز الغفار لقوله: " أنا عند المنكسرة قلوبهم ".
وأما إذا قوى روحه بالعلم والعمل واستحكم أساس معرفته وإيمانه بالله عز وجل، وفنى نفسه عما سوى الله بحيث يكون وجود الدنيا وما فيها في نظر شهوده كظل وفيء - بل كلا شيء - فلا يتغير حاله عند تغير الأحوال، ولم يبرح عما هو عليه في كل حال فالأحسن لمثل هذا الإنسان أن يبرز من مكمنه ويظهر للخلق مرتبته وحاله ليتأسوا به ويتبركوا بوجوده، ويتقيدوا به في طريق السلوك، والعبادة، والطاعة، وهكذا كان دأب أكابر العلماء والمجتهدين في البداية والنهاية.
المشرع الثالث
في حقيقة الوحدة المقصودة من كلمة التهليل
إعلم أن لفظ " الواحد " قد يكون اسما وهو الواحد بما هو واحد، وقد يكون صفة وهو الشيء الواحد.
فالأول: هو الذي يتقوم منه العدد بتكريره.
والثاني: كقولك: " شخص واحد " وربما يوجدان في أمر واحد باعتبارين كعشرة واحدة فإن الوحدة العارضة للعشرة غير الوحدات التي تتقوم هي منها.
ومطلق الوحدة معناه أنه لا ينقسم من جهة ما يقال إنه واحد، فالإنسان الواحد يستحيل أن ينفسم من حيث هو إنسان إلى إنسانين، لأن صرف الشيء وحقيقته لا يكون إلا معنى واحدا، فكلما فرضته ثانيا له، فإذا نظرت إليه فهو بعينه هذا ولا يفارقه إلا لمعنى آخر غير حقيقته، فالإنسان ينقسم إلى أبعاض وأجزاء ليس شيء منها إنسانا، أو إلى جزئيات وأشخاص ليس تعددها في نفس الإنسانية بل بأمور عارضة ومشخصات لاحقة لنفس مهيتها، وذلك من جهة أخرى.
ومن هاهنا يعلم ويتحقق أن الوحدة لازمة لكل حقيقة ولكل مهية، والكثرة أمر لاحق لها من الخارج، كما أن الوجود فاش منبسط على كل شيء (عام منبسط لكل شيء) من الأشياء حتى اللاوجود، فإنه من حيث له مفهوم ذهني له نحو من الوجود العقلي، إذ هو بهذه الحيثية شيء من الأشياء لا باعتبار أنه سلب للوجود، بل المعدوم المطلق، والمجهول المطلق لكل منهما عنوان في الذهن بحمل ذلك العنوان على نفسه بالحمل الأولي الذاتي - وإن لم يحمل بالحمل الشايع الصناعي لا على نفسه ولا على غيره لكن يحمل على نفسه نقيض ذلك المفهوم، وهو الموجود في الجملة والمعلوم بوجه ما - فكذلك الوحدة لشمولها وانبساطها تصدق على نفسها وعلى مقابلها أي الكثرة حيث يقال " كثرة واحدة " و " عدد واحد " كما مر.
فالوحدة والوجود كأنهما رفيقان متصاحبان أينما تحقق أحدهما تحقق الآخر، بل الكشف والبرهان يحكمان بأنهما أمر واحد ذاتا وحقيقة.
وما قيل: من أن الوحدة تغاير الوجود لأن الوجود ينقسم إلى الواحد والكثير والمنقسم إلى شيئين مغاير لما به الانقسام.
فالجواب: أن الكلام ليس في أن المفهوم من " الوحدة " عين المفهوم من " الوجود " لأنه مستبين الفساد، وإلا لكانا مترادفين، ولكان قولنا: " موجود واحد " غير مفيد لكونه بمنزلة قولنا: " موجود موجود " أو " واحد واحد " ولكان قولنا: " موجود كثير " تناقضا والتالي باطل فكذا المقدم بل المقصود أن حقيقة الوحدة عين حقيقة الوجود، وكل نحو من أنحاء الوجود عين نحو من أنحاء الوحدة فحينئذ نقل: المقسم في هذا التقسيم مفهوم الوجود المطلق العام لا حقيقته الخاصة، فكما أن الوجود بالمعنى العام ينقسم إلى الواحد والكثير فكذا الوحدة بالمعنى العام الشامل للواحد الحقيقي والكثير الحقيقي تنقسم إليهما؛ لما سبق أن الواحدة مما يعرض للكثرة.
وبيان ذلك: أن الموجودات متفاوتة في درجات الوحدة، كما أنها متفاوتة في فضيلة الوجود، وكما أن أحق الجميع بالموجودية الوجود القيومي، إذ هو صرف الوجود الذي لا يتصور فيه عدم بوجه من الوجوه أصلا، لكونه موجودا بجميع الاعتبارات، واجبا على جميع التقادير وجوبا أزليا أبديا، وضرورة ذاتية أزلية - بخلاف سائر الضرورات الذاتية، أو الوصفية لتقيدها بما دام الذات أو ما دام الوصف - وبعده الوجودات العارضة للمهيات - على تفاوت مراتبها - فإن صدق الموجودية لها ضرورية مقيدة بما دام الوجود بإدامة الجاعل التام إياها، ثم نفس المهيات الممكنة المعروضة للوجود في الخارج، ثم الذهنيات الصرفة والفرضيات الكاذبة.
فكذلك أحق الأشياء بالوحدة نفس الواحد بما هو واحد، الذي صدق الواحد عليه بالضرورة الأزلية فهو الواحد الحقيقي الذاتي الأزلي، ثم الوحدات الحقيقية العارضة للبسائط أو للمركبات من جهة صورتها الطبيعية التي هي جهة وحدتها، ثم الأمور التي لها كثرة حقيقية ولها وحدة جمعية اشتراكية من جهة أخرى، وتلك الجهة إما مقومة أو عارضة، أو لا هذا ولا ذاك.
فالأول: قد يكون جنسا لكثير كاشتراك الإنسان والفرس في الحيوان، وقد يكون نوعا كاشتراك زيد وعمرو في الإنسان، ويساوقه الاتحاد في الفصل أيضا.
والثاني: قد يكون محمولا لها وهو الواحد بالمحمول كالقطن والثلج المتحدين في الأبيض المحمول عليهما، وقد يكون موضوعا كالكاتب والضاحك المتحدين في الإنسان المحمولين عليه.
والثالث: وهو الواحد بالإضافة إلى شيء واحد.
ثم المشاركة في المحمول إن كانت في النوع تسمى " مماثلة " وفي الجنس " مجانسة " وفي الكيف " مشابهة " وفي الكم " مساواة " وفي الوضع " مطابقة " وفي الإضافة " مناسبة ".
وجهة الوحدة في هذه الأمور المذكورة إذا قيست إلى نفسها وإن كانت وحدتها حقيقية بالمعنى الأعم لكنها ليست في مرتبة واحدة من الكمال، لأن وحدة الجنس ليست كوحدة النوع، ووحدة الإضافة ليست كوحدة الذاتي المقوم وإن كان الجميع عقليات لا وجود لها في الخارج بخلاف الوحدة الشخصية لأنها خارجية، ثم الواحد الشخصي الذي لا ينقسم أصلا أحق بالوحدة من الذي ينقسم بوجه.
والثاني: أيضا على مراتب، فإنه قد يكون واحدا بالاتصال وهو الذي ينقسم بالقوة إلى أجزاء متحدة في تمام الحقيقة انقساما لذاته كالمقدار، أو لغيره كالجسم الطبيعي الواحد البسيط، وقد يكون واحدا بالتركيب والانضمام وهو ما يكون كثرته بالفعل، ويقال له: " الواحد بالاجتماع " ، وذلك على ضربين: " تام " إن حصل فيه جميع ما يمكن حصوله فيه، " وغير تام " إن لم يحصل فيه ذلك، ويقال له " كسر " ويسميه الناس " غير واحد " ، ثم التمامية إما بحسب الوضع كالدرهم الواحد، أو الصناعة كالبيت التام، أو الطبيعية كالإنسان التام الخلقة، والخط المستقيم لقبوله الزيادة إلى غير النهاية ليس بواحد من جهة التمام بخلاف المستدير إذا تمت إحاطته بالمركز.
وأما الذي لا ينقسم في الخارج أصلا - أي لا بالقوة كالمتصل ولا بالفعل كالمجتمع - فهو إما ذو وضع كالنقطة، أو غير ذي وضع كالعقل والنفس.
وإذا حققت الحقائق علم أن شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه، وشرف كل واحد بغلبة الوجود فيه، وإن لم يخل موجود ما عن الوحدة حتى العشرة في عشريتها، ولم تخل وحدة ما عن الوجود، كالأعداد الغير المتناهية والفرضيات العقلية، فكل ما هو أبعد عن الكثرة فهو أشرف وأكمل، وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إلى أقل.
فالأحق بالوحدة من أقسام الواحد الحقيقي بالمعنى الأعم هو ما لا ينقسم أصلا لا في الكم ولا في الحد، ولا بالقوة ولا بالفعل، ولا ينفصل وجوده عن مهيته بحسب العقل، ثم ما لا ينقسم في الكم أصلا لا بالفعل ولا بالقوة وإن تصور انقسامه إلى أجزاء الحد ذهنا، ثم الواحد بالاتصال، ثم الواحد بالاجتماع ثم الواحد العددي أحق بالوحدة من الواحد النوعي، لكون وحدته كوجوه ذهنية، وهو أحق من الواحد الجنسي لشدة إبهامه وعدم تحصله، وكذا الأجناس يتفاوت ضعفها في الوحدة بحسب مراتب عمومها وإبهامها وبعدها عن الوحدة العددية الشخصية.
إنارة عقلية يزاح بها غشاوة وهمية
ولقائل أن يقول حسبما وجد في الكتب الحكمية الرسمية أن الوحدة مغايرة للوجود، لأن الكثير من حيث هو كثير موجود، ولا شيء من الكثير من حيث هو كثير بواحد، ينتج: فليس كل موجود بواحد. فإذا الوحدة مغايرة للوجود، نعم يعرض لذلك الكثير وحدة وخصوصية لا أنه تعرض الكثرة لما عرضت له الوحدة.
فنقول له: إن أردت بالموصوف بالحيثية المذكورة في المقدمتين ما يراد منه في مباحث المهية لأجل التمييز بين الذاتي والعرضي فالصغرى ممنوعة لأن الكثير بهذا المعنى لا موجود ولا معدوم، بمعنى أن وصف الوجود ليس بعينه وصف الكثرة. وإن أريد أن معروض الكثرة حين كونه معروضا للكثرة أو بشرط اتصافه بها موجود سلمناها، لكن منعنا الكبرى إذ كما أنه موجود فهو واحد أيضا، إذ ما من شيء إلا وله وحدة حتى الكثير في كثرته، فثبت أن الوجود غير منفك عن الوحدة.
فإن رجع وقال بعد اختيار الشق الثاني: إن الوحدة هاهنا عرضت للكثرة لا لما يعرض له الكثرة فموضوعاهما متغايران، مثلا العشرة عارضة للجسم والوحدة عارضة للعشرة من حيث أنها عشرة فهاهنا شيئان " الكثرة وموضوعها " فالكثرة للموضوع والوحدة لتلك الكثرة، فوحدة الكثرة لا تناقض وتلك الكثرة لعدم اتحاد الموضوع بخلاف وحدة موضوع الكثرة فإنها تنافي كثرته مع اتحاد الزمان، ولا تنافي وجوده فثبت المغايرة بين الوجود والوحدة.
فنرجع ونقول: قد مر أن الوحدة كالوجود على أنحاء شتى وكل وحدة خاصة يقابلها كثرة خاصة، والوحدة المطلقة يقابلها الكثرة، كما أن الوجود الخاص الذهني أو الخارجي يقابله العدم الذي بأزائه، والعدم المطلق بأزاء الوجود المطلق، والدعوى أن وحدة ما عين وجود ما بأي اعتبار أخذ.
فإذا تقرر ذلك فنقول: ما ذكره لا يدل على مغايرة الوحدة المطلقة للوجود المطلق، إذ الكثير المقابل له مما لا وجود له أصلا، لأن كل موجود فله جهة وحدة ولو بالاعتبار، فموضوع الكثرة - كالرجال العشرة مثلا من حيث كونهم عشرة - ليس لهم وجود غير وجودات الآحاد إلا بالاعتبار العقلي لا في الخارج، وإلا لم ينضبط شيء من التقاسيم، إذ كل ما ينقسم إلى شيئين اثنين فإذا كان موضوع الاثنينية موجودا يكون منقسما إلى ثلاثة أشياء، وهكذا ولم ينحصر أيضا المقولات في شعر، إذ موضوع هذه العشرة لو كان موجودا خارجيا لكان مقولة أخرى غير إحدى المقولات العشر فقد علم أن الكثير من حيث الكثرة لا وجود له إلا في الاعتبار العقلي، وكما أن للعقل أن يعتبره موجودا فله أن يعتبره شيئا واحدا فأتقن في هذا المقام لأنه مما زلت فيه الأقدام.
إذا تقرر ما ذكرناه فنقول: إن الواحد الحق لكونه مبدأ سلسلة الممكنات يجب أن يكون وحدته هي الوحدة الحقيقية بالمعنى الأخص، بمعنى أن ذاته نفس حقيقة الوحدة بلا شوب كثرة واثنينية، إذ لو كانت الوحدة عارضة لذاته بذاته فلم تكن ذاته من حيث هي هي واحدة، ويكون الواجب في اتصافه بالوحدة مفتقرا إلى سبب وذلك السبب إما ذاته أو غيره.
فعلى الأول: يلزم أن تكون ذاته موجودة واحدة قبل هذه الوحدة، لكونها علة للواحد، وعلة الواحد واحدة، فينقل الكلام إلى الوحدة السابقة ويتسلسل أو ينتهي إلى سبب واحد يكون وحدته عين ذاته وهذا خلف مع أنه المطلوب.
وعلى الثاني: يلزم افتقار الواجب في وحدته إلى الممكن وهو محال، لأن الافتقار في الوحدة يسلتزم الافتقار في الوجود، إذ الشيء ما لم يكن واحدا متعينا لم يوجد، وأيضا يلزم الدور في افتقار الواجب في وحدته إلى الممكن وبالعكس، لكون كل ممكن مفتقرا إلى علة تامة معينة، فثبت أن وحدة الواجب كوجوده عين ذاته، ومن هاهنا يظهر للبيب العارف أن حقيقة الوجود وحقيقة الوحدة أمر واحد.
فإن قيل: هذا الكلام يتوقف على أمرين:
أحدهما: أن الوحدة صفة ثبوتية.
والآخر: أنها متحققة في الخارج، ونحن لا نسلم كونها ثبوتية، لم لا يجوز أن تكون سلبية معناها نفي الكثرة؟ ولو سلمنا كونها أمرا ثبوتيا فلا نسلم أنها مما له ثبوت في العين - فضلا عن أن يكون له صورة عينية - وذلك لأنه لو كانت للوحدة وجود عيني لكانت الوحدات متساوية في مهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا، وذلك هو التسلسل المحال.
فالجواب: أما عن الأول فهو أن المفهوم من الوحدة أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبيا كان سلبا للكثرة، فإن كانت الكثرة سلبية - وسلب السلب ثبوت - فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب، ولو كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى لها إلا مجموع الوحدات، فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال، فثبت أن الوحدة صفة ثبوتية.
وأما عن الثاني: فلأنه لا يمكن أن يقال لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحدا في نفسه قبل أن يوجد ذهننا واعتبارنا.
فثبت أن كون مهية ما واحدة، صفة ثبوتية زائدة على تلك المهية قائمة بها مع قطع النظر عن الاعتبارات والنسب والحيثيات العقلية.
ثم إن كون الوحدة موجودة لا يستدعي إلا أن تكون واحدة، أعم من أن تكون بنفس ذاتها أو بأمر عارض كما في سائر المشتقات - على ما هو التحقيق - بل وزان الأمر في الوحدة كوزانه في الوجود، فإن كون الأشياء موجودة إنما يكون بالوجود، وكون الوجود موجودا إنما هو بنفس الوجود لا بأمر زائد عليه لاستغنائه عنه، فكذا الحكم في كون الوحدة واحدا.
على أن المأخوذ في مفهوم المشتقات هو المعنى المصدري للشيء، وكلامنا في إثبات حقيقة الوحدة، أي ما به الشيء واحد، لا في الواحدية المصدرية، فإذا كان للوحدة حقيقة في الخارج لكانت واحدة، لكن لا يلزم أن تكون وحدتها بغير نفسها قياسا على الأشياء الواحدة التي حقيقتها أمر غير الوحدة فتحتاج في واحديتها إلى أن تقوم بها وحدة خارجة عن ذاتها، فوحدة الوحدة وراء ذاتها ليست إلا واحديتها، كما أن وجود الوجود وراء حقيقته ليس إلا نفس موجوديته، وبهذا يندفع التسلسل المذكور في مثل هذا المقام لأن خطرات الأوهام لا تقف عند حد.
والعجب من بعض الحكماء كيف عول في نفي موجودية الوجود والوحدة وغيرهما على مثل ذلك البيان مع أنه قد حقق الكلام في باب حقيقة النور أنها ظاهرة بذاتها لا بضوء زائدة عليها، وكذا في الامتداد الجوهري الذي بنفس ذاته ممتد، وامتداد أجزاء الزمان بأنفسها تقدمات وتأخرات وذوات تقدم وتأخر.
وخلاصة القول إن للوحدة كالوجود معنيين:
أحدهما: أمر عام مصدري وهو كون الشيء واحدا.
والثاني: هو منشأ الواحدية وهو قد يكون عين ذات الشيء وقد يكون زائدا عليها، والواحد الحق من قبيل الأول لكونه أحق الأشياء بالواحدية، إذ الكثرة منشأ الإمكان والنقص والقصور، ومن ضرورة كونه واحدا حقيقيا كونه وجودا صرفا مقدسا عن المهية، وذلك لأنه لو كانت له مهية كلية لكانت وحدته وحدة مبهمة مشوبة بالكثرة والانقسام، ولم تكن الوحدة عين ذاته، لأن كل مهية - سواء كانت نوعية، أو جنسية - تكون الوحدة عارضة لها إذ المهية من حيث هي هي ليست واحدة ولا كثيرة، فثبت أن ما حقيقته الوحدة لا يمكن أن يكون ذا مهية كلية، فالواجب بحت الوجود ومحض الهوية.
وبهذا ثبت معنى كلمة التوحيد فإن معنى " لا إله إلا هو " على هذا التحقيق (التقدير - ن) " لا إله إلا ما يكون ذاته هيوته " أي وحدته العينية (الغيبية - ن) الحقيقية بخلاف غيره من الأشياء التي تكون تعيناتها زائدة على أعيانها الثابتة.
ثم من ضروريات كون الحق واحدا بهذا المعنى الذي يقال له " الأحدية الصرفة " كونه واحدا بمعنى " عديم الشريك " ويقال له " الواحدية " و " الفردانية " وذلك لأن الاشتراك في الإلهية والواجبية يوجب الاشتراك في الذات، إذ الصفات الكمالية الواجبية قد مر أنها عين الذات والاشتراك فيها اشتراك في نفس الذات فتكون وحدتها وحدة اشتراكية من قبيل الوحدة النوعية أو الجنسية وقد مر أن وحدة المهية الكلية وحدة عارضة، وأن حقيقة الوحدة لا يمكن أن تكون عارضة لشيء، فلو كان للواجب الحق شريك - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - يلزم أن تكون وحدته الحقة وحدة غير حقيقية، فيلزم الخلف.
وهذا نمط جديد في البرهان على التوحيد يستنبط من نفس كلمة التوحيد تحدسنا به إلهاما من الله والتأييد، على أن لنا برهانا عرشيا على هذا المطلب العالي الشريف لم يسمح (لم يسنح - ن) بمثله أحد قبلنا حيث لم يرد عليه شيء من الإيرادات والشبهات وخصوصا الشبهة المشهورة المنسوبة إلى ابن كمونة الواردة على الدلائل المتداولة، قد كتبناه في أسفارنا الأربعة من أراد ذلك فلينظر فيها.
المشرع الرابع
في كيفية التوصل إلى معنى التوحيد الحقيقي وطريق السير إلى عالم الوحدة الحقة
إعلم أن النظر إلى مفهوم الوجود يؤدي إلى وجود قائم بذاته، واجب بنفسه، وإلا لم يتحقق موجود ما أصلا، لأن الوجود مهيته أنه في الأعيان، فإذا لم يكن ما هو في نفسه لنفسه بنفسه وجودا موجودا ثابتا لم يكن لشيء من الأشياء وجود أصلا، كما أنه لو لم يكن في الوجود نور في ذاته لم تكن لشيء من الأشياء صفة النورية أصلا، إلا أنه ليس من شرط كون الشيء نورا أن يكون قائما بنفسه بلا علة بخلاف كون الشيء وجودا بنفسه فإنه يلزم أن يكون وجودا صرفا، مقدسا، أحديا، بلا علة وفاعل، وغاية، وتركب، وتكثر، وتحيز، وتجسم وحلول، وتعلق، لأنه إذا ثبت وجوب الوجود، فهو يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقرا في شيء من الأشياء إلى شيء من الأشياء أصلا، وإلا لزمت فيه جهة إمكانية غير جهة الوجود - خارجة عن حقيقة الوجود - فيكون مركبا وكل مركب ممكن فلا يكون ما نفس حقيقته الوجود الصرف إلا ما كان في غاية الجمال والعظمة والجلال والإكرام، متبرئ الذات عن أنحاء التعلق بشيء والتركب من شيء ثم لا ريب في أن من كمالات الجميل كونه عديم المثل والنظير، كما هو المشهور عند الجمهور.
وأما بحسب النظر العلمي فلأن الاشتراك مع الغير في الحقيقة مما يوجب الإبهام وعدم الاستقلال في التحصل، وهذا ينافي كون الشيء وجودا حقيقيا ذا هوية حقيقية، ويلزم تركب الوجود الصرف وهو خلاف المقدر.
هذا إذا كانت جهة الاشتراك أمرا مقوما، وأما إذا كانت صفة حقيقية فهو أيضا محال؛ لما مر من أن حقيقة الوجود القائم بذاته كماله بنفس ذاته لا بأمر زائد وأما إذا كانت صفة سلبية أو إضافية فالسلوب والإضافات ليست في الحقيقة أشياء، يسلتزم الاشتراك فيها اشتراكا في صفة كمالية، بل هي في الحقيقة سلب صفات، أو مجرد أمور اعتبارية محضة هذا.
أقول: ومن تحقق معنى حقيقة الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجود الواجب تعالى ولا في أن واجب الوجود لذاته واجب الوجود في جميع صفاته الكمالية، ولا في أن واجب الوجود في جميع صفاته الكمالية واحد بجميع حيثياته فرد عن جميع اعتباراته - حتى عن حمل مفهوم الوحدة عليه، لأن طبيعة الحمل تقتضي الاثنينية ولو في العقل وهو منحط عن درجة الأحدية وعن تصور ذاته.
وهاهنا حالة عجيبة فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة.
فاعرف هذه الأسرار؛ لتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار، وتفوز بمقامات الأبرار، وتستغرق في بحار عالم الأنوار؛ بشروق نور الواحد الجبار.
المشرع الخامس
في نفي أنحاء الشركة عن الواحد الحقيقي مطلقا
لما تحقق وتقرر كونه تعالى واحدا بنفس ذاته في أعلى مراتب الوحدة فلك أن تقول إنه لا مماثل له في ذاته، ولا مجانس له في حقيقته ولا مشابه له في صفاته، ولا مقارن، ولا مكافئ ولا مساوي، ولا مطابق ولا مناسب ولا مع، لأن كلا من هذه المعاني يعرض لما يعرض له الكثرة مع جهة وحدة ما ناقصة كما علمت، على أن المماثلة والمجانسة تعرضان لما له ماهية كلية ونوعية أو جنسية - وحقيقة الوجود متقدس عنه - والمشابهة والمضاهاة تعرضان لما له كيفية قائمة به وصفة كمالية زائدة عليه - والحق تعالى إنما يتجمل بذاته ويتزين بنفسه لا بأمر آخر صفة كانت أو غيرها، والمساواة والمحاذاة تعرضان لما له تكمم وتقدر والمطابقة تعرض لما له وضع وتجسم - والله تعالى منزه عن أن يكون جسما أو جسمانيا - والمناسبة تعرض لما له إضافة يتحد معه غيره فيها وإضافته تعالى إلى الأشياء ليست إلا قيوميته لها وحيث لا قيوم سواه فلا مناسب له أصلا، والمعية والاقتران يعرضان للزماني المتحد مع آخر في الزمان أو المكاني المتحد مع غيره في المكان، والمكافأة تكون بين شيئين متفقين في درجة الوجود وفي رتبة العلية والمعلولية وما سوى الحق الأول معلول له إما بواسطة أو بغير واسطة والمعلول لا يكون في درجة الوجود مع علته.
وقس عليه جميع أنحاء الاشتراك والاتحاد، وقدس الحق الأول عن كل وحدة غير حقيقية توجب نحوا من الشرك الخفي أو الجلي، وأزل عن قلبك رينها وشرها (شركها - ن) بصيقل هذا التوحيد كي يتجلى عنه غبار وجود الأغيار، ويتجلى له الحق الواحد القهار.
فإذا علمت وتحققت هذا المقام ظهر لك أن المناسبات التي أثبتها بعض المتصوفة في حقه تعالى كلها أوهام مضلة، فما أبعد من درجة التوحيد قول من توهم من هؤلاء أن نسبة الباري تعالى إلى العالم كنسبة نفوسنا إلى أبداننا وذلك لأن نسبة النفس إلى البدن ليست نسبة القيومية، بل نسبة التدبير والتصرف بالتعاون، فإنها وإن كانت مجردة عن المادة البدنية ذاتا لكنها مزاولة لها فعلا بمعنى أن لا تأثير لها في شيء من الأشياء إلا بتوسط البدن بحسب الوضع كسائر القوى الجسمانية التي تتوسط المادة بينها وبين آثارها بالوضع، بل نسبة النفس إلى البدن وقواه في هذا العالم كنسبة صاحب السفينة إلى السفينة وآلاته في البحر لأنها مما تحتاج إليها للجري في بحر الطبيعة لاقتناص جزيات هذا العالم لتنتفع منها وتتزود بها في سفر الآخرة وتتجر بها تجارة لن تبور - وهي أن تسعد للقاء الله تعالى ورضوان منه - وأيضا الارتباط الذي هو بين النفس والبدن ارتباط تعلقي يوجب تأثر كل منهما عن صاحبه وافتقاره إليه بوجه يحل منهما نوع واحد طبيعي والله تعالى مقدس عن لحوق معنى التأثر والانفعال به، متعال عن ذلك علوا كبيرا.
وأسخف من هؤلاء اعتقادا وأردأهم مذهبا من ذهب إلى أن الحق تعالى ذات واحدة مصورة بصور مختلفة وهيئات متغايرة هي حقائق الممكنات وصورها - سبحانه سبحانه - هذا الذي تفوهوا به صفة الهيولى الأولى التي هي أظلم الذوات وأخس الموجودات وأكدرها، التي تكون لغاية النقص والخسة والقصور فعليتها محض القوة والفاقة ووجودها أدون مراتب الوجود لكونها شبيهة بالعدم واللاوجود، لأن وجودها هو استعداد وجود الصور وذلك كفر صريح، وأين هي من الله تعالى وهو محض الجمال، والفضيلة، والغنى والفعلية والوجوب
لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا
[مريم:89-90] حيث يشبهون مجمع الكثافة والظلمة برب العزة - تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا -.
وجماعة منهم زعموا أن الحق تعالى قوة سارية في جميع العالم من أسفله إلى أعلاه ويكون في كل شيء منشأ أثره الخاص، وهذا الذي افتروا به على الله هي الطبيعة الكلية السارية في الأجسام وأين هو من رب العزة؟ سبحانه سبحانه.
وجماعة منهم زعموا أن للعالم بجميع أجزائه ذاتا واحدة متصرفة فيه مدبرة إياه مقلبة له كيف تشاء، وبها حياة كل جسم من الأجسام وحركته الإرادية وتشوقه إلى الديمومة والبقاء وقالوا: " إن الباري عز اسمه هو نفس العالم التي بها حياته وحركته " ولم يهتدوا بأن هذه صفة النفس الكلية للجسم الكلي فإن العالم بجميع أجزائه حيوان له نفس واحدة كلية هي مجموع النفوس، وهذه النفس هي عبد من عباده تعالى عالمها عالم اللوح والقدر - وقد مر أن الله تعالى منزه عن هذا الوهم تنزيها عظيما -.
وجماعة زعموا أن للعالم نورا كليا محيطا به علوا وسفلا يحرك النفوس على سبيل التشويق والإمداد، وبه يستفيد الإنسان الكمالات من العلوم والمعارف والإلهامات وهذه النسبة أيضا مما يجب تنزيه الحق عنها، لأنها صفة عبد من عباده - وهو العقل الكلي الذي هو أول ما خلق الله. قال له: " أقبل " فأقبل ثم قال له: " أدبر " فأدبر. هو قلم الحق، عالمه " عالم القضاء الإلهي " وهو الممكن الأشرف، والعبد الأعلى، والمخلوق الأعظم، لأنه تعالى قال:
" فبعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعظم منك، فيك أعطي وبك آخذ وبك أثيب وبك أعاقب "
- كما وقع في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله).
وكونه أشرف الممكنات لا يضاد كون محمد (صلى الله عليه وآله) أشرف المخلوقات - حتى الملائكة المقربين - وذلك لأن حقيقته هي الحقيقة المحمدية، فهو عند الإقبال والبداية عقل أول هو أول الجواهر والعقول، وقائد سلسلة العلة والمعلول، وفاتح باب الرحمة والجود، وواسطة فيض الحق في الوجود. وعند الإدبار والنهاية عقل آخر هو زبدة العناصر والأصول وخاتم كل نبي ورسول، وثمرة شجرة عالم الأضداد، وسائق العباد إلى منزل الرشاد ودرجة السداد، وهادي الخلق إلى رضوان الله الملك الحق والمعبود المطلق.
فثبت وتحقق أن الحق تعالى كما أنه واحد فرد في ذاته، فكذلك في جميع صفاته وإضافته وسلوبه؛ لأن جميع صفاته الحقيقية ترجع إلى صفة واحدة هي وجوب الوجود، الذي هو عبارة عن الوجود المتأكد الصرف القائم بذاته وكذلك جميع إضافاته من القادرية، والعالمية، والرزاقية، والمبدأية، والسببية، والتقدم، ترجع إلى إضافة واحدة هي قيوميته تعالى للأشياء على الوجه الذي يعرفها الكاملون في المعرفة والراسخون في العلم، وكذا سلوبه - كسلب الجوهرية، والجسمية، والتحيز، والحلول، والعجز، والفتور، والتقصير، والتغير - كلها ترجع إلى سلب الإمكان مطلقا - كما يظهر لمن تدرب في الصناعة العلمية.
فإذ لا شريك له في هذا السلب فلا شريك له في السلوب كلها، وإذا لا شريك له في قيوميته تعالى فلا شريك له في الإضافات كلها، فهو واحد فرد في ذاته، وجماله، وأفعاله، وجلاله.
فظهر أنه سبحانه كما أنه منزه عن المثل والشبيه فهو منزه عن المثال والنظير، فما حكم به الغزالي وغيره " أنه تعالى منزه عن المثل لا عن المثال " محل نظر، نعم هذه الأمثلة الواقعة في القرآن المبين والحديث المتين وكلام أكابر الدين والأئمة المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين - الجارية في حق الله عند تفهيم الخلق وتقريب أفهامهم لدرك حقيقة نسبته تعالى إلى العالم وكيفية نظمه للموجودات، وحكمته، وصنعه للأشياء، وإن لم يكن شيء منها مثالا له بالحقيقة - لعدم اتحاد شيء من الأشياء معه تعالى في إضافاته ونسبه إلى ما سواه - لكن كل منها شبيه بالمثال لكونه مقربا من وجه، فإطلاق المثال عليه من باب الإطلاق على الشيء باسم شبيهه.
فإذا حققت الأمر واستقمت في توحيده تعالى على هذا الوجه المستدعي لتقديسه وتنزيهه من الاثنينية والشركة في الإضافات - بل في السلوب أيضا - فقد صرت من الفائزين بكرامة التحقيق واليقين، السالمين عين شين الظن والتخمين، ولهذا المعنى قيل: " التوحيد إسقاط الإضافات ".
وهذه المرتبة من التوحيد تفضي السالك إلى مقام يقصر عنه البيان ولا يفيد إلا المشاهدة والعيان، دون المشافهة مع العميان، ومن كشف له الغطاء صار حيران، ومن طبع على قلبه وحرم على طبعه مني بالخذلان، وبعد عن حقيقة الإيمان، وانحط عن درجة الإيقان وكل ميسر لما خلق لأجله متهيئ لسلوك منهجه وسبيله.
المقالة الثالثة
فيما يتعلق بقوله سبحانه { الحي القيوم }
وفيه فصول:
الفصل الأول
في مفهوم هذا الاسم واشتقاقه
أما المفهوم من " الحي " فقيل: الحي هو الذي يصح أن يعلم ويقدر. أو الدراك الفعال.
فأورد عليه: أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك.
ويمكن الجواب بأن مفهوم " الإدرااك " و " القدرة " مما يقبل الأشد والأضعف، والمقول بالتشكيك مما يختلف صدقه على الأشياء بالكمال والنقص، والأولوية وعدمها - وفي كل بحسبه - و " العلم " في حق الحيوان يكون هو الإحساس، وفي حق الحق التعقل.
وكذا " الفعل " في الحيوان يكون من باب التحريك، وفي حقه تعالى من باب الإبداع، فمعنى " الحي " وإن كان مفهوما عاما إلا أنه ينصرف في الحيوان إلى الحساس المتحرك، أي ما من شأنه أن يحس ويتحرك، وفي الواجب إلى ما يكون عالما بالفعل بجميع الأشياء، قادرا بالذات على كل الموجودات لتعاليه عن القوة والكلال، وارتفاعه عن التجدد والانتقال ولا شك أن هذا مما يوجب المدح والثناء.
أقول: وعلى هذا التحقيق لا يحتاج إلى ما عدل إليه الخطيب الرازي وتبعه النيسابوري من أن " الحي " في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط، بل كل شيء يكون كاملا في جنسه فإنه يسمى " حيا " ومن هاهنا صح أن يقال لعمارة الأرض الخربة " إحياء الموات " وقال تعالى:
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتهآ
[الروم:50]. وقال:
إلى بلد ميت فأحيينا
[فاطر:9] فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة فسميت حياة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضرة فسميت حياة، والصفة المسماة بالحياة في عرف المتكلمين كمال للجسم، لأن كمال الجسم أن يكون حساسا متحركا، فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم من " الحي " هو " الكامل في جنسه " والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته، فلا حي بالحقيقة إلا واجب الوجود لذاته انتهى قوله.
وفيه من التعسف ما لا يخفى على الذوق المستقيم:
أما أولا: فلأن دعوى كون " الحياة " في اللغة لا بمعنى ذي الشعور والفعل الإرادي بعيد عن الإنصاف كما يظهر لمن تتبع موارد استعمالات هذا اللفظ.
وأما ثانيا: فلأن كمال كل شيء - في جنسه أو نوعه - لو كان حياته في عرف اللغة لجاز أن يقال في اللغة لكل كامل في جنسه إنه حيوان، وليس كذلك إذ لا يقال للذهب الكامل العيار إنه حيوان، وللثوب الكامل في نسجه إنه حيوان وللدر الصافي إنه حيوان، وللسواد الشديد، والخط الطويل، والدائرة التامة إنها حيوانات.
وأما ثالثا: فلأن تبادر معنى من اللفظ إلى الذهن من غير قرينة دليل الحقيقة وعدمه دليل المجاز، ونحن إذا سمعنا لفظ " الحيوان " لم يتبادر في ذهننا إلا ما له صلاحية الإدراك والفعل الإرادي - وإن كان ناقصا في جنسه أو نوعه -.
ثم من العجب أن كثيرا من علماء العربية ينكرون كون الأفلاك حية مع أنها كاملة في الجسمية، لكونها كاملة البنيان عظيمة المقدار، رفيعة المكان، بل هي مكرمة الذوات والصفات، مرفوعة عن أرجاس العنصريات، وذلك لأن المعتبر عندهم في الحيوان هو التفنن في الإرادات والحركات بلا نسق، أو الاختلاف في الدواعي والأغراض مع كلال وتعب، أو وجود رأس وذنب وشهوة وغضب لأنهم ما عاهدوا من الحيوان إلا هذه الديدان الأرضية (كالأرضة - ن) التي لا غذاء لها إلا من الأرضيات، ظنا منهم أن ليس لله تعالى عالم غير هذه المدرة، وليس لها خلائق حية ناطقة إلا هذه الحيوانات الحاصلة من العفونات صامتها وناطقها، ولم يعلموا بالطمأنينة العرفانية أن له تعالى عالما آخر هو دار الحيوان بالحقيقة، لقوله تعالى:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت:64] وله سبحانه خلائق ملكوتيون حياتهم بالعقل الكلي والشوق الإلهي، وغذاؤهم التسبيح والتقديس، والله يطعمهم ويسقيهم كقوله:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ".
وأما اشتقاقه: فالحي أصله " الحيي " كحذر وطمع، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما وكلا اليائين أصل. وقال ابن الأنباري: أصله " الحيو " بدليل الحيوان، فاجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكنا فأدعمت الواو في الياء فجعلتا ياء مشددة. وزيف بكونه عديم النظير، فإنه لم يوجد ما عينه " ياء " ولامه " واو ".
وأما معنى " القيوم " في اللغة.
فقال الراغب: يقال: قام كذا، أي: دام، وقام بكذا، أي: حفظه.
" والقيوم " القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه.
وقيل عليه: إن الظاهر من عبارته أن القيام بمعنى الدوام، ثم بسبب التعدية صار بمعنى الإدامة والحفظ، وحينئذ يتوجه عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى " القيوم " عن أداة التعدية لم يكن إلا بالمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ، ثم إن المبالغة في الحفظ كيف يفيد إعطاء ما به القوام؟
وأجيب: بأن الاستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك، لأن الحفظ فرع التقويم فلو كان التقويم بغيره لم يكن مستقلا بالحفظ، وعلى هذا لا يرد ما يورد على تفسير " الطهور " ب " الطاهر لنفسه المطهر لغيره " من أن " الطهارة " لازم والمبالغة في اللازم لا يوجب التعدية. وذلك لأن المبالغة في اللازم ربما يتضمن معنى آخر متعديا، بل المعنى اللازم قد يتضمن بنفسه ذلك، كالقيام المتضمن لتحريك الأعضاء.
أقول: في كلام هذا القائل - سؤالا وجوابا - نظر: أما في السؤال فلأنا لا نسلم أن المبالغة ليست من أسباب التعدية في الجملة، بمعنى أن الشيء إذا اشتد كماله في معنى من المعاني أو صفة من الصفات يفيض منه شيء ويتعدى إلى غيره، لست أقول: إن المبالغة من أسباب التعدية وضعا، أو أن صيغة المبالغة في كل لازم وضعت للتعدية - كما هو شأن باب الإفعال والتفعيل وحروف الجر - بل المراد أن الشيء إذا صار تاما في معنى من المعاني واشتد تمامه فيه حتى صار فوق التمام يفضل منه ذلك المعنى على غيره، فكذلك المبالغة في معنى القيام مما تستدعي - عقلا لا لفظا - الإقامة والإدامة والحفظ.
والحاصل أن دلالة " القيوم " على " الحافظ المديم لكل شيء " دلالة عقلية لا وضعية، وكثيرا ما يذكر في اللغة المعاني الالتزامية التي صارت لكثرة الاستعمال بمنزلة المعنى المطابقي.
ثم لأحد أن يقول: لم لا يجوز أن يكون القيوم بالمعنى المذكور غير مأخوذ من قام بالمعنى الذي مر، بل بمعنى آخر مناسب قد ترك استعماله فيه ونظائره في اللغة كثيرة، مثال ذلك " يذر " و " يدع " المأخوذان من " وذر " و " ودع " - على رأي - وأصلاهما مهجوران في الاستعمال.
وأما في الجواب: فلأن المبالغة في لفظ واحد لا تكون إلا مبالغة واحدة في معناه الأصلي، فإذا سلم كون المبالغة في هذا اللفظ مما يجعل معنى " القيام " معنى " الحفظ " فلم يحصل من المبالغة في القيام التي هي من أسباب التعدية بحسب اللفظ - على ما تصوره وفرضه - إلا مجرد الحفظ، لا الاستقلال فيه فمن أين حصل معنى " الاستقلال " من التعدية التي مفادها الحفظ والإدامة ومنشؤها المبالغة في معنى القيام؟ ليتفرع عليه توقفه على إعطاء ما به القوام.
بل الحق أن يقال في هذا المقام: إن هذا المعنى أيضا يحصل من المبالغة في أصل القيام، فإن الشدة والكمال فيه على الوجه الأبلغ الأوفى كما يوجب الإقامة للغير يوجب الاستقلال في الإقامة أيضا، وهذا مما لا يحصل إلا بإفادة أسباب كل شيء وإعطاء ما به قوام ذاته ووجوده، ولهذا حكموا بأن لا مؤثر في الوجود إلا الله، وهذا أحد الوجوه لتوحيد الأفعال، وبه تعلم أيضا وجها من وجوه عظمة هذا الاسم لدلالته على التوحيد، كما يدل على غيره من الصفات الإلهية.
ثم إن لفظ " الطهور " ليس موضوعا للمبالغة، واعتبار التطهير فيه ليس لما زعمه - من أنه ناشئ من المبالغة - بل هو اسم لما يتطهر به كالسحور والفطور، والذي يتطهر به يلزمه غالبا الطهارة والتطهير، فيصدق عليه أنه طاهر مطهر، فتعريف " الطهور " بهما تعريف باللازم لا أنه تفسير لمفهوم اللفظ.
وأما اشتقاقه " فالقيوم " كان في الأصل " قيووم " على " فيعول " ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة، ولو كان " قوووما " على " فعوول " لقيل " قووم ".
وقرئ: الحي القيام، والقيم.
الفصل الثاني
في إثبات كونه تعالى هو الحي القيوم
بيانه أن كل جملة من علل ومعلولات لا بد وأن تنتهي إلى طرف هو علة ليس بمعلول، لأن تلك الجملة إما متناهية، وإما غير متناهية، والثاني باطل بالقواطع البرهانية المذكورة في موضعها، حيث ذكر أن كل مقدار أو عدد ذي ترتيب بالطبع أو الوضع موجود معا فلا بد وأن يكون متناهيا، فكل جملة مترتبة من علل ومعلولات لها مبدأ، وهو علة ما سواه وموجده ومبدعه.
ولأنه لو لم يكن لهذه الجملة طرف لم يصلح واحد من الآحاد للعلية ولا للمعلولية، لأنهما معا ممكنان ولا مزية لأحد من الممكنات على الآخر من حيث هي مهيات ممكنة، بخلاف ما إذا كان لها طرف يقتضي الاستغناء عن الغير والتقدم للكل، فيكون ما هو أقرب إليه مستحقا لفضيلة التقدم على ما هو أبعد منه فيكون علة له، وإذا لم يكن للجملة طرف خارج عن الممكنات واجب الوجود بذاته متقدم على غيره فلا تكون للمكنات نسبة قرب ولا بعد، ولم يتميز من تلك الجملة شيء هو علة عن شيء هو معلول.
ولأن العلل والمعلولات كثيرة، وكل كثرة فالواحد الحقيقي موجود فيها لأن كل كثرة لا يوجد فيها الواحد لا تتناهى أبدا - لا هي ولا جزء منها أصلا - إذ كل جزء منه لا يخلو إما أن يكون واحدا أو لا، وعلى الثاني إما أن يكون لا شيئا محضا أو كثيرا. فعلى الأول يستحيل أن يجتمع من لا شيء شيء كثير، وعلى الثاني كان الكلام باقيا فينجر إلى غير النهاية، وهو جزء من الكثير الأول فيلزم أن يكون ما لا يتناهى من الأعداد الموجودة المترتبة معا جزءا مما لا يتناهى، فلم يكن حينئذ فرق بين كل من أجزاء الكثير الأول وبينه، فلا فرق بين الجزء والكل وكلا الشقين باطلان.
فثبت من هذا القول أن الواحد موجود في كل كثرة لكن لا شيء من المعلولات من جملة هذه الكثرة بواحد حقيقي، إذ كل معلول زوج تركيبي - ولو بوجه - فهو واحد من وجه، ولا واحد من وجه، وإذا لم يكن في المعلولات واحد - ولا بد في الكثرة من واحد - فيكون الواحد في الكثرة، وليس في المعلولات، فلذلك الواحد هو العلة للجميع، وهو الواحد الحق الذي يفيد سائر الأشياء الواحدية.
وهذا برهان شريف استفدناه من كلام بعض المتقدمين الربانيين على إثبات الصانع ووحدته أيضا، ولهذا المطلب مسالك وطرق أخر تركنا ذكرها مفصلا مخافة التطويل:
منها: مسلك الخليل (عليه السلام) وهو النظر في الحركات والأشواق الكلية للأجرام العظام الفكلية المستلزمة للأفول في هوي الإمكان، وهو مبغوض ممقوت للسالك الهارب عن النقص والفناء، الطالب للوجود والبقاء، ولذلك قال لما رأى أفول الكواكب:
لا أحب الآفلين
[الأنعام:76]، وقال أيضا - على نبينا وعليه السلام -:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء:77] عند انزعاجه إلى المحبوب الأول وانقطاعه من الأسباب والعلل.
ومنها: طريقة النفس الإنسانية من جهة قوامها لا بالبدن وتجردها عن الأحياز والأمكنة، وعلمها بذاتها وكونها مع تجردها مما لا يخلو عنها جزء من أجزاء البدن - علوها وسفلها - فإمكانها يوجب الانتهاء إلى موجود واجب الوجود مقدس عن الأجرام والأحياز والأمكنة والأقدار، ومع ذلك لا يخلو عنه سماء ولا أرض، ولا بر ولا بحر، إذ موجد الشيء أولى بأن يكون بريئا من النقائص التي يبرأ عنها المعلول.
وهذه طريقة نبينا لقوله (عليه السلام):
" من عرف نفسه فقد عرف ربه ".
وهي أشرف الطرق المسلوكة لغيره من الأنبياء والحكماء، وذلك لأن المسلك فيها عين السالك فلا يمكن أحسن منها في الطرائق الإمكانية فما أشرفها وأشرف سالكها ناهجها (صلى الله عليه وآله)، نعم هاهنا طريقة أخرى أشرف الطرائق كلها، بل لا نسبة لها إلى غيرها وقد سلكها الرسول وسلكها الصديقون من أهل بيته وأولاده - عليه وآله الصلاة والسلام - وسلكها الشهداء الصالحون من أمته - التي هي خير أمة أخرجت للناس - وهي النظر أولا في حقيقة الوجود المطلق الفطري التصور هوية، الضروري التصديق هلية، لكونه أظهر من أن يستر وأجلى من أن يخفى، ثم الارتقاء منه إلى نيل مرتبة الأحدية، ودرك حقيقة الواجبية، وهوية نور الأنوار، وإنية الواحد القهار.
وهذا أشرف الطرق وأنورها وأفضلها مطلقا، لكون الوجود هو السالك فيها بالحقيقة والمسلك المسلوك إليه جميعا، وخصاية هذه الطريقة هو فناء السالك أولا في التوحيد، ثم بقاؤه بالوجود الحقاني كما أشير إليه بقوله:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم
[آل عمران:18].
فانطر إلى الطريقة المحمدية، وقس إليها الطريقة الإبراهيمية لتجد بينهما من التفاوت ما لا يحصى فإن طريقة الخليل (عليه السلام) التجريد المحض، والسفر الأول، والسير إلى الله، لقوله:
إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات:99] والاحتجاب عن الخلق بالحق وترك ما سوى المرتبة الأحدية، لقوله:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء:77] وهي مما يوجب الذهول عن لوازم الإلهية والمظاهر الأسمائية، وطريقة الحبيب (صلى الله عليه وآله) حفظ الأدب مع الله تعالى والمواظبة على العبودية في المواطن كلها، والجمع بين المحبة الذاتية والأسمائية والأثارية وملازمة الحق في جميع الأسفار الأربعة - إليه وفيه وبه منه - وفي قوله تعالى:
وهو معكم أين ما كنتم
[الحديد:4] وهذه المعاني مشروحة مفصلة في مسفوراتنا وما ذكرناه يكفي للمستبصر فيما نحن بصدده إن شاء الله.
فإذا ثبت أن مبدأ الممكنات موجود واجب بالذات ثبت كون الباري قيوما لكونه قائما بذاته مقوما لغيره.
ثم إن المؤثر إما أن يكون مؤثرا على سبيل الجبر والتسخير وإما مؤثرا على سبيل القدرة والاستقلال، لكن الانجبار والتخسير ينافيان الوجوب الذاتي والمبدأية المطلقة، فيتعين أن يكون تأثيره بالقدرة، فأزيل توهم كونه مجبورا في القيومية والإيجاد بقوله: { الحي القيوم } فإن " الحي " معناه - كما سبق " الدراك الفعال " فقوله " الحي " دل على كونه عالما قادرا، وقوله: " القيوم " دل على كونه قائما بذاته ومقاما لكل ما عداه.
وعند من ذهب إلى أن كمال كل شيء حياته - كما مر - فالقيومية لما دلت على كمال الوجود وتأكده كما أشرنا إليه فالقيوم يكون حيا لا محالة.
والنكتة في عد هذين الكلمتين اسما واحدا من أسماء الله تعالى كما صرحوا به وقالوا: إنه من قبيل " بعلبك " - وهي توافقهما في المعنى قوة أو فعلا وتداخلهما في المفهوم كلا أو بعضا، كما في أجزاء المركب الطبيعي.
الفصل الثالث
في أن جميع المعارف الربوبية والمسائل المعتبرة في علم التوحيد تنشعب من هذين الأصلين
منها: إن واجب الوجود بسيط الحقيقة غير مركب من الأجزاء الخارجية، لافتقار كل مركب خارجي إلى أجزائه في الوجود العيني، والافتقار إلى شيء ينافي القيومية.
ولا من الأجزاء العقلية لأن كل ما له جزء عقلي من جنس وفصل فله مهية كلية غير الوجود، فلا يكون قيوما، لافتقاره في الوجود والقيام إلى جاعل يجلعه موجودا قائما، وقد برهن على أن الوجود لا يمكن أن يكون لازما لمهية من المهيات.
ولا من الأجزاء المقدارية وإلا لكان جسما أو جسمانيا، وشيء من الجسم والجسماني لا يمكن أن يكون قيوما، أما الجسماني فلافتقاره إلى الجسم بالحلول فيه، وأما الجسم فلتركبه وافتقاره إلى الأجزاء: إما من الجواهر الفردة كما زعمه المتكلمون، أو من جوهرين هيولى وصورة كما رآه جماعة من الحمكاء، وإما من جوهر وعرض كما رآه آخرون. هذا بحسب المهية والحقيقة وأما بحسب التشخص والعدد، فمن الجسمية واللواحق المشخصة كما ذهب إليه الكل والمفتقر إلى الشيء لا يكون قيوما.
وإذا ثبت أن كل قيوم بسيط الحقيقة ثبت أن " القيوم " لا يكون إلا واحدا وإلا فلو فرض وجودان قيومان لكانا مشتركين في حقيقة الوجود القائم بذاته والاشتراك يوجب كون المشترك فيه أمرا كليا وكون كل من المشتركين ذا مهية كلية، فلم يكن وجودا بحتا قيوما. وهو خرق الفرض لأن كلا منهما بذاته قيوم لا بسبب عارض أو خارج. وأيضا يلزم كون كل منهما مركبا مما به الاشتراك، وما به الامتياز إذ الاشتراك بشيء لا ينفك عن الامتياز بشيء آخر لما مر من أن الوحدة الاتحادية إنما معروضها الكثرة.
ومنها: إن واجب الوجود ليس حالا في شيء ولا عرضا في موضوع ولا صورة في مادة؛ لأن الحال مفتقر إلى المحل، والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوما بذاته.
وليس في جهة من الجهات ولا في حيز من الأحياز، وإلا لكان جسما أو جسمانيا وقد ثبت بطلانهما، وبطلان التالي يوجب بطلان المقدم.
وإذا لم يكن متحيزا لا يكون مشكلا ذا أعضاء - كما توهمه الحنابلة - ولا ذا حركة وسكون لأنهما من عوارض الأجسام.
وإذا لم يكن متحركا لا يكون زمانيا، لأن الزمان كمية الحركة وعددها من جهة التقدم والتأخر فلا يكون في حقه المضي والحال والاستقبال، فلا يتجدد له حال ولا يعتريه انتقال وانفعال.
ومن هاهنا يثبت ما قاله العرفاء الحكماء: " إن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات " إذ لو لم يكن واجب الوجود بحسب حيثية من الحيثيات لكان إمكان وقوعه مستلزما لمحالين:
أحدهما: التجدد والانتقال.
والآخر: التركب من جهتي الفعل والانفعال كما هو مفصل محقق في مقامه.
ومنها: إنه عالم بذاته وذلك لأن العلم هو صورة حاضرة من المعلوم عند من له صلاحية العالمية، والمعلوم إما معلوم بالقوة - وذلك إذا كان صورة مغشوشة بغواش مادية ولواحق جسمانية - وإما معلوم بالفعل - وذلك إذا كان صورة مجردة قائمة بذاتها فالواجب تعالى لما كان قيوما بذاته لم يكن ذاته صورة لمادة فيكون معقولا بالفعل لا بالقوة، وإذا كانت ذاته معقولا بالفعل كان عاقلا بالفعل - إذ إثنينية في ذاته - فيكون العقل والعاقل والمعقول فيه شيئا واحدا، وليس من شرط المعقول أن يكون غير ذات العاقل، ولا من شرط العقال أن يكون غير ذات المعقول، والإضافة بينهما أمر ذهني لا يوجب الاثنينية لا في الذات ولا في الاعتبار.
ومنها: إنه إذا كان قيوما - بمعنى كونه مقوما لغيره ومؤثرا فيما سواه جميعا إما بواسطة أو بغيرها - وكان عالما بذاته، وقد ثبت أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، فوجب أن يكون عالما بجميع الأشياء كلياتها وجزئياتها، معقولاتها ومحسوساتها، إذ ما من شيء إلا ويرتقي إليه تعالى في سلسلة الأسباب، وهو عالم بأسبابها ومبادئها واستعداداتها وارتباطاتها، والنسب الحاصلة فيها وحركاتها وأزمنتها، إلى غير ذلك من الأمور التي تتأدى إليها الأسباب الكلية إلى أن ينتهي إلى وجود الأشخاص الكائنة الفاسدة، فيعلم عين هذه الكائنات بنحو وجودها الجزئي، وتغيرها، وتجددها، وزوالها، وانتقال المواد والموضوعات من صورة شخصية إلى صورة أخرى شخصية، ومن عرض شخصي إلى عرض شخصي آخر، إلى غير ذلك من المعلومات الشخصية والحوادث الجزئية، ومع ذلك فلا يتغير علمه بشيء ولا يخفى عليه خافية في وقت من الأوقات، ولا يغيب عن إداركه ذرة من الذرات، ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات.
ومنها: إن فاعليته للأشياء على سبيل العناية، لأنه لما كان حيا قيوما كان شاعرا بذاته الفاعلة لما سواه، فيعلم (ذاته) من ذاته كيفية صدور الأشياء عنه على الوجه الأفضل قبل حصولها، وذلك لأن ذاته بذاته دون انضمام أمر إليه منبع نظام الخير، فلو لم يعلم ذاته على الوجه قبل إيجاد العالم لم يكن عالما بذاته، فثبت أن وجود الأشياء عنه على هذا النحو الذي هي عليه من ضرورات علمه بذاته، فيتحقق حينئذ القول بالعناية والقضاء، أي وجود العوالم قبل صدورها في العالم الربوبي والصقع الإلهي وجودا على وجه أشرف وأعلى.
ومنها: إنه لما كان بذاته قيوما يلزم أن يكون حدوث العالم وفناؤه أمرا لازما لهويته القاصرة عن قبول فيض الوجود أزلا وأبدا - لا لمنع وتقتير أو تجدد وتغيير من جانبه تعالى - وإلا فالجود مبذول منه والعناية ذاتية له والخير هجيراه، والقصور إنما يكون من القوابل من جهة عدم استعدادها لقبول الوجود على الوجه الأكمل.
ومن هنا يعلم لمية تحقق الشرور في هذا العالم، على أن الشر بالذات ليس إلا أمرا عدميا والعدمي لا يكون معلولا لأمر أصلا، بل يكفي في ثبوته عدم تحقق علة ما هو عدم له.
وأما ما فرعه بعض الفضلاء على قيوميته تعالى من حدوث العالم " ووجه ذلك بأنه لما كان قيوما لكل ما سواه، كان كل ما سواه محدثا، لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقائه لأن تحصيل الحاصل محال فإما حال عدمه أو حال حدوثه، وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل حادثا " محل نظر، إذ قد تبين في مقامه أن الممكن مفتقر إلى العلة، وعلة افتقاره إليها هي من جهة إمكانه، لا من جهة حدوثه شرطا أو شطرا أو استقلالا، والإمكان حاصل للممكن دائما ما دام ذاته، لأنه من لوازمه البينة، بخلاف الحدوث، وإذا كانت العلة دائمة كان المعلول دائما، فالافتقار إلى المرجح ثابت للممكن حين بقائه كما هو ثابت له حين حدوثه، فالعلة مؤثرة في رجحان وجود الممكن على عدمه حدوثا وبقاء.
وأما حديث تحصيل الحاصل: فالحق أن المحدث تحصيله بتحصيل ثان لا بنفس هذا التحصيل، إذ لا محذور فيه، بل العلية لا تنفك عنه، على أن السبب المؤثر في الشيء حدوثا وبقاء أقوى في السببية وأولى باسم السبب مما يكون أثره نفس الحدوث دون الدوام، على أن العلية ليست إلا مجرد الاستتباع في الوجود، كحال النير والضوء الحاصل منه في الأجسام القابلة، لا كنسبة ذات الكاتب وكتابته، بل كنسبة المتكلم وكلامه.
والعجب أن أصحاب هذا الفاضل ممن صرحوا القول بأن الباري سبحانه لو جاز العدم عليه بعد إحداث العالم لما ضر وجود العالم. وهذا غاية الجهل والفساد في النفس، حيث ارتكبوا هذا القول الشنيع والظلم الفظيع، وغفلوا أن المعلول ليس وجوده إلا لمعة فائضة من المبدإ الأعلى، أو ظلا حاصلا عن السبب الأقصى، وإنما حداهم إلى هذا القول القبيح والظلم الصريح أصول فاسدة ارتكبوها تعصبا وعنادا من غير بصيرة كشفية، ولا معرفة حاصلة من أصول صحيحة إلهية مقتبسة من مشكاة نبوية، أو حذرا من الاعتراف بالجهل والقصور في إدارك الأسرار الإيمانية والمعارف الربوبية، وكيفية صدور الأفعال الإلهية على الوجه الذي لا يوجب نقصا ولا نقضا، فإن ذلك مما لا يتيسر إلا برفض الهوى والشهوات، وترك الجاه والترفعات، واختيار الخمول والانزواء، وإيثار الفناء على الشهرة والرياء مع سلامة الفطرة وشدة الذكاء.
ومنها: إنه تعالى إذا كان حيا كان سمعيا بصيرا، لأن الحياة مصححة للإدراك بأنحائه إلا ما يوجب تكثرا أو تجسما، والمصحح للشيء بمعنى الإمكان العامي في عالم الربوبية وعالم التجرد كاشف عن الضرورة اللزومية، إذ لا جهة إمكانية في ذات الواجب لاستلزامها التركيب فيه من الجهتين - الإمكان والوجوب - كما لا وجه هناك للإمكان بمعنى القوة والاستعداد، لأنه من لواحق المادة الجسمانية - كما حقق في مقامه -.
وإنما قلنا: إن السمع والبصر مع كونهما نحوين مخصوصين من الإدراك لا يوجبان نقصا ولا تكثرا لأن تخصصهما ليس باعتبار المحل ليوجب التجسم - تعالى عنه علوا كبيرا - بل إما باعتبار المتعلق - فإن مدرك أحدهما الأصوات والحروف ومدرك الآخر الأضواء والألوان - أو باعتبار نفس الإدراك، فإنهما مما يعتبر فيهما المشاهدة الحضورية والانكاشف الإشراقي النوري، بخلاف مطلق العلم بالمسموعات والمبصرات، إذ لا يقال له السمع ولا البصر ما لم يكن بنحو المشاهدة، فيكون اتصافه تعالى بهذين الوصفين بالحقيقة لا بالمجاز - كما ظن - وأما الجارحة المخصوصة فليست معتبرة في مطلق السمع ولا في مطلق البصر، إذ لو فرض أن الله خلق الحالة الإدراكية البصرية في الجبهة لكان الشخص بصيرا، وكذا الحال في السمع، أو لا ترى أن الإنسان في حالة النوم - وهو عبارة عن عدم استعمال النفس حواسها الظاهرة لكلال وفتور يعرضها - يبصر ويسمع لا بهاتين الجارحتين ولا بغيرها؟ بل بذاتها الحية السميعة البصيرة؟ فإن للنفس في ذاتها سمعا، وبصرا، وذوقا، وشما، ولمسا، ويدا باطنة، ورجلا ماشية، وهذه الحواس الظاهرة الجسمانية حجاب لها عن استعمال مشاعرها الداخلة، وقواها وجنودها الباطنة، وعند رفض هذه العوائق - إما بالموت الإرادي أو الطبيعي - تتحقق بذاتها وتتخلص في استعمال آلاتها الذاتية وجنودها الباطنية.
وإليه أشير في قوله تعالى:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22] فاجعل النفس الإنسانية مقياسا لك في معرفة كثير من الصفات الإلهية لأنه سبحانه خلقها لتكون معرفتها ذاتا وصفاتا وأفعالا مرقاة لمعرفة باريها كذلك.
فإن قلت: فلماذا لم يستعمل في حقه تعالى أنه شام أو ذائق أو لامس؟
قلنا: لإشعار هذه الثلاثة بالتجسيم دون الحالتين الأوليين، لأنهما ألطف الحواس، ومحسوسهما ألطف المحسوسات - كما ذكره بعض الحكماء الإسلاميين في رسالة له (قدس سره) -.
ومنها: إن كونه قيوما يوجب كونه حكيما جوادا غنيا، لأن حكمته إيجاد الموجودات على أحكم وجه وأتقنه بحيث يترتب عليها المنافع ويندفع عنها المضار، ولو لم يكن حكيما لكان في إيجاده للأشياء نوع خلل أو قصور أو نقصان، فلم يكن قيوما بذاته إذ يتصور قيوم آخر غيره لم يكن فعله ذا خلل وآفة - هذا خلف -.
فثبت أنه حكيم في أفعاله على الوجه المذكور، وهو إنما ينتظم بإبداعه في كل شيء عشقا جبليا لما هو كامل منها لكماله - ليتحفظ به كماله - وشوقا غريزيا لما هو ناقص منها إلى كماله ليتحرك نحو كماله الممكن في حقه ويجبر بها نقصه، ولهذا قيل: " لولا عشق العالي لانطمس السافل ".
و " جوده " تعالى عبارة عن إعطائه لكل شيء ما يليق به من غير غرض ولا عوض، سواء كان عينا أو ثناءا أو صيتا أو فرحا، وبالجملة " الجواد الحقيقي " من لا يكون إعطاؤه شيئا لأجل أولوية حاصلة من العطاء عائدة إلى ذاته، وإلا لم يكن إعطاؤه جودا محضا، بل معاملة واستفاضة، فلم يكن تاما في ذاته، لأنه عادم كمال يجبر بذلك الإعطاء نقصانه، وكلما كان كذلك لم يكن قيوما بذاته وإلا لم يقتصر في تحصيل كماله إلى وسط، فحيث يكون كمال بلا نقص، وتمام بلا قصور، وفعل بلا قوة، كان فعله منبعثا عن ذاته بذاته، وكرمه ناشئا عن حاق حقيقيته غير معلل لغيره ولا مستند إلى ما سواه، فيكون فعله جودا حقيقيا.
وإذا ثبت أنه جواد حقيقي لم يكن في ذاته ولا في فعله مفتقرا إلى غيره، فيكون غنيا من جميع الوجوه، وكل ما سواه لإمكانه مفتقر إليه، كما في قوله تعالى:
والله الغني وأنتم الفقرآء
[محمد:38].
ومنها: إنه لما كان قيوما كان مالكا وملكا للموجودات الممكنة، وتكون العوالم كلها ملكه لقوله تعالى:
وله الملك
[الأنعام:73]. ولقوله:
ولله ملك السماوات والأرض
[آل عمران:189] وذلك لأن القيوم - بمعنى المقوم لما سواه ذاتا ووجودا - يلزمه أن يكون له وجودات الأشياء وذواتها، لأن المعلول - بما هو معلول - إنما وجوده لعلته الموجبة له - وقد حققنا ذلك بما لا مزيد عليه في موضعه - و " المالك للشيء " ما له ارتباط ما إليه، و " الملك للشيء " ما له تصرف ما فيه، فإذا كانت ذات كل شيء للقيوم تعالى كان هو المالك والملك بالحقيقة.
وأما التخصيص المفهوم من قوله تعالى:
ملك يوم الدين
[الفاتحة:4] ففيه وجه وجيه يعلمه الراسخون في العلم، ولا يمكن لهم كشفه للمحجوبين مع أن ذكره يؤدي إلى شنعة الجهال المتشبهين بأهل العلم، وكذلك القياس في إثبات سائر الصفات الإلهية والأحكام الوجوبية، فإنك إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي كشفنا القناع عن وجهها وأحسنت إعمال رويتك؛ فيها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلا بوسيلة كونه تعالى حيا قيوما، فلا جرم لي ببعيد القول بأن الاسم الأعظم هو هذا.
وأما سائر الآيات الإلهية كقوله:
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو
[البقرة:163] وقوله:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران:18] ففيه بيان للتوحيد بمعنى نفي الضد والند.
وأما قوله:
قل هو الله أحد
[الإخلاص:1] ففيه أيضا بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند، وبمعنى أن حقيقته غير متألفة من الأجزاء.
وأما قوله:
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض
[الأعراف:54] ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان الوحدة الحقيقية.
وأما قوله: " الحي القيوم " فإنه يدل على الكل، لأن كونه " قيوما يقتضي أن يكون قائما بذاته وأن يكون مقوما لغيره، وكونه قائما بذاته يقتضي اتصافه بالوحدة الحقيقية الموجبة لنفي الكثرة، وذلك يقتضي الوحدة الانفرادية الموجبة لنفي الضد والند، ويقتضي نفي التحيز والحلول ونفي الجهة والإشارة الحسية، وأيضا كونه قيوما بمعنى كونه مقوما لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسما كان أو نفسا، ويقتضي إسناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر.
فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى، واستوجب أن يكون هذا الاسم من أعظم أسماء الله تعالى، ويشهد له ورود الخبر بأن الاسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران، وقد وجهنا القول وبينا السر سابقا في كون هذا الاسم أعظم الأسماء من وجه، وفي كون اسم " الله " أعظم من وجه آخر، وفي كون كل من الأسماء عظيما من وجه آخر عند طائفة، فتذكره تعرف أنه إذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين انكشف للعبد عند تجلي اسمه " الحي " معاني جميع أسمائه وصفاته، وعند تجلي اسمه " القيوم " فناء جميع المخلوقات إذا كان قيامهم بقيومية الحق لا بأنفسهم.
وإذا جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا الحي القيوم، فنفى التعدد وبقيت الوحدة، فمن ذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية فقد ذكره باسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، لأنه ينطق حينئذ بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه، لكونه مطابقا لما في القضاء، فأما الذكر عند غيبته من عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم كما سئل أبو يزيد عن الاسم الأعظم، فقال: " الاسم الأعظم ليس له حد محدود، لكن فرغ قلبك لوحدانيته، فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت ".
المقالة الرابعة
فيما يتعلق بقوله تعالى { لا تأخذه سنة ولا نوم }
وهي مقاصد:
المقصد الأول
في انتظامه بما سبق
وهو أنه تعالى لما بين أنه حي أراد أن يؤكد ذلك بإبطال نقيضه مطلقا، وهو " عدم القيام بتدبير الخلق على الوجه الأتم الأحكم " وإنما يثبت ذلك بملاحظة أن انتفاء العام بانتفاء جميع أفراده وتحققه بتحقق فرد ما، لكن الأمر الكلي إذا كان مقولا بالتشكيك على أفراده المتفاوتة بالكمال والنقص، فإن كان أمرا وجوديا فوجود الفرد الشديد عن الفاعل كاشف عن إمكان وجود النحو الضعيف عنه واقتداره عليه بالطريق الأولى، لأنه أهون عليه وأسهل، كما قال تعالى في باب إعادة الخلق يوم القيامة:
وهو أهون عليه
[الروم:27] لأن نفس الإيجاد مما يقبل الأشد والأضعف كالوجود، وإيجاد الشيء ثانيا أسهل على الفاعل من إيجاده أولا، فاقتداره على الإبداء كاشف عن اقتداره على الإعادة.
وهذا بخلاف تحقق الفرد الضعيف، فإنه ليس دليللا على تحقق الفرد الشديد، فإن تحقق إعطاء الدرهم من زيد لا يدل على إمكان إعطاء الصرة منه.
وفي جانب السلب بعكس ذلك، إذ سلب الفرد الضعيف عن شيء يدل على سلب الفرد القوي أيضا بدون عكس، فإن حرمة الأف للأبوين دال على حرمة الضرب والقتل دون العكس.
وسلب القيومية عن الشيء الواحد يتصور على أنحاء: إما برفع ذاته - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وإما برفع أصل صفة الإيجاد والإدامة، وإما بتحققها مع الفتور. ومراتب الفتور في الفاعلية أيضا مختلفة كمالا ونقصا، وأضعف الجميع السنة، ثم النوم، لأن الفتور الحاصل بفساد أسباب الفاعلية كصفة القدرة، أو الإرادة، أو العطوفة، أو الرحمة، أو العلم برجحان الفعل، وغير ذلك أقوى وأشد.
ثم إن مراتب كل من السنة والنوم مختلفة كما وكيفا، فإن السنة في السنة أشد في بابها من السنة في الشهر، وكذا النوم في اليوم أشد في بابه من النوم في الساعة، وأضعف الجميع " سنة ما " و " نوم ما " على التنكير الإبهامي، إذ يكفي في تحققه لحظة ما وأقل منها، فإذا انتفى هذا الفرد الضعيف عنه تعالى فلا بد أن يكون غيره من الأفراد منتفية، وبانتفاء الجميع تنتفي طبيعة الأمر العدمي، أعني رفع القيومية، هذا الرفع يتحقق قيوميته تعالى، لأن رفع الرفع يسلتزم الإيجاب، فقال سبحانه: { لا تأخذه سنة ولا نوم } ليكون تأكيدا لقوله: { الحي القيوم }.
والمعنى أنه تعالى لا يفتر عن تدبير الخلق لحظة، وإلا لتساقطت السماوات والكواكب وفسدت الأرض ومن عليها وفيها، وبطلت الأزمنة والفصول، وفنت المواد والأصول، ولا يمكن بعده إيجاد الموجودات، لأن الحدوث التكويني من غير مادة مستحيل، وإعادة المعدوم بالمرة ممتنع، فالفتور في تدبير الخلق ولو لحظة واحدة يوجب انسداد باب الصنع والإيجاد للموجود وقطع الفيض والكرم والجود - تعالى عن ذلك علوا كبيرا -.
فإن قلت: فإذا كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم، فإذا قال " لا تأخذه سنة " فقد دل على أنه لا يأخذه نوم بطريق أولى، فكان ذكر النوم بعده تكرارا؟
قلنا: تقدير الكلام لا تأخذه سنة، فضلا عن أن يأخذه النوم.
المقصد الثاني
في معنى السنة والنوم
أما " السنة " فهو فتور وكلال ما في الحواس يتقدم النوم يسمى " النعاس " و " النوم " ترك استعمال النفس حواسها الظاهرة لأجل صعود بخارات غليظة من المعدة إلى الدماغ.
وإنما قيدنا بترك الاستعمال المذكور وعللناه بالصعود المذكور لئلا يصدق على الموت، فإن النوم والموت أخوان مشتركان في عدم استعمال النفس الحواس والآلات الظاهرة التي بها يقع الروح في هذا العالم، إلا أنهما يختلفان في أن ترك الاستعمال المذكور في أحدهما - وهو النوم - إنما يكون لعارض خارجي يمنع عن ذلك مع بقاء الاستعداد والتهيؤ في الحواس، بمنزلة الكاتب الذي أدخلت يده في كمه أو قيدت بسلسلة، وفي الآخر - وهو الموت - إنما يكون لأمر طبيعي لازم، هو بطلان الاستعداد رأسا، بمنزلة الكاتب الذي زمنت يده وخرجت عن أن يكون لها صلاحية الكتابة، فإن معنى " الموت " في الحقيقة زمانه البدن كله، وأنت تعلم أن زمانة اليد خروجها عن طاعة النفس مع وجود شخصها، لبطلان القوة التي بواسطتها تستعمل اليد.
فافهم إن كنت من أهله أن الموت زمانة مطلقة في جميع الأعضاء يبطلان قواها، فيسلب الموت منك يدك ورجلك وعينك وسائر وحواسك وأنت باق أعني حقيقتك التي بها أنت أنت، فإنك الآن الإنسان الذي كنت في الصبا ولعله لم يبق منك من تلك الأجسام شيء، بل انحلت كلها وحصل بالغذاء بدلها وأنت أنت، وجسدك غير ذلك الجسد.
فالحاصل أن للنفس في استعمالها القوى والحواس الظاهرة حالات أربعة: قوة، واستعداد، وفعلية، وبطلان.
فالقوة: كما للجنين قبل خروجه إلى الدنيا.
والاستعداد: كما للنائم والسكران والمغمى عليه.
والفعلية: كما لليقظان.
والبطلان: كما للميت.
واعلم أن النوم والموت مشتركان أيضا في بقاء المدارك الباطنية للنفس الناطقة - كالعقل والوهم والخيال -.
وتحقيق ذلك أن العوالم بكثرتها ثلاثة، والمدارك الإنسانية على شجونها ثلاثة، والإنسان بحسب غلبة كل واحد منها يقع في عالم من هذه العوالم والنشآت، فبالحس يقع في العالم الدنيوي، وبه ينال الصور الحسية الكائنة الفاسدة الملذة والمؤلمة بسحب الملاءمة والمنافرة، وبالقوة الباطنية الجزئية يقع في النشأة الثانية التي هي عالم الصور الأخروية المنقسمة إلى الجنة والجحيم، وبالقوة الباطنة العقلية يقع في النشأة الثالثة التي هي عالم الصور العقلية الإلهية الأفلاطونية.
فالناس أصناف ثلاثة: أهل الدنيا وهم أهل الحس كالأنعام والبهائم أو أضل سبيلا، كما قال تعالى
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179] وأهل الآخرة وهم الصلحاء وأهل الاعتقادات التقليدية الظنية الخيالية، وأهل الله وهم العرفاء بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر كما وقع في الحديث:
" الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل الله تعالى ".
ولهذه المعاني بيانات علمية ذكرناها في تحقيق الآيات المشيرة إلى أحوال القيامة والغرض هاهنا بيان ماهية النوم ليعرف بعد ذلك أنها مما يستحيل على إله العالم.
المقصد الثالث
في بيان استحالة السنة والنوم على الله تعالى بوجه حكمي
إعلم أن إقامة السماوات والأرض من الله سبحانه وتحريكه وتسكينه القوى الفعالة السماوية والمنفعلة الأرضية بجميع ما فيها، ليست كاستعمال النفس للبدن وقواه المحركة والمدركة الحساسة، لأنك قد علمت بالبرهان الحكمي أن نسبة الحق الأول إلى العالم ليست كنسبة الروح إلى البدن ونحو ذلك.
وبعد ذلك فنقول: إن الفتور العارض للنفس في استعمالها الحواس والقوى - سواء كان في النوم أو غيره - إنما هو لتعصي جوهر البدن وقواه عن طاعة النفس، فإنها لها بمنزلة آلات لذوي الصنايع، فتكون لها طبائع متخالفة لجوهر النفس في الذات والاقتضاء، وإنما تجبرها النفس متسعملة إياها في مقاصدها الإرادية، وهي مستدعية للخلاص عنها إلى ما يلائم طبائعها من الميل إلى أحيازها الطبيعية بحسب الجزء الغالب على سمت خط واحد مستقيم، ثم السكون بعد حصولها فيها، أو اللصوق بوجه الأرض إن لم يتيسر الوصول إلى آخر ما يقتضيها الثقل الطبيعي من الجزئين الكثيفين الغالبين في بدن الإنسان والحيوان، وكذلك حكم سائر القوى المتعلقة بأعضاء البدن.
وبالجملة التخالف والتصادم الواقعان بين الحركات والأفعال الإرادية النفسانية الواقعة من النفس في الأغراض الشهوية والغضبية والفكرية، وبين الحركات والأفعال الطبيعية من القوى الأسطقسية مما يوجب تعصي البدن والحواس وخروجها عن طاعة النفس، إذ البدن العنصري ليس معلولا للنفس - كما برهن عليه في علم النفس - حتى يكون موافقا لها في جميع الوجوه والحيثيات فلا يعرض له كلال ولا للنفس ملال، بل بينهما علاقة عرضية ستزول - أما بعضها فبالنوم، وأما كلها فبالموت.
فإذا تقرر هذا وظهر أن منشأ النوم كلال يعرض للبدن وملال يعرض للنفس بما هي نفس، أي مستعمل له وقواه لأجل تخالفهما في الطبيعة والذات، وليس للباري بالقياس إلى العالم هذه الحالة، فإن وجود كل ما في العالم تابع لوجود الحق الأول، ليس فيها جهة تباين سوى جهة المخلوقية والعبودية والطاعة، فإن وجودها من الباري كوجود الظل من ذي الظل - لو كان لذي الظل علم بذاته الذي هو نفس ذاته وعلم بوجود ظله الحاصل من علمه بذاته -.
ولا شبهة في أنه إذا كان وجود السماوات والأرض وما فيهما مع ما يلزمهما من الحركات وغيرها عن الباري، كوجود الظل من الشخص ووجود النداوة من البحر، لم يتصور عروض الكلال والكلفة والتعب للباري جلت قدرته في صدورها عنه تعالى، كما لا يتصور عروض الوهن والكلال للشخص بثبوت الظل عنه، وإذا لم يتصور الكلال والتعب في حقه، لم يتصور السنة والنوم لأنهما من توابع الفتور الحاصل لمبدإ الحركة والإحساس.
وهاهنا مباحث أخرى متعقلة ببيان حالات تعرض للقوى الفعالة النفسانية وهي التعب والملال والألم وغيرها، وبيان التفرقة فيها وتحقيق القول في استحالة عروضها له سبحانه بوجه حكمي لمي ينكشف به على السالك أن ساحة العظمة والكبرياء أرفع من أن يعتريها شيء من هذه الانفعالات والتغيرات، أخرنا ذكرها إلى أن يحين حينها فيما سيأتي إن شاء الله من المعاني المتعلقة بقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما } لأنهما ألصق وأربط بذلك المقام فانتظر مفتشا.
ومن الدلائل على نفي السنة والنوم والسهو والنسيان عن الله تعالى واستحالة عروضها له، أن هذه المعاني إما عبارات عن أعدام العلم أو عن أضداد العلم وعلى التقديرين فجواز طريانها عليه وعروضها له يقتضي جواز زوال علم الله تعالى، فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالما ويصح أن لا يكون عالما فحينئذ يفتقر في حصول صفة العلم له تعالى إلى فاعل يجعله عالما.
وننقل الكلام إلى ذلك الفاعل هل هو عالم من جميع الوجوه في جيمع الأوقات أو لا؟ فإن كان الأول فالباري جل ذكره هو بعينه ذلك الفاعل الذي لا يجوز عليه الشين والنقص، إذ لا نعني بالباري إلا ما يجب وجوده ويجب كمال وجوده، ويستحيل عليه عدم الذات وعدم كمال الذات وقد فرضنا غيره، وإن كان الثاني فننقل الكلام إلى فاعل آخر يخرجه عن القوة إلى الفعل، وهكذا إلى أن يدور أو يتسلسل وهما محالان.
فلا بد وأن يكون مبدأ سلسلة العلماء عالما يكون علمه بالفعل من جميع الوجوه، ولا يكون فيه جهة غير جهة العقل (الفعل - ن) بالفعل، فيكون عاقلا في جيمع الأوقات بجميع الموجودات من جميع الحيثيات، وإذا كان كذلك كان النوم والسهو والغفلة محالا عليه سبحانه.
فما أبعد من الصواب قول بعض المتفلسفين الذاهبين إلى نفي علمه تعالى بالمتغيرات ظنا منهم أن العلم بالمتغيرات والزمانيات من حيث كونها متغيرة زمانية لا يمكن إلا بآلة جسمانية، وأبعد منه اعتذارهم عن هذا الظن الفاسد بأنه كما أن كثيرا من الأفاعيل نقص على الباري تعالى فكذلك كثير من التعقلات.
وأنت - إن كنت من أهل المجاهدة العقلية مع كفرة أعداء الله تعالى من القوى الوهمية والخيالية الجاحدة للحق، المتمردة عن طاعة الشريعة العقلية والتدين بدين الله وطريق التوحيد الخاصي - تعلم بصفاء الذهن وسلامة الفطرة أن استثناء شيء من الجزئيات بعد قيام البرهان على قاعدة كلية عقلية في العقليات مما لا سبيل إليه.
فإذا ثبت أن الباري فاعل الكل وعلة الجميع - ومن قوانينهم المسلمة والمبرهن عليها أن العلم التام بالعلة التامة يوجب العلم التام بالمعلول - فإذا تحقق علمه تعالى بذاته، وتحقق كونه سببا للجميع، وتحقق كونه بالفعل من جميع الوجوه من غير أن يكون فيه جهة قوة واستعداد وانفعال لزم كونه عالما بجميع الأشياء.
وأما أن العلم بالمتغير - من حيث كونه متغيرا - متغير فهو ممنوع: أما إذا كان حصوليا فلأنه يمكن تعلق العلم بالمتغير مع تغيره وحدوثه وتجدده إذا لم يكن مستفادا من ذلك المتغير، بل حاصلا من جهة الإحاطة بأسبابه وعلله المؤدية إليه، كل ذلك على الوجه الكلي، وأما إذا كان حضوريا فلأن مرجعه إلى إضافة نورية إشراقية من العالم بالقياس إلى المعلوم، والتغير في الإضافات - على فرض وقوعه - ولا يوجب التغير على الذات.
لا يقال: منشأ نفي العلم بالجزئيات المتغيرة عنه تعالى منهم أنهم ذهبوا إلى أن مناط التشخص هو كون الشيء محسوسا، فما لا يكون إدراكه بالحس لا يعلم الأمر الشخصي بما هو شخصي.
لأنا نقول: هذا أيضا لا يستلزم ما ذكرتم، إذ كون المحسوسية مناط الجزئية لا يوجب أن لا يكون ذات المحسوس بوصف محسوسيته وشخصيته مدركا لغير الجوهر الحاس، فكما أن المحسوس بخصوصه قد يكون مدركا بالإدراك الخيالي - مع أن التخيل غير الإحساس - فكذلك قد يكون مدركا بالإدراك العقلي، والحاصل أن الكلية والجزئية على هذا الأصل صفتان للإدراك لا للمدرك، والتفاوت في الإدراك لا يوجب التفاوت في المدرك.
فالواجب الحق يعلم جميع الكليات والجزئيات بعلم يليق بشأنه من غير فتور ، وسهو، ونوم، ونسيان تعالى الله العزيز المنان عما يقوله أهل الزور والبهتان، والبغي والطغيان.
المقصد الرابع
في ذكر حكاية مروية في هذا الباب
روي
" عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه حكى عن موسى بن عمران - على نبينا وآله وعليه السلام - أنه وقع في نفسه: " هل ينام سبحانه أم لا؟ وقيل: سأل الملائكة: " هل ينام ربنا؟ " فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام، ثم قال: " خذ بيدك قارورتين مملوئتين في كل يد واحدة منهما " وأمره بالاحتفاظ بهما، فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فضرب إحدى القارورتين على الأخرى فانكسرتا، فضرب الله تعالى ذلك مثلا له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرضين ".
واعلم أن مثل هذا لا يجوز أن ينسب إلى الأنبياء (عليهم السلام) سيما أولوا العزم من الرسل مثل موسى (عليه السلام) خصوصا على مذهب أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - حيث لا يجوزون صدور الذنب منهم - صغيرا كان أو كبيرا - وأي ذنب أكبر من الجهل بالصفات التي هي من لوازم الإلهية ومن ضرورات الواجبية؟ وهي العلم التام بمبدعاته من غير خلل وفتور، ولا سهو ولا قصور.
ومن جوز النوم عليه سبحانه أو كان شاكا في استحالته كان كافرا، فيكف يجوز نسبة هذا إلى موسى (عيله السلام)، فهذه الرواية إن صحت وجب أن تنسب إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية، فإن الجسمانية كانت غالبة على قومه بحيث لم يمكنهم تصور أمر مفارق الذات والصفة عن المواد الجسمية لا في الممكن ولا في الواجب، كالحنابلة من أمة نبينا (صلى الله عليه وآله) الذين جعلوا إلههم جسما مستويا على العرش، والأشاعرة وإن كانوا أرفع قليلا من هؤلاء إلا أنهم يشاركونهم في نفي التجرد وإثبات التحيز لما سوى الواجب تعالى، وهو عين الجهالة أيضا، فإن كون الواحد نصف الإثنين ليس مفتقرا في تحققه لا هو ولا مفرداته إلى تحيز وتجسم، والداعي لهم إلى نفي المجردات زعمهم أن تحقق أمر مجرد في غير الواجب تعالى يوجب للواجب شريكا، ولم يعلموا أن التجرد سلب محض والاشتراك في السلوب لا يوجب الاشتراك في معنى ذاتي أو عرضي، فيلزم التركيب أو النقص في حقه تعالى كما مر في بيان توحيده تعالى في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله.
على أنك قد علمت مما قررنا أن السلوب الصادقة عليه تعالى كلها ترجع إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان، وهو المصحح لجميع السلوب، فسلب المادة - أي مفهوم التجرد - ليس من صفات الله تعالى بالذات، بل من الضرورات اللازمة من سلب الإمكان عنه (عليه - ن) والاشتراك في اللوازم العامة لا يوجب الاشتراك في الملزومات ولا يلزم اشتراك الواجب والممكن في الشيئية، والمفهومية، والإمكان العام اشتراكهما في الذات، فيسد بذلك إثبات الواجب والعلم به تعالى للزوم الاشتراك بين الواجب والممكن في الثبوت والمعلومية.
المقالة الخامسة
فيما يتعلق بقوله سبحانه: { له ما في السماوات وما في الأرض }
وفيه مطالب:
المطلب الأول
في النظم
لما بين كونه قيوما وأكده بنفي ما ينافيه، أراد أن يترتب عليه ما يتفرع عليه من وجود آثار القيومية وتوابعها، وقد تقرر في علم الميزان أنه إذا أريد تعريف المبادئ البسيطة والقوى الفعالة، تعرف بأفاعيلها ولوازمها وآثارها، وقد صرح بعض رؤساء المنطقيين، بأن تعريف الشيء البسيط بآثاره المنبعثة عن نفس ذاته الناشئة عن حاق حقيقته ليس بأقل إيضاحا وكشفا من التعريف بالحد للمركب، لإيصال هذا النحو من الخواص إلى حاق خصوصية ما هو خاصة له، كإيصال الحد إلى حاق حقيقة المحدود.
مثلا: تعريف الجوهر النطقي - أي النفس الإنسانية - ب " إدراك الكليات " ، وتعريف فصل الحيوان - أي النفس الحيوانية - ب " الحساس " ، وتعريف الهيولى ب " المستعد " وأمثال ذلك ليست أقل فائدة من التحديد، إذ كما أن مفهوم الحد منتزع من نفس ذات المحدود وأثر حاصل منها، كذلك هذه المفهومات حكايات لذوات تلك القوى والمبادئ الفصلية والجنسية.
فإذا تقرر هذا الكلام أقول: كنه ذات الواجب وهويته الأحدية وإن لم يكن معلوما لأحد غيره ولا يمكن تعريفه أصلا - لا بالحد لعدم تركبه، ولا بالخواص والآثار إذ لا شيء أجل نورية وانكشافا منه حتى يصير وسيلة لانكشاف ذاته إذ المعرف للشيء يجب أن يكون أجلى منه، وسبب خفائه غاية وضوحه وانكاشفه - لكن لنا سبيل إلى معرفة صفاته المختصة، مثل: الإلهية، والقيومية، والخالقية المطلقة لأنها مفهومات عامة كلية متعلقة بذوات الممكنات وهياكل الماهيات التي هي بمنزلة صفحات وسطوح مصيقلة وقعت عليها أشعة هذه الصفات من النور الحقيقي والنير الإلهي الذي هو نور السماوات والأرض.
فللعقل أن يتصورها ويدل عليها بألفاظ موضوعة لمعانيها الحاضرة في الذهن، وإذا تصورها القعل بكنهها فقد تصور الذات الأحدية من هذا الوجه لأنها صفات تنشأ من نفس ذات الحق وتنبعث من حاق حقيقتها، لا باعتبار قوة أخرى قائمة بها.
وهذا التصور من العقل المكحل بنور الهداية والحكمة لهذه الصفات، ومن استلزام تصور ما ينبعث - هي - عنه وينشىء من حيث كونه مبدأ لها وينبوعها، لثبوتها لما ذكرنا من أن القوى تعرف بأفاعيلها وآثارها المنبعثة عن صرف ذاتها إلا أن ذلك لا يستوجب أن يمكن لأحد أن يعرف الذات الأحدية مع قطع النظر عن النسب والإضافات، لأن تعقل الحق الأول باعتبار ذاته بذاته مستحيل قد أقيمت على استحالته البراهين القطعية، وأما تعقله باعتبار أنه قيوم للعالم، وأنه مبدأ الموجودات، وخالق ما في السماوات والأرض، أو أنه مسلوب الكثرة والاشتراك، واحد أحدي، فللعقل سبيل إلى الاكتناه بهذه المعاني.
فحينئذ نقول: قوله سبحانه: { له ما في السماوات وما في الأرض } وقع تأكيدا وتعريفا للحي القيوم، لأن معنى " القيوم " إذا كان مقوم الممكنات وجاعل الماهيات وهي منحصرة في ما في السماوات وما في الأرض - لأن الأول: عبارة عن الأجرام البسيطة المستديرة الأشكال والمستديرة الحركات الشوقية الإرادية، مع نفوسها المحركة القريبة المتشوقة إلى نيل الكمال، المشتهية إلى المبدإ الفعال، وعقولها المتحركة البعيدة المعشوقة لنفوسها تحريكا مقدسا عن المباشرة والانفعال، منزها عن التجدد والانتقال.
وأما الثاني: فهو عبارة عن العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة مع صورها ونفوسها الثلاثة الأرضية، أعني النباتية والحيوانية والإنسانية - فإذا لم تعرف إضافة هذه الأشياء إليه تعالى لم يعرف كونه قيوما.
فكما أن من لم يعرف ذاته تعالى من جهة الإلهية والقيومية فكأنه لم يعرف شيئا من العالم الإمكاني لما تقرر في الميزان أن العلم التام بذي السبب لا يحصل إلا من جهة العلم بسببه، فكذا العكس، فإن من لم يعرف شيئا من العالم الإمكاني، فكأنه لم يعرف الإله القيوم أصلا.
ومن هنا يستتم ما ذكره ابن عربي في الفص الإبراهيمي: " إن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أن الله يعرف من غير نظر في العالم، وهذا غلط، نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه فهو الدليل عليه " انتهى.
أقول: يشبه أن يكون النزاع بينه وبينهم لفظيا، إذ لا يبعد أن يكون مرادهم من اسم الله تلك الذات القديمة الأحدية مع قطع النظر عن صفة الألوهية، ولا شبهة للجميع في أن معرفة ذاته تعالى - من حيث ذاته المجردة عن كل نعت وصفة - لا تتعلق بمعرفة العالم، لكن الخلاف في أن حقيقة الواجب سبحانه أهي نفس الوجود القائم بذاته بشرط سلب الزوائد والقيود الإمكانية عنه؟ أو الوجود المطلق المقدس عن الإطلاق والتقييد جميعا؟
فالأول: هو مذهب الحكماء.
والثاني: هو مذهب ابن عربي ومتابعيه، ولهذا ذكر متصلا بكلام نقلناه منه قوله: " ثم بعد هذا في ثاني الحال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته، وأن العالم ليس إلا تجليه في صورة أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، وأنه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها، وهذا بعد العلم به منا أنه إله لنا ".
المطلب الثاني
في تحقيق الإضافة المستفادة من حرف " اللام " في قوله " له "
قيل: المراد من هذه الإضافة الملك والخلق، وتقريره أنه لما كان واجب الوجود واحدا، كان ما عداه ممكن الوجود لذاته، وكل ممكن الوجود فله مؤثر، وكل مؤثر فهو معلول، محدث بإحداثه، مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد.
أقول: المستفاد من هذا الكلام الوجود الارتباطي المنسوب إلى غيره، والوجود المنسوب إلى غيره قسمان:
أحدهما: أن يكون الموصوف بذلك الوجود نفس ذات الوجود.
والآخر: أن يكون ماهية غير الوجود، وعلى التقديرين هذا الوجود النسبي إما عين وجود الشيء في نفسه أم غيره فهاهنا أربعة احتمالات:
أحدها: الوجود المضاف الذي هو غير زائد على نفس الشيء الموجود ومع ذلك وجود النسبي عين وجوده لأمر آخر وهذا كوجود الممكنات عند جمهور الحكماء المنسوب إلى ماهياتها.
والثاني: الوجود المضاف الزائد على ماهية الشيء، المتحد مع وجوده في نفسه كوجود الأعراض والصور لموضوعاتها وموادها.
قال بعض الحكماء: وجود الأعراض في أنفسها هو وجوداتها لموضوعاتها سوى العرض الذي هو الوجود، فإنه لما كان مخالفا لها لم يصح أن يقال: " إن وجوده في موضوعه هو وجوده في نفسه " بمعنى أن للوجود وجودا كما يكون للبياض وجودا، بل بمعنى أن وجوده في موضوعه نفس وجود موضوعه، وغيره من الأعراض وجودها في موضوعه وجود ذلك الغير أعني العرض.
والثالث: الوجود المضاف الذي لا يزيد على الماهية، ومع هذا وجوده النسبي عين وجوده في نفسه، هذا كوجود الواجب المضاف إلى الممكنات بالإلهية والقيومية.
الرابع: الوجود المضاف الزائد على الشيء المغاير لوجوده في نفسه، كوجود الفرس للإنسان.
فإذا تقرر هذا فاعلم أن العقلاء اختلقوا في أن موجودية المعلول بالقياس إلى جاعله التام - كموجودية ما في السماوات وما في الأرض له تعالى - من أي قسم من هذه الأقسام الأربعة؟
فقوم من العقلاء ذهبوا إلى أنه من قبيل القسم الثالث، لما شاهدوا بحسب الظاهر أن لها وجودا منفصلا عن وجود باريها، فهي موجودات مستقلة في الموجودية الزائدة على ذواتها الإمكانية - سواء كانت جواهر أو أعراضا - ولها نسبة إلى الباري جل اسمه بالمخلوقية، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور.
وذهب قوم إلى أن وجودها له تعالى كوجود الأعراض لموضوعاتها، وهم جماعة من مقلدة أهل العرفان، والمتشبهين بالصوفية، المغترين بظواهر عباراتهم - مثل أن نسبة الحوادث إليه تعالى كنسبة الأمواج للبحر - فتوهموا أن إله العالم مادة الممكنات، جهلا بأن مادة الشيء أمر ناقص بالقوة، وجهلا بأن الفاعل للشيء لا يمكن أن يكون قابلا مستعدا له.
وقوم آخرون ذهبوا إلى أن نسبة وجودات الممكنات إلى ذات الحق تعالى من قبيل القسم الأول - وهم الراسخون في العلم من الحكماء، القائلين بأن للموجودات الإمكانية تحصلا بحسب الخارج، غير مستفاد من تحصل الماهيات بل الماهية تحتاج في تحصلها وتحققها إلى الوجود، وكل وجود يتقوم بوجود علته الجاعلة إياه جعلا بسيطا، فيكون كونها في نفسها هو عين فيضانها عن جاعلها الذي هو الوجود النسبي، وتحقيق ذلك يحتاج إلى بسط في الكلام في صفاء تام، ولطف شديد في المدارك والأفهام.
المطلب الثالث
في كلمة " ما "
إعلم أن " ما " هاهنا هي الموصولة، والفرق بينها وبين " من " سواء كانتا موصولتين أو استفهاميتين أن " من " إنما تستعمل في ذوي العقول دون " ما " ولكن بينهما فرق آخر عندما استعملتا استفهاميتين: وهو أن أحدهما سؤال عن ماهية الشيء وحقيقته، والآخر سؤال عن هويته ونحو وجوده.
وأما النكتة في إيراد لفظ " ما " في قوله: { له ما في السماوات وما في الأرض } دون " من " في الموضعين، مع أن الموجود في كل منهما مشتمل على ذوي العقول وغير ذوي العقول هي أنه لما كان الغرض نسبة الموجودات إليه سبحانه بالمخلوقية والمملوكية، وكان الغالب فيها ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكل، فأطلق القول وعبر عن الجميع بلفظ " ما " تنبيها على أن المراد من هذه الإضافة مجرد المخلوقية.
هذا ما قيل، لكن في الحكم بأن الغالب في السماويات ما لا يعقل محل نظر وكذا في السماويات والأرضيات جميعا فإن الأفلاك وما فيها أحياء ناطقون مسبحون لربهم عند الحكماء الإسلاميين، وما وقع في الحديث أنه
" ليس فيها موضع قدم إلا ويوجد فيه ملك ساجد أو راكع "
يؤيد ذلك.
وفي بعض خطب أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - من كتاب نهج البلاغة تصريحات بليغة ناصة على كون الأفلاك وما فيها من الملائكة مسبحون لربهم وساجدون وراكعون بحيث لا يسأمون، إذ لا يغشاهم نوم العيون ولا فترة الأبدان ولا شبهة في أن التسبيح والصلاة لا يصدران إلا من العقلاء، وأيضا قوله تعالى:
كل في فلك يسبحون
[الأنبياء:33] - حيث وقع بالواو والنون - يؤيد ما ذكرناه وينور ما قررناه.
فالوجه أن يقال: إن هذه الآية لما كانت في مقام إثبات التوحيد والجلالة والقهر له تعالى، وتوسيع ملك وجوده وتفسيح دائرة هويته بحيث يقهر ويضمحل الكل عند عظمة كبريائه، ويفنى كل فيء وظل حين سطوع نور جلاله وبهائه، فالمناسب فيه أن يجعل الكل - وإن كانوا عقلاء كاملين في وجوداتهم - بمنزلة ذوي النقائص في الوجود.
أو لا ترى إلى قوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } كيف يدل على حالة طلوع شمس الحقيقة وظهور الوحدة التامة وفناء كل شيء ورجوعه إليه عند القيامة كذوبان الجميد بطلوع الشمس، كما قال تعالى حكاية عن مثل هذه الحالة:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر:16]. مشيرا إلى ظهور دولة حكم المرتبة الأحدية، وكذا قوله: { وهو العلي العظيم } يشير إلى هذا المقام، أي بروز الوحدة التامة، وفناء الكثرات، وزال التعينات فإنه إذا ظهر علوه وعظمته فمن ذا الذي يكون له رتبة الوجود في جنب عظمته وعلوه، ولذلك عبر عن الجميع بلفظ " ما " الدالة على مطلق الشيئية العامة، التي تشمل المعدوم والموجود والمحال والممكن، لكونها غريقا في الإبهام بعيدا عن التحصل والتعين.
ومما يدل على هذا - أي جعل ذوي العقول مستهلكة العقول في جنب عظمته وسطوع نور جلاله وسطوته - قوله تعالى:
له ما في السماوات والأرض كل له قانتون
[البقرة:116]. حيث أتى أشياء بعينها في مقام واحد وهو مقام الأحدية وظهور سلطان الذات وتجلي العظمة والجلال باسم الإبهام، وفي مقام آخر هو مقام الكثرة وظهور سلطان الأسماء وتجلي صفات الرحمة والجمال باسم الجمعية الكمالية تنبيها على ما ذكرناه.
المطلب الرابع
في معنى كلمة " في "
إعلم أن بعض المتكلمين النافين لوجود ضرب من ملائكة الله المقربين كالعقول والنفوس، تمسكوا بهذه الآية وأمثالها على نفي المجردات قائلين بأن الله تعالى لما كان غرضه عرض ما يوجد في مملكته وسلطانه من الموجودات وإظهار المالكية بجميع الممكنات، بحيث لا يخرج عن إقليم إيجاده وخالقيته وملكه شيء أصلا، فلو كان في عالم القدرة شيء غير جسماني لكان ينبغي أن يكون معدودا من جملة ما أضيف إليه تعالى بإضافة الإنشاء والخلق والملك، ومنخرطا مع سائر المعدودات في الذكر، بل هو أولى بالذكر من غيره لكونه أشرف وأعظم منها، فلما اقتصر على ما في السماوات وما في الأرض ولم يذكر غيرها، علم من ذلك أن ليس للمجرد وجود، وذلك لأن لفظة " في " موضوعة لنسبة الظرفية، وطرفا هذه النسبة وهو الظرف والمظروف كلاهما جسمانيان، وكل ما في السماوات والأرض لا يكون إلا جسمانيا وهو المطلوب.
وأما الجواب: فقبل الخوض فيه يجب أن يعلم كل أحد أن الحقائق الكلية والعلوم الحقيقية لا يمكن أن تقتنص من الإطلاقات اللفظية، فإن لكل حقيقة سبب خاص وعلة قريبة لا توجد إلا بها، وكما أن ذات كل حقيقة لا تحصل إلا من وجه خاص. فكذا العلم بها أيضا لا يحصل إلا من جهة العلم بمبادئها ومقدماتها، إذ العلم هو صورة المعلوم، فهذا هو طريق اليقين والعرفان، وأما الظنون وسائر الإداركات فربما تحصل من غير هذا الوجه.
ففي مقام لا ينجح فيه إلا المعرفة التامة والكشف الصريح لا يمكن استنباطه من الألفاظ، لأن دلالتها ليست قطعية، نعم في العمليات التي هي أحكام خاصة والمقصود منها العملي خاصة أو الرياضة النفسية، أو المصلحة النوعية والنظام الجملي، فمجرد الظن والرجحان كاف للعمل به، لأن العلم هنا وسيلة العمل فلا يكون أشرف منه، وأما المعارف الإلهية كمعرفة الذات ومعرفة الصفات ومعرفة كيفية الأفعال، فلا يصيح الاكتفاء فيها بالأخذ لها من الألفاظ استقلالا، بل على سبيل التأييد والتنبيه، كما هو دأب أكثر المتكلمين.
وفي قوله تعالى:
إن الظن لا يغني من الحق شيئا
[يونس:36]. إشعار لطيف بما ذكر، إذ الحق عبارة عن الاعتقاد الصحيح الذي يطابقه الواقع، فافهم تهتد.
فإذا تقرر هذا نقول: إن لفظة " في " استعمل في معان مختلفة تدل على بعضها بالاشتراك وعلى بعضها بالتجوز، فإن كون الماء في الكوز، وكون الشيء في الزمان، وكون الجزء في الكل وكون الشيء في المكان، وكون الخاص في العام، وكون الكل في الأجزاء، وكون الكلي في الجزئيات، وكون الشيء في الخصب والراحة، وكونه في الحركة، ليست لفظة " في " في جميعها بمعنى واحد فكون الماء في الكوز ليس بمعنى كون الشيء في الشهر والسنة، وكون السواد في الثوب ليس بمعنى كون الجسم في المكان، وكذلك كون الماهية في الخارج ليس بمعنى كونها في الذهن، وكون اللفظ في المعنى ليس بمعنى كون النقوش في الكتاب، بل لفظة " في " يختلف معناها في هذه المواضع وغيرها اختلافا كثيرا لا يحصى ولا يجمع الكل إلا إضافة ما.
وليست نفس الإضافة متقضية لنسبة " في " فإن " مع " و " على " و " اللام " وغيرها مما يدل على إضافة ما، وليست مترادفة ولا مرادفة لها، والإضافة المكانية تغاير الإضافة الزمانية في ذاتها، وإذا لم تكن نفس الإضافة مرادا بلفظة " في " وخصوص الإضافة مختلفة فيهما ولكل واحد مدخل في معنى " في " فاللفظ واقع بينهما بالاشتراك.
وأما كون الكل في الأجزاء فهو بالتجوز أشبه، لأن الكل هو مجموع الأجزاء والمغايرة شرط صحة الإضافة، ولا يكون في كل واحد أيضا، ويقال أيضا: إن الجزء في الكل فلا يكون بمعنى واحد، وإلا يلزم اشتمال الشيء على ما يشتمل عليه، وكذلك كون الشيء في نفس الأمر بالتجوز أشبه.
فإن قلت: يجمع الكل الاشتمال والإحاطة.
قلت: المرجع والمآل في الاشتمال والإحاطة أيضا إلى الظرفية، فإنه ليست إحاطة الزمان وطرفيته للشيء الزماني كإحاطة المكان وظرفيته للمتمكن، بمعنى ظرفية الماء في الكوز والمتمكن في المكان الحقيقي العرفي، سواء كان سطحا أو بعدا مجردا.
فقد علم مما ذكر أن لفظة " في " مستعملة في معان كثيرة الاختلاف لا يجمعها معنى محصل نوعي، أو جنسي، فيحتاج في التخصيص بأحد المعاني إلى قرينة، فقوله تعالى: { في السماوات } يشمل بحسب أصل الاستعمال للأحوال القائمة بها - أعراضا كانت أو صورا - وللأجزاء المقدارية المركوزة فيها كالكواكب والأفلاك الجزئية والعناصر، والأجزاء المعنوية مثل المادة والصورة والنفس والأبدان، والأمور المتعلقة بها كالملائكة المدبرة إياها والمحركة لها بأمر مبدعها القيوم، وكالنفوس والعقول المقومة لها بقواها المنطبعة والمجردة.
فالمراد من لفظة " في " هنا إما جميع هذه المعاني المحتملة أو البعض، فالأول أولى على ما هو سياق الآية كما ذكره القائل، إذ التخصيص خلاف الأصل لاشتمال الجميع على قدر جامع كلي، وهو مثل إضافة التعلق والارتباط.
المطلب الخامس
في دلالة هذه الآية على توحيد الأفعال كما مرت الإشارة إليه
إعلم أن بعضهم قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قالوا: لأن قوله تعالى: { له ما في السماوات وما في الأرض } يتناول كل ما يكون فيهما، ومن جملة ذلك أفعال العباد، فوجب أن تكون منسوبة إليه تعالى انتساب الملك والخلق إلى الملك والخالق، لما مر أن هذه الإضافة " إضافة الملك والإيجاد " ولاستحالة توارد الموجدين الفاعلين على مفعول واحد بالعدد.
وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل أيضا يؤكده، لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال.
واعلم أن هذا الدليل العقلي جدلي من قبل الأشاعرة الذاهبين إلى تجويز الترجيح من غير مرجح، ولا يمكنهم أن يصححوا عقيدتهم في هذا الباب بهذا الدليل، بل غرضهم إلزام المعتزلة، ومع ذلك فغير تام، إذ للمعتزلة أن يمنعوا ذلك بالاستناد إلى أن الممكن يجوز أن يترجح بممكن آخر، وذلك المرجح لإمكانه يترجح إما بممكن آخر او بواجب الذات، وعلى التقديرين لا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات جل اسمه دفعا للتسلسل أو الدور.
فإذن ليس من شرط الممكن أن يكون مرجح ابتداء وجوده ابتداء هو الواجب إذ مجرد الإمكان لا يقتضي ذلك ولا خصوصية كل ممكن، بل خصوصية بعض الممكنات يستدعي الاستناد بالواسطة كالماديات والمتغيرات والمركبات، فإن المركب مثلا لا بد في وجوده من سبق وجودات الأجزاء لتقومه بها، فلا يمكن أن يكون وجود الكل والجزء في درجة واحدة يكون كل منهما منسوبا إليه تعالى بالجعل والإيجاد من غير توسط، وكذلك أفعال الحيوان - من الإحساس والتحريك - وأفعال النبات - من التغذية والتنمية والتوليد - وكذلك الأفعال القبيحة الإنسانية ومبادئها مثل الحسد، والكبر، والجهل المركب، والشهوة، والغضب، ونظائرها لا يجوز أن تنسب إليه تعالى من دون وساطة المبادئ القريبة لأنه منزه عن الفحشاء والمنكر والبغي.
واعلم أن مذهب الأشاعرة ليس من توحيد الأفعال في شيء، ولا أيضا ما ذهب إليه المعتزلة من كون العباد خالقين لأفعالهم مستقلين في وجودها، بل الحق الصحيح الذي ذهب إليه خواص الإمامية ومحققوهم، ويستفاد من أحاديث الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، ويكون مطابقا لما عليه متألهة الحكماء والرواقيون: أن فياض الوجود منحصر في الواجب بالذات، والوسائط مكثرات لحيثيات (تجليات - ن) جوده وجهات فيضه.
وادعى المحقق الطوسي (رضوان الله عليه) اطباق الحكماء على ذلك، وذكر أن ما يوجد في كلامهم من نسبة التأثير والإفاضة إلى بعض الممكنات - المتوسطة بينه تعالى وبين المراتب النازلة - إنما يكون من باب المساهلة في التعاليم في باب كيفية صدور الكثير عن الواحد الحقيقي بحسب الواسطة، من غير أن يكون للوسائط دخل في الإيجاد، بل شأنها مجرد الإعداد، وتكثير جهات الفيض للواهب الجواد.
ويؤيد ما ذكره قول بعض المشائين: الأول يبدع (مبدع - ن) جوهرا عقليا هو بالحقيقة مبدع، وبتوسطه جوهرا عقليا وجرما سماويا.
وقوله بعض توابع الرواقيين: إن النور القوي لا يمكن الضعيف في الإنارة، فالقوة القاهرة الواجبية لا تمكن الوسائط لشدة نوريتها وقهرها للكل، ليس شأن ليس فيه شأنه تعالى.
وتحقيق هذا المقام أن لكل ممكن ماهية ووجودا به تتحقق ماهيته وتتحصل والوجود في الجميع معنى واحد بسيط لا اختلاف فيه إلا بالشدة والضعف، والكمال والنقص، وأما الاختلافات النوعية والجنسية بين الممكنات وتخصيص كل منها بنقائص وذمائم وخواص ولوازم فإنما هو من جهة ماهياتها، ومراتب إمكاناتها الناشئة من تنزلات الوجود.
فالفائض من الواحد الحقيقي والقيوم الأحدي هو أمر واحد منبسط على هياكل الممكنات وذلك الأمر هو محصلها ومخرجها من القوة إلى الفعل ومن العدم إلى الوجود ومن الكمون إلى البروز، فالوجود أمر واحد مجعول للواحد الحق، والمراتب المختلفة بالتقدم والتأخر والأولية (والأولوية - ن) واللحوق ناشئة عن خصوصيات الماهيات الحاصلة من تنزلات الوجود.
فالوجود في كل مرتبة يقتضي ماهية خاصة، تلزمها خواص ولوازم حاصلة بلا جعل جاعل وتأثير مؤثر، لأن ماهية لوازمها غير مجعولة، فعين الكلب مثلا ماهية تقتضي النجاسة العينية من غير جعل وإفاضة يتعلقان بها، وإنما الفائض من الباري جل ذكره هو وجودها، فليس له تعالى إلا إفاضة الوجود، فإن نفس الوجود هو نور يفيض منه تعالى على القوابل حتى القاذورات والأعيان النجسة - شخصية كانت أو نوعية - ومنشأ تخصصات الأفعال والآثار خصوصيات الأعيان الثابتة التي ما شمت رائحة الوجود.
إذا عرفت هذا فقس عليه أفعال العباد واجعلها وقاية عن نسبة الشرور والآفات إلى الحق الجواد.
فهذه صورة المسألة عند هؤلاء الأكابر، وأما البرهان اليقيني (المتعين - ن) المناسب لأهل البحث على هذا المطلب الشريف فهو مثبت في بابه، ليس هنا مجال بيانه، لأنه يطول به الكلام ويخرج عما نحن بصدده من المرام.
المقالة السادسة
في معنى قوله سبحانه: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }
وفيه مشاعر:
المشعر الأول
في معنى " الشفاعة "
إعلم أن الشفاعة - أي ما به يصير الشخص شفيعا - هو نور يشرق من الحضرة الإلهية على جواهر الوسائط بينه وبين النازلين في مهوى البعد والنقصان، به يجبر النقائص الحاصلة من تضاعف (نقائص - ن) الإمكان، فالمتوسطون في (من - ن) سلسلة البدو: هم العقول الفعالة، ثم النفوس العمالة، ثم الطبايع النقالة الكلية. وفي سلسلة العود: الأنبياء، ثم الأولياء، ثم العلماء.
فكما أن الأشخاص هناك تتقوم بالطبايع، وهي تتقوم بالنفوس، والنفوس تتقوم بالعقول، ونور الوجود إنما يفيض من الحق تعالى على الكل لكن على العقول بالاستقامة وعلى غيرها بالانعكاس من بعض إلى بعض، فكذلك هاهنا يتقوم الناس بحسب الحياة الأخروية والوجود العلمي المعادي بالعلماء، والعلماء بالأولياء، والأولياء بالأنبياء، ونور الهداية الوجود المعادي إنما يفيض منه تعالى على جوهر النبوة وينتشر منها إلى كل من استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة بالانعكاس لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن، وكثرة الذكر له بالصلاة عليه، كما قال تعالى حكاية عنه:
فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم
[آل عمران:31].
ومثال ذلك نور الشمس إذا وقع على الماء، فإنه ينعكس منه إلى موضع مخصوص من الحائط لا على جميع الحائط، وإنما يختص بذلك الموضع بالانعكاس لمناسبة وضعية مخصوصة بينه وبين الماء توجب تلك المناسبة ارتباطا له بالنير بواسطة الماء في الوضع، وتلك المناسبة مسلوبة عن سائر أجزاء الحائط، وذلك هو الموضع الذي إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء حصلت منه زاوية متساوية للزاوية الحاصلة من الخط الخارج من الماء إلى قرص الشمس، وهذا لايمكن إلا في موضع مخصوص من الجدار.
ومن هذا المثال يتفطن اللبيب أن المناسبة التي توجب استفاضة الكمال من الله بتوسط النبي ليست أي مناسبة كانت، بل هي المناسبة المخصوصة التي لها جهة اشتراك مع المناسبة التي بين النبي وبين الله كما في المثال، فإن جميع أجزاء الجدار لها نسبة وضعية مع وجه الماء، ومع ذلك لا يستضيء من تلك الأجزاء إلا جزء خاص، وذلك لاتحاد نسبتها إلى وجه الماء مع نسبة وجه الماء إلى الشمس، لكونهما واقعين معا في سمت سطح واحد عمود على سطح الماء.
وهكذا حال نسبة البصر مع الصورة الخارجة التي يراها الإنسان، فإن الخط الخارج من البصر إلى المرآة والمنعكس من المرآة إلى الصورة الخارجة دائما محيطان بزاوية يكون سطح تلك الزواية قائما على سطح المرآة، كما يثبت في علم المناظرة وتشهد به التجربة، فكذلك حكم المناسبات المعنوية مع النور الإلهي والوجود القيومي.
ومن هنا يظهر معنى قوله (صلى الله عليه وآله):
" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أبغضني فقد أبغض الله "
فإن المناسبات المعنوية العقلية تقتضي للجواهر المعنوية استفاضة النور العقلي بوسيلة من استولى عليه التوحيد، وتأكدت مناسبته مع الحضرة الأحدية، وأشرق عليه النور الإلهي من غير واسطة، ومن لم يترسخ قدمه في ملاحظة الوحدانية لتضاعف جهة الإمكانية، وضعف جهة الوحدة وغلبة التجسم، والتثكر، والحجب، لم تستحكم علاقته إلا مع الواسطة، أو مع واسطة الواسطة، فافتقر إلى واسطة، أو إلى وسائط، كما يفتقر الحائط الذي ليس بمكشوف للشمس إلى واسطة المرآة المكشوف للماء المكشوف للشمس.
وعند اتحاد الجهة في الارتباط الموجب للشفاعة كما أشرنا إليه يكون حكم الواسطة الثانية في الإشراق والإنارة كحكم الواسطة الأولى من غير تفاوت إلا بالقوة والضعف مع الاتحاد في الماهية، كما أن حكم الواسطة الأولى كحكم النير الحقيقي من غير تفاوت إلا بالأصالة والتبعية، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله):
" من أكرم عالما فقد أكرمني ".
وإذا تأمل أحد يعلم أن إلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة في الدنيا أيضا فإن السلطان قد يغمض عن جريمة أصحاب الوزير ويعفو عنهم لا عن مناسبة أصلية بينهم وبين الملك، بل لأنهم يناسبون الوزير المناسب للملك، ففاضت العناية عليهم بالواسطة لا بالأصالة، ولو ارتفعت انقطعت العناية عنهم بالكلية.
المشعر الثاني
في تعيين الشفعاء ومعنى " الإذن "
قد علمت مما سبق من تفسير الشفاعة أن " الشفيع " من يكون يوم القيامة له مناسبة مع رب العالمين ومناسبة بينه وبين العباد المشفوع لهم فتشرق من المولى عليهم رحمته بالواسطة. ومعنى " الإذن " عبارة عن جعله تعالى بعض الممكنات مخصوصا بالقرب إليه والتوسط بينه وبين من ليس له هذه المرتبة، وذلك التقديم والتأخير إنما يكون لأجل استحقاق ذاتي وتافوت جبلي حاصل لبعض الأعيان والماهيات بالقياس إلى البعض بحسب الفيض الأقدس، وهو ثبوتها في علم الله تعالى قبل وجودها الخارجي مع آثارها ولوازمها، فقوله تعالى: { من ذا الذي يشفع } استفهام إنكاري، أي: لا يشعف عنده إلا بأمره.
وذلك لأن الكفرة والمشركين كانوا يزعمون أن الأصنام لهم شفعاء مقربون كما أخبر تعالى عنهم بقوله:
ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى
[الزمر:3]. وقوله تعالى:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله
[يونس:18] ثم بين تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلب لما علمت أن الشفيع هو الواقع في سلسلة الإيجاد والعلة الطولية دون الأمور الخسيسة الاتفاقية العرضية، فقال:
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم
[يونس :18]. فإن النافع للشيء هو ما يكون مؤثرا في وجوده أو كمال وجوده بنحو من السببية، والضار هو عدم ذلك الشيء أو ما يساوقه، فأخبر تعالى هاهنا أنه لا شفاعة عنده إلا من استثناه الله بقوله: { إلا بإذنه } ونظيره قوله تعالى:
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا
[النبأ:38].
وعلم من هذا أن المأذون للشفاعة أولا وبالذات ليس إلا الحقيقة المحمدية المسماة في البداية ب " العقل الأول " و " القلم الأعلى " و " العقل القرآني " عند وجودها الصوري التجردي، وفي النهاية بمحمد بن عبد الله وخاتم الأنبياء عند ظهورها البشري الجسماني، قال: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " " أنا سيد ولد آدم وصاحب اللواء وفاتح باب الشفاعة يوم القيامة ".
ثم أقرب الأولياء إليه سلفا وخلفا بحسب التابعية المطلقة هو الحقيقة العلوية المسماة في البداية ب " النفس الكلية الأولية " و " اللوح المحفوظ " لما أفاده وكتبه القلم الأعلى و " أم الكتاب " الحافظ للمعاني التفصيلية الفائضة عليه بتوسط الروح الأعظم المحمدي
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم
[الزخرف:4]. وهو العقل الفرقاني، وذلك عند وجودها التجردي. وفي النهاية بعيسى بن مريم وعلي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وهذا عند وجودها البشري الجسماني.
ومن جملة المضاهاة الواقعة بينهما (عليهما السلام) أن كلا منهما ممن وقع الشك في إلهيته. وذلك لغلبة أوصاف الوحدة والتجرد والولاية عليهما.
ثم الأقرب فالأقرب من العقول والنفوس الكلية بعد العقل الأول والنفس الأولى، الظاهرة في صور الأنبياء والمرسلين سابقا وصور الأولياء والأئمة المعصومين لاحقا سلام الله عليهم أجمعين.
ثم الحكماء والعلماء الذين منازلهم دون منازل الأنبياء والأولياء إذا اقتبسوا أنوار علومهم من مشكاة النبوة والولاية، وإلا فليسوا من الحكماء والعلماء في شيء إلا بالمجاز، وذلك لأن باتباع الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، إذ العقل لا يهتدى إليه اهتداء تطمئن به القلوب ويرتفع عن صاحبه الريب والشك، ولا سبيل له في معرفة الحق إلا بأن ينظر في الممكنات ويستدل بها على موجدها وهو الحق تعالى، ثم على وحدته ووجوبه وعلمه وقدرته، ولا يعلم من صفاته الثبوتية إلا هذا القدر ومن صفاته التقديسية إلا أنه ليس بجسم ولا جسماني ولا زماني ولا مكاني وأمثال ذلك.
وليس هذا الاستدلال إلا من وراء الحجب إذ لا يحضر عنده إلا مفهومات ذهنية ومعقولات ثانية لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا بعينه كمن أراد أن يستغني بمفهوم الحلاوة عن السكر وبمفهوم السلطنة عن السطان، فأصحاب العقول كلهم كالذين قال الله فيهم:
أولئك ينادون من مكان بعيد
[فصلت:44]. لأنهم يجعلون الحق بعيدا عن أنفسهم ويكتفون عن ذات الحق الأول ومشاهدة الذوات المقدسة العقلية وملاقاة حقائق أهل الجبروت والملكوت، القاطنين في طبقات الوجود، بمفهومات ذهنية وحكايات مثالية، ومع هذا لا يجري لهم طريق الاستدلال إلا في الذهنيات والكليات التي هي طور العقل، وأما في الأمور التي هي وراء طور العقل من أحوال الآخرة وأحكام البرازخ فيثبت فيها عقولهم ويقف من غير أن يهتدي إليها إلا باتباع الشريعة.
ولهذا اعترف شيخهم ورئيسهم بالعجز في إدارك المعاد الجسماني وصرح بأن لا سبيل للعقل إليه إلا من جهة تصديق خبر النبوة التي أتى بها سيدنا ومولانا محمد (صلى الله عليه وآله) ومن هنا يظهر معنى الشفاعة ومعنى كون النبي (صلى الله عليه وآله) مأذونا فيها ومعنى كون الشفاعة منحصرا فيه بالأصالة، فإن النجاة من العقاب الدائم لا يمكن للإنسان بحسب الكمال العلمي للقوة النظرية - وهو المراد من الإيمان - إلا باستفاضة الحقائق العلمية من معدن النبوة الختمية صلوات الله على الصادع بها وآله، إما بغير واسطة - كما للأولياء - أو بواسطتهم كما للعلماء - أو بحسب الحكاية والتمثيل كما للعوام المسلمين.
قال بعض المحققين من العرفاء: " إن الإنسان الكامل هو سبب إيجاد العالم وبقائه، أزلا وأبدا، دنيا وآخرة ".
وقال صاحب الفصوص الحكمية (رضي الله عنه - ن) " فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي، والكلمة الفاصلة الجامعة ".
قال بعض الشارحين لكلامه: أما " حدوثه الذاتي " فلعدم اقتضائه من حيث هو هو الوجود، وأما " حدوثه الزماني " فلكون النشأة العنصرية مسبوقة بالعدم الزماني، وأما " أزليته " فبالموجود العلمي، فعينه الثابتة أزلية وبالوجود الروحاني، فلأنه غير زماني متعال عن أحكامه مطلقا، إليه الإشارة بقول النبي (صلى الله عليه وآله)
" نحن الآخرون السابقون "
وأما دوامه وأبديته فلبقائه ببقاء موجده دنيا وآخرة.
وأيضا كل ما هو أزلي فهو أبدي وبالعكس، وإلا يلزم تخلف المعلول عن العلة أو التسلسل في العلل، لأن علته إن كانت أزلية لزم التخلف، وإن لم تكن كذلك يجب استنادها أيضا إلى علة حادثة بالزمان، وحينئذ إن كان للزمان فيها مدخل يجب أن يكون معلولها غير أبدي لكون أجزاء الزمان متجددة متصرمة بالضرورة - والفرض بخلافه - وإن لم يكن فيها مدخل فالكلام فيها كالكلام في الأول فيتسلسل، والتسلسل في العلل التي لا مدخل للزمان فيها باطل، وإلا يلزم نفي الواجب.
فالأبديات مستندة إلى علل أزلية أبدية، كما أن الحوادث الزمانية مستندة إلى علل متجددة متصرمة، والنفوس الناطقة الإنسانية حدوثها بحسب التعلق بالأبدان لا بحسب ذواتها، والصور الأخروية كما أنها أبدية كذلك أزلية حاصلة في الحضرة العلمية، والكتب العقلية، والصحف النورية، وإن كانت ظهوراتها بالنسبة إلينا حادثة.
وأما كونه " كلمة فاصلة " فلتميزه بين المراتب الموجبة للتكثر والتعدد في الحقائق، وأما كونه " جامعا " فلإحاطة حقيقته بالحقائق الإلهية والكونية كلها علما وعينا " انتهى.
وأقول: غرض الشيخ الماتن (قدس سره) من قوله: " فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي " هو الذي أرادته الحكماء من قولهم: " العلة الغائية متقدمة بحسب الوجود العقلي على ما هي علة له، ومتأخرة عن وجوده بحسب الخارج " وقد ثبت عندهم أن العقول الفعالة لها جهة الفاعلية للأشياء الكائنة، ولها جهة الغائية، فإذا كان روح النبي (صلى الله عليه وآله) - أي الحقيقة المحمدية - متحدا مع العقل الأول فيلزم أن يكون أزليا وأبديا من حيث حقيقته، حادثا من حيث بشريته.
أما أزليته: فباعتبار مبدئيته للأشياء بحسب صورتها العلمية الثابتة في علم الله.
وأما أبديته: فلكونها الثمرة القصوى لوجود الخلائق، أو لا ترى أن جميع الموجودات العنصرية لها توجهات وحركات نحو الكمال، فالعناصر تتحرك نحو الجماد والجماد يتوجه إلى النبات، والنبات إلى الحيوان، وهو إلى الإنسان، وأول الإنسان ذو العقل (هو العقل) الهيولاني، وهو يتوجه في تحصيل الكمال إلى العقل الفعال، بعد طي مراتب العقل بالملكة والعقل بالفعل فيصير مرتقيا إلى ما ينزل منها، وذلك العقل الفعال صار ثمرة شجرة هذا العالم بعد أن كان بذر هذه الشجرة، فما يكون بذرا صار ثمرة.
فانظر إلى حكمة الباري وقدرته كيف ينقل البذر في تقاليب الأطوار إلى أن يبلغ مرتبة الثمار، فيبتدئ أوله وهو بذر يفسد لبه في الأرض ويفنى عن نفسه في الأماكن الغريبة عن ذاته، يم يستحيل وينتقل بقوته النامية من حال إلى حال ومن طور إلى طور، حتى ينتهي آخره إلى ما كان أولا ويصل إلى درجة اللب التي كان عليها سابقا مع عدد كثير من نوع ذاته، وفوائد كثيرة وخيرات جمة من فروع ذاته ولوازمها وقشور صفاته، وضروريات هي أرباح تجارية وفوائد سفره من الأوراق المخضرة والأغصان المثمرة والأنوار والأزهار، وجميع ما يسقط منه ويضمحل ويفسد، وهي التي بسببها تارة يكون محبوسا عن المراد مقيدا بصحبة الأضداد، وتارة بمخالطتها وحراستها محروسا عن الاضمحلال والفساد، وبمعاونتها وصيانتها مصونا عن العفونة للمواد، فيخرج من بين فرث تلك الأوراق والحشائش، ودم العروق والأغصان، دهنا خالصا، ولبا صافيا (ذهبا خالصا ولبنا صافيا - ن) وبذرا سالما غانما بإذن الله وثمرة صالحة هي نتيجة المقدمات والانتقالات موجودة باقية أبدية مع انفساخ أكثرها وزوالها ودثورها.
فأحسن إعمال رويتك بملاحظة هذا التمثيل وتطبيق قرائنه وحمل ألفاظه لتظهر لكل كيفية كون الحقيقة المحمدية سببا داعيا لوجود العالم، ونتيجة مترتبة عليه، وكل ما كان كذلك كان واسطة لوجود العالم سابقا ولاحقا، دنيا وآخرة، فتحقق معنى قوله:
" كنت نبيا وآدم بين الماء والطين "
، وقوله: " لولاك لما خلقت الأفلاك " وقوله:
" نحن الآخرون السابقون "
فيكون شفيعا يوم القيامة وسراجا منيرا وهاديا، كما أنه كان وسيلة وداعيا يوم الابتداء.
فيلزم مما ذكرنا أن تكون روحه (صلى الله عليه وآله) أو شيء تعلقت به القدرة وإن سمي بأسماء مختلفة باعتبارات متكثرة بقوله:
" أول ما خلق الله نوري "
و
" أول ما خلق الله روحي "
وفي رواية: " العقل "......... وفي رواية: " القلم " وفي رواية: " اللوح ".
قال بعض الكبراء: أول ما خلق الله على الإطلاق ملكا كروبيا يسمى " العقل " وهو صاحب القلم بدليل توجه الخطاب إليه في قوله: " أقبل " فأقبل ثم قال له: " أدبر " فأدبر كما جاء في الحديث المنقول في كتاب الكافي وغيره، ولما سماه " قلما " قال له: " إجر بما هو كائن إلى يوم القيامة " فبحسب كل صفة يسمى باسم آخر، فقد كثرت الأسماء المسمى واحد، فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي " درة " و " جوهرة " ، كما جاء في الخبر:
" أول ما خلق الله جوهرة مثل درة فنظر إليها فذابت، فخلق منها كذا وكذا "
، وباعتبار نوارنيته وظهوره بذاته وظهور الخلائق به سمي " نورا " وباعتبار تجرد ذاته عن الأكوان وحضوره عند ذاته سمي " عقلا بالفعل " ، وباعتبار غلبة الصفات الملكية والأخلاق الحسنة سمي " ملكا " ، وباعتبار تصويره للحقائق مفصلة على ألواح النفوس الناطقة سمي " قلما ".
وإذا أمعنت النظر وجدت كلما وصف به العقل وحكي منه فهو خاصية من خواص روحه - عليه وعلى آله الصلوات - وهو مثل قوله: " أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر " ، وهذا بعينه هو روحه، إذ قال له: " أقبل إلى الدنيا رحمة للعالمين، فأقبل " ثم قال له: " أدبر، فأدبر " ، أي: ارجع إلى ربك، فأدبر عن الدنيا وركع إلى ربه ليلة المعراج ثم قال للعقل: " وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلي منك " وفي رواية " أعظم " وهذا هو حاله (صلى الله عليه وآله) لأنه كان حبيب الله وأحب الخلق إليه وأعظمهم عنده، وقوله تعالى للعقل: " بك أعرف وبك آخذ وبك أعطي وبك أعاقب ولك أثيب ". فهذا كله حال النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن من لم يعرف النبي بالنبوة والرسالة لم يعرف الله ولو كان له ألف دليل على معرفة الله، كما يعلمه أهل الحق بالإيمان الكشفي الإشراقي - بعد الإيمان الغيبي الاقتدائي التبعي -.
فمعنى الحديث عند أهل البصيرة: أن بمعرفتك أعرف أي: من عرفك بالنبوة عرفني بالربوبية وبك آخذ أي: آخذ طاعة من أخذ منك ما آتيته من الدين والشريعة وبك أعطي أي: بشفاعتك أعطي درجة أهل الدرجات، كما روي عنه (صلى الله عليه وآله):
" الناس محتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم (عليه السلام) "
وبك أعاقب وبك أثيب وذلك لقوله تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
[آل عمران:81]. وذلك لأن الله أخذ ميثاق كل نبي بعثه بأن يؤمن بمحمد ويرضي أمته بالإيمان به ونصرة دينه، فمن آمن به من الأمم الماضية قبل بعثته وبعد بعثته فهو من أهل الثواب، ومن لم يؤمن به من الأولين والآخرين فهو من أهل العقاب، فصح فيه قوله: " بك أعاقب وبك أثيب " ومن هاهنا ينكشف قوله (صلى الله عليه وآله):
" لو كان موسى في زمني لا يسعه إلا اتباعي ".
فكل ما ذكر في معرفة " الروح الأعظم " فهو حال النبي (صلى الله عليه وآله)، وناهيك في الاعتقاد بكونه (صلى الله عليه وآله) متحد الحقيقة مع العقل الفعال والروح الأعظم البرهان من قوله تعالى:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
[الأحزاب:6]. وقوله في حديث غدير خم مخاطبا لأمته:
" ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى فقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه ".
بيان ذلك: أن المراد بالمؤمنين هم العارفون الذين صارت نفوسهم عقولا بالفعل، والعقل بالفعل هو الموجود الحقيقي، والحياة العقلية الأخروية، والنبي بروحه المقدس سبب لوجوداتهم الحقيقية، ومبدأ لكمالاتهم العرفانية ومنشأ لفيضين (لفيضان - ن) الكمالين الأولي الأقدس والثانوي المقدس، وعلة الشيء أولى بنفس ذلك الشي من نفسه، إذ الشي بالقياس إلى علته بالوجوب حيث كان بالقياس إلى نفسه بالإمكان، فلو لم يكن روح النبي (صلى الله عليه وآله) علة لوجوداتهم الحقيقية لم يكن أولى من أنفسهم، فهو الأب الحقيقي لهم ولذلك كانت أزواجه أمهاتهم مراعاة لجانب الحقيقة .
فهو الوسط بينهم وبين الحق، ومبدأ فطرتهم في سلسلة الافتقار النزولي هو المرجع في كمالاتهم في سلسلة الارتقاء الصعودي، ولا يصل إليهم فيض الحق بدونه، لأنه الحجاب الأقدس والتعين (المتعين - ن) الأول، فلو لم يكن أولى وأحب إليهم من أنفسهم لكانوا محجوبين بأنفسهم عنه فلم يكونوا ناجين إذ نجاتهم إنما هي بالفناء فيه، لأنه المظهر الأعظم.
وهذه معان تحتاج إلى تفصيل في المقال، ليظهر جلية الحال على الذكي المستبصر بأساليب الارتقاء إلى الكمال، بعد تصفية القلب من مشوشات الدنيا وتجلية الذهن والبال، وتحصيل الاستعداد والاتصال بالعقل الفعال والله الهادي إلى طريق الإصافة في الأقوال والأفعال، وبيده أزمة الأمور في الآباد والآزال.
المشعر الثالث
في تعيين المشفوع له
وهو كل من صحت نسبته إليه من فقراء أمته، ولفظة " الصحة " يشمل الإمكان الذاتي والاستعدادي جميعا، فالمراد من الأول: المطيعون من أهل الإيمان، ومن الثاني: العاصون من أمته وإن اقترفوا الكبائر واللمم ما لم يصر منشأ عصيانهم جهلا مستحكما أو ملكة ذميمة راسخة بحيث يمتنع زوالها، فلا تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال القفال نصرة لأهل الاعتزال: " إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين، إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل المعصية والطاعة " وطول في بيان ذلك والعجب أن تعلق ضرب من الشفاعة بأهل المعاصي ليس يقبح عند العقل، والمعتزلة قائلون بالتحسين والتقبيح العقليين، فكيف يتأتى لأحد منهم أن يدعي أن تعلق الشفاعة والرحمة بأهل الكبائر والعفو عن ذنوبهم قبيح في الحكمة؟
وأما التسوية المذكورة فغير لازمة من جهة مجرد العفو والشفاعة، لأن منزلة الكاملين في العلم والعمل ليس كمنزلة العصاة من أهل الرحمة والشفاعة.
وإن أراد أنه لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي في أمر من الأمور فهو جهل محض، لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات وكثير من المرادات.
وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فهو مما لا ينكره أحد، بل الجميع قائلون بموجبه - وكيف لا - والمطيع لا يكون له فزع ولا يكون خائفا من العقاب، والمذنب يكون في غاية الخوف، وربما يدخل النار ويتألم مدة مديدة ثم تتداركه الرحمة يخلصه الله عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله).
على أن أكثر المعتزلة - وهم البصريون منهم - ذهبوا إلى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول، إلا أن السمع دال على عدم وقوعه، وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ إلا ما اشتثناه - وهم الراسخون في الأوصاف الذميمة التي هي مبادئ الأعمال القبيحة - على ما هو مبين في مقامه، نعم هذا الاستدلال لا يستقيم على مذهب الكعبي إلا أن الجواب ما ذكرناه.
فعلم أن هذا القفال قليل الوقوف على مسلك الاعتزال، ناقص النصيب في علم الكلام، مع رسوخه كالزمخشري في التعصب لهذا المذهب والمبالغة في المنع عن جود الله في حق أهل الكبائر من الإسلام، والصد عن نيل رحمته إياهم في دار السلام.
ويمكن الجواب عن شبهة القفال بوجه آخر على طريقة أهل الكلام، وهو أن العقاب حق الله وللمستحق أن يسقط حق نفسه بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه وهذا الجواب مما ذكره الإمام الرازي وهو من علماء مذهب الأشاعرة، فكأنه ذكره على قانون الجدل إلزاما على المعتزلة، وإلا فالأشاعرة ليسوا قائلين بالاستحقاق في العبد للثواب ولا للعقاب.
واعلم أن الناس بحسب العاقبة ستة أصناف، لأنهم إما سعداء وهم أصحاب اليمين، وإما أشقياء وهم أصحاب الشمال، وإما السابقون وهم المقربون، قال الله تعالى:
وكنتم أزواجا ثلاثة
[الواقعة:7]. الآية.
وأصحاب الشمال: إما المطرودون الذين حق عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي، المختوم على قلوبهم أزلا كما قال تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الأعراف:179] الآية، وقد روي في الحديث الإلهي الرباني:
" خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي "
وإما المنافقون الذين كانوا مستعدين بحسب الفطرة، قابلين للنور في الأصل والنشأة، لكن احتجبت بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي.
وأصحاب اليمين: إما أهل الفضل والثواب، ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم وصفاء قلوبهم، المتبوئون درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، وإما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهم قسمان: المعفو عنهم رأسا؛ لقوة اعتقادهم وعدم رسوخ سيئاتهم، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا فنجوا، وهم أهل العدل والعفات (العقاب - ن) والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا لكن الرحمة تتدراكهم وتنالهم بالآخرة.
فهذه أصناف النفوس الإنسانية، والجميع محتاجون إلى شفاعة السيد (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة كما إنهم محاجون إلى هدايته في الدنيا، لكن بعضهم ممتنع القبول للشفاعة في العقبى كما للهداية في الأولى، وبعضهم ممكن القبول للشفاعة لهم بالإمكان العام الشامل للضرورة والإمكان الذاتي والاستعدادي قريبا كان أو بعيدا.
وتفاصيل هذه الأمور وبيانها بالبرهان مما يطلب في كتب أهل الكشف والعرفان، والله وليس الهداية والإتقان.
المقالة السابعة:
في قوله سبحانه: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
في العلم
" العلم " يطلق على معان بعضها من باب الكيف، وبعضها من باب الإضافة وبعضها من مقولة المعلوم.
أما الأول: فهو حال بها تتميز الأشياء عند العقل.
وأما الثاني: فهو النسبة التي بين العالم والمعلوم يعبر عنه في لغة الفرس ب " دانستن " وقيل: العالمية عبارة عن اتحاد الشيء مع مفهوم هذا المشتق، أي " العالم " ومفهومه كسائر المشتقات أمر بسيط يعبر عنه في الفارسية ب " دانا " والذات والنسبة خارجتان عن مفهوم المشتق.
وأما الثالث: فهو الصورة الموجودة للشيء المجرد عن المادة تجريدا تاما أو ناقصا.
فالتامة في التجريد ما يكون مجردا عن المادة ولواحقها وإضافتها جميعا - إما بحسب الفطرة أو بسبب تجريد مجرد يجردها - فعلى أي الوجهين يكون معقولا كليا أو شخصيا، معقولا لغيره أو لنفسه.
والناقصة في التجريد ما يكون مجردا عن المادة فقط دون لواحقها أصلا - فيكون محسوسا - أو عنها وعن بعض لواحقها دون بعض آخر - فيكون متخيلا - أو عنها وعن لواحقها جميعا دون إضافتها - فيكون موهوما -.
والمشهور أنه من باب الكيف وهو خطأ، بل قد يكون جوهرا بحسب الماهية والوجود جميعا كعلم المجرد بذاته أو بحسب الماهية دون الوجود كعلمه بغيره من الطبايع الكلية الجوهرية، فإنها جواهر الماهية المعلومة الذهنية، عرض بحسب كونها حالة علمية شخصية خارجية وقد يكون مجرد الوجود القائم بذاته غير داخل تحت مقولة أصلا، وهو علم الواجب لذاته بذاته وبجميع ما عداه علما إجماليا، فإن ذاته تعالى لكونه في غاية التجرد - لتجرده عن التعلق بغيره، سواء كان ماهية أو أمرا مباينا يكون (لكونه - ن) حاصلا لذاته حصولا واجبا بالذات، إذ لا مغايرة لا ذهنا ولا عينا - فيكون عاقلا لذاته، ولما كانت ذاته بذاته مبدأ جميع الممكنات فيكون علمه بذاته مبدأ العلم بجميع الممكنات، إذ العلم التام بالعلة التامة يوجب العلم التام بالمعلول، ولما كانت ذاته وعلمه بذاته - وهما العلتان - شيئا واحدا فتكون ذوات المجعولات ومعلوميتها له تعالى شيئا واحدا.
فتلك الذوات بأنفسها علم ومعلوم له تعالى، وهي من حيث كونها شخصا واحدا له صورة واحدة علمية معلوم له تعالى بعلم واحد، متقدم عليها ومقارن بها، ومن حيث كونها أمورا متكثرة متفاصلة يعلمها بعلوم تفصيلية بعضها متقدم وبعضها متأخر ولها مراتب:
أولها: نفس ذاته تعالى، فإنه علم تفصيلي بذاته وعلم إجمالي بما عداه بمعنى أن نسبته إليها نسبة صورة الشيء التي بها قوامة وتمامه، ونسبتها إليه نسبة الحكاية إلى المحكي عنه لكونها مظاهر أسمائه، وقد مرت الإشارة أيضا إلى أن الأعيان الثابتة مظاهر أسمائه المتكثرة، وأسماؤه على كثرتها تفصيل مسمى لفظ " الله " ومعناه الكلي، وهو مع كليتها عين ذاته الأحدية المتشخصة بنفسها، لكونه بحت الوجود القائم بذاته.
وثانيها: مرتبة " القلم " وهو العالم العقلي المحيط على الجميع إحاطة كلية إجمالية.
وثالثها: مرتبة اللوح المحفوظ المسمى ب " أم الكتاب " المشتمل على الصورة الكلية على سبيل التفصيل، وعالمها " عالم القضاء الإلهي " الذي جرى عليها القلم إلى يوم القيامة.
ورابعها: مرتبة لوح المحو والإثبات، وهي مرتبة الصور المثالية للكائنات بأسرها، المنطبعة أو المتعلقة بالنفوس الجزئية الفلكية، المترائية في مرايا أجرامها الصافية، معينة مقرونة بمخصصاتها الزمانية والمكانية على نحو جزئي.
وخامسها: مرتبة الصور الخارجية المادية.
فالواجب يعلم بنفس ذاته جميع هذه المراتب - على كثرتها وتفاصيلها الكلية والجزئية - بعين تلك الصور ومحيط بها على الوجه المقدس عن الزمان والمكان حتى المرتبة الأخيرة مع تغيرها وتجددها، فإن الصورة الواقعة وإن كانت في نفسها من حيث كونها مغشاة بأغشية هيولانية محسوسة لا معقولة، إلا أن إحاطته تعالى بها من جهة قيوميتها، ومشاهدته إياها من جهة مشاهدة أسبابها ومقوماتها المؤدية إليها، لا من جهة انفعال وتأثير منها له تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فالمعلومات الجزئية المتغيرة مع جزئيتها وتغيرها وفسادها معلومة له تعالى على وجه ثابت دائم، مصون عن التغير والفساد وهذا مما يحتاج دركه إلى لطف قريحة.
المسألة الثانية
في مرجع ضمير الجمع
الضمير لما في السماوات وما في الأرض، لأن فيهم العقلاء، فغلبوا، أو لما دل عليهم " من ذا " من الملائكة، والأنبياء، والعالمين، والأولياء، والصالحين، والشهداء، أو للمأذونين منهم في الشفاعة خاصة، ويحتمل أن يكون للإنسان أو للحاضرين من أمته (صلى الله عليه وآله).
المسألة الثالثة
في أن القبلية والبعدية المستفادتين من الكلام بأي وجه كانتا؟
قد ذكر المفسرون فيهما وجوها:
منها: أنه يعلم ما بين أيديهم أي ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما خلفهم أي ما كان بعدهم من أمور الآخرة عن مجاهد وعطا والسدي.
ومنها: يعلم ما بين أيديهم يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم يعني الدنيا، لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم عن الضحاك والسدي.
ومنها: يعلم ما بين أيديهم من السماء إلى الأرض، وما خلفهم يريد ما في السماوات عن ابن عباس رواه عطاء.
ومنها: ما ذكره الرازي في الكبير: يعلم ما بين أيديهم بعد انقضاء آجالهم وما خلفهم أي ما كان من قبل أن يخلقهم.
ومنها: ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك.
ومنها: ما ذكره نجم الدين الداية في تفسير المسمى ب " بحر الحقائق ": يعلم أي الذي يشفع عنده وهو محمد (صلى الله عليه وآله)، لأنه مأذون في الشفاعة أصالة كما مر تحقيقه - ما بين أيديهم - من أوليات الأمور ومقدماتها قبل خلق الخلائق، وهو عالم الأرواح التي خلقها الله قبل الأجساد بألفي عام - وما خلفهم - من أحوال القيامة وأهوالها، وفزع الخلق، وغضب الرب، ويطلب الشافعة من الأنبياء، وقولهم " نفسي، نفسي " ورجوعهم بالاضطرار.
أقول: ويحتمل وجها آخر وهو أن يكون المراد مما بين أيديهم صور المعلومات الجزئية الحسية أو البديهيات، وما خلفهم صور المعقولات الكلية أو النظريات؛ لتقدم الأولى وتأخر الثانية بالقياس إلى الإنسان، وعدم حصول الثانية له إلا بوسيلة سبق الأولى، كما قيل " من فقد حسا فقد علما ".
وحاصله: أنه تعالى عالم بجميع الأشياء - جزئية كانت أو كلية - ومن جملتها الشافع والمشفوع له، والجهة التي بها يستحق الشفعاء للشفاعة، والمشفوع لهم للاستشفاع دون غيره، حتى أن الشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون هذه الدرجة الرفيعة، والمنزلة العظيمة عند الله سبحانه، ولا يعلمون أنه سبحانه هل صيرهم مأذونين في الشفاعة أم لا؟ بل يستحقون المقت والزجر فإن العزة لله جميعا، والممكن بحسب ذاته متخمر من الكدورة والظلمة المنشأة عن ماهيته الإمكانية، وإنما المنور لها والمخرج إياها من العدم والإبهام إلى الوجود والتحصيل، ومن القصور والنقصان إلى التمام والتكميل، هو الحق تعالى القيوم بذاته، الذي يعطي نور الوجود لما يشاء - كل بحسبه - ويصطفي من الملائكة والبشر رسلا وأنبياء، ويكسيهم كسوة العزة والبهاء والقدرة والغنى، ومنزلة الهداية والشفاعة في الأولى والعقبى.
المقالة الثامنة:
في قوله سبحانه: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء }
وفيه إشارات:
الإشارة الأولى
قال الرازي في الكبير: " إن المراد من " العلم " هنا. " المعلوم " كالخلق بمعنى المخلوق، وفي الأدعية: " اللهم اغفر لنا علمك فينا " أي: معلومك. أو لا ترى أنه إذا ظهرت آية عظيمة قيل: " هذه قدرة الله " أي مقدوره، والمعنى: أن أحدا لا يحيط بمعلومات الله تعالى ".
أقول: لما علم في القرينة السابقة أن جميع الموجوات - سواء كانت كلية أو جزئية، معقولة أو محسوسة، صورا علمية أو محالا إداركية، أو آلات ومشاعر - حاضرة عنده تعالى بحيث يكون نفس وجودها في أنفسها نفس علميتها ومعلوميتها له تعالى من غير تضاعيف الصور الإداركية، فجميع الموجودات يكون معلوما - أي صورا علمية ومعلومات بأنفسها لا بصورة مستأنفة أخرى - فإذا كان الأمر كذلك تكون العلوم كلها معلوما له تعالى، والمعلومات كلها معلومات وعلوما له تعالى معا، فكل ما يعلمه أحد منا يكون بعضا من علومه تعالى - سواء كانت علوما لنا أو معلومات -.
فحينئذ لا يحتاج إلى ارتكاب المجاز، لكن لما كان العلم عند هذا القائل مجرد الإضافة احتاج إلى ذلك؛ لأن الإحاطة لا تتعلق بالإضافة، ولا التبعيض يناسبها.
الإشارة الثانية
إنهم لا يعلمون الغيب إلا من جهة إطلاعه تعالى بعض ملائكته، أو أنبيائه على بعض الغيب، كما قال:
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول
[الجن:26 - 27].
الإشارة الثالثة
إنه لما ثبت أن لعلمه تعالى مراتب بعضها متقدم على بعض وعلة له، وبعضها متأخر عن ومعلول له، والمتأخرات عين ذوات الأشياء فيكون علمه تعالى بذوات المجعولات - التي هي من مراتب علمه بوجه - علما فعليا، وهو المشيئة الإلهية أيضا، لأن علمه الذي هو في مرتبة ذاته عين إرادته التي هي في تلك المرتبة بالذات، ويعبر عنها بالمشيئة الذاتية، وكذا كل مرتبة من مراتب علمه عين إرادته في تلك المرتبة، إذ مراتب الإرادة على وزان ما علمت في مراتب العلم، فلا محالة تكون علوم غيره " معللة عن مشيئته الأصلية فلذا قال: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء } أي بسبب مشيئته لأن " الباء " سببية و " ما " مصدرية، لا أنها صلة " يحيطون " كما يتبارد على الأذهان أولا، وإن كان له وجه أيضا، لأن ما ذكرناه ألطف وأربط بما سبق وأليق بكلام الحق، لدلالته على أن مشيئته سبب لعلومهم، لا أن متعلقها متعلق علومهم.
الإشارة الرابعة
إن المناسبة بين الشيء والمشيئة مما تحقق مذهب القائلين بالجعل البسيط بمعنى أن الجاعل بهويته وشيئيته علة لهويته المجعولية وشيئيته والآية مشعرة بذلك لإشعاره بأنه تعالى بمشيئته التي هي ذاته وعين علمه بذاته، يفيد شيئية علمه الذي هو عين معلومه، فتكون ذاته مشيئ الأشياء ومذوت الذوات ومحقق الحقائق - كما عليه الرواقيون من الحكماء - بل ذات الذوات وحقيقة الحقائق كما عليه المكاشفون الواصلون من العرفاء.
الإشارة الخامسة
أن يكون ضمير الجمع في " ولا يحيطون " راجعا إلى أهل المحبة والولاية، الواصلين إلى مقام الاستغراق والمشاهدة، فيشاهدونه تعالى بالمشاهدة العقلية ويشاهدون الأشياء بنور ذاته، فيكون الحق لهم سمعا وبصرا كما وقع في الحديث المشهور، فالمعنى: لا يحيطون بشيء من علمه إلا بمشيته التي هي ذاته، فبذاته يعلمون الأشياء وبه يسمعون وبه يبصرون، كما أن به يقدرون على شيء مما كسبوا.
وذلك لفنائهم عن هوياتهم وقصر نظرهم عنها إلى ذاته، وتخلقهم بصفاته، على ما يعلمه الراسخون في العلم والمعرفة من غير لزوم شيء من المحالات كصيرورة صفاته تعالى - التي هي عين ذاته - صفات العبد، أو حلول ذاته في ذات العبد كما توهمه المحجوبون عن نسبة القيومية التي لا يشابهها شيء من النسب، لأنها ليست بالحالية والمحلية، ولا الاقتران والمزايلة، ولا الاتحاد والمغايرة، ولا المماسة والمباينة (ولا الماسة أو المناسبة - ن) ولا الملاصقة والمحاذاة، ولا المواصلة أو المفاصلة، بل هي نسبة مجهولة الكنه يعبر عنها بأمثلة جزئية مقربة من وجوه ومبعدة من وجوه لمن يكون من أهل المشاهدة فضلا عن الذين لا يكونون من أهل المشافهة كأهل الوقت، حيث ليسوا ممن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فليسوا من الواصلين للعين، ولا من السامعين للأثر.
المقالة التاسعة:
في قوله سبحانه: { وسع كرسيه السماوات والأرض }
وفيه لوامع:
اللمعة الأولى
" الوسع " بمعنى الطاقة، يقال: " وسع فلان الشيء " إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به وبلوازمه، " ولا يسعك هذا " أي: لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله):
" لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي "
أي: لا يحتمل غير ذلك.
اللمعة الثانية
" الكرسي " في اللغة: كل أصل يعتمد (يحتمل - ن) عليه وكل شيء تراكب فقد تكارس، من " الكرس " - بالكسر - وهو تراكب الشيء بعضه على بعض وتلبد جزء منه على جزء. " والكرس ": أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها على بعض، وقد أكرست الدار: إذا كثرت فيها الأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض، و " تراكس الشي ": إذا تركب ومنه: " الكراسة " وجمعها " الكراريس " لتراكب (لتركب - ن) أوراقها بعضها على بعض، ومنه " الكرسي " الموضوع لهذه الهيئة المعروفة المصنوع لما يجلس لتركب خشباته وقطعه، ويقال للعلماء " كراسي " كما يقال لهم " أوتاد الأرض " لأن عليهم الاعتماد وبهم القوام في الدين والدنيا.
اللمعة الثالثة
في تفسير لفظ الكرسي وغيره من الألفاظ التشبيهية
إعلم أن للناس في هذا اللفظ وفي سائر متشابهات القرآن والحديث مسالك:
أحدها: منهج أهل اللغة، وأكثر الفقهاء، وأرباب الحديث، والحنابلة، والكرامية وهو إبقاء الألفاظ على مدلولها الظاهر ومفهومها الأول من غير مراعاة التنزيه والتقديس في ذات الله تعالى وصفاته.
وثانيها: منهج أرباب العقل والتدقيق، وهو تأويل الألفاظ على وجه تطابق قوانينهم النظرية ومقدماتهم العقلية تحفظا على تقديسه تعالى، وتنزيهه عن صفات الإمكان ونقائص الأكوان.
وثالثها: منهج الراسخين في العلم والإيقان، وهو إبقاء الألفاظ على مفهوماتها الأصلية من غير تصرف فيها، لكن مع تحقيق تلك المفهومات وتجريد معانيها عن الأمور الزائدة، وعدم الاحتجاب عن روح المعنى بسبب اعتياد النفس بهيئة مخصوصة يتمثل ذلك المعنى بها غالبا.
مثلا لفظ " الميزان " موضوع لما يوزن به الشيء، وهو أمر مطلق عقلي هو بالحقيقة روح معناه وملاك أمره من غير أن يشترط فيه التخصص بهيئة مخصوصة، وكل ما يقاس به شيء بأي خصوصية كانت، حسية كانت أو عقلية يصدق عليه أنه ميزان، فالمسطرة والشاقول والكونيا والأسطرلاب والذراع وعلم النحو، والعروض، والمنطق، والعقل كلها مقاييس وموازين بها تقاس وتوزن الأشياء، ولكل منها وزان ما تناسبه وتجانسه.
فالمسطرة ميزان الخطوط المستقيمة، والشاقول ميزان الأعمدة على وجه الأرض، والكونيا ميزان ما يوازي الأفق من السطوح، والأسطرلاب ميزان الارتفاعات وغيرها، والذراع ميزان كمية المقادير الخطية، والنحو ميزان إعراب اللفظ وبنائه على عادة العرب، والعروض ميزان كمية الشعر، والمنطق ميزان صحيح الفكر، والعقل ميزان الكل.
فالكامل العارف إذا سمع لفظ " الميزان " لا يحتجب عن معناه الحقيق بما يكثر إحساسه ويتكرر مشاهدته من الأمر الذي له كفتان وعمود ولسان،وهكذا حاله في كل ما يسمع ويراه، فإنه ينتقل إلى فحواه، ويسافر إلى روحه ومعناه، وباطنه وأخراه، ولا يتقيد بظاهره وأولاه، وصورته ودنياه.
وأما المقيد بعالم الصورة فلجمود طبعه، وخمود ذهنه، وسكون قلبه إلى أول البشرية وإخلاد عقله إلى أرض المحسوسية، يسكن إلى أوائل المفهوم ويطمئن إلى مبادئ العقول، ولا يسافر عن مسقط رأسه ومنبت حسه، ولا يهاجر من بيته إلى الله ورسوله حذرا من أن يدركه الموت المزيل للصورة الحسية قبل الوصول إلى عالم المعنى، وذلك لعدم وثوقه بما وعده الله ورسوله حقا، وقلة تدبره في معنى قوله سبحانه:
فقد وقع أجره على الله
[النساء:100].
والحاصل: أن الحق الحقيق بالتصديق عند أهل الله وأرباب الحقيقة والتحقيق هو حمل الآيات والأحاديث على مفهوماتها الأصلية من غير تأويل - كما ذهب إليه محققوا أئمة الحديث وعلماء الأصول والفقه - لكن لا على وجه يستلزم التشبيه والنقص والتجسيم في حقه تعالى وصفاته الإلهية.
قال بعض الفضلاء: المعتقد إجراء الأخبار على هيأتها من غير تأويل ولا تعطيل.
أقول: مراده من " التأويل " حمل الكلام على غير معناه الموضوع له، " والتعطيل " هو التوقف في قبول ذلك المعنى، وأكثرهم على أن ظواهر معاني القرآن والحديث حق وصدق، وإن كانت لها مفهومات ومعان أخر غير ما هو الظاهر، كما وقع في كلامه (صلى الله عليه وآله):
" إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا "
كيف ولو لم تكن الآيات والأخبار محمولة على ظواهرها ومفهوماتها الأولى من غير تشبيه وتجسيم لما كانت فائدة في نزولها وورودها على الخلق كافة، بل كان نزولها موجبا لتحيرهم وضلالهم وهو ينافي الرحمة والحكمة.
اللمعة الرابعة
في نقل وجوه المعاني بحسب كل منهج
فمن المنهج الأول: إنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض من جهة الظرفية والإحاطة المقدارية.
ثم القائلون بهذا المعنى اختلفوا: ففرقة ذهبوا إلى أن الكرسي هو نفس العرش، وهما جسم واحد - وبه قال الحسن - واستدلوا بأن " السرير " قد يوصف بأنه عرش لقوله تعالى:
ولها عرش عظيم
[النمل:23]
نكروا لها عرشها
[النمل:41]
قيل أهكذا عرشك
[النمل:42] وقد يوصف بأنه كرسي:
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا
[ص:34] ولكون كل منهما يصلح للتمكن.
وفرقة منهم ذهبوا إلى أن كلا منهما غير الآخر، ثم اختلفوا: فمنهم من قال: إنه سرير دون العرش وفوق السماء السابعة وقد روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) رواه الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي (طاب ثراه) عنه (عليه السلام) مرفوعا في مجمع البيان وقريب منه ما نقل عن عطاء أنه قال: " ما السماوات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة ".
وقال آخرون: إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي.
ومنهم من قال: إن السماوات والأرض جميعا على الكرسي، والكرسي تحت الأرض كالعرش فوق السماء.
وروى الأصبغ بن نباتة أن عليا (عليه السلام) قال: " السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك ويحملونه بإذن الله، ملك منهم في صورة الآدميين وهي أكرم الصور على الله وهو يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق لبني آدم، والملك الثاني في صورة الثور وهو سيد البهائم وهو يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق للبهائم، والملك الثالث في صورة النسر وهو سيد الطيور وهو يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق للطيور، والملك الرابع في صورة الأسد وهو سيد السباع وهو يدعو الله ويتضرع إليه وطلب الشفاعة والرزق لجميع السباع، قال: ولم يكن في جميع الصور صورة أحسن من الثور ولا أشد انتصابا منه، حتى اتخذ الملأ من بني إسرائيل العجل وعبدوه، فخفض الملك الذي في صورة الثور رأسه استحياء من الله أن عبدوا من دون الله بشيء يشبهه وتخوف أن ينزل به العذاب ".
واعلم أن هذا المنقول عنه (عليه السلام) حكمه حكم المتشابه من القرآن في باب قصور الفهم (الفهوم - ن) عنه وتحير العقول في دركه، لأنه كلام صدر عن معدن الولاية والتوحيد والعرفان، ولا يعرفه إلا الراسخون في علم الأديان والله أعلم.
ومن أهل الهيئة من ذهب إلى أن الفلك الثامن هو الكرسي، والعرش هو مجموع الثمانية، يتعلق به نفس تحركه بالحركة السريعة اليومية، وبه قال العلامة الطوسي طاب ثراه.
وقال الفخر الرازي في الكبير: " إعلم أن لفظ الكرسي ورد في هذه الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القبول فوجب القبول، وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: " موضع القدمين " ومن البعيد أن يقول ابن عباس موضع قدمي الله عز وجل وتقدس عن الجوارح والأعضاء بالقواطع البرهانية الدالة على نفي الجسمية، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم، أو ملك آخر عظيم القدر عند الله ".
هذا كلامه وفيه موضع نظر علمي، وهو أنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته عن وصمة التجسم وقبول الموجب للانعدام، فكذلك يجب تنزيه فعله الخاص وأهل القرب والمنزلة عنده، فإن انقسام المعلول القريب مستلزم لانقسام العلة المفيضة إياه، ولهذا حكموا بأن الأمر الثابت القار الذات - كالطبيعة - لا يكون علة لأمر متغير الذات غير قار - كالحركة - إلا ويلحقه ضرب من التغير لئلا يلزم فقدان المناسبة بين العلة والمعلول والقريب.
فهكذا لا بد في صدور المتكثرات، والمغيرات، والمنقسمات من المبدإ الأعلى الذي في غاية الوحدة والبساطة والتجرد من متوسط روحاني غير جسماني، ليكون واسطة بين الباري تعالى وعالم الأجرام، بل بينه وبين عالم النفوس المتوسطة بين الروح الأعظم وعالم الأجرام، فإذا كان كذلك يكون إثبات الأعضاء مستحيلا عليه كما استحال على مبدعه.
ثم العجب تجويز ذلك عليه مع تسميته " روحا أعظم " فإن الروحانية تنافي التجسم، ولا أقل تنافي كون الشيء ذا أعضاء متمايزة في الأوضاع متخالفة في الصفات، على أن تسمية الأطباء الجسم اللطيف البخاري المتشابه " روحا " إما على ضرب من التجوز والتشبيه البعيد، أو بحسب اشتراك لفظ اللطافة بين المعنى الذي يوجد في الجسم - وهو رقة القوام أو عدم الحجاب عن البصر - وبين المعنى الذي يوجد في المجردات، وهو عدم حجابها عن التعقل، أو نفوذ تأثيرها فيما دونها، على أن أعظمية الروح تنادي بانتفاء كونه روحا حيوانيا.
ومن المنهج الثاني أقوال ثلاثة: القول الأول ما اختاره القفال، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه.
وتقريره أنه تعالى خطاب عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم، فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم، وذكر في الحجر الأسود " أنه يمين الله في أرضه " ثم جعل موضعا للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبته العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا فقال:
الرحمن على العرش استوى
[طه:5] ثم وصف
عرشه على المآء
[هود:7] ثم قال:
وترى الملائكة حآفين من حول العرش
[الزمر:75] وقال:
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية
[الحاقة:17] وقال:
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون
[غافر:7]. ثم أثبت لنفسه كرسيا فقال: { وسع كرسيه السماوات والأرض }.
وإذا عرفت هذا فنقول:
كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه من العرش والكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر، ولما توقفنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزه عن أن يكون في الكعبة، فكذا الكلام في العرش والكرسي انتهى كلام القفال.
وقد استحسنه كثير من العلماء المفسرين، وتلقاه بالقبول جم غفير من الفضلاء المعتبرين، منهم الزمخشري والرازي والنيشابوري والبيضاوي.
أما الزمخشري فحيث قال: وما هو إلا تصوير لعظمته تعالى وتخييل فقط، ولا كرسي، ثم ولا قعود، ولا قاعد، كقوله:
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67] من تصوير قبضة وطي ويمين، وإنما تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي ألا ترى إلى قوله:
وما قدروا الله حق قدره
[الأنعام:91] - انتهى - وهذا بعينه خلاصة كلام القفال.
وأما الرازي فحيث قال مشيرا إلى ما ذكره: " وهذا جواب متين ".
وأما النيشابوري فحيث قال: " المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، كما اختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري، وتقريره أنه تعالى يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بكذا وكذا " وأخ في إيراد العبارة المنقولة عن القفال بعينها إلى آخرها فعلم من ذلك كونه معتقدا لهذا الكلام حيث نقله تماما من غير أن يسنده إلى قائله، ووصف المختارين لمؤداه بالمحققين.
وأما القاضي فلقوله: " هذا تصوير لعظمته وتمثيل مجرد، ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد ".
فقد علم أن هؤلاء الفضلاء المفسرين البارعين من مذهبي الأشعرية والاعتزال كلهم اقتفوا أثر كلام القفال وظني أن ما ذكره القفال واستحسنه هؤلاء المعدودون من أهل العلم والكمال، غير مرضي عند المهيمن المتعال، ورسوله المبعوث لهداية الخلق ونجاتهم من الضلال، من حمل هذه الألفاظ القرآنية ونظائرها المذكورة في الكتاب والسنة على مجرد التخييل والتمثيل، من غير حقيقة دينية وأصل إيماني، بل هو قرع باب السفسطة والتعليل، وسد باب الاهتداء والتحصيل في آيات التنزيل، إذ يتطرق تجويز مثل هذه التخييلات والتمثيلات من غير حقائق دينية [إلى] سد باب الاعتقاد بالمعاد الجسماني، وعذاب القبر، والصراط، والحساب، والميزان، والجنان، والنيران، والحور، والغلمان وسائر المواعيد الشرعية، إذ يجوز لأحد - على التقدير المذكور - أن يحمل كلا من تلك الأمور على مجرد التخييل من غير تحصيل حقيقة مخصوصة.
فكما جاز أن يحمل تعظيم العرش والكرسي، وحرمة بيت الله، وتقبيل الحجر الأسود، وما في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة، والنبيين، والشهداء، ووضع الموازين، على مجرد التخييل، والتخويف، والإرجاء، والإنذار، والترغيب، والترهيب، من غير أصل حقيقي محقق في الواقع فليجز مثل ذلك في الجنة والنار، والرضوان والنعيم، والزقوم والحميم وتصلية جحيم.
بل الحق المعتمد إبقاء صور الظواهر على هيأتها وأصلها إلا لضرورة دينية إذ ترك الظواهر يؤدي إلى مفاسد عظيمة، نعم إذا كان الحمل على الظواهر مناقضا لأصول صحيحة دينية، وعقائد حقة يقينية، فينبغي للإنسان حينئذ أن يتوقف فيها، ويحيل علمه إلى الله ورسوله والأئمة المعصومين من الخطأ، الراسخين في العلم (عليهم السلام)، لقوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران:7] ثم يترصد الرحمة من عند الله، ويتعرض لنفحات كرمه وجوده رجاء أن يأتي الله بالفتح، أو أمر من عنده، أو يقضي الله أمرا كان مفعولا، امتثالا لأمره فيما روي عنه (صلى الله عليه وآله):
" إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ".
ثم إن الذوق الصحيح من الفطرة السليمة شاهد بأن متشابهات القرآن ليس المراد منها مقصورا على مجرد أمور جسمانية يعرف كنهها كل أحد من الأعراب والبدويين وعموم الخلق، وإن كان قشور من تلك الأمور مما لكل أحد منهم نصيب منها، وليس المراد أيضا مجرد تصوير وتمثيل يعلمه كل من له قوة التمييز في الأنظار، ويفهمه كل من يتصرف بعقله في الأفكار بحسب استعمال الصناعة المنطقية في الأبحاث من غير مراجعة إلى سلوك سبيل الله ومكاشفة الأسرار معاينة الأنوار، وإلا لما قال تعالى في باب المتشابه من القرآن:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران:7] ولما قال في الغامض منه:
لعلمه الذين يستنبطونه منهم
[النساء:83] ولما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "
فإن كان علم التأويل أمرا حاصلا بمجرد الذكاء الفطري، أو المكتسب بطريق القواعد العقلية المتعارفة بين العقلاء لما كان أمرا خطيرا وخطبا عظيما، حيث استدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالدعاء من الله تعالى لأحب خلقه إليه وهو علي (عليه السلام).
ومما يدل على أن أسرار التنزيل والإنزال أجل شأنا مما يعلم بقوة تفكر مثل القفال وغيره من آحاد المتكلمين وأهل الاعتزال، ما رواه الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني - بسنده المتصل إلى أبي بصير - عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: " نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله ".
وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة من بعده (عليهم السلام) ".
وعن أبي جعفر محمد (عليهما السلام) برواية أبي بصير قال: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في هذه الآية: { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } فأومأ بيده إلى صدره ".
فقد تبين من هذه الأمور أن فهم متشابهات القرآن لا يتيسر لأحد إلا باقتباس أنوار الحكمة من مشكاة النبوة والولاية، واستضاءة أضواء المعرفة والهداية من جهة إحكام التابعية المطلقة، وتصفية الباطن بالعبودية التامة، واقتفاء آثار الأئمة الهادين، وتتبع أنوار أهالي بيوت النبوة والولاية، وأبواب مدائن العلوم والهداية - صلوات الله عليهم أجمعين - لينكشف على السالك شيء من أنوار علوم الملائكة والنبيين، ويتخلص من ظلمات نقوش أقاويل المتفكرين والمناظرين، وسنسمع أنموذجا مما وصلنا إليه بنور المتابعة والاقتداء في هذا الباب، ليكون لك مقياس يمكنك أن تنظر من ثقبة أسطرلابه إلى شيء من أنوار عالم الأسرار ومنزل الأبرار.
القول الثاني: إن المراد من الكرسي " العلم " فمعنى الآية: وسع علمه السماوات والأرض عن ابن عباس ومجاهد، وروى هذا القول صاحب مجمع البيان الشيخ أبو علي الطبرسي طاب ثراه مرفوعا عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (عليهما السلام)، وذلك لأن موضع العالم هو الكرسي، فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز، أو لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه، فجهة الوحدة في المشابهة بينهما هي الاعتماد، فأطلق الكرسي على العلم تسمية للشيء باسم ما يشابهه، ومنه يقال للعلماء " الكراسي " كما يقال لهم " أوتاد الأرض ".
القول الثالث: وهو معتمد كثير من علماء التفسير، أن المراد من الكرسي " السلطان " و " القدرة " فيكون المعنى: أحاط قدرته السماوات والأرض. أو " الملك " تسمية للشيء باسم محله ومكانه، لأن كلا من هذه المصادر قد يستعمل مبنيا للمفعول فيكون صفة له، ثم يقال تارة: الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد، والعرب تسمي الملك بالكرسي، لأن الملك يجلس على الكرسي، فسمي الملك باسم مكان الملك.
فهذه جملة من الأقوال المنقولة عن العلماء النظار المتفكرين في كتاب الله بقوة الأفكار، السائرين على أحد المنهجين إلى نيل نتائج الأنظار.
ثم لا يخفى على من له تفقه في الغرض المقصود من الإرسال والإنزال أن مسلك الظاهريين الراكنين إلى إبقاء صور الألفاظ وأوائل المفهومات أشبه من طريقة المأولين بالتحقيق، وأبعد من التصريف والتحريف، وذلك لأن ما فهموه من أوائل المفهومات هي قوالب الحقائق التي هي مراد الله ومراد رسوله.
وأما التحقيق فهو مما يستمد ويستنبط من بحر عظيم من علوم المكاشفات لا يغني عنه ظاهر التفسير، بل لعل الإنسان لو أنفق عمره في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمدقاماته ولواحقه لكان قليلا، بل لا نقطع عمره قبل استيفاء جميع لواحقه، وما من كلمة من القرآن إلا وتحقيقها يحوج إلى مثل ذلك، وإنما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره وأغواره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم، وتوفر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب ويكون لكل عالم منهم حظ - نقص أو كمل - ولكل مجتهد ذوق - كثر أو قل - فلهم درجات في الترقي إلى أطواره وأغواره، وأما الاستيفاء والوصول إلى الأقصى فلا مطمع لأحد فيه، ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلاما فأسرار كلمات الله لا نهاية لها، فنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله.
فمن هذا الوجه تتفاوت العقول في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير الذي ذكره المفسرون، وليس ما حصل للراسخين في العلم من أسرار القرآن وأغواره مناقضا لظواهر التفسير، بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن ظاهره.
فهذا ما نريده لفهم المعاني لا ما يناقض الظواهر، كما ارتكبه القفال وتبعه غيره من المفسرين من تأويل " الكرسي " إلى مجرد تصوير عظمته وتخييل كبريائه، وكذا ما فعله غيره من تأويله إلى مجرد القدرة والسلطان، أو إلى العلم، لأنها كلها مجازات بعيدة لا يصار إليها، إلا بحسب نقل صريح عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أو عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ثم لا ضابط للمجازفات والظنون والأوهام، فلا بد للمفسر أن لا يعول إلا على نقل صريح، أو على مكاشفة تامة ووارد قلبي لا يمكن رده وتكذيبه وإلا فستلعب به الشكوك، كما لعبت بقوم تراهم أو ترى آثارهم الفكرية من هذه القرون ومن القرون الخالية، وشر القرون ما طوي فيه طريق الرياضة والمكاشفة، وانحسم باب الذوق والتصفية، وانسد طريق السلوك إلى الملكوت الأعلى بأقدام المعرفة والتقوى، وشاع الجهل، والإصرار، والرعونة، والاستنكار، وطلب الرئاسة، والشهرة عند الناس، والتقرب من السلاطين في هذه الدنيا.
فإن هذه توجب سخط الله وسخط الرسول وأولياء الله، وتستلزم الاحتجاب عنه تعالى، والحرمان عن الوصول إليه، والاحتراق بنار القطيعة والطرد والبعد عنه تعالى، والعمى عن مشاهدة الأنوار التي يكاشفها المجردون عن الأغراض النفسانية، الهاربون عن الخلق وعاداتهم ورسومهم الدنية إلى الإقبال بشراشر الهمة إلى الحق، المعترضون لنفحات الله في أيام دهرهم، المنتظرون لنزول الرحمة على سرهم، فهم في الحقيقة الواقفون على أسرار القرآن دون غيرهم، سواء كانوا من الظاهريين المشبهين أو من العقلاء المدققين، وكلاهما بمعزل عن فهم آيات القرآن، إلا أن الظاهريين أقرب إلى الصواب من المأولين لما أشرنا إليه من كون مقاصدهم قوالب المعاني القرآنية.
فقد ظهر وتبين لك أن لأرباب الأفكار التفسيرية والأفهام القرآنية ثلاث مقامات:
فمن مسرف في رفع الظواهر كالقفال وكثير من المعتزلة انتهى أمرهم إلى تغيير جميع الظواهر في المخاطبات التي تجرى في الشريعة الحقة - من منكر ونكير، وميزان، وحساب، وصراط، وفي مناظرات أهل النار وأهل الجنة في قولهم:
أفيضوا علينا من المآء
[الأعراف:50]. وزعموا أن ذلك لسان الحال.
ومن غال في حسم باب العقل كالحنابلة أتباع أحمد بن حنبل، حتى منعوا تأويل قول " كن فيكون " وزعموا أن ذلك خطاب بحرف وصوت يتعلق بهما السماع الظاهري يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كل متكون، حتى نقل عن بعض أصحابه أنه يقول: حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ: قوله (صلى الله عليه وآله):
" الحجر الأسود يمين الله في الأرض "
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن "
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن ".
ومن العلماء من أخذ في الاعتذار عنه أن غرضه في المنع من التأويل رعاية إصلاح الخلق، وحسم الباب للوقوع في الرفض، والخروج عن الضبط، فإنه إذا فتح باب التأويل وقع الخلق في الخرق والعمل بالرأي، فخرج الأمر عن الضبط وتجاوز الناس عن حد الاقتصاد.
وقال الغزالي: " لا بأس بهذا الزجر، ويشهد له سيرة السلف، فإنهم كانوا يقولون " إقرؤوها كما جاءت " حتى قال مالك لما سئل عن الاستواء: " الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ".
وذهبت طائفة إلى الاقتصاد في باب التأويل، ففتحوا باب التأويل في المبدإ وسدوها في المعاد، فأولوا في كل ما يتعلق بصفات الله من الرحمة، والعلو، والعظمة، وغيرها، وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل فيها، وهم الأشعرية - أصحاب أبي الحسن الأشعري - وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفات الله ما لم يأول الأشاعرة، فأولوا " السمع " إلى مطلق العمل بالمسموعات، و " البصر " إلى العلم بالمبصرات، وأولوا " المعراج " وزعموا أنه لم يكن بجسد، وأولوا " عذاب القبر " و " الميزان " و " الصراط " وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد، والجنة واشتمالها على المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، والملاذ الحسية، وبالنار واشتمالها على جسم محسوس يحرق الجلود، ويذيب الشحوم.
ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد المتفلسفون، والطبيعيون، والأطباء فأولوا كلما ورد في الآخرة، وردها إلى آلام عقلية روحانية، ولذات عقلية روحانية، وأنكروا حشر الأجساد، وقالوا ببقاء النفوس مفارقة إما معذبة بعذاب أليم، وإما منعمة براحة ونعيم لا يدرك الحس، وهؤلاء هم المسرفون عن حد الاقتصاد، وحد الاقتصاد بين برودة جمود الحنابلة وحرارة انحلال المأولة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الراسخون في العلم والحكمة، والمكاشفون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع الحديثي، ولا بالفكر البحثي ".
أقول: كما أن اقتصاد الفلك في طرفي التضاد ليس من قبيل اقتصاد الماء الفاتر الواقع في جنس الحرارة والبرودة بل الممتزج، منهما فكذا اقتصاد الراسخين في العلم ليس كاقتصاد الأشاعرة، لأنه ممتزج من التأويل في البعض والتشبيه في البعض، وأما اقتصاد هؤلاء فهو أرفع من القسمين، وأعلى من جنس الطرفين، حيث انكشف لهم بنور المتابعة أسرار الأمور على ما هي عليها من جانب الله بنور قذف في قلوبهم وشرح به صدورهم، ولم ينظروا إلى هذه الأمور من السماع المجرد ونقل الألفاظ من الرواة ليقع بينهم الاختلاف في المنقول فلا يستقر فيها قدم ولا يتعين موقف، وأما الذين نحن فيه الآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد فيه يحتاج إلى استئناف مسلك إلهي، ونمط قدسي، وانقطاع عن الرسوم، وتوجه تام إلى الحي القيوم.
وأما الأنموذج الذي وعدناك ذكره من طريق العلماء الراسخين - الذين لا يعلم بعد الله ورسوله متشابهات القرآن غيرهم - فهو مما أذكر مثالا ولمعة منه إن شاء الله، لأني أراك قاصرا عن دركه وعاجزا عن فهم سره وحقيقته، فإنه نبأ عظيم وأنتم عنه معرضون.
فاعلم أن مقتضى الدين والديانة أن لا يأول المسلم شيئا من الأعيان التي نطق بها القرآن، والحديث، إلا بصورها وهيآتها التي جاءت، بل يكتفي بظاهر الذي جاء إليه من النبي والأئمة سلام الله عليهم، ومشايخ المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، اللهم إلا أن يكون ممن قد خصصه الله بكشف الحقائق والمعاني والأسرار، وإشارات التنزيل، وتحقيق التأويل، فإذا كوشف بمعنى خاص أو إشارة وتحقيق قرر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الأعيان، لأن ذلك من شرائط المكاشفة،إذ قد مر أن ألفاظ القرآن يجب حملها على المعاني الحقيقية لا على المجاز، والاستعارات البعيدة، وكذا ما ورد في الشرع الأنور من لفظ الجنة، والنار، والميزان، والصراط، وما في الجنة من الحور، والقصور، والأنهار والأشجار، والثمار، وغيرها من العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والليل والنهار. ولا يأول شيئا منها على مجرد المعنى ويبطل صورته، كما فعله في باب الأعيان المعادية كثير من العقلاء المحجوبين بعقهلم وفطانتهم البتراء، التي كانت البلاهة أدنى إلى الخلاص منها، بل يثبت تلك الأعيان كما جاء ويفهم منها حقائقها ومعانيها.
فالله تعالى ما خلق شيئا في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئا في عالم المعنى وهو " الآخرة " إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب، إذ العوالم متطابقة، الأدنى مثال الأعلى، والأعلى حقيقة الأدنى، وهكذا إلى حقيقة الحقائق.
فجميع ما في هذا العالم أمثلة وقوالب لما في عالم الآخرة، وما في الآخرة هي مثل وأشباه للحقائق والأعيان الثابتة، التي هي مظاهر أسماء الله تعالى، ثم ما خلق في العالمين شيء إلا وله مثال وأنموذج في عالم الإنسان، فلنكتف في بيان حقيقة العرش، وحقيقة الكرسي، بمثال لكل واحد منهما في عالمنا الإنساني.
فاعلم أن مثال " العرش " في ظاهر الإنسان قلبه، وفي باطنه هو روحه النفساني، وفي باطن باطنه هو نفسه الناطقة إذ هي محل استواء الروح - الذي هو جوهر قدسي عقلي - عليه بخلافة الله في هذا العالم الصغير.
ومثال " الكرسي " في الظاهر هو صدره، وفي الباطن هو روحه الطبيعي الذي هو مستوى نفسه الحيوانية، التي وسعت سماوات القوى الطبيعية السبعة - وهي الغاذية، والنامية، والمولدة، والجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة - وأرض قابلية الجسد كما وسع الصدر محال تلك القوى من الأعصاب والرباطات وغيرها.
ثم العجب كل العجب أن العرش مع عظمته وإضافته إلى الرحمن بكونه مستوي له بالنسبة إلى وسعة قلب المؤمن قيل: " إنه كحلقة ملقاة في فلاة بين السماء والأرض " وقد ورد في الحديث:
" لا يسعني أرضي ولاسمائي، بل يسعني قلب عبدي المؤمن "
وقال أبو يزيد البسطامي: " لو أن العرش وما حواه وقع في زاوية من زوايا قلب أبي يزيد لما أحس به ".
فإذا علمت هذا المثال، وتحققت بالقول على هذا المنوال، فاجعله دستورا لك في تحقيق الحقائق وميزانا تقيس به جميع الأمثلة الواردة على لسان النبوات.
فإذا بلغك مثلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن للمؤمن في قبره روضة خضراء ويرحب له قبره سبعين ذراعا، ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر "
أو سمعت في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال في عذاب الكافر في قبره
" يسلط الله عليه تسعة وتسعين تنينا لكل تنين - أي: حية - تسعة رؤوس ينهشونه، ويلحسونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون "
فلا تتوقف في الإيمان به صريحا من غير تأويل، ولا تحمله على المجاز أو الاستعارة، بل كن أحد رجلين: إما المؤمن بظواهر ما ورد في الكتاب والحديث من غير تصرف وتأويل، أو العارف الراسخ في تحقيق الحقائق والمعاني مع مراعاة جانب الظواهر وصور المباني، كما شاهده أرباب البصائر ببصيرة أصح من البصر الظاهري.
ولا تكن الثالث بأن تنكر الشريعة الحقة وما ورد فيها رأسا وتقول: " إنها كلها خيالات سوفسطائية، وتمويهات وخدع عامية " نعوذ بالله وبرسوله من مثل هذه الزندقة الفاحشة، ولا الرابع بأن لا تنكرها رأسا ولكن تأوله بفطانتك البتراء، وبصيرتك الحولاء، إلى معان عقلية فلسفية، ومفهومات كلية عامية، فإن هذا في الحقيقة إبطال للشريعة، لأن بناء الشرائع على أمور يشاهدها الأنيباء مشاهدة حقيقية لا يمكن تلك لغيرهم إلا بنور متابعتهم، وإن كان منشأ ذلك غاية القوة الباطنية العقلية.
فإن كنت من قبيل الرجل الأول فقد أمسكت بنوع من النجاة، لكن لا قيمة لك في الآخرة إلا بقدر همتك في الدنيا، ولا مقدار لك في عالم المعنى إلا على مبلغ علمك بحقائق العقبى، وإذ لا علم فلا رتبة هناك، لأن كمال ذلك العالم هو عالم الحيوان، وقوامه بالنيات الحقة والعلوم الباقية، كالعلم اليقيني بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فغير العارف بمنزلة جسد بلا روح، ولفظ بلا معنى، ومع ذلك فالنجاة فوق الهلاك.
وذلك أيضا بشرط سلامة الفطرة عما يغيرها من الأغراض النفسانية، وبشرط أن لا يكون فيك استعداد التجاوز عن درجة العوام، وإلا فيكون تقصيرك فيما تستدعيه بقوة استعدادك وسكونك عما تطلبه بلسان قابليتك لمرادك موجبا لك سخط الباري في آخرتك ومعادك، وباعثا لعذابك بانقطاعك عن مبتغاك ومناك.
وعلى أي الحالين فليس لك نصيب من القرآن إلا في قشوره، كما ليس للبهيمة نصيب من البر إلا في قشره الذي هو " التبن ".
والقرآن غذاء الخلق كلهم على اختلاف أصنافهم، ولكن إغتذاءهم به على قدر درجاتهم، وفي كل غذاء مخ ونخالة وتبن، وحرص الحمار على التبن أشد منه على الخبز المتخذ من اللب، وأنت ونظراؤك شديد الحرص على أن لا تفارق درجة البهائم، ولا تترقى إلى درجة الإنسانية - فضلا عن الملكية - فدونكم والانسراح في رياض القرآن ففيه متاع لكم ولأنعامكم.
وإن كنت من قبيل الرجل الثاني فبسبب رسوخ قدمك في تحقيق الدين، وكشف الحق واليقين، وانزعاجك عن درجة الناقصين، وتجاوزك عن مقام الظن والتخمين، تيسر لك أن تعرف عرفانا كشفيا، أو علما ذوقيا، أن التنين الذي أشار إليه الرسول (صلى الله عليه وآله) في الحديث المذكور، ليس مجرد تخويف بلا أصل، ومحض تخييل بلا حقيقة، كما يفعله المشعبذون فإن كلام الله وكلام رسوله أعظم وأجل من أن يحمل على مثل هذا المعنى الذي حمله عليه بعض الغافلين المتفلسفين، وأن المزاح والعبث والجزاف كلها ممقوت عند ذوي المجد، حتى قال الشبلي: " الوقت كله جد لا يحتمل المزحة " فكيف كلام الله وكلام رسوله
وما هو بالهزل
[الطارق:14]. نعوذ بالله أن أكون من الجاهالين.
بل معنى الحديث النبوي إنما هو تفسير وشرح لقوله (ص):
" إنما هي أعمالكم ترد إليكم "
(عليكم - ن) وقوله تعالى:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا
[آل عمران: 30] بل سر قوله سبحانه:
كلا لو تعلمون
[التكاثر:5] - إلى قوله -:
ثم لترونها عين اليقين
[التكاثر:7] أي أن الجحيم باطنكم فاطلبوها بعلم اليقين.
بل هو سر قوله تعالى:
يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54]. ولم يقل " إنها ستحيط " بل قال: هي محيطة بالكافرين وقوله تعالى:
إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها
[الكهف:29] ولم يقل " يحيط بهم " وهو معنى قول من قال: " إن الجنة والنار مخلوقتان " وقد أنطق الله لسانه بالحق ولعله لا يطلع على سر ما يقوله.
فإن لم تفهم معاني القرآن كذلك فليس لك نصيب القرآن إلا في قشوره ، كما ليس للبهيمة نصيب من البر إلا في قشره الذي هو التبن، فتكون من قبيل الشخص الأول وهو خرق الفرض.
فحينئذ نقول: إن هذا " التنين " موجود في الواقع، إلا أنه ليس خارجا عن ذات الميت، بل كان معه قبل موته لكنه (لكن - ن) لم يحس بلدغه لخدر كان فيه لغلبة الشهوات، فأحس بلدغة بعد موته، وكشف غطاء حياته الطبيعية بقدر عدد أخلاقه الذميمة، وشهواته لمتاع الدنيا.
وأصل هذا التنين حب الدنيا، وتنشعب عنه رؤوس بعدد ما تنشعب الملكات عن حب الدنيا من الحسد، والحقد، والعداوة، والبغضاء، والكبر، والرياء والشره، والمكر، والخداع، وحب الجاه والمال، والنساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، وغير ذلك.
وأصل هذا التنين معلوم لذوي البصائر، وكذا كثرة رؤوسه، أما انحصار عدده في " تسعة وتسعين " فإنما يقع الاطلاع عليه لهم بنور النبوة والاتباع فهذا التنين متمكن من صميم فؤاد الكافر المنكر للدين، لا لمجرد جهله بالله، وكفره بل بما يدعو إليه الكفر والجهل، كما قال الله تعالى:
ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة
[النحل:107].
فكل ما يدعو إليه الجهل بالله وملائكته المقدسين وأنبيائه المرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين) من محبة الأمور الباطلة الزائلة، فهو بالحقيقة والمعنى تنين يلسعه ويلدغه في أولاه وأخراه - سواء كان مع صورة مخصوصة كما في عالم القبر بعد الموت، أو لم يكن كما في عالم الدنيا قبل الموت -.
وعند عدم تمثل هذا الأمر اللذاع اللساع على صورة تناسبه لا يعوزه شيء من حقيقة التنين ومعنى لفظ بالحقيقة، إذ اللفظ موضوع للمعنى الكلي وخصوصيات الصور خارجة عما وضع له اللفظ، وإن كان اعتياد الناس بمشاهدة بعض الخصوصيات يحملهم على الاقتصار عليه، والحكم بأن ما سواه مجاز كما مر في " لفظ الميزان ".
على أنا نقول: يتمثل هذا التنين للفاسق الخارج عن الدين في عالم البرزخ حتى يشاهده، وينكشف عليه صورته وكسوته، لكن لا على وجه يمكن لغيره - ممكن يكون في هذا العالم بعد - مشاهدة تلك الصور وسائر الصور الأخروية.
وبهذا يندفع إنكار المنكر لعذاب القبر، إذ يقول: " إني نظرت في قبر فلان، فما رأيت شيئا مما ورد في باب عذاب القبر " وذلك لأنه في عالم الشهادة، ولا بد لمشاهدة عالم الغيب من الخروج عن غشاوة هذا العالم وغباره، نعم الفاسق قد ينام فيتمثل له حاله في المنام، فربما يرى صورة حية تلدغ صميم فؤاده، لأنه بعد قليلا عن عالم الشهادة فتتمثل له حقائق الأشياء تمثلا محاكيا للحقيقة، منكشفا له من عالم الملكوت، والموت أبلغ في الكشف من النوم، لأنه أقمع لنوازع الحس والخيال، وأبلغ في تجريد جوهر الروح من غشاوة هذا العالم، فلذلك يكون التمثل تاما محققا دائما لا يزول، فإنه نوم لا تنبه منه.
فكما أن المستيقظ الذي بجنب النائم - إن كان - لا يشاهد الحية التي يلدغ النائم، وذلك غير مانع من وجود الحية في حقه وحصول الألم به في نفسه، فكذلك الحاضر في قبر الميت بالقياس إلى حال الميت الذي يشاهدها في قبره الحقيقي.
وهذا ملاك التحقيق في فهم متشابهات القرآن والحديث، وهو مسلك شريف قد ذكره بعض علماء الإسلام كالغزالي في كتبه، إلا أن بيانه بوجه حكمي برهاني، وتصحيحه بأوضاع ومقدمات علمية قطيعة تطابق عليها العقل والنقل، وتقويمه يدفع شبه وأغاليط وهمية ووساوس شيطانية على النظم القياسي المتألف من مواد حقة صحيحة وصور مستقيمة لازمة الإنتاج غير عقيمة الازدواج موكول إلى بعض كتبنا العرفانية المبسوطة، المتكفلة لبيان الأصول الحقة الإيمانية على مبلغ القوة والطاقة والله ولي الإفاضة والإلهام.
زيادة كشف وتبيين
بل نقول ما من شيء في هذا العالم إلا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنه روحه ومعناه، وليس هو هو في صورته وقالبه، والمثال الجسماني مرقاة إلى المعنى الروحاني، ولذلك كانت الدنيا منزلا من منازل الطريق إلى الله، فيستحيل الترقي إلى عالم الآخرة إلا من مثال عالم الدنيا
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62] " من فقد حسا فقد علما ".
والقرآن والأخبار مشحونة بذكر الأمثلة من هذا الجنس الذي مر ذكره، فانظر إلى قوله (صلى الله عليه وآله)
" قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن "
فإن روح " الإصبع " القدرة على سرعة التقليب، وإنما يكون قلب المؤمن بين لمة الملك ولمة الشيطان، هذا يغويه وهذا يهديه، والله سبحانه يقلب قلوب العباد كما تقلب أنت الأشياء باصبعيك، فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخرين إلى الله تعالى اصبعيك في روح الاصبعية وخالف في الصورة.
فاستخرج من هذا ما نقل عنه (صلى الله عليه وآله):
" إن الله خلق آدم على صورته "
فمهما عرفت معنى الاصبع أمكنك الترقي إلى القلم، واليد، واليمين، والوجه والصورة، ووجدت جميعها حقائق غير جسمانية متمثلة بأمثلة جسمانية، فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من ذكره إذا ذكر حد القلب " هو الذي يكتب به " فإن كان في الوجود شيء يسطر بواسطته نقوش العلوم في ألواح القلوب بأحرى به أن يكون هو " القلم " فإن الله
علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
[العلق:4 - 5].
وهذا هو القلم الروحاني، إذ فيه روح القلم ولم يعوزه إلا قالبه وصورته، وخصوصية المادة - كما مر - غير داخلة في حقيقة الشيء، ولذلك لا يؤخذ في حده الحقيقي، إذ لكل شيء حد وحقيقة وهي روحه، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا وفتحت لك أبواب عالم الملكوت وأهلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا.
ولا تستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس، فإن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم يسند التفسير إلى قتادة. أو مجاهد، أو السدي، فالتقليد غالب عليك، وكلامنا ليس إلا مع المستبصر، ومع ذلك فانظر إلى معنى قوله تعالى ما ذكره المفسرون:
أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها
[الرعد:17] - الآية - وأنه كيف مثل العلم بالماء والقلب بالأودية والينابيع، والضلال بالزبد، ثم نبهك في آخرها فقال:
كذلك يضرب الله الأمثال
[الرعد:17].
ثم نقول: كل ما لا يحتمله فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل لك، وذلك مثال مناسب يحتاج إلى التعبير، ولذلك قيل: " إن التأويل يجري مجرى التفسير " ومدار تدوار المفسرين على القشر، ونسبة المفسر إلى العارف المحقق المستبصر كنسبة من يترجم معنى الخاتم والفروج والأفواه في مثال المؤذن الذي كان يرى في المنام أن في يده خاتما يختم به فروج النساء وأفواه الرجال إلى من يدرك أنه أذن قبل الصبح في شهر رمضان.
فإن قلت: لم أبرزت هذه الحقائق في هذه الأمثلة ولم تكشف صريحا حتى وقع الناس في جهالة التشبيه وضلالة التمثيل؟
فالجواب: إن الناس نيام في هذا العالم، والنائم لم ينكشف له غيب من اللوح المحفوظ إلا بالمثال - دون الكشف الصريح - وذلك مما يعرفه من يعرف العلاقة الحقة التي بين عالم الملك والملكوت.
فإذ عرفت ذلك عرفت أنك في هذا العالم نائم - وإن كنت مستيقظا عارفا - " فالناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا " فينكشف لهم عند الانتباه بالموت حقائق ما سمعوه بالمثال وأرواحها، ويعلمون أن تلك الأمثلة كانت قشورا وأصدافا لتلك الأرواح ويتيقنون صدق آيات القرآن، وصدق قول الرسول والأئمة الهداة (عليهم السلام) كما تيقن ذلك المؤذن صدق قول ابن سيرين وصحة تعبيره للرؤيا، وكل ذلك ينكشف عن الاتصال بالموت ويعرف كل أحد تأويل رؤياه، كما قيل في الفرس:
خواب نوشين بدانديش توخوش جندان است
كابن سرين قضا دم نزند در ت ويل
وحينئذ يقول الجاحد والغافل:
يليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا
[الأحزاب:66]
أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل
[الأعراف:53]
ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
[الفرقان:28]
يليتني كنت ترابا
[النبأ:40]
يحسرتا على ما فرطت في جنب الله
[الزمر:56] إلى غير ذلك من الآيات المتعلقة بشرح المعاد والآخرة.
فافهم وتحقق من هذا إنك لما كنت نائما في هذه الحياة وإنما تيقظك بعد الموت، وعند ذلك تصير أهلا لمشاهدة صريح الحق كفاحا، وقبل ذلك فلا تحمل الحقائق إلا مصبوبة في قالب الأمثال الخيالية، ثم لجمود نظرك على الحس تظن أنه لا معنى له إلا المتخيل، وتغفل عن الحقيقة والسر كما تغفل عن روح قلبك، ولا تدرك إلا قالبك
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
المقالة العاشرة:
في قوله سبحانه: { ولا يؤوده حفظهما }
وفيه فوائد:
الأولى في اللغة
" لا يؤده " أي: لا يثقله ولا يشق عليه: يقال: آده، يؤوده، أودا: إذا أثقله وأجهده. و: أدت العود، أودا: إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته. و: [ادت العود] أؤده، فانآد. نحو: عجته فانعاج. و: الأود والأوداء على وزن: الأعوج والعوجاء والمعنى واحد. والجمع: الأود كالعوج. والمعنى: لا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض.
الثانية في النظم
لما عظم الله تعالى أمر السماء وما فيها والأرض وما فيها سابقا بأن نسب وأضاف ما في كل منهما إلى ملكه وسلطانه، ثم عظم أمر الكرسي بأنه وسع السماوات والأرض، إذ كما أن الكرسي بطبيعته الجسمية المحددة للأمكنة والأزمنة محيط بما في داخله - لا كمجرد إحاطة الظرف بالمظروف محددا كان المكان المحاط عليه أم لا، بل بأن لايتعين للمحاط عليه مكان أو حيز أو وضع أو ما شئت فسمه إلا بسبب طبيعة جسمية بخصوصها - فكذلك بحقيقته العقلية، والنفسية، وروحه، وقلبه، الذي هو مستوى الرحمن مؤثرة فيما دونها من النفوس، والطبايع، الفلكية، والعنصرية، وملكوت العالم السفلي - من الجماد والنبات والحيوان - ولذلك تنبعث الأرزاق والآجال من هناك وترتفع الدعوات لطلب الحاجات إلى ذلك، فأراد أن يشير إلى أن ذلك لا يشق عليه ولا ينوء به فقال: { ولا يؤوده حفظهما }.
أي: لا يتعب الكرسي ولا يشق على ظاهر حقيقته وباطن قلبه حفظ أجسام السماوات والأرض، وحفظ نفوسها وطبايعها وصورها ان كان الضمير راجعا إلى " الكرسي ".
أو لا يتعبه تعالى حفظهما بالكرسي على الوجه المذكور - إن كان الضمير راجعا إليه سبحانه - كما لا يؤد الروح الإنساني حفظ أسرار السماوات والأرض ومعانيها التي أودعها الله في السر الإنساني بقوله تعالى:
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31].
وتحقيق هذا المطلب يحتاج إلى مزيد تقرير له ليظهر لك بالبرهان كيفية دوام الممكن بدوام علته الفياضة، من غير تعب وملال وأودة وكلال، وهذا هو الذي وعدناه آنفا، فاستمع وعه.
الفائدة الثالثة
إعلم أن للحق تعالى أسماء وصفات، ولكل منهما مجالي ومظاهر في كل من العوالم، من أحصاها - أي عرفها، وعرف لوازمها، وآثارها، وبدايتها، وغايتها - وجبت له الجنة، وهي الكمال العلمي العرفاني، أي العلم بحقائق الأشياء كما هي عليها الموجب لمشاهدة المثل العقلية والأشباح الجنانية الموعودة - إن شاء الله - جزاء لصالح العمل ومرضي السعي.
فكما أن عالم الجبروت من الملائكة العقلية - بجملة أعدادها الكثيرة وضروبها التي لا يحيط بها غير الله - هو عالم قدرة الله تعالى ومظهر جباريته ومستوى اسم " الجبار " كذلك " عالم الكرسي " بجملة ما فيها من ملكوت السماوات والأرض " عالم رحموته " ومظهر رحمانيته ومستوى اسم " الرحمن " إذ برحمته قامت السماوات والأرض، فالكرسي صورة رحمانية الله تعالى على الخلائق وبها يعطف بعضهم بعضا بالترتيب الحكمي، والنظام السببي والمسببي، فلكل سبب خاص عطوفة ورحمة على مسببه بإيجاده، وإقامته، وحفظه، وإدامته.
ثم اعلم أن العلة الفاعلية بحسب المشهور على ضربين:
أحدهما: الفاعل الذي يحتاج في فاعليته إلى حركة وآلة وقابل - كالكاتب والبناء - ومثل هذا الفاعل يقال له في عرف الإلهيين ب " المعد " و " المحرك " وهي العلة بالعرض.
وثانيهما: الفاعل الذي لا يحتاج إلى حركة وآلة جسمانية وقابل - وهو الفاعل في عرفهم وإن سألت الحق فليس الفاعل بالحقيقة إلا ما هو بريء بالكلية عن جهة الإمكان، وما هو إلا الواحد الحق كما مرت الإشارة إليه.
فالفاعل بالمعنى الأول لتعلقه بالمادة الجسمانية، وتحركه عند تحريكه يلحقه لا محالة كلال وإعياء ودثور وفناء، لأن الجسمانيات متناهية الذوات، متناهية القوى والانفعالات، كما أنها متناهية الامتدادات والاتصالات، فيصحبها الكلال أولا ثم الزوال ثانيا، وقد صرح بعض الحكماء بأن الفاعل الجسماني قابل في الحقيقة لفعله لمباشرته إياه، وأما القوى الفعالة المتقدسة عن شوب الانفعال المادي، المرتفعة عن حضيض العالم السفلي فهي مسلوبة التغير عن حالها، ممتنعة التجدد في فعالها، بريئة الذوات عن لحوق معنى عارض يوجب كلالها وملالها، أو مضاد مفسد يقتضي فسادها وزوالها.
فهي وسائط فيض الحق وروابط جوده، ومكثر جهات رحمته، ومفنن شعوب فضله وجوده، فهي بالحقيقة عباد الرحمن المؤتمرون بأمره، المنزجرون بنهيه وزجره، كما وصفهم الله تعالى بقوله:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6].
بخلاف الفاعل بالمعنى الأول، فإنه لوقوعه في عالم الأضداد وتصادم صور المواد، ربما يعوق عن فعله المقصود لمانع، ويقطع عن طريقه المصمود إليه لقاطع.
وإن أردت زيادة التوضيح فقد أودع الله تعالى في نفسك هذين الضربين من التأثير، أي: الإبداع والتحريك وهو المسمى بالإحداث أيضا، لأن الحدوث يعرض الحركة بالذات ولما يقترنه بالعرض.
ف " الإبداع " إيجاد شيء لا عن شيء، ومثاله فيك تصورك للأشياء بقوتك المصورة ومثولها بين يديك في عالمك الخاص، على وجه يكون وجودها لك نفس مشاهدتك إياها، و " الإحداث " هو جعل الشيء شيئا. ومثاله فيك تكلمك وكتابتك بآلات وأسباب طبيعية أو غيرها.
ففي الضرب الأول لا يصرف منك شيء إلا مجرد الالتفات والعناية، وفي الثاني يصرف منك المادة والآلة والزمان والقوة شيئا فشيئا، فيحصل منه المفعول تدريجا، ويكمل عند انقضاء الحركة والزمان، وهما مقدار خروج المادة إلى الفعل، وتوجه القوة والآلة نحو الكمال، تقربا إلى المبدإ الفعال.
فإذا علمت هذين الضربين من الفاعلية، وعلمت خصوصية كل منهما وامتيازه عن صاحبه بخواص ولوازم، ظهر لك أن التعب والمشقة والأودة، لا تعرض إلا لفاعل جسماني لا يفعل إلا بأن ينفعل ويتحرك من حال إلى حال، ويكون فاعليته على سبيل المباشرة.
وأما الذي فاعليته لشيء بحيث إذا أراد أن يقول له: " كن " فيكون، أي يكون مجرد إرادة الفعل منه مقتضيا لحصول فعله من غير أمر زائد يكون متوسطا بينه وبين فعله - كإيجاده تعالى عالم الأمر - أو يكون الوسط حاصلا بأمره من غير مدخلية مادة واستعداد وحركة - كإيجاده لجواهر السماوات والأرض بواسطة أمره - أو مع مدخليتها - كإيجاده الحوادث الفلكية والأرضية بإفادة الأسباب، وإفاضة الاستعدادات والحركات من غير تغير فيه تعالى، وإليه أشار بقوله سبحانه: { ولا يؤوده حفظهما } أي لا يتعبه إدامة جواهر ما في السماوات وما في الأرض هذا إذا كان ضمير المفعول كناية عنه تعالى، وأما إذا كان راجعا إلى " الكرسي " فالحكم بعدم عروض التعب والمشقة ثابت للكرسي، لأنه بحقيقته وذاته من وسائل جوده تعالى وربانيته، وجهات كرمه ورحمانيته التي لا تبيد ولا تنقص أبدا فلا يلحق له مشقة وتعب، وإذا لم يحصل له فاستحال حصوله للحق بالطريق الأولى.
وبالجملة كل ما هو علة لشيء بالحقيقة والذات - لا بحسب القسر للإعداد والاستعداد - يكون المعلول من توابع ذاته ورشحات وجوده وبمنزلة الظل للشخص، فكما لا يثقل ولا يشق وجود الظل على الشخص واستتباعه إياه، فكذلك المعلول بالقياس إلى ما هو علة له بالذات، وهذه الأسباب التي يظن الناس أنها علة إنما يؤدها وجود ما ينسب إليها، لأنها ليست عللا بالحقيقة، بل بحسب المجاز، وما هو علة بالحقيقة لا يلحقه الفتور في تأثيره، اللهم إلا أن يكون بحسب نفس الأمر (نفسه أمرا - ن) ناقصا ضعيف الوجود.
فاعتبر بالكتابة الصادرة من الكاتب، فإن جوهر الإنسان كاتب بالعرض لا بالذات، ولهذا يلحقه التعب والملال، وأما الكاتب بما هو كاتب - وهو أمر مركب من جوهر الإنسان وأمور أخرى، بعضها نفسانية، وبعضها طبيعية، وبعضها خارجية، من الآلة والحركة والقابل وغيرها - فلا يحصل التعب للمجموع إلا من جهة تصادم وقع بين أجزائه، وتعارض قد حصل في العضو الواحد بين مقتضى الطبيعة ومقصود الإرادة، فإن مقتضى الطبيعة التي في العضو الثقل - أي الميل إلى مركز العالم - ومقصود الإرادة الحركة إلى جهات مختلفة فيحصل له الإعياء، فيمل الإنسان من الكتابة قبل أن يحصل بها الاكتفاء وعنها الغناء، وأما الأمور التي تجري مجرى التصورات المحضة والتمثلات، فحصولها من الإنسان لا يشق عليه، لأنها إنما صدرت منه بجهة واحدة فاعلية ذاتية من غير تعارض الجهتين، فيكون هناك نفس التصور والإرادة الشوقية نفس الحصول في صقع من النفس.
فمن هذا السبيل يجب أن يعتقد فاعليته تعالى للأشياء وفاعلية ملائكته المقربين وملائكته المدبرين، فإن صدور الموجودات عنه تعالى - كلية كانت أو جزئية روحانية كانت أو جرمية - نفس تعقله إياها كما حقق في موضعه، وكذا فاعلية من هو في عالم جبروته وصقع ملكوته ، فمن اعتقد فاعليته تعالى على هذا الوجه وأعلى منه آمن من التجسم في حقه الموجب للعذاب الأليم.
المقالة الحادية عشرة:
في قوله سبحانه: { وهو العلي العظيم }
وفيه لطائف:
اللطيفة الأولى
في كيفية نظمه بما سبق
وهو أنه سبحانه بعدما أثبت وأظهر المخلوقات من العرش، والكرسي، علوا في المرتبة وعظمة في الخلقة، إظهارا لكمال القدرة والحكمة، تردى برداء الكبرياء في العز والعلاء، واتزر بإزار العظمة في الرفعة والسناء، وهو أولى وأحق بالمدحة والثناء، فقال تعالى: { وهو العلي العظيم } أي: له العلو في الشأن والعظمة والسلطان، فمن علا في الآخرة فبإعلائه قد علا، ومن عظم في الدنيا فبتعظيمه قد عظم واستولى، فسبحان ربنا العظيم، وسبحان ربنا الأعلى.
اللطيفة الثانية
إعلم أن علو الحق وعظمته صفتان إضافيتان، ثابتتان له تعالى بالقياس إلى اعتقاد العبد وتصوره وإثباته الوجود لغيره تعالى، وإلا فليس لما سواه وجود في جنب وجوده تعالى حتى يتصف بالعلو بالقياس إلى غيره، نعم الإنسان يتصور بقوته الوهمية لنفسه وجودا مستقلا، وبواسطة وجوده الموهم يتوهم ويعتقد للعالم وأفراده وجودا مستقلا يقيس إليها وجود الحق، فيصفه بالعلو والعظمة، ثم بقدر ما يظهر له قصور وجوده وضعفه وقصور الوجودات الإمكانية وضعفها يزيد في نظره علو الحق وعظمته، ولهذا المعنى قيل: " إن ظهور الإنسان سبب خفاء الحق في هذا العالم " فبقدر انكساره وافتقاره ودثوره وفنائه يظهر له وجود الحق وبقاؤه وعلوه وكبرياؤه.
وقيل أيضا: إن هذا العالم عالم الخيال يتراءى فيه الأشياء على وجه الانعكاس والانتكاس، فيرى المتبوع تابعا والتابع متبوعا، والمستور ظاهرا والظاهر مستورا، بل الموجودات معدومة والمعدوم موجودا، فالحق موجود والخلق مفقود، وفي الخيال يكون بعكس هذا، وكذا الحق ظاهر جلي والخلق مستور خفي، وفي الحس بالعكس.
فإذا أخذ الإنسان في النزول والنقصان والهبوط في منازل الإمكان، وعاد قليلا إلى ماله بحسب ذاته من الخلل والفقدان، واستأنف للحق في شهوده علوا وعظمة وجلالا وكبرياء، ففي كل فناء يظهر عليه للحق بقاء، وفي كل تواضع ينكشف عليه للرب تعالى كبرياء، أو لا ترى أنك تقول في انحنائك بالركوع: " سبحان ربي العظيم " وفي هويك بالسجود: " سبحان ربي الأعلى " وهكذا قليلا قليلا إلى أن يضمحل وجوده بالكلية ويبقى الوجود الحقاني للواحد القهار.
ومن هاهنا يعلم أن قصارى مجهود العابدين والعارفين في عبادتهم وعلومهم، ليس إلا تصحيح نسبة الإمكان وحفظ مرتبة الفاقة والافتقار والعجز والانكسار، لئلا يبقى في شهودهم وجود للأغيار، ولا يكون عندهم في الدار غيره ديار، فقوله تعالى: { وهو العلي العظيم } بالنظر إلى قوم لهم بقايا الوجود الوهمي وقوله تعالى:
وهو الواحد القهار
[الرعد:16]. بالنظر إلى قوم آخرين قبل ظهور الساعة، وقوله:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص:88] بحسب نفس الأمر أزلا وأبدا بالقياس إلى الخلائق جميعا.
اللطيفة الثالثة
إعلم أن " العلو " علوان: علو مكاني وعلو معنوي وجودي:
والأول: ذاتي للمكان وعرضي للجسم، ولذا قال سبحانه في حق إدريس (عليه السلام)
ورفعناه مكانا عليا
[مريم:57] فوصف مكانه بالعلو، وأعلى الأمكنة مكان " المحدد للجهات " والمحدد أعلى الأجسام مكانا، فكل ما هو أقرب منه كان أعلى في المكان مما هو أبعد، ويقابله مكان الأرض وهو أسفل السافلين، والواقع فيه طبعا - كالأرض - يكون تحت الأجسام، فكل ما هو أقرب منها كان أسفل.
وأما الثاني: فهو ذاتي للحق وهو حقيقة الوجود، وعرضي للماهيات الموجودة، فإطلاق قولنا " الموجود " على الماهيات كما يطلب قولنا " العالي " على الأجسام، وإطلاقه على الواجب عند العارفين كإطلاق " العالي " على مكان (جرم - ن) المحدد، وإطلاقه على المعلول الأول عندهم أو على الواجب عند جمهور المتكلمين كإطلاق " العالي " على جرم المحدد، وإطلاقه على ما سوى المعلول الأول - وهو الحقيقة المحمدية كما مر - كإطلاق " العالي " على غير المحدد.
وخرج من إطلاق الوجود بالفعل ماهية الهيولى، إذ وجودها عبارة عن الهاوية المظلمة، أي نفس السفل والقوة والهبوط، كما خرج من إطلاق العالي جسمية الأرض ومكانها الذي هو أسل السافلين.
وقد وصف الله هذه الأمة المرحومة بالعلو المعنوي والمنزلة الوجودية فقال:
وأنتم الأعلون والله معكم
[محمد:35] أي: في هذا العلو، وهو سبحانه مقدس عن العلو المكاني، فيكون المراد العلو الوجودي ، إذ موجودية الممكن إنما تحصل بمعية الواجب تعالى معه - إما ابتداء أو بتوسط معيته بالأشياء الأخر، وهي العلل المتوسطة بينه وبين المعلول الأخير - فإن معيته تعالى بكل متقدم في الوجود أقدم من معيته إلى المتأخر، لكن المراد هاهنا من " المعية " ما يكون بغير وسط لأنه في مقام المدح.
ووجهه أن الإنسان الكامل أعلى الموجودات، لأنه خرق (قد خرج - قد خرج في - ن) الوجود وسلك سبيل الله وأحاط بالكل وصارت مرتبته جامعة لجميع المراتب، فله المعية الذاتية بالنسبة إلى الباري جل اسمه والعلو في المنزلة والمعنى، فيكون فوق الكل، فقد جمع له بالعمل العلو المكاني لأن مكانه الجنة وهو أعلى الأمكنة، وبحسب العلم - الموجب للإحاطة بالحقائق - المعنوي.
والملائكة المقربون لهم العلو بحسب الرتبة، لأنهم وسائط جود الحق ورحمته، فقال لإبليس:
أستكبرت أم كنت من العالين
[ص:75]. لأن جوهر إبليس من الجواهر المتعلقة بعالم الظلمات، فمنزلته دون منزلة الأنوار العقلية المرتفعة عن التعلق بغير الحق، فلها السلطنة الكبرى على القوى المتعلقة بالعالم الأدنى.
فظهر أن الحق تعالى " علي " لذاته، لأن وجوده عين ذاته، والإنسان الكامل " علي " بعلو الحق تعالى.
هذا في مقام الفرق والاشتراك في الوجود والعلو، وأما في مقام الجمع فهو الواحد القهار لا غير، لأنه لا يوصف إلا بالصفات التنزيهية، فلا علو كما لا سفل له، والاشتراك المذكور في أصل العلو في الجملة بين العبد والرب في مقام الفرق، ولا بد من إعطاء حق الربوبية والعبودية من العلو بأنه ذاتي للرب وعرضي للعبد، ولهذا أمر الله تعالى أشرف الممكنات - وهو الذي له المنزلة العظمى في المعية للحق، والعلو المعنوي دون غيره إلا بوسيلته - أن يتأدب بأدب العبودية ويسبح الله عن النقص الإمكاني، فقال مخاطبا إياه:
سبح اسم ربك الأعلى
[الأعلى:1] وظني أن منشأ استغفار رسول الله (صلى الله عليه وآله) - كما ورد في الحديث - هو هذه المعية العالية التي هي مظنة الاشتراك بين العبد والرب في العلو المعنوي، فيحتاج العبد الأعلى والملك المقرب في كل حين إلى تذكر عظمة الله ، وعلوه، والاستغفار عن ذنب وجوده الإمكاني، لئلا يقع في السكر عن الشكر، وفي الكفر عن الإحسان، والنسيان عن الوجدان، فيجرى على لسانه شيء من السكريات فينحط عن مقام القرب والمحبة إلى مقام البعد والمذلة نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
اللطيفة الرابعة
في بيان تقديسه تعالى عن العلو المكاني
وفيه دلائل كثيرة أوردنا اثنين منها:
أحدهما: أن علوه لو كان مكانيا لكان لا يخلو إما أن يكون جسما متمكنا أو نفس المكان.
والأول: باطل لتركب كل جسم إما بحسب نفس الجسيمة المشتركة كما هو مذهب جمهور الحكماء، وإما بحسب تعينه الخاص ونحو وجوده النوعي أو الشخصي كما هو رأي الجميع، فإن كل نوع من الجسم مركب في الخارج إما من جوهرين، أو جوهر وعرض - على اختلاف القولين في جوهرية الصورة النوعية وعرضيتها - يكون أحد الجزئين يجري مجرى الجنس والآخر يجري مجرى الفصل، والتركيب مطلقا ينافي الوجوب الذاتي كما علمت.
والثاني: لا يخلو إما أن يكون متناهيا في جهة فوق أو غير متناه، والأول مستحيل لاستلزامه أن يكون المفروض فوقه أعلى منه فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه، بل كيون غيره أعلى منه مكانا هذا محال ضرورة، ويلزم أيضا أن يحتاج في تعينه إلى ما يحدد جهته.
وإن كان غير متناه فيكون ممتنعا لامتناع اللاتناهي في المقدار بالبراهين العقلية القاطعة الدالة على تناهي الأبعاد والمقادير.
ولنذكر من تلك البراهين ما هو أخف وأجود وأوثق وأنسب بهذا المقام وهو أنه لو كان بعد غير متناه يمكن لنا أن نفرض ذلك البعد إلى جهة الفوق ونفرض فيه نقط غير متناهية، فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا نفرض فوقها نقطة أخرى وإما أن لا يحصل.
فإن كان الأول كانت هذه النقطة آخر النقاط فيكون طرفا لذلك البعد فيكون ذلك البعد متناهيا - وقد فرضناه غير متناه هذا خلف -.
وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلا ، ولا يكون فيها ما يكون فوقا على الإطلاق فحينئذ لا يكون لشيء من النقط المفروضة في ذلك البعد علو مطلق، وإذا لم يكن " مطلق " لم يكن " مضاف " ، وذلك ينفي صفة العلوية، وقد وصفنا أنه سبحانه علي بمعنى العلو المكاني - هذا خلف الدليل الثاني.
الدليل الثاني: إن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل، وفي العرضي أقل وأضعف، فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية له، ولكان حصول العلو لله سبحانه حصولا بتبعية حصوله في المكان فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى، فيكون علو الله ناقصا وعلو غيره كاملا وذلك محال.
فهذان الدليلان قاطعان في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة، وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله تعالى:
لمن ما في السماوات والأرض قل لله
[الأنعام:12]. قال: " وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله وملكوته ثم قال:
وله ما سكن في اليل والنهار
[الأنعام:13]. وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته، فتعالى وتقدس على أن يكون علوه بسبب المكان وتقدمه بسبب الزمان، إذ المكان والزمان كلاهما من مخلوقات الله الواقعة في أدنى المراتب.
فتعالى ذاته وصفاته عن أن يكون مكانيا أو زمانيا، فبقي أن يكون علوه بحسب وجوب الوجود والإلهية، وسرمديته بحسب القيومية الذاتية.
وعلى هذا القياس معنى عظمته، فإنها أيضا بحسب المهابة، والجلالة، والقهر، والكبرياء، ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم، لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال، لما ثبت بالقواطع البرهانية تناهي الأبعاد في كل الجهات، وإن كان متناهيا في الجهات كلها كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه فلا يكون مثل هذا الشيء عظيما على الإطلاق، فالحق سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام، تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.
[2.256]
المقالة الثانية عشرة:
في قوله سبحانه: { لا إكراه في الدين }
وفيه أطوار:
الطور الأول
في اللفظ
" اللام " في " الدين " إما أنه لام العهد كما ذهب إليه بعض، أو أنه بدل من الإضافة كما رآه آخرون، وهو مثل قوله تعالى:
فإن الجنة هي المأوى
[النازعات:41]. أي: مأواه، والمراد " في دين الله ".
و " الدين " معناه في الأصل: العادة والشأن، ودانه: أذله واستعبده، يقال: دنته، فدان، ثم استعمل بمعنى الجزاء: دانه دينا، أي: جازاه، يقال: " ما تدين تدان " أي: كما تجازي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت، وقوله تعالى:
أإنا لمدينون
[الصافات:53]. أي: مجزيون، ومنه: " الديان " في صفة الله، و " قوم دين " أي: داينون، والمدين: العبد. والمدينة: الأمة كأنهما أذلهما العمل ودنته: ملكته، ومنه سمي المصر " المدينة " ثم استعمل بمعنى الطاعة، ودان له: أطاعه، ومنه " الدين " ، والجمع: " الأديان " وقد دان بكذا، ديانة وتدين به، فهو دين ومتدين.
الطور الثاني
في المعنى
والتحقيق فيه: أن " الدين " في الحقيقة، هو التسليم والرضا الحاصلين بسبب العقائد العلمية التي وقعت بإفاضة الله على القلب المطمئن بالإيمان لمناسبة ذاتية، أو كسبية بمزاولة الأفكار والأنظار في طلب الكشف واليقين، وكما أن العلوم الضرورية تحصل في القلب بمجرد الإفاضة من غير إكراه وجبر، فكذلك العلوم النظرية والمعارف الإلهية إنما تحصل عقيب المبادئ والمقدمات الإلهامية، أو التعليمية بمجرد الإلقاء في الروع، والتأثير في الباطن، والقذف في القلب من غير إجبار في الظاهر وإكراه في القالب.
وذلك لأن الدين أمر باطني، ولا تسلط لأحد على باطن الإنسان وقلبه إلا للواحد الحق، من جهة المناسبات الذاتية، والقربات المعنوية، والمواجيد الذوقية، والمكاشفات الشوقية، والتجليات الإلهية، وقد ورد في الخبر:
" إن الله تعالى إذا تجلى لشيء خضع له باطنه وظاهره ".
وفي الحديث النبوي عليه وآله أفضل الصلوات والتسليم:
" ليس الدين بالتمني ".
مع أن التمني نوع من الاختيار، فكيف يحصل بالإكراه - وهو الإجبار - وذلك لأن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهرا، والتسليم لأحكام الحق تعالى باطنا من غير حرج في الباطن، كقوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام
[آل عمران:19]. وقوله:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
[النساء:65].
الطور الثالث
فيما سنح لنا بالبال في تحقيق المرام وفي انتظامه بما سبق من الكلام
إن الله سبحانه وتعالى بعدما بين معارف التوحيد الذاتي، والصفاتي، والأفعالي بوجه شاف كاف متعال، أراد أن يشير إلى طريق العبودية لهذا المعبود الموصوف بغاية الجمال والجلال، المنزه عن المماثل في الكمال والشريك في الأفعال، فأشار إلى " مقام الرضا " الذي هو من لوازم المعرفة، واليقين، والبصيرة التامة، في أمر الدين، وهو أعلى مراتب العابدين قبل حصول الفناء، وأجل مراتب العارفين الصديقين في هذه الحياة الدنيا حين بقاء الوجود فيهم بعد، وعدم اندكاك جبل هويتهم في ملاحظ الهوية الأولى، فقال: { لا إكراه في الدين }.
فإن من كان بعد متكلفا في الدين ثقيلا عليه حمل أعبائه، متأديا بالعبادة غير منخشع القلب ولا سهل الانقياد سلس الإجابة للطاعة، ولا طواعا للشريعة من غير كره وانقباض، فهو بعد أسير الهوى والرغبات، عابد أصنام الشهوات، وإنما يعبد الله ويدعوه تقربا به إلى نيل مراده، وجاعلا إياه وسيلة إلى راحة ذاته، فهو بالحقيقة مستخدم ربه، ومستعبد معبوده تعالى الله عنه.
ومثل هذا الإنسان لا محالة غير عارف بالمبدإ الأعلى، بل حاله شاهد على أن إلهه هواه ومعبوده نفسه، فما دام على هذه الحالة فهو غير واصل إلى مرتبة العبادة والمعرفة، فتارة يعتريه الخوف، وتارة يسليه الرجاء، وفي بعض أوقاته من الجفاء يلجأ إلى باب الصبر، وفي بعضها يستزيد النعم بالشكر.
فإذا ارتقى من هذه المنزلة إلى درجة الرضا والتسلم، استراح من جميع ذلك، فلم يحتج إلى جذب مطلوب له، أو دفع مهروب عنه، فلا يبقى له كراهة في الدين ولا أذية في سلوك طريق المسلمين، كما ورد في الحديث
" أول الإسلام إماطة الأذى عن الطريق "
يعني: أول درجات الإسلام الحقيقي مقام الرضا بالقضاء من غير إكراه، بأن ينظر المرء إلى جميع المخلوقات بعين الرضا، ويجد في نفسه في جميع ما يسمى بالتكاليف الدينية حالة الارتضاء، وذلك باب الله الأعظم، وبه يدخل السالك في التدين بدينه الذي هو معرفة التوحيد المشار إليه آنفا والعمل بمقتضاه.
وإنما قلنا " إنه أول الدرجات " لأن هذه المرتبة قاصرة عن مراتب الكاملين الواصلين إلى أدنى حد من حدود الكمال، فإن الراضي يدعي أن له وجودا مقابلا لوجود المرضي عنه، وله مجال تصرف قد تركه باختياره، وذلك يستلزم دعوى الشركة في الوجود والتصرف، تعالى الله عن أن يكون له شريك، أو معه متصرف.
فإن ارتقى من هذه الدرجة ووصل إلى مقام الفناء المحض، ومحو الأثر، الذي هو منزل أهل الوحدة المطلقة - لا أقول التوحيد فإنه طلب وحدة قسرية، ولا الاتحاد فإنه وإن كان بالطبع لا بالقسر لكن تفوح منه راحة الكثرة - لا يتلفت مثله إلى مقام الرضا والتسليم، بل مقامه في العبودية والإخلاص المحض، وأخلص من أن يكون له " ثبوت " حتى يمكن اتصافه بالكمال، وأن يكون له " هوية " حتى يصير منعوتا بنعوت الجمال والجلال، بل هناك ينقطع السلوك والسالك وينعدم الوصول والواصل
وأن إلى ربك المنتهى
[النجم:42]
إن إلى ربك الرجعى
[العلق:8].
الطور الرابع
قال أبو مسلم والقفال المعتزلي: " ان الله ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار ".
وفيه نظر: لأن الإيمان أصله الاعتقاد الثابت الجازم، وهو مما لا يكون للاختيار فيه مدخل، لأنه نفس العلم، والعلم كسائر الأحوال القلبية يحصل بإفاضة الله من غير فاعل متوسط، ولا يحصل بالاختيار - كما يحكم به الوجدان الصحيح - ولا يلزم من كونه لا بالاختيار أن يكون حصوله بالإجبار ليكون منافيا لما يستفاد من قوله تعالى: { لا إكراه في الدين }.
وذلك لأن الروح الإنساني من عالم الأمر، والتصورات الكلية والاعتقادات اليقينية (القلبية - ن) أمور موجودة في عالم الأمر، وكل ما يكون في عالم الأمر فهو أرفع وأجل من أن يكون حصوله بطريق الجبر والاخيار، بل على سبل الرضا، والفعل الحاصل بالرضا ما يكون وجوده عين المشيئة، والمحبة، والعشق، والشوق.
نعم يمكن الاعتذار من طرف هذا القائل بناء على مذهبه من الاعتزال، بأن تكون الأعمال جزء الإيمان، وهي كفعل الطاعات - من الصلاة والصوم، والزكاة، والحج، والكفارات، وغيرها وترك المناهي الشرعية - والكل أفعال اختيارية لا إجبار فيه، لكن يرد عليه أن الإكراه غير الإجبار، لكون أحدهما طبيعيا والآخر نفسانيا، فنفي أحدهما يستلزم نفي الآخر، بل الأعمال الشرعية كالصلاة والزكاة وغيرهما - لو أهملها المكلف استحق للإكراه والزجر، بل القتل، فكيف لا يجري فيها الإكراه، ولهذا قيل: " الآية منسوخة ".
والأولى أن يقال: إن الله سبحانه لما بين دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للعذر، قال بعد ذلك إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر، إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا - التي هي دار الابتلاء - إذ في القهر والإكراه على الدين يبطل معنى الابتلاء والامتحان.
ونظير هذا قوله تعالى:
فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر
[الكهف:29]. وقال في سورة آخرى:
ولو شآء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
[يونس:99]. وقال في سورة الشعراء:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السمآء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين
[الشعراء:3- 4].
ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية: { قد تبين الرشد من الغي } يعني ظهرت البراهين وانكشفت الحجج والبينات، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر، والإكراه، والإلجاء، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف في هذه الدنيا.
الطور الخامس
في ذكر أقوال المفسرين فيه
وهي عدة أقوال:
الأول: إنه في أهل الكتاب خاصة، الذين يؤخذ منهم الجزية، لأنهم لما قبلوا الجزية سقط القتل، وحكم المجوس حكمهم، لأن لهم شبه كتاب، وأما الكفار الذين تهودوا أو تنصروا فقيل: إنهم لا يقرون على ذلك ويكرهون على الإسلام.
وقيل: يقرون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون.
الثاني: إنها نزلت في قوم خاص من الأنصار، فقيل: إنه رجل منهم كان له غلام أسود يقال له: " صبيح " وكان يكرهه على الإسلام - عن مجاهد -.
وقيل:
" نزلت في رجل من الأنصار يدعى " أبا الحصين " وكان له ابنان، فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا وخرجا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله سبحانه: { لا إكراه في الدين } فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أبعدهما الله، هما أول من كفر "
فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي (صلى الله عليه وآله) حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل الله سبحانه:
فلا وربك لا يؤمنون
[النساء:65] الآية.
وبطريق آخر روي أنه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان فتنصروا قبل أن يبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: " والله لا أدعكما حتى تسلما " فأبيا. فاختصموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال الأنصاري: يا رسول الله يدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فنزلت، فخلاهما.
القول الثالث: إنها في جميع الكفار، وكان هذا قبل أن يؤمن النبي (صلى الله عليه وآله) بقتال أهل الكتاب، ثم نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة وهو قول السدي: وهكذا نقل عن ابن مسعود وابن زيد أنها منسوخة بآية السيف وقال الباقون: إنها محكمة.
القول الرابع: إن معنى قوله تعالى: { لا إكراه } أي: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب " إنه دخل مكرها " لأنه إذا رضي بعد الحرب، وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه: لا تنسبوه إلى الإكراه، فيكون كقوله:
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا
[النساء:94].
القول الخامس: إن المراد ليس في الدين إكراه من الله سبحانه، ولكن العبد مخير فيه، لأن ما هو دين في الحقيقة هو من أفعال القلوب، إذا فعل لوجه وجوبه، فأما ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة، كما أن من أكره على كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكن كافرا، والمراد الدين المعروف وهو الإسلام ودين الله الذي ارتضاه، وهذا الوجوب قريب مما ذكرناه سابقا.
المقالة الثالثة عشرة:
في قوله سبحانه: { قد تبين الرشد من الغي }
وفيه رشحات:
الرشحة الأولى
في اللغة
يقال: " بان الشيء " و " استبان " و " تبين " إذا ظهر ووضح، ومنه المثل: " قد تبين الصبح لذي عينين " وقال بعض العلماء: " عندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بيانا لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره ".
والرشد في اللغة معناه إصابة الخير وفيه لغتان، رشد يرشد رشدا، والرشاد مصدر أيضا كالرشد. والغي نقيض الرشد، يقال: غوى يغوي غيا وغواية، إذا سلك غير طريق الرشد.
الرشحة الثانية
في انتظامه بما سبق
لما ذكر الدين وأنه لا يحصل بالإكراه شرع في شرح ماهيته وقال: { قد تبين الرشد من الغي } أي: وضح انكشف مما ذكر سابقا من شواهد المعرفة، أن الدين الحقيقي الذي هو سلوك سبيل الله، وقطع المنازل، والمراحل التي بين العبد ومولاه المسمى بالرشد والهدى من " الضلال الحقيقي " الذي هو سلوك سبيل الشيطان والهوى وهو المسمى بالغواية والغي.
ووجه هذا التبين والانكشاف أن طريق الحق ليس إلا واحدا، وطرق أهل الضلال وإن كانت مختلفة متكثرة لا يمكن إحصاؤها، لكن إذا عرف هذا الواحد، وانكشف لدى العارف البصير بالبصيرة الباطنة أنه طريق الحق، يتبين ويتحقق أن ما سواه طريق الضلال.
فجميع طرق الضلال تعرف بمجرد معرفة طريق الحق، إذ يصدق على كل منها أنه غير الحق
فماذا بعد الحق إلا الضلال
[يونس:32] ولهذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة والناجية منها واحدة "
وهذا العدد المعين لما سوى الفرقة الناجية إنما هو بحسب الأجناس الكلية، وإلا فهي بحسب الخصوصيات غير محصورة كما مر، ومع هذا من عرف طريق النجاة يعمل أن غيره طريق الهلاك.
الرشحة الثالثة
في تحقيق معنى " التبين " في هذا المقام
إعلم أن معنى " تبين الرشد من الغي " تميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر بحسب الواقع، وبما يلزم من الحجج والبينات الدالة، والبراهين الواضحة عند من نظر وتدبر في تلك الأدلة والبراهين، لا أن كل مكلف متنبه به، لأن ذلك خلاف ما هو المعلوم من حال أكثرهم، لأنهم إما جهال محض وإما مقلدون والمقلد كالجاهل في عدم كونه عارفا بصيرا، ويمتاز عنه في كونه معتقدا، ودرجة المعرفة فوق الاعتقاد، لأنها مما يحصل معها الانشراح الباطني، والمشاهدة المعنوية دون اعتقاد المقلد، إذ لا انشراح ولا اطمئنان معه للقلب، وإنما الفائدة فيه مجرد الاتباع للقائد العارف في صورة الأعمال الشرعية والأوضاع الدينية، الموجبة لرياضة القوى البدنية، وتطويع النفس الأمارة لئلا تصول على النفس المطمئنة.
وبذلك يحصل للنفس الإنساني الامتياز عن سائر النفوس الحيوانية التي لا معاد لها في الآخرة، وعن النفوس الشقية المتمردة عن طاعة الشريعة التي لها العقوبة الأخروية، وذلك لأن الاقتداء بأهل الكمال - ولو في صورة الأعمال - مع خلو النفس عن رذائل الأوصاف وقبائح الأعمال، وسذاجة القلب عما يضاد، ونيل الرحمة من المبدإ الفعال مع صدق النية، وصفاء الطوية، يوجب أن ينال المقتدي نصيبا من السعادة الأخروية، واللذات الآجلية التي للعارفين، وأن تتنور ذاته بنور المتابعة لهم والانخراط في سلكهم، والاستسعاد بسعادتهم على نهج التبيعة والعرض - لا على وجه الاستقلال - إذ السعادة الحقيقية منوطة بالمعرفة الحقيقية، بل هي عينها، فحيث لا استقلال في المعرفة لا استقلال في السعادة، ولكن بحسب " من تشبه بقوم فهو منهم " كان للمتشبه بأهل الكمال - بقدر تشبهه بهم - ضربا من السعادة في المآل.
والله الهادي إلى طريق الصواب وبه الاستعاذة من الضلالة والغواية في سبيل الآخرة والمآب.
المقالة الرابعة عشرة:
في قوله سبحانه: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها }
وفيه تحقيقات:
التحقيق الأول
في اللغة
قال النحويون: " الطاغوت " على وزن فعلوت، نحو جبروت ورحموت و " التاء " زائدة فيه، وهي مشتقة من " طغى " وتقديره طغووت إلا أن لام الفعل قلب إلى موضع العين كعادة العرب في القلب نحو: الصاعقة والصاقعة، ثم قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وصاحب مجمع البيان رحمه الله على أن أصلها " طغيوت " بدل من الياء يدل على ذلك قوله تعالى:
في طغيانهم
[البقرة:15]. ثم إن " اللام " قدمت إلى موضع " العين " فصارت " طيغوت " ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار " طاغوت " فوزنها الآن بعد القلب " فلعوت ".
وجمع طاغوت: طواغيت وطواغت وطواغ - على حذف الزيادة - والطواغي - على العوض مما يحذف -.
قال المبرد في الطاغوت: " الأصوب أنه جمع " قال أبو علي الفارسي: ليس الأمر عندي كذلك بل هو مصدر كالرغبوت، والرهبوت، والملكوت، وكما أن هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع، ومما يدل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال " هم رضا " و " هم عدل " ولهذا قال تعالى:
أوليآؤهم الطاغوت
[البقرة:257].
وقالوا: وهذا اللفظ يقع على الاحد وعلى الجمع، أما في الواحد فكما في قوله تعالى:
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به
[النساء:60]. وأما في الجمع فكما في قوله تعالى:
والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت
[البقرة:257].
وقالوا: الأصل في التذكير، فأما قوله تعالى:
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها
[الزمر:17]. فإنما أنثت إرادة الآلهة.
ويقال: " استمسك بالشيء " إذا تمسك به.
و " العروة " واحدة العرا، نحو عروة الدلو، وعروة الكوز، وإنما سميت بذلك لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به.
و " الوثقى " فعلى أوثق وهو من باب استعارة المسحوس للمعقول، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته، فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالأدلة الدالة عليه على وجه اليقين، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها، وأمتنها لا جرم وصفها سبحانه بأنها " العروة الوثقى ".
و " الفصم " هو كسر الشيء من غير إبانة، والانفصام: مطاوع الفصم يقال " فصمته، فانصم " والمقصود منه المبالغة، لأنه إذا لم يكن للشيء انفصام فبأن لا يكون لها انقطاع أولى.
التحقيق الثاني
في معنى الطاغوت وفيه أقوال:
أحدها: إنه الشيطان عن مجاهد وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام).
وثانيها: إنه الكاهن عن سعيد بن جبير.
وثالثها: إنه الساحر عن أبي العالية.
ورابعها: إنه مردة الجن والإنس وكل من يطغى.
وخامسها: إنه الأصنام وما عبد من دون الله.
وعلى الجملة: من كفر بما خالف أمر الله ويؤمن بالله ويصدق بما جاءت به رسله - صلوات الله عليهم - والوجه فيه أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء فكانت أسبابا للطغيان كما في قوله تعالى:
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
[إبراهيم:36].
وسادسها: إنه هو النفس وهو أقرب المبادئ المغوية للإنسان، إذ ما أضله مضل، وما أغواه مغو عن الصراط المستقيم إلا بواسطة ميله وهواه إلى ما يرغب إليه ويعبده، بل لا يعبد الإنسان معبودا غير الله إلا بتبعية عبادة عادته وهواه، كما في قوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23] وفيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه "
إشارة إلى ما ذكر، حيث وصف الأوليان بالمطاع والمتبع، وأصرح من ذلك ما روي عنه (صلى الله عليه وآله):
" ما عبد معبود في الأرض مثل الهوى ".
وسابعها: إنه عالم الهيولى ونشأة الدنية التي هي دار الشهوات المهلكة ودار الغرور بالخيالات المغوية، والأماني التي لا حاصل لها إلا خسران الآخرة:
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء
[النور:39] الآية.
وثامنها: إنه جهة الإمكان والنقصان في الممكنات التي هي حال الماهيات بحسب ذواتها - بخلاف جهة الوجوب والوجود التي هي حالتها الفائضة عليها من المبدإ الأعلى تعالى - فالأوصاف الذميمة، والأفعال القبيحة كلها، إنما نشأت من الممكن بواسطة الجهة التي له بالقياس إلى نفسه، والأخلاق الحسنة والطاعات كلها إنما نشأت منه بواسطة الجهة التي له بالقياس إلى ربه، فبحسب غلبة إحدى الجهتين كان الغالب الصفات والأفعال التي بواسطتها، والمغلوب ما يقابلها.
فمن يكفر بالطاغوت - أي بالالتفات إلى محبة نفسه، والاهتمام بجلب ما يلذها ودفع ما يكرهها - فقد استمسك بالعروة الوثقى التي هي الإقبال إلى جنبة الحق والإعراض عن جنبة الباطل، لأن ذلك يوجب وجدان روح الوصال ونعيم الاتصال والخلاص عن ألم الافتراق وجهنم القطيعة والانفصال.
وهذا الوجه قريب المأخذ من السابع، كيف والهيولى أيضا منبعها الإمكان لأنها إنما صدرت من الوسائط العقلية بواسطة جهة الإمكان فيها - على ما ذكروا في ترتيب الوجود -.
والفرق بين الإمكان والهيولى بعد اشتراكهما في كونهما منبع النقائص والآفات أن نفس الإمكان الذاتي مبدأ النقائص الفطرية التي بحسب أصل الماهية النوعية مع قطع النظر عن خصوصيات الأشخاص، وأن النقصان الذي منشؤه مجرد الإمكان - أو بحسب تضاعفه - الذي هو من لوازم الماهية التي لا يمكن زوالها وانجبارها، ولهذا لا يعدونه شرا لكونه ملائما لتلك الماهية غير غريب عنها، وليس كالآفة والمرض اللاحق، وأما الهيولى والجسمية - التي تجري مجراه عند قوم - فهي مبدأ النقائص الشخصية كالتشويهات في الخلقة أو ذمائم الصفات في النفس كالجهل والبخل والقساوة وغيرها، أو قبائح الأفعال كالزنا واللواطة والسرقة وأمثالها، فإن منشأ الكل هو التعلق بهذا البدن المادي، ولكن يمكن إزالتها بتهذيب النفس وفعل الخيرات وتبديل السيئات بالحسنات، بقبول المواعظ والحكم، واستماع الآيات والأحاديث على وجه التدبر فيها عن الإصغاء، وإجابة دعوة الأنبياء فيما جاؤوا به، والاقتداء بالأئمة الهادين المهديين المعصومين عن الخطإ - سلام الله عليهم من الملك الأعلى -.
وملاك الأمر في جميع ذلك هو قطع التعلق عن الدنيا، ورفض عالم الهيولي؛ لتزين الروح بالمعارف الحقة الإلهية، والمعالم اليقينية الدينية التي هي السعادة العظمى.
فقوله: { فمن يكفر بالطاغوت } إشارة إلى ذلك القطع والرفض، { ويؤمن بالله } إشارة إلى تزين النفس بمعرفة الحق الأول بما له من نعوت جلاله وجماله، وكيفية صدور أفعاله وآثاره في البدو والإعادة، فالأول تخلية والثاني تحلية.
فبهذين الوسيلتين أي التخلية والتحلية استمسك الإنسان بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهو مجاورة الحق الأول والانخراط في سلك مقربيه من أهل الجبروت والملكوت.
وتاسعها: القوة الوهمية التي هي أعظم جنود الشيطان، إذ بوسيلتها يتصرف الشياطين بالإغواء والإضلال في نفوس الإنسان، وسيأتيك لهذا المعنى وجه إن شاء الله تعالى.
التحقيق الثالث
في معنى الإيمان بالله
إعلم أن المراد به الإيمان بحقيقة الله تعالى، وحقيقة ملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر لقوله تعالى:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
[البقرة:285].
وأما الاعتقاد بحقيقة الله فهو الإيمان بوجوده، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه .
أما الإيمان بوجوده:
فهو أن يعلم أن رواء المتحيزات بل الممكنات موجودا قديما قادرا - أي واجبا بالذات صانعا للعالم - وذلك بالنظر إلى حقيقة الوجود المعلوم بوجه ما، وأن له فردا موجودا بذاته، وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه، أو وجود الممكن من غير سبب، إذ جميع الممكنات في حكم ممكن واحد في خلو ذاته عما يوجب الاتصاف بالوجود، فبملاحظة خلو ذات الممكن وعريه عن طبيعة الوجود ذاتا واقتضاء واستلزاما، وملاحظة استحالة كون المحال قابلا للوجود، يحكم العقل الصافي عن المحذورات والأمراض النفسانية بوجود القيوم المستغني عما سواه كما قال تعالى:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران:18] وكقوله:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53].
وبالنظر إلى العالم وطبائع الحركات والمتحركات، ودقائق الصنع العجيب والنظم الغريب في الممكنات، كما أرشده الله في القرآن - وليس فوق بيان الله ورسوله بيان - فقال:
ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا
[النبأ:6- 7] - إلى قوله: -
وجنات ألفافا
[النبأ:16]. وقال تعالى:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار.... يعقلون
[البقرة:164]. وقوله تعالى:
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا
[نوح:15- 16] - إلى قوله: -
إخراجا
[نوح:18].
وليس يخفى على من له أدنى مسكة إذا تأمل بأدنى فكرة، مضمون هذه الآيات وأدار نظره على خلق السماوات والأرض وعجائب فطرة الحيوان والنبات - فضلا عن خلقة الآدمي الكامل بالكمال العلمي والعملي - أن هذا الأمر العجيب، والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره، وفاعل يحكمه، بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره ومصروفة بمقتضى تدبيره، ولذلك قال تعالى:
أفي الله شك فاطر السماوات والأرض
[إبراهيم:10] فمن غفل عن هذا كان راكبا على متن الجهل، وراكنا عن نهج العقل.
وأما الاعتقاد بصفاته:
والصفات إما سلبية وإما ثبوتية:
فأما السلبية فهي أن تعلم أنه مجرد، مقدس عن جميع ضروب التركيب في أي ظرف كان، لأن التركيب يستلزم الإمكان وينافي الوجوب، والواجب تعالى كما أنه واجب الوجود بالذات - بحسب الواقع - فكذلك هو واجب الوجود في جميع الشؤون والجهات والأوعية والنشآت الذهنية والخارجية، فيتقدس عن الكثرة والتركيب - ولو من الأجزاء المحمولة - ويلازم الوحدة ولو في العقل، على أنه يتعاظم عن أن يدخل في وهم أو عقل، ليتصرف فيه الذهن بالتحليل والتقسيم.
ولاستلزام الأجزاء العقلية، الجنسية، والفصلية، كون الشيء ذا ماهية كلية يعرضها الوجود - والواجب بحت الوجود كما مر - فليس مندرجا تحت نوع أو جنس لكونه محض التعين الممتنع اشتراكه بين أمرين، فهو ليس كليا ولا جزئيا إضافيا.
ومن هاهنا ينكشف أيضا أنه ليس بجوهر - سواء كان متحيزا أو مجردا - ولا بعرض - سواء كان كما أو كيفا أو إضافة - فلا يكون حالا في شيء وإلا لكان عرضا أو وصورة جوهرية. ولا يكون محلا وإلا لكان إما مادة متقومة في تحصلها النوعي بما يحل فيها، أو موضوعا متقوما في شخصيته، أو في كمال شخصيته بما يحل فيه. ولا متغيرا وإلا لكان جسما متحركا زمانيا أو حالا فيه كالقوى، أو مباشرا له في التدبير والتحريك مستكملا به كالنفوس والتوالي بأسرها باطلة فكذا المقدم.
والانفعالات والتغيرات التي يسندونها إلى ذاته تعالى كلها إطلاقات مجازية تسند إليه تعالى باعتبار الغاية - كالرحمة والغضب، والعفو والانتقام، والابتلاء والامتحان، وغير ذلك - فلو كان جائز الاتصاف بالغضب - مثلا - لكان أزلا وأبدا غضبان، بل يكون عين الغضب، وعلى هذا يمتنع عليه الرحمة المقابلة له مطلقا.
فإن قلت: هذا الاعتقاد يبتني على الإيمان بعالم الملكوت، فمن لا يفهم ذلك - كالعوام - أو يجحده - كأهل الكلام - فما طريقه؟
قيل: أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال: " إنكارك لعالم الملكوت كإنكارك لعالم الجبروت، كالذين حصروا العلوم فيما يدرك بالحواس الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم، لأنها لا تدرك بالحواس الخمس ولازموا حضيض عالم الشهادة ".
فإن قال: وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة، ولا أعلم شيئا سواه.
فيقال له: إنكارك لما شاهدنا مما وراء المحسوسات، كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس ومحسوساتها، فإنهم قالوا: " ما نراه لا نثق به، فلعلنا نراه في المنام ".
فإن قال: وأنا من جملتهم فإني شاك أيضا في المحسوسات.
فيقال: هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه فيترك، فما كل مرض يقوى على علاجه الأطباء، ولا كل داء له دواء، بل رب داء أعيت الأطباء في تحصيل الدواء.
وأما الذي لا يجحد، فإن كانت عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت صحيحة في الأصل نزل فيها ماء أسود لاعتياده بملاحظة عالم الظلمات، فيمكن الاشتغال بتنقيته - اشتغال الكحال بالعيون الظاهرة - وإن كان غير قابل للعلاج - لكونه مختوما على قلبه - فلا يمكن أن يسلك فيه سبيل التوحيد العقلي، بل يكلم معه بكلام التوحيد ويكلف بالتنطق بشهادة التوحيد ردا لذروة التوحيد إلى حضيض فهمه، وهذا هو التوحيد اللائق بحال القاطنين في عالم الشهادة، فإن للتوحيد مراتب، بحسب كل عالم مرتبة.
وتوحيد عالم الشهادة أن يعلم الرجل الحاسي أن المنزل يفسد بصاحبين والبلد يهلك بأمرين، فيقال له على حد عقله الذي هو بمنزلة حس أهل العلم: " إن إله العالم واحد إذ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " فيكون ذلك هو اللائق بقدر عقله، وقد كلف الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم.
وأما الصفات الثبوتية:
فإن من يعلم أن الموجود الواجب نسبته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة لا يعجز عن بعض دون بعض - بل كلما كان أعظم وجودا وأعلى رتبة، صدر منه أقدم مما يكون أضعف وأنقص على ترتيب أنيق ونظام بديع - يعلم بأنه قادر على جميع الممكنات وعلى أي نظام وترتيب كان.
ثم من رأى أن هذا النظام أبدع النظامات وأحكمها يعلم بأنه مريد، وأن إرادته على وجه الحكمة والجزم لا على نهج الجزاف والتردد، ويعلم أن إرادته أجل من الاختيار والجبر جميعا، ففاعليته على سبيل العناية الأزلية المسماة بالعلم التام المقدم على الإيجاد، الذي هو أيضا من مراتب علمه المسمى بالرضا، والكلام يحتاج بسطه إلى موضع أوسع من هذا المقام.
وأما الاعتقاد بأفعاله:
وهو أن يؤمن بأن الله على كل شيء قدير وما سواه ممكن محدث، والممكن - بما هو ممكن - محض القوة والفاقة، فلا يجوز أن يكون سببا لإخراج الشيء من القوة إلى الفعل، وإلا لكان للعدم شركة في إفادة الوجود وهو فطري الفساد عند ذوي البصيرة والسداد، فتكون قدرة الله تعالى عامة شاملة لجميع الذرات، لأن مشنأ الافتقار عام فلا تأثير للوسائط، لأنها كلها مسخرات، ومعدات، لا موجبات.
فهذا هو التوحيد في الأفعال إلا أنه وقع في البين حجاب يمنع أن يرى هذا التوحيد بعين البصيرة، وهو أن الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات - وخصوصا الإنسان - الحكم مطرد فيها، لأنها ممكنة، فكل ممكن لا بد من استناده إلى واجب الوجود، كيف وكل حادث - سواء كان فعلنا الاختياري أم لا - إذا نظرنا إلى حدوثه وإمكانه أدانا النظر اضطرارا إلى وجود الواجب بالذات، مع أنا نجد من أنفسنا أنا نتحرك إن نشأ، ونسكن إن نشأ فكيف نكون مسخرين، والحال أن حركاتنا وسكناتنا بأنفسنا لا بغيرنا؟
فنقول في الكشف عنه: إن حركاته وسكناتك بمشيئتك، إلا أن مشيئتك ليست مشيئتك، بل بقضاء الله وقدره - إذ لو كانت كذلك لافتقرت تلك المشيئة إلى مشيئة أخرى وهكذا إلى غير النهاية - فإذا لم تكن مشيئتك بمشيئتك فهي لازمة لك من أسباب قدرية مؤدية إليها، فإذ لم تكن المشيئة إليك فمتى وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت، ولا سبيل لها إلى المخالفة وإذا انصرفت لزمت الحركة ضرورة بالقدرة، والقدرة محركة ضرورة عند إنجزام المشيئة، والمشيئة تحدث في القلب بالأسباب الخارجية المشاهدة، وهي تحدث بالأسباب الغائبة عنا فهذه ضروريات مترتبة بعضها على بعض، وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة، ولا انصراف القدرة إلى المقدور، ولا وجود بعث المشيئة للقدرة، فهو مضطر في الجميع.
ولا يتوهمن أحد أن هذا خلق الأعمال الذي ذهبت إليه الأشاعرة القائلين بالجبر المحض من غير اختيار.
فإن قلت: ما ذكرت أيضا جبر، والجبر ينافي الاختيار، فكيف يكون إنسانا واحد مضطرا ومختارا؟
قلت: لو انكشف لك الغطاء عن عين البصيرة بنور الاهتداء لعرفت أنك مجبور في عين الاختيار، وتحقيقه يفتقر إلى تحقيق معنى الاختيار، فاطلبه من كتب أولي الأبصار ليظهر لك ما يظهر لهم: إنه لايتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم، فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم، ولا يجري في الملك والملكوت طرفة عين، ولا فلتة خاطر، ولا لفتة ناظر، إلا بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه
يضل من يشآء ويهدي من يشآء
[النحل:93].
كيف ولو لم يكن هكذا لكانت المعاصي والجرائم الصادرة من الأشقياء - إن كان الله يكرهها ولا يريدها - فإنما هي جارية على وفق مراد إبليس - أذلة الله - مع أنه عدو الله، ثم القبائح أكثر من الحسنات، والمعاصي أكثر من الطاعات فيكون الجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادة الله تعالى، وهذا مما لا يليق برئيس قرية فكيف يليق بالملك الجبار ذي الجلال والإكرام.
فقد علم أن الإرادة الأزلية تعلقت بنظام العالم على هذا الوجه العام، وأما الأوامر والنواهي الشرعية فيه أمور مقربة للطاعات، مبعدة عن المعاصي، وأسباب مهيجة للخيرات، دافعة للشرور والآفات، حسب ما يمكن ويليق لكل أحد.
فإن قلت: إذا كان الواقع من المعاصي والشرور بقضاء الله وقدره، فلماذا يعاقب من ساقه القدر إلى اقتراف خطيئة؟
يقال: العقوبة من اللوازم والتبعات المتصلة من غير حاجة إلى معاقب منفصل ومنتقم من خارج، ويدل عليه كثير من الآيات القرآنية كقوله تعالى:
سيجزيهم وصفهم
[الأنعام:139]
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54]
ولكن أنفسهم يظلمون
[آل عمران:117].
وأما مرتبة الإيمان بأحكامه:
فبأن يعتقد أنها غير معللة بالدواعي وأغراض زائدة على ذاته راجعة إليه، لأن كل من كانت أحكامه معللة بعلة غير ذاته كانت ذاته ناقصة بنفسها مستكلمة بغيرها، وذلك مستحيل على الواجب بالذات.
لكن يجب أن يعلم أن الغاية تطلق على معنيين:
أحدهما: ما يرجح فاعلية الفاعل على تركها، وهو في الله علمه بالوجه الأصلح، وذلك العلم غير زائد عليه تعالى لنفي الزائد مطلقا عند أهل الحق.
وثانيهما: ما يترتب على الفعل سواء كان الفعل متوجها إليه وكان لأجله، أو لا، بل يكون من ضروريات الفعل من غير أن تكون الطبيعة متوجهة إليه، فالأول: كوجود المنافع والمصالح التي روعيت في وجود العالم على الوجه الأتم الأبلغ في النظام، والثاني: كوجود الاتفاقيات اللازمة، ويكون لا محالة أقلية والخيرات التي تقابلها أكثرية أو دائمة.
فقد ثبت أن أحكام الله وإن لم تعلل بعلة غائية غير ذاته تعالى إلا أن لها غايات وفوائد وثمرات عائدة إلى الممكنات، والشرور المانعة عن وصول بعض أفراد الممكن إلى كماله اللائق به أمر شاذ.
وهذا في غير الإنسان من الحيوانات أمر واضح لاختصاص وجودها بهذه النشأة الفانية، فإذا قبض بعضها أو قتل أو جعل فداء وغذاء للإنسان الذي هو غاية عالم الأضداد، وثمرة الفؤاد لم يكن كثير شر في حقها، لعدم احتمال شخصياتها الوجود الدائم، فإيثار كونها غذاء وفداء للنوع الأشرف، وانتفاعه بها على موتها بحتف أنوفها ليس ظلما وجورا في حقها، بل عدلا وقسطا وتكريما لما هو المحقوق به.
وأما الشرور الإنسانية بحسب قواها العلمية، والعملية، والشهوية، والغضبية - كالجهل والفسق والجور - فليعلم أن ليس كل جهل موجبا للحرمان الدائم عن البقاء الأخروي، ولا كل رذيلة سببا للعذاب الأبدي، بل الجهل المضاد لليقين مع العناد والإصرار، والرذيلة الراسخة الباتكة لعصمة النجاة، وأما باقي الضروب من الجهالات فيه لا توجب الحرمان عن رحمة الله بالغفران، فاعتقادنا في صاحب الكبيرة: أنه لا يجب على الله تعذيبه وأنه مما يمكن لضرب منه أن ينال رحمة ربه - على ما مرت الإشارة إليه - وأنه سبحانه يغفر لمن يشاء بفضله، ويعذب من يشاء بعدله.
وأما الإيمان بالملائكة فمن أربعة أوجه:
أولها: الإيمان بوجودها، وهذا مما لا خلاف لأحد من المسلمين بل المليين كلهم، وأما البحث عن نحو وجودها وحقيقتها - أنها روحانية محضة أو جسمانية، أو مركبة من القبيلتين؟ (القسمين - ن) وبتقدير كونها روحانية إما عقول صريحة، أو نفوس مدبرة للأجرام، أو مركبة من القسمين؟ وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة؟ فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية أو هوائية؟ وإن كان كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى؟ فذلك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية.
الوجه الثاني: أن يعتقد أنهم معصومون مطهرون
يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون
[النحل:50] ولا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، فإن لذتهم بذكر الله، وأنسهم بعبادته، وغذاؤهم التسبيح والتقديس، وكما أن حياتنا الدنيوية بالنفس والاستنشاق فحياتهم بذكر الله والمعرفة والطاعة له.
ومنهم الملائكة السماويون، وأعلى منهم الكروبيون، وهم العاكفون في حظيرة القدس، ولهم حالة الهيمان، بل حالهم الفناء عن أنفسهم، وعدم الالتفات إلى ذواتهم وإلى هذا العالم والآدميين، لقصر نظرهم عن غير الله واستغقراقهم بجمال الحضرة الإلهية وجلال ذاته الأحدية.
ولا يستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الله عن الالتفات إلى آدم وذريته فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن لله أرضا بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما - هي مثل أيام الدنيا ثلاثون مرة - مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض ولا يعلمون أن الله خلق آدم وإبليس "
رواه ابن عباس (رضي الله عنهما).
فاستوسع مملكة الله ولا تغتر بكلام المتشبهين بأهل العلم، الجاهلين بأكبر خلق الله وأشرفه، المقصرين بهمتهم الدنية على عالم الحس والخيال - وإنهما النتيجة الأخيرة من مقدمات عالم الملكوت، وهما القشر الأقصى عن اللب الأصفى - ومن لم يجاوز عن هذه الدرجة فكأنه لم يشاهد من الزمان إلا قشريته ومن عجائب الإنسان إلا بشريته.
وأدنى منهم الملائكة العنصريون من أرباب الطبايع العنصرية من خزان المطر، وزواجر السحاب، وصواعق البروق، ومشيعي الثلج والبرد، والهابطين مع قطر المطر إذا نزل، والقوام على خزائن الرياح، والموكلين بالجبال والمثقلين مثاقيل المياه والأرض.
ودونهم رسل الله المتوسطون من الملائكة السماوية إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء، ومحبوب الرخاء، ومنهم السفرة الكرام البررة وحفظة الكرام الكاتبين، ومنهم ملك الموت وأعوانه من النازعين للصور من المواد الغير المستعدة، ومنهم منكر ونكير للأشقياء، ومبشر وبشير للسعداء ومنهم الطائفون بالبيت العمور، ومنهم مالك وسدنة النيران ورضوان وخزنة الجنان، ومنهم الزبانية ، الذين إذ قيل لهم:
خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه
[الحاقة:30 - 31] ابتدروه سراعا ولم ينظروه.
وأدون من الجميع سكان الهواء والأرض والماء، وبالجملة ما من موجود إلا ومعه ملكان: أحدهما على يمينه والآخر على شماله
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21] والسائق ملك يباشر التحريك إلى الدار الآخرة والشهيد ملك يدرك به النفع والضر، والخير والشر.
وأكثر ما ذكرنا مقتبس من الصحيفة الملكوتية لمولانا وسيدنا زين الساجدين والموحدين، وسيد العابدين والعارفين - سلام الله عليه وعلى جده وجد أبيه وعمه وأبيه والأطهار من بيته قدس الله أرواحهم أجمعين -.
والوجه الثالث: أن يعلم بأنهم كلهم وسائط بين الله وبين الخلق، كل قسم منهم موكل على قسم من أقسام هذا العالم، بل ما من نوع من الأنواع الطبيعية إلا وله ملك موكل، هو واسطة رحمة الحق وجوده عليه، ذو عناية بأشخاص ذلك النوع وهياكله وأصنامه، وهم المسمون عند قدماء الحكماء - المقتبسون أنوار الحكمة من مشكاة نبوة الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين - ب " أرباب الأصنام " وعند أفلاطون (افلاطن - ن) ب " المثل النورية " وإليهم الإشارة في قوله تعالى:
والصافات صفا * فالزاجرات زجرا
[الصافات:1 - 2]. وقال:
والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا
[الذاريات:1 - 2]. وقال:
والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا
[المرسلات:1 - 2]. وقال:
والنازعات غرقا * والناشطات نشطا
[النازعات:1 - 2].
وفي تفسير هذه الآيات التي أقسم الله فيها بطوائف من الملائكة أسرار شريفة عزيزة تدق عن أفهام أكثر العلماء - فضلا عن غيرهم - لا يكشف المقال عن وجوهها قناع الإجمال لشرفها وعزتها.
والوجه الرابع: أن يعلم ويؤمن بأن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء (عليهم السلام) بواسطة ضرب من الملائكة، كما قال الله تعالى:
إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين
[التكوير:19 - 21].
فهذه الوجوه لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم، وأكثر الخلق معرضون عنه مع دعواهم الإيمان.
وأما الإيمان بالكتب فلا بد فيه من أمور أربعة:
أولها: أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله، وأنها ليست من باب الكهانة، وإلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة، ولا من باب السحر، والفرق بين هذه الأمور خاف عن (على - ن) الجمهور.
وثانيها: أن يعلم أن الوحي وإن كان بواسطة الملائكة المقدسين فإن الله لم يمكن أحدا من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الظاهر، وعند ذلك يعلم أن من قال: إن الشيطان ألقى قوله: " تلك الغرانيق العلى " في أثناء الوحي فقد قال قولا عظيما، وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن.
وثالثها: أن يعلم أن هذا القرآن لم يتغير ولم يحرف، ودخل فيه فساد قول من قال: " إن ترتيب هذا القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان " فإن من قال به أخرج القرآن عن كونه حجة.
ورابعها: إن القرآن مشتمل على محكم ومتشابه، وإن محكمه يكشف عن متشابهه.
وأما الإيمان بالرسل:
فلا بد فيه من أن يعلم أنهم معصومون من الذنوب كلها - كبيرها وصغيرها، عمدها وسهوها - وأن يعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل من الملائكة السماوية والأرضية، وأما الكروبيون ففي تفضيل النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم خلاف بين العلماء، ولأرباب المكاشفات في ذلك مباحث غامضة شريفة أوردناها في بعض كتبنا العرفانية.
وأن يعلم أن بعض الأنبياء أفضل من بعض لقوله تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة:253]. ومن الناس من أنكر ذلك متمسكا بقوله تعالى:
لا نفرق بين أحد من رسله
[البقرة:285]. وقد ذكر المفسرون وجوها من الجواب لا يطمئن بها القلب، وقد حضر عندنا وجه وجيه لا أسمح بها حذرا من سوء فهم الناظرين.
وأن يعلم أنه تعالى بعث الأمي العربي محمدا (صلى الله عليه وآله) برسالته إلى كافة العرب والعجم، والجن والإنس، فنسخ بشريعته الشرائع، وجعله سيد البشر وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر عنه في الدنيا والآخرة، وألزمهم اتباعه والاقتداء به فقال:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر:7] فلم يغادر صلى الله عليه وآله شيئا يقربهم من الله تعالى إلا أمرهم به وهداهم سبيله، ولا شيئا يبعدهم عن الله إلا نهاهم عنه وعرفهم طريقه، ويعلم أن تلك الأمور لا يرشد إليها مجرد العقل والذكاء، بل أسرار تكاشف بها من حظيرة القدس قلوب الأنبياء.
ويعلم أنه يجب عليهم أن ينصبوا بعدهم خليفة، وينصوا عليه نصا لا يبقى لأحد مجال الشك فيه والطعن به، وذلك لعدم بقاء وجوده العنصري دائما، والمادة التي تقبل صورة النبي (صلى الله عليه وآله) يقع في قليل من الأمزجة على الشذوذ، فلا بد من الاستخلاف بالنص الجلي لوجود إمام تقتدي به الأمة بعده.
ويشترط أن يكون الإمام معصوما من الذنوب، مؤيدا من عند الله بأوصاف كمالية يندر اجتماعها - بل آحادها - في شخص واحد، فيكون بها يستحق خلافة الله في العالم الأرضي، ثم السماوي، لكونه إنسانا إلهيا متصلا بالملإ الأعلى، تكاد تكون عبادته عبادة الله، وذلك لجموم المناقب الربانية في قلبه، ولكثرة ظهور الأفعال الإلهية من فمه وأسنانه، ويده ولسانه، وسيفه وسنانه، كالعلم الأتم والقدرة الكاملة، والشجاعة والكرم، والزهد والمروة، والفصاحة البالغة حد الإعجاز، ولخلوه وتقدسه من النقائص والعيوب النفسانية المضادة للخلافة، والرذائل الخلقية المنافية للإمامة، كالكفر والجهل، والسفاهة والفظاظة، والغلظة والكبر والنفاق، وعن العاهات والأمراض الخلقية المنفرة لطبايع الأمة، كالعمى والعرج، والحكة والأبنية، وغيرها من المعاصي كالظلم والفسق، وجمع المال للادخار.
ويجب أن يعتقد أن اجتماع تلك الفضائل والكمالات جملة، والتنزه عن تلك النقائص والرذائل جميعا، لم يتفق لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا لأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، فيكون هو الإمام والخليفة بعد الرسول - دون غيره - لقوله تعالى:
لا ينال عهدي الظالمين
[البقرة:124]. ولما قال الله تعالى:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
[المائدة:55]. وقد نزلت الآية باتفاق المفسرين في حقه (عليه السلام) ولما نص عليه النبي (صلى الله عليه وآله) بولاية الأمة في حجة الوداع، وهو آخر عهده بالحديث المشهور، أو لأحاديث نبوية كثيرة متواترة الجهة آحادية الأفراد، دالة على إمامته اللازمة لذاته ، المستغنية عن البيعة والإجماع.
وهكذا يكون وقوع المناصب الآتية من قبل الله، فكما أن النبي نبي ولو لم تتفق عليه أمة، فكذا الإمام إمام وإن لم يبايعه أحد، والحكيم حكيم وإن لم يعرف قدره الجهال، والعالم عالم سواء سئل أم لا، والعجب خفاء هذا الأمر الجلي على العقلاء الذين جعلوا الخلافة والولاية - وهو أمر باطني - على ميل الطبايع، واتفاق الجماعة على شخص، مع أن طبائعهم مجبولة على طاعة الشهوات، راغبة عما به يحصل القربات، ويستحق للمثوبات.
ويجب أيضا أن يعلم ويعتقد أن الاستحقاق لهذا الأمر بعد علي (عليه السلام) إنما وقع لأولاده المعصومين الموصوفين بالإمامة للأمة، والطهارة والعصمة صلوات الله عليهم أجمعين، وذلك لتحقق الشرائط المذكورة التي معظمها العلم بالأمور الباطنية، والأسرار الخفية، والاجتناب عن زخارف هذه الدار الدنية، ولنص كل سابق على لاحق، وهلم جرا إلى صاحب هذا العصر والزمان وهو المهدي القائم بالقسط والعدل على بواطن أهل العلم والإيمان، ثم على ظواهر الخلائق من الإنس والجان في آخر الزمان، إذ به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا، فيكون وجوده ثمرة هذا العالم وكماله، وإذا عدم عنه زال كل شيء بزواله، لما ثبت أن وجود الإنسان الكامل علة غائية لوجود هذا العالم، لكونه الغرض الأصلي من خلق الطبائع والأركان، ومن فضالته خلقت بواقي الأكوان، فإذا زالت العلة زال المعلول.
وهذه المقاصد الشريفة إنما انكشفت لنا بطريق الاعتبار والاستبصار، وتتبع الآثار والأخبار، لا بطريق الأبحاث الكلامية، والاستدلال بالمقال عند مخاصمة الرجال، ومعارضة القيل والقال والله الهادي إلى سبيل السداد، وبه الاستعاذة من الغواية في الاعتقاد.
وأما الإيمان باليوم الآخر:
فهو أن يعلم أنه يفرق بالموت بين الأرواح والأجساد، ثم يعيدها إليها عند الحشر والنشور، فيبعث من في القبور ويحصل ما في الصدور، فيرى كل مكلف ما عمله من خير أو شر محضرا، ويصادف دقيق ذلك وجليله مستطرا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويعرف كل واحد مقدار عمله بمعيار صادق يعبر عنه بالميزان ، وإن لم يساو ميزان الأعمال ميزان الأجسام الثقال، كما لا يساوي ميزان العلوم سائر الموازين كالعروض والأسطرلاب والشاقول والشاخص وغيرها، ثم يحاسبون على أقوالهم، وأفعالهم، وضمائرهم، ونياتهم، وعقائدهم مما أبدوه أو أخفوه فإنهم متفاوتون إلى مناقش منعه في الحساب وإلى مسامح فيه، وإلى من يدخل الجنة بغير حساب.
ثم يساقون إلى الصراط وهو جسر ممدود بين منازل الأشقياء والسعداء أحد من السيف وأدق من الشعر، يخف عليه من استوى في الدنيا على الصراط المستقيم، الذي يوازيه في الخفاء والدقة ويعثر به من عدل عن سواء السبيل إلا من عفي عنه بحكم الكرم، وإنهم عند ذلك يسألون عن أديانهم وأفعالهم فيسأل الله الصادقين عن صدقهم والمنافقين عن نفاقهم.
ثم يساق السعداء إلى الرحمن وفدا، والمجرمون إلى جهنم وردا، ثم يحكم بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام، حتى لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويخرج بعضهم قبل تمام العقوبة والانتقام لشفاعة الأنبياء، والعلماء، والشهداء ومن له رتبة الشفاعة.
ثم يستقر أهل السعادة في الجنة منعمين أبد الآبدين، ممتعين بالنظر إلى وجه الله الكريم، ويستقر أهل الشقاوة الأبدية في النار مرودين تحت أنواع العذاب، مطرودين مبعدين عن جمال الله ذي الجلال والإكرام.
وهذه العقائد مما ليست منكشفة إلا على العلماء الراسخين، وليس لغيرهم منها شيء إلا الأسامي أو التقليد المجرد كالعوام من أهل الإسلام، والعناد والاستنكار كما للمتحجبين بالإنكار عن متابعة ذوي البصائر والأنوار ولا شك في أن الانقياد والتسليم لما أتى به الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم، والتعويل على الفؤاد أدنى إلى النجاة من الفطانة البتراء للعقول المحتجبة بالبصيرة الحولاء.
ولا يبعد أن يكون قوله: { فمن يكفر بالطاغوت } إشارة إلى ترك التعويل بسبب الاعتماد على فطانة العقل المشوبة بالهوى، المنبعثة عن غلبة القوة الوهمية فيكون هذا - أي الوهم - أحد معاني الطاغوت، ويكون الاستمساك بالعروة الوثقى إشارة إلى هذا الانقياد والتسليم والمتابعة للأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، والتعويل عليهم في أمر الدين وخصوصا فيما أفادوا من قبل الله في أمر المعاد، حيث لا سبيل للعقل بقوته الفكرية إلى شيء منه.
تتمة
وقال بعض أرباب القلوب (القول - ن): " إن عروة الوثقى لكل طائفة من المؤمنين شيء آخر: للعوام التوفيق للطاعة، وللخواص مزيد العناية بالمحبة كما في قوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]. ولخاص الخاص جذبات الألوهية التي تنفيه عن الظلمات الوجودية بنور الربوبية، كما شرح الله تعالى حقيقة الآية بتاليها، والمراد به أن السالك يبلغ عقيب الرياضات والأربعينات إلى مقام من مقامات الفناء والبقاء لا يمكنه الرجوع منه، فلا يجري عليه أحكام تلونات الرد والقبول، ولا أقسام تغيرات الفراق والوصال، بل يكون مستهلكا عن الناسوتية متمكنا في اللاهوتية، فالعروة الوثقى التي لا انفصام لها على الحقيقة والتمام في هذه الجذبة الإلهية، التي أشير إليها في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله):
" جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين "
إذ الثقلان وأعمالهما جسمانية فانية من عالم الحدوث، وجذبة الحق روحانية باقية في (من - ن) عالم القدم، فلا يجوز عليها الانفصام والانقطاع والنفاد، فالمجذوب لا يتخلص منها أبد الآباد ".
المقالة الخامسة عشرة:
في قوله سبحانه: { والله سميع عليم }
وفيه قولان: الأول: إنه يسمع قول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر، ويعلم ما في قلب المؤمن من المعارف الإيمانية والعلوم الربانية، وما في قلب الكافر من العقائد الخبيثة والظنون الباطلة.
القول الثاني: روى العطاء عن ابن عباس قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود، الذي (التي - ن) كانوا حول المدينة، وكان يسأل الله تعالى ذلك سرا وعلانية، لسانا وقلبا، فمعنى قوله: { والله سميع عليم } انه سميع بدعائك - يا محمد - عليهم بحرصك واجتهادك.
ويؤيد هذا ما روي أنه (صلى الله عليه وآله) لما رأى عدم اهتدائهم بنوره، وقبولهم لدعوته استشعر أنه من جهته لا من جهتهم، فزاد في الرياضة والمجاهدة والفناء في المشاهدة، فأوحى الله تعالى إليه بأن هذه الصفات (أي الطهارة من لوث البقية المانع من التأثير في النفوس وسلامة الاستعداد، عن النقص في الأصل والكمال الشامل لجميع المراتب بالعلم هي الصفات الكائنة في ذاتك، الثابتة في جوهر قلبك المقدس، المتصف بجميع الصفات الملكوتية والأسماء اللاهوتية، المقتضية للعبودية التامة والدعوات والمناجاة.
وكلها معلومة مسموعة له تعالى مشكورة عنده، سواء كانت موجبة لإسلامهم وذلك عند الصلاحية والقبول بحسب الفطرة الأصلية والسعادة الأزلية أو لم تكن، وذلك لعدم استعدادهم بحسب الفطرة رأسا أو لاحتجاب قلوبهم بالريون المستفاد من اكتساب الرذائل الراسخة، والهيئات الغاسقة، والملكات المظلمة المتراكمة على افئدتهم، فلا تهلك نفسك على عدم إيمانهم لشدة الرياضة، فإنه من جهتهم إما لعدم استعدادهم لقبول الرشاد، وإما لوجود المانع فيهم لشدة الاحتجاب وكثافة الحجاب، فيكفيك أن الله سميع بدعائك، عليم بطهارة ذاتك وصفاتك.
[2.257]
المقالة السادسة عشرة:
في قوله سبحانه: { الله ولي الذين آمنوا }
وفيه لوائح:
اللائحة الأولى
في اللغة
الولي: فعيل بمعنى فاعل من " الولي " الذي هو القرب من غير فصل، وهو الذي يكون أولى بالغير وأحق بتدبيره، ومنه يقال للمحب المعاون " ولي " لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك، ومن ثم قالوا في خلاف الولاية " العداوة " من " عدا الشيء " إذا جاوزه، فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العادوة.
ومنه " الوالي " لأنه يلي القوم بالتدبير وبالأمر والنهي. ومنه " المولى " لأنه يلي أمر العبد بسد الخلة وما به إليه الحاجة. ومنه " المولى " لابن العم، لأنه يلي أمره بالنصرة لتلك القرابة. ومنه " ولي اليتيم " لأنه يلي أمر ما له بالحفظ والقيام عليه، والولي في الدين وغيره لأنه يلي أمره بالنصرة والمعونة لما توجبه الحكمة فجميع هذه المواضع معنى الأولي واللاحق ملحوظ فيها.
وولى عن الشيء: إذا أدبر عنه، لأنه زال عن أن يليه بوجهه. واستولى على الشيء: إذا احتوى عليه، لأنه وليه بالقهر.
والله سبحانه ولي المؤمنين على ثلاثة أوجه:
أحدها: إنه يتولاهم بالمعونة على إقامة الحجة والبرهان لهم في هدايتهم.
وثانيها: إنه وليهم في نصرهم على عدوهم وإظهار دينهم على أديان مخالفيهم كلها.
وثالثها: إنه وليهم، يتولاهم بالمثوبة على الطاعة والمجازة على الأعمال الصالحة.
وهذه الوجوه الثلاثة مما ذكره الشيخ أبو علي الطبرسي في تفسيره الكبير وسيأتيك تحقيق الحق إن شاء الله.
اللائحة الثانية
في النظم
لما ذكر الله تعالى المؤمن والكافر، أراد أن يبين ولي أمور كل منهما وداعي أشواقهم، وإرادتهم، وحركاتهم، فقال: الله ولي الذين آمنوا أي: نصيرهم ومعينهم في كل ما لهم إليه الحاجة، وما فيه الصلاح في أمور دينهم، ودنياهم، وآخرتهم، ويشوقهم إلى منتهى قصدهم، ومرمى غرضهم ويوصلهم إلى أعلى مقاماتهم وكراماتهم.
اللائحة الثالثة
في لمية اختصاص المؤمنين بولاية الله سبحانه
إعلم أن في هذا المقام إشكالا عظيما حله على ذوي الأفهام، لأنك قد علمت من الأصول التي أفدناك فيما سبق - من تقديس الله تعالى عن وصمة الكثرة، والتغير، والتفنن، في الإضافات، والاختلاف في النسب والإضافات - أن وجوده عام ورحمته شاملة للكل على نسق واحد، أعطى كل ذي حق حقه وأفاض على كل قابل ما يستحقه، فلو كانت لمادة البصل - مثلا - قوة قبول الزعفران، ولنطفة البقر قبول صورة الإنسان لما ترك الواهب الأشرف الأفضل وما فاض عليهما البقر والبصل.
فإذا تقرر ذلك، فولاية الله تعالى إن تعلقت بالمؤمنين قبل قبولهم دعوة الإيمان، واستكمالهم بالعلم والعرفان، فإن ذلك ترجيح من غير مرجح، وإن كانت بعده يلزم الدور لكون الإيمان مسببا عنها، كما يفصح عنه قوله تعالى: { يخرجهم من الظلمات إلى النور } لأن منشأ إيمانهم الذي هو عين تنورهم بنور المعارف وخروجهم إليه من ظلمات الجهل والعمى هو هذه التولية، فلو كانت بعد الإيمان يكون دورا بالضرورة.
وهذا الإشكال صعب الانحلال عند من يحذو حذو أهل الاعتزال - القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين في الأفعال، واستحالة الترجيح من غير مرجح -.
وأما الأشاعرة المجوزون لإيجاد القبائح وترجيح أحد المتساويين فالأمر هين عليهم، بل هم احتجوا بهذه الآية على تصحيح مذهبهم، وأن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر، قائلين إن الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين، ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما سيكون سببا لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب لأجله، كما قال تعالى:
يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه إن أوليآؤه إلا المتقون
[الأنفال:34]. فجعل القيم بعمارة المسجد وليا له، ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه.
فلذلك كان الولي: المتكفل بالمصالح.
ثم إنه تعالى جعل نفسه وليا للمؤمنين على التخصيص، علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار.
قالوا: فهذه الآية مبطلة لقول المعتزلة ب " أن الله تعالى قد سوى بين المؤمن والكافر في الهداية والتوفيق والألطاف ".
وربما يجاب من قبل القائلين بالاعتزال - كالزمخشري وغيره -: إن هذا محمول على زيادة الألطاف كما في قوله سبحانه:
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم
[محمد:17]. وقوله:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون
[الأنفال:2].
وتقريره من حيث العقل: إن الخير والطاعة مما يدعو بعضه إلى بعض وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلسا يجري فيه الوعظ فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار، ويكون حاله مفارقا لحال من قسى قلبه بالكفر والمعاصي، وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره، فكان تخصيص المؤمنين بأن الله وليهم محمولا على ذلك.
وهذا الجواب مما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير نيابة عن المعتزلة، وهو غير سديد من وجهين:
أحدهما: إنه غير حاسم لمادة الإشكال على الوجه الذي قررناه، إذ لأحد أن يجري الكلام في سبب أصل الهداية والتوفيق وسياقتهما من الله في حق بعض أفراد الإنسان حتى صار من أهل الإيمان. وسبب الضلالة والخذلان، وسياقتهما منه في حق بعض آخر حتى صار من أهل الكفر والعصيان، فنقول: إذا كانت نسبة الهداية والتوفيق واحدة من الحق تعالى في الجميع على أصولكم، فما وجه اختصاصهما ببعض الناس حتى يكون مؤمنا، واختصاص مقابل كل منهما ببعض آخر حتى يكون كافرا؟ فحينئذ لا يتم الجواب، ولم يبق مهرب عن لزوم الترجيح من غير مرجح في هذا الباب.
وثانيهما: إن للأشاعرة أن يقولوا لهم: إن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم، ولا يكون لله في حق المؤمن إلا أداء الواجب، وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر، بل المؤمن فعل ما لأجله استوجب ذلك المزيد، فيكون ولي المؤمن هو المؤمن نفسه الذي فعل ما لأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف. هذا وستسمع منا لب التحقيق.
وربما يجاب عن أصل الإشكال بوجوه أخرى من المقال، جارية على نهج الاعتزال:
أحدهما: إنه تعالى يثيبهم في الآخرة، ويخصهم بالنعيم المقيم، والإكرام العظيم، فكان التخصيص محمولا عليه.
ويرد عليه مثل ما يرد على الوجه المذكور آنفا - تحقيقا وجدلا - بأن يقال: ذلك الثواب واجب على الله تعالى على أصولهم، فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقا على الله ذلك الثواب، فيكون وليه نفسه.
وثانيها: إنه تعالى كان وليا للكل بمعنى كونه متكفلا بمصالح الكل على السوية، إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن، فيصح تخصيصه بهذه الآية كما في قوله:
هدى للمتقين
[البقرة:2].
ويرد عليه أن هذا الأمر الذي به امتاز المؤمن عن الكافر في باب الولاية، صدر عن العبد لا من الله تعالى، فكان ولي العبد - على هذا القول - هو العبد نفسه لا غيره.
وثالثها: إنه تعالى وليهم، بمعنى أنه يحبهم، والمراد منه أنه يحب تعظيمهم.
ويجاب: إن " المحبة " معناها: إعطاء الثواب: وذلك بعينه هو الوجه الأول من هذه الوجوه وقد مر الإيراد عليه.
اللائحة الرابعة
في التخلص عن أصل الإشكال على طريقتي الحكماء والصوفية
أما على طريقة الحكماء فمثل ما يقولون في دفع الإشكال الوارد عليهم في إثبات الصور النوعية للأجسام الطبيعية، فإنهم لما أثبتوا تلك الصور في الأجسام بواسطة ثبوت الآثار واللوازم المختلفة فيها بأن قالوا: " الجسمية أمر واحد في الجميع فلو لم يوجد في بعض الأجسام صورة منوعة وفي بعض آخر صورة منوعة أخرى يلزم في ترتب بعض الآثار لبعض منها - كالحرارة في النار - وترتب بعض أخرى لبعض آخر - كالبرودة للماء - ترجيحا من غير مرجح ".
أورد عليهم: أن هذا بعينه وارد عليكم عند إثبات تلك الصور أيضا، فإن اختصاص جسمية النار بصورتها الخاصة دون غيرها، واختصاص جسمية غيرها بغير تلك الصورة كجسمية الماء بصورته مع استواء الجميع في الجسمية المطلقة المشتركة مما يوجب الترجيح من غير مرجح.
لكنهم أجابوا عن ذلك - بعدما أحكموا بيان تحققها وجوهريتها بوجوه أخرى - إن اختلاف تلك الصور مستند إما إلى اختلاف الاستعدادات السابقة كما في العنصريات، أو اختلاف المواد كما في الفلكيات، أو اختلاف الجهات والحيثيات الحاصلة في المبادئ الفعالة العقلية سيما العقل الأخير كما عند المشائين، أو اختلاف ذوات تلك المبادئ العقلية، كما عند الرواقيين القائلين بكثرة العقول التي في الطبقة العرضية على حسب تكثر الأنواع الجسمانية، أو اختلاف صورها العلمية الواقعة في عالم القضاء الإلهي، أو القدر الرباني الموجودة في القلم الأعلى العقلاني، أو في اللوح المحفوظ النفساني على الوجه المقدس عن التغير - بخلاف الصور الجزئية الواقعة في القدر الانطباعي السماوي لتغيرها بالمحو والإثبات - أو اختلاف الصور الربانية المسماة بالعناية الإلهية عند من جوز قيام علم الله تعالى بذاته - أي العلوم التفصيلية.
فكذلك يقال في انحلال ذلك الإشكال، وإيراد السؤال عن لمية اختصاص المؤمن بولاية الله تعالى والإكرام والإفضال، واختصاص الكافر بمقته الموجب للنكال، من حوالة هذا التخالف بينهما في الهدى والضلال، والسعادة والوبال، والثواب والعقاب، بعد الإيمان والكفر إلى أمور سابقة موجبة، ومقدمات متأدية مقتضية، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أمور قضائية إلهية.
وهذه سنة الله التي لا تبديل لها، وحكمته التي لا مزيد عليها، ولا فتور يعتريها من ربط الأشياء بالعلل والأسباب، وربط الأسباب بالمسببات، إلى أن يبلغ إلى قدرته، وإرادته، وجوده، وحكمته الموجبة لإيصال كل شيء إلى خير يليق به، وكمال يؤثر عنده، والحافظ لها (والمحافظة إياه - ن) عن كل شين ونقص يعتريه، وشر وآفة يلحقه بقدر الإمكان.
فالخير مرضي والشر مقضي، ولكل منهما طالب لا يسكن إلا لديه، ولا ينزعج إلا إليه.
فهذا أنموذج لهذا المقام، وقد بقي بعد من الشكوك ما لا ينحل إلا ببسط في الكلام مع اشتغال شديد من المريد السالك في تحقيق المرام، ليتجلى له من الحق ما يتجلى للحكماء الكرام أو الأتقياء العظام.
وأما على طريقة أهل التصوف فبأن لله تعالى في ذاته وفي عالم إلهيته شؤونا وحيثيات مسماة بأسماء وصفات - كما يعرفه أهل الله لا على وجه يقدح في أحديته الحقة - وهو سبحانه مع تلك الشؤون والحيثيات، مبدأ للكل وعالم بالأشياء وقادر على جميع الممكنات، ولو خرج شيء من الأشياء من علمه وقدرته، وتأثيره، وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل، وهو مع ذلك منزه عن فعل القبائح والشرور، ولكن لا بالوجه الذي بلغ فهم المعتزلة إليه، وإلا لناقض كونه مبدأ للكل، وفي كونه مالك الملك.
بل الوجه أن يقال: وجود العالم بجميع أجزائه وأفراده المتكثرة والمتخالفة على هذا الوجه المشاهد ظلال لأسمائه المتعددة المتخالفة، على وجه كالأول، والآخر، والظاهر، والباطن، ولكل منها أثر خاص ومظهر ومعلول معين كالمبدع والكائن، والمحسوس والمعقول.
وعلى هذا القياس فنقول: إنا لله سبحانه صفتي " لطف وقهر " ومن الواجب في الحكمة أن الملك - ولا سيما ملك الملوك - يكون هذا، إذ كل منهما من أسمائه الحسنى ومن أوصاف الكمال، ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك كابر وعاند، ولا بد لكل من هاتين الصفتين من مظهر.
فالملائكة ومن ضاهاهم من المؤمنين والأخيار مظاهر اللطف، والشياطين ومن والاهم من الكفار والأشرار مظاهر القهر، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها، ومظاهر القهر هم أهل النار والأعمال المعقبة إياها. فخلق الله تعالى للجنة خلقا يعملون بعمل أهل الجنة، وللنار خلقا يعملون بعمل أهل النار.
فكما أن وجود كل من صفتي اللطف والقهر مما لا بد فيه، فكذا لا بد من وجود مظاهر كل منهما بحسب كل مرتبة، وكما لا اعتراض لأحد عليه تعالى في وجود أصل المظاهر والمعاليل لكونها من لوازم الإلهية وآثار الربوبية، فكذا لا اعتراض لأحد عليه في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به، فإنه لو عكس الأمر لكان هذا الاعتراض بحاله.
ومن هاهنا تظهر حقيقة السعادة والشقاوة " فمنهم سعيد وشقي " والإيمان والكفر " فمنهم مؤمن ومنهم كافر " وتظهر حقيقة كونه تعالى ولي الذين آمنوا وعدو الذين كفروا - وإنما وليهم الطاغوت فالله سبحانه موصوفا بصفة اللطف ولي المؤمنين وعدو الكافرين أيضا، وإن كان من جهة الرحمة المطلقة والفيض العام، والجود التام، يوجدهم ويرزقهم ويعطيهم المال والجاه، ويجيب دعاءهم ويسمع نداءهم.
وفي هذا المقام أسرار لا يجوز التصريح بها لأن ضرر سماعها للطبائع الغير المرتاضة أكثر من نفعها.
فإذا تؤمل في ما بينا، يظهر أن هذا الترتيب والتميز في الوجود من لوازم الترتيب والتميز الواقع فيما سبق من الأحكام الأزلية الناشئة من معدن الإلهية والعلم السابق الإلهي، ويعلم أن ولاية المؤمن من الله قبل إيمانه بالذات.
كما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب علمه، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد ".
فإن قلت: إذا كانت السعادة والشقاوة بالقضاء، والإيمان والكفر بالقدر، فأي فائدة في بعثه الرسل وإنزال الكتب؟
قلت: فائدتهما بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين، الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سببا وواسطة لاهتدائهم.
إنمآ أنت منذر من يخشاها
[النازعات:45]. كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح.
وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون
[التوبة:125]. غاية ذلك إلزام الحجة وإقامة البينة عليهم ظاهرا
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
[النساء:165]
ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا
[طه:134] وهو في الحقيقة للنفي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء.
أقول: فيه وجه آخر وهو أن لكل شيء بحسب قصده وغلبة الطبيعة أسباب وعلل بها يتوجه إلى حيزه الطبيعي ومعاده الأصلي، فمن الأسباب المؤدية للأشقياء إلى درك الشقاء، وهي بعينها الأسباب التي تسوق السعداء إلى الدرجات العلى، إرسال الرسل وإنزال الكتب.
فإن هذين الأمرين - الإرسال والإنزال - كما يوجبان ظهور ما يكمن في النفوس الشريفة - من آثار الكرامة، والعلم، والمروة، والتقوى، والصفات الحسنة، والأفعال الجميلة - فكذلك موجبان للنفوس الخبيثة ظهور ما يكمن فيها - من الحماقة، والجهالة، وحب الدنيا، والشهوات - فيوجبان للنفوس الخبيثة زيادة في جحودهم واستنكارهم، وشدة في غيظهم واستكبارهم.
أما ترى أن بالوعظ والنصيحة ينكشف ويظهر من حال قساوة بعض القلوب التي هي كالحجارة أو أشد قسوة ما لا يظهر قبل ذلك، فعند سماع الآيات يستحكم لكل من القبليتين ما هو مركوز في جبلته من الصفات إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
كما دل عليه قوله تعالى:
قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ
[الأنعام:104] وقوله تعالى:
وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنمآ أنا من المنذرين
[النمل:92]. فإن فيها إشارة إلى أن نور القرآن يظهر ويكشف جوهر الهداية والضلالة في معدن قلب الإنسان السعيد والشقي، كما يظهر ويكشف ضوء الشمس الذهب والحديد في المعادن.
وكذا قوله تعالى:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين
[البقرة:26]. وآيات كثيرة في هذا المعنى.
وقال عليه آله الصلاة والسلام
" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "
الحديث.
المقالة السابعة عشرة:
في معنى قوله سبحانه: { يخرجهم من الظلمات إلى النور }
وفيه معارج:
المعراج الأول
في تحقيق الآية
إن الله سبحانه لما ذكرنا أنه يحب الذين آمنوا ومتولي إيمانهم، ومعينهم في قبول الهداية، ومكمل قلوبهم بكمال العرفان المعبر عنه بالإيمان، أراد أن يبين كيفية هذا التكميل والاستكمال، ولمية هذا الفعل والانفعال، فأشار إلى أن كيفيته بأن يخرجهم من ظلمات الخلقة إلى نور الهداية، حتى اهتدوا وآمنوا، فإن كل واحد من الناس بحسب أصل طينته وهيولانيته من سنخ الظلمات كالجسمية والطبيعية والحيوانية التي مقتضى ذاتها أفعال توجب الطرد والبعد عن حرمة الله الخاصة الموجبة لدخول الجنة، وإنما التفاوت بحسب تفاوت الأرواح والقلوب في الكدورة والصفاء الفطريين، ثم بحسب العقائد والأعمال.
ويجوز أن يحمل قوله تعالى :
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا
[مريم:71]. على ما يستوجبه الإنسان بحسب ما تقتضيه طينته الجمسانية الظلمانية.
ويحتمل أن تأول " الظلمات " بالأوصاف النفسانية كالشهوة، والغضب، والوهم، قبل أن يسخرها القلب ويستعملها فيما خلقت لأجله، ويستخدمها في طاعة الله على وجه التعليل والتوسيط، فإن وجودها لا على الوجه المذكور ظلمة ووبال على النفس الآدمية توجب لها الاستحقاق لعذاب الله بالجحيم، والنار، والموت، والحرمان عن نعيم الأبرار، كما يدل عليه أيضا قوله تعالى:
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا
[الأنعام:122].
فثبت أنه تعالى أخرجهم ذلك اليوم بإصابة رشاشة النور - كما ذكر في الحديث المشهور - من ظلمات الطينة حتى اهتدوا اليوم فآمنوا، ولولا محبته إياهم وتنويره قلوبهم، ومزيد العناية، وتوليته لهم بالنصرة والمعونة فضلا منه ورحمة لما آمنوا وكانوا من الكافرين، كقوله تعالى:
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
[البقرة:64]. ونظائره من الآيات الدالة على مزيد فضل الله لعباده الصالحين.
فما أشد سخافة عقل من أنكر مزيد محبة الله وعنايته للمحبوبين المقربين من الأنبياء والمرسلين والأبدال الواصلين، ويرى أن التوفيق، والهداية، والمحبة من قبله تعالى مساوية (سواسية - ن) النسبة إلى أفضل خلق الله وأحبهم إليه كخاتم المرسلين عليه وآله أفضل صلوات المصلين - وأرذل خلقه وأبغضهم لديه - كالشيطان اللعين؟! بدون تفاوت ذواتهم في ابتداء الفطرة بحسب صفاء جوهر القلب وظلمته وصفائه وكدورته، اللذان هما من مظاهر قهره تعالى ورأفته، وآثار مقته ورحمته كما مر ذكره.
المعراج الثاني
في بيان طوائف (طبقات - ن) المؤمنين في الإيمان وكيفية إخراج كل طائفة من الظلمة إلى النور، وأن مراتب الإيمان متفاوتة
المؤمنون فيه على ثلاثة مراتب لكونهم ثلاث طوائف: عوام المؤمنين وخواصهم، وخواص خواصهم.
فالعوام: يخرجهم الله من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية كقوله تعالى:
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم
[محمد:17].
والخواص: يخرجهم من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية الربانية؛ لقوله تعالى:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله
[الرعد:28]. ومعرفته واطمئنان القلب بالذكر والمعرفة لم يكن إلا بعد تصفيته عن الصفات النفسانية، وتحليته بالصفات الروحانية، وإلا فمن صفته الاطمئنان بالحياة الدنيا وشهواتها، كقوله تعالى:
ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها
[يونس:7].
فإذا استولى سلطان المعرفة على نفس المؤمن وقلبه، تنورت النفس بنور الذكر، وخرجت عن ظلمة صفاتها، فتبدلت أخلاقها الذميمة بالحميدة، فيكون اطمئنانها مع العلوم الإلهية وذكر الله بدل ما كان مع الدنيا، فتستحق حينئذ أن يخرجها الله تعالى بخطاب:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
[الفجر:27 - 28] من ظلمات الصفات الغير المرضية إلى نور صفة
راضية مرضية * فادخلي في عبادي
[الفجر:28 - 29]. أي مقام خواص عبادي
وادخلي جنتي
[الفجر:30]. أي المخصوصة المشرفة بإضافتها إلي، فهي خاصة لخواص عبادي.
وخواص الخواص: يخرجهم من ظلمات حدوث الخلقة الروحانية بإفنائهم عن وجودهم إلى نور تجلي صفة " القديم " لهم ليبقيهم به، كقوله تعالى:
إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا
[الكهف:13 - 14]. الآية نسبهم إلى الفتوة لما خطروا بأرواحهم في طلب الحق، وآمنوا بالله وكفروا بالطاغوت دقيانوس.
فلما تقربوا إلى الله تعالى بقدم الفتوة، تقرب إليهم بمزيد العناية، قال:
زادهم هدى
[محمد:17] تحقيقا لقوله (صلى الله عليه وآله):
" من قربني شبرا قربته ذراعا ".
فلما تنورت أنفسهم بأنوار أرواحهم اطمأنت إلى ذكر الله وأنست به، واستوحشت عن صحبة أهل الدنيا وما فيها وأحبوا الخلوة مع الله، فقال أكبرهم وشيخهم:
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته
[الكهف:16]. فأووا إلى الغار ليخلوا مع الله ويطلبوه.
فإذا قاموا عن وجودهم وبذلوا جهدهم في طلبه، ومشوا إليه استقبلهم بجوده هرولة، فبدل أوصافهم بألطافه كما قال:
وربطنا على قلوبهم
[الكهف:14] أي أفنيانهم عنهم بنا بنشر رحمتنا عليهم، و " النشر " هو الإحياء، فأفناهم عنم وأبقاهم به، وهو الولاية التي تكرم الله تعالى به خواص عباده، إذ يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور جوده (وجوده - ن) بعد تربيتهم بالرفق، وإنامتهم نومة العروس بعزل الحواس لتصفية القلب، والفراغ بالكلية إلى الحق عن الدنيا، لئلا تتأذى نفوسهم بنصب الرياضة وتعب المجاهدة - وتقلبهم ذات اليمين وذات الشمال - أي: من صفات أصحاب الشمال إلى صفات أصحاب اليمين وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، لا يزاحمهم بدواعي الحيوانية حتى تمت مدة تربيتهم في تبديل أوصاف البشرية بأخلاق الربوبية.
ومن علامة هذا المقام - الذي يصل إليه خلص عباد الله الكرام - ما أظهره الله عليهم للاحترام هيبة من آثار صفات جلاله، كما قال سبحانه:
لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا
[الكهف:18]. وعداوة علماء الدنيا لأهل الله والعرفاء وغيظهم، إنما تنشأ من غاية ما وجدوا من الهيبة والجلالة فيهم، ولهذا ملؤوا (لملؤوا - ن) منهم غيظا كما ملؤوا رعبا.
المعراج الثالث
في إتقان القول بأن الله تعالى هو المبدأ الفعال في إخراج النفوس الإنسانية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور المعرفة والكمال، ودفع شبهة المنكرين والجهال.
أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من " الظلمات والنور " هما " الكفر والإيمان " وما يجري مجراهما من اللوازم والملزومات، فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من مرتبة الكفر - الذي هو ضرب من الجهل - وأدخله إلى مرتبة الإيمان - الذي هو ضرب من العلم -.
والبرهان العقلي عليه هو أن الإنسان في مبدإ الفطرة خال عن العلوم كلها، ثم قد يصير مؤمنا بالحقائق الربانية، عالما بالمعالم الإلهية، ولا شك أن كل ما خرج من القوة إلى الفعل بحسب الكمال العلمي فلا بد له من سبب يخرجه منها إليه، وذلك السبب إما أن يكون كاملا في ذاته، عالما بالفعل من غير قصور، أو لا يكون كذلك - بل كان عالما كاملا بعد ما لم يكن -.
فإن كان الأول: فهو إما واجب أو ممكن، فإن كان واجبا فهو المطلوب وإن كان ممكنا: فسببيته لتكميل هذا الإنسان إما بحسب حقيقة ذاته (حيثيته الذاتية - ن) الممكنة، أو من جهة إفاضة الواجب تعالى نور العلم والكمال عليه.
والأول محال - لأن الممكن بحسب ذاته الإمكانية عدم محض، وقوة صرفة، فاستحال أن يصير سببا لوجود أو فعلية - فتعين الثاني وهو مطلوبنا.
وإن لم يكن كاملا كذلك ينقل الكلام إلى سببه المخرج إياه من النقص إلى الكمال، ومن القوة إلى الفعل، فإما أن تذهب السلسلة إلى غير النهاية، أو تدور، أو تنتهي إلى الواجب تعالى. والشقان باطلان، فتعين الثالث وهو الحق.
فثبت أن الله هو الذي أفاض نور الإيمان على النفوس الساذجة الإنسانية عنه بحسب الفطرة الأصلية، وأخرجه (أخرجها - ظ) عن ظلمات التعلقات الدنيوية إلى نور القرب المعنوي الرباني.
وأما الذي ذكره جمع من معتزلة المتكلمين من وجهين:
أحدهما: أن الإخراج من الظمات إلى النور عبارة عن نصب الدلائل، وإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، والحث والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه، والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه، وقد نسب الله الإضلال إلى الصنم في قوله:
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
[إبراهيم:36]. لأجل أن للأصنام سببية ما بوجه، فبأن يضاف الإخراج من الظلمات إليه تعالى كان أولى.
والوجه الثاني: أن يحمل " الإخراج من الظلمات إلى النور " على أنه تعالى يعدل بهم من النار الجنة، وهذا أدخل في الحقيقة، لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى - فكأنه فعله -.
فهو مفسوخ (منسوخ - ن) الضبط، مقدوح الحكم، وليت شعري بعد أن يكون الإخراج عبارة عما ذكروه أفلا يكون بين الناس تفاوت واختلاف في المفهوم والقرائح؟ حتى تفطن بعضهم للدلائل وتلقوها بالقبول، وأوقعت معانيها في أذهانهم وقرائحهم بأبلغ وجه وآكده، بخلاف البعض الآخر حيث تبلدت أذهانهم، وتعصت عن قبولها، كما قال سبحانه فيهم:
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة
[البقرة:7]. وكذا قوله:
سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[البقرة:6]. وقوله مخاطبا للرسول (صلى الله عليه وآله)
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص:56].
فهذا التفاوت في الفهم والذكاء بين النفوس على هذه الغاية - التي هي أزيد مما بين الأرض والسماء، حيث يكون منهم البليد الذي لا يفلح أبدا في فكره، ومنهم شديد الحدس قوي الذكاء إلى حيث يبلغ نفسا قدسية تعرف الأشياء كما هي في زمان قليل العدد - أيكون حاصلا بمجرد التعلم والكسب من غير تفاوت في أصل فطرة الجواهر؟ أم بفيض إليه قدري يجعل النفس مختلفة الذوات صفاء وكدورة، متفاوتة القلوب لطافة وكثافة، لينا وقساوة؟
لست أشك في أن أحدا من العقلاء لا ينكر هذا التفاوت الفطري ضميرا واعتقادا - وإن عاند لسانا وقولا - فإذا بطل أن يكون ذلك بمجرد الكسب من غير مدخل لعناية الله في حق البعض دون الآخر فقد ثبت أنه تعالى هو الذي خلق الظلمات والنور، والجنة والنار، وخلق لكل منهما أهلا كما قال:
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن
[التغابن:2].
فإذا تحقق هذا المقام بما ذكرناه من الكلام فلنشتغل بحل ما عقدوه، والجواب عما ذكروه أما من الأول فمن وجهين:
أحدهما: إن هذه الإضافة حقيقة في الفعل ومجاز في الحث والترغيب، والأصل حمل اللفظ على الحقيقة، على أن جواز إطلاق اللفظ في معنى لا يقتضي ثبوت ذلك المعنى فلا يصح التعويل عليه في المقاصد الاعقتادية، وقد اشتهر بين المحصلين أن الحقائق غير مقتنصة من الإطلاقات اللغوية أو العرفية.
وثانيهما: إن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية، صار الراجح واجبا، والمرجوح ممتنعا، وحينئذ يبطل قولكم. وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج.
وأما عن الثاني فمن وجهين أيضا:
الأول: قال الواقدي: " كل ما كان في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان، غير قوله تعالى في سورة الأنعام:
وجعل الظلمات والنور
[الأنعام:1] فإنه يعني به الليل والنهار - قال: - وجعل " الكفر " ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك، وجعل " الإيمان " نورا لأنه كالسبب في حصول الإدراك ".
والثاني: إن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عندكم فلا يجوز حمل اللفظ عليه.
المعراج الرابع
في إزاحة وهم من يخص الآية بمن كان كافرا حينا من الدهر ثم أسلم
إن ظاهر لفظ " يخرجهم من الظلمات إلى النور " اقتضى أنهم كانوا في الكفر، ثم أخرجهم الله من ذلك الكفر الذي عليه في حصة من الزمان إلى الإيمان، قال جماعة من المفسرين: " إن الآية مختصة بمن كانوا من الكافرين ثم قبلوا دعوة الإسلام " وهم ذكروا في سبب النزول روايات:
إحداها: قال مجاهد: " هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى (عليه السلام) وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) آمن به من كفر بعيسى (عليه السلام)، وكفر به من آمن بعيسى (عليه السلام) ".
وثانيتها: إن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى (عليه السلام) على طريقة النصارى، ثم آمنوا بعده بمحمد (صلى الله عليه وآله) فكان إيمانهم بعيسى (عليه السلام) حين آمنوا به ظلما وكفرا، لأن القول بالاتحاد كفر، والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام.
وثالثتها: إن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد (صلى الله عليه وآله) وهذا التخصيص غير لازم، بل الأولى أن يحمل اللفظ على كل من آمن بالله وبمحمد (صلى الله عليه وآله) وبما جاء به - سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر بعدية زمانية أو لم يكن - وتقريره حسبما أشرنا إليه أنه لا يبعد أن يقال: " يخرجهم (يقول بخروجهم - ن) من النور إلى الظلمات " وإن لم يكونوا فيها البتة، ويدل على هذا الجواز النقل والعقل:
أما النقل فيدل عليه القرآن، والخبر، والعرف.
أما القرآن: فقوله تعالى:
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها
[آل عمران:103]. ومعلوم أنهم لم يكونوا قط في النار، وقوله:
لمآ آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي
[يونس:98]. وما كان نزل بهم عذاب البتة، وقال في قصة يوسف (عليه السلام):
تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله
[يوسف:37]. ولم يكن فيها قط، وقال:
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر
[النحل:70]. وما كانوا فيه قط.
وأما الخبر:
" فروي أنه (صلى الله عليه وآله) سمع إنسانا يقول: " أشهد أن لا إله إلا الله " فقال: " على الفطرة " فلما قال: " أشهد أن محمدا رسول الله " فقال: " خرج من النار " ومعلوم أنه لم يكن فيها ".
وروي أيضا أنه (صلى الله عليه وآله) أقبل على أصحابه فقال:
" تتهافتون في النار تهافت الجراد، وها أنا آخذ بحجزكم "
ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار.
وأما العرف: فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له: " قد أخرجتني من مالك " أي: لم تجعل لي فيه شيئا، لا أنه كان فيه فأخرجه منه.
وأما العقل: فالتحقيق فيه كما مر أن الإنسان وإن لم يكن في النار ظاهرا، ولم يكن كافرا قط، إلا أنه كانت نفسه في أول الفطرة ناقصة في معنى الإنسانية، خالية عن الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك مشارك للحيوانات في الإغراض الشهوية والغضبية، بل أنزل رتبة وأضل سبيلا منها في الدواعي النفسانية، والميل إلى الدنيا، والإخلاد إلى الأرض، فإن بقي على هذه الحالة التي هي بعينها سبب دخول الجحيم وغضب الجبار، أو نفسها - كما هو عند بعض - كان على شفير جهنم، فإذا تنورت ذاته بالإيمان اليقيني، والمعارف الإيمانية، وعمل بمقتضاها، فقد حصل له ما هو سبب دخول الجنان، ومجاورة الرحمن، أو عينها - كما هو عندهم -.
فمعنى هذه الآية وغيرها من النقول المذكورة هو ما ذكرنا، فإن العبد لو خلي ساعة من توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات مما توجبه الشهوات وغيرها، فصار إمداد لطفه، وإفاضة نوره آنا فآنا سببا لدفع تلك الظلمات عنه، وبين الدفع وبين الرفع مشابهة، فبهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع.
المقالة الثامنة عشرة:
في قوله سبحانه وتعالى: { والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات }
وفيه مطالع:
المطلع الأول
في اللفظ
" الطاغوت " بلفظ الواحد (الواحدان - الوحدان - ن) والأولياء بلفظ الجمع، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار للطاغوت لا من قبله لهم، فلو كان من قبله، لقال: " وليهم الطاعوت " أو " الطاغوت وليهم " وأما ما قرأه الحسن " أولياؤهم الطواغيت " واحتج بقوله تعالى بعده: { يخرجهم من الظلمات إلى النور } فهو إسناد مخالف للمصاحف، على أنه قد مر أن هذا اللفظ مفرد لا يجمع، ولهذا يقع في موضع الجمع.
ومن الدلائل على ما حملناه - من كون الأولياء بمعنى المبني للمفعول بعد كون الطاغوت بمعنى الشيطان قوله تعالى:
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
[البقرة:168] وقوله:
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا
[فاطر:6]. فإن كونه عدوا للإنسان جملة ينافي صيرورته وليا ولو في بعض الأوقات.
والمراد بالطاغوت هاهنا إما الشياطين - وهو قول ابن عباس - وقيل: رؤساء الضلالة - عن مقاتل - وقيل: الأصنام. وقيل: المشتهيات النفسانية والأغراض الدنيوية. وقيل: النفس الأمارة بالسوء ولكل وجه بل المرجع فيها واحد هو حب الدنيا لنقصان الجوهر وقصور الذات.
المطلع الثاني
قد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس بقضاء الله، لأنه أضافه إلى الطاغوت.
والجواب: إن هذه الإضافة مجازية بالاتفاق، وخصوصا على قول من يكون المراد به عنده " الصنم " كقوله تعالى:
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
[إبراهيم:36]. فإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق مجازية بين الفرق فقد خرجت عن أن تكون حجة لهم.
المطلع الثالث
كما أن ولاء الله للعباد منوط بولائهم إياه، فكذلك براءته تعالى عنهم منوطة بمحبتهم الباطل، فالمراد هاهنا على حسب الوزان: إن الذين كفروا أولياؤهم الطاعوت وبهذا الولاء للطاغوت صاروا مبعدين مطرودين عن الله، ملعونين، مستوجبين للنار خالدين فيها.
ودليل ما ذكرنا قوله تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله
[البقرة:165]. لأنه لو فسرنا الطاغوت بالأصنام فإنها بمعزل عن الولاء والمحبة، وإن حملناه على الشيطان أو النفس فإنهم الأعداء لا الأولياء، وإن حملناه على الرؤساء والمتقدمين فإن لهم فراغة من ولائهم ومحبتهم، وإن كانوا يقطعون الطريق عليهم ويمنعونهم عن الإسلام، ويدعونهم إلى الكفر، فهذا من العداوة لا من الولاء، فثبت إنهم أولياء الطاغوت لا العكس.
ولهذا الفرق ذكر " الأولياء " بلفظ الجمع " والطاغوت " بلفظ المفرد كما مر.
ولما كان في حق المؤمنين الولاء والمحبة من الله تعالى ابتداء - لا منهم - قال سبحانه: { الله ولي الذين آمنوا } دليله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]. بدأ بمحبته إياهم.
وأما قوله: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } فليس لكل طاغوت قدرة بالحقيقة على إخراج أحد من النور إلى الظلمات، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" بعث الشيطان مزينا وليس إليه من الضلالة شيء "
وإنما نفوس الإنسان تميل إلى ما يلائم هواها وشهوتها، فتسكن فيها ولاها ومحبتها، فيتمنى نيل مرادها، وحصول مرامها من شيء، أو شخص، أو شيطان، أو صنم يتشبث بذلك ويتعلق به ويتولاه، ويجعله طاغوتا يشغلهم عن الله تعالى، وطلب القرب منه والارتقاء إلى عالم الروحانيين وجنة المقربين.
فلهذا ينسب الله الإخراج إليهم بقوله: " يخرجونهم " لكونهم منشأ للخروج بوجه ما، فيكون نسبة الإخراج إليهم من باب نسبة المعلول إلى آلة الفعل، كقوله تعالى حكاية عن دعاء خليله عن نبينا وعليه السلام: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس }. فالناس بواسطة محبتهم وعبادتهم ضلوا عن سبيل الله لا بإضلالهن، وكذلك الكفار بتوليتهم الطاغوت أخرجوا من النور.
المطلع الرابع
في معنى " النور " هاهنا
إعلم أن معنى " النور " في هذا الموضع غير معناه الذي قد مر، فإن معنى الآية: يخرجونهم من نور الروحانية والإيمان الفطري - المشار إليه بقوله (صلى الله عليه وآله):
" كل مولود يولد على الفطرة "
أي: فطرة الإسلام - إلى ظلمات الصفات النفسانية والبهيمية والسبعية، ظلمات بعضها فوق بعض ودركات بعضها تحت بعض، إلى أن تكدرت الأرواح، واظلمت بهذه الصفات، وتخلقت بأخلاق النفوس الأرضية واتصفت بصفاتها.
فكما أن النفوس إذا تنورت بنور الإيمان والمعارف والأخلاق الروحانية، وعلت إلى عالم الأرواح وأعلى عليين القرب مع كونها سفلية فبإكسير طاعة الشرع والمجاهدات الدينية تصير بصفة العلويات، وتطير بأجنحة الروحانيين، وتدعى بنداء
يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر:28 - 29]. فكذلك الأرواح العلوية لما اتصفت بصفات النفس الأمارة، وانقلب جوهرها النوراني بإكسير الطبع الحيواني ظلمانية، أمرت بالهبوط إلى أسفل سافلين البعد والطرد، دليله قوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين:4]. بحسب روحه الذين هو من عالم النور
ثم رددناه أسفل سافلين
[التين:5] بإفساد الاستعداد الروحاني، بالكفر ومتابعة الهوى والطاغوت
إلا الذين آمنوا
[التين:6].
شك وتحقيق
ولك أن تقول: إن الإنسان بحسب أصل فطرته، وأول خلقته لا يخلو إما أن يكون نورانيا أو ظلمانيا، فإن كان الأول فما معنى قوله تعالى: { يخرجهم من الظلمات إلى النور }؟ حيث لم يكن في ظلمة أصلا لا بحسب الواقع، ولا بحسب الفطرة الأصلية كالمؤمنين الذين ما كانوا كفارا قط؟ وإن كان الثاني فما معنى قوله تعالى: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات }؟
فنقول: إعلم أن الإنسان لكونه مركبا من عالمي الأمر والخلق فله فطرتان:
إحداهما: روحاني نوراني علوي من عالم الأمر وهو الملكوت الأعلى.
وثانيتهما: نفس ظلمانية سفلية من عالم الخلق، ولكل منهما نزاع وشوق إلى عالمه.
فقصد الروح وميله ورغبته وشوقه أبدا إلى عالمه، وهو جوار رب العالمين ومصاحبة المقدسين، وميل النفس وقصدها إلى عالمها، وهو أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق.
وبين النفس والروح تجاذب وتنازع وتقالب وتقاوم، كل منهما يريد أن يسخر صاحبه ويستخدمه ويستعبده في تحصيل مآربه ومطالبه.
ولكل منهما أولياء وجنود: فولي الروح هو الله، وجنوده أحزاب الملائكة - وهي المعارف والأخلاق الحسنة والقوى الروحانية - وولي النفس الطاغوت، وجنوده الجهالات والصفات الذميمة والقوى النفسانية، والمحاربة والمطاردة قائمة بينهما في معركة القلب الإنساني إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيكون له الحكم والغلبة في الإنسان، فيتمكن ويستوطن في قلبه ويجعله عشا له.
فإن كانت الغلبة لحزب الله بعلامات يعرفها أرباب القلوب في أنه حلق للجنة لسابق التقدير وسابق القضاء، فيكون الله متولي أمره ومخرجه من الظلمات - التي هي الدواعي النفسانية بحسب فطرة النفس - إلى نور العرفان بتوفيق الطاعات وفعل الخيرات.
وإن كانت الغلبة لحزب الشيطان لكونه خلق للنار فيسر له أسباب المعصية لحكمه إلهية، ومصلحة قدرية، يعرفها أهل الله، فيكون الشيطان وجنوده أولياءه وأحباؤه ومتولي أمره، ومخرجه من النور الذي كان له بحسب فطرة الروح، المشار إليه بقوله (صلى الله عليه وآله):
" كل مولود يولد على الفطرة "
إلى الظلمات الدنيوية من الشهوات واللذات، ولا يرغبهم الطاغوت فيها، لقوله تعالى:
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
[النساء:120]. يعدهم بالتوبة، ويمنيهم بالمغفرة إلى أن يهلكهم بهذه الحيل وما يجري مجراها.
كل ذلك غير خارج عن قضاء الله وقدره، كما قال:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السمآء
[الأنعام:125]. وقوله:
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده
[آل عمران:160].
فهو الهادي والمضل، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا، وعرف الخلق - وخصوصا أولياءه - علامة أهل النار وأهل الجنة، فقال:
إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم
[الانفطار:13 - 14].
ولما كان الغالب على أكثر الخلق جانب النفس والميل إلى الظلمات بعث برحمته الأنبياء صلوات الله عليهم لتزكية النفوس عن ظلمة أوصافها وسوء أخلاقها، وتحليها بحلية أنوار الأرواح، ليستحق بها جوار الحق وقربه في زمرة الأرواح المقدسة، فتزكيتها في إخفاء ظلمة أوصافها بإبداء أنوار أخلاق الروح عليها في تحليتها بها، وهذا مقام الأولياء مع الله يخرجهم من الظلمات إلى النور.
وبعث الشيطان إلى أوليائه - وهم أعداء الله - ليخرج أرواحهم من الروح الروحاني إلى الظلمات النفسانية، بإخفاء أنوار أخلاقها في إبداء ظلمات أخلاق النفس عليها لتستحق بها دركة أسفل السافلين، وغاية البعد عن الحق، فيغفر لمن يشاء ويعذب العاصي بعقوبة نفسه بنار دركات السعير، وروحه بنار الفرقة والبعد
والله على كل شيء قدير
[البقرة:284] من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الخلق والأمر.
المطلع الخامس
في تحقيق العلاقة العقلية والملازمة الذاتية بين الكفر وطاعة الشيطان كما يستفاد من هذه الآية
إعلم أن الشيطان - كما حققناه في كتاب المبدأ والمعاد - جوهر مجرد الذات جسماني، خلقت ذاته من الله تعالى بتوسط القعول الفعالة لأجل جهة إمكانية ظلمانية، وذاته وإن كانت شرا محضا، إلا أنها وجدت بتقدير الله لحكمة قضائية ومصلحة قدرية، فهو وإن كان من شأنه الغلط والتغليط، والضلال والإضلال، إلا أن نسبته إلى الملائكة المقربين نسبة الوهم إلى القوى العاقلة.
وكما أن وجود الوهم في العالم الصغير الإنساني منشأ الغلط والكفر والتغليط - إلا أنه ضروري الوجود في إدراك الجزئيات - ويدفع ضره وشره بالحكمة والبرهان النير - فكذلك وجود الشيطان في العالم الدنيوي ضروري يوجب تعمير هذه النشأة الدنيوية، ويدفع شره وضره بنور الإسلام وطاعة الشريعة الإلهية.
ومن هاهنا ينكشف لدى العاقل البصير أن منشأ الكفر ليس إلا محبة الباطل، ومنشؤها ليس إلا ترويج الباطل في صورة الحق، ولو نظر أحد بعين (بنور - ن) التحقيق إلى حال الإنسان عند محبة كل ما يستلذه، أو يعتقده، أو يطلبه من الأمور الباطلة الزائلة - كالزنا، وأكل مال اليتيم، وقتل النفس المحرمة وعداوة أولياء الله، ومحبة أعداء الله - فليس يجده في تلك الحال إلا زاعما - لغاية غروره - أن في ذلك كمالا وحقيقة، ووجودا ودواما، فما لم يعم، ولم يصم عن مشاهدة بطلان المحبوبات الباطلة، ودثور المرغوبات الزائلة لم يقدم على محبتها وطلبها ومباشرتها.
فمبدأ جميع القبائح يرجع إلى ترويج الباطل في صورة الحق، فالإنسان في هذا الترويج يتبع الشيطان، وصار عقله مقهورا لوهمه عند ادعائه له في هذا الترويج والتدليس، وكل من كفر بالله وآياته صار من أتباع الشيطان، ومحبيه في هذا التغليط من الوهم للقوة العاقلة لصيرورة عقله مذعنا لوهمه.
والوهم من جنود الشيطان، لأن فعله الإغواء وتزيين الباطل وترويجه في صورة الحق، وتابع التابع للشيء تابع لذلك الشيء، والتابع للشيء محب له، فثبت ما ادعيناه من أن الكفر منشؤه ولاء الشيطان - بإضافة المصدر إلى المفعول - كما حققناه.
ومن هاهنا يعلم أن إبليس وإن كان أصله من الملك، إلا أنه لم يكن إلا منافقا، مغالطا جاهلا، كافرا، وما زعمه بعض الجماهير أن الشيطان كان من أعلم العلماء فكلامه مزيف سخيف، وكأنهم لم يفرقوا بين العلم والمغالطة، ولا بين الحكمة والسفسطة، وخصوصا على مذهب من يمنع الإحباط كما ذهب إليه أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم -.
ومن الدلائل على سبق كفره قوله تعالى:
كان من الكافرين
[البقرة:34]. مما يؤيد ما ذكرناه من أن إبليس كان كافرا في أول الأمر ما حكاه محمد ابن عبد الكريم الشهرستاني في أول " الملل والنحل " عن شارح الأناجيل الأربعة شبه مناظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود:
قال إبليس لعنه الله : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق، عالم قادر حكيم، إلا أن لي على مساق حكمته أسئلة:
الأول: إنه قد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني، فلم خلقني؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
الثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيته، فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
الثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة، فأطعت وعرفت فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص؟ فإذا لم أسجد فلم لعنني وأخرجني من الجنة، وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له في ذلك، ولي فيه أعظم الضرر؟
الرابع: لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة، ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم، وبقي خالدا في الجنة.
الخامس: إذ خلقني وكلفني عموما وخصوصا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم عنها، فيعيشوا طاهرين سامعين، طائعين، مطيعين، كان أحرى بالحكمة.
والسادس: سلمت هذا كله، فلم إذا استمهلته أمهلني؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني، وما بقي في العالم شر؟ اليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟
فقال شارح الأناجيل: فأوحى الله إلى الملائكة قولوا له: " أما تسليمك الأول - أني إلهك وإله الخلق - فغير صادق ولا مخلص إذ لو صدقت أني إله العالمين، ما احتكمت علي ب " لم " ، فأنا الله الذي لا إله إلا أنا، لا أسأل عما أفعل والخلق مسؤولون " هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل.
وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور، وليست تعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر، وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص، ولا جواب عليها بالحقيق إلا الذي ذكره الله تعالى.
فاللعين لما حكم عقله الوهماني على من لا يتحكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق، فالأول: غلو كالحلولية وكالغلاة، والثاني: تقصير كالمشبهة - وصفوا الخالق بصفات الأجسام - وكالخوارج - نفوا تحكيم الرجال وقالوا " لا حاكم إلا الله " - كقوله: ءأسجد لبشر خلقته من صلصال لا أسجد إلا لك.
فالشبهات كلها ناشئة من اللعين، وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الأخيرة مظهرها، ولهذا قال تعالى:
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
[البقرة:168] وشبه النبي (صلى الله عليه وآله) كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة، فقال:
" القدرية مجوس هذه الأمة "
و " المشبهة يهود هذه الأمة " و " الغلاة نصاراها " وقال (صلى الله عليه وآله) جملة:
" لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ".
وأما الزاعمون بأن إبليس كان مؤمنا ثم كفر بعد ذلك، فقد اختلفوا في توجيه ما ذكرناه من قوله تعالى:
كان من الكافرين
[البقرة:34]. فمن قائل معناه: كان من الكافرين في علم الله - أي كان عالما في الأزل بأنه سيكفر - فصيغة كان متعلق بالعلم لا بالمعلوم.
ومن قائل: إن " كان " بمعنى " صار ".
وقيل: لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمنا، فبعد لحظة يصدق عليه أنه كان من الكافرين، وإنما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقا في ذلك التمرد بدليل قوله:
أنا خير منه
[الأعراف:12] وإلا فمجرد المعصية لا توجب الكفر عندنا، وإن كانت كبيرة، وكذا عند المعتزلة، وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر، نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة الكفر على الإطلاق.
المطلع السادس
في توضيح الفرق بين محبة الله ومحبة الشيطان
إعلم أن المحبة نوعان بحسب المحب والمحبوب: محبة هي من صفات الإنسان بحسب طبيعته البشرية - وهي من هوى النفس الأمارة بالسوء - ومحبة هي من صفات الحق - وهي من آثارها الإرادة القديمة الإلهية التي اقتضت خلق العالم بما فيه، كما قال تعالى:
" كنت كنزا مخفيا فأجيب أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ".
وقال بعض الحكماء: " لولا عشق العالي لانطمس السافل " فمن وكل إلى محبة (محبته - ظ) النفسانية تعلق بما يلائم هوى النفس من أصناف الأصنام التي ينحتها الشيطان، ليسخر بها النفوس ويجعلها من جنوده المعادية المنازعة (المتنازعة - ن) لجنود الرحمان، وجنوده أهل الدنيا المحبين لشهواتها وزهراتها، سواء كانوا متسمين (متسلمين - ن) بالإسلام أو بالكفر، إذ لا فرق عند أرباب الحقيقة بين عبدة الأصنام وعبدة الدنيا.
فكما أن الكفار بعضهم يحبون اللات ويعبدونها، وبعضهم يحبون العزى ويعبدونها، كذلك أهل الدنيا بعضهم يحبون الأموال ويعبدونها، وبعضهم الأولاد ويعبدونهم، وبعضهم يحب غير ذلك، كما قال سبحانه:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله
[البقرة:165].
ولهذا أعلم الله عباده عن فتنة هذه الأشياء وحذرهم عنها بقوله:
إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة
[التغابن:15]. وبقوله:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم
[التغابن:14]. يعني: فاحذورهم عن محبتهم، لأن محبتهم، تمنعكم عن محبة الله، وهو الحبيب وإنهم العدو، لأنهم من توابع ما هو عدو بالأصالة - وهو الهوى والطاغوت -.
وقال تعالى في موضع آخر في حق الذين ستروا أنوار روحانيتهم، ومحبة الله بظلمات صفات نفسانيتهم، من هوى النفس، وجحود الحق، وإنكاره وحب الشهوات:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب
[آل عمران:14].
يعني: ذلك متمتعات أهل الدنيا، والذين يأكلون الدنيا ويتمتعون بها كما تأكل الأنعام، وتتمتع بها فالنار مثوى لهم، ولخواص الله المقبولين عنده بقبول العناية، المجذوبين لديه عن شهوات نفوسهم، والطبائع الحيوانية بجذبات الهداية الربانية عنده حسن المآب، لدوام ابتهاجهم بنور الحق ومشاهدة صفات جماله وجلاله، ومن وكل إلى محبة الله وكان في الأزل أهلا لها فما وكل إلى محبة النفس وهواها، بل جذبته العناية الأزلية، ونظمته في سلك الكناية المذكورة في بشارة " يحبهم ويحبونه " فإنما لا تتعلق بغير الله، لأنها من عالم الوحدة فلا تقبل الشركة، كما قال الله تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة:165].
ومما وقع في الفرس تفطنا لهذا المعنى حيث قيل:
بلى سلطان معشوقان غيوراست
زشركت ملك معشوقيش دوراست
نمى خواهد زانجام وز آغاز
در اين منصب كسى را باخودانباز
وذلك لأن أولياء الشيطان أحبوا الأنداد بمحبة فانية نفسانية، وأحباء الله أحبوه بمحبة باقية ربانية، كما قيل شعرا:
قد طال إلى لقائكم أشواقي
والهجر وما أراق من آماقي
لو قطعني الفراق إربا إربا
في المهجة حبكم كما هو باق
بل أحبوه بجميع أجزائهم الفانية والباقية كما قيل:
الشوق أكثر أن يختص جارحة
كلي إليك على الحالات مشتاق
ولهذا احترزوا عن محبة غير الله، إذ لم يبق فيهم موضع محبة الغير، كيف ومحبتهم تمنع عن محبة الله، وهو الحبيب الأول، وإنهم العدو، فمن أحب الله يرى ما سواه بنظر العداوة، كما كان حال الخليل (عليه السلام)، فقال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء:77].
فكما أن لأرباب النفوس بغلبات الشهوات النفسانية حظوظ منبعثة من دركات الجحيم - من النساء، والبنين، والذهب، والفضة، والخيل، والأنعام، والحرث - على عدد أبوابها السبعة، ودركاتها التي كلها محفوفة بالشهوات كما قال (صلى الله عليه وآله):
" حفت النار بالشهوات "
لكل دركة شهوة، لها سبعة أبواب لكل باب جزء مقسوم، منهم يتلذذون بها عاجلا ويصلونها يوم الدين آجلا، كما قال:
وإن الفجار لفي جحيم
[الانفطار:14] - يعني الآن عاجلا -
يصلونها يوم الدين
[الانفطار:15] - يعني غدا آجلا -
وما هم عنها بغآئبين
[الانفطار:16]. فكذلك لأرباب القلوب بغلبات أوصافها الروحانية، وجذبات عناياتها الربانية، حظوظ من درجات الجنان ونعيمها، عاجلا ثم يدخلونها آجلا، كما قال سبحانه وتعالى:
إن الأبرار لفي نعيم
[الانفطار:13]. نعيم الآثار والأفعال، وأما نعيم الذات والصفات فأشار إليه بقوله:
والله عنده حسن المآب
[آل عمران:14]. وبقوله تعالى:
الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب
[الشورى:13].
المقالة التاسعة عشرة :
في قوله سبحانه: { أولئك أصحاب النار }
وفيه بصائر:
البصيرة الأولى
في اللفظ
إسم الإشارة فيه يحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت جميعا، فيكون زجرا للكل ووعيدا، لأن لفظ " أولئك " إذا كان جمعا وصح رجوعه إلى كلا المذكورين وجب رجوعه إليهما معا، لكن الأرجح عندي أن يكون راجعا إلى الكفار خاصة، ويكون المراد من أصحاب النار، أصحابها أصالة وجبلة - وهم النفس والشيطان والطاغوت - فيكون معنى الآية: أرواح الكفار مع أصحاب النار - بتقدير المضاف - هم فيها خالدون. أي: معهم فيها خالدون.
البصيرة الثانية
في المعنى
أيها الأرواح الساهية، الجاهلة، الكافرة، بأنعم الله، إنكم وإن لم تكونوا في أول الفطرة من جنس أصحاب النار المبعد عن دار القرار، لكن لما تشبهتم بهم " فمن تشبه بقوم فهو منهم " " من أحب قوما فهو منهم " فكونوا معهم خالدين في النار
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[النحل:33].
وفي هذا المقام تحقيقات نفيسة ذهل عنها الأكثرون، إلا من أيده اله بنور منه، ولا يمكنني أن أجود بذكرها مفصلا للراغبين، وأسمح بالكشف عنها للطالبين، لابتنائها على علوم جمة، ومقدمات كثيرة، بعضها برهانية وبعضها كشفية، يطول الكلام بذكرها، ويخرج به عن أسلوب التفسير على طور أهل الدقة من الجماهير، مع أن التعمق في الكشف عن الأسرار، غير ملائم لطبائع أصحاب الأنظار، لكن مع ذلك لا ينبغي الإهمال عنها بالكلية، بل لا بد أن أذكر إجمالا منه؛ لكونه مما يتوقف عليه معنى الآية على حسب ما اخترناه.
وأصل المسألة صيرورة أرواح الكفار ومن يحذو حذوها بكثرة الانكباب إلى اللذات من نوع ما يحبونه ويتشبهون به من الدواب والأنعام - بالحقيقة لا بالمجاز - بعدما كانوا من سنخ الإنسان في أول الأمر، فهم قد مسخوا قردة وخنازير باطنا وسرا، وإن كانوا في صورة الإنسان ظاهرا، وتلخيص بيانه على الوجه العقلي محافظا للقانون الحكمي حسب ما شرحناه وفصلناه في مسفوراتنا، هو مما أذكره الآن،فاستمع لما يتلى عليكم من البيان.
البصيرة الثالثة
في تمهيد ما أصلناه وإجمال ما فصلناه
إعلم أن صيرورة أرواح الكفار من أصحاب النار بعد ما لم يكونوا منها من جهة الفطرة الأصلية، يتوقف تحقيقها والعلم بها أولا على معرفة حقيقة النار والجنة، ثم على حقيقة أصحابها وأربابها، ثم على كيفية انقلاب النشأة الإنسانية من أصل فطرتها إما إلى فطرة الشياطين والسباع والبهائم، أو إلى فطرة الملائكة والحور والغلمان.
وهذه أصول لا تنكشف حقائقها لأحد إلا لخواص العرفاء من الأولياء، فلنذكر نبذا منها، وجملة من ماهيتها ومعرفتها على الكشف والتحقيق من علامات أولياء الله التي بها يمتازون عن غيرهم، فإن معرفة الملائكة، وكيفية إلهامها ومعرفة الشياطين وجنودها، وكيفية وسواسها من لطائف علومهم، ودقائق معارفهم التي لا خبر عند غيرهم إلا بنور متابعتهم، كما قال الله تعالى:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون
[الأعراف:201 - 202].
كمال أن من علاماتهم ودقيق علومهم، ولطيف أسرارهم التي يمتازون بها عن غيرهم، معرفة البعث، والنشر، والقيامة، والحشر، والحساب، والميزان والصراط والجواز، وذلك لأن أكثر علماء المذاهب وفقهائها، ومتكلميها المتعبدين فيها، متحيرون في معنى الإبليسية، وحقيقة إبليس المخاطب، وأكثر المتفلسفة منكرون قصته مع آدم وعداوته، وخطابه مع رب العالمين، ومواجهته إياه بخشونة الخطاب مما ذكر في القرآن.
البصيرة الرابعة
في معرفة الجنة والنار
إعلم أن لكل منهما صورة وحقيقة، فصورة النار كما وصفها الله تعالى بأوصاف متعددة من قوله:
الحطمة
[الهمزة:5].
الكبرى
[الأعلى:12]
نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى
[المعارج:16 - 18]. وقوله:
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغني من اللهب * إنها ترمي بشرر كالقصر
[المرسلات:30 - 32]. وبقوله:
هاوية * ومآ أدراك ما هيه * نار حامية
[القارعة:9 - 11]. وبقوله:
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة:6 - 7]. وصورة الجنة كما وصفها الله تعالى بقوله في عدة مواضع:
جنات تجري من تحتها الأنهار
[البقرة:25]
لهم فيها من كل الثمرات
[محمد:15].
أما حقيقة النار: فلا يمكنني تحديدها والتنصيص عليها بما يساوقها إلا على سبيل التقريب، فيشبه أن تكون حقيقتها هي البعد والنقصان، والقطيعة عن الرحمن ، لا المعنى المصدري، بل الجوهر الذي هو مشنأ البعد والطرد عن الله، فإن للوجود درجات متفاوتة، ودركات متسافلة، إحدى حاشيته في غاية الشرف والرفعة والجلالة - وهو الباري تعالى - والأخرى في غاية النزول، والخسة، والدنو، وبينهما درجات، ومنازل، ومصاعد، ومهاوي.
وحقيقة الجنة: هي القرب من الله ومجاورة الحق الأول، لا المعنى المصدري بل ما به يتقرب منه ويتجاور - على قياس ما أشرنا في معنى البعد عن رحمة الله - فمن هاهنا يعمل معنى " جهنم " بالذات وهي الهاوية - لكونها في غاية الهبوط والنزول، والبعد عن الله العلي العظيم - والنار - لكونها قطاعة نزاعة للشوى - والحطمة الكبرى- لكونها يحطم ويهلك ما يقع فيها؛ لوقوعها في حاشية العدم وليست بعدم محض؛ ليحصل بها الخلاص، وشأن ما يجاور العدم وليس بعدم ما أشار إليه تعالى بقوله:
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت
[إبراهيم:17]. وقوله:
ثم لا يموت فيها ولا يحيا
[الأعلى:13].
فإذا علمت معنى " الجحيم بالذات " علمت معنى الجحيم بالإضافة، والقلب الإنساني كأنه واقع بين طرفين - يمين وشمال - أو بمنزلة خط هندسي مشترك بين الضوء والظل، وطبقات جهنم السبعة المتفاوتة في ملاك المعنى المشترك، وكذلك قياس معنى الجنة بالذات والجنان المضافة ودرجاتها.
البصيرة الخامسة
في معرفة أصحابها
وإذا علمت معنى " جهنم " و " الجنان " وتفاوت مراتب كل منهما، بحسب الذاتية والعرضية، يمكنك أن تعرف أصحاب كل من طبقات النيران من أتباع الشيطان، وتعرف سكان كل من درجات الجنان من عباد الرحمن، بحسب الجوهر والذات، وتعلم أيضا أن كل ما يقرب الإنسان إلى الحق الأول، ويشبهه إلى الملائكة المقربين، فهو منشأ ثواب الله له، واستحقاقه رحمة الرحمن ودخول الجنان، وكل ما يقربه من عالم المواد السفلية، ويدخله إلى أبواب الدنيا الدنية، وطلب مشتهايتها الخسيسة وترفعاتها، ورياستها الباطلة الزائلة، فهو موجب مقت الله، وغضبه عليه، وسبب طرده، وبعده عن ملكوته الأعلى.
فأفضل خلق الله وأولاهم برحمته، ورضوانه، ومجاورته، وغفرانه، وأقربهم إليه مناسبة ومشابهة من لا حجاب بينه وبين الحق، وهم العقول القادسة المفارقة عن الأجسام بالكلية - ذاتا وفعلا والتفاتا - سواء كانوا بهذه المثابة في القدس بحسب أصل الفطرة - كضرب من ملائكة الله المقربين - أو بحسب الاكتساب العلمي والعملي - كضرب من الأنبياء والأولياء المطهرين، صلوات الله عليهم أجمعين، على تفاوت مراتبهم في قصر النظر إليه، وعدم الالتفات إلى غيره.
فأجلهم مرتبة، وأحبهم لله عشقا من لا التفات له إلى ذاته العارفة بالحق، المزينة بنور الله من حيث هي الذات، فضلا عن التفاته إلى غيرها، فإن الالتفات إلى غير الله - وإن كان هو من الذات العارفة - بون وهجران، وإيثار العرفان من جهة كونه عرفانا - وإن كان بالحق - بعد وحرمان، وقصر النظر والالتفات إلى المعروف به فقط دون غيره، وصال وجنة، ورضوان.
وبعد هذه المرتبة العشاق المشتاقين من أهل العرفان والإيمان، كملائكة الله العمالة المدبرة للأجسام، والنفوس الكاملة من الإنسان، أما العشق فلعرفانهم، وكمالهم، ومنزلتهم، وحالهم، وأما الشوق المستلزم لنار الحرمان وعذاب المفارقة، فلبقايا وجودهم، والتفاتهم إلى غير الله، وبقايا قصوراتهم الإمكانية المقتضية للتعلقات بالأجرام.
فهم لأجل عرفانهم وإيمانهم سكنوا درجات الجنان، واختلفوا في مراتب القرب من الرحمن بحسب مراتب عرفانهم قوة وضعفا، ولأجل قصور ذواتهم عن تمام روح الوصال تأذوا أنواع أذى، إلا أنهم حيث تنورت عقولهم بالمعرفة والإيمان، ولم تتكدر ذواتهم بالجهل والعصيان، ولم يحتجبوا بظلمة الظلم والطغيان، لم يكن لهم أذى أليم، بل أذاهم أذى لذيذ، لكونه من قبل معبودهم، وهم عارفون بأن الأذى من قبله، والعاشق إذا علم يقينا أن ما يناله من الأذى مما حصل من جهة (قبل - ن) معشوقه يفرح به، ويكون عين الأذى لذيذا عنده؛ لأنه يتصور وصول أثر المعشوق به إليه، و " وصول الأثر أثر الوصول " كما قيل.
وقد مثل بعض العرفاء هذا الأذى اللذيذ في العقليات بأذى الحكمة والدغدغة في الحسيات، والفرق بين القبيلين بعد كون أحدهما عقليا والآخر حسيا، كما ذكره بعض المحققين، أن الأذى واللذة في الدغدغة متباينان وجودا - وإن كان الحس لا يميز بينهما لتعاقبهما - وهاهنا هما متحدان وجودا.
فهاتان المرتبتان لأهل السعادة:
الأولى: منهما للمقربين الذين يقال لهم : " أهل الله ".
والثانية: لأصحاب اليمين الذين يقال لهم " أهل الفضل والثواب "
الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[البقرة:25]. للجنة راجين لها راضين بها
ووجدوا ما عملوا حاضرا
[الكهف:49]. من ثمرات أعمالهم ونياتهم على تفاوت درجاتهم
ولكل درجات مما عملوا
[الأنعام:132].
ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم، وصفاء قلوبهم. بحسب الفطرة الأصلية من غير أن يفظظها مباشرة الأمور الأرضية الجاسية، المتبوؤن درجات الجنان لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم بل على حسب استعداداتهم من فضل ربهم ورحمته، التي يكفي لها مجرد صفاء القابل، وعدم المنافي.
وبعد هاتين المرتبتين مرتبة نفوس مترددة بين جهتي الربوبية والسفلية، وهم الذين
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا
[التوبة:102] وهم قسمان:
أما المعفو عنهم رأسا: لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم - إما لقلة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم عنها -
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان:70].
وأما المعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا فنجوا، ويقال لهم أهل العدل والعفات (العقاب - ن)
والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا
[الزمر:51]. لكن الرحمة تتداركهم وتنالهم بالأخرة.
فهذه المراتب الثلاثة الكلية على حسب تفاوت درجات النفوس الواقعة في كل مرتبة منها لأصحاب الجنان على تفاوت مراتبهم في القرب من الرحمن، والبعد من الطاغوت والشيطان.
وأما أصحاب النار فهم ذو النفوس المنحوسة المغموسة في عالم الطبيعة التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة، ولا نجاة لقلوبها المطموسة، لكونها إما جرمانية الذات فطرة أو اكتسابا، أو جرمانية الصفات والمتعلقات بحسب مزاولة الأعمال الدنيويات.
البصيرة السادسة
في كيفية توزع الأرواح الإنسية إلى أصحاب الجحيم والدركات وأصحاب النعيم والدرجات بقول إجمالي
واعلم أن الإنسان مركب بحسب نشأة حدوثه، من عالمي الأمر والخلق، فله روح نوراني علوي من عالم الأمر - وهو الملكوت الأعلى - وله نفس ظلمانية سفلية من عالم الخلق. ولكل منهما نزاع وميل وشوق إلى عالمه. فقصد الروح، وميله، ورغبته، وشوقه أبدا إلى عالمه وهو جوار رب العالمين، وميل النفس وقصدها إلى عالمها وهو أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق.
فبعث الله النبي (صلى الله عليه وآله) بصفة الرحمة واللطف ليزكي النفوس عن ظلمة أوصافها، وسوء أخلاقها، ويحليها بحلية أنوار الأرواح، لتستحق بها جوار الحق وملكوته، وقربه في زمرة الأرواح المطهرة، فتزيكيتها وتقديسها بإخفاء ظلمات الأوصاف الحيوانية في إبداء أنوار أخلاق الروح في تحليتها بها، ليغلب نور الروح على ظملة النفس، ويقهرها، ويكتمها في كتم العدم والخفاء، فهذا مقام الأولياء مع الله { يخرجهم من الظلمات إلى النور }.
وبعث الشيطان بصفة العزة والكبرياء، والقهر إلى أوليائه - وهم أعداء الله - ليخرج أرواحهم من النور الروحاني إلى ظلمات الصفات النفسانية بإخفاء أنوار أخلاقها في إبداء ظلمات أخلاق النفس عليها، ليستحق بها دركة أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق.
فمنهم المطرودون الذين حق عليهم القول، وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي، المختوم على قلوبهم أزلا كما قال تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون
[الأعراف:179]. إلى قوله:
كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179] وقوله تعالى:
ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود:119].
وقد ورد في الحديث الرباني:
" خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي ".
ومنهم المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل، قابلين للنور بحسب الفطرة والنشأة، ولكن احتجبت قلوبهم بالرين، المستفاد من اكتساب الرذائل، وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيمية، والسبعية، ومزاولة المكائد الشيطانية، حتى رسخت الهيآت الغاسقة، والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم، فبقوا شاكين حيارى تائهين، قد حبطت أعمالهم وانتكست رؤوسهم، فهم أشد عذابا، وأسوأ حالا من الفريق الأول، لمنافاة مسكة استعدادهم، وقوة نفوسهم، لحالهم كما تقدم ذكره.
والفريقان هم أهل الجحيم والمتعلقون بالهيولى، أحدهما: أهل الحجاب والآخر: أهل العقاب.
وقد أشار سبحانه في أوائل القرآن إلى الفريق الأول بقوله:
إن الذين كفروا سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم
[البقرة:6 - 7]. وإلى الفريق الثاني بقوله:
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون
[البقرة:8 - 10].
فانطر كيف كشف الله عن حال هذين الفريقين من أصحاب النار، وبين وخامة عاقبة كل من الطائفتين في عاقبة الدار، وأثبت لكل منهما نوعا يخصه من الشر والوبال، وفساد ما يلزمه في الآخرة والمآل:
فالفريق الأول: لما كانوا من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي، لا ينجح فيهم النصح والإنذار، ولا سبيل إلى خلاصهم من النار
كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون
[يونس:33].
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار
[غافر:6].
سدت عليهم الطرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهام، فحجبوا عنه بختمه، والسمع والبصر هما المشعران للإنسان اللذان هما بابان للفهم والاعتبار، فحرموا عن جدواهما، لامتناع نفوذ المعنى فيها إلى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلوم الحقيقية الكشفية، والمعارف الربانية الذوقية، ولا في الظاهر إلى العلوم التعليمية والآداب الكسبية، فحبسوا في سجون الظلمات، وبقوا حيارى في أيدي الشهوات المتراكمات، الموجبة للدثور والممات، فما أعظم عذابهم وأغلظ جحابهم!.
وأما الفريق الثاني: من الأشقياء الذين سلب عنهم الإيمان مع ادعائهم له بقوله:
آمنا بالله
[البقرة:8]. وذلك لأن محل الإيمان هو القلب المصفى، والروح المجرد بالرياضة والمجاهدة، مع القوى المدركة والمحركة، وصرفها في الأفكار القدسية، والأنظار الحكمية، لا اللسان بفصاحة البيان، وعلوم العربية وغرائب النكت في محاسن الكلام، فإن الإيمان متعلق بعلم الحال لا بطلاقة اللسان في المقال
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14].
ومعنى قولهم " آمنا بالله وباليوم الآخر " ادعاء علم التوحيد وعلم المعاد، اللذين هما أصلان عظيمان من أصول الدين، وأساسان كبيران من معارف الحق واليقين، أي: لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق، ولا من أهل الكتاب المحجوبين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقا للحق.
وهؤلاء المنافقون قد غفلوا عن أن حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر، ليس مما يتعلق بالأقوال، بل هي مما أنعمه الله من الحكمة على من سد على نفسه باب وسوسة الشيطان، وأزال عن ضميره الشكوك والأوهام، ففتح على قلبه باب المعرفة والرحمة والرضوان، وأفاض الله عليه أنواع كرامته عاجلا وآجلا، فمن ذلك يفتح الله تبارك وتعالى بابا من خزائن حكمته، وهي مختصة بمشيئته لا بمشيئة الخلق ودواعيهم، وجمعهم أسبابها - من الكتب والأسانيد العالية من الأسانيد - فإنه تبارك وتعالى يؤتي الحمكة من يشاء.
وظن قوم من الفلاسفة وأرباب البحوث والأنظار، أن الحكمة تحصل بمجرد التكرار، أم هي من نتائج الأفكار، وما فرقوا بين المعقولات والحكميات الإلهيات، فالمعقولات مشتركة بين أهل الدين وأهل الكفر، وبين المقبول والمردود.
فالمعقول ما يحكمه العقل ببرهان عقلي، وهذا ميسر لكل عاقل بالدراية وبالقراءة والرواية، فمن صفى عقله من شوب الوهم والخيال يدرك المقعولات بالبرهان دراية، ومن لم يصف عقله عن هذه الآفات فهو يدرك المعقول قراءة بتفهم أستاذ مرشد.
فأما الحكمة الإلهية فليست من هذا القبيل، فإن العقول عن دركها بذواتها محتجبة، والبراهين العقلية والنقلية عنها محتبسة، فإنها مواهب الحق ترد على قلوب الأنبياء والأولياء عند تجلي صفات الأحدية، وفناء أوصاف الخلقية، فتكاشف الأسرار بحقائق معاني أورثتها تلك الأنوار، كما قال (صلى الله عليه وآله)
" أوتيت جوامع الكلم "
أي: الحكم، فأمارة صحتها معادلتها بحقائق القرآن، بل هي عينها كما قال (صلى الله عليه وآله):
" أوتيت القرآن وما يعدله "
أشار بهذا إلى الحكمة.
وقد فسر سهل بن عبد الله التستري " الحكمة " وقال في تأويلها: " هي السنة، فحقيقة الحكمة نور من أنوار صفات يؤيد الله به عقل من يشاء من عباده، فيكون له كما قال تعالى:
نور على نور يهدي الله لنوره من يشآء
[النور:35]. فمن أكرم بهذا النور فقد أعطي كل حبور وسرور، وأوتي جوامع الحكمة خيرا كثيرا، كما قال تعالى:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269].
فافهم واغتنم واجتهد أن تتيقظ به، لتكون من ذوي الألباب، لأنه قال:
وما يذكر إلا أولوا الألباب
[البقرة:269]. وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول باكتساب ظواهر المنقول، بل سعوا في طلب لبها بمتابعة الأنبياء (عليهم السلام). فأخرجوهم من ظلمات قشور العقول الإنسانية إلى نو لب المواهب الربانية، فيتحقق لهم أن
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40]. فانتبه يا مغرور المفتون بدار الغرور من مرقد الجهالة الحاصلة من الشغف والسرور بما عندك من القشور، فلا يغرنك بالله الغرور.
ولنعد إلى ما قصدناه، ونرجع إلى ما فارقناه من شرح الفريق الثاني من أهل العقاب، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، حسبما كشف الله فضائحهم في الآية الثانية المنقولة آنفا من الكتاب.
فاعلم أن الكفر هو الاحتجاب، والحجاب كما أشرنا إليه إما عن الحق كما للمشركين، وإما عن الدين كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق إليه ضرورة، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الله، فهؤلاء المنافقون المخادعون لله وللمؤمنين ادعوا رفع الحجابين، فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا كذلك.
ثم إن في الآية دقيقة وهي أن " المخادعة " لكونها صيغة مفاعلة: " استعمال الخدع من الجانبين " وهو إظهار الخير واستبطان الشر، ومخادعة الله مخادعة رسوله لقوله:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80] وقوله:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17]. ولأنه (صلى الله عليه وآله) " حبيب الله " وقد ورد في الحديث
" لا يزال العبد يتقرب إلى الله "
- إلى آخر الحديث -.
فخداع المنافقين لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة، وخدع الله والمؤمنين إياهم، مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم، بحقن الدماء، وحصن الأموال، وغير ذلك، وادخار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المعيشة لهم، وخزيهم في الدنيا لخسة حالهم وترددهم [إلى] أبواب السلاطين لطلب الاشتهار، وتحملهم المشاق في الأسفار، والتعب في الجمع والادخار، كل ذلك لافتضاحهم بإخبار الله تعالى وبالوحي، وجحودهم العلوم الربانية، والأسرار المعادية.
لكن الفرق بين الخداعين أن خداعهم لا ينجع إلا في أنفسهم بإهلاكها بموت الجهل وإيراثها الوبال والنكال، بازدياد الظلمة والحمق بالعناد والنفاق، واجتماع أسباب الهلاك والبعد عن الرحمة؛ لطلب الرئاسة والإخلاد في الأرض والركون إلى الشهوات.
وأما في نفس المؤمنين بالحق، فتوجب خداعهم إياهم زيادة في تنوير قلوبهم، وتصفية ضمائرهم لتخليتهم في العبادات، وتجردهم إلى طلب الحق بالطاعات، واشتغالهم بذكر الله في الخلوات، ومواصلة الأوراد على الدوام في الساعات، وعدم التفاتهم إلى ما سوى الله تعالى للمحاجات اللازمة. الاشتغال (للحاجات اللازمة للاشتغال - ن).
وخدع الله إياهم يؤثر فيهم أبلغ تأثير ويوبقهم أشد إيباقا لقوله تعالى:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
[آل عمران:54]. وهم من غاية تعمقهم في جهلهم وحمقهم، مائجون بذلك الأمر الظاهر؟ لمرض قلوبهم، وسكر نفوسهم، كما أشار إليه سبحانه في الآية المنقولة:
في قلوبهم مرض
[البقرة:10]. أي: شك ونفاق
فزادهم الله مرضا
[البقرة:10] آخر أي حقدا، وحسدا، وغلا، وعذابا، بإعلاء كلمة الدين نصرة الله (لنصرة الله - ن) للمؤمنين، وإذلاله للمنافقين، والرذائل كلها أمراض القلوب، لأنها أسباب ضعفها وآفاتها في أفعالها الخاصة، إلا أن الجهل أعظم الأمراض؛ لأنه مما يوجب الهلاك في العاقبة.
البصيرة السابعة
في توضيح القول بأن المنافقين أسوأ حالا وأشد عذابا من الكافرين، وإن كان هؤلاء أخس رتبة وأدون منزلة منهم
إعلم أن الجهل المركب لكونه صفة وجودية يصحبها العدم له نوع رتبة، وأما الجهل البسيط لكونه صفة عدمية منزلته منزلة الأعدام، والعدم شر محض بالذات والوجود الذي يصحب العدم شر بالعرض مشوب بالخير، فبالنظر إلى الواقع لا شر ولا خسة، أبلغ مما يكون الشيء عدما أو معدوما، وأما بالنسبة إلى من يتعذب ويتألم بالأمر المؤلم الوجودي ففقده عنه أولى من ثبوته له.
فشرارة المطرودين في الأزل، وإن كان أعظم - لكونهم أبعد من منبع الخير والجود، وأوغل في الشر والمصيبة، وأدخل في العدم، والخسة، والجهالة - إلا أنهم لا يحسون بما يؤلمهم، ولا يجدون شرية ما يوبقهم ويعذبهم، لعدم صفاء نفوسهم، وفعلية عقولهم كالعضو الميت، أو المفلوج والخدر بالنسبة إلى ما يجري إليه من القطع، والكي، وغيرها من الآلام.
وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل، وبقاء إداركهم واستدعائهم للكمال في هذه الدار، وتشوقهم إلى العلو والاستكبار، يجدون شدة الألم باكتساب الأمر المؤذي المؤلم، فلا جرم كان عذابهم مؤلما سببا عما اكتسبت قلوبهم من المرض العارض، المزمن، المؤلم، الذي هو الكذب بآيات الله، والجهل بالمعارف الربوبية، ولوازم الإيمان، والكفر بحقائق القرآن مع دعوى الكمال، بادعاء المعرفة بأسرار المبدإ المتعال، وتهييج الفتن، والعداوة، والبغضاء بين الناس، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة، وانهماكهم في اللذات، وملازمة أبواب السلاطين والحكام؛ لطلب الحطام والشهوات، واحتجابهم بالمنافع الجزئية، والمصالح البدنية، والملاذ الحسية عن المصالح الكلية واللذات العقلية، وحرمانهم عما يرد على قلوب السلاك، والواصلين من الحالات الكشفية الجنانية (الخيالية - ن)، والواردات الذوقية الملكوتية.
إلى غير ذلك من الأفعال والأعمال، التي هي من عادات علماء السوء، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، واكتفوا بقشور من العلوم الجزئية، التي وصلت إليهم بالنقل والرواية من أهل التكلم والخطاب، وقنعوا بصورة الأعمال من غير تفقد القلوب، وإصلاح النفوس عن الوسواس، وتتبع آثار أئمة الكشف والطهارة من أهل بيوت النبوة والولاية - صلوات الله عليهم أجميعين - ومتابعة قلوبهم وضمائرهم في طلب مرضاة الله، والاجتناب عن محارمه، والزهد عن هذه الدار ومنزل الأشرار؛ لطلب المنزلة عند الله، ومقربيه، وملكوته، ومجاوريه، في دار القرار، ومعدن الأخيار والأبرار.
وأشار سبحانه في الآيتين المنقولتين إلى ما ذكر من كون الكافرين أعظم عذابا، والمنافقين أشد ألما بوجه لطيف، حيث وصف عذاب الفرقة الأولى ب " العظمة " وعذاب الفرقة الثانية ب " الإيلام ".
وفي المقام إشارة أخرى وهي أن الفرقة الأولى لكونهم أشد احتجابا، وأعظم إبعادا عن الحق، فهم أشبه بأن يكونوا من جنس أصحاب النار، وأهل جهنم بحسب الفطرة الأصلية، بخلاف الفرقة الثانية فإن لهم جهة من القرب والمنزلة بحسب جوهر الاستعداد، ولكن ظلموا أنفسهم باكتساب الرذائل، والاعتياد بزخارف عالم الأضداد، فالنار للأولى كالمنزل والمأوى، وللثانية كالسجن والمحبس؛ للمحنة والبلوى.
وبالجملة فرق بين كون الشيء من أصحاب النار وكونه معذبا بها، وليس من ضرورة كون الشيء مصحوبا بالشيء المؤلم أن يكون متألما به، أو لا ترى أن الزبانية ليسوا معذبين بالنار مع كونهم فيها، وهم تسعة عشر قبيلة، من ملائكة العذاب الذين إذا قيل لهم:
خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه
[الحاقة:3]. ابتدروه سراعا ولم ينظروه، ولكل منهم أعوان وخدم من سدنة جهنم من دون أن يتعذبوا بها وفيها، بل فيها نعيم وبهجتهم، وبمباشرة ما أمرهم الله به حصلت سرورهم ولذتهم، لكون ذلك غايتهم وفائدتهم من تعذيب المجرمين، وأخذهم، وتصليتهم الجحيم، وسقيهم ماء الحميم، وشرب الهيم.
البصيرة الثامنة
في الشكف عن صيروة الروح الإنساني من أصحاب النار بعد أن لم يكن منها، بمزاولة أفعال الأشرار واكتساب ملكات الكفار والفجار، من الأعمال الشهوية والغضبية والشيطانية، التي هي من صفات البهائم والسباع والشياطين
قال الله تعالى:
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل
[المائدة:60]. وأشار بقوله:
وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت
[المائدة:60] إلى أنهم مسخوا عن الطفرة الأصلية، وانسخلوا وانقلبوا كل طائفة منهم إلى نوع ما غلبت فيها صفات ذلك النوع، حتى صارت حقيقتها حقيقة واحدة (حقيقته - ن) وصورة ماهيتها صورته.
وهذا معنى اللعن والطرد والغضب عند العرفاء، أي: صيرورة النوع الشريف نوعا خسيسا، ولهذا قال سبحانه:
أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل
[المائدة:60] أي: عن طريق الحق، لأن القردة والخنازير إنما كانت ضالة عن طريق طلب الحق لعدم الاستعداد، وأما هؤلاء الذين انسخلوا عن الفطرة فإنهم كانوا مستعدين (كأنهم - ن) لطلب الحق وسلوك سبيله، فهم شر مكانا كما قال:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون
[الأنفال:22]. وأضل سبيلا لإبطال الاستعداد للوصول، كما قال:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179].
وتحقيق هذا المقام: إن كل إنسان - بحسب الفطرة - روحه التي هي من عالم القدس، والخير، والرحمة قابل للسعادة الأبدية، وإنما ينسلخ عن هذه الفطرة بحسب أعمال قوى تخصه: قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة الوهم المنازعة للقوة العاقلة للروح مع كونها خادمة لها، خلقها الله تعالى لأن تستعملها الروح في طريق سفرها إلى الله تعالى؛ لتحصيل المراد للمعاد باستخدامها.
أما الشهوة فلجلب ما يتغذى به وينفعه لحفظ البدن، الذي بمنزلة المركب لسفرها.
وأما الغضب فلدفع ما يضاده، ويمانعه، ويقطع طريقها.
وأما الوهم فتلحصيل العلوم الضرورية، والحدود الوسطية التي يتوقف عليها كماله، وذلك الكمال معرفة نفسه التي هي أم الفضائل ومعرفة مبدئه الذي منه بدو وجوده، ومعرفة اليوم الآخر الذي غاية رجوعه، ومعرفة الملائكة والرسل صلوات الله عليهم، الذين هم وسائط جوده، ومعرفة كتب الله والأئمة الطاهرين المهديين - سلام الله عليهم أجمعين - العارفين بحقائق التنزيل، وأسرار التأويل (والأسرار - ن) التي هي واسطة كمال وجوده.
وقد أشار النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هذا المعنى بقوله:
" إني بتارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي ".
تحقيق كون معرفة الأئمة والقرآن داخلة في قوام الإيمان مقومة لحقيقة الإنسان مما حققناه في مقامه بوجه لا مرية فيه، ولا ريب يعتريه.
فالروح الإنساني متى كانت قواه الثلاث التي هي رؤساء جنوده الباطنية، وخدمه، وحشمه، مسخرة له منقادة، مقهورة، مطيعة. لأوامره ونواهيه، يكون حالته مستقيمة، وبصيرته سليمة من العمى، وسبيله مأمونة عن الغي والضلال، وعاقبته محفوظة عن الشر والوبال.
ومتى كانت هي مستولية عليه، والشهوات غالبة فيه، والوسواس مضلة إياه، والدنيا بزخارفها مزينة في نظره، مرغوبة لديه مؤثرة فيه مسترقة لرقبته، والأغلال في عقنه، والأوزار مثقلة بظهره، والسلاسل والتعلقات في أيديه وأرجله، كان أسيرا بيدها محكوما بحكمها، كل منها يجره في تيسير أسباب ما يستدعيه، والتبدير فيما يشتقاه ويشتهيه.
فالشهوة تجره في تحصيل الشهويات المستلذات، والغضب يستعمله في أفعال الانتقامات ودفع الخصومات، فصار الروح شيطانا مريدا بالفعل بعدما كان ملكا كريما بالقوة، يستعمل فكره وتمييزه الذين أعطاهما الله لتدبير الآخرة والسعي لمرضاته في استنباط وجوه الشر، ويتوصل بها إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، وإظهار الحقيقة في معرض البطلان، وتزويج الشر في موضع الخير.
وكل إنسان ففيه شوب من هذه الأصول الأربعة أي: الملكية والشيطنة والسبعية والبهيمية من جهة روحه ونفسه وشهوته وغضبه وكان المجموع في عالم الإنسان خنزير، وكلب، وشيطان، وحكيم، فالخنزير هو صورة الشهوة في أي مادة، ومقدار، ووضع، وشكل كانت، والكلب هو صورة الغضب في أي مادة كانت.
ونحن قد حققنا في مباحث الماهية لواحقها، أن حقيقة كل شيء هي صورته التي بها هو هو، والمادة إنما تحمل ماهيته إذا كانت ضعيفة الوجود في هذا العالم الأسفل الذي فيه دثور الأشياء، وعجزها، وضعف صورها؛ لأجل علوق المواد والظلمات، وبينا أيضا بالوجوه الكشفية والبرهانية أن للأشياء التي تكون في هذا العالم نشأة ثانية، ونحوا آخر من الوجود، وأن للصور النوعية عالما آخر تكون وجوداتها في ذلك العالم مستغنية القوام عن المواد العنصرية، بل قائمة بذواتها موجودة بوجود فاعلها ومنشئها ومبعثها لا بوجود قابلها وميلها ومغنيها (ومعينها - ن).
وذلك الوجود الأخروي على ضربين: لأن تلك الصور إما عقليات صرفة ومفارقات محضة مجردة عن المقدار والشكل، وإما صور مقداريات: فالأولى: لكونها نورانية محضة تدرك بالعقول الصافية وهي جنة المقربين. وأما الثانية: فلكونها تدرك بالحواس الأخروية الباطنية من السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس الأخرويات التي هي بواطن هذه الحواس الأوليات، لأنها باقية بعد الموت وهذه فانية، كما يدل عليه قوله تعالى:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22]. فبعضها نورانية - هي جنة السعداء من أصحاب اليمين - وبعضها ظلمانية - هي جهنم الأشيقاء من أصحاب الشمال -.
وجمهور الفلاسفة والمتكلمون وأكثر علماء المذاهب ذاهلون عن هذين العالمين، وفي الذهول عنهما ضرر عظيم بالإنسان، وفي الجهل بهما حجاب كثيف، وغطاء غليظ له عن كشف معارف الإيمان وحقائق القرآن.
هذا ولنرجع إلى ما كنا فيه من أن الإنسان قد اصطحبت في عالمه ونظام خلقته أربعة شوائب، ولذلك اجتمعت عليه أربعة أصناف من الأوصاف: السبعية، والبهيمية، والشيطانية، والملكية. فهو من حيث تسلط كل منها عليه يفعل أفعال نوع تكون تلك الصفة لازمة لذاته ناشئة عن حقيقته، إلى أن تغلب عليه إحدى هذه الصفات بأن يصير خلقا له، وملكه راسخة في نفسه صعبة الزوال، فيكون الإنسان في آخر الأمر ومنتهى العمر حكمه حكم ذلك النوع بل تنقلب حقيقته يوم الآخر إلى حقيقة ذلك، يكون صورته عند الحشر بعينها صورته كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
ونريد أن نبين ذلك، وندل على تحقيقه بطرق ثلاث من الحكمة البرهانية، والخطابية الظنية، وصنعة المجادلة الإلزامية، كما قال تعالى سبحانه:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن
[النحل:125]. ولنستدرج في البيان من الأدنى إلى الأعلى:
فالأول: ما تستحسنه الجماهير، وتقبله الأسماع من النقول الواردة في باب انقلاب صور الأشقياء وهيآتهم يوم الآخرة إلى ما يناسب أفعالهم ونياتهم من القرآن والحديث والأخبار:
أما القرآن: فكقوله تعالى:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179]. وليس المراد أنهم كذلك بحسب هذه النشأة، بل في النشأة الآخرة التي هي دار ظهور الأشياء على ما هي عليها
يوم تبلى السرآئر
[الطارق:9]. وقوله:
ناكسوا رءوسهم
[السجدة:12]. وقوله:
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهى إلى الأذقان فهم مقمحون
[يس:8]. وقوله:
أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم
[الملك:22].
ولا شك عند ذوي البصائر أن مجعولات الحق في الدار الآخرة من الأشكال والهيآت إنما هي أمور طبيعية لازمة ليست كصناعيات (بصناعيات - ن) يمكن زوالها وانفصالها، فيكون كالأعضاء في كونها طبيعية - لا كالألبسة القابلة للانخلاع والانفصال - وإذا كان كذلك فاختلاف الأبدان في هيأة وأعضاء وخلقة الأشكال دليل اختلاف النفوس في الحقائق.
وكقوله تعالى:
كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة
[المدثر:50 - 51] وقوله تعالى:
فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين
[البقرة:65] يعني بحسب النفس - مع بقاء البدن على صورته الظاهرة، وإلا يلزم التناسخ المستحيل - فهم صاروا لانحطاطهم عن العالم العلوي الإنساني إلى الأفق السفلي الحيواني قردة مشابهين للناس في الصورة، وليسوا بهم في النفس والعقل، خاسئين: أي بعيدين طريدين.
والمسخ في الحقيقة حق غير منكر في الدينا والآخرة، كما وردت به الآيات والأحاديث، وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) المسوخ، ثم عدهم، وبين أعمالهم، ومعاصيهم، وموجبات مسخهم، حاصلة: إن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث أزال استعداده الأصلي ويمكن (تمكن - ظ) في طباعه، وصار صورة ذاتية له - كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا - صارت طباعه طباع ذلك الحيوان، ونفسه نفسه، فاتصلت عند المفارقة ببدن يناسب صفته، فصارت صفته صورته كما سيتضح.
وقوله:
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم
[الإسراء:97] أي على صورة الحيوانات المنتكسة الرؤوس. وقوله تعالى:
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا
[فصلت:21] وقوله تعالى:
تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
[النور:24]. يعني أن صورة الكلب مثلا ولسانه - أي صورته الذي فعل لسانه - تشهد بعمله الذي هو الشر، وكذا غيره من الحيوانات الهالكة تشهد عليها أعضاؤها بأخلاقها الذميمة، وأفعالها السيئة.
وكقوله:
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون
[الجاثية:21]. ولفظ " الجعل " في كلام الله أكثر ما يستعمل في الذاتيات دون العوارض، مثل قوله:
خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور
[الأنعام:1]
وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت
[المائدة:60] وكقوله:
يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر
[القمر:48]. وقوله:
يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام
[الرحمن:41].
وفي هذه الآيات دلائل واضحات على أن المجرمين انقلبوا في صورهم إلى صور الحيوانات العجم المنتكسة الرؤوس، التي فيها علامات الاحتجاب بالجحيم، والانحباس في الظلمات عن لقاء الله ومعرفته، حيث لم يتحقق فيها علامات الانفتاح، وطلاقة الوجه، وانكشاف الجسد كما في المسجونين والمحبوسين بخلاف الإنسان، إذ فيه علامة أهل الجنة الذين هم جرد مرد مكلحون.
ثم إن من علامات أهل الجحيم التي توجد في أعجام الحيوانات عقد ثلاثة أيضا، دالة على احتجابها، وتقييدها بالقيود والأغلال:
إحداها: عقدة العمى في الأعين عن مشاهدة آيات الله في الآفاق والأنفس، وعن رؤية كتاب الله وقراءته.
وثانيتها: عقدة الصمم في الآذان عن استماع البيان والبرهان لكلامه.
وثالثتها: عقدة الانتكاس لنفوسها، والانقلاب لأبدانها المعلقة إلى أسفل.
ولهذه العقد الثلاث عقد ثلاث أخرى شاهدة عليها:
إحداها: عقدة اللسان بشهادة صمم الأذن، فإن الأصم الفطري أبكم لا محالة.
والثانية: عقدة اليدين، غلت أيديهم بما لعنوا، بشهادة عمى العين، فإن الأعمى الفطري لا يمكن أن يكتب.
والثالثة: عقدة الاستلقاء في البدن بشهادة الانتكاس في النفس.
فهذه الأمور الثلاثة شواهد على تلك، إذ من المقرر عند الجمهور أن اللسان خليفة الأذن، واليد الكاتبة خليفة العين، والبدن خليفة النفس، فانقلابه دليل انتكاسها وانسخلاها عن الفطرة، كما أن انحناء الغلاف دليل لانحناء السيف.
وأما الحديث:
فقد وري عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" يحشر الناس على وجوه مختلفة "
أي على صورة مناسبة لأخلاقهم، ونياتهم المختلفة.
وكقوله (صلى الله عليه وآله):
" كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون "
ولا خفاء في أن بعض الناس لا يعيشون إلا كالبهائم، وبعضهم كالسباع، وبعضهم كالشياطين، فيكونون يوم المحشر على صور أعمالهم ومعاصيهم.
وروي أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما معناه:
" إنه يحشر من خالف الإمام في أفعال الصلاة ورأسه رأس حمار "
فإنه إذا عاش في المخالفة مع الإمام - وهي عين البلاهة والحمارية - تمكنت ورسخت فيه هذه الصفة، ولتمكن البلادة والحماقة فيه يحشر على صورة الحمار.
وروي الشيخ الجليل عماد الإسلام محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله في كتاب الكافي. بسنده المتصل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال - في حدث طويل -:
" فإن كان [الله] وليا أتاه أطيب الناس ريحا وأحبهم منظرا وأحسنهم رياشا فقال: أبشر بروح وريحان وجنة ونعيم، ومقدمك خير مقدم. فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح ".
ثم قال (عليه السلام):
" وإذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح من خلق الله زيا وأنتنه ريحا، فيقول: أبشر بنزل من حميم وتصلية جحيم ".
وروي أيضا في الكافي في حديث آخر عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام)
" فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله ".
وهذان الحديثان عن أهل البيت (عليهم السلام) صريحان في تجسم (تجسيم - ن) العقائد والأعمال في النشأة الآخرة، والاعتقاد هو الأصل، ومنه يتمثل ويتصور ذات الشخص، والعمل هو الفرع ومنه يحصل القرناء (القرباء - ن) والأصحاب والحواشي (والحوامي - ن) والتوابع { إن خيرا فخير وإن شرا فشر }.
ومما يدل على ما ذكرناه ما وري أيضا في الكافي في باب إدخال السرور على المؤمن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال - في حديث طويل -: " إذا بعث الله المؤمن عن قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه، كلما رأى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن وابشر بالسرور والكرامة من الله تعالى. حتى يقف بين يدي الله فيحاسبه حسابا يسيرا ويأمر به إلى الجنة - والمثال أمامه - فيقول له المؤمن: يرحمك الله، نعم الخارج خرجت معي من قبري وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك. فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله منك لأبشرك ".
ومما ورد في روايات أصحابنا الإماميين رضوان الله عليهم أجمعين ما روي عن قيس بن عاصم، قال: وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي (صلى الله عليه وآله) فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدلهمس، فقلت: " يا نبي الله عظنا موعظة نتنفع بها فإنا قوم نسير في البرية ".
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" يا قيس إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة موتا وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء رقيبا، وعلى كل شيء حسيبا، وإن لكل أجل كتابا، وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحا، فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك ".
فقال: يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفتخر به على من بيننا من العرب وندخره. فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) من يأتيه بحسان، فاستبان لي القول قبل مجيء حسان، فقلت: " يا رسول الله قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد " فقلت:
تخير خليطا من فعالك إنما
قرين الفتى في القبر ما كان يفعل
فإن تك مشغولا بشيء فلا تكن
بغير الذي يرضى به الله تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته
ومن قبله إلا الذي كان يعمل
وفي هذا الحديث فوائد شريفة فوق ما نحن بصدده، من انقلاب الإنسان إلى ما يوافق اعتقاده، ويناسب أعماله أسرار علمية لطيفة، ومعارف إلهية، ورموز نوبية، لا يفي بكشفها وتوضحيها التعليم والبيان، بل لا يلوح تحقيقها إلا لأهل الله من جهة الكشف والعيان لا بطريق الحجة والبرهان.
ثم مما يدل على هذا المطلب من الأخبار المشهورة ما روي: " إن الناس تشحر على نياتهم " " وإن بعض الناس يحشر على صورة تحسن عندها القردة والخنازير " فعليك بالقتوى ثم بالتقوى.
وأما الطريقة الثانية:
فكما ذكره صاحب إحياء العلوم حيث قال: " إن خاصية الإنسان العلم والحكمة، وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله، فبه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الكمال والجلال، فالبدن مركب للنفس والنفس محل للعلم، والعلم هو المقصود من الإنسان وخاصيته التي لأجلها خلق [...] فإن الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور يوافقها، ويفارقها في أمور هي خاصيته، وتلك الخاصية من صفات الملاكئة المقربين.
والإنسان أولا على رتبة بين البهائم والملائكة [...] فمن يستعمل قواه في العلم والعمل فقد شبه بالملائكة فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكا وربانيا، كما قال تعالى:
إن هذآ إلا ملك كريم
[يوسف:31]. ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام، فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم، فيصير إما أكولا كثور، إما شرها كخنزير، وإما ضريا (جزعا - ن) ككلب، أو حقودا كجمل، أو متكبرا كنمر، أو ذا روغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله كشيطان.
وقال: " فهو من حيث أن الله سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع، من العداوة، والبغضاء، والتهجم على الناس بالضرب والشتم، ومن حيث سلط عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم، من الشره، والحرص، والشبق وغيره ومن حيث سلط عليه الروح وهو أمر رباني كما قال الله تعالى:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85]. فإنه يدعي الاستعلاء على الأشياء بالحكمة، والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز، والروية، واستعمال الحيل والتدابير الجزئية، حصلت فيه شيطانية يستعمل الجربزة في استنباط الشرور الحيوانية ويتوصل بها إلى الأغراض النفسانية فيتعاطى أفعال الشيطان.
ففي باطن الإنسان أمور أربعة: خنزير، وكلب، وشيطان، وحكيم. فالخنزير هو الشهوة، فإنه لم يكن الخنزير مذموما للونه وشكله وهيأته، بل لجشعه وكلبه وحرصه. والكلب هو الغضب، فإن السبع الضاري، والكلب العقور ليسا سبعا وكلبا باعتبار الهيئة واللون والشكل، بل باعتبار روح معنى السبعية والضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع [وغضبه]، وحرص الخنزير وشبقه.
فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر، والسبع بالغضب إلى البغي والظلم والإيذاء، والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير، وغيظ السبع يغري أحدهما بالآخر، ويحسن لهما ما هما مجبولان عليه.
والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان، ويقطع وسوسته ومغلطته بالبرهان، حتى ينكشف تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق، وبأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه - إذ بالغضب يكسر سورة الشهوة - ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه، ويجعل الكل مقهورا تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر، وظهر العدل في مملكة البدن، وجرى الكل على صراط مستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، لا يزال في استنباط الحيل، وتدقيق الفكر، ليشبع الخنزير ويرضي الكلب، فيكون دائما في عادة كلب أو خنزير.
وهذا حال أكثر الناس، وهم الذين كان أكثر همهم إما الفرج والبطن، أو مناقشة الأعداء، والعجب، والتكبر، ثم العجب منه أنه ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة، ولو كشف الغطاء [عنه وكوشف] بحقيقة حاله، ومثل له حقيقة حاله كما يمثل للمكاشفين، لرأى نفسه ماثلا بين يدي خنزير، ساجدا له مرة وراكعا له أخرى، ومنتظرا لإشارته وأمره، ومهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهوته انبعث على الفور في خدمته بإحضار شهوته، أو رأى نفسه ماثلا بين يدي كلب عقور، عابدا له، مطيعا لما يقتضيه ويلتمسه، مدققا بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته، وهو بذلك ساع في خدمة شيطانه، فإنه الذي يهيج الخنزير، ويثير الكلب، ويبعثهما على استخدامه، فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعابدتهما.
فليراقب كل عبد حركاته وسكناته، ونطقه، وقيامه وقعوده، ولينظر بعين البصيرة فلا يرى إن أنصف نفسه إلا ساعيا طول النهار في عبادة هؤلاء، وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكا، والرب مربوبا، والسيد عبدا، إذ العقل هو المستحق للسيادة، والقهر، والاستيلاء على هذه الأشياء، وقد سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة، فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طبعا (طابعا - ن) ورينا مهلكا للقلب ومميتا له [...] ولا يزال تتراكم عليه الصفات السبعية، والبهيمية، والشيطانية مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم، ويصير بالكلية محجوبا عن الله، وهو الطبع والرين المذكور في قوله تعالى:
بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14]. وقوله:
ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون
[الأعراف:100]. انتهى.
ويظهر من هذا الكلام - الصحيح المقدمات - أن الإنسان إذا غلبت على ذاته الصفات السبعية، والبهيمية والشيطانية - بعضها أو كلها - ويصير بحيث لم تبق فيها آثار الملكية (الملائكة - ن) من العلم الإلهي، والزهد عن الدنيا، والورع عن محارم الله، أو يوجد فيه بعض آثارها، ولكن تكون مقهورة مغلوبة لغاية العلة والضعف مع عدم المعرفة - كبعض الأفعال الحسنة الصادرة عن بعض الأشقياء اتفاقا أو رياء لا من جهة ملكة الإيمان والعرفان - فهذا الشخص الإنساني لا محالة لا يكون بحسب الحقيقة في القيامة إلا بهيمة، أو سبعا، أو حيوانا مركبا منهما، أو شيطانا محضا، إذ الآثار وجوه (عنوان - ن) المؤثرات، والأفعال عنوانات الفواعل.
وقد ثبت في العلوم الحقيقة أن القوى تعرف بأفاعيلها، أو لا ترى أن المنطقيين جعلوا لوازم الفصول، والأجناس، بمنزلة الفصول والأجناس في حدود الأشياء وجعلوا " الحساس " فصل " الحيوان " و " الناطق " فصل " الإنسان " في تحديدهما، مع أن حقيقة الفصل في الحيوانات ليس إلا جوهر نفسه - كما صرح به صاحب الشفاء -.
فإذا صار الإنسان بحيث استحكمت في نفسه صافت الهبائم والسباع، وصارت هذه الذمائم خلقا له وملكة لها، وبطل الاستعداد الذي كان أولا في نفسه؟ لتحصيل الكمالات العلمية والعملية قبل استحكام الدواعي البهيمية والسبعية، وطبعت على قلبه الهيآت المظلمات، والملكات المسودات، فمن أين وأنى يبقى له أثر من آثار الروح المجرد الذي شأنه العرفان بالله، وملكوته، والتقدس عن البدن وناسوته؟ إذ الإنسان إنسان بروحه المقدسة، وبحصة ملكيته التي فيه بالقوة، لا ببدنه الظلماني ونفسه الحيوانية، وإنه بتقوية جانب الروح وإمدادها بالعلم والعمل يكون مرتفعا عن أفق الحيوانات الهالكة، ويصير من جملة الملائكة المكرمة بالفعل بعدما كان بحسب الفطرة ملكا بالقوة، وبإهمال جانب الروح وتقوية القوى الحيوانية، يبطل استعداده الملكي (الملكية - ن) الذي به قوام الإنسان من حيث هو إنسان.
فإذا بطل هذا الاستعداد فقد هلكت إنسانيته، ولكن لا ينعدم بالمرة، فيخلص من العذاب الهون، لقيام البراهين الشرعية والعقلية على بقاء سنخ الإنسان في النشأة الثانية، بل يبقى بقاء لا موت فيه ولا حياة ولا خلاص معه، ولا نجاة، إذ ليست حياته المعرفة والقدرة، بل حياته الانفعال والغصة، والعذاب والنكال فيبقى أسيرا في كرب السعير، محترقا بنار الشهوات، ملسوعا بلسع الحيات
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
[النساء:65].
وفي هذه الآية أيضا دلالة على أن نفوس الفجار انقلبت إلى الحيوانات في تلك الدار، إذ لو بقيت معهم الروح الإنسانية التي هي محل معرفة الله لم يتطرق إليهم الفساد والاضمحلال مرة بعد مرة، لنهوض. القواطع على أن محل المعرفة جوهر قائم بذاته، ووجوده العقلاني (العقل - ن) يكون بالفعل أبدا مخلدا، من غير تغير وزوال، وتجدد وانتقال فافهم.
وأما المنهج الحكمي البرهاني الكاشف عن الرموز النبوية، والحقائق القرآنية، ومسلك العقل الفوقاني الشارح لأسرار العقل القرآني:
فاعلم (يعلم - ن) أن النوع البشري في أول نشأته يكون جوهرا نفسانيا سماه الحكماء ب " العقل الهيولاني " وهو الجوهر الذي به تمام الماهية الإنسانية بحسب أول درجاتها في الإنسانية - وهو أول منزل من منازل سفره إلى الحق - وهذا الجوهر من شأنه أن يقبل كل صورة، وحال، وحلية، وكمال، فإن عسر عليه شيء فإما لأن ذلك الشيء في نفسه ضعيف الوجود شبيه بالعدم - كالخلاء، واللانهاية، واليهولى، والزمان، والحركة - وإما لأنه شديد الوجود، وقوي الظهور فيغلب عليه ويقهره.
وهذا الجوهر صورة تمامية لمواد هذا العالم، بمعنى أن الطبيعة بقوتها القابلة الجسمانية، وصلت إلى هذه الصورة الإنسانية بعد طي مراتب الصور الطبيعية، التي كانت دونها في هذا العالم، من صور العناصر، والمعادن، والنباتات، والحيوانات.
وقد ثبت في العلوم البرهانية أن الطبيعة في المركبات وفي سلسلة العائدات، التي هي من الهيولى التي (المادة - ن) للعنصريات إلى أشرف ما يتصور من الصور التي في أنواع الأجسام ما لم تتخط (لم تنحط - لم تحفظ - ن) النوع الأخس بشرائطه ولوازمه لم تدخل في النوع الأشرف، فما لم تستوف درجات الجماد والنبات والحيوان، لم تنته نوبة الوجود إلى نوع الإنسان بحسب أول درجته.
فالنفس الإنسانية هي كمال هذا العالم وزينته وتمامه وغايته، ولها وجهان يكونان باعتبارها قوتان:
إحداها: وجهها إلى هذا العالم، به تدبر البدن وتحركه وتباشر الأفاعيل الحيوانية المختصة بهذه الدنيا، يقال لها " القوة العملية " " العقل العملي ".
وثانيها: وجهها إلى العالم الأعلى، به تنفعل عن المبادئ، وتعقل العلوم والمعارف، وتترقى إلى الكمالات الأخروية، من المحبة الإلهية، والاشتياق إلى لقاء الله وابتغاء مرضاته.
فهي بحسب القوة العملية أمر بالفعل، وصورة في البدن العنصري، وغاية لانقلابات العنصريات والاستحالات الطبيعية، فكانت أولا قوة هيولانية، ثم ترابا، ثم ماء مهينا، ثم علقة، ثم مضغة، ثم بدنا ذا عظام ولحوم وأمشاج، ثم حيوانا سميعا بصيرا، إلى أن تبلغ جوهرا من شأنه قبول معرفة (القبول لمعرفة - ن) الله تعالى وطاعته، إما شاكرا وإما كفورا، كما قال تعالى:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا
[الإنسان:1]. الآية.
وبحسب القوة العلمية النظرية أمر بالقوة، ومادة ساذجة صرفة عن الصورة، ولوح غير منقوش، ومرآة مجلوة ليس فيها شيء من الصور والكمالات التي لا تشاهد بهذه الحواس، ولا ترى بهذا العين من العلوم والأخلاق، سواء كانت علوما حقة وأخلاقا حسنة أو كنت ملكات باطلة زائلة (رذيلة - ن).
فإن قلت: كيف يتصور وجود مادة لا صورة لها، وقوة محضة لا فعلية، ولا قوام لها؟ إذ كل موجود له صورة مقومة؟ وثبت أيضا في التعاليم " إن تجرد الهيولى من الصورة مستحيل "؟
قلنا: قد أشرنا إلى أن الجوهر بحسب هذه النشأة صورة محضة، وبحسب النشأة الأخروية مادة محضة، والمستحيل إنما هو وجود الهيولى المحضة التي ليست لها صبورة بوجه من الوجوه وبحسب نشأة من النشآت.
فإن قلت: إن الحكماء أقاموا البراهين على أن البسيط الخارجي لا يمكن أن يكون فعلا وقوة معا لعدم اختلاف الجهتين الخارجيتين، وبه أثبتوا التركيب في الجسم - بما هو جسم - من مادة وصورة، فأثبتوا مادة سوى الجسم، هي أبسط منه، ويتقوم منها ومن الجزء الصوري والجسم المطلق.
قلنا: ذلك مسلم في وجود واحد ونشأة واحدة، وأما كون شيء واحد صورة في عالم أدنى ومادة في عالم أعلى فهو غير مستنكر، وخصوصا إذا كان لتلك الصورة شوب قوة ما لأجل تعلقها بالمادة البدنية، بل نفس كونها صورة جسمانية يسلتزم، نقصا، وقصورا، وضعفا، وإمكانا يستدعي غاية وتمامية وصورة وتحت ذلك سر.
فإذا تحقق ما ذكرنا نقول: كل مادة - سواء كانت جمسانية أو روحانية - فإنما تصير محصلة موجودة بالفعل بصورة تحصلها وتقومها.
فإن كانت مادة جسمانية من مواد هذا العالم قابلة للصورة الحسية، فهي إنما تتقوم بصور محسوسة هي كمالها الأول وما يتبعها هو الكمال الثاني كالصور العنصرية وما يتبعها من الكيفيات، وكالنفس الحيوانية وما يتبعها من الشهوة، والغضب، والرجاء، والخوف، واللذة، والألم، وغيرها.
وإن كانت مادة روحانية فهي إنما تتقوم وتستكمل بالصورة الروحانية والأخلاق (الاخلاقات - ن) والملكات، وهي إما صورة عقلية، لمعلومات مفارقة الذوات عن الأجسام وجودا وتأثيرا كالإله وضرب من الملائكة المقربين - وأخلاق مناسبة لها - كالعبودية التامة، والزهد الحقيقي، والفناء، والهيمان، والعشق الروحاني، والمحبة الإلهية وإما هي صورة خيالية، وهي إما حكاية عن العقليات المحضة، أو مأخوذة عن الأمور الجسمانية متعلقة بالمعلومات الجزئية، والصور الحسية فالأولى كما للعرفاء، والثانية كما للصلحاء، والثالثة كما للعوام.
فإذا كانت النفس الإنسانية في أول تكونها هيولانية الذات بالقياس إلى الصورة الغير المحسوسة، التي لا تشاهد بالحواس فما لم تصر مصورة بقوة مقومة إياها لم تتحصل نوعا يمكن بقاؤه في عالم آخر غير هذا العالم المحسوس بإحدى الحواس الظاهرة، لكونه من عالم الشهادة وعالم الغيب لا يطالع بهذه المشاعر بل بمشاعر أخروية غير دائرة.
ثم إن تلبس المادة بقوتها الاستعدادية لكل صورة ناقصة يمنعها عن التلبس بالصورة الكاملة كما نشاهد في مواد هذا العالم كالقوى الهيولانية الإنسانية: كانت أولا مصورة بالصورة المنوية، ثم انقلبت عنها إلى النباتية، ثم إلى الحيوانية، ثم إلى الصورة الإنسانية التي هي مرتبة العقل (مرتبة العقل الهيولاني - ظ) وهي نهاية الجمسانيات في الشرف والكمال وبداية الروحانيات، القابلة للعقل الفعال، فهو مجمع البحرين، وطراز العالمين، وحد جامع، وبرزخ حاضر بين بحري الجسمانيات والروحانيات، ويسمى ب " القلب " لهذا، لكونه ذو وجهين، وتقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن.
فإن نظرت إلى ذات النفس وفعليتها في هذا العالم وجدتها مبدأ القوى الجسمانية، ومستخدم الآلات الإحساسية والتحريكية، وتكون سائر الصور الطبيعية الحيوانية، والنباتية، والجمادية، من آثارها ولوازمها، فهي صورة الصور وغاية الغايات، وثمرة شجرة عالم العنصريات، بل الجسمانيات في عالم الشهادة.
وإذا نظرت إليها بحسب نسبتها إلى الوجود الروحاني وجدتها قوة محضة وفاقة صرفة، لا رتبة لها عند سكان عالم الغيب، وعالم الآخرة، نسبتها إلى الصورة الأخروية نسبة البذر إلى الثمار، والنطفة إلى الحيوان، فإن البذر بذر بالفعل ثمرة بالقوة، والنطفة نطفة بالفعل، حيوان بالقوة، والبذر ليس ثمرة، والنطفة ليست حيوانا إلا بضرب من المجاز، فالعقل الهيولاني لا وجود له في عالم الآخرة ما لم يحصل له جهة فعلية روحانية، ولهذا ذهب بعض الحكماء إلى بطلان النفوس الخيالية عن العلوم بعد بوار البدن وخراب الدنيا.
فحال البصيرة بالإنسانية كحال البصر، ومنزلتها بالقياس إلى ما يفيد وجودها بالفعل وإلى ما به يحصل (يحصل العالم - ن) بالفعل - بعد أن كانت بالقوة - منزلة الباصرة بالقياس إلى جوهر الشمس، والنور الذي يفيده وتصير مبصرة بالفعل، ومدركاتها من الألوان مرئية بالفعل بعد أن كانت هي رائية بالقوة.
إذ كما أن البصر ليس في ذاته كفاية في أن يصير مبصرا بالفعل، ولا في ذوات الألوان (الأنوار - ن) كفاية في أن تصير مرئية بالفعل، بل الشمس تعطي البصر ضوءا، وتعطي الألوان ضوءا بذلك الضوء صارت هي مبصرة بالفعل، والألوان مبصرة بالفعل، فكذلك إشراق الروح القدسي المسمى عند الحكماء ب " العقل الفعال " وعند أئمة الفرس ب " روان بخش " تفيد العقل الهيولاني، والصورة الهيولانية المخزونة في الخيال نورا روحانيا، منزلته من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر، وبه يعقل الأشياء التي كانت معقولة بالقوة.
واعلم أن القوة في باب العاقلية والمعقولية - كسائر الأشياء التي تكون بالقوة - قد تكون بعيدة وقد تكون قريبة، فالبعيدة في العاقلية كما في العقل الهيولاني الذي هو جوهر متعلق بالمادة المحسوسة، وفي المعقولية كما في الصور النوعية المادية التي من شأنها أن تصير معقولة للإنسان، وأما القريبة فعندما يحدث فيه عن رسوم المحسوسات التي حفظتها في القوة المتخيلة مقعولات أول، اشترك في نيلها جميع الناس لحصول بعضها بلا تجربة، وقياس، واستقراء، أو بتجربة (وتجربة - ن) سهلة الحصول - كقولنا كل أرض ثقيلة - فحصول هذه المدركات الأولية له يجلعه عقلا بالملكية يوجب لها استعدادا قريبا؛ لصيرورته عقلا بالفعل، ولصيرورة الصور المادية معقولة له بالفعل.
فحصول الأوليات كمال أول لما بالقوة، تؤدي إلى كمال ثان هو نور من أنوار الله يقذف في قلب المؤمن المجاهد في سبيل الله مع أعداء الله من القوى الجسمية والدواعي الظلمانية، وخصوصا القوة الوهمية التي تمانع الإنسان في كثير من أركان الإيمان، فلا بد له من مدافعتها بالقوة البرهانية، لتصير مسلمة بيده العاقلة بتأييد الرحمن.
فهذا النور هو الخير الحقيقي والسعادة الحقيقة، وبه يصير الإنسان حيا بالفعل بحياة ذاتية غير محتاج في قوامه إلى المادة (مادة - ن) وذلك لصيرورته في جملة الأشياء البريئة عن المواد والاستعدادات باقيا أبد الآبدين.
وهذا النور العقلي إنما يحصل للنفس الإنسانية بوسيلة أفعال وأعمال يقربها إلى عالم القدس، بعضها من باب الحركات الفكرية والأعمال الذهنية من الأنظار الدقيقة، والنيات الخالصة تقربا إلى الله، وبعضها من باب الطاعات والأذكار مع هيأة خضوع وخشوع، وبعضها من باب التروك كالصيام والصمت وترك الدنيا، والعزلة عن الناس، وجميع هذه الأمور يناسب الأمر القدسي، المنبعث بسبب تكرر الإدراكات العقلية؛ الموجب لحصول العقل بالفعل، الذي يقال له " العقل البسيط " وهو أمر جوهري نسبته إلى المعقولات المفصلة نسبة الكيمياء إلى الدنانير.
وكذا الحال في تحصيل مبدإ طباعي بالقياس إلى الآثار الصادرة منه، أما ترى الحديد الحامي كيف تحصل له من تكرر التسخنات بالنفاخات صورة نارية، وقوة مسخنة تفعل التسخين لذاتها ويشابه فعلها فعل الصورة النارية، فلا تتعجب من نفس حصل فيها لكثرة التشبهات بالمبادئ الإلهية، وتكرر صدور الأفاعيل الرواحنية منها نور قدسي، وصورة عقلية تعقل المعقولات، كما يحصل في الحديد المذاب قوة نارية تفعل فعل النار، لكثرة مجاورته وعكوفة على باب النار.
وهكذا حال النفوس المتألهة في عكوفهم على باب الله ومواظبتهم على أفعال تشبه أفعال الله من الشفقة، والعطوفة، والرحمة على خلق الله، ودعاء الخير على كل ذي روح، والترفع عن (على - ن) الجسمانيات، والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر من الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، كل ذلك تشبها به وتخلقا بأخلاقه، كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" تخلقوا بأخلاق الله "
حتى يحصل لهم بكثرة (التعلقات - ن) وتكرر المشاهدات مبدأ صوري في نفوسهم، وقوة عقلية مشرقة بنور الله هي مبدأ أنوار المعقولات، وفعال صور المعلومات.
وبالجملة كل جوهر له قوة واستعداد لحصول أشياء مختلفة، فبحسب كثرة الانفعالات حصلت له من نوع صفة يحصل فيه صورة جوهرية هي مبدأ تلك الصفة، أو لا ترى أن كثرة مجاورة النار وتكرر التسخينات توجب للحطب وغيره صورة نارية تفعل فعلها، وكذا كثرة مجاورة الأرض يجعل الشيء ترابا صرفا يفعل فعل التراب، وهذا مما لا شبهة فيه وخصوصا إذا كان الأمر المجاور " المشبه " ذا قوة استعدادية سهل القبول والأمر المجاور له " المشبه به " ذا صورة قوية التأثير كالحطب اليابس في مجاورة النار.
فإذا كان كذلك فلا شبهة في أن النفس الإنسانية في أول الفطرة قوة قابلة استعدادية بالقياس إلى كل صورة وصفة - وهذا أمر بين - ولهذا تتصور كل شيء - ولو بوجه ما - وتنفعل عن كل شيء، وذلك للطافتها وصفاء جوهرها وصقالة ذاتها ومن هاهنا يكتسب الإنسان الصنائع ويتخذ الملكات الصناعية كالكتابة والفلاحة والتجر وغيرها.
فإن كان ما يزاوله ويباشره من باب الأمور العقلية كالتعقلات والتصورات الروحانية، والأفعال القدسية، ويكون كثير المراجعة إلى الله تعالى بالتسبيحات، والتقديسات، والأوراد، والأذكار وسائر الأمور المقربة إليه، وكثير التفكر في أمر آخرته، وقيامه عند الحق، ومثوله بين يدي الله، وكثير التذكر للموت والساعة، وهكذا حاله مدة مديدة إلى أن تشتد فيه هذه الصفة - فيحصل في نفسه الجوهر الصوري والنور الإلهي، الذي ذكرنا أنه فعال للمعقولات النورية والصور الأخروية، الأفلاطونية، التي ذهب إلى وجودها أفلاطون ومن تقدمه من أشياخه الكرام، وأنكرها من تأخر من الحكماء الباحثين إلى يومنا هذا وقد من الله علينا بفضله وإحسانه بمكاشفة هذه المثل النورية وأثبتناها في أسفارنا الإلهية.
وإن لم يكن كذلك، ولم تبلغ نفسه إلى هذه المرتبة، فلا يخلو إما أن تكون كثيرة التأثير والانفعالات من اللذات الدنيوية، شديدة الاشتغال بالأفعال الشهوية والغضبية، من محبة المال والجاه، ومحبة الترفع على الناس، والتكبر والاستطالة على الخلق، والشهرة عند الناس، والركون إلى الدنيا، والإخلاد إلى الأرض وغير ذلك من الأفعال الحيوانية التي بعضها شهوية وبعضها غضبية.
فإن (فمن - ن) كان الغالب عليه مباشرة الأفعال الشهوية، توجب أن تحصل للقوة القابلة النفسانية صورة بهيمية مشتاقة إلى فعل الشهوات دائما، سواء كانت آلات الشهوات موجودة معها أو مفقودة بالموت.
وإن كان الغالب عليه مباشرة الأفعال الغضبية - من الانتقام والترفعات - تحصل للنفس صورة غضبية ظلامة نازعة إلى فعل الجفاء، والظلم، والجور، والعنف - سواء كانت قادرة على ذلك أم لا - وعلى كلا التقديرين لا يخلو إما أن يكون في نفسه شوق إلى العقليات، واستعداد نحو الكمال والخير - مع جحوده للحق وإنكاره للحكمة - أم لا.
فإن كان الأول فهو أشد عذابا وأعظم مصيبة وأدوم إيلاما، لوجود الهيآت المضادة للحق في نفسه، والفريقان جميعا من أهل النار وأصحاب الجحيم - كما مر ذكره غيره مرة - وذلك لاحتجابهم عن العالم الأعلى بمباشرة أهل النار، ومزاولة أفعال أصحاب الجحيم، واكتساب هيآتها السوأى آنا فآنا، فانقلبت نفوسهم، وانتكست رؤوسهم إلى أقفيتهم، وصارت نفوسهم صورا حيوانية بل أضل سبيلا من الأنعام، باكتساب الصفات (الصور - ن) الشيطانية، فصارت شياطين مردودين مطرودين عن أفق الملائكة المقدسين، فبقيت في غصة وعذاب، مغلولة مقيدة بسلاسل التعلقات، تلدغها عقارب الهيآت مادامت السماوات.
وكانت قد ناداها الحق فتغافلت، وأسمعها الرسول فتصاممت، وناصحها الأئمة (عليهم السلام) فعاندت وعزت من أمر ربها، فأطفأت نورها، فحل عليها غضب الحق، فهوت إلى درك الشقاء مهوى الأشقياء، فصاروا في ظلم الجحيم صم بكم عمي، وقيل فيها:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
[طه:124 - 126] ومن أعظم الألم
إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين:15]. وقد
ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14]. وأحاطت بهم خطيئاتهم
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54]. فهم
في الدرك الأسفل من النار
[النساء:145]. متقاعدون
وحيل بينهم وبين ما يشتهون
[سبأ:54].
وإن لم يكن شديد الانكباب على اللذات، كثير التعلق إلى الدنيا والتمني في حياتها الفانية إما لضعف القوى الأمارة الحيوانية، أو لسلامة النفس وقبول النصيحة، واستماع الآيات، وفهم الأخبار، والعمل بمقتضاها على حسب وسعه وحوصلة ذاته؛ لإدراك الأمثلة الإيمانية والخيرات المظنونة، فهؤلاء هم أهل الرحمة الباقون على فطرتهم، المتبوئون منازل الجنان، المستبشرون بالنعيم من الحور العين والكأس من ماء معين، والقصور المرتفعة، والغرف المستعلية، والفواكه والأطعمة اللذيذة، والأشربة الهنئية المريئة، وسقاهم ربهم شرابا طهورا، يلبسون فيها من سندس واستبرق وحلوا أساور من فضة، متكئين فهيا على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، على حسب ما تشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم، جزاء بما كانوا يعملون، ووفاء بما كانوا يسمعون، وقيل لهم في الدنيا فينتظرون.
فهذا أنموذج في بيان صيرورة الأرواح الإنسية إما من الملائكة المقربين والعباد الصالحين، وإما من البهائم والسباع والشياطين - بمزاولة أعمال كل من هذه الموجودات - أو من أهل السلامة القابلة للمغفرة والرحمة لبقائهم على الفطرة.
وجملة القول إن مراتب الموجودات الجوهرية بعد المبدإ الأول إما ملائكة مهيمة، أو ملائكة عقلية فعالة، أو جواهر روحانية، او نفوس ناطقة مدبرة، أو نفوس حيوانية بهيمية أو غضبية، أو نفوس شيطانية وهمانية، حصلت منها قبائل من الجنة الغيلان وغيرها، أو طبيعية جسمانية فلكية، أو عنصرية، أو مادة هيولانية، والقلب الإنساني المسمى ب " الناطقة " متوسطة بين الطرفين، الروح وما فوقها، والنفس الأمارة وما تحتها.
فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، فينجذب إلى أحد الطرفين بحسب شدة المناسبة إليه، وغلبة المحبة إياه، فإن كان الغالب عليه محبة الله، وأنبيائه، وأوليائه، وملكوته، والشوق إلى دار الآخرة " من كان لله كان الله له " فينجذب إلى عالم الملكوت انجذاب إبرة ضعيفة إلى مغناطيس غير متناهي القوة { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }.
وإن كان الغالب عليه محبة الباطل فنيجذب إلى الأسفل ويصير من أصحاب النار { والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[العنكبوت:40]. ذلك بما كسبت قلوبهم.
فالقلب الإنساني بمنزلة صراط ممدودة على متن جهنم
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض
[الشورى:52- 53]. وهوأدق من الشعر وأحد من السيف.
أما الدقة فلأن الانحراف والتوجه منه إلى أحد الطرفين - أعني في العرض - يوجب الهلاك، لأن أطرافه - غير جهة العلو - أشخاص الجحيم، من الأفاعي اللساعة، والعقارب اللداغة، والسباع الضواري، والكلاب العواقر، كلها تهيأت لابتلاع الإنسان، ولدغة، ولسعه،
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار
[هود:113].
وأما الحدة فلأن الوقوف عليه أيضا مما يقتضي الهلاك، ومن وقف عليه شقه، فأهل الجحيم لأجل انحرافهم عن الصراط المستقيم، وضلالهم عن الطريق القويم، يقعون في الحميم، وذلك لعدم التفاتهم إلى علم النفس وما فوقها، وتركهم تهذيب الباطن عن رذائل النفس وما تحبها، وبإهمالهم وتقويتهم معرفة النفس فاتت عنهم معرفة الرب، لأن " من عرف نفسه عرف ربه "
وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون
[المؤمنون:74].
توضيح وتأكيد
قد ظهر أن كل صفة وملكة تغلب على باطن الإنسان لأجل تكرار الأفاعيل الموجبة لحدوث الأخلاق والملكات تتصور في الآخرة بصورة تناسبها، ولا شك أن أفاعيل الأشقياء المردودين إنما هي بحسب هممهم القاصرة عن الارتقاء إلى عالم الملكوت، ومحبتهم المتعلقة بمراتب البرازخ الحيوانية، المقتضية للأعمال الشهوية، والغضبية، البهيمية، والسبعية، فلا جرم هممهم وتصوراتهم أغراض حيوانية تغلب على نفوسهم، فتحشر على صورة تلك الحيوانات، كما يدل عليه قوله تعالى:
وإذا الوحوش حشرت
[التكوير:5]. وربما تحشر بعض النفوس (الناس - ن) على صورة جامعة لفنون الرذائل الحيوانية، كما ورد أنه: " يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير ".
ومما يؤكد هذا الحكم أن أصحاب الكشف والشهود للطاقة قلوبهم، وذكاء باطنهم، وصفاء ذهنهم يتصور عندهم الأشقياء بصورهم الحقيقية الأخروية، ويعاينون لهم في صقع باطنهم على أشكال وهيئات تقتضيها صفات النفوس وهيئات الأرواح، وذلك لغلبة سلطان الآخرة، وظهورها على قلوب أهل الحق
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
[النمل:12].
حتى قال بعض المكاشفين إني أرى فلانا إذا تكلم مازالت تفور من فيه فوارة من الناس إلى أن يسكت، وذلك عند من كان مغتاظا يكون أكثر وأوفر.
وقال بعضهم في قوله تعالى:
ولا طعام إلا من غسلين
[الحاقة:36]. إني أراهم يأكلونه عيانا.
وقال العلامة الدواني: سمعت من أستاذي العالم العامل محيي الملة والدين محمد الأنصاري - نقلا عن بعض من لاقاه من الثقات -: أنه كان في بعض نواحي فارس بعض من الأولياء، فدخل عليه ذات يوم واحد من أهل الدنيا، وكان ذلك الوالي مستغرقا في حالته، فلما نظر عليه قال لخادمه: " أخرج هذا الحمار " ولم يكن يرى منه إلا صورة الحمار التي هي صورته في المواطن الأخروية، ثم بعد أن زال عن (عنه - ظ) هذا الحال أخبره الخادم بما جرى، فقال: " ما قلت إلا ما رأيت، ولم أكن واقفا على ما تقول " ومثل هذه الحكاية منقول عن كثير من المكاشفين.
المقالة العشرون:
في قوله تعالى: { هم فيها خالدون }
وفيه مناظر:
المنظر الأول
في فائدة لفظ " الخلود " هاهنا
إعلم أن بعض الممكورين بالعقل - من ضلال الملاحدة، وجهال الفلاسفة، والطباعية وغيرهم - لفظ غفلتهم وغلبة مغاليط ظنونهم قد ظنوا أن قبائح أعمالهم، وفضائح أفعالهم.
وأقوالهم، لا تؤثر في صفاء أرواحهم، وتغير أحوالهم، فإذا فارقت الأرواح الأجساد يرجع كل شيء إلى أصله، فالأجساد ترجع إلى العناصر، والأرواح ترجع إلى حظائر القدس، ولا يزاحمها شيء من نتائج الأعمال إلا أياما معدودة، كما حكى الله عنهم في قوله:
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة:80]. الآية وذلك بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية.
وهذا ظن فاسد، وكفر صريح من وساوس الشيطان، وهواجس النفس وليس بمعقول، لأن العاقل يشاهد حسا، وعقلا أن تتبع الشهوات الحيوانية واستيفاء اللذات النفسانية، يورث الأخلاق الذميمة، من الحرص، والحقد، والحسد، والبغض، والغضب، والبخل، والكبر، والكذب، وغير ذلك، وأن الذي ترتاض نفسه بالمجاهدات، وترك الشهوات، ونهي الهوى عن المألوفات، والمستلذات، ويمنعها من الأخلاق المذمومات، تورثه هذه المعاملات (الماقبلات - ن) مكارم الأخلاق، وصفاء القلب، ودقة النظر، وصدق الفراسة، وإصابة الرأي، ونور العقل، وعلو الهمة، وخلو السر عن محبة الباطل، وشوق الروح إلى درك الحق، وتحننه إلى وطنه الأصلي، وغير ذلك من المقامات العلية والأحوال السنية.
فالعاقل لا يشك في أن الروح المتبع للنفس الأمارة - كما يكون للعوام - لا يكون مساويا بعد المفارقة مع الروح المتبع لإلهامات الحق - كما يكون للخواص - كقوله تعالى:
أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم
[الملك:22].
وبعضهم قالوا: وإن تكدرت الأرواح بقبائح أعمال الأشباح (الاشياع - الاتباع - ن) وتدنست (ونزلت - ن) بقدر تعلقها بمحبوات طباعها فبعد المفارقة بقيت في العذاب أياما معدودات على قدر انقطاع التعلقات عنها وزوال الكدورات، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب.
وهذا أيضا وهم فاسد، وخيال كاسد، فكذبهم بقوله:
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة:81]. يعني من كسب سيئة يظهر بقدرها على مرآة قلبه رينا، فإن تاب محي عنه، وإن لم يتب ويصر على السيئات حتى أحاطت بمرآة قلبه رين سيئاته بحيث لا يبقى فيه صفاؤه الفطري، وخرج منه نور الإيمان، وضياء الطاعات، فأحبط أعماله الصالحات، وأحاطت به الخطيئات، فهو خالد في النار مؤبدا، يدل على هذا قوله:
بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14].
المنظر الثاني
في بيان أن منشأ الخلود في النار هو الكفر لا غير خلافا للمعتزلة القائلين بأن صاحب الكبيرة يخلد في النار
والتحقيق في هذا أن رؤساء أتباع الشيطان في خلقة الإنسان كما مر ثلاثة: القوة الوهمية: التي هي رئيس المدارك الجزئية الحسية، ينبعث منها الشوق إلى اللذات النفسانية، والقوة الشهوية: التي هي رئيس سائر القوى الخيالية للمقاصد الحيوانية، الصارفة للنفس عن طريق الآخرة والمطالب الأخروية، والقوة الغضبية: التي هي منشأ المؤذيات الضارة، ومبدأ الجناية، والجور، والقهر، والغلبة، على بني النوع والجنس.
وكل منها يدعو الإنسان بحسب طبعها وناريتها المكمونة فيها، فإذن هي كأنها نيرانات كائنة في أحجار كبريتية، وقودها المشتهيات من ملاذ الدنيا ونعيهما، واستعمال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ، ولهب لا يخمد، كأمواج بحر متلاطمة، أو كرياح عاصفة تدمر كل شيء.
أو لا ترى أن حرارة شهوة المأكولات عند الجوع كأنها لهيب نيران لا يطفأ، وحرارة شهوة المنكوحات عند هيجان الحركة كأنها حريق نار ترمي بشرر كالقصر، وحرارة نار الكبر والغضب كأنها تدعي الربوبية، وحرارة نار الافتخار والمباهاة كأنها أعلى موجود وأفضل معبود، والناس عبيد وخدم لها.
إلا أن منبع جميع هذه النيرانات، وكبريت هذه الشعلات هي " القوة الوهمية " التي هي مبدأ الغواية، والضلالة، والمغالطة، وسوء الظن، والداعي إلى الشر بكفره، وغلطه، وتغليطه، ووسوسته، فإن " الوهم " ما لم يروج الباطل في صورة الحق لم ينبض عرق الجاهلية والقباحة في شيء من القوى، فهو أول من قرع باب الكفر، والإنكار، والجحود، والعناد، والاستكبار، ثم عملت بوفقه القوى العمالة التي هي من توابعها، كما قال الله تعالى:
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار
[إبراهيم:28 - 29].
وإنما عظم الله تعالى أمر الأفعال القبيحة المنسوبة إلى المبدإ الإدراكي الوهمي ما لم يعظم في قبائح أفاعيل القوى الغضبية كالقتل، والشهوية كالزنا وأمثالهما، أو لا ترى أنه قد عظم أمر الإفك في الوعيد ما لم يغلظ في غيره، حيث قال:
إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه
[النور:11]. الآية فبالغ عليه بما لم يبالغ في باب الزنا (الريا - ن) وقتل النفس المحرمة، لأن عظم الرذيلة، وكره المعصية، إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها، فيتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية، والأنوار القدسية، وتوريطه في المهالك الهيولانية، والمهاوي الظلمانية، على حسب تفاوت مبادئها، فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ أو بالعكس، لأن الرذيلة مما يقابل الفضيلة، فكلما كانت الفضيلة أشرف كان ما يقابلها من الرذيلة أخس، والإفك رذيلة القوة الناطقة الوهمانية، والزنا رذيلة القوة الشهوية، والقتل رذيلة القوة الغضبية، فبحسب فضل الأولى على الباقين تزداد رداءة رذيلتها ودوام عقابها.
وذلك أن الإنسان إنما يكون إنسانا بالأولى وبها يكون ترقبه إلى العالم العلوي، وتوجهه إلى الجناب الإلهي، وتحصيله للمعارف والكمالات، واكتسابه للخيرات والسعادات، وإذا فسدت بغلبة الشيطان عليها واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة، ونزلت عن رتبة الأرواح إلى درجة الشيطان، حصلت الشقاوة ووجبت العقوبة بالنار الكبرى، وهو الرين والحجاب الكلي
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين:14 - 15].
ولهذا حكم على الكفار بالخلود في النار في قوله: { هم فيها خالدون } فبان دوام العذاب وخلود العقاب بفساد الاعتقاد، دون فساد الأعمال، فإن الصفات الناشئة من الأعمال وإن كانت نفسانية إلا أنها كالعوارض، والفساد في العارض للشيء يرجى زواله، بخلاف سوء الاعتقاد في الله، وحقائق الملكوت، وإنكار المعاد، وإنكار الأنبياء والأولياء، والجهل بأحوالهم وطريقهم إلى الحق، فإنه داخل في قوام الروح كما قررناه، والفساد في ذات الشيء وقوامه يوجب الهلاك، وموت الروح بالجهل لا ينافي بقاء النفس المنكوسة لأجل خلود العقاب كما هو التحقيق عند أرباب الحكمة الإيمانية.
فرذيلة الناطقة النفسانية الإنسانية توجب خلود العقاب، بخلاف رذيلة القوتين الباقيتين، كما قال الله تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء:48].
وذلك لأن رذيلة كل منهما إنما تصدر بظهورها على القوة النطقية، ثم ربما محيت بانقهارها وتسخرها لك عند سكون هيجانها، وفتور سلطانها، باستيلاء غلبة النور، وتسلطها عليها بالطبع، كحال النفس اللوامة عند التوبة والندامة.
وإن فرض أنها بقيت في الإصرار وترك الاستغفار، ولكن لا تبلغ رذيلتها مقام رذيلة الرواح الذي هو محل معرفة الله ومناجاة الرب، ولا تتجاوز حد الصدر، ولاتصير الفطرة بها محجوبة، والحقيقة منكوسة، بخلاف رذيلة الناطقة، ألا ترى أن الشيطنة المعنوية للأولى أبعد عن الحضرة الإلهية من السبعية والبهيمية بما لا يقدر قدره. فالإنسان برسوخ الرذيلة النطقية يصير شيطانا مريدا - والشيطان الذي هو إبليس إنما كان أبعد الخلق عن الله تعالى، وموضع اللعن هو إبليس ومظهر إسم " المضل " لأنه كان جبرائيل الأصل، فبالجهل المركب انقلب عن كونه ملكا كريما إلى كونه شيطانا لعينا - وبرسوخ الرذيلتين الأخريين يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع، وكل حيوان أرجى صلاحا وأقرب فلاحا من الشيطان، ولهذا قال تعالى
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم
[الشعراء:221 - 222]. وذلك لكونه أبعد عن قبول التغيرات والاستحالات، بخلاف الحيوان لكونه أقرب إلى أفق ما يتغير ويستحيل فينجوا عن العذاب.
فثبت مما ذكرنا أن ذنوب القوة النطقية ومعاصيها أعظم عند الله من ذنوب القوة الجسمانية، وأما عند جمهور الناس حيث يكون نظرهم مقصورا على الأمور المحسوسة فالأمر بعكس ذلك، ولهذا المعنى قال سبحانه في باب الإفك:
وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
[النور:15].
فعلم مما ذكرنا فاسد مذهب المعتزلة والزيدية القائلين بخلود صاحب الكبيرة مطلقا في النار، وقد أشرنا سابقا أن ضربا من الكبائر التي توجب للنفس رذيلة نطقية راسخة، وتكون نفس تلك المعصية كاشفة عن ذلك - كصدور بعض المعاصي من بعض الناس في بعض الأمكنة والأزمنة، مثل شيخ كبير السن في زمرة المنتسبين إلى العلم يباشر الملاهي والغناء عند جوار الروضات المقدسات - فمثل هذه المعصية وإن كانت من ذنوب القوى الحيوانية إلا أنها دالة على فساد الاعتقاد بحرمة الرسول وأولاده الأمجاد - عليهم عظائم التسليمات من الملك الجواد - فمنشأ الخلود في العقاب بالحقيقة ليس إلا رذيلة الناطقة كالكفر وما يوجبه.
المنظر الثالث
في تقرير الجواب عن حجة من يعتقد اشتراك أصحاب الكبائر مع الكفار في الخلود في النار كالمعتزلة وغيرهم
إعلم أن في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر - غير الكفر بالله، وآياته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر - إذا ماتوا قبل التوبة خلافا لأهل القبلة وبين علماء الإسلام:
فمنهم من قطع لوعيدهم إما مخلدا - وهو قول جمهور المعتزلة، والخوارج - وإما منقطعا - وهو قول البشر المريسي، والخالدي - ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.
والذي عليه أكثر المحققين، والصحابة، والتابعين، وأصحابنا الإمامية وأهل السنة القطع، لجواز العفو عنه تعالى، وبأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة، وأنه إذا عذب أحدا منهم فلا يعذبه أبدا، ولكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه، والبعض المعذب على التعيين.
أما المعتزلة كصاحب الكشاف وغيره فاستدلوا بأدلة سمعية كالعمومات الواردة في وعيد الفساق كقوله تعالى:
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة:81]. وقوله:
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
[النساء:14]. وقوله:
إن كتاب الفجار لفي سجين
[المطففين:7]. وقوله:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
[النساء:10].
ومن الحديث:
" من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة ".
و
" من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة ".
" الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ".
وعن أبي سعيد الخدري: قال (صلى الله عليه وآله):
" والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار "
وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا بقتلهم أولى.
وأجيب بالمنع من أن هذه صيغ العموم، بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها، نحو " كل من دخل داري فله كذا، وبعض من دخل " ولا يلزم تكريره ولا تناقض، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ " الكل " ولاحتمال المخصصات.
والقاطعون بنفي العذاب من الكبائر، احتجوا بقوله تعالى:
إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
[النحل:27].
يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
[الزمر:53].
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم
[الرعد:6].
لا يصلاهآ إلا الأشقى * الذي كذب وتولى
[الليل:15 -16]
وبالعمومات الواردة في الوعد مثل:
والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك
[البقرة:4] - الآية - حكم بالفلاح على كل من آمن.
وعورض بالعمومات.
وأما المحققون الذين قطعوا بالعقو في حق البعض، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء:48]. وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلا بد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل، لأن العفو عن الوعيد مستحسن عند العقل، والمعتزلة أيضا معترفون بأن العفو مستحسن عقلا إلا أن النقل لم يساعده - على زعمهم - فإهمال الوعد يكون بالضد فترجيح الوعيد يوجب ترجيح الجانب المرجوح.
وأيضا القرآن مملوء من نحو قوله: " غفورا، رحيما، كريما " وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر.
وأيضا إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات - وهو الإيمان - ولم يأت بما هو أقبح القبائح - وهو الكفر - فلا يهدمه ما سوى الكفر عن المعاصي، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي: " إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة، فتوحيد خمسين نسة كيف لا يهدم معصية سنة، إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي ".
فإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلا بد من التوفيق بينهما، فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب - وهو باطل بالإجماع - أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب.
المنظر الرابع
في تقرير الإشكال في خلود العذاب بالنار لأهل النكال من الكفار والجواب عن هذا السؤال حسب ما يتأتى لأحد من المقال
إعلم أن في تعذيب الله بعض عباده عذابا أبديا إشكالا عظيما، خصوصا عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، فإن الله خالق العباد وموجدهم ومبدئهم ومعيدهم، وشأن العلة الفاعلة الإفاضة والإيجاد على معلولها، إذ ليس المعلول إلا رشحة من رشحات جوده، ولمعة من لمعات وجوده، والتعذيب الأبدي منافي الإيجاد والعلية.
وأيضا فإن ذاته محض الرحمة والخير والنور، وكل ما يصدر عنه يجب أن يكون من باب، الجود، واللطف، والكرم، ووجود العاهات والشرور إنما يكون عنه بالعرض، وعلى سبيل الشذوذ والندور، ولأنه " سبقت رحمته غضبه " فإن الرحمة ذاتية، والغضب أمر عارض، والعرض الاتفاقي لا يكون دائميا كما حقق في مقامه.
قال العلامة القيصري في شرح الفصوص: " واعلم أن من اكتحلت عينه بنور الحق يعلم أن العالم بأسره عباد الله، ولي لهم وجود وصفة وفعل إلا بالله وحوله وقوته، وكلهم محتاجون إلى رحمته، وهو الرحمن الرحيم، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذب أحدا عذابا أبديا ".
فهذا تقرير الإشكال، ولصعوبته أنكر الشيخ محيي الدين بن عربي الخلود في العذاب من الله تعالى لأحد من العباد زاعما أنه ليس في شيء من الآيات نصا لا يقبل التأويل في خلود التعذيب بالنار، بل في خلود الكون فيها للكفار.
قال في الفص اليونسي من فصوص الحكم: " وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار، إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العذاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها، وهذا نعيمهم، فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله (عليه السلام ) حين ألقي في النار، فإنه (عليه السلام) تعذب برؤيتها وبما تعود في علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان، وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه، فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة النارية في حقه، وهي نار في عيون الناس، فالشيء الواحد قد يتنوع في عيون الناظرين ".
وغاية ما يتأتى لأحد أن يقول في التفصي عن هذا الأشكال: إن مراتب العذاب مختلفة بالإضافة إلى الآحاد، فرب عذاب يكون شديدا لأحد ضعيفا لغيره، ومراتب الشدة والضعف مختلفة باختلاف المشاعر والمدارك، كما تجد هذه التفرقة في الأشخاص المعذبين في هذه الدنيا، بل رب عذاب لأحد يكون راحة ولذة لآخر، كما ترى من اشتغال بعض الناس بأمور دنية، ومناصب خسيسة، يكون فيها غاية الأم والعذاب للنفوس الشريفة، ومع ذلك يفتخرون بها ويباهون على غيرهم.
كيف لا وجميع الشهوات واللذات الدنيوية عن أرباب المعارف الإلهية، تكون من قبيل الآلام والغموم، ويكون مباشرتها والتلذذ بها كمباشرة الكناسي والأتوني بالروث والسرقين وتلذذهم عن رائحتها، كما أن تنفر أكثر الناس عن العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية كنفر الجعل من روائح الورد.
ثم إن " العذاب " كما قد يراد منه المعنى المصدري - أي: التعذب - كذا يراد منه اسم ما يتعذب به كالنار مثلا، وهذا غير مستلزم لذاك، فالنصوص الواردة في الخلود في العذاب أيضا لو كانت مثل قوله تعالى:
لا يخفف عنهم العذاب
[البقرة:162]. يمكن أن يأول فيها " العذاب " بالمعنى الاسمي لا المصدري، وإن كان الثاني أظهر بحسب اللفظ.
ثم لا يذهب على أحد أن الكون في الجحيم غير مستلزم للعذاب الأليم، فإن الزبانية والسدنة من سكانها ليسوا معذبين بها كما مر ذكره آنفا، والقول بانتهاء مدة التعذيب للكفار، وإن كان باطلا عند جمهور الفقهاء والمتكلمين، وبدعة وضلالة - لادعائهم تحقق النصوص الجلية في خلود العذاب، ووقوع الإجماع من الأمة في هذا الباب - إلا أن كلا منها غير قطعي الدلالة بحيث تعارض الكشف الصريح، أو البرهان النير الصحيح.
أما النص: فما من لفظ إلا ويمكن حمله على معنى آخر غير ما هو الموضوع له بأحد الدلالات، وإن كان الأصل والمعتبر هو المعنى المطابقي، لكن الكلام هنا ليس في الأصل والترجيح، كما في الفروعات الظنية التي يكفي للعمل بها مجرد الأصل والرجحان، بل في اليقينيات التي لا ينجح فيها إلا العلم بالبرهان، والشهود بالعيان.
وأما الإجماع - وخصوصا بالمعنى الذي ذهب إليه أصحابنا رضوان الله عليهم أجمعين -: فليعلم أن إجماع علماء الظاهر في أمر يخالف مقتضى الكشف الصحيح، الموافق للكشف الصريح النبوي، والفتح الصحيح المصطفوي، - على الصادع به وآله أفضل الصلوات والتسليمات - لا يكون حجة عليهم، فلو خالف من له هذه المشاهدة والكشف إجماع من ليس له (له على - ن) ذلك لا يكون ملاما في المخالفة، ولا خارجا عن قانون الشريعة، لأخذه ذلك عن باطن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فيجب على الطالب الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، وأوليائه، واليوم الآخر، والجنة، والنار، والحساب، والثواب، والعقاب، وعلى أن كل ما أخبروا به فهو حق، وصدق لا شك فيه، ولا شبهة تعتريه، والعمل بمقتضى ما أمروا به، والانتهاء عما نهوا عنه على سبيل التقليد، لتنكشف له حقيقة الأمر، ويظهر له السر المصون في كل من المأمورات والمنهيات عن علم ويقين، بل عن الشهود والعيان لا بمجرد التقليد والإيمان، فيتفطن إلى أمور أعلى منها فيزيد في العبادة، كما كان يعبد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه قام الليل حتى تورمت قدماه، فقيل له في ذلك: " إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " فقال عليه وآله الصلاة والسلام:
" أفلا أكون عبدا شكورا ".
إعلم أن الفقهاء وإن كانوا عالمين بأحكام الله إلا أنهم في معرفة الذات، والصفات، والأفعال الإلهية كباقي المقلدين من المؤمنين، بخلاف أهل التوحيد الشهودي، لشهودهم بالنور الإلهي الحق، وصفاته، وأفعاله، وكيفية تصرفاته في الوجود لا تتطرق عليهم الشبهة، ولا تدخل في قلوبهم الريبة، ولا تحكم عليهم الأوهام، ولا يطرأ على مرايا قلوبهم الرين والظلام، فهم الموحدون حقا، والعارفون بربهم صدقا ويقينا - لا ظنا وتخمينا -.
فلا يظن أحد أن ورعهم في أمور الدين واحتياطهم في عدم القول في مسألة شريعة بمجرد الظن والتخمين، يكون أقل من ورع غيرهم واحتياطه - هيهات هذا من بعض الظن - إنما بلوغهم إلى هذه المرتبة التي كانوا عليها بطاعة الشريعة، وخدمة الدين، واتباع سيد المرسلين عليه وآله أفضل صلوات المصلين، بالذهن الصافي، والقلب النقي الخاشع عن الله، والضمير الخالص عن كل شوب وغرض.
وأنى يوجد لغيرهم ما كان لهم، وهم في الحقيقة أولياء الله، وقوام الدين، وفقهاء شريعة سيد المرسلين، والحكماء في معارف الحق واليقين، وهم في الحقيقة ما وصفهم الله تعالى في آية:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]. وهم الذين أمر الله رسوله (صلى الله عليه وآله) بمجالستهم والصبر معهم في السراء والضراء في قوله:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم
[الكهف:28]. الآية وهم الذين رفع الله قدرهم عن سائر الأمة لقوله تعالى:
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين
[الأنعام:52].
وهم الذين قال خاتم النبيين في حقهم تفخيما وتعظيما، وإجلالا وتكريما لشأنهم: " إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن " وهم الذين وصفهم أمير المؤمنين وسيد الأوصياء الموحدين في حديث كميل بن زياد بما وصفهم.
فإذا كان حالهم على هذا المنوال من العلم، والمعرفة، والورع، والتقوى، فالقدح من أحد فيهم في مسألة اعتقادية دينية يدل على قصور رتبة القادح، وسوء فهمه، وقلة إنصافه، بل الأولى له السكوت عما لا يصل إليه عقله من درك مقالهم، وفهم حالهم - والله أعلم بسرائر عباده وبواطن أقوالهم -.
قال القيصيري: " إعلم أن المقامات الكلية الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاث - وإن كان كل منها مشتملا على مراتب كثيرة لا تحصى - وهي: الجنة، والنار، والأعراف الذي بينهما - على ما نطق به الكلام الإلهي - ولكل منها اسم حاكم عليه يطلب بذاته أهل ذلك المقام، لأنه رعاياه وعمارة ذلك الملك بهم .
والوعد شامل للكل إذ وعده في الحقيقة عبارة عن إيصال كل واحد منها إلى كماله المعين له أزلا، فكما أن الجنة موعود بها كذلك النار والأعراف موعود بهما.
والإيعاد أيضا شامل للكل، فإن أهل الجنة يدخلون الجنة بالجاذب والسائق، قال الله تعالى:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21]. والجاذب: المناسبة الجامعة بينهما بواسطة الأنبياء والأولياء، والسائق: هو الرحمان بالإيعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحسن، كما أن الجاذب إلى النار: المناسبة الجامعة بينها وبين أهلها، والسائق: الشيطان، فعين الجحيم موعود لهم لا متوعد بها.
والوعيد: هو العذاب الذي يتعلق بالاسم " المنتقم " وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير، لأن أهل النار إما مشرك، أو كافر، أو منافق، أو عاص من المؤمنين، وهو ينقسم إلى المواحد، العرف الغير العامل، والمحجوب، وعند تسلط سلطان " المنتقم " عليهم يتعذبون بنيران الجحيم، كما قال تعالى:
أحاط بهم سرادقها
[الكهف:29].
ونادوا يمالك ليقض علينا ربك
[الزخرف:77].
لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون
[البقرة:162]. وقال:
إنكم ماكثون
[الزخرف:77].
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون:108].
فلما مرت عليهم السنون والأحقاب، واعتادوا بالنيران، ونسوا نعيم الرضوان قالوا:
سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص
[إبراهيم:21]. فعند ذلك تعلقت الرحمة بهم، ورفع عنهم العذاب، مع أن العذاب بالنسبة إلى العارف الذي دخل فيها بسبب الأعمال التي تناسبها عذب من وجه، وإن كان عذابا من وجه آخر، كما قيل:
وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى
وقطعكم وصل وجوركم عدل
لأنه يشاهد المعذب في تعذيبه، فيصير التعذيب سببا لشهود الحق، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذ في حقه.
وبالنسبة إلى المحجوبين الغافلين عن اللذات الحقيقية أيضا عذب من وجه. كما جاء في الحديث:
" إن بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار "
و " الملاعبة " لا تنفك عن التلذذ - وإن كان معذبا - لعدم وجدانه ما أمن به من جنة الأعمال التي هي الحور والقصور.
وبالنسبة إلى قوم يطلب استعدادهم البعد من الحق والقرب من النار، وهو المعني بجهنم أيضا عذب، وإن كان في نفس الأمر عذابا كما يشاهد هاهنا ممن يقطع سواعده ويرمي نفسه من القلاع - مثل بعض الملاحدة، ولقد شاهدت رجلا سمر في أصول أصابع إحدى يديه خمسة مسامير غلظ، كل مسمار مثل غلظ القلم، واجتهد المسمر ليخرجه من يده فما رضي بذلك، وكان يفتخر به، وبقي على حاله إلى أن أدركه الأجل.
وبالنسبة إلى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال، واستعداد النقص، وإن كان أليما؛ لإدراكهم الكمال، وعدم إمكان وصولهم إليه، لكن لما كان استعداد نقصهم أغلب رضوا بنقصانهم، وزال عنهم تألمهم بعد انتقام " المنتقم " منهم بتعذيبهم، وانقلب العذاب عذبا، كما نشاهد ممن لا يرضى بأمر خسيس أولا، ثم إذا وقع فيه وابتلى به، وتكرر صدوره منه تألف به واعتاد، فصار يفتخر به بعد أن كان يستقبحه.
وبالنسبة إلى المشركين الذي يعبدون غير الله من الموجودات فينتقم منهم " المنتقم " لكونهم حصروا الحق فيما عبدوه، وجعلوا الإله المطلق مقيدا، وأما من حيث أن مبعودهم عين الوجود الحق الظاهر في تلك الصورة فما يعبدون إلا الله، فرضي الله عنهم من هذا الوجه، فينقلب عذابهم عذبا في حقهم.
وبالنسبة إلى الكافرين أيضا وإن كان العذاب عظيما لكنهم لم يتعذبوا به لرضاهم بما هم فيه، فإن استعدادهم بطلب ذلك، كالأتوني الذي يفتخر بما هو فيه، وعظم عذابه بالنسبة إلى من يعرف أن وراء مرتبتهم مرتبة، وأن ما هم فيه عذاب بالنسبة إليها.
وأنواع العذاب غير مخلد على أهله من حيث أنه عذاب، لانقطاعه بشفاعة الشافعين " وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين " كما جاء في الحديث الصحيح، لذلك ينبت الجرجير في قعر جهنم لانطفاء النار وانقطاع العذاب، وبمقتضى " سبقت رحمتي غضبي " فظاهر الآية التي جاء في حقهم بالتعذيب كلها حق، وكلام الشيخ - رضي الله عنه - لا ينافي ذلك، لأن كون الشيء من وجه عذابا لا ينافي كونه من وجه آخر عذبا.
المنظر الخامس
في ذكر جملة من خواص أولياء الله وعلاماتهم وخواص أولياء الطاغوت وعلاماتهم. ليعرف الإنسان أحوال المؤمن الحقيقي من أحوال المنافق، لنيكشف لمية كون أحدهما من أهل الله وأهل النور، وكون الثاني من أهل الطاغوت وأهل النار
أما أحوال أولياء الله - وهم المؤمنون حقا -:
فمنها: ما ذكره الله تعالى بقوله:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون
[الأنفال:2]. معناه أن المؤمن الحقيقي والعارف اليقيني، الذي كتب الله بقلم العناية في قلبه الإيمان، وأيده بروح منه فهو على نور من ربه، فإذا ذكر الله وجل قلبه فإن وجل القلب عند سماع ذكر الله من خصوصية المعرفة والحكمة بالله وصفاته وأفعاله، إذ الحكمة هي النور المنبسط الإيماني الذي قذف الله في قلوبهم، ومن شأن نور الإيمان أن يرق القلب، ويصفيه عن كدورات صفات النفس وظلمتها، ويلين قسوته فتلين إلى ذكر الله ويحن شوقا إلى الله.
وهذا حال أهل البدايات، أما حال أهل النهايات فهي الطمأنينة والسكون بالذكر، لقوله تعالى:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد:28].
وقال (صلى الله عليه وآله) - فيما روي عنه -
" إن أحب القلوب إلى الله أصلبها في دين الله وأصفاها عن الذنوب، وأرقها على الإخوان، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا "
فجعل من شروط الإيمان الحاصل في القلوب ازيداده عن سماع القرآن وتلاوته، لاشتماله على ذكر الله والمعارف الإلهية.
وذلك لأن الإيمان الحقيقي هو النور الواقع في القلوب، بقدر انفتاح روزنة القلوب من أنوار تجلي شموس صفاته، وحقائق أفعاله، للقلوب المشتاقة، فيكون وجوه قلوبهم الخالية (الناظرة - ن) من دنس حب الدنيا بسبب ذلك النور إلى ربها وحبيبها ناظرة، فإن " الإيمان يجر بعضه إلى بعض " و " بالمعرفة تكتسب المعرفة " فكلما تليت على أصحابها الآيات، أو تلوها، أو ذكر الله، أو ذكروه، زاد انفتاح (انفساخ - ن) روزنتها بقدر صدقها، وشوقها، ومناسبتها، فيزيد فيها نور الإيمان فيزدادوا إيمانا مع إيمانهم.
وعلى ربهم يتوكلون: يعني فحينئذ على ربهم يتوكلون، لا على الدنيا وأهلها، فإن من شاهد جمال الحق وجلاله بنور الإيمان، فقد استغرق في بحر سطوات جلاله، فيكون توكلهم عليه لا على غيره ومنهم (منها - ظ) ما وصفهم الله بقوله
ومآ أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم
[هود:29]. يعني: أن المؤمن من يكون درجته درجة الملائكة المقربين، الذين يلاقون ربهم من فوقهم، لا واسطة بينهم وبين ربهم، وذلك لارتقائهم عن عالم الطبيعة بجناحي العلم والعمل إلى جوار الله.
ومن العاملات المختصة بهم ما ذكره تعالى مخاطبا لإبليس اللعين:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الحجر:42]. وحكى أيضا قول إبليس محاربا لله جلت عظمته:
إلا عبادك منهم المخلصين
[الحجر:40].
ومنها: ما وصفهم بقوله تعالى:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
[الفرقان:63]. إلى آخر السورة.
ومنها: ما أشار إليه بقوله:
إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء:89].
وهذه عمدة صفاتهم، لأن الأصل في جميع الخيرات سلامة الصدر من الغل، والغش، والدغل، والحسد، والبغض، والكبر، والحرص، والطمع، والمكر، والزنا، والخديعة، والنفاق، وما أشبهها من الخصال المذمومة، التي أكثرها ينشأ من التشبه بأهل العلم في الزي والمنطق من غير عرفان، وطلب الترفع من غير استئهال وهو بذر النفاق والعناد ومادة السيئات.
ومنها: الخوف والخشية كما في قوله تعالى:
وهم من خشيته مشفقون
[الأنبياء:28]. وقوله:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28].
فهذه وما أشببها خصال أولياء الله بحسب الملكات والأخلاق العملية.
وأما الأعمال، والأفعال الواجبة، أو المندوبة فجمعيها ترجع إلى تصفية القلب، وهي أمر عدمي عبارة عن رفع المانع، وإزالة الحجاب عن الوصول إلى الحق والحقيقة من الطبع والرين، الحاصل في مرآة القلب بحسب غبار الهيئات المرتفعة إليه من عالم الحواس ومعدن الوسواس.
وأما علاماتهم وخصالهم العلمية التي هي غاية قصودهم، وثمرة وجودهم - لأن الإيمان والعرفان بالله، وصفاته، وملائكته، وأفعاله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، هي الغاية القصوى، والثمرة العليا من وجود الإنسان وبقائه -.
فمنها: طريق تحصيلهم للمعارف، وسبيل سيرهم إلى الله، وهو الصراط الذي وصفه الله بالمستقيم، وقال تعليما لعباده استدعاء ذلك من الله بقوله:
اهدنا الصراط المستقيم
[الفاتحة:6].
وهو الصراط الذي سلكه جميع أنبيائه، وأوليائه، كما أشير إليه بقوله تعالى :
وهذا صراط ربك مستقيما
[الأنعام:126]. وقوله:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى
[الشورى:13] الآية. وقوله:
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم
[الشورى:3]. وقوله:
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
[الأنبياء:25]. وقوله:
إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى
[الأعلى:18 - 19].
وهو الطريق الذي لا يتطرق إليه نسخ وتغير، ولا فيه تخالف وتناقض، لكونه من عند الله وبتوفيقه وإلهامه، لا من جهة التقليد والتعصب، واتباع الآباء، وملازمة الأهواء، لقوله:
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
[النساء:82].
وهو مسلك التوحيد الذي سلكه أفضل الأنبياء عليه وعليهم السلام، ومتابعوه وشيعتهم لقوله تعالى:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108].
وهو الطريق المستقيم الذي أمر الله نبيه أن يعلم الناس سلوكهم ويهديهم إليه ويأمرهم باتباعه ونهاهم عن سلوك طريق غيره، وهو في قوله تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون
[الأنعام:153].
وذلك لأن استقامة الطريق يفضي سالكه إلى المقصد في أقرب زمان، ولا بد للسالك أن يتحرى أقرب الطرقات، فإنه أسهلها مسلكا، وأقربها وصولا، وهو الذي لا عوائق فيه، ولا عوج له، فلذلك ينبغي للقاصدين إلى الله بعد تصفية نفوسهم عن درن الشهوات، والراغبين في نعيم الآخرة في دار السلام، الذين يريدون الصعود إلى ملكوت السموات، والدخول في زمرة الملائكة بالولادة الثانية، أن يتحروا أقرب الطرق إليه، وأسهلها مسلكا، وأوثقها اعتمادا، كما في قوله تعالى:
فأولئك تحروا رشدا
[الجن:14].
ونحن نريد أن نبين الطريق المستقيم الذي أوصانا الله به، وأمرنا باتباعه على ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم ما هو؟ وكيف ينبغي أن نسلكه حتى نصل إلى ما وعدنا به ربنا؟ كما قال تعالى:
أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم
[الأعراف:44]. ولكن لا يمكننا بيان ذلك إلا بكلام موزون، وحكمة بالغة، وبرهان نير، ودلائل واضحة:
أما البرهان النير: فبالنظر إلى حقيقة الوجود، وما يلزمه، وما يبدأ منه، كما قال سبحانه:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53].
وأما الدلائل الواضحة: فعلى مثل بيان الله وسنة أنبيائه وأوليائه (عليهم السلام) بالوصف البليغ بسائر (لسائر - ن) آيات الله في الآفاق، وفي أنفسنا حتى يتبين أنه الحق، كما قال تعالى:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار... لآيات لقوم يعقلون
[البقرة:164]. وقوله:
وفي الأرض آيات للموقنين
[الذاريات:20] وفي قوله:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات:21] فإذا فعلوا ذلك فتحت أبواب العلوم المخزونة، والأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون.
ومما يجب أن يعلم أن كل من أراد أن يتبع سبيل أولياء الله لا ينبغي أن يتكلم في ذات الباري، ولا في صفاته، ولا في أفعاله - من حيث هي أفعاله - بالحزر والتخمين، ولا قبل تصفية النفس، فإن ذلك يؤدي إلى الشكوك، والحيرة، والضلال، كما قال تعالى:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
[الحج:8].
ومن لطائف خواصهم العلمية أنهم في الكمالات العلمية إما في مرتبة التام بذاته - وهي بحسب أرواحهم التي مرتبتها مرتبة العقول الفعالة - وإما في مرتبة المكتفي بذاته - وهي بحسب نفوسهم التي في درجة نفوس الأفلاك - بخلاف غيرهم من أولي العلوم، إذ لا يمكنهم الاكتفاء في علومهم بالأسباب الداخلة (الداخلية - ن) والمقومات الداخلة، فإن علومهم ليست من إفاضة الله فقط بتوسط الملائكة النورية، التي هي خزائن علم الله، بل يحتاجون في انحفاظ علومهم إلى أسباب خارجية، وأوضاع حسية، وأسانيد متقدمة، حتى إن فرض ارتفاع الأسانيد والأوضاع الخارجية الحسية، التي كانت جملتها من الأمور المتغيرة المتصرمة، لبطلت علومهم، وزالت كمالاتهم.
فجميع المنتسبين إلى العلوم التي هي دون علوم الأولياء والعرفاء، ناقصون في كمالاتهم العلمية، إذ ليسوا في مرتبة التمام كالعقول القادسة، والملائكة العلمية الذين كمالاتهم بالفعل من كل الوجوه، ولا كمال منتظر لهم، وليسوا أيضا في مرتبة المكتفين بذواتهم وذوات عللهم المقومة الداخلية كالملاكئة العمالة بإذن الله في تحريك الأجرام العالية، واستخراج الكمالات النفسية، من القوة إلى الفعل، بل هؤلاء يكونون أبدا محتاجين إلى المشايخ والأسانيد، كالأعمى الذي يحتاج أبدا إلى قائد خارجي، وإلى ما يسند إليه في سلوكه ومشيه.
ومعنى الوارثة في " كون العلماء ورثة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين " هو أن علوم الأنيباء مستفادة من الله بلا مفيد بشري، والمعلم الإنساني يعني أن علومهم المختصة بهم وبوراثهم (بوراثتهم - ن) ما كانت فائضة على قلوبهم من الله تعالى، حتى لو قطع النظر عن أسباب التعاليم الخارجية، والأسانيد المنفصلة، لكانت علومهم بحالها كما كانت، بل لا مدخلية لخصوصية هذه النشأة الدنيوية وغيرها من النشآت في بقاء علومهم وثباتها، حيث ثبتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
ومن علاماتهم العلمية كونهم موحدين للباري جل اسمه توحيدا لا يعرف كنهه غيرهم، إذ ليست وحدته تعالى من قبيل الوحدة العددية التي تنشأ منها الأعداد، ولا من النوعية والجنسية التي توجب الاشتراك، ولا من الشخصية التي توجب الانفصال عن الأمور الواقعة مع الشخص تحت كلي، ولا هو واحد بالوضع، ولا بالكيف، ولا بالكم، ولا بالإضافة - كما مر - فوحدته تعالى خارجة عن جميع أقسام الوحدة التي عرفها الخلائق، فهم الذين عرفوا نحو وحدته تعالى.
ومن دقائق علومهم معرفتهم للأسباب القصوى للموجودات، والغاية التي تنحو نحوها الممكنات.
ومنها: معرفتهم الملائكة الروحانيين والجن والشياطين كما مر ذكره.
ومنها: معرفتهم لأصناف الناس - الشقي منهم والسعيد - ومعرفتهم غاية كل فعل، وقول، وعمل، بحسب الدار الآخرة.
ومن خصائص علومهم التي يدركونها بصفاء قلوبهم كيفية نشوء الآخرة، والجنة، والنار الجسمانيتين، والروحانيتين، وكيفية توزع النفوس إلى سكان كل منها.
ومن خصائص مشاهدتهم: يوم الحساب والميزان - كأن القيامة قد قامت في حقهم، وكأنهم بعرش ربهم بارزون ومشاهدون لأهل الجنة منعمين، وأهل النار معذبين - كما جاء في حديث حارثة لما سأله رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حقيقة إيمانه فأجاب بما أجاب.
وإليه أشار جل ذكره:
وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين
[الأعراف:47]. وهم
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور:37]. وهم الذين
لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون
[الزمر:61]. وهم أولياء الله وعباده المخلصون، الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، كما في قوله:
إلا عبادك منهم المخلصين
[ص:83].
واعلم أن الإخلاص في العمل، بلا شوب غرض، أو رياء لا يتصور لأحد، إلا منهم ومن أتباعهم، لأنه يتفرع على المعرفة، وليس لغير العلماء الربانيين معرفة يقينية بأحوال المبدإ وصفاته وأفعاله، وإن كان قد أحكم سائر العلوم الغير الحقيقية، بل معارفهم بالله على الظن والتخمين، أو مجرد التقليد، فإخلاصهم أيضا إخلاص تخميني أو تقليدي.
فهذه جملة من خصال أولياء الله وخواصهم وعلاماتهم، ويعرف منها صفات أضدادهم بأضداد صفاتهم، إذ الأشياء قد تعرف بأضادادها.
قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): " صف العالم؟ " فوصفه، فقيل: " صف الجاهل؟ " فقال: " فعلت ".
فالمنافقون، وأعداء الله، وأولياء الشياطين، صفاتهم بعكس هذه الصفات المذكورة رأسا برأس، يعرفها من يعرف هذه بالقياس، إلا أنا نذكر بعضا منها صريحا لأنها من جملة ما عرف الله بها الجاحدين والمنافقين، وكشف بها فضائحهم، وجهلهم لعباده الصالحين، وبين وخامة عاقبتهم، وسوء حالهم يوم الدين، ولما فيها من التنفر والتحذير عن الباطل للسالكين، والتثبت والتقرير على الحق للمطيعين إن شاء الله.
فمن علاماتهم ما وصفهم الله بأزاء العلامة الأولى التي للأولياء في قوله:
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون
[الزمر:45]. وقوله تعالى:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا
[الحج:72]. فإن الإعراض عن ذكر الحبيب الأول أول شاهد على كون المعرض عدوا لله وليا لعدوه اللعين.
وهذا حال أكثر المغرورين المتجردين بعلم الأقضية والفتاوى، المعرضين عن علم التوحيد، المكبين على غيره من العلوم التي يكون منشأ الشهرة والجاه عند الخلق، كما في قوله تعالى:
وأكثرهم للحق كارهون
[المؤمنون:70]. وقد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله ".
ومنها: ما وصفهم الله في قوله:
وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم
[البقرة:206] - الآية - وهذا أيضا حال أكثر الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من غير وجهه، كما يدل عليه قوله تعالى:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون
[آل عمران:23]. استنكف عن النصيحة ومنعته الأنفة، وأخذته العزة، التي زعمتها ثابتة لنفسه، لأجل كونه مغرورا بالله تعالى، معتقدا أنه من العلماء، وأنه اللائق بالاقتداء، والحري بأن ينصب في مقام النصح والإرشاد لغيره، لا أن غيره يرشده، فيغتاظ من هذا.
ولم يعلم أن ما يعلمه من غير الجهة التي وليها (ولى - ظ) أهل الحق وجوههم شطرها والطريق المستقيم الذي سلكه العلماء بالله، والأتقياء ليس له طائل، ولا يؤدي إلى حاصل، بل يكون بذر النفاق واللدار، ومنبت الكبر والعناد، وستلعب به الشكوك حيرانا، وفات منه الكمال واستعداد تحصيله جميعا، وخسر دنياه وأخراه رأسا، ويصير من
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف:104]
وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون
[آل عمران:24].
فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت
[آل عمران:25] من مزرعة الدنيا - أما من الدرجات العلى أو الدركات السفلى
وهم لا يظلمون
[آل عمران:25] بوضعهم في غير موضعهم، بأن ينزل الجاهل الشرير في موضع العالم النحرير ويسكن أهل الدركات في الدرجات، وأهل الدرجات في الدركات، كما في هذه الدار، لأنها دار اشتباه بخلاف اليوم الآخر
لا ظلم اليوم
[غافر:17] لأنه يوم الفصل باعتبار وإن كان يوم الجمع باعتبار آخر.
ومنها: ما وصفهم الله تعالى بقوله:
وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير
[لقمان:21]. الآية الإشارة فيه أنه لا عبرة في أمر الدين بتقليد المشايخ السابقين، والآباء الماضين، واتباع مذهبهم، بل الواجب على العبد اتباع ما أنزل الله إليه، بصدق النية في السعي والطلب، وخلوص الطوية في الاجتهاد والعمل وقطع النظر عن تقليد الأسلاف، واتباع الأخلاف، فإن الإيمان نور من الله يقذف في قلب المؤمن بواسطة المجاهدة والرياضة، ويخرجه من ظلمات التقليد.
وفي قوله:
أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا
[البقرة:17] إشارة إلى أن آباءهم من أهل الأهواء والبدع، الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون سبيلا، وإنهم ميتون لا يعقلون شيئا، والميت لا يصلح للاقتداء به والاهتداء، بل المتبع في المعارف الإلهية هو الواردات الكشفية عقيب الأعمال الفرعية، والمجاهدات الدينية الحاصلة بنور المتابعة لروح الإنسان الكامل، المتحد نوره بنور العالم العقلي، المصون عن الفناء والموت، كما قيل: " أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت ".
وفي فحوى الآية الإشارة إلى أن من يكون على جادة الحق، وقدمه ثابتة على جادة الشريعة، ومعرفة الطريقة، وسلوك مقامات الحقيقة، فيجوز الاقتداء به، إذ هو من أهل الاهتداء إلى عالم الحقيقة دون من يدعي الشيخوخية بطريق الإرث من الآباء والمشايخ، ولا حظ لهم عن طريق الاهتداء به، فإنهم لا يصلحون للاقتداء.
وهذا كما نجد عند التعمق حال أكثر المدعين للشيخوخة في هذا الزمان أصلح الله بالهم، وسدد أقوالهم، ثم إذا صادق بعضهم من عنده علم من الكتاب استنكفوا عن التعلم منه لما رأوا ما عنده مخالفا لما أخذوه من معلميهم تقليدا أو تعصبا، ولما لحقهم بذلك من ذل التعلم واتضاع القدر عند العامة والمريدين.
كما أشار إليه تعالى بقوله:
وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون
[المائدة:104] وقال سبحانه:
وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين
[الزخرف:23 - 25].
فما أسخف عقلهم حيث تركوا ذكر الله ومعارف الحقائق خوفا من اتضاع قدرهم عند الجهلة، فرجح عندهم ارتفاع الشأن عند الناقصين من العباد على علو المنزلة عند الله، ومجاورة الملائكة المقربين، فتبا لجاههم الحقير، وسحقا لحظهم اليسير، أما تلوا قوله سبحانه:
وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين * ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون
[الزخرف:35 - 37].
ومنها: ما ضرب الله لهم مثلا بقوله:
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة:171]. هذه الحالة لهم أيضا قريبة المأخذ من الحالة السابقة، والغرض أنهم لا يزالون يتبعون، ويحدثون ظواهر الألفاظ، ولا يرون بواطن المعاني والحقائق، ولم يعلموا بعد - ما أنهم سمعوا مرارا - أن امتياز الإنسان عن سائر الحيوانات باستنباط الحقائق والمعارف، لا تتبع الألفاظ، وتصحيح العبارات من غير ارتقاء عن مضيق المحسوسات، ومحبس الحيوانات، واصطبل الدواب، إلى فسحة الأنوار الإلهية، وعالم المعارف العقلية الإلهامية، ومستوكر الطيور السماوية.
فهم أبدا واقفون في عالم الألفاظ والصور، ولن يقصدوا إلى معرفة النفس وما فوقها، ولا إلى إصلاح القلب، الذي هو محل النطق الباطني، الذي يخص به الإنسان من سائر الحيوانات، وهو منبع المكاشفات والمكالمات مع الحق وقد ذم الله تعالى الناقصين، الذين ليس لهم درجة المكالمة الباطنية مع الحق لكونهم في مرتبة الحيوان الأعجمي بقوله:
ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة
[آل عمران:77]. ومدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) خواص أمته وأولياءهم وحكماءهم بأنهم محدثون مكلمون.
وليس المراد من هذا التكلم والتحدث ما يكون بالحديث الظاهري والكلام الحسي - الذي آلته جرم أحمر لحمي مركب من الأخلاط، فإنه من الدنيا، ولا يكون شيء من الدنيا ممدوحا، ولا محبوبا إلا بقدر ما يعبر به ويجعل الزاد للآخرة فإنها طريق الآخرة، بل الدنيا وما فيها مبغوضة ممقوتة ملعونة عند الله وعند أوليائه كما قال (صلى الله عليه وآله):
" الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها "
وقوله (صلى الله عليه وآله):
" حب الدنيا رأس كل خطيئة ".
إنما المراد من المكالمة في قول الله
ولا يكلمهم الله
[آل عمران:77] وفي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إنهم محدثون مكلمون "
المكالمة الحقيقية بين الله وبين خواص عباده، وهي الإفاضات العلمية المتواردة من الحق في المقاصد الربوبية، عقيب التأملات القدسية الاستعدادية من العبد في المطالب الحكمية الإيمانية، بتوسط بعض ملائكة الله العقلية، إما صريحا مشاهدا في عالم المشاهدة البصرية والسمعية كما للأنبياء، أو لا كما لغيرهم.
أو لا ترى أن معنى " التكلم " في حقه تعالى - عند أصحابنا الإماميين (رضوان الله عليهم) هو إيجاد القرآن أولا في قلب جبرائيل عند نزوله في السماء الدنيا ثم منه على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنه إلى قلوب حكماء أمته.
فالإشارة في هذه الآية أن مثل الذين كفروا الآن كان في الحقيقة، وفي عالم الأرواح عند عهد الميثاق إذ خاطبهم الحق بقوله: " ألست بربكم " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، لأنهم كانوا في الصف الأخير، إذ الأراح جنود مجندة في أربعة صفوف:
فكان في الصف الأول: أرواح الأنبياء (عليهم السلام)، وفي الثاني: أرواح الأولياء والشهداء، وفي الثالث: أرواح المؤمنين، وفي الرابع: أرواح الكافرين، فأحضرت الذرات التي استخرجت من ظهر آدم من ذرياته، وأقيمت كل ذرة بأزاء روحها، فخاطبهم الحق: " ألست بربكم؟ ".
فالأنبياء: سمعوا كلام الحق كفاحا بلا واسطة، وشاهدوا أنوار جماله بلا حجاب، ولهذا استحقوا هاهنا النبوة، والرسالة، والمكالمة، والوحي - الله أعلم حيث يجعل رسالته -.
والأولياء: سمعوا كلام الحق، وشاهدوا أنوار جماله من وراء حجاب أرواح الأنبياء، ولهذا احتاجوا هاهنا بمتابعة الأنيباء، فصاروا عند القيام بأداء حق متابعتهم مستحقين للإلهام، والكلام من وراء الحجاب.
والمؤمنون: سمعوا خطاب الحق وراء حجاب أرواح الأنبياء، وحجاب أرواح الأولياء، ولهذا هاهنا آمنوا بالغيب، وقبلوا دعوة الأنبياء، وأن يبلغهم من وراء حجاب رسالة جبرائيل، وحجاب رسالة الأنبياء (عليهم السلام)، فقالوا: " سمعنا وأطعنا ". ومما يدل على هذه المراتب قوله تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا
[الشورى:51] يعني: الأنبياء
أو من ورآء حجاب
[الشورى:51] يعني: الأولياء
أو يرسل رسولا
[الشورى:51]. يعني المؤمنين.
وأما الكفار: فلما سمعوا من ذرات المؤمينن من وراء الحجاب لما قالوا: " بلى " فقالوا بالتقليد والرياء: " بلى " ولهذا هاهنا قلدوا ما ألفوا عليه آباءهم لقوله:
إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون
[الزخرف:23].
فلما تعلقت أرواحهم بالأجساد وتكدرت بكدورات الحواس والقوى النفسانية، وأظلمت بظلمات الصفات الحيوانية، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون - من التمتعات البهيمية، والحركات السبعية، والأخلاق الشيطانية، واللذات الجسمانية - فأصمهم الله وأعمى أبصارهم، فهم الآن " صم " عن استماع دعوة الأنبياء بسمع القبول، " بكم " عن قول الحق والإقرار بالتوحيد والمعارف اليقينية، " عمي " عن رؤية الآيات والمعجزات الباطنية، فهم لا يعقلون، ولا يعقلون أنهم صم بكم لا يعقلون، إذ لم يتصوروا من " الصمم " إلا ما يعرض القوة السمعية الحيوانية، ولا عن " العمي " إلا ما يعرض للقوة العينية الحيوانية، ولا من " العقل " إلا ما للعوام من تدبير المعاش بالحيل الشيطانية.
[24 - سورة النور]
[24.24-35]
تمهيد
الإشارة في تحقيق هذه الآية يتمهد بأن لفظ " النور " ليس موضوعا - كما فهمه المحجوبون من علماء اللسان وأصحاب الكلام - للعرض الذي يقوم بالأجسام، وهو الذي عرفوه بأنه " لا بقاء له زمانين " وهو من الحوادث الناقصة الوجود، بل هذا النور أحد أسماء الله تعالى، وهو منور الأنوار، ومحقق الحقائق، ومظهر الهويات، وموجد الماهيات.
ومطلق " النور " يحمل عند الجمهور على معاني كثيرة، بعضها بالاشتراك وبعضها بالحقيقة والمجاز، كنور الشمس، ونور القمر، ونور السراج، ونور العقل، ونور الإيمان، ونور التقوى، ونور الياقوت، ونور الذهب، ونور الفيروزج.
وأما عند الإشراقيين ومن تبعهم - كالشيخ المقتول شهاب الدين، الكاشف لرموزهم، والمخرج لكنوزهم، والمدون لعلومهم، والمبين لفهومهم، والمبرز لمقاماتهم، والشارح لإشاراتهم - فهو حقيقة بسيطة ظاهرة لذاتها مظهرة لغيرها، فعلى هذا يجب أن لا يكون لها جنس ولا فصل، لعدم تركبها من الأجزاء، فلا لها معرف حدي، ولا لها كاشف رسمي، لعدم خفائها في نفسها، بل هي أظهر الأشياء، لكونها تقابل الظلمة والخفاء - تقابل السلب والإيجاب - فلا برهان عليه، بل هو البرهان على كل شيء.
لكن الخفاء والحجاب إنما يطرءان بحسب المراتب، كمرتبة النور القيومي، لغاية ظهورها وبروزها، فإن شدة الظهور وغلبة التجلي ربما صارتا منشأي الخفاء للمتجلي لفرط الظهور، وعلى المتجلي له لغاية القصور، كما يشاهد من حال عيون الخفافيش عند تجلي النور الشديد الحسي الشمسي على أحداقها، فإذا كان الحال هكذا في النور المحسوس، فما ظنك بالنور العقلي البالغ حد النهاية في الشدة والقوة.
وكان النور عند أكابر الصوفية أيضا عبارة عن هذا المعنى - كما يستفاد من مصنفاتهم ومرموزاتهم - إلا أن الفرق بين مذهبهم ومذهب الحكماء الإشراقيين أن النور وإن كان عند أولئك الأكابر حقيقة بسيطة، إلا أنها مما يعرض لها بحسب ذاتها التفاوت بالشدة والضعف، والتعدد والكثرة بحسب الهيآت والتشخصات، والاختلاف بالواجبية والممكنية، والجوهرية والعرضية، والغنى والافتقار.
وأما عند هؤلاء الأعلام من الكرام، فلا يعرض لها في حد ذاتها هذه الأحكام، بل بحسب تجلياتها، وتعيناتها، وشؤوناتها، واعتباراتها، فالحقيقة واحدة، والتعدد إنما يعرض بحسب اختلاف المظاهر، والمرائي، والقوابل، ولا يبعد أن يكون الاختلاف بين المذهبين راجعا إلى التفاوت في الاصطلاحات وأنحاء الإشارات، والتفنن في التصريح والتعريض منهم، والإجمال والتفصيل مع الاتفاق بينهم في الدعائم والأصول.
وما ذكره الشيخ محمد الغزالي في مشكاة الأنوار موافق أيضا لقول أئمة الحكمة وهو قوله: " النور عبارة عما به تظهر الأشياء ".
تذكرة تفصيلية
إن لقوله تعالى: { الله نور السماوات والأرض } وجوها كثيرا من المعاني:
الأول: ما ذكره أكثر مفسري الإسلام وعلماء العربية والكلام - ومستندهم قراءة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يروى أنه قرأ { الله نور السماوات والأرض } - بصيغة الماضي - يعني: ذو نور السماوات وصاحب نور السموات - على مجاز الحذف، أو الحق نورهما على سبيل التشبيه.
قال صاحب الكشاف: " شبهه بالنور في ظهوره وبيانه، كقوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257] أي: من الباطل إلى الحق، وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه، وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض، وإما أن يراد " أهل السماوات والأرض " وأنهم يستضيئون به " - انتهى قوله -.
فعلى هذا يكون معنى قراءة صيغة الماضي: إن الله نشر الحق وبسطه في السماوات والأرض، أو نور قلوب أهلها بنور الحق.
وفي هذا الوجه يكون المراد من " مثل نوره " صفة الحق العجيبة الشأن التي بثها الله في العالم، وهدى الخلق بها إلى طريق الخير، وتكون التشيبهات التي وقعت ب " المشكوة " و " المصباح " و " الزجاجة " و " الزيت " ، كلها لإثبات ظهور صفة الحق ووضوحها، كأنه قيل: الحق الذي به هدى النار كنور في سراج، اشتعل مصباحه بزيت صاف، كان في قنديل زجاجي شفاف في غاية اللطافة، بحيث يكون في لطافته وزهرته شبيها بإحدى الدراري المشهورة، كالمشتري والزهرة، وكانت الزجاجة، في كوة غائرة في جدار غير نافذة، حتى لا ينشر نور المصباح، فلا محالة يكون النور في غاية الإضاءة والظهور، فكذلك الحق المنبث في العالم المنتشر في الخلائق.
ولا يبعد أن يراد بالنور - في هذا الوجه - القرآن، لأنه يبين الحق، يعني هدى الله الخلق بكلامه المتين الذي هو حق مبين، وقد سماه الله " نورا " حيث قال:
وأنزلنآ إليكم نورا مبينا
[النساء:174]. لأن القرآن مظهر نور الحق والعرفان، ومنور قلوب أهل الإيمان، فيكون الحق نورا والقرآن مثله، وقد شبه ب " المصباح " فالمصباح كلام الله، و " الزجاجة " قلب العارف بأنوار معانيه، و " المشكوة " صدره، و " زيته " إمداد الفيض الإلهي الحاصل من الشجرة المباركة النبوية، والنشأة المقدسة المصطفوية، التي لكمال اعتدالها وجامعيتها للنشأتين، وتجردها عن العالمين، غير مخصوصة بشرق عالم الأرواح، ولا بغرب عالم الأشباح، بل جامعة للطرفين ومرتفعة عن الأفقين، وإمداده وتنويره للقلوب بحيث يكاد أن ينورها ويكملها قبل أن يستنبطوا المعارف من الكتاب بدقة عقولهم، ويقتبسوا أنوار العلوم من مشكاة صدور المعلمين والمذكرين، فلغاية بسط فيض الحق، وشدة إنارته لقلوب السالكين المجذوبين، ينور قلوبهم، ويضيء أرواحهم، وإن لم تمسسه نار التعليم البشري، أو نار الدهن المتوقد من زند الطبع الزكي، ومقدحه الفكر.
الوجه الثاني: ما يوافق طريقه قدماء الصوفي، وأئمة السلوك والتصفية، وهو المفهوم من فحوى الآية الكريمة، ومستندهم قراءة عبد الله بن مسعود كما ذكره الواحدي في الوسيط رواية عنه أنه قرأ: " الله نور السموات والأرض مثل نوره في قلب المؤمن ".
وعلى هذا الوجه يكون المراد من النور المذكور
" ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) " أنه لما نزلت آية: { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [الزمر:22]. وسئل عنه: " ما معنى هذا النور؟ " فقال (صلى الله عليه وآله): " إن النور إذا قذف في قلب المؤمن، انشرح له الصدر وانفسخ " قيل: " فهل لذلك من علامة؟ " قال: " نعم: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله " ".
فعلى هذا شبه الله نور قلب المؤمن بالمصباح، لأن المصباح قد حصل واستنار من نور آخر، فكذا هذا النور قذف في قلبه، وحصل واستنار من النور المطلق الإلهي والوجود القيومي، والقلب بمنزلة المشكاة، والأحوال والمقامات الواردة فيه بإلهام الله المحصلة الممدة لهذا النور بمنزلة الزيت، والأعمال والمعاملات الكثيرة البركات بمنزلة الشجرة المباركة، ولكونها حاصلة بين شرق القلب وغرب البدن غير مختصة بأحدهما - والغضبية - فلا يكون شرقية ولا غربية، والروح النفساني بمثابة الزجاجة.
فيكون نظم هذا الوجه: مثل نور هداية الله في قلب المؤمن كمصباح واقع في زجاجة روحه النفساني، الواقع في مشكاة قلبه، يضيء المصباح من زيت الأحوال والمقامات، التي تكاد تضيء في باطن وجود السالك، وإن لم تمسسه نار التجلي، وهي منبعثة من شجرة الأعمال الصالحة المباركة، وهذا النور الأخير الذي هو نتيجة الأعمال الصالحة، وميراث المعاملات الخالصة، مضاعف من النور الأول الذي هو نور الهداية، الواقع في البداية الداعي إلى العبودية والطاعة، فإذا ضم نور النهاية إلى نور البداية يكون نورا على نور.
الوجه الثالث: ما ذكر متأخروا الصوفية موافقا لأصحاب المكاشفات، وأرباب الأذواق والإشراقات، وهو مبني على قواعد الإشراقيين، وحكماء الفرس والأقدمين، ويطابقه الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله) حكاية عن معراجه حيث سئل عن " الرؤية " فقال " نور أنى أراه " أي هو تعالى نور فيمتنع تعلق الرؤية به تعالى، فأطلق النور عليه تعالى.
وقد أشرنا إلى تحقيق مذهبهم في النور وتوضيحه: أن النور المحسوس إنما يطلق عليه هذا اللفظ لكونه ظاهرا بذاته ومظهرا لغيره، وأما خصوص كونه محسوسا بالحس البصري، وكونه مظهرا للمبصرات فلا مدخلية له فيما يوضع له لفظ " النور " فليس نفس النور المحسوس معنى هذا اللفظ ومفهومه، بل هو أحد موضوعات هذا اللفظ، حتى أنه لو وجد في هذا العالم شيء آخر له هذه الخاصية يطلق عليه اللفظ، ونظيره ما ذكر في معنى الميزان من أن معناه " ما يوزن به الشيء " سواء كان له عمود وكفتان أم لا، لكن غلب استعماله في هذا العالم على ما له عمود وكتفان.
فعلى ذلك يكون إطلاق " النور " عليه تعالى من جهة أنه مصداق معناه وموضوع مسماه، لأن ذاته ظاهر بذاته مظهر لغيره مطلقا، ولهذا اصطلح الإشراقيون على إطلاق نور الأنوار عليه تعالى.
و " النور " مع أنه أمر ذاتي غير خارج عن ذوات الأنوار المجردة الواجبية، والعقلية، والنفسية، إلا أنه متفاوت في الكمال والنقص متدرج في الشدة والضعف وإطلاقه على الذوات النورية على سبيل التشكيك، إذ لم يقم برهان على استحالة كون الذاتي مقولا على أفرادها بالتشكيك، وهكذا حقيقة النور لها مراتب متفاوتة في القوة والضعف، والكمال والنقص، وغاية كمال النور الإلهي - وهو النور الغني - ثم الأنوار العالية المنقسمة إلى العقلية والنفسية، ثم الأنوار السافلة المنقسمة إلى الأنوار الكوكبية والعنصرية.
والحق أن حقيقة " النور " و " الوجود " شيء واحد، ووجود كل شيء هو ظهوره، فعلى هذا يكون وجود الأجسام أيضا من مراتب النور، لكن الإشراقيين زعموا أن الأجسام غير ظاهرة بذواتها، بل بالنور المحسوس العارض، ولعل السر فيه أن الموجود من الأجسام هو خصوصيات صورها النوعية، ونفوسها، وهيأتها التي هي من باب الوجود لها تأمل فيه وسيأتيك مزيد توضيح، وتحقيق هذه المباحث يحتاج إلى مجال أوسع ولا يعلمها إلا البارعون في الحكمتين مع زوائد ألهمهم الله بها.
فعلى هذه القواعد يكون معنى قوله: { الله نور السماوات والأرض } بمنزلة معنى قولهم: " نور الأنورا " و " وجود الوجودات " لما علمت أن حقيقة كل شيء هو وجوده الذي هو نوريته، ف " زيد " مثلا في الحقيقة هو وجوده الخاص، ونور هويته الذي به يكون ظاهرا بذاته مظهرا لغيره.
لا يقال: إنه كيف يكون النور الممكني ظاهرا بذاته، مع أنه يحتاج في وجوده إلى موجد يفيد له الوجود والنورية؟
لأنا نقول: على قاعدة الإشراقيين تكون الأنوار الجوهرية والعرضية مجعولة بالجعل البسيط الإبداعي، فالجاعل لا يجعل " النور " نورا - عندهم - ولا يفيد النورية لما ليس بحسب جوهره وذاته نور، بل يفيد نفس الأنوار وينشئها، فقولنا " زيد موجود " عندهم بمنزلة قولنا: " زيد زيد " في أن القضية ضرورية، إلا أن الفرق بينه وبين قولنا: " الواجب موجود " أن هذه ضرورة أزلية، وهي ضرورة ذاتية - وبين الضرورتين قد تبين الفرق في علم الميزان - والإمكان في الوجودات معناه سلب الضرورة الأزلية - لا سلب الضرورة الذاتية - فلا ينافي هذه الضرورة الافتقار إلى العلة الجاعلة.
- وبالجملة - السماوات والأرض عبارة عن وجوداتها الخاصة وأنوارها المتعينة، فهي بالحقيقة أنوار متفاوتة المراتب، والله تعالى أشد مراتب النور وأجل درجاتها، فيكون نور السماوات والأرض بمنزلة نور الأنوار، وفلك الأفلاك.
وإذا سيق الكلام على طورهم يكون المشبه ب " المصباح " هو النور المتجلي على جميع الحقائق الإمكانية، وب " المشكاة " هي الماهيات السفلية، وب " الزجاجة " الماهيات العلوية وب " الزيت " النفس الرحماني الذي هو الوجود المنبسط عن الحق على الخلق، والضوء الفائض منه على قوالب الأشياء وهياكل الأرض والسماء في سلسلة البدو الإبداعي، المسمى ب " الفيض الأقدس " ، وب " الشجر المباركة " الوجود والنور الفائض منه على المركبات والممتزجات حسب أوعية القابليات، وقامة (فاقة - ن) الاستعدادات في سلسلة الرجوع الاستعدادي، المسمى ب " الفيض المقدس " ووجه تشبيهه بالشجرة واضح، لأنه ذو شعب وجهات مختلفة، وشجون وأفنان متكثرة، وهذا الفيض غير مختص بشرق الأحدية المحضة، ولا بغرب الأعيان والماهيات.
فنظم الآية على هذا الوجه: صفة نور الوجود الفائض من نور الأنوار والموجود الحقيقي - الفائض على الممكنات - كمصباح مشتعل في زجاجة حقائق الأرواح العالية، والجواهر النورية العقلية، التي تتنور به مشكاة الجواهر السفلية والبرازخ الجسمية، واشتعال ذلك المصباح من زيت النفس الرحماني المنبسط على مراتب الموجودات، وهو لغاية لطافته وقربه من منبع الخير والجود ومعدن النور والوجود، يكاد يفيض الوجود والنورية على الأشياء، وإن لم تمسسه نار الفيض الأقدس والمقدس.
والزيت المتوقد من شجرة مباركة - هي الفيض المقدس - الغير المختص بشرق الأحدية، ولا بغرب الأعيان، وهذا النور المتجلي على حقائق الأشياء نور على نور، لأنه نور عالي واجبي مفيض للنور السافل الممكني، يهدي الله لنوره - أي لتجلي وجوده القيومي - من يشاء، فيتجلى له، ويخرجه من ظلمة العدم البحت إلى نور الوجود الصرف.
وللآية وجوه نفيسة أخرى، سيرد عليك بيانه إن شاء الله عند تحقيق معاني ألفاظها مفصلة، فانتظرها مقتبسا لأنوارها، مجتنبا لثمارها.
تفريع
فعلى الوجهين الأخيرين من هذه الوجوه الثلاثة، لا يكون إطلاق النور على الواجب تعالى على سبيل التجوز والتشبيه - كما ذكره متكلموا الإسلاميين، وجمهور المفسرين، من أنه شبه الحق بالنور، أو أريد بالنور هاهنا المنور.
على أنهم لو تفطنوا بمعنى هذا المشتق لحكموا أن كونه تعالى منورا بالحقيقة مما يستلزم كونه نورا بالحقيقة، وذلك لأن كل فاعل بالذات لمعنى كمالي وجودي، لا بد وأن يوجد فيه ذلك المعنى الكمالي - إذ المعطي للكمال لا يكون قاصرا عنه كما حكم به الوجدان وطابقه البرهان - فإذا وجد فيه معنى النور، فإما أن يكون عين ذاته أو زائدا على ذاته.
والثاني يوجب افتقاره تعالى إلى سبب يفيض عليه معنى النور، لأن الاتصاف بمعنى زائد إنما يكون بجهة القبول والاستفادة، وهو غير جهة الإيجاد والإفادة، فلو كانت ذاته منورا لذاته لزم أن تكون ذاته قابلا وفاعلا فلا يكون بسيطا حقيقيا - وقد ثبت بساطته، وأحديته، وتقدسه عن شوائب التركيب كلها - وهذا خلف، وأيضا يلزم أن تكون ذاته أنور من ذاته وهو محال. وإن كان مبدأ نورانيته غير ذاتية - وغير ذاته يكون ممكنا من الممكنات - فيلزم افتقار الواجب إلى الممكن في صفة كمالية.
ومن أنكر كون النور كمالا للموجود بما هو موجود، فليداو عقله إن كان متوفقا، وإن كان مكابرا فالله يجزيه جهنم خالدا فيها. على أن من تأمل علم أن الوجود والنور متحدان في المعنى والحقيقة، ومتغايران في اللفظ، ولا شك أن الوجود خير وكمال لكل موجود من حيث هو موجود، والواجب بحت الوجود فيكون محض النور.
فقد ثبت وتحقق أن النور نفس حقيقة الواجب الوجود جل مجده.
فصل
وأما معنى إضافته إلى السماوات والأرض فهو بمنزلة قولك: " نور الأنوار " و " وجود الوجودات " فإن وجود كل شيء عبارة عن نور به تظهر ماهية ذلك الشيء وذاته، فالله منشىء الأنوار بنفس ذاته النورية وجاعلها جعلا بسيطا، مفاده ترتب ذات المجعول وهويته التي هي عين إنيته، فعلى هذا كما أن ذاته موجد الموجودات، فكذلك مشيىء الأشياء، ومذوت الذوات.
ثم لما كانت ذاته - موجد ذات كل ممكن - ليست إلا وجودا خاصا به يوجد الماهية، وبه يطرد العدم عنها، ويتصف بالموجودية المصدرية عند العقل - لما حقق في مظانه أن المتأصل في التحقق هو وجود كل شيء الذي هو حقيقته، والماهية حالة انتزاعية عقلية منصبغة بصبغ الوجود، منورة بنوره - فموجد الأشياء بالحقيقة موجد لوجداتها، ومنشئها، وجاعلها إنشاء بسيطا، وجعلا مقدسا عن التركيب غير مستدع لأمرين: مجعول ومجعول إليه.
ثم إذا كانت موجودة الأشياء - كما علمت - ليست باتصاف الماهية بالوجود بل بإبداع المبدإ تعالى وجوداتها، وتأييسه إياها - على النحو الذي مر ذكره - فيكون الله تعالى وجود الوجودات فإذا كان الله وجود الوجودات فلا يكون للموجودات تحصل إلا به، ولا هوية لها إلا بهويته.
ثم ليست هوية الباري متقومة بها، وإلا لزم الدور وافتقار الواجب إلى الممكن - وكلاهما محالان - فيكون الموجود بالحقيقة هو الحق تعالى لا غير، ويكون موجودية غيره باعتبار أخذها معه، فتكون من قبيل الأظلال والأشباح التي يتراءى في المرائي الصيقلية بتبعية الشخص الخارجي، فالماهيات كلها بمنزلة المرائي التي تتراءى فيها صورة الوجود الحقيقي - لعدميتها كعديمة لون المرآة -.
ولهذا المعنى قال الحلاج: " الله مصدر الموجودات " وقال بعضهم: " الله وجود السماوات والأرض " وإليه يرجع قول الشبلي: " ما في الجنة أحد سوى الله تعالى " كأنه أراد بالجنة هاهنا الوجود المتأصل الحقيقي، لأنه الخير المحض يؤثر عند الكل، وإليه يشير قول أبي العباس: " ليس في الدارين إلا ربي، وأن الموجودات كلها معدومة إلا وجوده تعالى ".
ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين وإمام الموحدين (عليه السلام): " لا أعبد ربا لم أره " ويقوي ذلك قول خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله):
" لا راحة للمؤمن من دون لقاء الله ".
حكمة عرشية
كما أن الموجود حسبما قرع سمعك في الحكمة المشهورة - إما جوهر، وإما عرض، وهما الجوهر والعرض المشهوران، فاعلم أن في الوجود جوهرا وعرضا حقيقيين غير ذينك المشهورين، فإن ذينك المفهومين من أقسام الماهيات والأعيان الثابتة التي ما شمت رائحة الوجود، وهذان من أقسام الوجود.
ف " الجوهر " بحسب المشهور ماهية غير الوجود، حقها في أن تكون موجودة - أي: متحدة مع مفهوم الوجود العقلي الذي من المفهومات العامة الشاملة - أن لا تكون في موضوع. أي معناه ليس نعتا لمعنى آخر، و " العرض " هو الماهية التي تكون بحسب وجودها العيني، وعند موجوديتها العينية نعتا لشيء آخر، فهما مفهومان عامان وموضوعاهما ماهيتان عقليتان.
وأما الجوهر والعرض الحقيقيان: ف " الجوهر الحقيقي " هو الموجود المستقل، الذي هو بذاته وهويته موجود وواجب لذاته من غير علاقة على شيء آخر في كونه هو هو - وهو الله تعالى - و " العرض الحقيقي " هو الذي يكون بحسب ذاته وهويته متعلقا بغيره، ومفتقرا في تجوهره إلى غيره، ويكون تجوهره وتذوته بغيره، فلا يكون في نفسه مع قطع النظر عن ما يقوم به متصورا - فضلا عن أن يكون موجودا - فذاته عبارة عن " المتقوم بالغير " لا أن له معنى يكون ذلك المعنى مما يوصف بالافتقار إلى الغير مطلقا - كما كان في العرض بالمعنى المشهور - أو مادة - كما في الصورة الجوهرية بالمعنى الأول - أو صورة - كما في المادة - أو هما جميعا - كما في المركب منهما - أو فاعلا أو غاية - كما في سائر الأقسام -.
فالواجب جل ذكره جوهر بهذا المعنى حقيقة، وإن لم يطلق عليه اسمه تسمية (لتسميته - ن) بحسب التوقيف، حيث لم يرد إطلاق هذا اللفظ عليه تعالى في الشرع الأنور، وهو مفاد ما ذكرناه من المعنى وإن كان بعبارة أخرى.
والعرض - بالمعنى الحقيقي الذي ذكرناه - هو وجودات الممكنات كلها سواء كان الممكن بحسب الماهية جوهرا بالمعنى المشهور أو عرضا، فإن تلك الوجودات كلها أعراض قائمة بوجود الحق، لا بمعنى قيام معنى العرض بالجوهر - حسبما هو المتعارف المشهور بين الجمهور - ليلزم كونه تعالى محل الحوادث - كما ذهب إليه بعض المتكلمين - أو محل الصور العلمية - كما ذهب إليه جمهور المشائين من الحكماء - بل هذا معنى آخر من القيام غير ما قيل أو يقال، والعبارة قاصرة عن بيانه، والأمثلة الدائرة في لسان العرفاء غير واردة على مضربها في شأنه.
وجملة القول فيه إن معنى " قيام الأشياء به تعالى " عبارة عن قيوميته لها، فافهم، وتثبت، وتفطن، بمفاد ما روي عن كعب الأحبار في تفسير لفظة " الله " حيث قال " إنه عبارة عن وجوده ولوازمه " ولوازمه أسماؤه الحسنى ومظاهرها، أعني الماهيات، وأعيان الممكنات التي وقعت على هياكلها رشحات وجود الحق، ولمعات نوره وظلاله، المعبر عنهما بالسماوات والأرض.
وقريب من هذا المعنى ما رأيت في مرموزات أهل الله، أن أصل السماء والأرض وحقيقتهما عبارة عن نور محمد (صلى الله عليه وآله) ونار إبليس لعنه الله وسيجيء شرح هذا المعنى إن شاء الله.
لمعة إشراقية
قد دريت أن النور حقيقة بسيطة معناها بحسب شرح الاسم: " الظاهر بذاته المظهر لغيره " ودريت مما ذكرناه أن حقيقة النور مما لا يظهر لأحد إلا بالمشاهدة الحضورية، دون حصول صورة منها في الذهن، لأن كل صورة ذهنية فهي تكون كلية أبدا - ولو تخصصت بألف مخصص -فيكون مبهما، والمبهم لا يكون متعينا ظاهرا في نفسه، وعلى فرض تخصصه يحتاج في ظهوره وتعينه إلى ذلك المخصص، فلا يكون ظهوره عين ذاته، فلا يكون ظاهرا بذاته مظهرا لغيره هذا خلف.
وأيضا كل ما هو غير النور فهو خفي في ذاته، مظلم في جوهره، ظاهر بالنور مستضيء به، فكيف يكون هو مظهرا للنور ومعرفا كاشفا له؟
فتيقن أن الله تعالى هو ظاهر بذاته، إذ ذاته عين ظهور ذاته لذاته، وعين ظهور جميع الأشياء له، كما أنه مظهرها من مكمن الخفاء وموجدها من كتم العدم إلى عالم الوجود، فبذاته النيرة يتنور غسق الماهيات المظلمة الذوات، وينتشر به النور في أهوية الهويات، وتطلع شمس عظمته على آفاق حقائق الممكنات، ويطرد العدم والظلمة عن إقليم المعاني والمعقولات، فلو لم يكن طلوع ذاته النيرة في آفاق هويات الممكنات، وإشراق نوره على السماوات والأرض وما فيهما لم يكن لذرة من الذرات وجود، ولا لأحد من الموجودات حصول - لا في العقل ولا في العين -.
وفي الحديث النبوي المصطفوي - على قائله وآله كرائم تسليمات الله -:
" إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره "
وبهذا في الحقيقة ينكشف معنى قوله سبحانه:
يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض
[السجدة:5]. وقوله:
وأن الله علام الغيوب
[التوبة:78]. فإن التدبير من الله عين إشراق نور الوجود منه في إبداعه للأشياء على وجه الحكمة والمصلحة، وكذا عالميته بالغيوب عين إيجاده للأشياء المستورة في ذاتها المعقولة له، بنفس الإيجاد الذي هو ضرب من التعقل في حقه - كما رآه الإشراقيون - إذ ليست وجودات الأشياء عنه متراخية عن إرادته لها، ولا إرادته للأشياء التي هي عين علمه التفصيلي لوجودها متأخرة عن وجودها، بل أوجد الموجودات مقعولة إياه، وعقل المعقولات موجودة له تعالى، وهذا معنى كون " علمه فعليا " عندهم.
فالحاصل أن علمه الذي هو عين ذاته سبب لوجودات الأشياء التي هي عبارة عن معلوميتها له وإشراق نوره عليها، فهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، فمن هذا أيضا انكشف معنى قوله تعالى: { الله نور }.
تأييد استكشافي
قال مشايخ هذا الطريق: " النور " هو الذي نور قلوب العارفين بتوحيده، وأنار أسرار المحبين بتأييده.
وقيل : هو الذي كون الأشياء بالتصوير، والأسرار بالتنوير.
وقيل: هو الذي يهدي القلوب إلى إيثار الحق واصطفائه، ويهدي الأسرار إلى مناجاته واجتبائه.
وإليه الإشارة بقوله سبحانه:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257]. أي: من الباطل إلى الحق، ومن العبد إلى الرب، ومن البعد إلى القرب، ومن الأسفل إلى الأعلى، ومن الهاوية إلى الجنان.
كشف استناري
إعلم أن للحق تعالى أسماء متقابلة لازمة لذاته كالأول والآخر، والظهر والباطن، والهادي والمضل، والمعز والمذل، فله بحسب أحدية وجوده الواجبي من كل صفتين متقابلتين أشرفهما بحسب جمال ذاته وزينة وجهه، وإنما يصدق الطرف المقابل عليه بحسب مقايسة عظمة ذاته وجلاله إلى من دونه، وقهره على من سواه، فالأسماء والصفات الجمالية إنما تثبت له أولا وبالذات، والأسماء والصفات الجلالية تصدق عليه ثانيا وبالعرض من باب الضروري، الذي يذكر في بحث العلل الغائية التي هي الفاعل لفاعلية الفاعل.
وبذلك الأصل تنحفظ قاعدة استحالة كون الخير الحقيقي مبدأ للشرور، وبه أزاح أستاد الحكماء ومقدم المشائين أرسطاطاليس شبهة الثنوية القائلة بتعدد الفاعل الأول للكل، فكل ممكن مزدوج الحقيقة من جهة كمالية نورية ناشئة من الصفات الجمالية النورية، ومن جهة نقصانية عدمية ظلمانية ناشئة من الصفات القهرية الجلالية النارية، فمن هذين الأصلين نشأ النور المحمدي والنار الإبليسسي، الساريتين في سماوات الأرواح والروحانيات، وأرض الأجسام والجسمانيات.
والله تعالى منور الكل بنور وجوده وجماله، وبنار هيبته وجلاله، كما أشار إليه بقوله:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257]. فالله نور السماوات والأرض بأنوار كواكب أسمائه النورية الجمالية، المشرقة في سماء حقيقة ذاته، وأشعة نيران الجواهر النيرة في آفاق ملكوته وجبروته، فالموجودات كلها مسخرة لهاتين الصفتين، متقلبة بين الإصبعين، فالعرش وما حواه بين صفتين من صفات السبحان، والقلب وما يهواه بين إصبعين من أصابع الرحمان اللتين كانتا في مرتبتي صفتي لطف وقهر، وفي مقام آخر جوهري عقل ونفس، وفي درجة أخرى حالتي بسط وقبض.
وظلاهما في العالم: سماء وأرض، وفي الكواكب: سعود ونحوس: وفي الآفاق شرق وغرب، وفي الحيوان ذكر وأنثى، وفي الطعوم حلاوة ومرارة، وفي اللون سواد وبياض، وفي الكم متصل ومنفصل، وفي المقدار قار وغير قار، وفي الخط مستقيم ومعوج، وفي السطح مستو ومنحن، وفي العدد منطق وأصم، وفي المذهب هداية وضلال، وفي الاعتقاد حق وباطل، وفي النفس إقبال، وإدبار، وفي القلب بصيرة وعمى، وفي الآخرة نعيم وجحيم، وفي الدنيا دولة ونكبة، وفي الباطن إلهام ووسوسة، إلى غير ذلك من المتزاوجات السارية في جميع الذراري، النازلة من سماء عالم الوحدة، إلى أرض عالم الكثرة والهيولى، لقوله تعالى:
ومن كل شيء خلقنا زوجين
[الذاريات:49].
وقل من العلماء من لم تزل قدمه شرح تفاصيل هذه المراتب المزدوجة، المتنزلة من شرف سماء العظمة والكبرياء إلى المبهط الأدنى، وحضيض الأرض السفلى، ثم المرتقية إلى عالم الأسماء والقيامة العظمى، التي تحشر فيها الأشياء إلى الرب الأعلى:
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
[مريم:95].
فصل
في قوله جل اسمه: { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري }
حبذا عبد بلغ في عبوديته وسلوكه طريق الإنابة إلى مقام شاهد بالمشاهدة القلبية نور وجه الله، ورآه كما رأى بالمشاهدة البصرية نور المصباح من وراء زجاجة واقعة في مشكاة، فما هو بمنزلة زجاجة هذا النور هو محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ لا يمكن مشاهدة النور الأحدي لغاية شدته وقوته، التي تقهر البصائر وتبهر الألباب، إلا خلف حجاب الزجاج المحمدي، إذ به يعرف مصباح نوره سبحانه قبل صباح ظهوره.
وإن أردت بيان نسبة المصباح إلى النور، والصباح إلى الظهور، فقل: " هو الله أحد " فقولك " هو الله " لفظان: موضوع ومحمول، والحمل نحو من الاتحاد في الذات والوجود، لكن لو نظرت نظرا عقليا في مصداق هذا الحمل، وجدت " هو الله " شيئا واحدا وذاتا واحدة، يعبر عنهما تارة بالوجود الواجبي والذات الأحدية، وتارة بالمستجمع بجميع الصفات الكمالية والأسماء الحسنى.
ومصداق الحيثيتين المذكورتين حقيقة بسيطة واحدة تكون بإحدى الحيثيتين هوية، وبالأخرى إلهية، كما أنه بأحد الاعتبارين وجود، وبالاعتبار الآخر اسم وصفة، وكما أن " المصباح " في عالم المشاهدة البصرية شيء واحد ومحسوس واحد، لكنه عند التميز ينحل إلى أمرين، منه نور هو بمنزلة الوجود المطلق، وحامل صنوبري هو بمنزلة معنى اسم الله في الواجب تعالى.
هذا إذا كان الممثل له في " المصباح " هو " الله تعالى " وأما إذا كان ذاتا إمكانية - كذات الرسول (صلى الله عليه وآله) - فأحد الأمرين فيه بمنزلة الوجود، والثاني بمنزلة الماهية في الممكن.
والفرق بين المواضع الثلاثة أن الصفة والمومصوف في المصباح - أي النور والصنوبرة - متحدان حسا ووضعا، متغايران وجودا وعقلا، وما بأزائهما في الممكن - أي الماهية والوجود - متحدان وجودا وعينا متغايران عقلا وتسمية، وفي الواجب تعالى ما هو بمنزلة الوجود وعينا متغايران عقلا وتسمية، وفي الواجب تعالى ما هو بمنزلة الوجود في الممكن، والنورية في المصباح - وهو المسمى بالهوية - عين ما هو بمنزلة الماهية والحامل وهو المسمى باسم " الله " لا فرق إلا في العبارة، فالمصباح مثال لله، ونوره مثال للهوية الأحدية.
فلو لم يكن للنور المصباحي حامل ذو تعين وضعي، لما تشخص منه جهة قرب وبعد في الهواء الذي يستنير منه شدة وضعفا، فلم يقع منه نور على شيء من هواء البيت وجدرانه وسقفه، لعدم النسبة بالرجحان وعدمه، والأولية وعدمها، ولاستحالة الترجيح من غير مرجح.
فكذلك لو لم يكن للحق أسماء يقع منها آثار مخصوصة على المظاهر والمجالي - بحسب ما يقتضيه تعين كل اسم عن اسم آخر - لم يصدر عنه في عالم الإيجاد شيء من الممكنات، إذ لا أولوية لممكن ما، ولا رجحان له على ممكن آخر بحسب الجهة الإمكانية، فإن الماهيات الإمكانية والمعاني الكلية، التي هي غير الوجود في درجة واحدة بحسب الذات في قبول نور الوجود وعدم قبوله، بل المعين لكل منها في مقام خاص ودرجة معينة إنما هو ذات الواجب بما يلزمها من الأسماء والصفات، المنبعثة عن حاق هويته الإلهية وشمس حقيقة الواجبية، النافذ نورها في جميع هياكل الممكنات، الباسط فيضها على بساط جميع الماهيات.
ثم لما كان أول من قرع باب الاستنارة بنور الله، وأول من نطق ب " لا إله إلا الله " هو العبد الأعلى، والعقل الأول، والممكن الأشرف، والحقيقة المحمدية، فهو مصباح نور الله، وبتوسطه يقبل الاستضاءة والاستنارة جميع الماهيات الواقعة في فضاء قابلية الوجود والهويات، الساكنة في هواء بيوت أهل المحبة والعبودية، لمبدع الوجود الفائض لنور الخير والجود، فذات النبي صلى الله عليه وآله كالمرآة المصقولة، التي يحاذي بها وجه النير الأعظم، وتوازي شطر الحق، فتجلى لها وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
تفريع
فكل من صحت نسبته إليه من فقراء امته ولاحقا انعكس نور الحق منه (صلى الله عليه وآله) إليه، وهذا معنى " الشفاعة " التي يكون جميع الناس محتاجين إليها يوم القيامة حتى الأنبياء والأولياء سلفا وخلفا
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة:22 - 23].
واعلم أن الغرض الأصلي من العبادات والرياضات، هو تصفية وجه الذات والمحاذات بالقلوب الصافية شطر نور الحق الأحد خلف زجاجة محمد (صلى الله عليه وآله) ليشاهد نور الله، ويقع عليه ضوء معرفة الله، وهذا معنى ما قاله أويس القرني (رضي الله عنه): " للعبد أن يكون عيشه كعيش الرب " وإلى ما ذكرنا يرجع حاصل معنى العبودية التامة.
وقد سئل بعض أصحاب القلوب: " ما العبودية التامة؟ " فقال: " إذا صرت حرا فأنت عبد " معناه أنك إذا تجردت وخلصت عن التعلقات، وتصفي قلبك عن الكدورات، فصرت عبدا لله، ملكا مقربا وملكا ومالكا لجميع الأشياء، بعزة الله وقدرته وملكه
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم
[آل عمران:164].
ومما
" ورد في هذا المعنى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خبر أهل الجنة: أنه يأتي إليهم الملك بعد أن يستأذن منهم للدخول عليهم، فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله، فإذا في الكتاب لكل إنسان يخاطبه به: " من الحي القيوم إلى الحي القيوم، أما بعد فإني أقول للشيء " كن " فيكون، وقد جعلتك اليوم تقول للشيء " كن " فيكون فقال (صلى الله عليه وآله): " فلا يقول أحد من أهل الجنة لشيء: " كن " إلا ويكون ".
تنبيه
ولكنك يا مسكين يجب أن تعلم التمييز بين المرآة والشخص، وتفرق الظل من الأصل، وقد نبهناك عكليه قبل ذلك لئلا تقع فيما وقع فيه كثير من أهل الضلال والنكال، وأصحاب الحلول والاتحاد، فما للتراب ورب الأرباب
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17]. فإذا خوطب سيد الأبرار وقائد الأخيار (صلى الله عليه وآله) بقوله تعالى:
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص:56]. فما يكون لأمثالك ونظرائك.
ثم في التعبير عن تلك المرتبة بالأمانة في قوله عز جلاله:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب:72]. إشعار لطيف بما ذكر، فإن الأمانة مردودة إلى صاحبها، بل كل صفة وجودية وكمال نوري أفاضه الله على ممكن من الممكنات، وماهية من الماهيات، فهو أمانة من الله عنده، وليس له إلا الانصباغ بنوره والمجاورة معه والاحتفاف به، لا الاتصاف بالحقيقة، ولهذا ينخلع عنه عن أداء الأمانات، ورجوع الكل إليه
ألا إلى الله تصير الأمور
[الشورى:53].
وإلى هذا المعنى أشار أبو سعيد الخراز حيث قال: " علامة المريد في الفناء ذهاب حظه عن الدنيا والآخرة إلا من الله سبحانه، ثم يبدو باد أيضا، فيريه ذهاب وجود نفسه وحظ رؤيته من الله، ويبقى من رؤيته ما كان لله من الله فينفرد العبد من فرديته، فإذا كان كذلك فلا يكون مع الله غير الله، فبقي الله الواحد الصمد في الأبدية " كما كان في الأزلية هذا كلامه وهو تام في فحواه لمن كان له سمع يسمع آياته، وعقل يفهم توحيده، وبصر يرى قدرته ونفوذ أمره في عالم الملك والملكوت والغيب والشهادة.
طريق آخر
روي عن بعض السالفين من المفسرين: " إن المشكاة هو الصدر والزجاجة هو القلب، والمصباح هو الروح " وهذا إدراكه جلي واضح، لكن ينبغي أن يعلم، أن لكل من هذه الثلاثة - أي: الصدر، والقلب، والروح - مراتب ثلاثة:
أولها: ظاهرة مكشوفة لكل أحد، لكونها من عالم الحس الظاهري.
وثانيها: مستورة عن الحس الظاهر، مكشوفة للحس الباطن.
وثالثها: مستورة عنها جميعا، مكشوفة للعقل النظري، ولها مراتب أخرى ليس هاهنا موضع بيانها.
فالمرتبة الأولى: أما من الصدر، فهي هذا المركب من العظام والأغشية والرباطات المحيطة بجرم الكبد، وكأن المراد به هو الكبد، لكونه محل الروح الطبيعي، وأما من القلب فهو اللحم الصنوبري، وأما من الروح، فهو جسم لطيف حار، هو مركب النفس الحيوانية المدركة للجزئيات لأجل الحركت الشهوية والغضبية.
وأما المرتبة الثانية: من كل منها: فمن الصدر الروح الطبيعي، ومن القلب الروح الحيواني المذكورة، ومن الروح الروح النفساني البشري الذي تيعلق به، وتستعمله النفس الإنسانية المتفكرة في المقاصد الحيوانية، والروية في التدابير البشرية، بحسب المعاش والمعاد والدنيا والآخرة، على ما يقتضيه العقل العملي، المشترك فيه بين الناس، المتفق عليه العام والخاص، عند تخليته عن العوائق والوساوس، وسلامته عن القواطع والنوازع.
فهذه الأرواح الثلاثة - أي الطبيعي، والحيواني، والنفساني - هي التي يبحث عنها الأطباء، وتسمى عندهم بالأرواح، وتتميز عندهم بالقيود الثلاثة، وبتفاوت جسميتها في اللطافة شدة وضعفا، وفي كمال الاعتدال ونقصه.
ولكل منها مولد ومنشأ خاص: فمنبع الروح النفساني الدماغ - وهو أعدل الأرواح - ومنشأ الروح الحيواني القلب الصنوبري - وهو متوسط في كمال الاعتدال - ومولد الروح الطبيعي الكبد - وهو أخرجها عن الاعتدال -.
وهذه الأرواح الثلاثة أشرف الأجسام العنصرية، حتى كادت أن تشبه الأفلاك، وأما عند العرفاء فأساميها ما ذكرنا - من الصدر، والقلب، والروح - بحسب هذا الاستعمال في المرتبة المتوسطة.
وأما المرتبة الثالثة: فالصدر بحسب هذه المرتبة هي النفس الحيوانية التي يستعملها القلب الإنساني، وهو في هذا المقام عبارة عن النفس الناطقة المذكورة، والعقل العملي المذكور، والروح عبارة عن العقل المستفاد المشاهد للمعقولات عند اتصالها بالعقل الفعال، وهو الملك المقدس، وهو قلم الحق، كتب في ألواح قلوبنا حقائق الإيمان لقوله تعالى:
اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
[العلق:3 - 5].
فهذه الثلاثة في هذه المرتبة تكون من عالم الآخرة، وعالم الغيب، وعالم الملكوت، وفي المرتبة الأولى كانت من عالم الدنيا، وعالم الشهادة، وعالم الملك، وفي المرتبة المتوسطة يقع متوسطا بين العالمين، برزخا بين النشأتين، بمنزلة عالم الأفلاك الذي قيل: " إنه الأعراف ".
والقلب بهذا المعنى الأخير هو الذي يقال: " إنه عرش الله " و " مستوى اسم الرحمن " لكونه محل معرفة الله وملكوته على سبيل الاستقامة، من غير اعوجاج ولا إلحاد في عظمة ذاته، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، الذي هو يوم مراجعة الخلائق إليه، وإعادة الأرواح ومثولها بين يديه.
والصدر هو الكرسي، ونسبة العرش إلى الكرسي كنسبة العقل إلى النفس، والقضاء إلى القدر، إذ المعقولات كلها مجملة في القضاء، مفصلة في القدر، وكذا الأنوار الكوكبية، متصلة واحدة في العرش - لغاية صفائه، ولطافته، وكونه مصاقبا لأفق عالم المعنى والملكوت، وهي منفصلة متجزئة في الكرسي - لكون الكواكب في اللطافة دون فلك العرش -.
فصل
في قوله عز اسمه: { يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية }
إعلم أن هذه الشجرة ليست من أشجار الدنيا وعالم الحس - كما ظنه المحجوبون - وإلا لكانت في جانب من جوانب الدنيا، قابلة للإشارة الحسية وأنها ليست كذلك، فليست في الدنيا، ولا في الآخرة أيضا - كما ذهب إليه قوم آخرون -.
قال الحسن البصري: " لو كانت هذه الشجرة في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية: ولكن والله ما في الدنيا ولا في الجنة، إنما مثل ضرب الله لنوره ".
وكثيرا ما يكون لشيء واحد أسامي كثيرة باعتبارات متعددة، يكون المقصود من الكل معنى واحد وإن تعددت الألفاظ وتكثرت الحيثيات، وربما يكون لحقيقة واحدة درجات متفاوتة في العوالم المتطابقة المتحاذية، بعضها فوق بعض، كالقلب الذي ظاهره جسم مركب من العناصر الأربعة، ثم من الأخلاط الأربعة، ثم من الأمشاج مثل الشحم، واللحم، والعصب، والعروق، وما شاكلها.
وظاهر ظاهره شكل صنوبري أحمر محسوس. وباطن ظاهره تجويف ظلماني أسود، وباطنه روح بخاري حاصل من لطافة الأخلاط وبخاريتها، كما أن هذا الظاهر حاصل من كثافة الأخلاط وأرضيتها، ونسبة هذا إلى ذلك كنسبة الأرض إلى السماء.
ولباطنه باطن - هو النفس الحيوانية - وهو قشر ظاهر للنفس الإنسانية الناطقة، ونسبته إلى هذه النفس كنسبة البدن إليه، ثم لباطن باطنه باطن آخر، يكون جميع ما سبق ذكرها قشورا بالقياس إليه، وهو محيط بها إحاطة العرش بما فيه من السماء والفرش، وهو الجوهر العقلي الذي كان مفاضا على النفس من المبدإ الفعال، وهو في أول تكونه كان بمنزلة المعاني الذهنية، والمفهومات الكلية الهيولانية، ونسبته إلى العقل بالفعل (الفعال - ن) نسبة المني إلى الرجال.
ثم يتدرج في قوة الوجود العقلي إلى درجة بالعقل بالملكة، التي يدرك بها المقدمات الأوليات، ويتفطن للمشاركات والمباينات، ويتنبه للتصورات والتصديقات المأخوذة من الحسيات، ثم إلى درجة العقل بالفعل، الذي يدرك به النظريات، وحدود الماهيات، وبراهين الموجودات، ثم إلى درجة العقل المستفاد المشاهد لصور المعقولات في القلم الأعلى واللوح المحفوظ، ثم ينخرط في سلك الملائكة المقربين، والاتحاد معهم اتحادا نوريا مقدسا من شوائب القصور والنقص فهذه كلها من جملة مراتب القلب الإنساني في الصعود من أرض الجسمية إلى السماء اللاهوتية.
فعلى هذا قياس غيره من الحقائق المستعملة ألفاظها عند أهل الشريعة والحقيقة مطلقا، وفي هذه الآية خاصة، فالشجرة الزيتونة عند المحجوبين - المقتصرين على أول الدرجات للحقائق وأدنى العوالم للمعاني - هي شجرة منبتها الشام وغيرها - وأجود الزيتون زيتون الشام وهي مباركة لأنها كثيرة المنافع، أو لأنها تثبت في الأرض التي بوركت للعالمين أو بوركت فيها، حيث دفن فيها أجساد سبعين نبيا منهم إبراهيم (عليه السلام).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله):
" عليكم بهذه الشجرة، زيت الزيتونة فتداووا به، فإنه مصححة من الباسور ".
ومنبتها لا شرقية ولا غربية، لأن الشام متوسط بين شرق العالم وغربه، أي: الربع المعمور للأرض، المكشوف من البحر الذي أحد جانبيه في الطول - وهو نصف دائرة عظيمة في الأرض - الجزائر الخالدات، الواقعة في جانب الغرب، وكانت مكشوفة في قديم الزمان من البحر والآن مغمورة فيه والجانب الآخر منتهى العمارة عند ساحل الحبر في جانب الشرق.
وقيل: لا في مضحى ولا في مقنأة، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" لا خير في شجرة في مقنأة، ولا نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى ".
ويستفاد من هذين القولين أنها شجرة واقعة في أفق قبة الأرض، وهو في اصطلاح أهل الهيئة والنجوم، موضع من الأرض طوله تسعون درجة، وعرضه عرض وسط الأقاليم، أو منتصف الربع للدور - أعني خمسة وأربعين - إذ القول الأول مشعر بتوسط موضعها في الطول بين مطلع الشمس ومغيبها في الأرض المعمورة، والقول الثاني مشعر بكونه متوسطا في العرض، واقعا بين ارتفاع الشمس في نصف النهار الأطول، وغاية انحطاطها فيه في المواضع المعمورة، أو يكون النهار فيه متوسطا بين غاية الطول وغاية القصر في جميع السنة، كمواضع خط الاستواء وما يليه.
فهذا بيان معنى " الشجرة الزيتونة " حسبما وصل إليه أفهام الجمهور بحسب ظهورها في مظاهر هذا العالم، ووجودها في مهوى كدورة الأجرام، ومعدن الظلام، وأما تحقيقها بحسب نشأة أخرى غير هذه النشأة، فوقع إليه إشارات قرآنية، ورموز نبوية متفاوتة حسب مقامات العارفين، ودرجات المتذكرين، فتارة يعبر عنها ب " شجرة طوبى " وتارة ب " سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ". وتارة بمقام " أبيت عند ربي يطعمني ويسقين ". وتارة ب " شجرة موسى ".
وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين
[المؤمنون:20]. وهو دهن المطالب العلمية البرهانية النورانية، وصبغ الخطابيات والمواعظ الحسنة المقبولة للعقول المتعارفة.
تظليل فرشي فيه تنوير عرشي
قد تبين لك بما قرع سمعك، أن للقوة الإنسانية التي تكونت أول نشأتها في القلب اللحمي الصنوبري الشكل، المخروطي الوضع، درجات متفاوتة في الارتقاء إلى الكمال، ولها تطورات في الأحوال، وإنما ينكشف ذلك بأن تعتبر أولا القلب وأحواله، وهو بالحقيقة أول عضو يتكون في البدن ويتحرك، وآخر عضو يفسد ويسكن، بل هو بالحقيقة البدن الحيواني الذي تستعمله النفس بواسطة ما ينبعث عنه من البخار اللطيف، وباقي الأعضاء يزاد لأجله، ويولد لصيانته، لأنها بمنزلة الغلافات والقشور الصائنة للب القلب، والآلات الخادمة له، الحافظة إياه، ولذلك يكون واقعا في وسط البدن، وهو إن كان في الصورة محاطا لها، وفي الكمية أصغر منها إلا أنه في القوة والمعنى محيط بها، مستعمل إياها، غاية لوجودها، وفاعل معط لقواها.
ثم يتولد منه بخار لطيف هو " الروح الحيواني " عند الأطباء، ثم يتولد منه روح آخر بخاري ألطف منه، وهو " الروح النفساني " ثم يتولد منه النفس النباتية - وهي قوة ومبدأ للتغذية، والتنمية، والتوليد - ثم النفس الحيوانية.
وأول مراتبها القوة اللمسية، كما في الدود والحلزونات ونظائرها من الحيوانات العديمة الرؤوس ثم تتولد النفوس الحسية على طباقاتها، ثم النفوس الخيالية على طبقاتها، ثم النفوس الوهمانية، وكذلك وهذه أقصى درجات النفس الحيوانية بما هي حيوانية، ثم تتكون النفس الناطفة الملكية وهي نور من أنوار الله المعنوية قد طلع عن أفق عالم الآخرة، وهي أول من قرع باب الملكوت، فأول درجاتها العقل اليهولاني، وهو بذر شجرة العقل والعرفان وحبة ثمرة المعرفة والإيمان، ثم يتكون منه العقل الاستعدادي، ثم العقل بالفعل، ثم المستفاد المضيء في المعاد، ثم العقل الفعال للمعقولات والأنوار، والفياض لوجد الحقائق والأسرار.
فإذا علمت هذا في مراتب الإنسان، وسفره وسلوكه في درجات الأبدان والنفوس والعقول إلى أن بلغ في الارتقاء إلى أقصى الغايات التي نزل منها. فاعلم هذا في مراتب ما يتغذى به ويتقوى منه، ويستكمل ويترقى، فله في كل مقام أدوية وأغذية خاصة، وقرائن معينة، وأزواج معلومة بعضها من باب الأجسام والجسمانيات، وبعضها من باب الحواس والمحسوسات، وبعضها من باب الأوهام والخيالات، والظنون والاعتقادات، وبعضها من باب العقول والمعقولات وبعضها من باب الشهود والمشاهدات.
فما دام الإنسان في عالم الدنيا والجسمية، فلا بد له من غذاء يشبه المغتذي صورة، ومادة، وقوة، فتتغذى الصورة بالصورة، والمادة بالمادة، والقوة بالقوة والحس بالمحسوس، ثم لكل عضو حصة من الغذاء يشابهه ويشاكله بعد مراتب النضج والاستحالات بالقوة الغاذية، التي هي في البدن بمنزلة القوة العاقلة في النفس، فلا بد له أيضا في تجوهر نفسه وذاته من أغذية علمية ومواد عقلية.
أو لا ترى أن مادة الغذاء إذا وردت البدن وحضرت عند تصرف الغاذية، فتصرفت فيها وأحالها الهضم بقواه المسخرة لهذا الأمر، وصيرتها صافية عن الفضلات بصنعة طبيعية تشبه صنعة الكيمياء، فيجعلها خالصة عن شوائب الغش والغل، ومصفاة عن القشور في مراتب أربعة للهضوم والإحالات:
إحداها: في المعدة، فيتخلص ويتجرد في ذنوب بعض الفضلات والغشاوات، بهذا التعذيب، وهذه الرياضة بحرارة جهنم المعدة، التي قيل لها: " هل امتلأت؟ " فتقول: " هل من مزيد؟ " بيد زبانية القوى التي عليها تسعة عشر، ويتوب عن خروجها قبل ذلك عن طاعة الله، وبعدها عن عالم الاعتدال والوحدة، وانحرافها عن جادة الصراط المستقيم، ومروقها عن شريعة الطبيعة المدبرة للأجسام على نهج الحكمة.
ثم إذا فرغت هذه القوى في خدمتها التي يخصها لهذا المسافر الغيبي في هذا المنزل، وارتقى قليلا من هذه الهاوية المظلمة إلى طبقة أخرى فوقها، وقع بيد قوى أخرى من هذا الصنف فعملوا فيه ما أمروا به، فانهضم في الكبد مرة أخرى، وسقط منه بعض ما بقي فيه من الفضول، فصار أخلاطا أربعة، خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، لخروجها عن تمام التعصي عن الطاعة، وقربها من الصلاح والعبودية لأمر الله، المستعمل لها في عمارة بيت الله المعمور.
ثم إن أصلح هذه الرفقاء الأربعة هو الجوهر المسمى بالدم، فإذا وقع في العروق، وخرج منه العرق وارتاض وسلك سبيل الطاعة للنفس. واشتغل في بيت القلب للنسك الطبيعي، ومكث قدرا صالحا من الزمان للعابدة البدنية، صلح لأن يلبس كسوة الصورة البدنية بيد القوة المصورة، مؤديا لشكر هذه النعمة الجسيمة فضلة من الزائد عن الحاجة بيد القوة المولدة؛ لتصير مادة البدن آخر مثله في النوع.
فإذا علمت حال استكمال البدن بما يكمله، ويزيده في المقدار والقوة إلى أقصى ما له من الكمال، فاعلم أن حال استكمال النفس في أغذيتها النفسانية والعقلانية بهذا المنوال، فإن النفس بقوتها الإدراكية أحضرت عندها صورة محسوسة، فأول ما تصرفت فيها بقوتها المتصرفة هو أن نزعتها عن كدر المادة التي هي كالفضلة الأولى للغذاء، والهاوية لأهل العقوبة والجزاء، فسمي هذا الفعل من النفس ب " الإحساس " وهو تصرف فعلي من النفس، وهو كمال انفعالي للحواس.
ثم وقع منها تصرف آخر في تلك الصورة وهو تقشيرها مرة أخرى تقشيرا أتم، حتى خلعت عنها الأغشية المادية ، وهذا هو " التخييل " و " التصوير " والصورة عند ذلك كمال للخيال وغذاء له، ونسبتها إليه نسبة المحسوس إلى الحس.
ثم فعلت فعلا آخر بحيث انتزعت منها المادة وعوراضها بالكلية، إلا أنه بقي لها علاقة إلى المادة، بحيث تضاف إلى مادة مخصوصة وهو " التوهم ".
ثم إذا عملت فيها عملا آخر، نفضت عنها آثار المادة وعوارضها، وعلائقها وشواغلها، فصارت لبا خالصا سائغا للبيب العقل، الذي هو ملك من ملائكة الله؛ لأنها تخلصت من الذنوب والجرائم المادية، والمعاصي الجرمانية بالكلية، واستغفرت، وتابت، وأنابت، ورجعت، وآبت " والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ".
فانظر إلى حكمة الصانع كيف أبدع قوة عاقلة، تعمل في المحسوس عملا يجعله معقولا وعاقلا.
فعلم مما ذكرنا أن لكل الأشياء سلوكا طبيعيا خاصا نحو الخير الأقصى، والمقصد الأسنى، فلكل سافل سلوك نحو العالي، ولكل عال رحمة وعناية بالسافل، تشبها بالمبدإ الأول في إفاضة الخيرات كلها، وعلم أن الغذاء - مثلا - كالمغتذي يتطور بالأطوار، ويتسمى في كل طور وعالم باسم خاص يناسبه.
فأدون المنازل وأدناها عنصر، ثم بعد الاستحالات جسم مركب جمادي، كالحنطة، والخبز، والزيت، ثم بعد مراتب التصرفات، دم، وخلط صالح، ثم لحم، وغضروف، وعصب، ثم بخار لطيف حار، ثم صورة حاسة ومحسوسة، ثم صورة خيالية، ثم صورة وهمية أو عقلية، وهلم إلى درجة مشاهدة الأنوار الإلهية، ومعاينة الصفات اللاهوتية والأسماء الربانية.
فيكون لها في كل مرتبة من المراتب الخلقية والأمرية، وبحسب كل كسوة وخلقة من الأكسية والخلع النوارنية والظلمانية اسم خاص.
فضرب الله مثلا للذين آمنوا منك ودرجاتك في العرفان والارتقاء إليه - إلى أن يصير نورا على نور - بشجرة الزيت، وارتقائها إلى غاية الكمال، وسلوكها إلى سبيل الاهتداء بعالم النور المحسوس، ووصولها إليه حتى تصير نورا على نور.
فالشجرة الزيتونة بمنزلة نبات يثمر غذاء وطعاما لطيفا للإنسان الكامل، الذي هو أشرف خلق الله وعبده الذاهب إل ربه كالخليل (عليه السلام) حيث قال:
إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات:99] وكموسى (عليه السلام) حيث قال:
إني آنست نارا
[طه:10] وكنبينا (صلى الله عليه وآله) حيث قال تعالى:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
[الإسراء:1]. " والزيتونة " بمنزلة الأطعمة والأغذية التي يتناولها الإنسان ويدخلها في جوفه.
و " المشكاة " بمنزلة البدن الإنساني لكونها مطلمة في ذاتها، قابلة للنور لا على التساوي؛ لاختلاف السطوح والثقب فيها، وهكذا حكم الجسد الإنساني في قبوله لأنوار الحس والحركة لا على التساوي.
" والزجاجة " القلب باعتبار تجويفه الذي يكون مكانا للروح الحيواني، الذي بمثابة دهن الزيت.
" والمصباح " هو الروح النفساني المنور بنور النفس الإنسانية.
وتلك الروح لغاية قربها من عالم الغيب والملكوت، يكاد زيتها يضيء ولو تمسه نار من الخارج، لأن العلل الذاتية ليست أمورا خارجة عن ذوات المعلولات، فالقابل لنور النفس وإن كان مفتقرا في الاستنارة بها إلى العقل الفعال، لكنه غير مفتقر إلى سبب خارج عن ذاته، فكأنه مكتف بذاته عن السبب.
وأما وصف " الزجاجة " بأنها " كوكب دري " فذلك لكون القلب في الحقيقة، هو تجويفه الذي يملتئ بنور الروح الحيواني ويتنور به.
وأما كونه " متوقدا من شجرة مباركة " فلكون مادة روحه من الأشجار والنباتات الغذائية الكثيرة البركات؛ لحصول الأرواح، ونفوسها، وعقولها منها ومن موادها بعد استحالات وحركات كثيرة، كما أن الزيت إنما هو يحصل من شجرة الزيتونة بعد تعصيرات شديدة.
وأما وصف الشجرة بأنها " لا شرقية ولا غربية " فإن ألطف الأغذية، وأعدل الأمزجة؛ إنما يتكون في البلاد والبقاع التي كان في أوساط الربع المكشوف من الأرض كما مر.
فصل تقديسي
هذا تأويل الآية في العالم الإنساني البدني - هو عالم صغير جسماني - ولها تأويلان آخران أحدهما: في عالم الآفاق، والثاني: في عالم الأنفس:
أما الأول: فالمشكاة عالم الأجسام، والزجاجة: العرش، والمصباح: الروح الأعظم، والشجرة: هي الهيولى الكلية التي هي مادة حقائق الأجسام وصورها المختلفة؛ التي هي بمنزلة الأغصان والأوراق، وهي في نفسها أمر ملكوتي عقلي، إلا أنها أخس الجواهر الملكوتية وأدناها، وهي نهاية عالم الأرواح وبداية عالم الأجسام، فتكون غير منسوبة إلى شرق عالم العقول والأرواح، ولا إلى غرب عالم الأجسام والأشباح.
يكاد زيتها - وهو عالم الأرواح النفسانية - يضيء بأنوار العقول الفعالة، ولو لم تمسسه نار نور القدرة الأزلية، وذلك لقرب طبيعتها من الوجود، نور على نور، فالأول: نور الرحمة الإلهية، والمعرفة الربانية، والثاني: نورالروح الأعظم والعقل الفعال، إذ الأول نور العقل الفعال، والثاني نور النفس الكلية، التي هي نور العرش، وهو مستوى نور الرحمة الرحمانية العقلية، التي هي كصورة الرحمن، فيكون نورا على نور، كقوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى
[طه:5]. وفي قوله تعالى: { يهدي الله لنوره من يشآء } إشارة إلى أن فيض نور الرحمانية ينقسم على كل من يريد الله إيجاده من العرش إلى الثرى.
فصل
وأما التأويل الآخر فهو الذي أفاده الشيخ أبو علي ابن سينا، وأوضحه شارح إشاراته وموضح تنبيهاته (قدس سرهما) منزلا على مراتب النفس الناطقة في ارتقائها إلى عالم الربوبية.
فكانت المشكاة العقل الهيولاني لكونها مظلمة الذات، قابلة للأنوار العقلية على تفاوت استعداداتها قربا وبعدا، والزجاجة هي العقل بالملكة؛ لأنها شفافة في ذاتها، قابلة للنور أتم قبول كالكوكب الدري.
و " الشجرة الزيتونة " هي القوة الفكرية والفكر؛ لأنها مستعدة لأن تصير قابلة للنور بذاتها، لكن بعد حركة كثيرة وتعب. وكونها مباركة لما يترتب عليها، ويحصل لها من حدود الأشياء، ونتائج البراهين الحقة، وكونها لا شرقية ولا غربية لكون الفكر يجري في المعاني الكلية، والمفهومات الذهنية - والقضايا المعقولة ليست من غرب الموجودات الحسية الهيولانية، ولا من شرق العقول الفعالة القائمة بأنفسها -.
و " الزيت " هو الحدس لكونه أقرب إلى ذلك من الزيتونة، والذي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار القوة القدسية، لأنها تكاد تعقل بالفعل و [لو] لم يكن شيء يخرجها من القوة إلى الفعل.
و " نور على نور " هو العقل المستفاد، فإن الصور المعقولة " نور " والنفس القابلة لها " نور آخر ".
والمصباح: العقل بالفعل، لأنه منير بذاته من غير احتياج إلى نور يكتسبه. و " النار " هو العقل الفعال لأن المصباح يشتعل منها.
كشف إشراقي
إعلم أن قوله تعالى: { لا شرقية ولا غربية } إذا حمل " الشجرة الزيتونة " على الأمر العقلي، يكون معناه أنها خارجة عن جنس الأمكنة والأحياز، كما يقال للفلك: إنه لا حار ولا بارد - أي: يكون خارجا عن جنس هذه الكيفيات الملموسة.
وأما إذا حمل على الأمر الجسماني كالشجرة التي يحصل منها الزيت، والقلب الصنوبري، فيكون معناه الأمر المتوسط مكانه بينهما، كما يقال للماء الفاتر: إنه لا حار ولا بارد.
ويمكن حمل " الشرق " و " الغرب " على الآخرة والدنيا عند ما يراد من " الشجرة " القوة الفكرية أو الهيولى، ومعنى سلب الطرفين عنهما حينئذ يحتمل الوجهين:
إما التوسط بين هذين الضدين، أو الخروج عن جنسهما.
ويمكن حمل " الشرق " و " الغرب " على الوجوب والإمكان، فإن ذات الباري سبحانه مطلع أنوار الوجودات، وعالم الإمكان مغيب تلك الأنوار، وفيه أفول كواكب الحقائق الأسمائية، فحينئذ ينبغي أن يراد ب " المشكاة " الطبيعة الكلية السارية المختلفة في الأجسام، و " الزجاجة " النفس الكلية المشفة في ذاتها، القابلة للنور العقلي أتم قبول، و " الشجرة الزيتونة " هي القدرة الإلهية المتشعبة إلى فنون إيجادات الحقائق المختلفة حسب اقتضاء الأسماء الحسنى، وصور علم الله المتقدمة على مظاهرها المختلفة، وموجوداتها المفصلة، والقدرة الإلهية لكونها أمرا نسبيا لازمة للذات الأحدية، ليست شرقية ولا غربية بالمعنى المذكورة، و " الزيت " هو إرادة الله، الموجبة للإضاءة والإشراق من غير افتقار إلى انضمام الداعي إليه؛ لكونه تعالى تام الفاعلية والإيجاد، مستقل القوة والقدرة لإشراق نور الوجود منه على العالم، وإن لم تمسسه نار العلة الغائية، والمصلحة الخارجية.
و " المصباح " العقل الكلي - أي عالم العقول - لكونه نيرا بذاته لتقدسه عن شوب القوة والاستعداد، ومتنورا بالنور الفائض عن الحق الجواد على ذاته، عند مشاهدته للحق سبحانه، وشروق نور الله عليه، فكان نورا على نور، يهدي الله لنوره من يشاء من عباده، وهو جميع الموجودات الممكنة الذوات، المهتدية بنور الوجود إلى غاياتها الذاتية بتوسط النور الأول الإبداعي العقلي، الذي هو غاية عالم الإمكان.
نكتة عرشية
يمكن أن يرد ب " الشجرة الزيتونة " مجموع عالم الأجسام، فإنه كشجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية؛ لأن مجموع " المحدد للجهات وما حواه " من حيث المجموع ليس واقعا في مكان ولا جهة.
و " زيتها " قوة الوجود المطلق والطبيعة السارية فيه، إذ لها الاستعداد لقبول الاشتعال، والاستضاءة بمراتب الأنوار قوة وضعفا، حسب تفاوت زيت المواد، وعظم الفتيلة وصغرها من الصور الجسمية، الفلكية والعنصرية.
و " المشكاة " هي الهيولى الكلية، أي مجموع الهيوليات.
و " المصباح " هو النفس الكلية، أي مجموع عالم النفوس المتعلقة بالأجسام المختلفة في الاشتعال والنورية، و " نوره " العقل الكلي، أي: جملة العقول المقدسة المنورة بنور المعرفة الإلهية - على تفاوت مراتبها -.
وكما أن أجزاء المصباح ومواضعها متفاوتة في الإنارة والإضاءة، وفي وسط أجزاءه المتصلة موضع جزء هو أقوى الجميع قوة ونورية فكذلك في العقول القادسة عقل أول هو أشرف الممكنات وجودا، وأقواها نورية وإشراقا، وهو الحقيقة المحمدية المنورة بنور معرفة الله بلا واسطة، فيكون نورا على نور، ولا يتنور من سواه بنور الحق وشهوده إلا بتوسطه، فصح قوله (صلى الله عليه وآله):
" لو كان موسى في زمني ما وسعه إلا اتباعي ".
فصل
في قوله تعالى: { يهدي الله لنوره من يشآء }
هذه النور هو النور المحمدي الكاشف لحقائق الأشياء كما هي، والغاية المترتبة على وجود السابقين الأولين من الأنبياء، لأنه بذر طوبى عالم الإمكان، الذي غرسه يد الرحمن، والثمرة الحاصلة من شجرة وجود الأرض والسماء، والصراط المستقيم إلى حضرة الرب تعالى، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، فالخلق مفطورون بقبول النور المحمدي، والنفوس مجبولة على طاعة الشريعة النبوية للوصول إلى المقام المحمود، إذا لم يطرأ الضلال على سلوك الطريق، والغواية عن الذهاب إلى الغاية المقصودة.
وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
" أول ما خلق الله نوري ".
وعنه أيضا:
" إن الله خلق آدم على صورة الرحمن "
أي الحقيقة المحمدية خلقها على صورة اسم " الرحمن " كما خلق إبليس من صورة الاسم " المنتقم ".
وعنه أيضا:
" إن الله خلق نوري من نور عزته، وخلق نور إبليس من نار عزته "
، وللإشعار بأن الروح النبوي الختمي (صلى الله عليه وآله) ليس من جنس سائر الأرواح قوله (صلى الله عليه وآله):
" لست كأحدكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ".
فانظر يا مسكين وتنبه، إن من كانت أدنى أحواله وأنزلها كالبيتوتة والطعم والشرب، واقعة منه عند الرب تعالى، كيف يكون من جنس من لا يكون أشرف أحواله مثل المعرفة والفكر حاصلة عنده؟ فإن الجسمانيات والنفوس الأرضية، بل النفوس السماوية أيضا بمراحل عن أن يصعد أعمالها إلى عالم الإلهية.
وأما الروحانيات العقلية فهي متفاوتة في القرب والبعد، وما يصل إلى الله ويقع مقبولا عنده تعالى بلا واسطة لا يكون إلا الطاعات المحمدية، والعبودية الأحمدية من أنوار المعارف الإلهية، الفائضة على ذاته النيرة من غير وساطة أحد، فلا يكون طاعة غيره (صلى الله عليه وآله) مثل طاعته إلا بنور متابعته ووساطته
لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا
[النور:63].
تذكرة:
قال سهل بن عبد الله التستري وشيبان الراعي: إنا سمعنا من الخضر (عليه السلام) أنه قال: " خلق الله نور محمد (صلى الله عليه وآله) من نوره، فصوره وصدره على يده، يبقى ذلك النور بين يديه تعالى مائة ألف عام، فكان يلاحظ في كل يوم وليلة سبعين ألف لحظة ونظرة، يكسوه في كل نظرة نورا جديدا وكرامة جديدة، ثم خلق منه الموجودات كلها " - انتهى.
وفيه إشارة إلى صدور الكائنات وصورها وآثارها كل لحظة عددا غير محصور بتوسط نور وجود الإمكان الأشرف، والجهة المحمدية، والفيض الأقدس، الذي هو بذر الموجودات، وسببها الذاتي الفاعلي المتقدم، وثمرة شجرة الممكنات، وسببها الغائي المتأخر، فهو الأول والآخر لكونه لب الألباب، وللوجود خاتمة الكتاب.
تمثيل عرشي
فانظر أيها العارف في حكمة الصانع البديع، وجود النافع المنيع الرفيع، كيف بدأ بالعقل وختم بالعاقل، وبينهما أمور متفاضلة متواصلة.
فالعقل الأول بذر العقلاء ومبدأ الفضلاء، وما عداه من العقول المتقدمة على الأجسام سيقانه، والنفس الكلية أغصانه، والأجرام الفلكية عروقه وأفنانه، والبسائط العنصرية أوراقه، والنفوس الأرضية أزهاره، والنفوس الآدمية نفائس أثماره، والعقول المستفادة لبوب حبوبه وأنواره، والروح المحمدي لب لبابه ودهنه وضوء سراجه.
فاعلم ما ذكر، وتحقق ما تلي عليك، وتدبر ولا تحمله على المجاز الشعري، بل على التحقيق السري، واتل قوله تعالى :
يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض
[السجدة:5]. وامتثل أمره فيما يقول:
كونوا ربانيين
[آل عمران:79]. وإن لم تقدر على ذلك بنفسك، فاستفده من غيرك فإن المؤمن مرآة المؤمن.
قال بعض العرفاء في مناجاته: " إلهي ما الحكمة في خلقي؟ " فألهمه الله في الجواب بقوله: " إن الحكمة في خلقك رؤيتي في مرآة روحك، ومحبتي في قلبك ". فما أعظم رتبة العبد المؤمن وما أجلها حيث تصير صفحة قلبه مرآة لوجه الحق، متى أراد أن يتجلى ذاته لذاته نظر إلى قلب المؤمن.
وقد ورد في الخبر:
" إن الله في كل يوم وليلة ثلاث مائة وستين نظرة إلى قلب المؤمن "
ويؤيد ذلك قوله (صلى الله عليه وآله):
" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم "
وقوله تعالى:
ألم يعلم بأن الله يرى
[العلق:14].
وقد ورد في الحديث القدسي أنه قال تعالى:
" كنت كنزا مخفيا، فخلقت الخلق لكي أعرف ".
وهذه الثمرة للخلق والإيجاد - وهي معرفة الله - إنما تتحقق في العبد المؤمن - أي العارف - لقوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56]. أي: ليعرفون. وقد ثبت أن الإنسان العارف غاية إيجاد الأفلاك، والعناصر، والمركبات، لقوله تعالى في الحديث القدسي
" لولاك لما خلقت الأفلاك "
ويؤيد ذلك قوله سبحانه:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
[الأنعام:103].
وقوله:
ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط
[فصلت:54].
تنبيه وإشارة
لك أن تفهم من هذه الأسرار، أن إدراك ذات الحق تعالى بعلم مستأنف لا يمكن لأحد إلا في مرآة قلب المؤمن المتقي (التقي - النقي - ن)، ولهذا بني العالم، وخلق الكون، وأبدع النظام لقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53]. وقوله تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات:21].
ومما ينور أيضا ما ذكرناه قوله (صلى الله عليه وآله):
" من رآني فقد رأى الحق "
وقوله سبحانه:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80]. وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله ):
" واشوقاه إلى لقاء اخواني من بعدي "
وفيما رواه كميل بن زياد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل ذلك في كلام طويل وقول النبي (صلى الله عليه وآله):
" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
يشير إلى ذلك، وفي قوله سبحانه:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29]. تنبيه بليغ عليه، وكذا في قوله تعالى:
وحملها الإنسان
[الأحزاب:72].
وفي رموز بعض أصحاب القلوب في تفسير قوله تعالى: كنت كنزا مخفيا - الحديث -:
" العبودية بغير الربوبية نقصان وزوال، والربوبية بغير العبودية محال ".
ومن الإشارات إلى هذا المقصد قوله تعالى:
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
[الفتح:26]. ومنها قوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة:111]. ومن التأييدات اللطيفة لهذه الدعوى قوله تعالى:
إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب:72] وقوله:
إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[العصر:2 - 3]. إذ قد علم من جميع ذلك، أن اللائق بنظر الحق وشهوده إنما هو معرفة الحق، لا الإنسان ولا غيره من موجودات عالم الإمكان، وإلا فما للتراب ورب الأرباب.
وقريب من هذا ما قاله بعض المحققين من الحكماء: " إن القائل بأن الواجب موجود والعاقد لهذه القضية من عالم الإمكان ليس هو ذهن من الأذهان، بل نحو من أنحاء البرهان، فانظر إلى قوله:
والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى
[النجم:1- 5] وقوله:
فأوحى إلى عبده مآ أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم:10 - 11].
كشف حال لتحقيق مقال
يا وليي أنظر إلى التفاوت بين مرتبة موسى (عليه السلام)، وبين مرتبة سيدنا ونبينا (صلى الله عليه وآله)، فإنه خر مغشيا عليه عند ملاحظة التجلي الواقع على الجبل،
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا
[الأعراف:143]. ثم تاب واستغفر من طلب ما لا يسع له درجته ووقته، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) حكى أنه في ليلة المعراج وضع الله يده بين كتفي، فوجدت برد أنامله بين ثديي.
وهذا الحديث مما يدل دلالة واضحة على عشقه تعالى لحبيبه، وإن كنت في ريب مما ذكرنا فاضمم إليه ما سمعته من حديث " أبيت عند ربي " وحديث " من رآني " وسائر ما نقلناه في هذا الباب؛ ليظهر لك حقيقة كلام أخيه وابن عمه، ومساهمة في همه وغمه، ومشاركه في حظه وقسمه، ووارث حوضه، وباب مدنية علمه، حيث قال سلام الله عليهما وآلهما: " رأى قلبي ربي ". وقوله أيضا: " ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه " امتثالا لقوله تعالى:
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل
[الفرقان:45].
إشارة
إعلم أيها الحبيب أنه لا يعرف قدر النور إلا النور، بل كل مرتبة منه لا يعرفها إلا الواقع في جنس تلك المرتبة، فالنور الحسي يدرك النور الحسي، والنفسي النفسي، والعقلي العقلي، فلا يدرك نور الكواكب إلا نور البصر، ولا أنوار المحسوسات إلا أنوار الحواس بشرط فنائها عن كفياتها المختصة بها.
فالقوة اللمسية من جنس الكيفيات الأربعة، التي هي أوائل الملموسات، إلا أنها معتدل متوسط بينها، وقد علمت أن المتوسط بين الأطراف، بمنزلة الخالي عنها، فلذلك تقبلها، وتدركها، وتحس بها، وكذا الرطوبة اللعابية الفائضة في جرم اللسان مما لا طعم له في نفسه، لكن من شأنها أن يتكيف بكيفية ذي الطعوم، فيدركها القوة الذوقية المساوية نسبة حاملها إلى الطعوم، مع كونه واقعة في جنس الكيفيات الطعمية، وقس عليه الحواس والمدارك، وهلم إلى عالم العقل والمعقول وما فوقه، وفي المثل: " لا يحمل عطايا الملوك إلا مطايا الملوك " لا يعرف الله غير الله (إلا الله - ن) ".
وقد سئل بعض المشايخ: " ما الدليل على الله؟ " فقال: " دليه هو الله " وسأل العلامة الرازي فخر الدين الشيخ العارف نجم الدين: " بم عرفت ربك؟ " فقال: " بواردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها ".
ثم وراء العقل علم، يدق عن مدارك غايات العقول السليمة.
وقال بعض المحققين: " دليل معرفة الله للمبتدئ عشقه وإرادته، إذ هما ينبعثان عن معرفة ما وإن كانت قليلة ضعيفة، نسبتها إلى المشاهدة التامة نسبة البذر إلى الثمرة، فالمحرك للقلوب إلى الحق تعالى هو ذاته تعالى " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
قال بعض المشايخ إن الله تعالى أوحى إلى رسول الله في ليلة المعراج، يا محمد كنت دائم الأوقات ناظرا ومستمعا، فأنا الله سامع وناظر، وأنت القابل، والمنظور إليه
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم:10].
فصل
في شرح ماهية الإنسان الكامل والعالم الصغير ومظهر اسم الله، الجامع لمظاهر الأسماء كلها
وهو خليفة الله في أرضه، ومثال نور الله في سمائه، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، قال سبحانه:
وعلم آدم الأسمآء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم
[البقرة:31 - 32].
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
واعلم أن كل موجود من الموجودات التفصيلية، التي هي أجزاء هذا العالم مظهر اسم خاص من أسماء الله تعالى، فكما أن أجزاء هذا العالم فيها أجناس، وأنواع، وأشخاص، وجواهر وأعراض والأغراض كم، وكيف، ومتى، وأين، ووضع، وإضافة، وفعل، وانفعال، وملك، فكذلك في الأسماء الإلهية أسماء جنسية ونوعية، وجوهرية وعرضية، كمية وكيفية، وغيرها حذو القذ بالقذ، وكذلك في الإنسان الكامل، والمظهر الجامع، يوجد جميع ما يوجد في عالم الأسماء ومظاهر الآفاقية.
فكما أن الأسماء كلها، بحسب معانيها التفصيلية، مندمجة في معنى اسم " الله " مجملة، فكذلك حقائق مظاهرها، التي هي أجزاء العالم الكبير الآفاقية مجتمعة (محققة - ن) في مظهر اسم الله الذي هو " الإنسان الكامل " والعالم الصغير باعتبار، والكبير بل الأكبر باعتبار آخر - وهو اعتبار إحاطته العلمية، المنبعثة عن معدن علم الله بجميع الموجودات، ومبادئها، وأسبابها، وصورها، وغاياتها، كما أشار إليه أمير المؤمنين وإما العارفين ورئيس الموحدين (عليه السلام):
وأنت الكتاب المبين الذي
بآياته يظهر المضمر
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
فنقول في تبيين ما ذكرناه من المقدمات وتوضيح ما ادعيناه من الحكايات:
أما أن كل ممكن من الممكنات مظهر اسم خاص، فلأن المناسبة يجب أن تكون ثابتة بين المفيض والمفاض عليه، فتعدد الكمالات وكثرة صور المعلومات يدل على تحقق تلك المعاني الكلية (الكمالية - ن) والخيرات في أسبابها، وعللها على وجه أعلى وأتم، من غير لزوم تكثر وتجسم في علتها الأولى - كما ثبت في الحكمة المتعالية -.
وليس المراد من كل اسم من أسماء الله إلا ذاته تعالى مأخوذة مع صفة خاصة من الصفات الكمالية، أو السلبية، أو الإضافية، كالحي، والقادر، والقدوس، فذاته تعالى متصفة بجميع الصفات الحسنة الكمالية، ومنزهة عن جميع النقائص، والمثالب، والعيوب، وله الإضافة القيومية إلى كل ما سواه.
فبملاحظة اتصافها بما هو قبيل الأول منشأ الأسماء الجمالية اللطفية الثبوتية، وبملاحظة تقدسها عما هو به من قبيل الثاني منشأ الأسماء الجلالية القهرية السلبية، وبملاحظة إشراق نوره وشهوده وإفاضة جود وجوده على الموجودات منشأ الإضافية التعقلية، ولما وجب تحقق المناسبة بين المفيض والمفاض عليه، فكل ما كان أشد مناسبة كان أقرب في درجة المعلولية.
وكل فاعل حقيقي للممكنات فهو علة غائية أيضا - كما حقق في موضعه - فيجب أن يكون الصادر منه في سلسلة بحسب القرب والبعد النزولي، صاعدا إليه في سلسلة أخرى بحسب القرب والبعد الصعودي.
وهذا أمر ظاهر بحسب الاستقراء التام في كل جملة إمكانية، صادرة عن فاعل طباعي لأجل غاية ذاتية، وله بين تفصيلي يحتاج إلى استقصاء مباحث العلة والمعلول، وأحكام العلة الغائية، التي مرجعها إلى تحقق العلة الفاعلية على الوجه الأكمل الأتم، سواء كانت العلة الغائية متأخرة في الوجود عن العلة الفاعلية - كما فيما تحت الكون - أم تكونان ذاتا واحدة - كما فيما فوق الكون.
فإذا تقرر هذا فأشرف الموجودات الصادرة عنه تعالى في سلسلة الابتداء هو " العقل الأول " والممكن الأشرف، ثم الأشرف فالأشرف إلى الأخس فالأخس حتى انتهت نوبة الوجود إلى الأجسام - وهي مواد الصنائع الإلهية بمنزلة قطع الخشب للنجار - ثم يبتدئ منه الاستكمال بالصور، والارتقاء إلى غاية الكمال، فيتصور بصورة بعد صورة، وبهيئة بعد هيئة كالصور والهيئات المترادفة على الخشب، بفعل التشكيلات، والتخطيطات، المتواردة عليه من صنع النجار، فيتعاقب الصور على المواد بحسب تكامل الاستعداد، من الأخس فالأخس إلى الأشرف فالأشرف، والبراءة عن النقص والفتور، والتجرد عن الدثور والقصور، إلى العقل المستفاد المتصل بالعقل الفعال، وهو أعلى مرتبة الوجود في العالم الإمكاني؛ لكونه مشتملا على صور جميع الموجودات عقلية وحسية، من حيث ذاته، ونفسه، وجسمه، كما سنشير إليه.
فبالعقل المستفاد عاد الوجود إلى المبدإ الذي ابتدأ منه، وارتقى إلى ذروة الكمال بعد أن هبط منها
كما بدأنآ أول خلق نعيده
[الأنبياء:104].
وكما أن العقل الأول مشتمل على جميع ما صدر منه - من الخيرات، والوجودات والصور، والهيئات، بحسب الفطرة الأولى - فهكذا العقل الذي وقع بأزائه، بل يكون عينه بوجه - كما أدى إليه نظر الواغلين في الرياضة، والبرهان، والممعنين في التجرد والإيمان - مشتمل على جميع ذلك بحسب التحصيل والاكتساب للفطرة الثانية الوجودية، المطابقة للفطرة الأولى العلمية القضائية.
وهذا مفاد قول فاضل الفلاسفة أرسطاطاليس: " من أراد الحكمة فليستحدث لنفسه فطرة ثانية " فإن الحكمة عندهم هي التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية، وهي إنما تحصل بحصول العقل الفعال.
دقيقة إلهامية
وهاهنا دقيقة أخرى لا تقدر جماهير الفضلاء أن تدركها - فضلا عن غيرهم من أسراء الوهم والخيال - وهو أن العقل الفعال مع أنه فاعل متقدم على غيره من الممكنات، فهو بعينه ثمرة حاصلة من وجوداتها المترتبة في الاستكمال والارتقاء إلى الكمال، وهذا من أعجب العجائب مع أنه حق لا مرية فيه لهذا الفقير المنكسر البال، المشوش الحال.
إنارة تذكرية
إن أسماء الله تعالى مشتملة على جميع المعاني المنطقية والعينية، وجميع الحقائق الجوهرية والعرضية، وكما أنك إذا نظرت في حقائق الأشياء وجدت بعضها متبوعة مكتنفة بالعوارض، وبعضها تابعة، فنقول على المتبوعة إنها " الجواهر " وعلى التابعة إنها " الأعراض " فاعلم أن معنى " الجوهرية " باعتبار اشتراك الجواهر فيه واتحادها في عين جمعه مظهر للذات (الذات - ن) الإلهية من حيث قيوميتها، وتحققها بذاتها، وأن الأعراض حسب اختلافها واشتراكها في مفهوم العرضية العارضة لها مظاهر للصفات التابعة للذات، مع اشتراكها في كونها صفة تابعة لها من حيث المفهوم والمعنى، وإن كان الوجود واحدا للذات والصفات.
ثم كما أن حقيقة الجواهر لا تزال مكتنفة بالأعراض، فكذلك الذات الإلهية محتجبة عن غيره بالأسماء والصفات، وكما أن الجوهر مع انضمام صفة من الصفات، يصير جوهرا خاصا مظهرا لاسم خاص، فكذلك الذات الإلهية مع اعتبار صفة خاصة اسم خاص من الأسماء الكلية والجزئية.
وكما أن الصفات المخصصة للجواهر - كالفصول وغيرها - بعضها أعم وبعضها أخص كالفصول القريبة والبعيدة وتوابعها، حتى يصير الجوهر بتضمينها، أو انضمامها جنسا خاصا، أو نوعا، فكذلك من الصفات الإلهية ما هي أعم وأكثر حيطة، ومنها ما هي أخص وأقل حيطة، فيكون الاسم الحاصل من انضمام ما هي أعم، بمنزلة الجنس للاسم الحاصل من انضمام ما هي أخص، وهذا بمنزلة النوع، مثال ما هو بمنزلة الجنس لما هو بمنزلة النوع " العالم " بالقياس إلى " السميع " و " البصير ".
وكما أن من اجتماع الجواهر البسيطة يتولد جواهر أخر مركبة، كذلك يتولد من اجتماع الأسماء الكلية أسماء أخر.
وكما أن الجوهر قد يكون نوعا بسيطا في الخارج مركبا في العقل بحسب التحليل الذهني كالعقل والنفس وغيرهما - وقد يكون مركبا خارجيا من أجزاء معنوية وجودية - كالمادة والصورة - أو أجزاء متخالفة الطبائع - كالمركبات المعدنية، والنباتية، والحيوانية - فكذلك في أنواع الأسماء ما هو بسيط عيني ذا حد تفصيلي ك " الحي " فإن مفهومه مركب من " الدرك الفعال " وما هو مركب ك " الحي القيوم ".
وكما أن كليات الجواهر والأنواع منحصرة فكذلك كليات الأسماء منحصرة.
وكما أن أشخاص الجواهر غير متناهية، فكذلك فروع الأسماء غير متناهية، وكما أن الجملة مشتركة في طبيعة واحدة وجودية - لأن الوجود الممكن حقيقة واحدة وهي المسمى بالنفس الرحماني، والهيولى العقلية الكلية الحاملة لصور الجواهر العقلية والحسية وحقائقها - كذلك الأسماء الكلية تشملها ذات واحدة إلهية جامعة لجميع الأسماء على اختلاف معانيها.
ثم لما كانت التجليات الإلهية المظهرة للصفات المتكثرة بحكم:
كل يوم هو في شأن
[الرحمن:29]. غير متناهية - مع تناهي ضوابطها المتكررة الوقوع - صارت الأعراض متكثرة غير متناهية، وإن كانت الأمهات متناهية، وكما أن أمهات الأعراض منحصرة في تسع مقولات، كذلك في أمهات الصفات وكلياتها توجد معان تناسبها تلك المقولات.
فكل ما في الوجود دليل وآية على ما في الغيب ف " القيوم " مناسب للجوهر، و " القدوس " للأنواع المجردة منه، و " المصور " للصور الجوهرية، و " الأول والآخر " يناسب مقولة متى، و " الرافع والخافض " يناسب مقولة أين، و " المتقدم والمتأخر " لمقولة وضع، و " المحصي " للكم المنفصل، و " الكبير والعظيم والباسط " للكم المتصل، و " السميع والبصير " للكيف النفساني، و " العلي الأعلى " للإضافة، و " مالك الملك " للجدة، و " المبدع " للفعل، و " قابل التوب " للانفعال.
وعند الاستقصاء يظهر أن كل معنى من المعاني الموجودة في عالم الشهادة، يكون ظلا دالا على ما في غيب عالم الأسماء، ثم في غيب عالم القضاء الإلهي، - أعني القلم العقلي - ثم في عالم القدر النفساني- أعني لوح العلوم القضائية، المسمى ب " ام الكتاب " - ثم في عالم الألواح السماوية، ونفوسها الانطباعية، الخيالية، المسمى ب " كتاب المحو والإثبات " و " الدفتين الزمردتين ". لقوله تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب
[الرعد:39].
هداية
قد انكشف لك، ودريت مما سرد عليك أن هذه العوالم كلها كتب إلهية، وصحائف رحمانية، لإحاطتها بصورة الحقائق والمعاني، واشتمالها على الأرقام والخطوط الدالة على المحامد السبحانية، والأثنية الربانية، يتلوها القارئ العارف، بقوة فكره، وصفاء سره، وسلامة طبعه عن كدورات هذه التعلقات، وتجرد ذهنه، وجلاء عنيه عن علوق هذه الغشاوات، فيطالع ما فيها، ويتدبر في معانيها، ويرتقي من بعضها إلى بعض، حتى يصل إلى منشئها، وراقمها، وممليها، وناظمها، قائلا:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير
[الإسراء:1].
كلمة جامعة
الإنسان الكامل كتاب جامع لآيات ربه القدوس، وسجل مطوي فيه حقائق العقول والنفوس، وكلمة كاملة مملوءة من فنون العلم والشجون، ونسخة مكتوبة من مثال " كن فيكون " ، بل أمر وارد من " الكاف والنون " لكونه مظهر اسم الله الأعظم الجامع لجميع الأسماء.
فمن حيث روحه وعقله، قلم مقدس مسمى ب " أم الكتاب " ، لكونه مشتملا على معظم الحقائق العقلية الكلية على الوجه المقدس العقلي، ومن حيث قلبه الحقيقي - أعني نفسه الناطقة - " كتاب اللواح المحفوظ " لكونه نقوشه محفوظة أبدا بحفظ قلم الكاتب لهذه الأرقام، الفعال للمعقولات التفصيلية في لوح قلبه، ومن حيث نفسه الحيوانية الممثلة للصورة المثالية " كتاب المحو والإثبات ".
ومن حيث طبعه الجسماني القائم باللطيفة البخارية، المشابه لجرم السماء، القابل لأنوار الحواس والضياء " دفتر جسماني " و " سجل هيولاني ".
والغرض في إيجاده وتكوينه لمجرد المشق والحساب، كالتخت والتراب، لفائدة التمرن لطفل النفس قبل أن يبلغ مقام الرجال، مثل لوح الأطفال، ولهذا يمحو ما فيه وينطوي سريعا، لكونه من جنس كتاب الفجار، الملقى في النار، وأما ما سواه من الكتب الأربعة الأصول، فهي كلها صحف مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة، باقية إلى يوم الدين، ولا يمسها إلا المطهرون، من الحجب الجسمانية، لكونها في عليين
ومآ أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون
[المطففين:19 - 21].
وهذا الكتاب الأخير المحاذي لصورة السماء، محترقة أوراقها بنار الطبيعة، كما أن سجل دورات السماء مطوية يوم القيامة، لقوله تعالى:
يوم نطوي السمآء كطي السجل للكتب
[الأنبياء:104]. ولكن بمقتضى
كما بدأنآ أول خلق نعيده
[الأنبياء:104] يعاد مثله يوم القيامة ويحشر، وهو البدن الأخروي، المنبعث من هذا البدن الداثر الدنيوي، المقبور بعد الموت، ويبقى كتابه يوم القيامة، وهو الكتاب الذي أشير إليه بقوله:
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء:14].
وهو الكتاب المنقسم إلى كتاب الفجار - الذي يلقى في النار - وإلى كتاب الأبرار، الذي يأتي آمنا يوم القيامة لقوله:
أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة
[فصلت:40]. وهما المشار إليهما بقوله تعالى:
إن كتاب الفجار لفي سجين
[المطففين:7]. وقوله:
إن كتاب الأبرار لفي عليين
[المطففين:18].
نور جمعي ومظهر جامع إلهي
قد وقعت الإشارة إلى أن الإنسان الكامل كلمة جامعة، وأنموذج مشتمل على ما في الكتب الإلهية، التي كلها أنوار مكتوبة بيد الرحمن، منقوشة على صحائف الأكوان، مستورة عن أعين العميان، كما أن الروح الأعظم جامع لجميع ما في العالم الكبير، لكونه مبدأ الكل، وصورة الكل، وغاية الكل، وبذر العقول والنفوس، وثمرة شجرة الأفلاك، وما فيها من أنوار المعقول والمحسوس.
فالآن نريد أن نشرح لك مراتب العالم الإنساني وأسماءه، ونبين أن الروح الإنساني، والعقل الأخير الرباني، في درجة القرب عند الله في عالم العود، والصمود، مماثل للروح الأعظم، والعقل الأول القرآني في عالم البدو والنزول، وسلطانه يوم القيامة ويوم العمل كسلطان الروح الأعظم يوم الأزل، لاشتمال كل منهما على جميع المراتب الموجودية.
بل العقل الأول والروح الأخير - وهو الحقيقة المحمدية - ذات واحدة ظهرات مرتين، مرة في الإدبار إلى الخلق لتكميل الخلائق، ومرة في الإقبال إلى الحق تعالى، لشفاعتهم، لقوله (صلى الله عليه وآله):
" أول ما خلق الله نوري "
وقوله:
" " أول ما خلق الله العقل، قال له: " أقبل " فأقبل، ثم قال له: " أدبر " فأدبر، قال: " فبعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعظم منك، بك أعطي وبك آخذ، وبك أثيب، وبك أعاقب "
ورواه الشيخ الجليل أمين الإسلام، ثقة المحدثين محمد بن يعقوب الكليني في أول كتاب العقل من كتب الكافي، وهو حديث متفق على صحته الجميع.
فكما أن الروح الأعظم مشتمل على جميع الممكنات علما وعينا، فكذا هذا الإنسان الكامل وخليفة الله في السماوات والأرض.
أما اشتمال الروح الأعظم عليها علما: فلما مر من أنه قلم الحق الأول، الناقش لصور الحقائق على وجه مقدس عن الكثرة والتفصيل، ثم الكاتب لأرقام الأسرار على ألواح الأقدار، ولأن اللوح المحفوظ بما فيه من الأرقام والنقوش صادر عنه، وحاضر لديه، فهو مطالع لما فيه - مطالعة العقل للأفكار الناشئة منه، المرتسمة في لوح النفس، ثم في لوح الخيال والحس.
وكذلك حكم سائر المشاعر الكلية، والمدارك الفلكية، الأرواح القدرية، بما فيها من الأرقام المثالية، والنفوس الجزئية الخيالية، الحاصلة في النفوس المنطبعة السماوية، وكذا الصور الأرضية، المنقوشة على الألواح الهيولية إذ كلها صادرة منه بإذن ربه، حاضرة عنده، يشاهدها بنور ربه، الذي ينور به السماوات والأرض.
وأيضا كل واحد من الجواهر العقلية والنفسية، والصور السماوية الحسية، والأنوار القمرية والشمسية عيون ناظرة، ومدارك ساطعة، ومرائي مجلوة، يدرك بها الأشياء، وينال بها ما في عالم الأرض والسماء.
وأما اشتماله عليها عينا: فلأن ذاته صورة الكل، كما أنه فاعلها وغايتها. والصورة في كل حقيقة تركيبية وماهية نوعية هي تمام تلك الماهية، أو لا ترى أن " السرير " سرير بهيئته المخصوصة، لا بمادته الخشبية الإبهامية، والحيوان بنفسه وحسه حيوان لا ببدنه وجسمه، وكذا العلة الفاعلية تمام حقيقة المعلول، إذ المعلول رشح وفيض من وجوده، وهو من العلة كالشعاع من الشمس، والحرارة من النار، والنداوة من البحر، كما أوضحة الإلهيون في علومهم الربانية، وأما الغاية فهو تمام الفاعل بما هو فاعل وكماله.
وأما اشتمال الروح العقلي للإنسان الكامل على جميع الممكنات، فلأنه كتاب مبين مشتمل على أنموذجات العوالم، وحصصها، وجزئياتها، وأفرادها، وذلك قبل اتصاله بالملإ الأعلى، والروح الأعظم، وأما عند الوصول، فلا فرق بينه وبين قلم الحق الأول في اشتماله على الكل.
حكمة إلهية في كلمة آدمية
إن من عجائب صنع الله وبدائع فطرته خلقة الإنسان الذي فطره الله عالما، مضاهيا للعالم الرباني، وأنشأه الله نشأة جامعة لجميع ما في سائر العوالم والنشآت، بل ذاتا موصوفة بجميع نظائر ما وصف به ذاته الإلهية، من النعوت الجمالية والجلالية، والأفعال والآثار، والعوالم والنشآت، والخلائق، والقلم، واللوح، والقضاء والقدر، والملائكة والأفلاك، والعناصر والمركبات، والجنة والنار، والرضوان والمالك.
وبالجملة أبدع الإنسان الكامل مثالا له تعالى ذاتا ووصفا وفعلا، ومعرفة هذه الفطرة البديعة، والنظم اللطيف، والعلم بهذه الحكمة الأنيقة، والأسرار المكنونة فيها، سر عظيم من معرفة الله، بل لا يمكن معرفته تعالى إلا بمعرفة الإنسان الكامل، وهو باب الله الأعظم والعروة الوثقى، والحبل المتين الذي به يرتقي إلى العالم الأعلى، والصراط المستقيم، إلى الله العليم الحكيم والكتاب الكريم الوارد من الرحمن الرحيم، فيجب على كل أحد معرفة ما في هذا الكتاب المكنون، وفهم هذا السر المخزون.
وهذا معنى وجوب معرفة النبي، ومعرفة الإمام (عليهم السلام) " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " لأن حياة الإنسان في النشأة الدائمة، إنما هي بمعارف الحكمة الإلهية، والإنسان الكامل تنطوي فيه الحكمة كلها، وهو مفاد قوله (صلى الله عليه وآله):
" من أطاعني فقد أطاع الله "
وقوله أيضا:
" من عرف نفسه فقد عرف ربه ".
والمراد به نفس النبي تحقيقا لقوله تعالى:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
[الأحزاب:6]. وذلك لأن الحقيقة النبوية، بنور هدايتها كملت نفوس المؤمنين، ونور عقول الآدميين، وأخرجهم من القوة إلى الفعل، وأفاض عليهم العلم النوري، وأفادهم الوجود الأخروي، فتكون ذاته علة لتحقق الحكمة والإيمان فيهم، ومحصل ذواتهم بحسب الوجود البقائي، والثبوت السرمدي، والعلة الفاعلية للشيء، أولى به من نفسه، لأن الشيء مع نفسه بالإمكان، ومع علته ومكمله بالوجوب، والوجوب والكمال أولى بالشيء من الإمكان والنقصان.
فافهم وتأمل في ما أفدناك، من معنى وجوب اتباع النبي والإمام، وكونهما مقومين لذات المؤمن بما هو مؤمن، فإنه يتيمة الوقت، لا تجده في غير هذا المقام، والله الهادي إلى دار السلام.
مرآة آدمية فيها آيات ربانية وأنوار رحمانية
ولنذكر أنموذجا من كتاب الحكمة الإلهية، ولبابا من المعاني القرآنية المسطورة في هذه النسخة الآدمية، المكتوبة بخط معجز إلهي، وهو الكتاب المبين، واللوح المنقوش بنقوش كرام الكاتبين، ليكون دستورا لك في دراسة هذا الكتاب، الذي نالك الحق الأول فهم مقاصده، وهذا المزبور المسطور المهدى إليك من جانب الرب الغفور، وفيه تحقيق المسائل الإلهية، وتبيين المعارف الربوبية المستنبطة من أرقامه ومبانيه، فنقول:
إعلم أن الإنسان الكلي بحسب أصل ذاته التي بها هو هو موجود، بل وجوده قائم بنفسه، مجرد عن الزمان والمكان، مقدس عن الحلول والإشارة الحسية والانقسام، نور من أنوار الله المعنوية، وسر من أسراره العقلية، ووجه من وجوه قدرته، وآية من آيات حكمته، وعين من عيون إلهيته، وكلمة من كلمات علمه وإرادته، وهذه الصفات الذاتية له كلها مأخوذة من الصفات الذاتية الإلهية، والنعوت الجلالية الكبريائية، وقد ظهرت في عبد من عباده.
وأما بحسب أحواله وصفاته اللازمة والعارضة، فهو عالم، قادر مريد، سميع بصير حي متكلم - إلى غير ذلك من الأوصاف - وهذه كلها تضاهي صفات الله الجلالية (الكمالية - ن) والجمالية، لأنها كلها من كمال الموجود بما هو موجود، فإذا وجد في المعلول، فلا بد وأن يوجد في العلة المفيضة على وجه أعلى وأشرف.
وأما بحسب أفعاله: فأفعاله كأفعال الباري جل ذكره، وكما أن أفعاله تعالى منقسمة إلى ما يدخل فيه الزمان، والمكان، والحركات، والمواد - وهي المسماة بالكائنات - وإلى ما يدخل فيه الأمكنة والمواد، دون الأزمنة والحركات - وهي الاختراعيات - وإلى ما يرتفع عنهما بالكلية - وهي المسماة بالابداعيات - فكذلك الفعل الصارد عن جوهر ذات الإنسان، بعضه يشبه الابداع - وهو ما لا يفتقر فيه إلى آله وحركة، كإدراكه المعارف الحقيقية والأحكام الحقة اليقينية، وكإيمانه بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وإذعانه ليوم الآخرة، ورجوع الخلائق إلى الخالق وذلك عند صيرورته عقلا مستفادا عقيب تكرار الإدراكات وتكثر المشاهدات، حتى صار مستغنيا في إحضار مخزوناته، وإفادة معقولاته عن الآلات، والحركات الفكرية، بل كلما توجه إلى معقول حضر ذلك المعقول عنده ممثلا (ماثلا - ن) بين يدي ذاته المجردة.
وبعضه يشبه الاختراع كالحال عند تمثل الصور له في الخيال، فإن إفادة العقليات تشبه الإبداع، والخياليات تشبه الاختراع، وكذلك أفاعيله الطباعية، الواقعة منه في البدن من غير فكر وروية كحفظ المزاج، وجذب الغذاء، ودفعه، وتصوير الأعضاء وتشكيلها، بإذن الله وكلمته وتأييد من عند الله بجنود لم تروها.
وبعضه يشبه التكوين وهو أفعاله الظاهر الحاصلة بإرادته، وقصده، وحركته، كالكتابة، والأكل، والشرب، وسائر أفعاله البدنية، والنفسية، التي فيها مصلحة أعضائه، وقواه، وجنوده الظاهرة، بحسب معاشه ودنياه، بحيث يؤدي أولاه إلى إصلاح معاده، وأخراه يستعد بذلك للسعادة القصوى.
وأما من حيث مملكته، وعماله، وإجراء أوامره في عباده وبلاده، فعالمه الصغير، أعني بدنه وما يرتبط به، يضاهي مجموع العالم الكبير، أعني السماوات والأرض، وما يتعلق بهما، وأمره في أفراد عالمه يضاهي أمر الحق في أفراد العالم، فكما أن لأفعال الله سبحانه من لدن صدورها من مكامن غيبها إلى مظاهر شهادتها أربع مراتب - وهي العناية، والقضاء، واللوح، والقدر الخارجي - كما أشرنا إليه فكذلك لأفعال خليفة الله وصدورها أربع مراتب.
لأن كلما يصدر عنه فقد وجد أولا في مكمن سره الذي هو غيب غيوبه، وعقله الإجمالي، وكتابه القرآني، ثم ينزل إلى حيز قلبه الباطني، ونفسه الناطقة، عند استحضاره بالفكر، وإخطاره بالبال، كإحضار التصورات الكلية، والقضايا الكلية، أو كبريات القياس بمدد بعض ملائكة الله العلوية، عند الطلب للأمر الجزئي، وتحصيله خارجا، وإحضاره من حد العلم إلى حد العين، فينبعث عنه العزم على الفعل.
ثم ينزل على مخزن خياله متشخصة جزئية، وهو موطن التصورات الجزئية وصغريات القياس، بيد بعض الملائكة المدبرة السفلية، ليحصل بانضمامها إلى تلك الكبريات رأي جزئي ينبعث عنه القصد الجازم للفعل، ثم تتحرك أعضاؤه عند إرادة إظهارها بيد بعض جنود الله المحركة، فيظهر ذلك الفعل المقدر على وفق الإرادة التابعة للتصور والتفكر.
فالفعل (فالعقل - فالتعقل - ن) الأول بمنزلة العناية والقضاء الإجمالي، - ومحله وهو الروح العقلاني بمثابة القلم - والصورة الثانية بمنزلة نقش اللوح المحفوظ، والثالثة بمثابة الصورة في السماء، فإن الروح الدماغي بمنزلة السماء، وجوهر الدماغ ومخه بمنزلة هيولاها، والقوة الخيالية بمثابة نفس الفلك المنطبعة، والصور الخيالية بمنزلة صور الأشياء في عالم السماء قبل وجودها في المواد الخارجية، والرابعة بمثابة الصور الحادثة في المواد الخارجية العنصرية.
وعند ذلك تحرك الأعضاء بمنزلة حركة السماء، ووجود الكتابة وغيرها من الإنسان في مادة خارجية عنه، موضوعة لفعله، وصناعته بمنزلة وجود الأكوان الخارجية في المواد العنصرية، وسلطان العقل الإنساني في الدماغ كسلطان الروح الأعظم في العرش، وظهور قلبه الحقيقي الذي هو نفسه الناطقة في القلب الصنوبري، كظهور النفس الكلية الفلكية في الشمس التي هي مثال نور الله تعالى في عالم الأجرام، لأنها نور السماوات والأرض في عالمنا.
فيكون على هذا نور الشمس بمنزلة " المصباح " و " زيتها " صورتها النوعية التي تكاد تضيء ولو لم تمسسه نار النفس المجردة الشمسية، والفلك كالزجاجة والهيولى كالمشكاة، والقوة الطبيعية السارية في العالم الجسماني هي الشجرة المباركة، وهي ليست من شرق الجواهر العقلية، ولا من غرب الأبعاد المادية " يكاد زيتها يضيء " وينور الأنوار الجسمية " وإن لم تمسسه " نار النفس الكلية المقومة لها، لكونها خليفة النفس في عالم الطبائع، كما أن النفوس والعقول خلفاء الله في عالم الأرواح، و " نور على نور " هو النور الحسي من الشمس، المنضم إلى نور نفسه المجردة، أو نورها النفسي المقوم لنورها الحسي العالمي عليه.
فعلى هذا التأويل يكون النور الحسي للجرم الشمسي مثالا للنور الواجبي، الذي هو بمثابة شمس الأنوار العقلية، وأما في سائر التأويلات الحقيقية التي ذكرناها، فهي بمعزل عن أن يكون نورها الحسي معدودا من نور السماوات والأرض، بل يكون معدودا من جملة الضلال، والرماد، والمداد لكلمات الله المكتوبة من القلم العقلي، على الألواح النفسانية، أو الأقدار الخارجية، كما ورد في النظم الفارسي:
دوده كندم دبير أنجم
از دود جراغ جرخ جارم
إشراقات وإشارات
قد انكشف لك مما فتحنا على قلبك بإذن الله أبوابه، وقرأنا عليك من كتاب الحكمة لبابه، أسرار لطيفة في مسائل معرفة الله، وآيات عظيمة من صحائف ملكوته، وبدائع فطرته وجوده، ونتائج رحمته، وأشعة شمس وجوده، ولو أخذت الفطانة بيدك عند ملاحظة مملكة الآدمي، ونفوذ أمره في قواه وآلاته، وإحاطة علمه بما هو في عالمه وطبقات مومجوداته، وسراية نوره في صوره العلمية، ونقوشه الإدراكية الحاصلة في مرآة ذاته، ثم المرتسمة في ألواح تصوراته التي هي بمنزلة عالم سماواته، ثم الحالة في محال جرمياته ومادياته، التي هي بمنزلة عالم أرضه وكائناته، لرأيت بعين هذا الإشراق، أن هويته الروحية هي مظهر الهوية الغيبية اللاهوتية، وأن هويته النفسية هي مظهر إسم الله، ومثال نوره النافذ في سمائه وأرضه، فتحققت بمعنى آية النور على أحكم طريق وأتقنه، وعلمت علما شهوديا نوريا، وإشراقا كشفيا حضوريا، أن الله نور السماوات والأرض.
فإن جميع ما يوجد في مملكة الآدمي وعالمه، إنما وجودها وظهورها بنور هويته المستورة عن الخلق لغاية ظهور آثارها، وكثرة أفاعيلها وأنوارها، فصارت أفعالها وآثارها حجبا للخق عن رؤية ذاتها، ومشاهدة جمالها وجلالها، كما أن ظهور العالم الكبير ومظاهر أسمائه تعالى، حجب الخلق عن مشاهدة الرب تعالى وجماله وجلاله، وبه أشرقت الأرض والسماء، وهو النور الذي ظهرت به مظاهر الأسماء.
وكما أن بذاتك النيرة العقلية، حصلت وانكشفت وتنورت الصور الإدراكية، العقلية، والنفسية، والخيالية، والحسية في مراتب مداركك القضائية، والقدرية، واللوحية، والقلمية، فبذات القيوم الإلهي تقوم وتنور كل ما في العوالم والنشآت، والألواح والأقدار، والأراضي والسماوات تقوما ظهوريا شهوديا، وتنورا تحصليا وجوديا.
فاشكر ربك سبحانه في إعطائه لك مفتاحا لخزائن الرحمة والجود،
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام:59]. - الآية - بل كنزا مخفيا يحصل منه كل بغية ومقصود
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات:21] ودرا ثمينا يسهل به الوصول إلى كل موجود، ومرقاة للصعود إلى معارج الحق المعبود
وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53].
فما من مطلب إلا ويوجد فيه، وما من بغية إلا ويتيسر منه حصوله لمتأمليه، فهو الطلسم الأعظم، والترياق الدافع للسم، والفاروق الأكبر، وباب حكمة الله الأنور، والكتاب المبين، والسر المكتوم، والنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، ومعنى حرفي الكاف والنون، والقرآن المبين، والعروة الوثقى، والحبل المتين، مطردة الشياطين، وليلة القدر، والاسم الأعظم، ويوم الجمعة والمسجد الأقصى، والكعبة والحرم، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، والرق المنشور إلى غير لك من أسمائه وصفاته التي لا تعد ولا تحصى.
حكمة محمدية
إعلم أيها السالك، وتدبر، وتفكر، وانظر، ما سطر في هذا المسطور، ونور بصرك بسواد أرقام هذا المزبور، وتيقن أن الصراط المستقيم، والسبيل إلى الله الكريم ليس في الأرض ولا في السماء، ولا في البر ولا في البحر، ولا في الدنيا ولا في الآخرة، بل في ذات السالك الذاهب منه فيه إلى ربه
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108].
دواؤك فيك ولا تشعر
وداؤك منك ولا تبصر
وهو قلم الحق الأول، المعلم للإنسان ما لم يعلم
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء:113]. - الآية وهو لوح الله المأخوذ بيد الأنبياء والأوصياء، لقوله تعالى:
أخذ الألواح وفي نسختها هدى
[الأعراف:154].
ومآ آتاكم الرسول فخذوه
[الحشر:7]. وهو القرآن المبين وحبل الله المتين، فإن القرآن خلق الإنسان الكامل، كما
" وري عن بعض أزواجه (صلى الله عليه وآله)، أنها قالت حين سئلت عن خلقه (صلى الله عليه وآله): " كان خلقه القرآن " ".
وكل ما في الأرض والسماء فهو في هذا المسمى بجيمع الأسماء، لأنه كتاب مبين، لا رطب، ولا يابس، إلا فيه، ففيه النعيم ولذاته، ومنه الجحيم وآفاته، فيك الموت والحياة، ولك الثواب والعقاب، وفيك روضة من رياض الجنان، وفيك حفرة من حفرة النيران، كما قال في المثنوي:
درونى بود روضهء از بهشت
درونى بود حفرهء از كنشت
بود سنيهء كش عمارت كنند
بهر دم عزيزان زيارت كنند
دكر سينهء همجو قبر يهود
بر از لعنت ووحشت وجرك ودود
بر از فحش ووسواس وحرص ودروغ
نكيرد زانوار حكمت فروغ
يكى لوحى از مكتب علم غيب
يكى نامهء بر زوسواس وريب
بر اين ينسخه مكتوب حقه شد رقم
بر آن دست ابليس درزد قلم
اللهم إني أعوذ بك من القبر، ومنشأ عذاب القبر، وباعثه هي البشرية التي كلها عذاب، فما لم يتخلص منها لم يتخلص من عذاب القبر،
وأنيبوا إلى ربكم
[الزمر:54].
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
[آل عمران:133]. - الآية - وسئل بعض الأكابر عن عذاب القبر فقال: " القبر كله عذاب ".
واعلم أن أول درجة من درجات السير إلى الله هو الخروج من مضيق العالم وقبر البشرية، وغبار الهيآت النفسانية، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي فلينظر إلي "
وأول ما ينكشف عليه من أحوال الآخرة، ويخبر بها منها هو أحوال الموتى، وكشف القبور، وتحصل ما في الصدور، وما يتمثل للميت فيه من الحيات والعقارب، والكلاب، والمؤذيات، والمعذبات، وسؤال المنكر والنكير.
وهذا أيضا مما صعب دركه على أكثر أرباب الدقة والبحث، والعقول الفلسفية، والطباعية، والدهرية، ولا يمكنهم الإيمان به، لكونه فوق أطوار عقولهم، فلم يقنعوا كسائر الناس بالتقليد المحض فيه، لاعتيادهم بعدم الإذعان بشيء إلا من جهة الدليل، وليس للدليل إلى الأمور الشهودية والكشفية سبيل، فأخذوا في التعجب قائلين: " كيف يجوز أن يسأل الإنسان ويخاطب في قبره، وينزل عليه ملكان يشهدهما الإنسان ويخاطبهما ويسمع كلامهما، ولم يرهما غير الميت، ولم يسمع شيء منهما؟! " وفي هذا المقام سر عظيم لا يجوز التصريح به إلا لمن ماتت رغبته في الدنيا، وخرجت روحه عن هذه المقبرة السوداء.
والغرض أن الإنسان الكامل جامع جميع ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض، والسماء والأرض والنجوم، والملك والجن والحيوان، والجنة والنار والكتاب، والصراط والميزان وغيرها، فهو خليفة الله في الأرض والسماء، فله جوهر ذاته، وأعراض صفاته، وسماء رأسه، ونجوم حواسه، وشمس قلبه، وأرض بدنه، وجبال عظامه، وطيور قواه الإدراكية، ووحوش قواه التحريكية، بل كل ما أوجده الله تعالى في عالمي الملك والملكوت، فهو مأمور بطاعة الإنسان الكامل، وسجوده، لأنه خليفة الرب تعالى، ومظهر جميع الأسماء لقوله:
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض
[الجاثية:13]. وقوله:
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
[لقمان:20]. فجميع ذرات الكونين يسبح له كما يسبح لله تعالى، وقد ورد في الحديث:
" إن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر ".
فجملة أهل الملكوت والملك، وملائكة الله كلهم أجمعين، مأمورة من الله لقوله:
اسجدوا لآدم
[البقرة:34]. بطاعة هذا النائب الرباني، والسر السبحاني، وله خلافتان: خلافة صغرى، وخلافة كبرى، فالله تعالى لما أراد بقدرته التامة، وحكمته الكاملة، أن يجعل خليفة من قبله في أرض الخلائق، ونائبا مبعوثا من حضرته في إنشاء الحقائق، وإفشاء المعاني، وبث الخيرات على القاصي والداني، سخر له ما في الأرض جميعا، ليجمع له أسباب السلطنة الصغرى الظاهرة وقد قيل: " السلطان ظل الله في الأرضين ".
وسخر له ما في السماء ليجمع له أسباب السلطنة العظمى، فبنى له سريرا جسمانيا في بيت معمور القلب، في مملكة البدن وعالم القالب، ثم أمر الملائكة السفلية بطاعته وانقياده، بقوله:
اسجدوا لآدم
[البقرة:34] فسجد تحت قدمه كل ما في أرض البدن وجبال العظام، ومياه الفم والعين والأذن، وأقاليم الأعضاء السبعة الظاهرة - وهي اليدان، والرجلان، والظهر، والبطن، والرأس - ونجوم الحواس، وجحيم المعدة، وزبانية القوى الطبيعية، وعرش القلب، وكرسي الصدر، وسماوات الدماغ المشحونة بالإلهامات العقلية، والمعاني الفكرية، من جهة اللطيفة النورية، وهي بمثابة الملإ الأعلى لهذا الخليفة والملأ الأسفل بمنزلة الشياطين وأعداء الله، والنفس الخارجة من باطنه بمنزلة الهيولى القابلة لبسائط الصور ومركباتها، والحروف الهجائية بمنزلة الصور النوعية البسيطة الفلكية والعنصرية، والكلمات الثلاث - وهي: الاسم، والفعل، والحرف - بمنزلة المواليد الثلاثة: الجماد، والنبات، والحيوان.
فإذا تمت له الخلافة الصغرى، أيده الله تعالى بجنود لم تروها لأجل الخلافة العظمى، وسخر له بهذه الجنود الروحانية جميع عالم الملك والملكوت، لقوله تعالى:
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض
[الجاثية:13]. ثم أمر بطاعة هذا النائب الرباني، والسجود لهذا الخليفة الإلهي جميع ملائكة الكونين، فسد له الملائكة كلهم أجمعون، فتم له الخلق والأمر نيابة عنه تعالى { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف:54].
فتبارك الله أحسن الخالقين
[المؤمنون:14].
بسط كلام لتوضيح مقام
هذا الباب الرباني، والعبد المقرب السبحاني، والخليفة لله تعالى، والمرآة لصورة الأشياء، إنما فاق على الكونين بشيئين: العلم التام بحقائق الأشياء، والقدرة الكاملة على ما يشاء.
أما العلم: فعلمه منقسم إلى علم الظاهر وعلم الباطن:
فبعلمه الظهر يحيط بما يحتاج إليه في خلافته الظاهرة - من كيفية استنباط الصنائع، واستخدام الطبائع، ومعرفة تسخير الحيوانات، واصطياد الوحوش، والطيور، من الأرض والهواء، واستخراج الحيتان بقوة التدبير من قعور البحار، فينزل الطير بدقة الفكر، وإصابة الرأي من أعلى الجو، ويصطاد الوحوش بكثرة الحيل من قلة الطود والجبل، ويستنبط بفرط الذكاء ودقة الفهم، مقادير الأفلاك وأبعادها، ويعلم بمعرفة المساحة، وقوة السباحة بروج السماء، وتقاويم النجوم، ومقادير حركاتها وجهاتها، وأقاليم الأرض، ومقادير الجبال، ويحكم بخسوف القمر، وكسوف الشمس في أوقات معينة، وآنات معلومة، ويضع علوما كعلوم الآداب، والشرائع، والأخلاق، وعلم السياسة، والحكومة، والنجوم والطب، واللغة والشعر، والأخلاق، وعلم السياسة، والحكومة، والنجوم، والطب، واللغة والشعر، والحساب والموسيقى، والفال والزجر، والشعبذة والقيافة والحيل، وجر الأثقال، وإخراج القنوات، ومعرفة الجواهر والمعدنيات، وعلم الأدوية والنباتات المفردة والمركبة، وكيفية دفع السموم والأمراض، وعلم الدهقنة والفلاحة، وسائر علوم الصناعات.
وأما علم الباطن فهو معرفة الروحانيات، ومكاشفة الملائكة العلويات، والإحاطة بجواهر العقليات، والمثل الأفلاطونيات، والاطلاع على المبادئ الأول، وما هو أول الأوائل، والغايات الأخر، وما هو غاية الغايات وبالجملة العلم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإحاطة بصورة الوجود كله وبه يصير الإنسان، بحيث كأنه أحد سكان الصقع الربوبي، وموضوع العالم العقلي.
وأما القدرة فتمامها إنما يظهر في النشأة الثانية، وهناك ينتج ما يكتسب هاهنا و
فيها ما تشتهي أنفسكم
[فصلت:31]. وعند ذلك يشاهد انقياد الملائكة، وطاعتهم للإنسان الكامل طاعة لله، كما في قوله تعالى:
اسجدوا لآدم
[البقرة:34] وفيها يتحقق خلافته لله بالحقيقة، وسر قوله تعالى:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[الحجر:29].
أساس حكمي تبتني عليه أصول عرفانية
إن للحقائق المتأصلة عوالم ونشآت ومظاهر وتمثلات، وجميعها مما يوجد في المسجد الجامع الإنساني، وهو صومعة أهل الذكر والتسبيح، ومعبد الخلائق كلهم، فمنها الجنة، فإن حسن خلقه الواسع جنة عرضها كعرض السماء والأرض، وسوء خلقه الضيق جحيمه، وأعماله الحسنة هي الصور الجنانية، من الأنهار والحور والقصور، وأعماله القبيحة صورة النيران والحيات والمؤذيات، والحميم والزقوم.
وهذه الصفات والملكات الجملية والرذيلة، والأعمال والآثار الحسنة والقبيحة، إنما هي أصل ما يشاهده الإنسان في الآخرة، وبذر ما يوجد ويتحقق في العقبى، وجودا وتحققا، أتم وأثبت من وجود هذه الصور المادية الدنيوية فيتنعم بها السعداء، ويتعذب بأضدادها الأشقياء، ولأهل الجنة اقتدار على إحضار ما يشتهون، واستحصال ما يذوقون، لهم فيها ما يدعون، نزلا من غفور رحيم، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، حتى إن أدنى أهل الجنان، وأبلههم يأكل في لحظة مقدار ما يأكل جملة أهل الدنيا من غير ملال وكلال، ويوجد لهم في لقمة واحدة لذات سبعين طعاما من أطعمة الدنيا وحلاواتها.
وهذه جنة العموم - حتى البله وغيرهم - وأما جنة المحبين لله فهي ما عبر عنها بقوله تعالى:
فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
[الفجر:30] وقوله: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ".
والحاصل ان هذه الدرجات الجنانية العالية، ومقابلها من الدركات الجحيمية النازلة، حاضرة مع هذا الإنسان في الدنيا، والخلق غافلون عنهما إلا من أيده الله بالكشف التام، فيرى معهم وفي إهابهم ما لا ترى أنفسهم
أولئك ينادون من مكان بعيد
[فصلت:44].
وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين
[الشعراء:90 - 91].
وما هم عنها بغآئبين
[الانفطار:16].
واعلم أن الحق تعالى إله واحد، ورازق واحد، وباسط واحد. ينزل منه فيض واحد، ينبسط على الكل بقدر واحد من جانبه، لكن يختلف باختلاف الأذواق والمشارب، قوله تعالى:
فأنزلنا من السمآء
[الحجر:22]. وقوله:
يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل
[الرعد:4]. فمنه عذب فرات، لصفاء المحل وسلامة القلب، ومنه ملح أجاج، لكدورة المحل، بسبب المعاصي والآثام.
والاسم الجامع للجنة والنار، العام لجيمع مراتبهما الموجود في العالم الكبير والصغير وما فوقهما هو " الوصال للمحبوب " و " الفراق عنه " فجنة السعداء في الحقيقة هي وصولهم إلى ما يشتهون ويحبون
وفيها ما تشتهيه الأنفس
[الزخرف:71]. وجحيم الأشقياء هي فراقهم عن مشتهيات الدنيا ولذاتها الباطلة
وحيل بينهم وبين ما يشتهون
[سبأ54]. وأما جنة المقربين فمشاهدة معبودهم، ومقابلها وهو الاحتجاب جحيم المبعدين
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين:15].
قال بعض المحبين: " العشق هو الطريق، ورؤية المعشوق هي الجنة، والفراق هو النار، نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ".
واعلم أن مذهب العشاق وطريقهم غير مذاهب الناس وطرائقهم، وحركة العشاق وسعيهم غير حركات الناس ومساعيهم، فاعلا وغاية، حيث أن محرك العاشقين جذبة الحق التي توازي عمل الثقلين. وغاية سعيهم وسفرهم ومنتهى حركاتهم لقاء الله تعالى، وجحيمهم هو الاحتجاب عنه " الجار ثم الدار " وإنما يريدون الجنة ما قرب إليها من قول وعمل. لما فيها ظلال وجهه، وأشعة نور جماله.
ومما ينبه على هذا الدعوى أن رؤية الشمس شيء ورؤية شعاعها شيء آخر، إلا أن الشمس لا تعرف ولا يهتدى إليها إلا بالشعاع، وهذا مثال إرادة العارف للأشياء، وطاعته لمن سواه، وهاهنا مثال آخر، أوضح من هذا عند أصحاب الفكر والخيال: إن رؤية القمر في الماء شيء، ومعاينة وجه القمر ليلة البدر شيء آخر ، فمن رأى وجه القمر في الماء فقد رآه إلا أنه رآه مع حجاب من وهمه، وهكذا قلب العارف كالمرآة التي يتراءى فيها سر الله، كما قال بعضهم: " مثل القلب كالمرآة، إذا نظر فيها تجلى ربه ".
وكان في مصحف ابن مسعود (رضي الله عنه): " مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح " فانظر كم بين قلب منور يشاهد فيها نور وجه الله، وبين قلب مسود منكوس كان عش الشيطان
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دآبة من الأرض تكلمهم
[النمل:82].
ولنعد إلى ما كنا بصدده، وليعذرني أبناء العقول السليمة، فإن الكلام يجر الكلام، وارتحلنا به إلى هذا المقام، وكان كلامنا أن للحقائق أمثالا في العوالم، بل بناء كل عالم على وجود المظاهر والأمثلة، فإن جميع صور هذا العالم أمثلة لما في العالم الأعلى، يظره للنفس الإنسانية بواسطة مرائي الحواس، ومظاهر المشاعر، بل كل من كان في عالم من العوالم، يكون ذلك العالم شهادة عنده، حاضر لديه، وغيره غيبا عنه محجوبا عن نظره، والخلق وثوقهم واعتمادهم على ثبوت الصور الموجودة في هذا العالم، دون غيرها من الصور الموجودة في عالم آخر أعلى من هذا العالم، لاختلاطهم بالحواس، وامتزجهم بالمحسوسات، والعرفاء بخلافهم.
كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " أنا أعرف بأحوال السماء من أحوال الأرض " وقول النبي (صلى الله عليه وآله):
" أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا وفيه [ملك] ساجد وراكع "
صريح في أنه (صلى الله عليه وآله) قد علم أحوال كل شبر من أشبار السماء، وما تعلق بها من نفس وعقل عبر عنهما بالساجد والراكع.
والعامة والظاهريون من العلماء إنما اعتمادهم على صور هذا العالم، لعدم استطاعتهم على تجريد كل صورة عن جيمع خصوصيات المواد، فإذا تجردت صورة عن بعض خصوصيات المادة التي عاهدوها فيوشك أن ينكروها، لإلفهم بالمادة المخصوصة، واعتيادهم بالصور المحسوسة، وأما العالم الراسخ فكلما كانت الصورة أخلص جوهرا من المواد، وأجود وجودا من الأغشية كانت أشد تحققا عنده، وأقوم ثباتا، وأدوم بقاء.
تأييد
أما قرع سمعك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" إن في الجنة سوقا تباع فيه الصور "
ونقل عن بعض الصلحاء أنه قال: " رأيت ربي في المنام على صورة أمي " وعبر المعبر " الرب " بالآيات القرآنية، و " الأم " بالنبي (صلى الله عليه وآله) وعنده أم الكتاب، وهذا ضرب من التمثيل ورؤية النبي (صلى الله عليه وآله) جبرائيل تارة في وصرة أعرابي، وتارة في صورة دحية الكلبي، وتارة في صورة عظيمة كأنه طبق الخافقين، كل ذلك من التمثيلات المختلفة بحسب المقامات المتفاوتة، والنشآت المختلفة وإلا فجبرائيل حقيقة واحدة، وإنما اختلافه بحسب اختلاف العوالم والنشآت.
وعلى هذا القياس، الحكايات الواردة في باب النبي (صلى الله عليه وآله) ورؤيته ربه، ورؤية سائر الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) ربهم على أنحاء مختلفة متفاوتة في الظهور والخفاء، بحسب ثخانة الحجاب ورقته.
ومن جملة الحجب هوية السالك - " وجودك ذنب لا يقاس به ذنب " - وتعينه الموسوم بجبل موسى (عليه السلام)، فلما لم يفن السالك عن هويته، ولم يرتفع من البين جبل تعينه، ولم يضمحل، اضمحلال الجمد وذوبان الثلج عند استيلاء قهر شمس الحقيقة عليه، لم يشاهد ذات الحق تعالى، وأول ما يجب على السالك الذاهب إلى الله بقدم الصدق والمعرفة، أن يرفع من طريقه أذى هويته التي هي من جملة الآفلين، وإن تطورت في أطواره بصورة الطبيعة والنفس والعقل، كالكواكب والقمر والشمس، حتى يصدق كالخليل في دعواه:
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام:79].
ومن علامات ولاية الله تعالى تمني الموت كما قال سبحانه:
يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
[الجمعة:6].
وممن شكى عن أذى هويته التي يجب على كل مسلم بمقتضى إسلامه إماطة أذاها عن طريق المسلمين - من قلبه وروحه وسره السالكين إلى الله تعالى - هو أبو يزيد البسطامي حيث قال: " البشرية ضد الربوبية، فمن احتجب بالبشرية فاتته الربوبية " وكذا الحسين بن منصور:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
أو لا ترى أن المؤمنين حمدوا الله وشكروه على خلاصهم عن البشرية كما حكى الله عنهم بقوله:
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور
[فاطر:34].
تذكرة
واعلم أن معرفة أحوال الموتى وذكر الموت من أعظم العبادات، لأن حجاب البشرية أعظم الحجب، ورفعه من أهم الأمور، ولهذا امتحن الله قلوب الناس بتمنيه في قوله:
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
[الجمعة:6]. وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله):
" إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها ذكر الموت وتلاوة القرآن ".
وإن سألت الحق، فلا يزول رين البشرية، وعين التعين عن القلوب، إلا بجذبة من جذبات الحق - التي توازي عمل الثقلين - فانظر في أنه إذا لم تخل مرآة قلب سيد الكائنات، وأشرف الممكنات عن أصيدة الالتفاتات، وعيون التوجهات إلى هذا العالم حتى احتاج لحفظ مقام القرب والعبدية إلى الاستغفار في اليوم والليلة سبعين مرة - كما في الحديث المشهور - فمن الذي خلصت مرآته، ونقيت ذاته عن أوصاف البشرية بالكلية بمجرد الاكتساب والعمل من غير جذبة ربانية؟
ولا بعد أن يكون قول بعض المشايخ حيث قال: " الصوفي هو الله " إشارة إلى نحو هذا، أي: التصوف والتجرد عن رق النفس وعبودية الهوى، والإقبال بالكلية إلى الحق، إنما يحصل بمحض جود الله، وإمداده في حق السالك المعتصم بحبله المتين، مثل إلقاء الله الإلهامات المتتالية في قلبه، وإفاضة المعارف المتواردة على سره، ليجره بالتعويد من عالم البشرية إلى عالم الربوبية، وذلك معنى قوله:
وعلمناه من لدنا علما
[الكهف:65].
ومن هاهنا ينكشف أن العبادة من غير العلم لا وزن لها ولا قيمة، وسعي غير العارف، كحركات الأموات والجمادات لا قصد فيها، ولا معنى لها، ولا طائل تحتها، كالحركة بالعرض، فإن كل حركة تكون غايتها من جنس مبدئها كما يظهر بالقياس والاستقراء، وقد ثبت أن الغاية هي عين الفاعل بوجه الكمال، فمبدأ الحركة إن كان طبيعة يكون غايتها أمرا طبيعيا، كالوصول إلى الحيز الطبيعي، وإن كان أمرا حيوانيا فغايته أمر حيواني كالأكل، والشرب، والشهوة، والانتقام، وإن كان مبدأ روحانيا فغايته الوصول إلى عالم الملكوت كالمعارف الأخروية وإن كان أمرا إلهيا، فغايته القرب والمنزلة عند الله بفناء النفس عن ذاتها وبقائها بمدئها وغايتها.
فلو لم يأمر الله عبده ولا يأذن داعي الحق له في الدخول في بابه والوصول إلى جنابه في مثل قوله:
يأيها المزمل
[المزمل:1]. فمن الذي يقوم من نومه للصلاة أكثر الليل، ويصوم كل النهار؟ وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة يسهر ليله ويظمأ نهاره، ويقوم للعبادة في جبل حراء، حتى تورمت قدماه، وكان يقول: " قرة عيني في الصلاة " وذلك لغاية أنسه بذكر الله وعبادته، لأجل معرفته وعلمه بثمرة العبودية، وهي غاية الربوبية
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر:99] فالله سبحانه كان محركه وداعيه، ومربيه وراعيه، لا شيء آخر دنيوي أو أخروي.
ولهذا سماه " يتيما " في قوله:
ألم يجدك يتيما فآوى
[الضحى:6] أي في جنة القدس وجوار الله وقربه، وإليه أشير بقوله (صلى الله عليه وآله):
" أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة "
وجمع بين السبابة والوسطى، وإلا فهذا العالم منزل الأنعام والدواب، " وهذه الدنيا جيفة وطالبها كلاب " فكيف يكون مأوى أشرف خلق الله، وإنما الدنيا كمنزل راكب وفيء زائل " وهذه دار من لا دار له " وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله):
" ما مثلي ومثل الدنيا، إلا كراكب استظل (قال - نزل - ن) في ظل شجرة، ثم راح وتركها "
وإنما جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى هذا العالم لهداية الخلق ونجاتهم
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة:15].
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء:107].
ذكر تنبيهي
بل نقول محرك جميع الموجودات هو الباري جل ذكره بعشقه الساري في جميع الذرات، ولكن بعضها بتوسط بعض، لقوله تعالى:
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي اليل النهار يطلبه حثيثا.... رب العالمين
[الأعراف:54].
واعلم أن العالم كله كشخص واحد رقاص على اختلاف أوضاعه، وفنون حركات أعضائه، بعضها بالسرعة وبعضها بالبطؤ، وبعضها بالإيماء اليسير، وبعضها بالسكون ، فيرقص ظاهره ويهتز باطنه فنونا من الرقص والاهتزاز، بحسب الحركة الطبيعية، والنفسية، والعقلية، لدواعي مختلفة، وأغراض متفاوتة، متفاضلة في الدنو والعلو، تقربا إلى مبادئ مختلفة في العلو، والشرف، والجمال، حتى ينتهي إلى الغاية الأخيرة الإلهية للمبدإ الأول الفعال، البريء بالكلية من النقص والزوال في الموضوع القابل المحمدي عليه وآله أفضل الصلاة وأكمل الرحمات، فالصلوات والرحمات بمنزلة الصور المترادفة على موضوع الحركة، التي قيل في تعريفها: " إنها كمال أول لما هو بالقوة من حيث هو بالقوة ".
وقس عليها حال الغاية، والفاعل، والقابل، فتحقق بقول من قال: " إن من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ".
إزاحة شك
وإذا تحققت بما ذكر زال عنك إشكال التناقض بوجه آخر بين قول النبي (صلى الله عليه وآله): " نوراني أراه " وبين قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " رأيته فعبدته لم أعبد ربا لم أره " وكذا التخالف بين ظاهري كلامين نقلا عنه (صلى الله عليه وآله) في باب الرؤية، أحدهما: قوله لبعض أزواجه: " ما رأيت ربي على انيته وحقيقته " والآخر: قوله (صلى الله عليه وآله):
" أول ما خلق الله نوري "
وقوله:
" من رآني فقد رأى الحق ".
وبما قررنا بيانه وأحكمنا بنيانه آنفا ظهر صدق قول أساطين الحكماء: " إن القائل والحاكم بأن الله موجود هو نحو من البرهان الشبيه، باللم، لا العقل " ويؤيده قوله (صلى الله عليه وآله):
" تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في ذات الله "
لأن الفكر لا يتسلط على بارئ الكل
ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحي القيوم
[طه:110 - 111]. فذاته تعالى مما يستحيل لأحد الاكتناه والإحاطة به، وليس لأحد فيها قدم - أي مقام -
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
[الأنعام: 103] فلا يرى ذاته إلا ذاته.
وفي الأدعية النبوية: " بك أحيى وبك أموت ".
ومن هذا ظهر قول ذي النون المصري: " رأيت ربي بربي، ولولا ربي لما قدرت على رؤية ربي " وقول أبي الحسين المنصور: " ما رأى أحد ربي سوى ربي ".
[32 - سورة السجدة]
[32.1]
فضل سورة السجدة
فهذه يا أخواني طائفة من رموز قرآنية ، ومعاني نكات ربوبية، متعلقة بسورة السجدة، أفاضها الله على قلب هذا المسكين، وهي قطرة من بحرها الزاخر، ولمعة من بدرها الزاهر، فإن هذه السورة كأكثر أخواتها مشتملة على عظايم المسائل الإلهية، التي هي غاية العلم والعرفان، وشرائف علوم النفس الآدمية التي هي أساس السلوك إلى الله العزيز المنان، والنفس سلم العروج إلى واجب الوجود، وصراط الوصول إلى الملك المعبود، وهي السالك والمسلك، والعارج والمعراج، بحسب درجاتها وأدوارها ومراتبها وأطوارها، وغاية مرتبتها الوصول إلى درجة النبوة، ومشاهدة الوحي الصريح والإلهام الصحيح، وتلقي المعارف كفاحا من الملك الموحي، بالإلقاء السبوحي.
وقد ذكر فيها كيفية الوحي والتنزيل، التي هي أشرف أجزاء علم المعاد، وعلم النبوات، ثم بين كيفية خلق السموات والأرض وما بينهما، التي هي خلاصة علم السماء والعالم، وهو أحد المسالك المقررة في علم التوحيد المشار إليه بقوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53].
ثم أشار إلى استوائه على العرش، وتدبيره الأمر من السماء إلى الأرض بإيجاده أسباب الكاينات من الحركات والاستعدادات لخلق المواليد من الحيوان والنبات، وهو معظم أبواب الحكمة الطبيعية الموجبة لمعرفة دقايق صنع الله في إيصال رحمته إلى كل موجود من الموجودات، وإحاطة علمه بكل ذرة من الذرات، وقد وقع في كثير من الآيات الفرقانية الحث على التأمل في هذه الصنايع، والتدبر في هذه المخلوقات العظيمة بقوله:
أولم يتفكروا
[الروم:8] ووقع أيضا فيه المدح العظيم لمتأمليها بقوله تعالى:
الذين... ويتفكرون في خلق السماوات والأرض
[آل عمران:191].
ثم أشار إلى الغرض الأصلي من خلقه المركبات، وهو العروج إليه والوصول إلى باب معرفته ومجاورة مقربيه، وأشار إلى بدء وجود النفس الإنسانية التي هي الصاعدة إليه بنور العلم والهدى، العارجة إلى بابه بقدم الصبر والتقوى، بعدما أثنى على ذاته بأنه:
أحسن كل شيء خلقه
[السجدة:7]، لكونه أوجدها على وجه يؤدي إلى الخير التمام وحسن النظام، وينتج وجودها وجود نوع الإنسان المهتدي بنور المعرفة إلى سبيل الله المنان، الواصل إلى روضة الرضوان ونعيم الجنان ومجاورة الرحمن.
ثم أفاد وأفاض كيفية إرتقاء النفس إليه، وفنائها عما وقعت فيه من الحياة العاجلة، وأشار إلى الملك المتوفي لها عن هذه الدار الفانية المحيي إياها بإذن الله تعالى في الدار الآخرة، السائق لها بسوط " ارجعي " إلى جوار ربها.
ثم أشار إلى أقسام النفوس بحسب السعادة والشقاوة الآجلتين، وهو عمدة علم المعاد، الذي هو أجل معارف الإنسان، وأعظم قواعد الإيمان، بعد معرفة المبدأ الديان، وهما أعظم دعائم الحكمة والعرفان، وأحكم أساطين العلم بأسرار القرآن.
ثم أكد بيان هذه المعارف، كما هو دأبه سبحانه بتفصيل أحوال الأشقياء والسعداء، وبيان الوعد والوعيد لزيادة الإهداء والحث على الإرتقاء من هذه الوهدة الظلماء، والمقبرة الغبراء.
وقبل أن نخوض في غرض المرام، نمهد مقدمة تناسب المقام.
تمهيد فيه تشييد
إعلم أيها القارئ، أن القرآن، وسيما هذه السورة التي نحن بصدد تبيينها إن شاء الله، هو نور يهتدي به في ظلمات البر والبحر، ودواء من كل داء وضر، إذا رفع نقاب العزة عن وجهه، وكشف جلباب العظمة والكبرياء عن لبه وحقيقته، وانقشع سحاب الاحتجاب ورفع الاختفاء والتمنع عن وجوه شموس آياته ورموزه، وأنوار تجلياته وكنوزه، يشفي كل عليل داء الجهل والشقاوة، ويروي كل غليل طلب الحق والسعادة، ويداوي كل مريض القلب بعلل الأخلاق الذميمة المزمنة، وأسقام الجهالات المهلكة، وتنور بنور أبصار بصائر القلوب، ويستعد للقاء الله علام السراير والغيوب، كما قال الله تعالى:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم
[المائدة:15 -16].
وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" القرآن هو الدواء ".
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" القرآن غنى لا فقر بعده ".
والقرآن هو حبل الله المتين الذي نزل إلى العالم الأسفل، لنجاة المحبوسين في سجن الدنيا، المقيدين بسلاسل التعلقات وأغلال الأثقال والأوزار، من حب الأهل والولد والمال، وشهوة البطن والفرج والحرص والآمال، وخسران الآخرة والمال لوجدان العاجل والحال، وهو مع عظمة قدر حقيقته ومغزاه، ورفعه سره ومعناه، مما تلبس، بلباس الحروف والأصوات، واكتسى بكسوة الألفاظ والعبارات، رحمة من الله وشفقة على عباده وتأنيسا لهم، وتقريبا إليهم، وإلى أفهامهم، ومداراة معهم، ومنازلة إلى أذواقهم، وإلا فما للتراب ورب الأرباب، ففي كل حرف من حروفه ألف غنج ودلال، وغمز وجلب قلوب لأهل الأحوال، فوقع فيه النداء لتخليص الأسراء من قيد هذا المهوى، وسجن هذه الدنيا، بقوله:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات:55].
فبسطت شبكة الحروف والأصوات، مع حبوب المعاني لاصطياد طيور السموات، ولكل طير من طيور النفسانية رزق خاص معلوم، كما لكل ملك في السماء والأرض مقام معلوم، يعرف ذلك منشئها ومبدعها، وإنما الغرض الأصلي من بسط الشبكة في الأرض اصطياد نوع خاص منها برزق مخصوص معلوم من العلوم، ولب حب خاص من لبوب الحبوب دون غيرها:
سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[البقرة:6] وإلا فما من رزق إلا ويوجد في القرآن نوع من لبه وقشره، وأصله وفرعه، وسنبله وتبنه، متاعا لكم ولأنعامكم، لقوله تعالى:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
[الأنعام:59].
فكما يوجد فيه من الحقائق الربانية القدسية، التي كانت معرفتها غذاء للأرواح العالية العقلية، ففيه أيضا توجد المعارف الجزئية، والأحكام السياسية، والقصص والأخبار، والحكايات التي ينتفع بها المتوسطون في درجة النجاة من عامة أهل الإسلام، الذين لهم في النشأة الثانية ضرب من الحياة، دون المرتبة التي للهداة المقربين، الأحياء بالحياة العقلية بالذات، ففيه الأغذية الروحانية والجسمانية الأخرويتين، المبقية للحياتين العقلانية والنفسانية، لأهل المنزلتين والجنتين، وفيه أيضا ما به صلاح هذه النشأة الدنياوية، كالقصاص والديات والمواريث.
وقد نظمت أبياتا فارسية في وصف القرآن، وكونه غذاء سماويا يختص الإغتذاء به لأرواح أهل المحبة الإلهية من نوع الإنسان، أوردت بعضا منها ها هنا، وهي هذه:
هست قرآن جون طعامى كزسما
كشته نازل از براى اغتذا
اغتذاى آدمش از لوح وقلم
اغتذا يابد دواب از راه فم
" في السماء رزقكم " كفته خدا
رزق انسان كشته نازل از سما
روزى انسان رسد از آسمان
روزى حيوان بود ازآش ونان
توز قرآن بنكرى افسانها
قشروكه بينى نه مغز ودانه ها
هست بهر آدمى دهن ولبوب
تبن وقشر ازبهر حيوان نى حبوب
توزقرآن مى نجوئى غير حرف
جان دهى بهر لغت يانحو وصرف
اندر سعيى هميشه باشتاب
كه نباشد فرق ازتو تا دواب
هيهات، أنك لست من أهل القرآن حتى ينكشف لك أسراره واغواره، لتعرف أنه ما من شيء إلا وفيه بيانه وتبيانه، ولو كان من باطنك طريق إلى عالم النور والملكوت القرآني، لتجلى لك قوله:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
[الحجر:9]، ولكنت ذا خشية إلهية لازمة لإدراك عظمة الله، وذا خشوع قلبي لازم لفهم عظمة كتابه القرآني ومعاني آياته لقوله:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله
[الحشر:21].
وخطابات القرآن مما يختص بأحباء الله والمتألهين والمقربين، لا المبعدين الناكرين الجاحدين، ممن ليس لهم نصيب في القرآن، ولا لهم اغتذاء بلبوب معانيه وحقايقه المبقية للنفوس الملكوتية في دار الحيوان:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت:64]. كما قلت نظما.
جون غذا با مغتذى باشد شبه
كاو وخررا خوش نيايد جزكه كه
قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون
[العنكبوت:63]. وهم عن السمع لمعزولون.
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال:23].
ومعظم الآفات الحاجبة للإنسان عن درك حقايق القرآن، الاغترار بظواهر الأخبار، والاحتجاب بأوائل الأنظار، من دقائق العلوم الجزئية، ومعارف الأحكام الفرعية، وإلا فما من شيء إلا وفي القرآن ما يكشف عن حقيقة ذاته، ويسهل السبيل إلى نيل كنه صفاته، لكنك أيها المغرور المسرور بما عندك من القشور، محجوب عنه لجحودك بما سوى ما سمعته من المشهور، أو فهمته من الزبور، فغاب عنك الخبر المبرور، والحظ الموفور، كل ذلك لإعراضك عن العلوم الربانية، وأسرار التنزيل من الحكمة الإلهية التي من يؤتها فقد أوتي خيرا كثيرا، وإغفالك عن أن حقايق الكتاب مما لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، لا المشتغلون بدقائق علم العربية، وفنون الصنائع الأدبية ، كالزمخشري وأترابه، فإنهم في واد، وأهل القرآن - وهم أهل الله وخاصته - في واد.
ثم إنك أيها المغتر بفطانتك البتراء، لو أنصفت قليلا، وزالت عنك غشاوة المراء والإمتراء، لعلمت أن المشار إليهم بقوله تعالى:
إنهم عن السمع لمعزولون
[الشعراء:212] كانوا عارفين بدقائق علم الألفاظ وفنون تأدية الكلام، على ما يوافق المرام، لأنهم من العرب العرباء، وفصحاء الدهناء بل إنما انعزالهم عنه لعدم استعدادهم للاهتداء بأنوار القرآن، والإرتقاء إلى أعلام الحقيقة والعرفان، والاطلاع على أسرار المبدأ والمعاد، والوصول إلى عالم الملكوت والتقرب بالحق الجواد.
ثم لا يخفى على أولي النهى، أن تولي مثل أبي لهب وأبي جهل وغيرهما عن القرآن، وانعزالهم عن السمع، ليس من جهة عدم فهمهم ترجمة القرآن، أو عدم اطلاعهم على ظاهر العربية وقواعد النحو والصرف وعلم البيان، ولا لأجل الصمم في آذانهم الجسمانية، والعمى في أعينهم البدنية، والبكم في قلوبهم الحيوانية، ولكن لأنهم كانوا من أهل الغفلة والحجاب الكلي، عمي القلوب عن مشاهدة الحقايق، صم العقول عن سماع ذكر الحبيب، بكم الأرواح عن قبول دعوة الإله، واستدعاء طلب التقرب إلى الحق بالإعراض عما سواه، كما أخبر عنهم بقوله:
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة:171].
والقرآن غذاء للقلوب الصافية، وبلاء للنفوس المريضة بداء الجهالة لقوله تعالى:
قل هو للذين آمنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد
[فصلت:44].
وليس المراد بالإيمان في هذا المقام، ما هو بحسب الظاهر، وإلا لما وقع التكليف به للموصوفين بهذا الظاهر في قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله
[النساء:136]. ولا شبهة في أن المشتغلين بالدنيا المنهمكين في اللذات، ليسوا من أهل الاهتداء بنور القرآن، ولا يمكنهم الإرتقاء إلى نشأة العرفان:
للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد * أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب
[الرعد:18 - 19].
وإلى ذلك أشير في قول سقراط - وهو أحد أساطين الحكماء، الذين اقتبسوا أنوار الحكمة من مشكاة بواطن النبوة -: " البدن الذي ليس بالنقي كلما غذوته فقد زدته شرا ووبالا ". وقد ذكر المفسرون لكلامه، أن المراد منه الإشارة إلى كيفية اقتناء العلوم الربانية، التي يتوقف الاستكمال بها على تصفية السر عن محبة الشهوات، وتخلية الباطن عن الوساوس والكدورات، وهو أيضا دواء نافع للعقول السليمة، وسم ناقع للبواطن المؤوفة الشريرة السقيمة بسقم الجهل المركب المشفوع بالعناد والجدل واللداد، وحب الجاه والشهرة والاستيناس بالناس، الذي هو من علامة الإفلاس، ولذلك قال الله تعالى:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين
[البقرة:26]. وأشير أيضا إلى أهل الحجاب الكلي بقوله تعالى
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون
[يس:9]، وقوله تعالى:
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا
[الإسراء:45].
وأشير إلى المعاندين الجاحدين للحق، وهم أسوأ حالا بقوله:
وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم
[الإسراء:45].
وقوله تعالى:
ويل لكل أفاك أثيم * يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم * وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * من ورآئهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم * هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم
[الجاثية:7 - 11].
وقد ذكر بعض أهل الحق، أن العلم علمان، علم باللسان، وعلم بالقلب.
وإني لأستعيذ بالله الرحمن، من رجل شرير عليم اللسان، جهول القلب، المترفع على الأقران لأجل تقرب السلطان، والاشتهار عند العوام، وهم العميان عن فهم درجات أحوال الإنسان، والتفاوت في خلق الرحمن، فوامصيبتاه من علماء الجهالة، وصلحاء الإفساد، الذين هم من علماء الدنيا وجهال الآخرة، المتذكرين لآداب صحبة الخلق، الناسين لآداب صحبة الرب، المقبلين إلى دقائق علوم الدنيا، المعرضين عن حقائق علوم الآخرة.
بل أقول: ما فتنة في الدين وخلل في عقايد المسلمين، إلا ومنشؤها مخالطة العلماء الناقصين، مع حكماء الدنيا والسلاطين، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
قد اختلفت كلمة المفسرين والمؤولين في حروف التهجي الواقعة في أوائل السور من القرآن المبين، فقد ذكروا وجوها مذكورة في التفاسير المتداولة المشهورة، وشيء منها لا يطمئن به القلب، ولا يسكن إليه الروع، ونعم ما قال بعضهم: إن في كل كتاب سرا، وسر الله في القرآن حروف التهجي، وكأنه قد أخذ بما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
وقال بعض أهل القرآن: الإشارة في الألف إظهار الوحدة مطلقا ذاتا وصفة، والتفرد بالوجود الحقيقي أزلا وأبدا، كان الله ولم يكن معه شيء، فكون الأشياء وهو كما كان، فلم تتغير وحدته في نفسه، ولا تفرده بالوجود الحقيقي، وانه تعالى مصدر جميع الموجودات.
فوجه مناسبة المعاني الثلاثة في الألف، بأن (الألف) واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب، متفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف، وتشير استقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغير المبدأ تعالى عن الوجود الوحداني أزلا وأبدا، وبأن " الألف " مصدر جميع الحروف، فإن من استقامة خطه يخرج كل حرف معوج، ثم في " اللام " و " الميم " المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوف بالإثنينية، وانه كمثل الوحدة في الوجود، فالصفوة المشار إليها في " الم " هي أن " الألف " يشير إلى وجود حقيقي كامل في ذاته وصفاته، موجد للموجودات التي لها وجود ناقص مفتقر إليه قائم به، وهو الفاعل والحاكم والمتصرف فيها.
و " اللام " يشير إلى معنيين: إثبات ونفي، فالإثبات يشير إلى لام التمليك، يعني: له ما في السموات وما في الأرض ملكا وملكا، فعلا وصنعا، وبالنفي يشير إلى لاء النفي، يعني: لا وجود لشيء حقيقة إلا له.
و " الميم " أيضا يشير إلى معنيين: نفي واثبات، فالنفي: يشير إلى ما النفي، يعني: ما في الوجود حقيقة إلا هو، وبالإثبات يشير إلى اسمه القيوم، يعني هو القائم بنفسه، والمقيم والقيام لغيره، فالغير محو في إثبات قيوميته وديموميته، فهو على الحقيقة كاين كما كان، بلا مكان ولا زمان، ودليل هذا التأويل للسر والصفوة في هذه الحروف، ما أظهره الله من سره المكتوم فيما بعده في سورة آل عمران، وهو قوله:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم
[آل عمران:2].
وممن تصدى لاستكشاف أسرار هذه الحروف المقطعة، شيخ فلاسفة الإسلام أبو علي بن سينا، في رسالة عملها لبيان هذا المرام، ولعمري أنه قد بالغ في تطبيق رموز هذه الحروف على عظائم الأمور الإلهية التي ناسب ذكرها وتعظيمها والإقسام بها في أوائل السور القرآنية.
وملخص ما ذكره بعد تمهيد الكلام - طوينا ذكره مخافة الإسهاب - هو أنه ينبغي أن يدل بالألف الواقع أولا في الترتيب القديم، وهو ترتيب أبجد هوز على الباري، لكونه أول الموجودات، وبالباء على العقل وعالمه لأنه يتلوه في الموجود و " بالجيم " على النفس وعالمها، و " بالدال " على الطبيعة وعالمها، هذا إذا أخذت هذه الموجودات بما هي ذوات، ثم بالهاء على الباري، و " بالواو " على العقل، وبالزاي على النفس، وبالحاء على الطبيعة، هذا إذا أخذت بما هي مضافة إلى ما دونها، ويبقى الطاء للهيولى وعالمها، وليس لها وجود بالإضافة إلى شيء تحتها، وينفد رتبة إيجاد الآحاد المبدعات، ويكون الإبداع وهو من إضافة الأول إلى العقل. والعقل ذات لا يضاف إلى ما بعده، مدلولا عليه بالياء، لأنه من ضرب " ه " في " ب " ، ولا يحصل لإفاضة الباري إلى العقل أو العقل إلى النفس عدد يدل عليه بحرف واحد، لأن " ه " في " ج " " يه " و " و " في " ج " " يح " ، ويكون الأمر، وهو من إضافة الباري (الأول) إلى العقل مضافا مدلولا عليه باللام، لأنه من ضرب " ه " في " و " ويكون الخلق وهو من إضافة الباري (الأول) إلى الطبيعة من ضرب " ه " في " ح " ، لأن الحاء دلالة الطبيعة مضافة.
ويكون التكوين، وهو من إضافة الباري إلى الطبيعة لأنه من ضرب " ه " في " د " ويكون جميع نسبتي الأمر والخلق، أعني ترتيب الخلق بواسطة الأمر، أعني اللام والميم مدلولا عليه بحرف " ع " وجميع نسبتي الخلق والتكوين كذلك أعني الميم والكاف مدلولا عليه بالسين، ويكون مجموع نسبتي طرفي الوجود والتكوين والخلق أعني اللام والكاف مدلولا عليه بالنون، ويكون جميع نسب الأمر والتكوين والخلق أعني لام وميم وكاف مدلولا عليه بصاد، ويكون اشتمال الجملة في الإبداع أعني " ي " في نفسه " ق " وهو أيضا من جمع " ص " و " ي " ، ويكون ردها إلى الأول الذي هو مبدأ الكل ومنتهاه، على أنه أول وآخر، أعني فاعلا وغاية، كما بين في الإلهيات مدلولا عليه بالراء ضعف.
فإذا تقرر ذلك فالمدلول عليه ب { الم } ، هو القسم بالأول ذي الأمر والخلق، وبالراء القسم بالأول ذي الأمر والخلق الذي هو الأول والآخر، والأمر والخلق والمبدأ الفاعلي، والمبدأ الغائي جميعا.
وب
المص
[الأعراف:1]، القسم بالأول ذي الأمر والخلق، والمنشئ للكل.
وب
ص...
[ص:1]: القسم بالعناية الكلية.
وب
ق
[ق:1]: القسم بالإبداع المشتمل على الكل بواسطة إبداع الأنواع المتداولة المساوي للعقل.
وب
كهيعص
[مريم:1]: القسم بالنسبة التي للكاف، أعني عالم التكوين إلى المبدأ الأول، بنسبة الإبداع الذي هو " ي " ، ثم الخلق بواسطة الأمر وهو " ع " ، ثم التكوين بواسطة الخلق والأمر وهو " ص " ، فبين " ك " و " ه " ضرورة نسبة الإبداع، ثم نسبة الخلق والأمر، ثم نسبة التكوين والخلق والأمر.
و
يس
[يس:1]: قسم بأول الفيض وهو الإبداع، وآخره وهو الخلق والتكوين.
و
حم
[غافر:1]: قسم بالعالم الطبيعي الواقع في الخلق.
و
حم * عسق
[الشورى:1 - 2]: قسم بمدلول وساطة الخلق في وجود العالم الطبيعي وما يخلق بينه وبين الأمر بنسبة الخلق إلى الأمر، ونسبة الخلق إلى التكوين، وبأن يأخذ من هذا ويرده إلى ذلك، فيتم به الإبداع الكلي المشتمل على العوالم كلها، فإنها إذا أخذت على الإجمال، لم يكن لها نسبة إلى الأول غير الإبداع الكلي الذي يدل عليه بق.
و
طس...
[النمل:1]: قسم بعالم الهيولى الواقع في التكوين، و " ن " قسم بعالم التكوين وعالم الأمر أعني مجمع الكل، ولا يمكن أن يكون للحروف دلالة غير هذا البتة - انتهى كلامه أعلى الله مقامه -.
دراية كشفية
إعلم أيها القارئ المكتسي بكسوة العبارات، العاري عن حلية ذوق الإشارات، ان هذه الحروف المقطعة القرآنية، تسمى في عالم السر ولسان أهل بيت النبوة وبلدة الولاية، العارفين بفهم منطق الطير " بالحروف المجملة " ، و " حروف أبجد " ، وفي هذا العالم تصير الحروف المتصلة منفصلة، لأنه يوم الفصل جمعناكم والأولين و " يوم الجمع " أيضا بوجه آخر، فأهل الله إذا نظروا إلى حروف
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54] يرونها متصلة، ولكن إذا انكشف الحجاب، وفتحت الأبواب، وتجلى جمالها، يرونها بالبصيرة الباطنية هكذا: ي، ح، ب، و، ن، ه، م، وإذا ارتفعوا عن ذلك المقام إلى مقام أعلى، يرونها نقاطا، وتصير الحروف المفردة بالقياس إلى من في تلك الدرجة نقطا، وإذا وصلوا إلى مقام القرب، رأوا النقاط كلها مستهلكة في نقطة باء بسم الله.
وأنت أيها الساكن في بيت حجابك، المقيد بقيود هواك ونفسك، أنك لم تخرج حتى الآن قدما من عتبة بابك التي أنت معتكف فيها إلى طريق الحق، ولم ترغب في طلب معرفته والاطلاع على أسرار ملكه وملكوته، ومطالعة كتابه الذي ورد منه اليك، ولم تحصل بعد مفردات حروف الجمل في معلمة العشق ومدرسة التقوى والعبودية، وإلهك ومعشوقك متوجه اليك من سماء عظمته، ناظر اليك ليجذبك بجذبة إرجعي.
وإنك بعدما توجهت إليه بقلبك، فلا عبرة بما تقوله بلسانك:
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
[الأنعام:79] مع عدم موافقة الباطن وهو وجهك الحقيقي، لأنك مشغول بجميع أسباب اللهو واللعب والهزل، مستغرق القلب بعمارة أرض بدنك، وتحصيل أرض أخرى، وتزيين ترابك الذي يخصك بإضافة تراب آخر إليه، وجمعه وادخاره بعد تلوينه أو تصييره بكثرة الحيل في المعاملات، أو المداهنة في المعاشرات، أو الدغل في الصناعات، بترويج ما كسد وإصلاح ما فسد، حتى صار ترابك ذهبا وفضة، وما هما إلا ترابان ملونان بالصفرة والبياض، بتعمل طبيعي أو صناعي، إما في نفسيهما أو في تعميلك وتحصيلك لصورتهما، أو أخذك لهما من الناس بسبب الاستيناس بهم والمداراة معهم، وذلك كله علامة الإفلاس، وجميع ذلك خدمة منك لفاسق وظالم جاحد، وطاعة لشيطان مارد من الدواعي الشهوية أو الغضبية أو الوهمية.
فأول علامة من ارتفع عن هذا الأدنى، وخلص عن حجاب المشتغلين بالدنيا، أن ينكشف عليه معرفة الحروف المنفصلة القرآنية وكيفية نزولها، كما رمز إليه تعالى بقوله:
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون
[القصص:51] إلى هذا القوم وأشار سبحانه إلى مرتبة قوم آخرين بقوله:
فصلنا الآيات
[الأنعام:97-98- و126].
فقد انجلى لك أيها المسكين، أن ما ارتسم في لوح السالك المبتدي حروف أبجد ليستعد بذلك الانتقاش بمفاد قوله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق
[العلق:1] وعند ذلك يسهل عليه معرفة القرآن، وتعلم لفظه ومعناه ومنطوقه وفحواه:
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
[القمر:17].
وهذا التذكير لا يتيسر إلا لمن دارس وتعلم من مكتب:
" أول ما خلق الله نوري "
وكان معلمه وأستاذه مفاد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، ويعلم ما لم يكن يعلم قبل ذلك بأسباب أخر، من فكر أو سماع أو تعلم أو رواية، بل بأن يكتب الله القرآن بقلم العقل على لوح نفسه:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة:22].
وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
[العلق:3-5].
وحينئذ يظهر له هذا المكتب الذي لأطفال الأرواح وأولاد روح القدس، وهو أبوهم ومعلمهم وأستاذهم، ما معنى اللوح والقلم، والنون وما يسطرون، فإن العناية الربانية لما تعلقت بتربية الأطفال والأولاد الملكوتية، أفاد لها ورزقهم من تحف ذلك العالم وهدايا الجنة في كسوة الحروف المفردة والظروف - ظ: حروف - المقطعة على طريق الرمز والإشارة، لئلا يطلع عليها الأغيار، ممن ليس له قوة الإرتقاء إلى منزل الأخيار.
إعلم أيها القارئ العاري، أن القرآن أنزل إلى الخلق مع ألف حجاب، لأجل فهم ضعفاء العقول والأبصار، فلو فرض أن باء بسم الله مع عظمته التي كانت له نزل إلى العرش على حالته التي كانت عليها، لذاب العرش مع عظمته واضمحل، وقوله:
لو أنزلنا هذا القرآن
[الحشر:21] - الآية - إشارة إلى ذلك.
رحم الله من قال كاشفا لهذا المعنى: " كل حرف في اللوح أعظم من جبل قاف " ، وهذا القاف رمز إلى ما في قوله:
ق والقرآن المجيد
[ق:1].
وجملة القول: إن من لم يظهر عليه سلطان الآخرة ظهورا تاما، ولم يقم نفسه عن قبر هذه النشأة، لم يطلع على معاني رموز القرآن، ولم يحدث معه حروفه المقطعة، ولم يتجل له وجه صاحبه وقائله، وعظمة منشئه ومبدعه وممليه. واحسرتا على ما فرطنا في جنب الله.
انتبه يا مغرور! وقم من مرقدك يا ممكور، حتى نسافر معك في سبيل الله، ونتجامع بالجمعية الوفاقية، فإن المسافر يحتاج إلى رفيق معه يصدقه أداء لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يد الله مع الجماعة "
، وكن معنا في جميع ما هدانا الله إليه في سفرنا، وما هدانا إليه رسلنا من رزق ربنا، حتى لا ينال بما يحيد عن المشهور، ويخالف ما عليه الجمهور كما هو دأب المسافرين، واركب معنا في سفينة النجاة التي بسم الله مجراها ومرساها، ولا تجلس مع هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجورا، وهم كالذين وبخهم الله تعالى بقوله:
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
[النساء:78] واشتكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربه بقوله:
يرب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا
[الفرقان:30].
وقال بعض أصحاب القلوب: " انزل القرآن لتعملوا به فاتخذتم دراسته ".
وإليهم الإشارة في حديث أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا، فقال (عليه السلام): يا ويحك! وهل رأيت فقيها قط؟ ان الفقيه حق الفقيه، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
رب رجل أديب أريب، له اطلاع تام على علم اللغة والفصاحة، والاقتدار على صنعة البحث والمجادلة مع الخصام في علم الكلام، وهو مع براعته في فصاحته، لم يسمع حرفا من حروف القرآن بما هو قرآن، ولا فهم كلمة واحدة، وكذلك أكثر المشتغلين بالبحث البحت، المغترين بلا مع سراب الحكمة، المحرومين من شراب المعرفة في كأس القرآن المبين، لكونهم صما بكما عميا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون سبيلا، لعدم حواسهم الباطنية التي تكون هذه الحواس الدنيوية قشورا لها، وبالقشر لا ينال إلا القشر، وأما اللباب فلا يناله إلا أولوا الألباب، وما يذكر إلا أولوا الألباب: إن في ذلك لآيات لأولي الألباب.
[32.2]
خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ خبره " لا ريب فيه " ويكون " من رب العالمين " حالا من الضمير في " فيه " لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا، وعلى تقدير كون " تنزيل الكتاب " خبر مبتدأ محذوف يجوز أن يكون " من رب العالمين " خبرا ثانيا، و " لا ريب فيه " حال من الكتاب المنزل أو اعتراض. والأولى ان يرتفع " تنزيل " بالإبتداء، وخبره: { من رب العالمين } ، ويكون { لا ريب فيه } اعتراض لا محل له، كما وجهه صاحب الكشاف.
واعلم أن الضمير المجرور راجع إلى مضمون الجملة، أي لا ريب في كونه منزلا من رب العالمين، ويدل عليه قوله:
أم يقولون افتراه
[السجدة:3] لأن هذا القول منهم في المفهوم، يساوق لإنكارهم كون القرآن منزلا من الله تعالى، للتقابل الحقيقي بين كون الكلام مفترى، وبين كونه منزلا من رب العالمين.
ويحتمل أن يكون معنى " تنزيل الكتاب " من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فيحتاج في تعلق ضمير " فيه " إليه إلى ارتكاب حذف مضاف، كالتنزيل ونحوه.
ويحتمل أن تكون الجمل الثلاث أخبارا متبادلة لمبتدأ محذوف، وفي الآية احتمالات أخرى بحسب الإعراب كما لا يخفى على أولي الآداب.
والمعنى - والله أعلم - أنه لا ريب لأهل الكشف واليقين العارفين بمقامات الواصلين إلى مقام اللوح النفساني والقلم العقلاني والعلم السبحاني، ان هذا الكتاب الذي هو العقل الفرقاني والوجود المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي هو لوح المعارف الإلهية، وقلم العلوم اللدنية، فائض من رب العالمين بلا وسيلة من خلقه، أو ذريعة من غيره، بل الله قد أنشأه وأغناه من غيره، ورباه من مرتبة إلى مرتبة، وعرج به من عالم إلى عالم، وأسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حتى بلغ الغاية القصوى وارتفع إلى مقام أو أدنى، وحيث كانت مرتبته مشتملة على جميع مراتب العوالم، لوروده على كل نشأة وعالم، فكان المربي له (صلى الله عليه وآله وسلم) رب العالمين، فوقعت الإشارة إلى هذه الدقيقة في قوله: { رب العالمين } تعظيما لشأنه وتكريما لامتنانه.
فالكتاب إشارة إلى ذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، المعبر عنه تارة بالقرآن لمقامه الجمعي الإجمالي العقلي، وتارة بالفرقان لمقامه الفرقي التفصيلي النفسي، وهما مقامان باطنيان فوق ساير المقامات النزولية والإنزالية السماوية والدنيوية، وإطلاق الكتاب على الجوهر العقلي القلمي القرآني، أو النفسي اللوحي الفرقاني شائع ذائع في كلام الله تعالى وكلام انبيائه وأوليائه (عليهم السلام)، كقوله تعالى:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22] وقوله تعالى:
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء:14] وكقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
وأنت الكتاب المبين الذي
بآياته يظهر المضمر
وحقيقة القرآن عند المحققين من العرفاء، هو جوهر ذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد سئلت بعض أزواجه عن خلقه، فقالت في الجواب: " كان خلقه القرآن ".
ومن تأمل وتدبر في ألقاب كتاب الله في عدة مواضع من المصحف، يعلم إن هذه الأوصاف تكون لذات روحانية مجردة عن الأجسام بحسب مرتبة ذاته، فكما أن الإنسان حقيقة واحدة، وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة يسمى في كل عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في الصعود، فكذلك القرآن حقيقة واحدة وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة، يسمى في كل عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في النزول.
أما أسامي القرآن: ففي عالم يسمى " بالمجيد ":
بل هو قرآن مجيد
[البروج:21] وفي عالم آخر اسمه " علي ":
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي
[الزخرف:4] وفي نشأة أخرى اسمه " مبين ":
وكتاب مبين
[النمل:1] وفي مقام آخر اسمه " نور ":
والنور الذي أنزلنا
[التغابن:8]
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة:15] وفي منزل اسمه " عظيم ":
والقرآن العظيم
[الحجر:87] وفي مرتبة " عزيز ":
وإنه لكتاب عزيز
[فصلت:41]، وفي مظهر " كريم ":
إنه لقرآن كريم
[الواقعة:77] وفي طور " حكيم ":
يس * والقرآن الحكيم
[يس:1 - 2] وهل شاع إطلاق اسم الحكيم إلا على ذوي العقول؟ وكذا الكريم والعلي والعزيز؟
وأساميه غير محصورة، ولو كنت ذا سمع باطني في عالم العشق الحقيقي والحكم الإلهية، لكنت ممن تسمع أسماءه وتنكشف لك بطونه، إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا كما ان للإنسان ظاهرا وباطنا، ولباطنه باطن آخر إلى سبعة أبطن، وهي المقامات الباطنية الجملية المشهورة عند العرفاء، هي الطبع والنفس والعقل والروح والسر والخفي والأخفى، وإلا فتفاصيل المقامات وخصوصيات الأطوار الإنسانية غير محصورة في حد وعد، فكذا قياس القرآن المساوق للإنسان الكامل في الكمال والنقصان، والصعود والنزول، وفي المثنوي المولوي المعنوي قدس سره:
صورت قرآن جو شخص آدمى است
كه نقوشش ظاهر وجانش خفى است
نزد عاقل زان برى كه مضمر است
آدمى صد بار خود بنهان تر است
ومما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال:
" إقرؤا القرآن والتمسوا غرائبه ".
ومن تدبر في أسامي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصاف من كونه: نورا وسراجا ومحمودا ومحمدا وأحمد وقاسما وحاشرا وماحيا وهاديا ومبشرا وبشيرا ومنذرا ونذيرا إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره - وجدها بحسب المعنى والمفهوم مشتركة بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين حقيقة القرآن، واتحاد اللوازم يدل على اتحاد الملزوم، والأسماء المشتركة بينهما لفظا، ومعنى كثيرة، كلفظ النور والهادي والسيد والرسول والنبي.
ولو تدبرت فيما أفدناك سابقا من قاعدة اتحاد الموصوف بالصفة التي وصف بها، ومن قاعدة اتحاد العاقل بالمعقول التي ذهب إليها أكثر الحكماء المشائين الذين مقدمهم فرفوريويس، وهو أعظم تلامذة أرسطو، ومن قاعدة ذهب إليها محققو أهل الإسلام وعرفاؤهم من صيرورة الإنسان بحسب النشأة الآخرة عين حقيقة ما غلب على باطنه من الأخلاق والملكات، لانكشف عليك حقيقة ما ذكرناه من كون باطن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتابا إلهيا مرسلا منزلا من الله لنجاة المقيدين في سجن هذا العالم الأدنى، وباطن القرآن خلقه، وظاهره الملفوظ هو كظاهر شخصه المطهر المزكى.
ويستفاد من قوله تعالى:
ويعلمهم الكتاب والحكمة
[البقرة:129] أن صفته وخلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تعليم الكتاب والحكمة، فكان ذاته المقدسة عين الكتاب والحكمة.
وقد عبر قوم من أهل الله عن لفظ القرآن ومعناه بالوجه الحسن، والشعر المستحسن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المكنى عنهما بقوله تعالى:
والضحى * والليل إذا سجى
[الضحى:1 - 2].
والقرآن حبل الله المتين النازل من سماء الرحمة لنجاة المقيدين في السجن، ولما كانت الدنيا مرآة الآخرة، والأرض حكاية الجحيم، فانظر كيف روعيت الموازنة بين العالمين فيما وقع من الأخبار في أحوال الآخرة من الجنة والنار، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أذن له في الشفاعة يوم القيامة، فورد في الجحيم لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان، فأخرج منها ما شاء الله من عصاة أمته المؤمنين. ومما يؤيد كون الأرواح والقلوب بمنزلة الكتب والصحائف، ويصحح إطلاق الكتاب والصحيفة عليها، قوله تعالى:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22].
وهل الكتاب إلا ما كتب فيه شيء، سواء كان كتابه عقلية أو حسية، وهل الكتاب إلا تصوير الحقائق، سواء كان بآلة القصب والمداد في قرطاس أو جلد حيوان، أو بواسطة الملك الملهم الملقي للحقايق في صفحة الدماغ أو النفس بمداد الفيض الإلهي، ومن يحجبه الظاهر المحسوس عن الباطن المستور ولا يفهم من الميزان إلا ما له كفتان، ولا خبر له من موازنة العالمين وتطابق النشأتين، فلا يمكنه التصديق بوجود كتب الله المنزلة على انبيائه تصديقا عرفانيا إيمانيا، بل تصديقا لسانيا أو تقليديا، وشيء منهما لا يسمن ولا يغني، ويحرم أيضا عليه معرفة صحائف الناس يوم العرض الأكبر، وكذا الفرق بين كتاب الأبرار الأخيار، وبين كتاب الفجار الأشرار، المشار إليهما بقوله تعالى:
إن كتاب الفجار لفي سجين * ومآ أدراك ما سجين
[المطففين:7 - 8] وقوله:
إن كتاب الأبرار لفي عليين * ومآ أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون
[المطففين:18 - 21].
وأما قوله: { رب العالمين } ، ففيه إشارة إلى أن كل انسان كامل حكيم عالم تام في نفسه، إذ فيه صور جميع ما في العالم على وجه ألطف، وقد ذكر الحكماء في معنى الحكمة انها صيرورة الإنسان عالما معقولا مضاهيا للعالم المحسوس، وقال أبو يزيد البسطامي: " لو أن العرش وما حواه دخل في زاوية من زوايا قلب أبي يزيد لما أحس به " ، فكل عالم رباني في الآخرة عالم تام لا يعوذه شيء من الأشياء، ولا يفتقر إلى شيء خارج عنه وعن ملكه وعالمه وسلطانه، ولا يبعد أن يكون هذا سر إيراده بصيغة الجمع الموضوعة لذوي العقول، فافهم وانتبه.
[32.3]
لفظة: " أم " ها هنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى كلمة " بل " الإضرابية والهمزة الإنكارية، كأنه تعالى لما أشار أولا إلى حقيقة القرآن وعظمته الثابتة له في عالم اللوح والقلم وقضاء الله الأتم، ثم رتب عليه تنزيله من رب العالمين، وأكد ذلك بنفي الريب عنه لأهل الله والعلماء الراسخين، فأضرب عنه إلى ما يقولون فيه ويلحدون في حقيقته إلى خلاف ذلك، إنكارا لقولهم وتعجيبا من جحودهم، فإن الأمر أظهر من أن يخفى على عقلائهم، لظهور العجز في إتيان ثلاث آيات منه عن بلغائهم، ثم أضرب إلى إثبات ما هو بصدده من إثبات أنه الحق المنزل من الرب تعالى.
ومثل صاحب الكشاف هذا الأسلوب الصحيح المحكم، بأن يعلل العالم في مسالة بعلة صحيحة جامعة، قد احترز فيها أنواع الاحتراز، كقول المتكلمين: النظر أول الأفعال الواجبة على الإطلاق، التي لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك، ثم يعود إلى تقرير كلامه، وتمشيته. ثم بين فائدة التنزيل، وهي إنذار قوم لم يأتهم من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك ان قريشا لم يبعث الله إليهم رسولا قبله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كقوله:
مآ أنذر آبآؤهم
[يس:6] ترجيا من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهدايتهم مثل ترجي موسى وهرون، الواقع في قوله تعالى:
لعله يتذكر
[طه:44]. ويحتمل ان يكون لفظ الترجي مستعارا للإرادة فيكون من الله تعالى.
مكاشفة
لما علمت ان نفي الريب في كون الكتاب منزلا من الله، إنما يكون من القلوب الصافية الصحيحة، البريئة عن مرض الغواية وآفة الغباوة، لأن مميط الريب ودافعه لازم للقرآن غير منفك عنه، وهو كونه بالغا حدا من الكمال يعجز عنه بنو نوع البشر، وإنما هو أمر فائض من خالق القوى والقدر، وأما قول من يقول: " إنه افتراه " فهو إما قول متعنت يجحد بآيات الله مع علمه أنه من الله، أو جاهل بليد مختوم على قلبه في أصل الفطرة، أو غير مرتاض بالنظر والتأمل فيسمع الناس يقولون شيئا فيتبعهم من غير روية فقال بما قالوه قبل التدبر. فاعلم ان الذين لم يأتهم نذير في إقامة الحجة عليهم وعدمها يوم القيامة أقسام: لأنهم إما مستعدون بحسب الفطرة لارتقاء طريق السعادة والخير أم لا، وعلى الأول: إما أن يكونوا مقصرين فيما لا يدرك إلا بالشريعة لعدم استقلال العقل به، وأما فيما سوى ذلك كمعرفة الله وتوحيده وعلمه وحكمته، فالأولان لا يقام عليهما حجة، بخلاف القسم الثالث لأن أدلة العقل وأسباب الهداية معه في كل وقت.
هذا بحسب ما اقتضاه الدليل العقلي الموافق لما ذهب إليه أهل الحق من قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وأما الدليل النقلي، فالمستفاد من الأحاديث المروية عن أئمة العصمة والهداية سلام الله عليهم أجمعين:
منها ما رواه صاحب كتاب الكافي الشيخ الجليل ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن الطيار، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: " إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم ".
[32.4]
{ الله } مبتدأ وخبره كلمة { الذي } مع صلتها، والجمل الواقع بينهما من باب حمل الحد على المحدود في القضية الطبيعية بالحمل الأولي الذاتي، لا مجرد الاتصاف الاتحادي المعتبر في الحمل المتعارف، فإن كون الواجب لذاته مبدأ وخالقا لشيء إنما يكون بنفس ذاته المقدسة، حتى أن مبدئيته وخالقيته بما هو حقيقته وذاته، لا كصانعية غيره من المبادي التي ليست مبدئيتها لشيء بما به ذاتها وحقيقتها، كالإنسان في كونه كاتبا، حيث لا يكفي في ذلك حقيقته التي هو بها هو، بل مفتقر معه إلى صنعة الكتابة وغيرها من الأسباب، كالآلة، والقابل، ورفع المانع، ووجود الداعي، كل ذلك خارج عن الإنسان بما هو انسان، وكذا الشمس في إضاءتها وجه الأرض تفتقر إلى وجود الأرض، ووجود المحاذاة بينها وبين الأرض، فليست هي بما هي شمس مضيئة لوجه الأرض، بخلاف الواجب القيوم، فإن قيوميته وخالقيته للسموات والأرض وما بينهما بنفس ذاته الذي هو داع ومريد وقادر.
واعلم أنا قد حققنا مفهوم هذه الكلمة الجلالية في تفسيرنا لآية الكرسي، وبينا هناك أنها بحسب المفهوم قابلة للشرح الحدي، ويؤخذ في حده جميع الموجودات الصادرة عنه بنفس ذاته، بيانا مقنعا من أراد أن يعلمه فليطلبه من هناك.
والمراد من " اليوم " ها هنا اليوم الربوبي الذي مقداره ألف سنة مما تعدون، ولما كان مدة تكون العالم من زمان آدم (عليه السلام) إلى زمان نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة آلاف سنة - على ما هو المشهور -، فعبر عنها بستة أيام، مدة كل يوم منها ألف سنة، يسمى باسم من أسامي أيام الأسبوع قبل يوم الجمعة، منسوب إلى أحد الكواكب السبعة سوى عطارد، وفيها ميلاد واحد من الأنبياء العظام قبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين.
وهذا موافق لما قد اشتهر فيما بين الناس في جميع الأمصار، ان مدة الدنيا سبعة آلاف سنة على عدد الكواكب، فكل ألف سنة يوم من أيام الله، لقوله:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج:47] فالسنة منها هي التي خلق الله فيها السموات والأرض، لأن الخلق حجاب الحق، فمعنى خلق اختفى بهما فأظهرهما وبطن، ويوم السابع هو يوم الجمع وزمان الاستواء على العرش والظهور بالأسماء، وهذا الظهور يبتدئ بالسابع من أول البعثة، ويزداد إلى تمام هذا اليوم، ويزول الخفاء بتمام الظهور لقيام الساعة، التي قد طلع فجرها ببعثة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" " بعثت أنا والساعة كهاتين " وجمع بين السبابة والوسطى ".
وقال:
" " بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه " وأشار باصبعيه السبابة والوسطى "
وليطلب تحقيق هذا المطلب في تفسيرنا لسورة الحديد بما لا يكون عليه مزيد.
وهذا الاصطلاح في تقدير اليوم يستفاد من الأخبار أيضا، كما روي (ع) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" اني لأرجو ان لا يعجز أمتي عند ربها ان يؤخرهم نصف يوم أعني خمسمأة سنة "
وروي أيضا أنه قال:
" إن استقامت أمتي فلها يوم وإن لم تستقم فلها نصف يوم ".
واعلم أني منذ الآن ما رأيت أحدا عنده علم تام بتصحيح كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقة في ستة أيام، ولا وجدت في كلام أحد المفسرين وغيرهم ما يطمئن به القلب في بيان ذلك، فإن الأيام في مقادير الحركات، وهي متأخرة عن وجود الأجرام الكلية، كالأفلاك وما فيها، سواء كانت عبارة عن مقادير أدوار الحركة اليومية كما هو المتعارف بين الناس، أو عن مقدار دورة القمر التي هي أسرع الدورات لكواكب السيارات، وهو الشهر في المشهور، أو هو مقدار دورة الشمس وهي السنة في المشهور، أو غيرها كدورة الفلك الثامن التي يكون مقدارها خمسة وعشرين ألف سنة تخمينا بحسب الأرصاد الجديدة، أو غيرها من الأيام الإلهية التي بحسب الأدوار القرآنية للكواكب السبعة، فإن جميعها ليست إلا مقادير الحركات الكلية، وهي متأخرة عن وجود الأجرام الكرية الدورية الحركات كالأفلاك وما فيها، فكيف يكون ظرفا لوجود هذه الأجرام بأنفسها ومقدارا لاصل تكونها عنه تعالى.
وأكثر المشتغلين بالعلوم العقلية اعترفوا بالعجز عن تطبيق هذا الحكم على القوانين الحكمية، لأن الحكماء أقاموا حججا فلسفية على ان وجود الأفلاك والفلكيات ليس الا على سبيل الإنشاء الإبداعي، لا على نهج التدرج في الحصول، ولا لأجل الأسباب الجسمانية، كاستعداد القوابل وتهيئة الآلات، وكذا فناؤها ليس بالذبول والضعف والمرض، بل مجرد إرادة الصانع البديع، فهذا الإشكال غير منحل إلى الآن.
وغاية ما ذكر ها هنا هو قول بعض المحققين من العرفاء في تأويل هذه الآية وأمثالها، وهو ان يكون الخلق فيها بمعنى الاحتجاب، فقوله: { خلق السماوات والأرض وما بينهما } أي: احتجب بها في الأيام الستة الإلهية، التي هي مدة دور الخفاء من لدن آدم (عليه السلام) إلى دور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأنت خبير بأن خروج الألفاظ القرآنية عن معانيها المتعارفة المشهورة، توجب تحير الناظرين فيها، والقرآن نازل لهداية العباد وتعليمهم وتسهيل الأمر عليهم مهما أمكن، لا للتعقيد والإشكال، فيجب ان تكون اللغات محمولة على معانيها الوضعية المشهورة بين الناس، لئلا يوجب عليهم الإلتباس.
كشف إلهامي
قد من الله علينا في تحقيق هذه الآية ونظائرها بما يشفي العليل ويروي الغليل من غير حاجة إلى صرف اللفظ عن مفهومه الظاهر، وهو يستدعي تمهيد مقدمات:
أولاها: أن الأمور الصادرة عن الحق أقسام:
أولها: ما لا يحتاج في وجوده وتعقله إلى قابل وحركة وزمان، ومنها ما يحتاج إليها في وجوده لا في تعقله، ومنها ما يحتاج إليها في الوجودين، فالأول كالعقول، التي هي ضرب من ملائكة الله، ويقال لأمثالها الأمور الإلهية، والثاني كالعدد والمقادير، ويقال لها الرياضيات، والثالث كأشخاص الأجسام الطبيعية وغيرها، ويقال لها الطبيعيات.
وثانيها: ان لوجود كل من هذه الموجودات عالما آخر، فالدنيا للأمور الطبيعية، وهي عالم الشهادة وعالم الحس، والآخرة للأمور المقدارية من غير مادة، ويقال لها: عالم الغيب وعالم الجزاء، وما هو فوقهما للأمور الربانية، ولكل من هذه الموجودات مشعر آخر للإنسان، فبالحس يدرك الدنيا وما فيها، وبالخاطر والعقل يدرك الأمور الأخروية، وبالروح والعقل النظري يدرك الأمور الإلهية.
وثالثها: ان الشيء قد يكون بحسب حقيقته وماهيته من الأمور العقلية، وبحسب تشخصه من الأمور المفتقرة إلى المادة وانفعالها، كالجواهر الصورية التي تقوم المادة وعوارضها بحسب سنخ تجوهرها، وأما بحسب تعينها الخاص وعوارض تعينها فهي مما تقومها المادة وانفعالاتها.
ورابعها: ان الأفلاك وما فيها تفتقر إلى المادة وعوارضها الانفعالية في التشكل والمكان وغيرهما من المشخصات.
وخامسها: ان تشخص الشيء عبارة عن كونه مدركا بالإدراك الحسي، وأما المحسوس بما هو محسوس - أي قابل لأن يناله الحسن - فوجوده إنما يتقوم بانفعال المادة وعوارضها، وكذا الجوهر الحاس مفتقر في وجوده إلى مادة محسوسة.
وسادسها: ان الأمر التدريجي الوجود من حيث هو كذلك، زمان بقائه عين زمان حدوثه.
فإذا تمهدت المقدمات. فنقول:
لما اشتهر أن ابتداء وجود العالم مقارن لابتداء وجود بني آدم، لأنه من الأنواع الشريفة التي لا ينفك العالم عن وجودها المستحفظ نوعها ببقاء الأشخاص، وجميع العقلاء قائلون بان للكاينات ابتداء وانقضاء بحسب الأدوار والأكوار والطوفانات العظيمة، حتى أن بعض الحكماء ذكر كيفية نشوء الإنسان من غير توالد عند ابتداء الكائنات، وعلمت أن كيفية وضع السماء على هذه الهيئة المخصوصة ليست الا بأمور زائدة على ذاتها، وتلك الأمور مفتقرة إلى انفعال المادة وتغيراتها، والهيولى حقيقتها محض الانفعال والقوة والدثور والتغير، حتى قيل إنها من باب الحركة في جوهرية الشيء. ثم ان اسم السماء كأنه معتبر في معناه الفوقية، لأنه موضوع للحقيقة السماوية مع هذا الشكل المخصوص المحسوس، وهذه الهيآت المخصوصة من الفوقية وغيرها، والعرب يقولون: " سماء كل شيء سقفه " ، وكذا الفلك معتبر في معنى اسمه الحركة الدورية، لأنه مأخوذ من فلكة المغزل، ولهذا يقال بالفارسية: " آسمان " أي: المشابه للرحى.
فحينئذ وبحكم المقدمة الأخيرة، يكون حدوث السماء بما هي سماء حاصلا بالتدريج المفتقر إلى زمان يقع فيه، وأما وجود الزمان والحركة فهما مفتقران إلى أصل حقيقة السماء، لا على وجه دوري مستحيل، بل على الوجه الذي حققه الراسخون في العلم عند كيفية استناد كل متغير إلى ثابت، وهذا أمر يحتاج تحقيقه إلى مقام آخر لبسط المقال، ومجال أوسع من هذا المجال.
فقد ثبت ان السماء بما هي شخصية محسوسة، وكذا غيرها من الأمور المحسوسة المادية الموجودة في عالم الدنيا، أمر زماني الوجود، تدريجي الحصول، مدة كونها البقائي عين مدة حدوثها الإنشائي، فهذه المدة المضروبة في الكلام الإلهي هي مدة بقاء وجودها الذي هو عين الحدوث، ويشير إلى هذا قوله سبحانه:
كل يوم هو في شأن
[الرحمن:29].
وأما قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة "
فهو بالقياس إلى عالم آخر فوق الدنيا وما فيها، ولو نظرت حق النطر إلى حقيقة كل أمر متغير محسوس من حيث حقيقته الثابتة العقلية، وجدتها خارجة عن الزمان والمكان، مرتفعة عن التجدد والتغير والحدثان، وعن قول " أين " و " متى " ، فإن قولنا " الله عالم " و " الإنسان إنسان " و " الفلك فلك " لا تعلق لها بهنا وهناك، ولا بغد وأمس، فكذا حكم جميع الصفات الذاتية للأشياء ولوازم الماهيات، فلو ارتفعت الحواس منا لارتفعت بارتفاعها جميع الاعتقادات الزمانية والمكانية الواقعة، وتبدلت الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات، لكونها مطويات بيمين الحق، كما قال بعض الناظمين من حكماء الفرس، وهو السنائي المسمى بالإلهي. شعرا:
تازمين دل آدمى زايست
خيمه روزكار بر بايست
آدمى جون نها دسردر خواب
خيمه اوشودكسته طناب
فقد انكشف مما بينا بوجه حكمي، سر كون السموات والأرض وما بينهما مخلوقة في ستة أيام من الأيام الإلهية، وهي من يوم السبت إلى يوم الخميس يوم ولادة عيسى بن مريم (عليهما السلام)، وأما يوم الجمعة فابتداؤه وصبيحته وقت بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو رسول آخر الزمان، وإمام الجماعة من الأنبياء والأولياء، وخطيب يوم الجمعة، وداعي الله والمنادي للصلاة في هذا اليوم، وفي ذكر الله تعالى وشهود وحدانيته، لقوله تعالى
يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون
[الجمعة:9].
وقد قلت أبياتا في هذا المعنى عند انشراح صدري وانفتاح قلبي في ذكري وهي هذه. - شعر -:
جون ظهور دين بيغمبر شدى
دين توحيد خدا ظاهر شدى
مسجد جامع بانجام آمده
در يكى هفته باتمام آمده
روز اين هفته بود هر يك هزار
زين شمار دورهء ليل ونهار
" ان يوما عند ربك " را بخوان
بس ز آدم تا بخاتم هفته دان
روز جمعه جون شدى كاه نماز
شد خطيب أنبياء اندر نياز
در ميان روز آدينه يكى
ميشود قائم قيامت بى شكى
بانكك قد قامت بكوش مردمان
ميرسد بيش از قيامت يكزمان
مرتفع شد آفتاب معرفت
تابسمت الرأس زين عالى صفت
اين مؤذن كفته " قد قامت صلوة "
اول اين روز اعلامى بكاه
جذبة " فاسعوا إلى ذكر الله " است
دردرون هر كسى كاندر رهست
اول اين روز وقت بعثت است
كه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رارسالت شدد رست
ازأذانش خفتكان آكه شدند
روح قدسى باملائك صف زدند
تو " زقد قامت " كجادارى خبر
كز قيامت نيست درجانت اثر
تبيان
قد تحيرت أفهام العقلاء وأفكار العلماء في معنى استوائه تعالى على العرش، وانقسموا في متشابهات القرآن إلى مجسم كالحنابلة، وإلى مأول كالمعتزلة، وإلى مقتصد - مجسم في البعض ومأول في البعض - كأصحابنا الإماميين، ليسوا في مرتبة إسراف المؤولين في رفع الظواهر، ولا في مرتبة تقصير المجسمة في حسم باب التأويل.
وهنا قسم رابع هم الراسخون في العلم المشار إليهم في قوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران:7] على قراءة الوصل - وقد أشرنا إلى طريقتهم في تفسيرنا لآية الكرسي، وذكرنا هناك أنموذجا من مقامهم في كلام الله الملك العلام بمقتضى دينهم وديانتهم في ضبط الفاظ الكتاب المجيد عن التحريف والتحديد، فإن مقتضى الدين والديانة ورعاية الضبط والأمانة، أن لا يؤول المؤمن شيئا من الأعيان التي نطق بها القرآن والحديث، الا بصورها كما جاء وفسرها علماء التفسير الواقعين في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الماضين المعصومين عن الخطأ سلام الله عليهم أجمعين.
اللهم إلا أن يكون محققا خصصه الله تعالى بكشف الحقايق والمعاني والأسرار والإشارات في فهم التنزيل وتحقيق التأويل، فإذا كوشف بمعنى خالص أو إشارة وتحقيق، وتقرر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الأعيان، مثل الجنة والنار والميزان، وما في الجنة من الحور والقصور والأنهار والأشجار، وما في النار من الحميم والزقوم وتصلية جحيم والمهل يشوي في البطون كغلي الحميم، وغيرها من العرش والكرسي والشمس والقمر والليل والنهار، لا يؤول منها شيئا على مجرد المفهوم ويبطل صورته، بل يثبت تلك الأعيان كما جاء. ويفهم منها حقائقها ومعانيها، فإن الله تعالى ما خلق شيئا في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئا في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق، وهو غيب الغيب فافهم جدا، وما خلق شيئا في العالمين إلا وله مثال وأنموذج في عالم الإنسان.
فإذا عرفت هذا على الكشف واليقين، فقد اعتصمت بحبل متين من حبال القرآن المبين، واستمسكت بعروة وثقى من عروة الدين - فالزم.
واعلم ان مثال العرش في العالم الصغير الإنساني قلبه، إذ هو محل استواء الروح عليه بخلافة الله تعالى، فكما أن كون القلب - بل البخار اللطيف الذي فيه - مستوي للنفس الإنسانية بل للروح العقلي، لا يوجب تجسما لها، لأن حقيقة هذا الإستواء ليس كاستواء جسم على جسم، بل هذا تجل للروح بواسطة قوتها العملية في القلب، وظهور منها عليه يوجب استعمالها له وتحريكها إياه بحيث تكون آثارها في سائر الأعضاء وغيرها بواسطة القلب، فما يفعل فعلا إلا ويظهر أولا أثر من الروح في قلبه، ثم يسري منه في الأعضاء الآلية، ثم في الآلات الخارجية ان كان فعلا خارجيا يفتقر إليها، ثم يوجد ذلك الشيء الذي يقال إنه أثر النفس، كالكتابة في مادة خارجية كالمداد وصفحة القرطاس، فكذلك معنى استوائه تعالى على العرش، استعماله تعالى إياه بواسطة ملك مقرب هو مثال رحمانيته وتجليه له وظهوره فيه، بحيث لا يتكون متكون في عالم العناصر الا ويظهر أصله في عرش الله، ثم بواسطته يسري في عالم السموات التي هي بمنزلة الأعصاب والرباطات للإنسان الكبير، ثم يوجد في هذا العالم صورة منه في هيولي العنصريات التي هي مداد كلمات الله على صفحة الأرض، وهي المعبر عنه بالبحر المسجور وإليها الإشارة في قوله تعالى:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
[الكهف:109].
وها هنا أسرار عظيمة عزيزة أعز وأرفع من أن يمكن كشفها على غير أهلها كما هو حقه، بها يتبين تمام المضاهاة بين فعل الآدمي داخل العالم الصغير وخارجه، وفعل القدرة الإلهية داخل العالم الكبير وخارجه، فإن من لم يعرف شمول جوهر النفس الآدمية جميع أفاعيلها الغيبية والشهادية، الداخلة والخارجة، يرجع ويقول اغترارا بظواهر ما وصل إليه من كتب الحكماء، أو فهمه من كتب الأطباء إن فعل النفس لذاتها ليس إلا إدراك المعقولات، وأما الأفاعيل البدنية الداخلة فهي منسوبة إلى القوى كالهاضمة والجاذبة والدافعة وغيرها، أما الأفاعيل الخارجة كالكتابة والحياكة والصياغة فهي منسوبة إلى الأعضاء بواسطة الآلات الصناعية، فلم يتم في حقه كون النفس مثالا للرب تعالى ذاتا وصفة وفعلا وآثارا، ولم يتم عنده التوحيد الأفعالي المستفاد في هذه الآية من قوله: { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } [السجدة:4].
ثم لا يخفى أن المكونات العنصرية خارجة عن العالم الكبير الحيواني، لما ثبت في مباحث الغايات لحركات السماويات أن لها في حركاتها أغراضا علوية وما يترتب على فعل الأفلاك والسماويات ليس بالذات وجود العنصريات، كما أن الفعل الذاتي للنفس هي الإرادات والتدبرات، ثم بواسطتها إنشاء الحوادث في عالمها الخاص - أعني بدنها - وغاية فعلها ما يلحق إليها من الحكم والمصالح والخيرات أو اللذات، وأما الفعل الخارجي فهو فعل تبعي، وأما الغاية الخارجية كتسود وجه القرطاس، فهي غاية عرضية بأحد الوجوه المذكورة في بابها.
وبالجملة، فكما أن في الحيوان توجد أمور لا يسري إليها الحياة إلا بالتبع كالظفر والشعر والظلف والقرن، فإن هذه كثائف تؤدي إليها البخارات والأدخنة المزاجية، فينجمد عندها وينقطع دونها أثر تصرف النفس في انشاء الروح الغريزي النفساني، الحامل للحياة والحس والحركة الإرادية، فهي حية بحياة البدن بالعرض، فكذلك في الوجود أمور يقال لها في عرف العرفاء " الآثار " ، وهي عبارة عن الموجودات العرضية التبعية، التي ليست الطبيعة الكلية متوجهة إليها، ولا هي غايات ذاتية للحركات الكلية، وهذه كالشخصيات العنصرية، فهي واقعة في الوجود اتفاقا بهذا المعنى الذي ذكرناه، كما ان وجود الكثائف والأوساخ التي تحصل في دكة القصاب وينتفع بها الذباب، ليس من الغاية الذاتية لصنعة القصابين، بل هي أمور ضرورية اتفاقية لازمة للصنعة المذكورة، من غير توجه الفاعل إليها بالذات.
والله سبحانه عالم قادر بجميع الأشياء، لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، إلا أن غاية إيجاده للكائنات، وجود العقول النظرية العارفة لذاته تعالى، لقوله:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56] وأما غيرها من الشخصيات الكائنة الفاسدة، فوجودها خارج عن القصد الذاتي، لأنها طفيل ذات الإنسان الكامل.
ومن ها هنا استتم وجه من وجوه المضاهاة بين فعل النفس خارج البدن، وبين فعل الله تعالى بواسطة العرش فيما دون السموات في كون كل منهما أثرا من آثار فاعل قادر حكيم مدبر.
بسط حكمة رحمانية
إن استواءه تعالى على العرش بعد الفراغ من خلق الأنواع على نهج الإبداع، تصرفه تعالى في العالم بواسطته، وتدبيره الأمور بوسيلة تحريك السماء الموجب لحدوث الأشياء المتجددة، وإنما خص العرش بالإستواء، لأنه مبدأ الأجسام (الأشياء - ن) اللطيفة القابلة للفيض الرحماني.
وعند بعضهم، العرش فلك عظيم مشتمل على جميع الأجرام الفلكية والكوكبية، يحيط به سطحان: أحدهما: مقعر مائل القمر، والآخر: ما هو منتهى الإشارة الحسية، أي جهة الفوق الحقيقي، وهو متحرك بالحركة اليومية السريعة الحافظة للزمان، المحيطة بسائر الحركات المستديرة، وبه تتجدد الأبعاد المكانية والزمانية، والحوادث والاستعدادات وغيرها، فما من حادث من الحوادث من الحركة والأجسام الكائنة والفاسدة، إلا وللعرش مدخل في وجوده وعدمه، كما أن القلب الإنساني رئيس سائر الأعضاء، ولا تسري قوة الحياة والحس والحركة الفائضة من النفس على البدن إلا بتوسط القلب، فإنه أول ما يتحرك من أعضاء البدن، وآخر ما يسكن منها، فهو بحسب حقيقته وذاته محيط بالبدن.
والنفس مستوية عليه على مثال استواء الرحمان على العرش، فإن الاستواء صفة من صفاته تعالى لا يشبه استواء المخلوقين، كالعلم وساير الصفات، لا اشتراك بينه تعالى وبين الخلق إلا بحسب الاسم والحكاية:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشورى:11] وهذه الآية توجب نفي المثل وإثبات المثال، ولا مثال له تعالى ذاتا وصفاتا وأفعالا في الوجود إلا النفس الآدمية بحسب جمعيته الأحدية.
ولو أمعنت النظر في خصوصية خلافتك للحق تعالى، لعرفت نفسك فعرفت ربك، وذلك إن الله تعالى لما أراد خلق شخصك من النطفة المودعة في الرحم، استعمل روحك بخلافته ليتصرف في النطفة، وهو بذر شجرة عالمك وبدنك، كما أن الهيولى الكلية المطلقة بذر شجرة العالم الجسماني التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فتصرفت فيها أيام الحمل في أطوارها، فجعلها عالما صغيرا مناسبا للعالم الكبير، فتكون المعدة بمثابة الأرض، والرأس بمثابة السماء، والقلب بمثابة العرش، والصدر لمكان الكبد بمثابة الكرسي، وهذا كله بتدبير الروح وتصرفه خلافة عن ربه.
ثم استوى الروح بعد فراغه من الشخص الكامل على عرش القلب، لا استواء مكانيا، بل استواء ارتباطيا تعلقيا معنويا، ليتصرف في جميع أجزاء الشخص، وتدبير أموره بإفاضة فيضه على القلب أولا، ثم من القلب على الكبد والدماغ والأعضاء الشريفة الرئيسة ثانيا، ثم على سائر الأعضاء والجوارح بتوسطها، فالعرش مقسم فيض الحق على العالم كله، كما ان القلب مقسم فيض الروح إلى القالب كله.
فإذا تأملت في هذا المثال تأملا شافيا، وجدته في نفي التشبيه عن الصفات المقدسة المنزهة كافيا، وتحققت بحقيقة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من عرف نفسه فقد عرف ربه "
إن شاء الله.
تلويح عرشي
لا يستر على العارف المكاشف، ان في الوجود وجوها من المشابهة والمماثلة بين القلب الإنساني وعرش الرحمان، ذكرناها في بعض كتبنا العرفانية بوجه تفصيلي ولا بأس بذكر جملة منها على وجه التلخيص، وهي خمسة:
الأول: انهما يشتركان في كونهما محل استواء الرحمان، أما العرش فلدلالة هذه الآية ونظائرها على كونه كذلك، وأما قلب المؤمن العارف فلقوله تعالى في القرآن:
وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير
[الحديد:4] وفي الحديث القدسي:
" يا داوود فرغ لي بيتا، انا عند المنكسرة قلوبهم ".
وروي أيضا أنه
" سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أين الله؟ فقال: " في قلوب عباده "
، فعليك ان تتفحص القلب الإنساني، فإذا وجدت وصرت ذا قلب فقد وجدت بيت الله، لأن الروح محل معرفة الله، وقلب المؤمن عرش الله، وهو لطيفة صافية تنبعث من صفوة الأخلاط الأربعة وبخاريتها ودخانيتها، كما ان السماء وهي دخان حاصلة من صفو الأجرام ودخانيتها.
الثاني: كونهما بين اصبعين من أصابع الرحمان، والإصبعان هما النفس والعقل، المحركان للأشياء، أحدهما بالمباشرة والتدبير، وثانيهما بالإمداد والتشويق، وهما ملكان مقربان روحانيان، أحدهما عقلي والآخر نفسي، أما كون العرش بينهما، فلما ثبت أن وجوده بعد القلم واللوح المعبران عن العقل والنفس والقضاء والقدر، وأما كون القلب بينهما، فلكونه مسببا عن القوة العاقلة والعاملة من الروح الإنساني.
الثالث: اشتراكهما في السعة والإحاطة، أما العرش فلقوله تعالى:
وسع كرسيه السماوات والأرض
[البقرة:255] والعرش وسع الكرسي، فيكون أوسع منه ومما يحويه ويسعه، ولكثير من الأحاديث الدالة على ان العرش محيط بما في هذا العالم الجسماني، وأما قلب العارف فلقوله تعالى في الحديث القدسي:
" لا تسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن ".
وأنت إذا تأملت في إحضارك لكل شيء تريده في قلبك، من الأفلاك العظيمة والكواكب بأي مقدار وعدد شئت، وإخطارك الصحارى الوسيعة في بالك بأي سعة شئت، والخلائق الكثيرة بأي كثرة شئت، فلا تتعجب في قول أبي يزيد البسطامي: " لو أن العرش وما حواه ألف مرة دخل في زاوية من زوايا قلب أبي يزيد لما أحس به " وما قيل: إن العرش مع نسبته باستواء الرحمانية كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى وسعة قلب المؤمن.
الرابع: ان كلا منهما بمنزلة السرير للسلطان، تحته أربعة أركان، وفوقه أربعة قوائم، أما الأربعة الفوقانية فهي: العقل العملي، والنفس، والروح القدسي والطبع، وكل منها ملك عظيم، وأما الأربعة التحتانية فهي: الأرض والماء والنار والهواء، ولكل صورة من صور العناصر حقيقة روحانية، وهو ملك رباني يدبرها ويربيها بإذن مبدع الكل، فإذا اتصل كل مستفيض بمفيضه، وانصب كل ماء بانائه، وانضم كل معلول إلى علته، وصار عرش الله بارزا، وبرزت كل الحقايق لله الواحد القهار، تنضم هذه الأربعة الجسمانية بتلك الأربعة الروحانية وتصير ثمانية:
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية
[الحاقة:17] وهي الأنوار القاهرة القدسية، أرباب الأصنام العنصرية مع طبايعها الأربعة التي هي الصور النوعية، تحمله بالاجتماع من الطرفين - العلوي والسفلي - عند البعث والنشور من كل طرف أربعة، فيكونون ثمانية، أي عند النشور.
ولهذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم): على ما روي عنه:
" هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين، فيكونون ثمانية ".
ولكون تلك الأملاك مختلفة الحقايق بحسب اختلاف اصنامها العنصرية، قال بعضهم إنهم على صور مختلفة، ولكونها مستولية مستعلية على تلك الأجرام شبهت بالأوعال وسميت بها تشبيها لأجرامها بالجبال، ولكونها شاملة لتلك الأجرام بالغة إلى إفاضتها حيثما بلغت، لازمة لها، فاعلة أيضا فيها.
قال بعضهم: هي ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، والعرش فوق رؤوسهم، وهم مطرقون، مسبحون لله، والله أعلم بحقائق الأمور.
الوجه الخامس: ان كلا منهما نهاية الجسمانيات وبداية الروحانيات، وكل منهما صورة الصور في هذا العالم ومادة المواد في عالم الآخرة، وكل منهما برزخ جامع بوجه وحد فاصل بوجه، وخط واصل وصراط ممدود على متن جهنم، وطريق مستقيم إلى الله تعالى، وكل منهما بمنزلة سور ذي بابين، باب داخلي إلى عالم الرحمة والرضوان، لا يلج من يلج ملكوت السموات إلا من هذا الباب، وباب خارجي إلى عالم المقت والنيران، لا ينزل ما ينزل إلى منازل الشياطين ومزابل الملاعين إلا من هذا الباب، كما أشير إليه في قوله تعالى:
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
[الحديد:13] والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
[32.5]
{ الأمر } هو وجود الأشياء في أنفسها، وتدبير الوجود المطلق من الله تعالى هو إفاضته بالفيض الإيجادي المعبر عند بعض العارفين بالنفس الرحماني، فإن علمه تعالى بالأشياء عين موجوديته لها.
وقوله: { من السمآء إلى الأرض } إشارة إلى الموجودات الواقعة في سلسلة البدو، والصادرة على سنة الإبداع، من غير مدخلية الحركات والاستعدادات، إذ الوجود ابتدأ منه بأن أبدع أولا عقلا قدسيا مع ما يتلوه في الشرف من العقول القدسية، وعالمها عالم القضاء وعالم القلم الأعلى، ثم أبدع نفسا كليا متعلقا بالفلك مع سائر النفوس الفلكية التي دونها في الشرف، وعالمها عالم القدر وعالم اللوح المحفوظ، ثم الصور النوعية وقواها وكيفياتها، ثم الصور الجرمية الامتدادية، ثم الهيوليات الفلكية والعنصرية، واحدة للعنصريات، والتسع الباقية للفلكيات، لأنها تسع جمل، كما بين عددها وترتيبها بالرصد والحساب في علم الهيئة.
وقوله تعالى { ثم يعرج إليه } إشارة إلى وجود سلسلة العود إليه ورجوع الأشياء إلى فطرتها الأصلية، وذلك بتمزيج العناصر الحاصلة من هيولى هذا العالم وتحصيل مزاج متوسط بين الأضداد، معتدل بعيد عن الفساد، مظهر اسم الله الجامع المستحق لخلافته تعالى، فيبتدئ الوجود فيها من أخس الموجودات رتبة إلى الأشرف فالأشرف، وهي الهيولى الأولى، ثم الجسم المطلق، ثم المركب المعدني، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان، ثم ذو العقل الهيولانى، ثم ذو العقل بالملكة، ثم ذو العقل بالفعل، وهلم جرا إلى مرتبة الأنبياء والاولياء الواصلين إلى عالم الربوبية ومجاورة الحق الاول والملائكة المقربين.
وقوله تعالى: { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } يحتمل أن يكون ظرفا لقوله: { يدبر الأمر } مع ما يتلوه، أو لقوله: { ثم يعرج إليه } ، وعلى الوجهين، لا تفاوت في التقدير، لأن التقدير بالزمان يختص بسلسلة العائدات، وأما البادئات فوجودها عنه تعالى دفعي كلمح البصر لا يتقدر بالزمان أصلا.
تبصرة
قيل: " الأمر " ، هو المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة، ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه، إلا في مدة متطاولة لقلة عمال الله والخلص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله تعالى على أثره:
قليلا ما تشكرون
[السجدة:9] أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الله، وهو ألف سنة كما قال:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج:47].
{ ثم يعرج إليه } أي يصير إليه ويثبت - عنده ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود، إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضا ليوم آخر وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة.
وقيل: ينزل الوحي مع جبرئيل (عليه السلام) من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي أو رده مع جبرئيل (عليه السلام)، وذلك في وقت هو بالحقيقة كألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمأة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبرائيل (عليه السلام)، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد، وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله، أي يصير إليه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة - وهو يوم القيامة -.
وإني أقول - والعلم عند الله -: يحتمل أن يكون " الأمر " في قوله: { يدبر الأمر } إشارة إلى الروح الإنساني لقوله تعالى
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85] وذلك لمروره على مراتب الموجودات عند خروجه عن مقام الفطرة الأصلية، ونزوله في العالم الأرضي بحسب الانسلاخ عن عالمه الأعلى، ثم عروجه من هذا العالم الأسفل بحسب العلم والعمل - إن ساعده التوفيق من الأزل -، إلى مقامه الأصلي، لقوله سبحانه:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون
[التين:4 - 6].
وكون بدو وجود الروح الإنساني من عالم القدس لا ينافي قوله تعالى:
وبدأ خلق الإنسان من طين
[السجدة:7] لأن الخلق لكونه بمعنى التقدير، عبارة عن جسمية الإنسان وقالبه، وفطرة الروح غير فطرة البدن، لأن بداية أحدهما من التراب، وبداية الآخر من رب الأرباب، ما للتراب ورب الأرباب.
تفصيل تنبيهي
إن ما ذكرناه من مرور الحقيقة الإنسانية والفطرة الآدمية على جميع العوالم والنشآت، واستجماعها لجميع الحقائق من أعلى سماء عالم القدس إلى أسفل أرض التجسم، شيء استبشعه ذوق أرباب العلوم الرسمية، لعدم انطباقه على ملفقات أفكارهم القياسية، وأما أرباب الحكمة المتعالية، والناظرون بعقولهم المستفادة من الحق، وعيونهم المكحلة بنور التوحيد في الأسباب الأول والغايات الأخيرة لموضوعات علومهم ومعارفهم، فهم عارفون بأن علة الشيء كما أنها مقوم وجوده، فهي مقوم حده الحقيقي، وأن " ما هو " " ولم هو " أمر واحد في كل وجود صوري يحتمل البقاء الأبدي، إذ المجعول عندهم نحو وجود المعلول بالجعل البسيط، وهو عين هويته الخارجية التي هي وجه من وجوه علته الجاعلة، والعلة الجاعلة تمام حقيقة المعلول وصورته العقلية.
ثم إن كل موجود من الموجودات الكائنة في هذا العالم، له طور واحد من الأطوار لا يتعداه، إلا الهوية الإنسانية، فإن لها قابلية الإرتقاء من أسفل الأسافل إلى أعلى الأعالي.
وهذا أيضا يختص ببعض أفراد الإنسان المسافر إلى ربه في تمام القوس الصعودية من دائرة الوجوب (ظ - الوجود)، دون غيره الذي لا يكون له هذه السعة من القابلية، وإن قطع في سيره الضعيف مقدارا قليلا من تلك القوس النصفية الصعودية منها كباقي الحيوانات، بل ربما يكون أضل سبيلا وأضيق مجالا منها، كما نطق به التنزيل.
والسر في هذا أن مواطن أفراد الإنسان ومعاد كل صنف منه إلى ما هو مبدأ وجوده - إن لم يمنعه عائق خارجي -، فرب إنسان يكون الحق علة وجوده ومباشر تكوينه بيديه، فيكون إليه معاده كما منه بدؤه، ورب إنسان يكون مبدأ وجوده القريب أحد المبادي النازلة التي تكون في آخر المراتب.
بل ربما يكون وجوده بمدخلية بعض الشياطين، الذين هم من عمار عالم الشر والوسواس، فيكون مثل هذا الإنسان الممسوس بنار الشيطان، راجعا إلى أصله الذي نشأ منه، فيحترق بالنار التي هي أصل وجوده، مثل هذا الأشرار، فكم بين من باشر الحق تسوية وجوده وتعديله وجمعه بين يديه المقدسين، ثم نفخ بنفسه فيه من روحه نفخا استلزم معرفة الأسماء كلها، وسجود الملائكة له أجمعين، وإجلاسه مرتبة الخلافة والنيابة عنه في الكون، وبين من خلقه بيده الواحدة، أو بواسطة ما شاء من الوسائط الوجودية الواقعة في سلسلة البدو، فلم يقبل من حكمي التسوية والتعديل ما قبله من اختير واصطفي للخلافة.
وهذا الذي ذكرناه، من تفاوت خلقة الإنسان بحسب الفطرة الأصلية، مما يستفاد من الأحاديث الكثيرة المختلفة الفحوى في الإخبار عن كيفية بدو الإنسان، وبه أيضا يحصل التوفيق بين الجميع، لأن اختلاف المعاليل والمسببات في الحقيقة مما يستدعي اختلاف الأسباب والعلل، فإن الذي ينفخ فيه الروح وهو الملك بالأذن - كما يدل عليه بعض الأخبار - كيف يكون مساويا في الحقيقة لمن باشر الحق إنشاءه بيده.
فانظر فيما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح. فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ وما أجله؟ ما عمله، فالحق يملى والملك يكتب ".
فأين هذا من قوله تعالى:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص:72]. وشتان ما بينهما؟ إذ هاهنا أضاف المباشرة إلى نفسه بضمير الإفراد الرافع للاحتمال، ولذلك فرع بذلك من أبى واستكبر عن السجود له ولعنه وطرده، وقال:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين
[ص:75].
وأكد ذلك (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمور كثيرة رويت عنه، منها قوله:
" إن الله خلق آدم " على صورته " أو " على صورة الرحمن "
ولقوله
" إن الله إذا خلق خلقا للخلافة مسح بيمينه على ناصيته "
فنبه على مزيد الاهتمام والتخصيص قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا تسبوا عليا فإنه ممسوس بنور الله "
، فكيف يكون الممسوس بنور الله كالممسوس بنار الشيطان؟
وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
" إن الذي باشر الحق سبحانه إيجاده أربعة أشياء - ثم سردها فقال -: " خلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده، وخلق آدم بيده " ".
وقال أيضا:
" الإنسان أعجب موجود خلق "
فافهم.
تبيين مقال لكشف حال
فلا يزال الإنسان الكامل مباشرا في ساير مراتب الاستيداع، إلى أن ينزل إلى أسفل عالم الاجتماع، فكان أولا متعينا تعينه الخاص في علم الله، ثم انفرز بإرادته تعالى وظهوره في مقام القلم الأعلى، الذي هو العقل الاول المشتمل على عالم العقول، ثم في المقام اللوحي النفسي، ثم في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمه في الأجسام، ثم في العرش المحدد للجهات مستوى اسم الرحمان، ثم في الكرسي الكريم مستوى اسم الرحيم، ثم في السموات السبع، ثم في صور العناصر المتعلقة بهيولى العنصريات، هذه غاية تدبير الأمر النازل من سماء العقل الأول الأعلى إلى أرض الهيولى السفلى، التي هي محض القوة والعدم، المشار إليها بقوله تعالى:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا
[الإنسان:1].
ثم شرع في الصعود والإرتقاء إلى ما نزل منه والرجوع إلى ما بدأ منه، فصار بالامتزاج وحصول المزاج طينا، ثم منيا فيه صورة حافظة للتركيب كالمعادن، ثم صار مضغة قابلة للنمو كالنبات، ثم صار علقة قابلة لأن تلجه الروح، ثم صار بشرا سميعا بصيرا، ثم رجلا بالغا انفتح بصره قليلا إلى ما وراء هذا العالم، كما قال سبحانه:
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
[الإنسان:2 - 3]. وهلم إلى أن يبلغ درجة العقول، بل العقل الأعظم والقلم الأعلى، لو لم تعقه العوائق وقواطع الطريق.
وأما كون زمان هذا الصعود ومدة هذا الإرتقاء يوما كان مقداره ألف سنة، فهو شيء لا يعلمه بخصوصه إلا علام الغيوب، أو من اصطفاه من رسوله، أو من ينتمي إلى وصيه، فإن مكث الإنسان في كل عالم وحضرة يمر عليها بحسب طول مسافة سفره، وتهيئة أسباب ارتحاله، وانتفاع كل عالم من وجوده، واستتمام أهل كل نشأة ومرتبة به وبخدمته، وإمداده وحسن تلقيه أولا ومشايعته ثانيا ، هو بحسب ما يدركونه فيه من شيمة العناية وأثر الاختصاص وشرف الاصطفاء، وما من عالم يمر عليه إلا وهو بصدد التعويق في الإنحراف المعنوي، لغلبة صفة بعض الأرواح يتصل حكمه عليه، أو بعض الأفلاك الذي ينوط به طالع ولادته البدنية، أو بحسب دولة بعض الأسماء الإلهية المدبر له.
الذي هو طالعه الأسمائي قبل طالعه السمائي، فيعوق أو ينحرف عما يقتضيه حكم الاعتدال الجمعي الاستقامي الذي هو شأن من يختار النهاية من الأنبياء والاولياء (عليهم السلام)، ثم الأمثل فالأمثل.
فإذا دخل عالم المولدات، سيما من حين تعدى مرتبة المعدن إلى مرتبة النبات وعالمه، إن لم تصحبه العناية بحسن المعونة والمرافقة والحراسة والرعاية حيف (ظ - خيف) عليه، فإنه بصدد آفات كثيرة، لأنه عند دخوله عالم النبات إن لم يكن محروسا معتنى به، قد ينجذب في بعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيته، إلى نبات ردي لا يأكله حيوان ولا يأكله الأبوان أو أحدهما، ويفسد ذلك النبات فيخرج منه إلى عالم العناصر، ويبقى فيه حائرا عاجزا، حتى يعان ويتدارك بلطف جديد، ويؤذن له في الدخول مرة أخرى بعد دخوله واتصاله بنبات صالح للتغذي، فربما عرضت له آفة من العناصر من برد شديد، أو حر مفرط، أو رطوبة زائدة، أو يبس بالغ، فيتلف ويخرج يستأنف دخولا آخر، هكذا مرارا شتى حسب ما شاء الله وقدر.
ثم على تقدير سلامته مما ذكرناه بسبب الرعاية والحراسة وباقي النعم التي يستدعيها استحقاقه، ربما تم في صورة نبات، لكن تناوله حيوان ولم يقدر للأبوين أكله أو أكل ذلك الحيوان لمانع من الموانع، لما لم يكن رزق الذين سبق في علم الله أن يكونا أبويه، وإذا قدر مواطأة كل ما ذكرنا، وتناوله الشخصان المعينان في العلم أن يكونا أبويه أو أحدهما، وصار ذلك النبات كيلوسا، ثم دما ثم منيا، فإنه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوينه، فهو مفتقر إلى نعمة الحراسة الرعاية في كل مرتبة وحال إلى حال مسقط النطفة مدخلا كريما، وحال انفصاله ونزوله عن الوالدة منزلا مباركا، فإن لمسقط النطفة ومسقط الرأس في أمر الإنسان الكامل الجامع للأسماء مدخلا عظيما من حيث ظواهره وباطنه.
وجملة القول: إنه ما من مرتبة من هذه المراتب التي ذكرت ولم تذكر، إلا ويتصور للإنسان تعوقات عما بصدده من السلوك إلى عالم الربوبية بحسب أمور شتى، من عدم توافق الأسباب الأرضية، وعدم اجتماع المعاونات الفلكية على وضع يؤدي إلى وجود مثل هذا الإنسان الذي يستحق الإرتقاء إليه تعالى، وقطع القوس الصعودية تماما، أو الحكم والمصالح التي تترتب على مكنته في كل مرتبة وعالم من التي يعلمها علام الغيوب، حتى يخلص من الجميع ويصعد إلى الله في الترقي من مقام إلى مقام، ومن عالم إلى عالم، بأن يترقى من مقام الطبايع إلى مقام المعادن بالاعتدال، ثم إلى مقام النبات، ثم إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان في مدارج الانتقالات المترتبة بعضها فوق بعض، ثم في منازل السلوك: كالإنتباه، واليقظة، والتوبة، والإنابة، إلى آخر ما أشار إليه أهل السلوك من منازل النفس ومناهل القلب، ثم في مراتب الفناء في الأفعال والصفات إلى الفناء في الذات بما لا يحصى كثرة.
ثم اعلم أنه ليس في قوله تعالى: { ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة } نص صريح على أن كل روح من الأرواح المقدسة لا بد وأن تكون مدة مكثه نزولا وصعودا ما بين البدو والانتهاء هذا المقدار، بل يحتمل أن يكون بعضها هكذا وبعضها يقطع المسافة العروجية في أقل مدة تتصور، لأن ذلك يتفاوت في الناس بحسب مراتب جوهر أرواحهم، لطافة وكثافة، ومراتب توافق المعاونات والمعدات كثرة وقلة، وتطابق الأوضاع للطالع السماوي ومقتضيات الطالع الأسمائي من حيث توجه الحق إليه شدة وضعفا بحسب ضرب من أعداد من الأسماء التي تقتضي سرعة العود لمظهرها إليها أو أقل منها أو بخلافها، فرب إنسان يقول: الآن في أذني قول الحق في الأزل:
ألست بربكم
[الأعراف:172]، وذلك لقلة الحجاب وشدة الصفاء في الفطرة.
كشف استفادي
لا يبعد أن يكون اليوم المذكور المقدر بألف سنة من أيام الدنيا ، إشارة إلى آخر الأيام الأسبوعية الدنيوية التي ستة منها مضت وانقضت قبل هذا اليوم الآخر المسمى بالجمعة، وهي الستة التي كان كل واحد منها ميلاد واحد من الأنبياء العظام الستة، الذين بهم وبمتابعتهم صعدت النفوس الشريفة الإنسانية من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، وأما اليوم السابع وهو الذي للمحمديين من أولاده المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، ووراثة الراسخين في العلم، الكاملين في العمل، القائمين بأمر الله، المعلنين كلمة الحق، المستحفظين دينه إلى زمان ظهور المهدي (عليه السلام)، الذي به يكون غاية ارتفاع نهار هذا اليوم، وغاية سطوع شمس الحقيقة في وسط سماء الاستقامة الحقيقية، ومعدل النهار الاعتدال الجمعي الكمالي، فيه ظهور نور دين التوحيد الإلهي، وانفلات ظلام الشرك الإبليسي، وانقماع الباطل الوهمي بالكلية، إذ به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا، بعدما ملئت ظلما وجورا، وعند ذلك تقوم الساعة، لأن وجود الدنيا مبني على الحجاب والاحتجاب، وحيث رفع النقاب وانقشع السحاب، فلا وجود للامع السراب، لشدة إشراق الحقيقة الموجبة لاضمحلال الرسوم والأطلال والسحب والظلال، اضمحلال الجميد وذوبان الثلوج عند ارتفاع الشمس في رابعة النهار.
وأما اليوم المقدر بخمسين ألف سنة في قوله تعالى:
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج:4]، فهو يوم من أيام الله تعالى العلي بالذات، ذي المعارج العلى التي يعرجها أهل القيامة الكبرى إلى حضرته الذاتية، وهي أيام السنة السرمدية من ابتداء الأزل إلى انتهاء الأبد، وهو غير هذا اليوم، لأنه يوم من أيام الرب، المقدر بألف سنة الذي وقت به التدبير في قوله تعالى: { يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } ، ووقت به العذاب وانجاز الوعد في قوله تعالى:
ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده
[الحج:47]، وهو اليوم الآخر (ظ - الأخير) من الأسبوع الذي هو مدة الدنيا، المنتهية بنبوة خاتم الأنبياء (صلوات الله عليه) وظهور دينه وانتشار نوره الذي يكمل في آخر الزمان لقوله تعالى:
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
[التوبة:32]، وإن كان أول بعثته في آخر اليوم السادس، وإلى هذا السابع أشار بقوله: (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن استقامت أمتي فلها يوم وإن لم تستقم فلها نصف يوم "
مع قوله:
" بعثت أنا والساعة كهاتين "
، كما مر ذكره.
وبالجملة، فهذا يوم من الأيام الألوهية، وهو مقدار اقتضاء الربوبية بظهور أسماء الله الغير المتناهية التي يندرج مع لا تناهيها في الأئمة السبعة، وهي: الحي، العالم، القادر، السميع، البصير، المتكلم، المريد. ولكل من هذه السبعة ربوبية مطلقة بالنسبة إلى ربوبيات الأسماء المندرجة تحته، مقيدة بالنسبة إلى ربوبية كل واحد من إخوانه إلى انتهائه بالتجلي الذاتي، وكما أن هذا اليوم المذكور سبع من أيام الدنيا، فمدة الدنيا سبع من ذلك اليوم الإلهي، الحاصل من ضرب أيام الدنيا في عدد أسماء الربوبية، وهو تسعة وأربعون سنة، وآخره الخميس (الخمسين - ن) الذي هو يوم واحد من أيام الله، وهو يوم القيامة الكبرى، والله أعلم بحقائق الأمور.
تنوير تمثيلي
إعلم أن الله تعالى وضع العالم على هيئة مدينة كاملة، فيها مساجد وبيع وصلوات، ولأهل الدين فيها مجالس ومجامع وجمعات وأعياد، وكما أن للمدينة صناع وعمال لهم أجره وأرزاق، وفيها بيع وتجار يتعاملون بموازين ومكائيل، ولهم مظالم وخصومات، ولهم فيها قضاة وحكام وعدول، ولهم فقه وأحكام وفصول، وان من سنة القضاة والحكام البروز والجلوس لفصل القضاء في كل سبعة أيام يوم واحد، فهكذا يجري حكم القضاء الإلهي في كل سبعة آلاف سنة مرة، لعرض النفوس الجزئية لدى الملك الحق المبين، لفصل القضاء بينها:
فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين
[الأنبياء:47].
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا ".
وقال:
" لا نبي بعدي على هذه الأمة ".
يقوم القيامة وهو يوم العرض الثاني، كما أن يوم العرض الاول ما أشار تعالى إليه:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
[الأعراف:172]، وبين اليومين سبعة أيام، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
[32.6-9]
{ ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6) الذي أحسن كل شيء خلقه }
ذلك المدبر " عالم " يكون علمه عين إيجاده للأشياء على أحكم وجه وأتقنه، وإيجاده للأشياء على أبلغ النظام والأحكام عين علمه وتدبيره، فيكون غيبه شهادة وشهادته غيبا وهو العزيز في غاية العظمة والكبرياء، لبراءة ذاته عن وصمة الحدوث والإمكان، وعن شوب الاشتراك والمماثلة مع الماهيات، " الرحيم " الذي يصل نور فيضه وأثر جوده إلى كل عال وسافل، وقاص ودان، لكونه في العلو الأعلى من جهة الذات والوجود، والدنو الأدنى من جهة الفيض والجود، ولذا عقبه بقوله: { أحسن كل شيء خلقه } ، فإن ذاته لما كانت في غاية الجلالة والعظمة، وكانت الموجودات كلها نتائج ذاته وأشعة أنوار صفاته، فيكون في غاية ما يمكن من الحسن والجمال والكمال، ولأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة الإلهية، وأوجبته العناية الأزلية، فتكون جميع المخلوقات حسنة في غاية الحسن المتصور في حقه، وإن تفاوتت وانقسمت إلى حسن وأحسن إذا قيس بعضها إلى بعض، كما قال سبحانه:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين:4].
أما الشرور والآفات التي يتراءى في نظر المحجوبين، فهي ليست شرورا بالحقيقة، لأن الشر الحقيقي عدم أو عدمي لا وجود له، وأما الذي يؤدي إلى عدم ذات أو عدم كمال الذات مما يسمى باسم الشر مجازا فهو إنما خلق لأجل النفع في أشياء آخر، لا يهملها خالق القضاء والقدر، وما يعد شرا، في تركه شر أكثر بكثير منه، وهو أيضا لا يوجد إلا في جزء من وجه الأرض، وهي حقيرة بالقياس إلى السماء الدنيا الخالية عن هذه الآفات مع حقارتها بالنسبة إلى جملة السموات المقهورة، المطموسة تحت أشعة الأنوار القادسات والقاهرات، الأسيرة كلها في قبضة الرحمن، ولا نسبة لعالم الإمكان الذي هو مثار القصور والنقصان، إلى جناب الكبرياء الباهر برهانه على الضياء.
فقد لاح أن الوجود كله على أحسن ما يتصور من الحسن والنظام، ولنا براهين نيرة على هذا المطلب أوردناها في مواضع من كتبنا على وجه البسط والتحقيق، من أراد الوقوف عليها فليطلبها من هناك، والله ولي التوفيق.
وقيل: معنى { أحسن كل شيء خلقه } علم كيف يخلقه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " قيمة كل امرئ ما يحسنه ". وحقيقته بحسن معرفته، أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق واتقان، وقرئ { خلقه } على البدل، أي أحسن خلق كل شيء و " خلقه " على الوصف، أي كل شيء خلقه فقد أحسنه.
{ وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9) }
لما وصف خلقه بالحسن، ولا ريب في أن حسن النظام بترتب الغاية المطلوبة منه، وغاية إيجاد العالم - كما بين - ذاته تعالى معروفا ومعلوما كما دل عليه الحديث القدسي من قوله تعالى: (كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف)، وحامل معرفة الله من جملة الأكوان الحادثة هو الروح الإنسانية التي هي نور من أنوار الله الفائضة على اللطيفة القلبية، وسره الواردة من أمر " كن " على عرش الجسم البخاري القلبي، المشابه للجرم السماوي المنعوت بقوله تعالى:
وهي دخان
[فصلت:11]، فأراد أن يشير عقيب ذكر إحسان خلق كل شيء إلى كيفية خلقة الإنسان الذي هو الثمرة لوجود الخلائق.
ثم لما كانت حقيقة الإنسان ذات جهتين، مركبة من أصلين هما خلاصة العالمين: بدن هو صفوة الأجسام العنصرية، وروح هي صفوة الأرواح - كما أن العالم بتمامه منقسم إلى غيب وشهادة -، كذلك الإنسان الذي هو على صورة العالم، عالم صغير مشتمل على غيب وشهادة، أي روح وجسم، فأشار إلى أصل تكون كل منهما، وقدم بيان نشوء البدن على بيان نشوء الروح، لكونه أظهر وجودا وأجلى معرفة على المتوطنين في دار المحسوسات، فقال مشيرا إلى انشاء البدن: { وبدأ خلق الإنسان من طين } ، هذا بحسب أصل خلقته الحدوثية في أول شخص وجد كآدم (عليه السلام)، فإنه كان إنسانا تولد من غير مادة باقية من شخص آخر أو شخصين، استعدت لوجود ذلك الإنسان استعدادا قريبا.
ثم قال: " وجعل نسله من ماء مهين " ، وهذا بحسب وجوده البقائي التوالدي، الحاصل من بقية أصل بدني، كان جزء من بدن مماثل للبدن اللاحق المسمى بالنسل، أي الذرية، وإنما سميت ذرية الإنسان نسلا له، لأنها تنسل منه، أي تنفصل منه وتخرج من صلبه، ونحوه قولهم للولد: " سليل " ، و " نجل ".
وقال مشيرا إلى انشاء الروح وإبداعها: { ثم سواه ونفخ فيه من روحه } ، ونعم ما قال الزمخشري من قوله: وذلك بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو، كقوله:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء:85].
واعلم أن الخطب في الروح العظيم، والكلام فيه طويل، قل من الحكماء من حصل معناه، وقل من النظار من بلغ إلى فحواه، وليس هذا الروح المذكور في هذا الموضع ما أثبته الأطباء، وهو الجرم الشبيه بالأجرام السماوية، لصفائه واعتداله وتوسطه بين الكيفيات المتقابلة التي هي من أوائل الملموسات، والأطراف المتضادة، والتوسط بين الكيفيات المتقابلات بمنزلة الخلو عنها.
وليس المراد منه ما سماه الحكماء: " النفس الناطقة " ، التي هي جوهر مدبر للبدن، مرتبتها مرتبة العقل الهيولاني، ولها استعداد الترقي إلى مقام الروح الإلهي الذي هو من أمر الله، وكل ما كان من أمر الله وعالم جبروته وقاهريته، فشأنه التأثير في الأشياء بالقهر والإبداع من غير انفعال واستكمال بما تحته، فكيف يكون منفعلا عن البدن ويكون الحاصل منه ومن المادة البدنية نوعا طبيعيا ذا مادة وصورة، له تركيب اتحادي بينهما، كما هو شأن النفس، والنفس إذا أثرت في شيء ما أثرت إلا بتأييد هذا الروح المسمى عند بعضهم بالعقل الفعال.
وإليه أشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله:
" إن الله تبارك وتعالى خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وهو أول ما خلق الله، قال له: " أدبر " فأدبر. ثم قال له: " أقبل " فأقبل. فقال: " تكلم " فقال: الحمد لله الذي ليس له ضد ولا ند، ولا شبيه ولا كفو، ولا عديل ولا مثل، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل.
فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعز منك، بك أحيي وبك آخذ، وبك أعطي وبك أوحد، وبك أعبد وبك أدعى، وبك أرتجى وبك أبتغى، وبك أخاف وبك أحذر، وبك الثواب وبك العقاب.
فخر العقل عند ذلك ساجدا، فكان في سجوده ألف عام، فقال الرب تبارك وتعالى: إرفع رأسك، وسل تعط، وأشفع تشفع.
فرفع العقل رأسه فقال: إلهي أسألك أن تشفعني فيمن خلقتني فيه.
فقال الله جل جلاله: أشهدكم اني قد شفعته فيمن أخلقه فيه ".
وهذا الحديث متفق عليه بحسب الفحوى، وإن كانت العبارات مختلفة النقل، وإني اخترت هذا النقل لكونه أمتن وأوثق، وقد شرحت معنى الإدبار والإقبال المنسوبان إلى العقل الفعال في تفسيرنا لآية الكرسي بما لا مزيد عليه، وذكرنا هناك أن هذه الصفات كلها صادقة في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب المقام المحمود عند ربه.
إشارة
واعلم أن الروح البخاري الموضوع لمسائل علم الطب، ظل محاك للروح الإلهي، ومحل استوائه عليه ومعسكر لقواه وجنوده، وهو أيضا حاصل بعد تسوية العناصر وتعديلها وتوسطها في الكيفية بين الأطراف المتضادة، كما إن هذا الروح الإلهي الذي هو موضوع لمعرفة الله وعلم المعاد، حاصل بعد تسوية الأخلاق وحصول العدالة والتوسط في الصفات الأربعة بين أطرافها المتقابلة، فإن " العدالة " كيفية حاصلة من العفة المتوسطة بين إفراط القوة الشهوية - المسماة بالفجور - وتفريطها - المسماة بالخمول -، ومن الشجاعة المتوسطة بين إفراط القوة الغضبية وتفريطها - المسماتين بالتهور والجبن -، ومن الحكمة المتوسطة بين طرفي القوة الإدراكية، المسماتين بالجربزة والبلاهة.
والعدالة أيضا متوسطة بين الظلم والانظلام، الحاصلتين من إفراط بعض تلك القوى وتفريطها.
ومعنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" العلم علمان، علم الأبدان وعلم الأديان "
إشارة إلى أن كمال الإنسان بحسب النشأتين منوط بإصلاح هذين الروحين، إذ بمعرفة الطب والعمل بمقتضاها ينصلح الروح الذي بدء خلقه من طين، لأن صفوة العناصر الغالب عليها الأرض ومرجعه إليها، وبمعرفة العلم الإلهي والدين الرباني ينصلح حال الروح الذي هو من الله ومرجعه إليه تعالى، فبإصلاح أحدهما وتعديله ينصلح أمر المعاش في الدنيا، وبإصلاح الآخرة ينصلح أمر المعاد في الآخرة، والأحوط عند الأكياس ترجيح صلاح المعاد على صلاح المعاش، وعيش الآخرة على عيش الدنيا، بل
" لا عيش إلا عيش الآخرة "
كما ورد في الحديث، وعليه الأنبياء والاولياء والصديقون سلام الله عليهم أجمعين.
تنبيه فرقاني
إعلم أن أكثر الألفاظ الواردة في الكتاب الإلهي كسائر الألفاظ الموضوعة للحقائق الكلية، مجملة، يطلق تارة ويراد به الظاهر المحسوس، ويطلق تارة ويراد به سره وحقيقته وباطنه، وتارة يطلق ويراد به سر سره وحقيقته وباطن باطنه.
وذلك لأن أصول العوالم والنشآت ثلاثة: الدنيا، والآخرة، وعالم الإلهية، وكلها متطابقة، وكل ما يوجد في أحد من هذه العوالم يوجد في الأخيرين على وجه يناسب كل موجود لما في عالمه الخاص به.
فالروح مثلا، كما يطلق على الجسم البخاري، يطلق أيضا على النفس الحيوانية أو الإنسانية، ويشترك جميع أفرد الإنسان في الاول والثاني، وكذلك يطلق على الروح الإلهي الذي هو محل استواء الرحمان بلا واسطة ومحل نفخه وفيضه، وله الخلافة الكبرى من الحق والسلطنة العظمى نيابة عنه تعالى.
فمن تلك الألفاظ: السمع، والبصر، والفؤاد، فإن هذه الثلاثة ربما يراد بها الأعضاء الثلاثة، كالأذن الغضروفي، والعين الشحمي، والقلب اللحمي، وما يتعلق بها من الأعصاب والأرواح التي كلها من عالم الخلق والتقدير وعالم الشهادة والحس، وربما يراد بها القوة السمعية المدركة للأصوات والألفاظ والنغمات، والقوة البصرية المدركة للأضواء والألوان، والقوة القلبية المدركة للمفهومات وأوئل المعقولات والمسلمات المقبولات، وتارة يراد بالسمع سماع المواعظ والحكم القرآنية، والآيات الإلهية، وبالبصر مشاهدة أولياء الله وأحبائهم ومعارفهم وتصديق حالهم، وبالفؤاد الروح القدسي الواصل إلى الله تعالى بنور العرفان.
وهذه المعاني الأخيرة، مما لا اشتراك لجميع الناس فيه، بل تختص بالمقربين، وكذلك معانيها المتوسطة مما لا يشترك الجميع فيه، إلا أنها أشمل وجودا من الأخيرة، بل تختص بالمتوسطين من الناس، وهم أصحاب اليمين وأهل السعادة العملية، الفائزون بنعيم الآخرة بميراث عملهم، إن لم تكن أعمالهم مشوشة مغشوشة بالجهل المركب والاستبداد بالرأي، والخروج عن صفو الاستعداد المطلق بالأكدار الاعتقادية الباطلة الوهمية في أحوال المبدأ والمعاد.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن قوله: { وجعل لكم السمع والأبصار } ، لما وقع في معرض الامتنان وإظهار الإحسان، فالظاهر أن المراد بالسمع والبصر ها هنا ما يختص بأحباء الله والمتألهين والمقربين، لا المبعدين الناكرين ممن ليس لهم نصيب من القرآن، وهم عن السمع لمعزولون:
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال:23]، ولا من الذين كانوا عمي القلب عن مشاهدة الحقائق كأبي لهب وأبي جهل ونظرائهما في الجهل والعمى والصمم عن مشاهدة آيات الله وسماع ذكر الحبيب.
ولو كان لفظ السمع والبصر والقلب - أينما وقع في القرآن - كان المراد منه ما وقع فيه الاشتراك لجميع الناس من هذه المشاعر الحسية الدينوية، لما سلب الله سبحانه معانيها عن أهل الكفر والجهل بقوله:
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة:171]، مع وجود هذه الآلات فيهم، وكذا قوله:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179]، لعدم انتفاعهم بهذه الآلات بصرفها فيما خلقت لأجله ليزيدهم بسبب شكر هذه النعم الدنيوية نعمة بواطن هذه المشاعر وحقائقها، أو لعدم نصيبهم من تلك النعم الباطنية، وزوال استعدادهم واستحقاقهم لها، كما لا نصيب للأنعام منها، وإنما هم أضل، لبطلان استعدادهم بالمسخ والطمس لعدم الشكر منهم لله على هذه النعم، والعمل بخلاف ما أعطيت له.
وفي قوله: { قليلا ما تشكرون } ، إشارة لطيفة إلى ان هذه الظواهر نعم جليلة يجب الشكر عليها، ليصل إلى مقام أسرارها وحقائقها.
وقوله: { جعل لكم السمع والأبصار } ، وإن كان ظاهره مشعرا بعموم هذه العطية، إلا أن الواقع في معرض الامتنان والإحسان ليس إلا ما يختص بالقليل النادر من الناس من بواطن هذه الظواهر وغيوب هذه الشواهد، لأن قوالب هذه الآلات بمجردها ليست من الأمور الشريفة الباقية الأخروية حتى يلائم ذكرها بعد ذكر الروح الأمري الحاصل بالنفخ الإلهي، وعدها في معرض ذكر الأفعال الإلهية، وبعد ذكر عظائم الأمور الصادرة من الحق سبحانه.
ومن الدلائل القاطعة على أن أهل الحجاب الكثيف، وأصحاب التجسم والبعد عن عالم الملكوت محرومون عن النظر إلى آيات الله وشهود أهل الله، مع وجود هذه الباصرة الدنيوية، قوله تعالى:
وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
[الأعراف:198] أي ينظرون اليك من حيث بشريتك، ولا يبصرونك من حيث نبوتك، فإنهم لا يرون من أولياء الله وأحبائه ومحبوبيه إلا البشرية المحسوسة، وليس لهم اطلاع على أعيان الآخرة وأهل القرابة الإلهية، ولذلك حكى الله عن نكرهم وجهلهم وإنكارهم واستنكارهم لوجود الأنبياء بقوله:
قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا
[يس:15]، وبقوله:
إن أنتم إلا بشر مثلنا
[إبراهيم:10].
وإن سألت الحق فليس معنى الكفر الا هذه النكرة، والاحتجاب بهذه الحياة الدنيوية، والالتباس بهذه الحواس الحسية، والإنسان ما لم يتجرد من هذه الغشاوات والأسبال (لاسباب - ن)، لم يخرج إلى فضاء الإيمان ومعارفة أهل الإيقان وأصحاب المشاهدة والعيان، فكن أحد الرجلين: إما سميعا بصيرا بالسمع والبصر الأخرويين، عارفا بحقائق الأمور، شاهدا بحال أولياء الله تعالى، وإما مقلدة متشبثا بذيل قائد يسمع آيات الله بسماع عقلي، ويرى ملكوت السموات والأرض ببصيرة كشفية، فتكون بصيرا ببصره وسميعا بسمعه ماشيا بمشيه، كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
" صلوا كما رأيتموني أصلي "
، ولو قال:
" صلوا كصلاتي "
من الذي قدر على مثل صلاته، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي وفي قلبه أزيز كأزيز المرجل لهيبة الحضور من الرب سبحانه، ودهشته مشاهدة ملكوته.
فالرجل الاول حي بالذات حياة طيبة، والثاني حي بالعرض كشعر الحيوان وعظمه وظلفه.
[32.10]
قالوا - أي منكرو البعث والحشر، وقيل: القائل أبي بن خلف ولرضاهم بقوله أسند إليهم جميعا.
أإذا ضللنا في الأرض، أي غبنا فيها وصرنا ترابا محضا، أو ذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضل الماء في اللبن، فإن كل شيء غلب عليه غيره حتى يغيب فيه فقد ضل، وقيل معناه: غبنا في الأرض بالدفن فيها، من قول الشاعر:
وآب مضلوه بعين جلية
وغودر في الجولان حزم ونائل
وعن قتادة ومجاهد: إن معنى " ضللنا ": " هلكنا ".
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، " ضللنا " - بكسر اللام - يقال: ضل يضل وضل يضل.
وقرأ الحسن: " صللنا " من: صل اللحم وأصل إذا أنتن، وربما يقال في معناه: صرنا من جنس " الصلة " وهي الأرض.
{ أإنا لفي خلق جديد }؛ استفهام إنكاري لغاية كونه مستبعدا، بل مستحيلا عندهم، أي أنحن أحياء مبعوثون بعد الفساد والاضمحلال؟ فالظرف في: { أإذا ضللنا } متعلق بما يدل عليه { أإنا لفي خلق جديد } من نحيا أو نبعث أو نخلق مجددين.
{ بل هم بلقآء ربهم كافرون }: أي إنكارهم للوعد والوعيد والثواب والعقاب وكفرهم بجميع ذلك، إنما نشأ من كفرهم بلقاء ربهم وجحودهم لبعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكذيبهم لأصل النبوة، وإلا فبعد تصحيح أصل التوحيد والرسالة، لم يبق لإنكار ما يخبر به المخبر الصادق مجال، نعم ينبغي أن يزال ظاهره عن الاستحالة والامتناع، وهو كذلك كما يظهر عند التأمل.
هذا ما سنح لهذا العبد، وظني أنه أولى مما ذكر في الكشاف بعد ما جعل معنى: " لقاء ربهم " الوصول إلى العاقبة، أي تلقي ملك الموت وما وراءه، وهو أنه لما ذكرهم كفرههم بالإنشاء، أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالإنشاء وحده، ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك بمعوثين للحساب والجزاء.
حكمة قرآنية
إعلم أن علم المعاد من أعظم أمهات الإيمان وأصوله، وأشرف الحكمة المتعالية وفصولها، قل من الحكماء من لم يزل قدمه في سلوك طريقه. وندر من العلماء من بلغ فهمه إلى درك تحقيقه، وخاض في لجة بحر تعميقه، فالناس في الاعتقاد بهذه المسألة بين مقلد محض وجاحد صرف، كم من مجتهد في سائر المسائل إذا وصل هاهنا حمل قلادة التقليد على عنقه طاعة للشرع المبين، وكم من باحث يسلم سائر المقدمات الإيمانية ويقبل بفهمه جل الأصول الاعتقادية، متى استعرضت هذه المسألة على طبعه الوقاد جحد وأنكر ونهج طريق الغواية، وانحرف عن جادة الحق واليقين.
ولأمر ما وقع التكرار والتكثار في القرآن المجيد لبيانها، ودفع الإنكار والاستنكار عن الخصوم بطرق كثيرة لتبيانها، والاهتمام لتحريرها وتقريرها أزيد من غيرها، وذكر جحود الجاحدين فيها أكثر من ذكر جحودهم في غيرها.
وإني لم إر أحدا من الفضلاء عنده خبر تحقيق في هذا المرام، الذي هو قرة عيون الكرام، ولا وجدت في كلام أحد من فحول علماء الإسلام من السابقين واللاحقين ما كان فيه شفاء لعليل هذا الداء العضال التي عيت أطباء القلوب من الحكماء العظام، أو يكون به رواء غليل في حل هذا الإشكال التي عمت داهيته الخاص والعام. وقليل من فحول أساطين الحكماء الربانيين من حقق علم المعاد الجسماني على النهج اليقيني، والطمأنينة البرهانية والسكون العرفاني، لأن المقدمات الحسية الدنيوية لا تنتج النتيجة الأخروية، والقضايا الدائمة العقلية لا تستوجب المطلوب المثالي، فكيف يجد الإنسان الطريق إلى مثل هذا المطلوب الذي هو أحد عمودي الاعتقاد، وهما علم المبدأ وعلم المعاد؟
والحكماء كأبي علي بن سينا ومن في طبقته، وإن بلغوا في تقديس المبدأ وتنزيهه عما لا يجوز عليه من المثل والشبه والنظير إلى ما بلغوا، ووصلوا في توحيده تعالى عن شوب الاثنينية والتركيب العيني والذهني والاعتباري والتحليلي، وعن وصمة القصور والإمكان العقلي إلى ما وصلوا، لكنهم قد قصروا بأسرهم في علم المعاد، وقد اعترفوا عن آخرهم بالعجز والقصور عن الاطلاع والعثور على أحوال الآخرة ونشأة القبور وحالة النشور. وكان هذا المقصود مما لا يمكن الوصول إليه والاطلاع عليه إلا بنور متابعة أفضل الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، والاقتباس من مشكاة نبوته والاستضاءة بنور أوليائه وأتباعه والاقتداء بهداهم .
لمعة الهية لإزاحة ظلمة شيطانية
إن ما حكى الله سبحانه عن الكفار بقوله: { أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد } إشارة إلى أعظم شبهة يتمسك بها الجاحدون للمعاد، واقوى ريبة يتشبث بها المنكرون للبعث يوم التناد، وقوله: { بل هم بلقآء ربهم كافرون } ، إشارة إلى أجل ما يصلح للجواب وأعلى ما يتصور في دفع الخطاب.
أما شرح تقرير الشبهة: فهو أن عمدة ما يشوش الذهن، ويتبلد الطبع في باب المعاد، أنه يلزم من إعادة الإنسان بعد موته إما إعادة المعدوم - وإن كان البدن المعاد هو بعينه البدن الذي كان في الدنيا - وذلك أمر مستحيل عند العقل، وإما أن يكون المثاب والمعاقب غير الشخص الذي فعل الطاعة أو المعصية بحسب العدد، فقوله { أإذا ضللنا في الأرض } - الآية أي عدمنا وصارت أجسامنا مستحيلة إلى التراب وزالت هويتنا الشخصية، فعند ذلك يتجدد لنا وجود آخر، والوجود يساوق التشخص، فكما أن شخصا واحدا لا يكون له تعينان وهويتان، فكذا لا يكون له وجودان، وإلا لزم أن يكون الواحد اثنين، وهذا بعينه هو ما حكى الله تعالى عن قول من يجحد الآخرة بقوله:
ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا
[مريم:66].
وأما تفسير الجواب وتوضيحه على وجه تندفع هذه الشبهة ونظائرها، فهو مما يستدعي تمهيد مقدمة هي: أن جميع الموجودات العالمية سيما الإنسان، كائنة على وجه يتوجه نحو المبدأ بحسب الجبلة والفطرة، وهو الدين الإلهي الفطري الذي لا يخلو عنه طبيعة ولا جسم، ولا عقل ولا نفس، ولا سماء ولا أرض، ولا بر ولا بحر، ولا ملك ولا حيوان، إلا من غلب عليه الوهم من شياطين الإنس والجن، فجميع الموجودات متوجهة نحو المبدأ جل شأنه طبعا وإرادة لقوله تعالى:
فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت:11].
إلا أن الإنسان الكامل، ممن وصل في سيره الحثيث إلى المقصود الأصلي، والمحبوب الأول العلي، وبلغ إلى الغاية التي يتوجه إليها بحسب فطرة الله التي فطر الناس عليها، ورجع وعاد إلى المبدأ الذي فارقه وصدر عنه،
كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
[الأعراف:29 - 30]
ومن يهن الله فما له من مكرم
[الحج:18].
فإذا علمت هذا، فاعلم أن هذه الحركة المعنوية الإنسانية من لدن كونه منيا وجنينا إلى غاية كونه بالغا عاقلا ذكيا صبورا شكورا حكيما وليا، وهلم إلى أن يصل إلى جوار الله وقربه، لا بد لها من موضوع باق من أول الحركة إلى منتهاها، وإلا لم يكن الشاب ما كان طفلا صغيرا بعينه، ولا الذي سيكون شيخا كبيرا، ومع ذلك فقد تبدل منه جميع ما كان له من مقداره وكيفه وأينه ووضعه ومتاه وانفعاله وفعله وجميع ما يقال له في عرف أهل النظر: العوارض المشخصة.
فقد علم أن من ظن أن هذه الأمور مفيدة للتشخص، أو هي بأعيانها مساوقة للشخصية، فقد أخطأ خطأ فاحشا، بل أمثال هذه الأمور ما هي إلا أمارات لشخص واحد، وآثار منسوبة إليه بوجه من الوجوه من غير علاقة لزومية بينها وبينه، وإنما الهوية هي نحو وجوده الذي هو نصيبه من فيض الربوبية، ولكل وجود من الوجودات الفائضة عنه تعالى شؤونات مختلفة متفاوتة في كثرة التطورات وقلتها بحسب سعة قوته وبسط نشأته.
والوجود في غير الإنسان من موجودات هذا العالم، ليس له إلا مجال ضيق من حد من النقص إلى حد من الكمال بحسب الدنيا، كالبذر الذي يصير ثمرة، كان انتقاله من حد الجمادية إلى حد النباتية، أو كنطفة الحيوان التي تصير حيوانا غير ناطق، فإن سعة سيره ومسافة سفره من حد الجسمية إلى حد الحيوانية.
وأما وجود نوع الإنسان، فهو أوسع مجالا وأكثر آثارا وأفعالا، وأرفع صعودا إلى جهة العلو، وأعظم قوسا من النصف الصعودي من دائرة الوجود الذي وقع فيه السفر إلى الله، والتوجه إلى جنابه للموجودات العالمية، وذلك لأنه يرتحل في سيره الحثيث من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية الدائمة، وينتقل في جوهره من نشأة إلى نشأة ثانية.
وهذا الارتحال والانتقال، أمر عام فاش مشترك بين سائر أفراد الإنسان، يستوي فيه الشقي والسعيد ، فإن التوجه الفطري إلى الله تعالى، لا ينافي الشقاوة والكفر، لما ذكرنا أن الكل متوجهون إليه تعالى، وإلى الدار الآخرة، لأن النفس الإنسانية منه تعالى بدؤها وإليه رجعاها:
إن إلى ربك الرجعى
[العلق:8] ومن الله شروقها وغروبها، فهبطت إلى هذا القالب الفاني، وغربت فيه، وستطلع هذه الشمس عند خراب القالب من مغربها، وتعود إلى بارئها وخالقها إلا أن نفوس السعداء شموس زاهرة مشرقة غير محجوبة عن الحضرة الربوبية، وأن نفوس الأشقياء المردودين إلى أسفل السافلين، مظلمة منكسفة ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين، كما في قوله:
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة:12].
فبين أن نفوس الأشقياء أيضا راجعة إلى ربهم متوجهة إليه فطرة كالسعداء فطرة وإرادة، إلا أنهم لكراهة لقاء ربهم منكوسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل، وذلك لحكم الله وقضائه السابق فيمن حرمه توفيقه.
وأما تمام هذا السفر الجبلي والتوجه الفطري إلى الغاية الحقيقية والمقصود الأصلي، فإنما يتأتى للكمل والأفراد والأقطاب والأوتاد، الذين لأجلهم خلق العباد، وبهم رزق الورى ولهم يمطر السماء، فهم الذين يرتقون بالمعراج المعنوي والميل الباطني الجبلي من حد الهيولانية الجسمية والنطفية إلى عالم البشرية والفلكية والملكية، مارا على كل نفس وعقل، حتى بلغوا إلى الغاية القصوى والمقصد الأسنى، قاطعا كلتي نصفي دائرة الوجود نزولا وصعودا إلى مجاورة الحق المعبود، مسافرا من هذا العالم الفاني الهيولاني الذي وقع في صف نعال مجلس الإفاضة والخير والجود، منتهيا وأصلا بقدمي العلم والعمل إلى كعبة المقصود، وفي جميع هذه المراتب والدرجات، هو شخص واحد تنحفظ وحدته وشخصيته بفاعله وموجده، وتبقى هويته العينية بنحو وجوده اللائق به - وإن تطور بهذه الأطوار وتشأن بهذه الشؤون.
فإذا تبين وتحقق لك هذا، فاعلم أن قوله سبحانه: { بل هم بلقآء ربهم كافرون } ، إشارة إلى رد شبهتهم، وفك عقدتهم من وجوه:
الأول: التنبيه على قصورهم عن درك هذا التوجه الفطري للعباد إلى عالم الآخرة، ولقاء ربهم في المعاد.
الثاني: التنبيه على فساد قولهم : " إن الشخص المعاد في المعاد غير الذي كان في الدنيا بحسب الشخصية والعدد مطلقا " ، بل هذا ذاك بحسب الباطن والحقيقة، كما أن زيدا الشاب هو بعينه زيد الطفل، وإن تبدلت جثته وجميع أعراضه وصفاته، وذلك لأن تشخص الشيء بفاعله ومقومه ونحو وجوده الذي هو به هو، لا ببدنه وأعراضه المتبدلة، وإطلاق الشخص على الأعراض المكتنفة من باب تجوز التسمية للشيء باسم سببه، وزوال الأثر والعلامة لا يستلزم زوال المؤثر المعلوم به، - فتفطن -.
والثالث: الإشعار بأن إنكار المعاد، والجهل بوجود عالم آخر إليه رجعى العباد، وفيه حشر الأجساد للحساب والميزان إنما نشأ للمغترين بعقولهم القاصرة، المحجوبين بفطانتهم البتراء وبصيرتهم الحولاء، لعدم اهتدائهم إلى أن وجود الإنسان ووقوعه في هذا العالم أمر عارض له بعد خروجه عن فطرته الأصلية التجردية. ونزوله عن جنة آدم أبيه بجناية صدرت منه، وكل من خرج من موطن ومعدن لأمر عارض، لا بد وأن يرجع إليه ولو بعد حين، ما دام بقاؤه على فطرته الأصلية، وعدم مسخه وطمسه بالكلية، وكما أن معادن النفوس مختلفة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "
، فكذلك غايات قصودهم، ومراكز حركاتهم، ونهايات أسفارهم، كما أشير إليه في قوله تعالى:
قد علم كل أناس مشربهم
[البقرة:60].
فالنفوس التي لا تكون بينها وبين الحق الأول واسطة تنجذب إلى جنابه طبعا، كما تنجذب إبرة من حديد إلى مغناطيس غير متناهي القوة، وهذه النفوس هي العارفة بالله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأما النفوس الصادرة عنه بواسطة الوسائط الفلكية، أو النفسية، أو العقلية، أو البرازخ الجسمانية الجنانية، أو الجهنمية، فيقع لهم الانجذاب إلى معادنهم الأصلية لحكمة قضائية وقدرية، وإليه أشار الشيخ عبد الله الأنصاري في قوله: " الهي تلطفت لأوليائك فعرفوك، ولو تلطفت لاعدائك لما جحدوك ".
فالنفوس التي لم يكن بينها وبين الأول حجاب من عقل أو نفس أو دنيا أو آخرة، فهم الذين يكونون في الصف الأول في القرب، والعرفان بالوحي أو الإلهام أو المشاهدة، لقوله تعالى:
والسابقون السابقون * أولئك المقربون
[الواقعة:10 - 11] وأما النفوس التي بينها وبينه حجاب وواسطة، فإما أن يعرفوها من وراء حجاب أو حجب كالرسالة والإمامة، لقوله تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا
[الشورى:51]. فكل من هؤلاء له مرتبة معينة من الجنان، ودرجة خاصة من مثوباتهم عن الرحمان، وإما أن يجحدوا لقاء الله تعالى والدار الآخرة، فلا محالة ليست درجتهم فوق أن يصلوا إلى أدنى المنازل وأسفل السوافل، وهي الجحيم التي هي حقيقة هذه الدنيا الفانية، وصورة الطبيعة التي هي الحطمة الكبرى، وستصير مطلعة على الأفئدة، لقوله تعالى:
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة:6 - 7]. وستظهر صورتها الحقيقية منكشفة على من خرج من غبار هذا العالم، كصورة الجنان لمستأهليها، لقوله:
وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين
[الشعراء:90 - 91].
فالنفوس الكافرة الجاحدة ليس لها وزن بعوضة عند الله، ولا لها نصيب إلا من جنس هذه الدار التي ستبرز في صورة جهنم للأشرار، لقوله تعالى:
وبرزت الجحيم لمن يرى
[النازعات:36] فتصير معلومة لهم يوم القيامة بالشهود العياني، لقوله تعالى:
كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين
[التكاثر:5 - 7]، وذلك لكشف الغطاء عن عين بصيرتهم، فصار بصر بصيرتهم حديدا، لقوله:
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22] وإلا فهي موجودة معهم هاهنا وفي إهابهم، لقوله تعالى:
ذلك ما كنت منه تحيد
[ق:19]،
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[التوبة:49].
تتمة تنبيهية
إعلم أن في هذا المقام أبحاثا قوية وتحقيقات شافية تتكفل لدفع شكوك وشبه أوردت على مسألة المعاد الجسماني وبعث الأبدان، ورد الأرواح إليها، حسب ما نطقت به الآيات القرآنية وجاءت به الشريعة النبوية على الصادع بها وآله السلام والتحية، وإثبات وجود عالم آخر مقداري غير هذا العالم في داخل حجب السموات والأرض، غائب عن شهود هذه الحواس الدنيوية، فيه جنة السعداء وجحيم الأشقياء، ذكرناها في كتابنا المسمى بالمبدأ والمعاد، لولا مخافة الخروج عن طور التفسير لأوردتها جملة، فمن أراد فليرجع إليها هناك، لكن الواجب على المستبصر أن يعلم هنا هذا القدر الذي نذكره منها إجمالا، وهو أن عمدة شبه المنكرين للمعاد الجسماني وإشكالاتهم أمور:
أحدها: هو الذي ذكره الله تعالى حكاية عنهم، وأزاح فساده ووقى شره في عدة مواضع من القرآن.
منها: ما مر في هذه السورة سؤالا وجوابا.
ومنها: ما ذكره في سورة مريم بقوله:
ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا
[مريم:66 - 67].
ومنها: ما ذكره في سورة يس بقوله:
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة
[يس:78 - 79] وأسلوب إزالة الشبهة في الجميع واحد، كما مر ذكره.
وثانيها: ان القيامة والبعث والحشر والجنة والنار إذا وقعت وتحققت، فهي في أي موضع تكون؟ أهي في السماء أو في الأرض أو فيما بينهما؟.
فإن كانت واقعة في وجه الأرض فكيف يسع وجه الأرض لجميع الخلايق كلها.
وقد برهن على قدر مساحتها بحيث لا يسع افراد الإنسان التي حصلت في مدة ألف سنة إذا بقي التناسل وارتفع الموت، فكيف من اجتماع الأفراد الحاصلة في مدة متطاولة ودهور غير محصورة في عدد؟.
وإن كانت في داخل أطباق السموات، فكيف يوافق هذا قوله تعالى:
وجنة عرضها السماوات والأرض
[آل عمران:133].
وإن كانت فوق الأفلاك كلها، فيكون وجودها في لا جهة مع كونها ذات جهات.
والجواب عنه: إن الآخرة عالم تام برأسه ليست تنتظم مع هذا العالم في سلك واحد، ولا هي واقعة في جهة من جهات هذا العالم، ولا في حيز من أحيازه، لكونها نشأة ثانية غير هذه النشأة، كما أن ما يراه الإنسان في نومه من الأمور العظيمة والأفلاك والصحارى الواسعة، ليست واقعة في حيز من أحياز هذا العالم الحسي، فهذا جواب إشكالهم من جهة المكان.
وثالثها: وهو الإشكال الناشئ من جهة الزمان والحركة، وبيانه: أن وجود القيامة لا بد وأن يكون في زمان مستقبل يتجدد عقيب هذا الزمان الذي نحن فيه، فيلزم أن يتصل زمان الدنيا مع زمان الآخرة في امتداد واحد، واتصال الزمان يستلزم اتصال الحركة الحافظة له، واستمرار الجسم المتحرك حركة سرمدية دورية غير متناهية الأعداد والأدوار والأكوار، وهذا يستلزم استمرار هذه الدار، وبقاء الفلك الدوار، وهو مما يصادم القوانين الدينية والقواعد الملية، لقوله تعالى:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر:16]، وقد أشار تعالى إلى تقرير هذه الشبهة المفصلة بقوله:
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين
[يونس:48].
والجواب الحق، ما وقعت الإشارة إليه بقوله سبحانه:
ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون
[يس:49].
وتوضيحه على وزان ما علمت من المذكور في دفع الشبهة الواردة من جهة المكان، فإن الزمان والمكان متوافقان في الأحكام، و " أين " و " متى " متلازمان في نحو الوجود والقوام، منسلكان في سلك واحد من الانتظام، فكما أن مكان الآخرة خارج عن أمكنة هذا العالم، فكذا زمانها خارج عن أزمنة هذه الدار الفانية، بل هما محيطتان بهذين، نسبة كل منهما نسبة واحدة إلى ما بأزائها من خصوصيات أمكنة هذا العالم وأزمنته.
أولا ترى أنه قد عبر عن زمان الآخرة بغاية العلة، لقوله:
ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل:77]. تنبيها على فعلية الأشياء هناك، وكونها على غاية الكمال والتمام.
وأنت إذا قست مبادي الحركات المتفاوتة قوة وضعفا وسرعة وبطوء بعضها إلى بعض، كقوى الرامين سهاما نحو المرمى في مسافة واحدة، فوجدت كلما كان أقوى قوة وأسرع حركة فهو أقل زمان حركة، حتى لو فرضت قوة مباشرة للتحريك في غاية الشدة، كانت الحركة واقعة منها دفعة واحدة، فإذا أشير إلى زمان الآخرة أشير إلى أقل ما يتصور من الأزمنة، وإذا أشير إلى مكان الآخرة أشير إلى أوسع ما يتصور من الأمكنة، كقوله:
وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين
[آل عمران:133]، وأمر الإعادة كأمر الإبداع
ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر
[القمر:50]، وشأن البداية كشأن النهاية حذو القذة بالقذة، وكل إنسان يرجع في آخر أمره إلى فطرته الأصلية التي خرج منها، ورد إلى مبدئه الذي صدر عنه ما لم تتغير فطرته الأصلية بالمسخ أو الطمس، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وقد اختلفوا في أن البرزخ الذي ستصير الأرواح إليها بعد المفارقة عن الدنيا، هو عين البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام الطبيعية أم غيره؟.
والأكثر على أن أحدهما غير الآخر حقيقة، قائلين بأن تنزلات الوجود ومعارجه دورية، مستدلين بأن الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير، إنما هي صور الأعمال ونتيجة الأفعال السابقة في النشأة الدنيوية، بخلاف صور البرزخ الأول، فلا يكون أحدهما عين الآخر، لكنهما مشتركان في كونهما عالما غير مادي وجوهرا غير طبيعي.
وأقول: فيه بحث كشفي لا يمكن عرضه لغير المكاشف على وجهه، إلا أنه يجب أن يعلم كل سالك أن وحدة الجواهر العالية والمبادئ المتعالية ليست من قبيل وحدة الأشخاص الطبيعية الواقعة في عالم التضايق والتصادم والتضاد، ويعلم أيضا أن وحدة الموضوع التي اعتبرها المنطقيون في شرائط التناقض، لا بد أن تختص بما يتحقق في الماديات، حتى يثبت التناقض بين الأمرين المتناقضين، وإلا فكثيرا ما تجتمع المتناقضات في موضوع غير طبيعي موجود في غير هذا العالم، فإن المتقابلات حاضرة عند المرتفعين عن حضيض هذا الأدنى، وصدق الكلي الطبيعي على أفراده المتقابلة تنبهك على هذا، وكذلك الحكم عندما يتصور العقل وجودا وعدما، وسوادا وبياضا لشيء واحد.
ومما يدل على ما ذكرنا قوله تعالى:
هو الأول والآخر
[الحديد:3] وكذا قول الحكماء: إن الواجب تعالى مبدء الأشياء وغايتها، وقولهم: إن العقل الفعال ثمرة العقل المستفاد، كما أنه مبدأ فاعلي له، وكذا ما عليه المحققون من العرفاء، أن العقل الأول هو الحقيقة المحمدية عند انبعاثه ووصوله إلى المقام المحمود المختص به.
وبالجملة، إن العالم المتوسط البرزخي من جملة مبادئ الإنسان التي قد نزلت حقيقته وماهيته منها، وسيقع رجوع النفس إليها، والكلام في وحدة ذلك العالم وتعدده صدورا وورودا، كالكلام في سائر المبادئ المحصلة لماهية الإنسان أولا، والمكملة لوجودها أخيرا.
فافهم واغتنم إن كنت من أهله، وإلا فأنت وشأنك.
والإشكال الرابع: إنه إذا صار إنسان معين غذاء لإنسان آخر، فالأجزاء المأكولة إما أن تعاد في بدن الآكل، أو في بدن المأكول، وأيا ما كان، لا يكون أحدهما بعينه معادا بتمامه.
وأيضا إذا كان الآكل كافرا والمأكول مؤمنا، يلزم تعذيب المطيع وتنعيم العاصي، أو يلزم أن يكون الآكل كافرا معذبا، والمأكول مؤمنا منعما مع كونهما جسما واحدا.
واندفاعه بما مهدناه؛ في إن تشخص كل إنسان إنما هو بنفسه، وأما بدنه من حيث هو بدنه فليس له تشخص إلا بالنفس، بل ليس له من هذه الحيثية حقيقة ولا ذات حتى يكون له في ذاته تعين بهذا الاعتبار وتوحد إلا بحسب ما يتصرف فيه نفسه، ومن حيث إضافته إلى نفسه، وليس من شرط كون بدن زيد - مثلا - محشورا، أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولا لسبع أو إنسان من حيث هو جسم معين له حقيقة في نفسه لحمية أو عظمية أو عصبية محشورا يوم القيامة، أي بهذا الاعتبار، بل المحشور ليس إلا بدن زيد بما هو بدن زيد بعدما انحفظت شخصيته بنفسه التي تكون جهة وحدته وتشخصه، وإن تبدلت بجميع أجزائه وصفاته في نفسه، لا بأنها أجزاء بدن زيد من حيث هي أجزاء بدن زيد بعينها، فاعتبر ببقاء شخصية زيد تمام عمره مع تبدل أجزائه كلا أو بعضا.
فاعتقادنا في حشر الأبدان يوم الجزاء؛ هو أن تبعث من القبور أبدان إذا رأيت كل واحد منها لقلت هذا وفلان، وذاك فلان - اعتقادا مطابقا للواقع -، لا أن تكون تلك الأبدان مثلا وأشباحا للأشخاص الإنسانية، وذلك لأن المعلوم من الآيات والمفهوم من الشرايع والديانات، أن المعاد في المعاد هو مجموع النفس والبدن بعينهما، دون مجرد النفس - كما رآه المشاؤون - أو مع بدن آخر عنصري - كما رآه بعض -، أو مثالي - كما ذهب إليه الإشراقيون -، وهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للعقل والشرع، الموافق للملة والحكمة، فمن صدق وآمن بالمعاد بهذا، فقد آمن بيوم البعث والحساب والجزاء، وقد أصبح مؤمنا حقا، والنقصان عن هذا خذلان، بل كفر وطغيان.
ولا يلزم من هذه أن يعتقد أن مشوه الخلق يجب أن يبعث مشوه الخلق، ولا الأقطع والأشل والأعمى والهرم يجب أن يبعثوا كذلك، كيف وقد ورد في الأحاديث خلاف ذلك، فعود الشكل والهيئة والمقدار عينا أو مثلا غير لازم، كيف وقد ورد في الحديث:
" إن ضرس الكافر مثل جبل أحد "
" وإن أهل الجنة جرد مرد "
بل اللازم شكل ما وهيئة ما ومقدار ما، مع انحفاظ التشخص.
وليس بواجب في كل فرد من الإنسان أن يحشر مع بدن من الأبدان، بل الكاملون في العلوم إنما يحشرون إلى الله، مفارقين عن الأجسام بالكلية، منخرطين في سلك الملائكة المقربين، الذين طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس، وهم الذين من خشية ربهم مشفقون.
[32.11]
" التوفي " و " الاستيفاء " بمعنى واحد، فالمتوفي للنفوس والأرواح هو المخرج لها كلها من الأبدان، بحيث لا يترك منها شيئا، من قولك: " توفيت حقي من فلان " " واستوفيته " إذا أخذته وافيا كاملا من غير نقصان.
وفي الكشاف، نقلا عن مجاهد: " حويت لملك الموت الأرض وجعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء " ، وهذا تمثيل لتصرفه في جذب الأرواح إلى الله تعالى من أصول الأشباح، كجذب الثمار بالقوة النامية من أسافل الشجر إلى أعاليها، وقريب منه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما شاء الله إذا قضى عليه الموت من غير عناء، خطوته ما بين المشرق والمغرب.
وقيل: ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها.
وعن قتادة: يتوفاهم ملك الموت ومعه أعوان كثيرة من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
ووجه ذلك: ان نزع الصورة الشريفة من مادة غير لائقة، وقبض الروح من بدن إلى عالم آخر أعلى رتبة منه، رحمة بالقياس إلى الصورة المنتقلة، وعذاب بالقياس إلى المادة المنتقلة هي عنها، فالملائكة النقالة والقوى الفعالة موكلة من عند الله لايصال الرحمة إلى مستحقيها، والطبائع المنفعلة والقوى الحافظة لصورة المادة السفلية المفارقة عن الأرواح العالية، هي من سدنة العالم الأدنى، وهي المسماة بملائكة العذاب، وإن كانت في فعلها رحمة ومصلحة بوجه آخر.
فعلى هذا المراد بملك الموت الجنس كما ذهب إليه جمع، ويدل عليه قوله:
توفته رسلنا
[الأنعام:61]. ونسبة القبض والتوفي إلى ملك الموت وأعوانه من قبيل نسبة الفعل إلى الآلة، لئلا ينافي قوله تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42]، ويلائم ذلك قوله تعالى: { الذي وكل بكم } ، إذ التوكيل تفويض الأمر إلى غيره للقيام به، وليس ها هنا تفويض محض، ولا جبر محض، بل أمر بين أمرين أي وكل ملك الموت بقبض أرواحكم أجمعين، أو واحدا واحدا حتى لا يبقى أحد منكم.
ثم إلى ربكم ترجعون بجذبة " ارجعي " ، وإن كان الواصل إلى حضرته هم النفوس المطمئنة، فاختص هذا الخطاب بهم في قوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر:27 - 28]، والباقون يحشرون إلى جزاء ربهم من الثواب والعقاب.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الأمراض والأوجاع كلها بريد الموت ورسل الموت، فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه، فقال: يا أيها العبد، كم خبر بعد خبر؟ وكم رسول بعد رسول؟ وكم بريد بعد بريد؟ أنا الخبر الذي ليس بعدي خبر، وأنا الرسول. أجب ربك طائعا ومكرها.
فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه، قال: على من تصرخون وعلى من تبكون؟ فوالله ما ظلمت له أجلا، ولا أكلت له رزقا، بل دعاه ربه، فليبك الباكي على نفسه، فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحدا ".
وهذا الحديث قد دل على ما بيناه، من كون القابض للأرواح إنما نصب من الله لإيصال كل أحد إلى جوار الله ورحمته ودعوة ربه، لا للنقمة والعذاب، إلا أن النفوس الشقية الجاهلة بنعمة الله ورحمته، تستوحش من الحق لا لفهم بهذا العالم وأنسهم بالحشرات واعتيادهم باللذات الخسيسة ومقارنة المؤذيات، كما أشار إليه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" فليبك الباكي على نفسه ".
رموز قرآنية ولوائح ربانية
منها: أنه يستفاد للمتأمل في هذه الآية ونظائرها أنك قاصد إلى ربك منذ يوم خلقت نطفة في الرحم وتعلقت بها نفسك، فإنك أبدا منتقل من حالة هي أدون إلى حالة هي أعلى وأشرف، ومن مرتبة هي أنقص إلى أخرى هي أتم وأكمل، وهكذا إلى أن تلقى ربك وتشاهده ويوفيك حسابك، فإن لم تتعلق بك أثقال وأوزار من جنس هذه الدار الفانية، فتبقى عنده مخلدة مسرورة دهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وإلا فتكون من الخاسرين والمنكوسين والمتردين إلى أسفل السافلين، ومما ينبه على ذلك قوله سبحانه:
يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه
[الإنشقاق:6] - إلى قوله -
كان في أهله مسرورا
[الإنشقاق:13].
ومنها: إن هذه الآية وقعت جوابا تفصيليا للشبهة المنقولة عن المنكرين للمعاد وحشر الأجساد، بعد الجواب الأول الإجمالي على الوجه الذي أوضحناه بفضل الله وإلهامه، إذ قد علمت أن توجه النفوس والأرواح إلى عالم المعاد وقرب المبدأ الجواد أمر فطري فطر عليه العباد، لأن الموت نوع من الاستكمال، لأنه بالقياس إلى الروح العلوي وجود وحياة، وبالقياس إلى البدن العنصري المركب والهيكل المحسوس عدم وموت، ولكل استكمال بعد استكمال، لا بد من وسائط بين الله وبين الخلق هي المسماة بملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقد يختلفان بحسب الإضافات كما أشرنا إليه، فملك الموت يقبض الأرواح من عالم أدنى إلى عالم أعلى، ونفس هذا القبض إماتة في هذا العالم وإحياء في عالم الآخرة، ولهذا يسمى بأبي يحيى، لا بما ظن من أنه من باب تسمية الشيء باسم ضده كما هو من عادة العرب، بل في تسميته بهذا روعي كلا الوجهين بحسب النسبتين.
ووجه كون الآية بيانا وموضحا لمسألة الحشر الجسماني، أن أجناس العوالم مختلفة بعضها فوق بعض، وقد ثبت في الحكمة الإلهية، أن الطبيعة ما لم تستوف النوع الأخس لم تقصد النوع الأشرف، وما لم تصل إلى العالم الأدنى لم تتخط إلى العالم الأعلى، أولا ترى أن المني في الرحم يزداد كمالا بعد كمال على الولاء حتى يصير إنسانا، فيصير أولا ذا نفس نباتية، ثم حيوانية، ثم بشرية، من غير أن يطفر مرتبة من المراتب؟
وإلى هذا المعنى أشار تعالى في كثير من الآيات الفرقانية كقوله:
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62]. وكقوله:
أفرأيتم ما تمنون
[الواقعة:58].
ثم لما كانت أجناس العوالم منحصرة في أربعة: اثنان منها روحانيان، وهما عالما العقول والنفوس، واثنان منها جسمانيان، وهما عالما الغيب والشهادة، فالأرواح الإنسانية لا بد أن ترتحل من هذه الدار الآخرة عند توجهها الجبلي إلى الحق، واستكمالها الفطري بحسب النشئآت والحالات، فقوله: { قل يتوفاكم ملك الموت } برهان مبين وبيان متين لإثبات الحشر الجسماني عند من له توغل في القواعد الحكمية والقوانين العقلية.
ومنها: أنه يجب أن يكون محققا عندك أن ملك الموت وأعوانه لا يعدمان، بل يفرق بينك وبين ما هو غير صفاتك وأجزاء ذاتك، لأن القواطع البرهانية، والسواطع القرآنية، والإشارات النبوية، والكلمات المولوية قائمة على أن محل الإيمان والمعرفة لا ينعدم، كما ورد في الحديث:
" أن الأرض لا تأكل محل الإيمان "
وورد أيضا
" خلقتم للبقاء لا للفناء ".
فإذا تيقنت هذا، فاعلم أن للإنسان الكامل في أيام كونه الدنيوي أربع حياتات: النباتية والحيوانية والنطقية والقدسية، فالأوليان دنيويتان، والأخريان عقبويتان.
مثال ذلك " الكلام " و " القول " ، فإن له حياة تنفسية كالنبات، وحياة صوتية كالحيوان، وحياة معنوية كالنفس المفكرة، وحياة حكمية كالنفس القدسية، فإذا خرج الكلام من جوف المتكلم ودنياه، دخل إلى باطن السامع وأخراه، فورد أولا في جوفه - أي في صدره -، كما قيل: " صدور الأحرار قبور الأسرار " ثم إلى قلبه الذي هو آخر منزله ومأواه، فإذا ارتحل من عالم التكلم إلى عالم السمع، انقطع عنه الحياتان الأوليان - أي انقطع النفس وفني الصوت.
ولا يخلو حاله بعد هذا عن أحد أمرين، لأنه إما أن يقع في روضة من رياض الجنة، وذلك إذا كان الجوف الذي دخل فيه صدرا منشرحا بأنوار معرفة الله وإلهامات عالم ملكوته، فيكون قرين ملائكة الله وعباده الصالحين الزائرين لهذا القبر، وإما أن يقع في حفرة من حفر النيران، وذلك إذا كان صدرا منشرحا بالشر والفساد، ومعدنا للشياطين والظلمات، وموردا للعنة الله ومقته أبدا مخلدا، لقوله تعالى :
من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم
[النحل:106].
فإن من البواطن والصدور ما ينزل لزيارته في كل يوم وليلة ألف ألف من الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، لغاية صفائه ونقائه، وكونه مشحونا بالمعارف الإلهية والعلوم الربانية، والعلم صورة المعلوم وحقيقته، فهو روضة الجنان.
ومن الأجواف ما يقع فيه في كل يوم وليلة ألف مجادلة ومخاصمة مع الناس، ويكون معدن الكذب والظلم والوسواس، ومنبع الوحشة والكدورة، والغصة والعذاب الأليم واللعن المقيم، فهو بعينه كحفرة الجحيم.
فالقول والكلام إذا وقع في الصدر المنشرح بنور الإيمان والمعرفة، يتجرد عن العوارض المادية، وينقشر عن الغواشي الظلمانية، فيصير لبا خالصا معقولا لائقا لأن يتغذى به أولو الألباب، فقد وقع في دار الجنان. وإذا هوى إلى جوف الرجل الجاهل والمستجن في صدره المنشرح بالكفر والخسران، فقد وقع في دار الجحيم، واحترق بنيرانات ملتهبة من الحسد والشر والطغيان.
فإذا علمت هذا المثال، فاعلم أن الإنسان إذا مات وارتحل عن هذا العالم، وانقطعت عنه حياته النباتية والحيوانية فقد بقيت له حياتان أخرويتان، فيكون قبره الحقيقي الذي يدخل فيه إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وإطلاق القبر على ما يتعارفه الجمهور من باب التجوز على ما تدل عليه ألسنة الشرائع الحقة، وتشير إليه الأحاديث الصحيحة الواردة في أحوال الموتى وعذاب القبور، لأن قبر كل إنسان يناسب صفاته وأعماله، ولا يمكن مشاهدة القبر الحقيقي بهذه الحواس الدنيوية، لأنه منزل من منازل الآخرة، وإنما تنكشف أحوال القبور للمتجردين عن جلباب البشرية لغلبة سلطان الآخرة على بواطنهم، وإنما قلنا: " انقطعت عنه الحياتان الدنيويتان " ، موضع: " انعدمت " لأن الحقيق عندنا أن ما وجد من الأشياء فلا يمكن انعدامه بالحقيقة، وإلا فيلزم أن يكون مما خرج وزال وغاب عن علم الله، وقال تعالى:
وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السمآء
[يونس:61].
فإذا تحقق هذا، ظهر أن للجسد وجودا كما للنفس، وللقالب تكونا كما للقلب، ولكل منهما قبرا حقيقيا.
فقبر الحياة الجسدانية النباتية والحيوانية ، هو مقدار تكونها التدريجي، ومدة حركتها الاستكمالية في دار الدنيا التي هي مقبرة ما في علم الله من صور الأكوان الحادثة الموجودة سابقا ولاحقا في علمه تعالى: أما الوجود الأول فقبل الورود في مقابر الدنيا بموتها الجسماني، وهو مفاد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام "
، وأما الوجود الثاني فبعد مدة مكثها الدنيوي كما قال:
وإلى الله ترجع الأمور
[آل عمران:109].
وأما قبر النفس والروح، فالى مأوى النفوس ومرجع الأرواح، كل يرجع إلى أصله:
إنا لله وإنآ إليه راجعون
[البقرة:156].
فالله سبحانه أبدع بقدرته الكاملة دائرة العرش وحقيقته العقلية والنفسية، وجعلها مأوى القلوب والأرواح، وأنشأ بحكمته البالغة نقطة الفرش وجعلها مسكن القوالب والأجساد، ثم أمر بمقتضى حكمته الأزلية، وقضائه الحتمي الإجمالي، وصوره الإسرافيلي لتلك الأرواح والقلوب العرشية إن تعلقت بالقوالب والأبدان الفرشية، وأمر بقدرته التفصيلية الاستعدادية أن تقبل قابلية هذه القوالب بحسب إعداد المواد واستعداد هذه الأجساد، شطرا من الأزمنة والإمداد قلوب العباد وأرواح أهل الحشر والمعاد وأصحاب الرجوع إلى الله الجواد.
فإذا بلغ أجل الله الذي هو آت، وقرب موعد الممات للملاقاة والحياة، رجعت الأرواح إلى رب الأرواح قائلين بلسان الحال والمقال:
إنا لله وإنآ إليه راجعون
[البقرة:156] وعادت الأشباح إلى التراب الرميم؛
منها خلقناكم وفيها نعيدكم
[طه:55].
وأما الأرواح المكدرة الظلمانية المنكوسة، والنفوس الشقية التي كفرت بأنعم الله، وصرفها في غير ما خلقت لأجله، قصدت مع أثقالها وأوزارها من حضيض الفرش إلى ذروة العرش بأجنحة مقصوصة وقلوب مقبوضة وأيدي مغلولة بحبائل التعلقات، وأرجل مقيدة بقيود الشهوات و
كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
[إبراهيم:24]، فصاروا ملعونين منكوسين معلقين بين العرش والفرش، لقوله تعالى
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة:12].
فظهر وتبين أن المقابر بعضها عرشية وبعضها فرشية، فالأولى للسابقين المقربين وأصحاب اليمين، والثانية للأشقياء والمردودين إلى أسفل سافلين، فثبت ما ادعيناه من أن الموت وارد على الأوصاف لا على الذوات، لأنه تفريق وقطع، لا إعدام ورفع:
كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
[الأعراف:29 - 30]،
ومن يهن الله فما له من مكرم
[الحج:18].
فالعرش مقبرة الأرواح العرشية: " أول ما خلق الله جوهرة " الحديث والفرش مقبرة الأجساد الفرشية، ونفوسها المنكوسة المتعلقة بها.
ولبعض الجهال المغترين بلامع سراب الأقوال أن يعترض ها هنا، بأن ما ذكرت من البيان، يستلزم أن لا يكون للأجساد حشر في الآخرة، وهو يخالف ما أحكمت بنيانه وأوضحت تبيانه فيما مر مع أن حشر الأجساد، وإعادة الرميم من العظام من ضروريات الشرع المبين لقوله تعالى:
من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة
[يس:78 - 79].
فليعلم - إن كان جهله بسيطا قابلا للإصلاح والتعليم -، إن ما ذكرنا هاهنا ليس مخالفا لما بينا سابقا ولا مبطلا حشر الأجساد، بل يحققه ويصححه، لكن لغموضه ودقته يحتاج دركه إلى قلب سليم وفطرة صافية عن كدورة التعصب والتقليد، وسمع خال عن غشاوة ما يتلقف من الأساتذة، أو يطالع من كتب المشايخ من غير بصيرة ولا فهم جديد، وقد بينا تفاوت هذا المطلب الشريف العالي، والدر الثمين الغالي في بعض كتبنا ورسائلنا وتفاسيرنا لبعض السور والآيات القرآنية، وبرهنا على حقيقة المعاد الجسماني في كتاب المبدأ والمعاد بمعنى إعادة الأشخاص الإنسانية بعين هذه الأبدان، لا بمجرد أشباحها وأمثالها برهانا صحيحا سالما عن النقوض، وبيانا شافيا مبتنيا على مقدمات عقلية جازمة، لا يعتريها شك وطعن على ما هو دأب أهل الحكمة والمعرفة، لا مكتفيا فيه على ما يقبله الجمهور ويستحسن في المشهور، وإن لم يكن مطابقا للواقع كما هو عادة أصحاب الجدل في صنعة الكلام، ولا بدل لطالب اليقين أن يرجع إلى ذلك الكتاب في مسألة المعاد، لضيق المجال ها هنا عن تكثير المقال.
وأما القدر الذي يقع له التنبيه على هذا المطلب بوجه وجيه يقنع به العاقل النبيه: أن الجسم المعين المحسوس، والبدن المشكل الملموس كالإنسان مثلا، أمر مركب من جواهر متعددة تتقوم بها ذاته، وتظهر من اجتماعها الأبعاد الثلاثة مع أعراض لازمة أو مفارقة. والعرض المفارق الزماني لا يبقى زمانين:
بل هم في لبس من خلق جديد
[ق:15] لا على وجه قرره المتكلمون، بل على وجه قرره الحكماء في الأعراض الانفعالية، ثم إذا بطل التأليف، رجع كل جوهر من جواهره إلى عالمه، والجوهر يقوم بذاته أو بمقومات ذاته، والعرض قائم بغيره، ولا يجوز له الانتقال والارتحال من موضوع الدنيا إلى موضوع الآخرة.
لما عرفت من أن العرض الزماني المستحيل مما لا يبقى زمانين، والأعراض المحسوسة من الكميات والكيفيات الموجودة في جواهر هذا العالم متغيرة، لما ثبت أن الأمور الطبيعية مستحيلة من حال إلى حال، متحركة في المقادير بحسب النمو والذبول، وفي الكيفيات المحسوسة والاستعدادية والمختصة بالكميات بحسب تجدد الانفعالات والاستعدادات من المواد المنفعلة عن آثار حركات السماويات، المتأثرة عما يرد عليها من تجدد آثار العلويات وتصرفها للسفليات، كل ذلك طاعة لباريها وجاعلها بحسب الشؤون الواقعة منه بحسب:
كل يوم هو في شأن
[الرحمن:29] التي تستدعيها إفاضة الخيرات وبث نعمة الكمالات بمقتضى:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم:34].
وأما بواقي الأعراض السبعة النسبية، فهي في وجودها وبقائها تابعة لغيرها، لكونها معان انتزاعية، فتجدد ذلك الغير يوجب تجددها، وكل ما يكون متغير متبدلا لا يمكن بقاؤه في دار القرار، وانتقاله بعينه من الدنيا إلى عالم البقاء، فالعرض الذي شأنه التجدد والتغير شيئا فشيئا، كالحركة وما يقع فيه من الزمان وما يطابقه ويوازيه لا يجوز أن يرتحل من هذا العالم إلى عالم الثبات والدوام، وإلا لكان للحركة حركة وللموت موت، فيلزم أن يكون دار البقاء دار الفناء، فتنقلب الآخرة دنيا، والقرار فرارا، والحقيقة بطلانا، والثبات زوالا وهدرا وهباء، والكل مستحيل باطل.
فثبت أن عالم الآخرة غير هذا العالم بالحقيقة والماهية، وهو عالم مستقل تام لا ينتظم مع هذا العالم في سلك واحد، ولا واحد منها مع الآخر في سمت واحد، وفي اتصال واحد زماني أو مكاني موجود أو موهوم، ولا أحدهما جزء من الآخر، ولا في جهة من جهاته، بأن أحدهما فوق الآخر أو تحته أو قدامه أو خلفه أو عن يمينه أو شماله، وإلا لم يكن كل منهما عالما تاما له محدد واحد للجهات المكانية والامتدادات الزمانية، بل كل أحدهما داخلا في الآخرة، مشمولا كلاهما لمحدد واحد لمكانه وزمانه، وليس كذلك، هذا خلف.
ومحصل القول: ان الموت إذا فرق بين جواهر هذه الأجسام الدنيوية، وتلاشى التركيب، بقيت الجواهر المفردة واضمحلت الأعراض والهيآت، ثم إذا جاء وقت العود بأمر الله تعالى، ركب جسم من تلك الجواهر تركيبا محكما، ونشأت نشأة ثانية باقية أبد الدهر، لكون الجسم الأخروي حاصلا من محض جهات الفاعلية، كالإمكان الذاتي وغيره، لا من جهات القابلية كالإمكان الاستعدادي وصلوح المادة وحصول المزاج لامتزاج العناصر، فالأجسام مجرد الجواهر بلا أعراض هذه الدنيا، ولم يكن لها صفات مستحيلة متغيرة حاصلة من انفعال المواد للاستعداد، بل كل جوهر من جواهر الآدميين، يكون في الآخرة عالما تاما برأسه كجملة هذا العالم، فيكون كل إنسان هناك عالما تاما في نفسه، لا ينتظم مع غيره في عالم واحد، مع أن كل إنسان سعيد في الآخرة يحضر عنده كل ما يريد ويرغب في صحبته بلحظة عين وفلتة خاطر وخطرة قلب، وهذا عام فاش لكل واحد من السعداء، وهو أقل مرتبة من مراتب أهل الجنان، فالعوالم هناك عدد غير متناه، كل منها كعرض السموات والأرضين، من غير تداخل ولا مزاحمة ولا مضايقة، كما يعرفه المكاشفون ويشاهده المقربون.
ومما ينبه على هذا، أن هذا العالم الدنيوي بجملة ما فيه، إذا أخذ مجموعا واحدا، لا يحصل من الجواهر العقلية إلا على سبيل الإبداع بحسب جهات عقلية فاعلية لا أنه قد حصل بتمامه من جهة استعداد قابل، ولا أيضا وجد في مكان ولا في زمان، إذ لا مكان للمكان ولا زمان للزمان، فليس لجملة الأجسام مع ما منها وفيها زمان ولا مكان ولا جهة من الجهات، ولا يمكن أن يقال: حدث في أي وقت، وفي أي مكان وجهة.
فهكذا؛ يجب أن يعلم ويتصور حال كل عالم من العوالم الأخروية المتعلقة بواحد واحد من أهل السعادة من الجواهر الإنسانية، فقد علم من هذا وجه كونه تعالى رب العالمين - بصيغة الجمع -، المختص بذوي العقل، لأن كل عالم رباني عالم تام لا يعوزه شيء من الأشياء، ولا يفتقر إلى أمر خارج عنه وعن ملكه وعالمه وسلطانه، فإذا لم يكن شيء من الأشياء إلا ويكون في ذلك لعدم غيبة الكل عن الكل. فلا يفوته شيء:
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين
[الزخرف:71].
فبعد حشر الأجساد لا يمكن لأحد أن يقول: هذا الجسد غير ذلك، وليس له أيضا أن يقول: من كل وجه أن هذا ذاك، فإن هذا من الذهب وذاك من الرصاص. بل له أيضا أن يقول: هذا كان ذلك، فإن الرصاص صار بالإكسير في كورة سجن الدنيا أو جهنم الآخرة هذا، فإن كنت تستخبر عن أصل الذهب وسنخ جوهره، فقلت: " هذا ذاك " ، وإذا استخبرت عن حقيقة الذهبية والصفاء واللطافة والنورية، فقلت: ليس هذا ذاك، فجوهرية هذا العبد وروحه واحدة في الدنيا والآخرة، لكنه كان في الدنيا دنيا، وفي الآخرة عليا:
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء:84].
ومنها بيان السر في اختلاف نسبة التوفي تارة إلى الله تعالى كما في قوله:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42]، وتارة إلى رسله - أي ملائكته - كما في قوله تعالى:
حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون
[الأنعام:61] وتارة إلى ملك الموت، كما في هذه الآية.
ووجه ذلك: أن الإنسان نشأة جامعة روحا وبدنا، وقد بنى الله وجود كل منهما من أصول أربعة - كما سبق القول فيه -، وقد ارتكز في عقول الجماهير أن القابض لأجزاء بدنه هو المتوفي له القابض لروحه والجاذب له إلى الحق تعالى، فإن العلة المحدثة والمبقية شيء واحد في التحقيق إذا كانت فاعلية، والجامع لأجزاء المني والحافظ أمر واحد بالنوع والماهية، وان كان متفاوت الظهور.
وتفصيل المقام: أن الغاية الحقيقية في بناء هذا المسجد الجامع الإنساني، الذي اجتمعت فيه أفراد الموجودات وأشخاص الكائنات، من كل طائفة وقوم، خطابة خطيب العقل على منبر دماغه بشهادة أن لا إله إلا الله، ودلالته بوجوده الجمعي (الحقيقي - ن) المتوحد في مرتبة ذاته وروحه البسيطة الإجمالية، التي لها أحدية جمع الجمع يوم جمعة الحقايق على وحدانية الحق سبحانه، وامتثال خلائق قواه الإدراكية التركيبية والتحريكية أمره واستماعها في ندائه إذا نفذ إلى مسامعها صداه، ومشايعتها للروح وتركها لاستعمال البدن وأغراضه ومعاملاته امتثالا لأمر الله، واجابة لداعي الحق في قوله:
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون
[الجمعة:9]، وقد مرت الإشارة إلى أن الموت أمر طبيعي، وسعي جبلي من القلب والقالب جميعا.
ثم إنه قد وردت الروايات في باب المتولي لهذه العمارة، والآخذ لطينة وجود هذا المسجد الجامع متفاوتة، ففي بعضها: أن الجامع لأجزاء بدنه وترابه هم الملائكة، وفي بعضها: إن الآخذ لتراب قالبه هم رسل الله، ليكونوا هم الرسالة إلى عباده، وفي بعضها: أن ملك الموت قد أخذ قبضة من التراب، وفي بعضها: أن الله تعالى قبض بيده قبضة من أديم الأرض.
فهذه الروايات كلها صادقة الفحوى متوافقة المعنى عند الواقف على حقيقة ذات الإنسان، فإن في ذاته وطينته أصولا أربعة، ففيها الطينة النباتية لحياته النباتية من التغذية والتنمية والتوليد، وفيها الطينة الحيوانية للإحساس والتحريك، وفيها المادة النفسانية والعقل الهيولاني الذي هو محل الحياة العقلية بمعرفة الحقائق، وفيها الطينة القدسية التي هي محل معرفة الله، وهي الفانية عن ذاتها والباقية ببقاء الله.
فأما الطينة النباتية: فهي التي قبضها الملائكة الموكلون بعمارة هذا العالم العنصري، فأحياها الله بالماء، كقوله:
وجعلنا من المآء كل شيء حي
[الأنبياء:30].
وأما طينته الحيوانية، فهي التي جاء بها رسل الله بأمره،
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85]. أي حاصلة من عالم الأمر.
وأما حصة طينته التي ينشأ منها النفس النطقي، فهي التي تكون حياتها بنفخه تعالى روحه فيها، لقوله:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29].
وأما حصة طينة من كان عبدا مؤمنا عارفا بالله، فانيا عن ذاته، باقيا ببقائه تعالى، فهي التي قبضها الله تعالى وأحياها بروح القدس ، لقوله تعالى في حق عيسى - على نبينا وآله وعليه السلام -:
وأيدناه بروح القدس
[البقرة:253].
ثم لما كان المتقرر عند ذوي البصائر والألباب - كما مر -، أن القابض لطينة الإنسان هو المتوفي له والقابض لروحه، فتلك الطينة النباتية التي قبضت الملائكة ترابها، وجعل الله حياتها من الماء، فتلك الملائكة تتوفاها وتقبض روحها إلى الله لقوله تعالى:
تتوفاهم الملائكة
[النحل:28 و 32].
وأما الخلقة الحيوانية الماشية التي قبضها الرسل، وأحياها الرب سبحانه بأمره، فهم يأخذون روحها ويتوفونها، لقوله تعالى:
توفته رسلنا وهم لا يفرطون
[الأنعام:61].
وأما السنخة الناطقة التي قبضها ملك الموت، وأحياها الله تعالى بنفخة منه إسرافيلية، فيتوفاها ملك الموت لقوله في هذه الآية: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم }.
وأما المادة القدسية والخميرة المقدسة الإلهية التي قبضها الله تعالى، وأحياها بروح القدس، فهي التي يتوفاها ويرفعها إليه لقوله:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42] وقوله:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات
[المجادلة:11] وقوله:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات
[الزخرف:32]. فافهم واغتنم.
ومنها، أنه قد انكشف عند أهل الله ان العالم كله، أعني ما سوى الله، حقيقة واحدة تشتمل على الخلق والأمر، لقوله تعالى:
ألا له الخلق والأمر
[الأعراف:54] والأمر كله هو قلب العالم وروحه، لقوله:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85] لأن نسبة أحدهما إلى الآخر، كنسبة أحد جزئي الإنسان إلى الآخر، أي روحه وبدنه، بل هما روح الإنسان وبدنه صارا بالنزول الإنسان الجزئي، كما أن الإنسان الكامل يصير بالعروج عالما كبيرا، وهذا من الأمور المستبينة المستوضحة عند الراسخين في المعرفة، ثم التعانق بين هذا الأمر وهذا الخلق، والازدواج بين هذا العلوي وهذا السفلي هو حياة العالم الكبير، كما أن التعانق والازدواج بين روح الإنسان وبدنه هو حياة العالم الصغير، فكذلك التفارق بينهما هو موت الإنسان الكبير والقيامة الكبرى:
لا أقسم بيوم القيامة
[القيامة:1]. كما أن الافتراق بين روح الإنسان وبدنه هو موت هذا العالم الصغير، والقيامة الصغرى لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من مات فقد قامت قيامته ".
وسبب حياة الجسد الإنساني، استكمال النفس وبلوغها إلى غايتها وكمالها، ووصولها إلى عالمها ومعدنها، وسبب جسمية العالم، بلوغ روحها إلى عالم الربوبية، واختصاص ملكها لله الواحد القهار، والله سبحانه خالق الموت والحياة لقوله تعالى:
خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا
[الملك:2].
فإذا وقعت الواقعة، وقامت القيامة، يرجع الأمر كله إلى الله:
وإليه يرجع الأمر كله
[هود:123]،
ذلك تقدير العزيز العليم
[الأنعام:96 و يس:38 و فصلت:12]، ويعود الخلق إلى الخالق،
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى
[طه:55] هذا في القيامة الصغرى، فالأرواح كلها ترجع إليه تعالى:
ألا إلى الله تصير الأمور
[الشورى:53]، والأجساد كلها ترجع إلى العدم والكمون والبطون، لأن مبادئ حصولها جهات العدم والقوة والإمكان.
ومن ها هنا يعمل سر شريف، هو أن الموت لا خبر له عن أن الخلق والأمر متى تفارق كل منهما عن صاحبه، بل في الإنسان خلقة الحيوان والنبات مما قد فنت وتلاشت وهي في الذوبان والاضمحلال دائما لقوله:
كل من عليها فان
[الرحمن:26] وبقيت حقيقة الإنسانية والملكية، أي حقيقة عقله وروحه، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خلقتم للبقاء ولم تخلقوا للفناء ".
مثال ذلك الجوز، فله لبان: - لب ولب اللب - وقشران: - قشر وقشر القشر - فاللبان: أحدهما بمنزلة العقل والآخر بمنزلة الروح القدسي، صالحان للاغتذاء والدواء، كما أن الحياة الإنسانية والملكية من أهل الجنان وخدمة الرحمان، والقشران بمنزلة النبات والحيوان، خلقتا للفناء والاحتراق بنار الطبيعة.
فظهر من جملة هذا، أن النفوس الإنسانية تصير في الآخرة قوالب أهل الجنة، مصورة بصورهم اللطيفة، وتكون أرواحهم من العقول القادسة، ويكون عقلهم من نور الأنوار، وهذا المعنى مما لا ينكشف إلا بالروح القدسي:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
فهذه النفس الإنسانية، هي جسم لطيف، وروحها القدسي جوهر مفارق من كل الوجوه، وهذا النور الإلهي أرفع من أن يتصور في فكر أو عقل، لأن العقل مأوى الصور الكلية والحقائق العقلية، وهو المسمى بالعرش عند قوم، وأما القوة المفكرة، فهي منتهى التصورات النفسانية والعقول التفصيلية، ويقال لها الكرسي، والصدر المعنوي عند طائفة.
وقد انتهى الكلام إلى ما عجز عن دركه جمهور الأنام، اللهم اجعل هذه الكلمات محروسة عن ملاحظة الناقصين، واسترها عن أعين المغرورين، واجعل لأصحاب القلوب الصافية نصيبا وافرا من دركها، ورغبة تامة في حفظها، ثم في صونها عن الأغيار، ليكون مستقر هذه المعاني صدور الأحرار التي هي قبور الأسرار، لتكون في روضة من رياض الجنان، ولا تجعلها في بطون الأشرار كيلا تكون في حفرة من حفر النيران، وهم الظاهريون، الذين زينوا ظواهرهم بالنقوش المزخرفة، والأقوال المزينة المليحة الحلوة، كالأطعمة والحلاوات، وأهملوا بواطنهم، بل حشوها بالنفاق والجهل والاستكبار عن الحق والحقائق، كبطون الفجار وقبور الكفار.
همجو كور كافران بيرون حلل
واندرون قهر خدا عز وجل
اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنان، ولا تجعلها حفرة من حفر النيران.
[32.12]
جزاء " لو " محذوف، وهو مثل " لرأيت أمرا فظيعا " إن كانت امتناعية كما عليه الأكثرون، والخطاب حينئذ إما للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لكل أحد، كما يقال: " فلان لئيم إن أكرمته أهانك " من غير أن يقصد مخاطب مخصوص.
" ولو " " وإذ " وان كانتا للمضي، إلا أنه ساغ وشاع استعمالها في كلام الله للترقب، لأنه بمنزلة المتحقق الوقوع.
وفيه سر آخر. ويحتمل أن يراد به التمني، ونسبة التمني ها هنا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كنسبة الترجي له في قوله تعالى:
لعلهم يهتدون
[الأنبياء:31] لتجرعه منهم كاسات الغصص لأجل تكذيبهم إياه وعداوتهم وضرارهم، فجعل الله له تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من انتكاس رؤوسهم وحزنهم وغمهم وتأسفهم، ليشمت بهم.
هذا ما في الكشاف. وفيه: أن هذا لا يلائم كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، وجلالة قدره أرفع من الشماتة والانتقام للتشفي لسورة الغضب، لأن هذا من انفعالات القوى الجرمانية المتعلقة بالمواد، وله مقام العندية إلى فوق كل غرض جزئي وجراحة قلبية، سيما وسياق الآية يدل على كون المجرمين ممن لهم شائبة نور الإيمان، إذ لو سقطوا بالكلية عن نور الفطرة واحتجبوا رأسا، وانطمست نفوسهم لغلبة الكفر، وزالت أنوارهم العقلية بالرين، وانغلقت أبواب المغفرة في حقهم، لم يقولوا: " أبصرنا وسمعنا " ، ولم يتمنوا الرجوع لأن يعملوا العمل الصالح، ولم يكونوا موقنين، فهؤلاء وإن احتجبوا عن لقاء الله بسبب شدة ميلهم إلى الجهة السفلية، وانتكاس رؤوسهم إلى الجرميات والظلمات، لكنهم لبقاء الاعتماد بالمبدأ والمعاد، ومرتبة الرسالة الحاصلة لخير العباد، وتمنيهم الرجوع للعمل الصالح، لا يخلدون في العقاب، كما توهمه المعتزلة كالزمخشري وأترابه، بل يعذبون حينا بحسب رسوخ الهيآت، ثم يرجعون إلى الفطرة - كما عليه أكثر الأمة وأصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم -، وشأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعادته بالقياس إلى مثل هؤلاء ومن هو أبعد منهم عن الحق، ما أفصلح الله عنه بقوله:
أما من استغنى * فأنت له تصدى
[عبس:5 - 6]. وقوله:
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا
[الكهف:6].
أثر تبصري
فإن قلت: إن هذا الانكشاف ربما يحصل للمجرمين بعد الموت عند مشاهدة الأحوال ومعاينة الأهوال، فيعلمون بصدق الوعد والوعيد، ويصدقون خبر الرسالة.
قلت: هذا القدر من الإيقان لا يحصل للكفار المطموسة أبصارهم وأسماعهم بالكلية، المحتجبة نفوسهم بالرين والظلمة الدائمة، لقوله تعالى:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء:72]، فبحكم عكس النقيض: كل من كان في الآخرة بصيرا سميعا، فله في الدنيا شيء من نور البصيرة الإيمانية، وان كان في غاية الضعف والقصور والآفة والمرض والعمش والسبل، لا العمى والكمه.
سر إفاضي
إعلم أن الله تعالى لما ذكر مبدأ خلقة الإنسان بحسب كل من أصليه الروحاني والجسماني، وبين كيفية معاده، بأن توجه معنوي لنفوسهم، وسلوك طريق في الباطن إليه تعالى، إما بالوصول والرجوع إليه تعالى وإلى رضوانه - ان كانت من السعداء، وذلك يتوفى ملك موكل على جذب الأرواح إليه تعالى بطريق مستقيم - وإما بالانحراف عن الصراط المستقيم، والانتكاس إلى أسفل الجحيم، وذلك يتوفى ملائكة العذاب، فحسب إياها على ما ذكر، فأراد أن يبين أن استيناف هذه الحركة المعنوية للنفوس الغير البالغة حد الكمال، هل هو متصور أم لا؟ فكشف قناع الإبهام عن وجه هذه المسألة على وجه ظهر استحالة رجوع النفس إلى مبدأ تكونها، كي ينقطع طمع بعض الناس في تجويز العود إلى الدنيا مرة أخرى، كما ذهبت إليه طائفة من التناسخية.
وهذه الاستحالة لا تظهر حق الظهور إلا بنور الرسالة، وما ينتهي إليه، لأن عقول العقلاء وأذهان جماهير الحكماء الغير المقتبسين أنوار حكمتهم من مشكاة النبوة والولاية، قاصرة عنها، والدلائل على أبطال التناسخ غير قاطعة، ولهذا وقع الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاختصاصه بمشاهدة أحوالهم على وجه يمتنع لهم الرجوع إلى الدنيا، لصيرورة نفوسهم مصورة بهيآت ردية خرجت بها عن أصل الفطرة والاستعداد، وبقيت فيها داعية الاستكمال مع بطلان الآلة المعدة للكمال.
ومما ينبهك على بطلان التناسخ واستحالة الرجوع إلى الحالة الأولى، مقايستك حال النفس في تطوراتها وشؤوناتها بحال البدن في تدرجاته وترقياته من حد الطفولية، بل من أول قرار المني في الرحم إلى غاية الشيخوخة، فكما أن للبدن بعدما خرج من القوة والاستعداد اللذين كانا له حال كونه منيا وفي كل حالة من حالات الطفولية والصبوية والمراهقية والشباب والكهولة والشيخوخة طورا إذا بلغ إليه، يستحيل له بحسب الطبع أن يرجع إلى حالة سابقة له، فكذلك قياس النفس في أوقات تكونها وبلوغها إلى مرتبة من الفعلية بعد كونها أمرا ساذجا ولوحا صافيا وعقلا هيولانيا، يكون بالقوة من كل الوجوه، فإذا خرجت عن الهيولانية وصارت بالفعل بسبب اشتغالها بالبدن، وبسبب استعمالها للحواس والمشاعر والآلات، سواء فيما خلقت لأجله، حتى تكون شاكرة، أم لا حتى تصير كفورة، فلا يمكن رجوعها إلى حالتها التي كانت بحسبها بالقوة.
وبهذا الأصل، دفعنا شبهة التناسخ بإذن الله وتأييده، فإن من جوز انتقال النفس بعد موتها إلى جسد ما يتكون في الرحم من المني، يلزم عليه أن يكون شيء واحد بالقوة وبالفعل في مرتبة واحدة، فتمني الرجوع إلى أول الخلقة وحالة الترابية والهيولية للإنسان، كما وقع للكفار على ما حكى الله عنهم بقوله:
يليتني كنت ترابا
[النبأ:40]، تمنى أمر مستحيل الحصول.
وفي قوله تعالى:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة:11] إشارة لطيفة إلى أن التوجه من هذه النشأة إلى نشآت أخرى، أمر منوط بالأسباب القاصية الفاعلية، والعلل الذاتية السابقة القضائية، فيكون التوجه إلى عالم الموت والنشأة الثانية أمرا طبيعيا، والحركات الطبيعية المنوطة بالأسباب العالية يستحيل عليها الرجوع كما في حركات الأفلاك.
ورأيت في خطب أمير المؤمنين صلوات الله عليه ما ترجمته هذا البيت الفارسي:
سوى مرك است خلق را آهنك
دم زدن كام وروز وشب فرسنك
[32.13]
لما ظهر مما سبق، أن رجعة النفوس إلى فطرتها الأصلية بعد اكتسابها طريقة الخذلان والشقاوة والحرمان أمر مستحيل، وقعت ها هنا للأذهان الوهمانية مظنة شبهة هي: أنه لماذا لم تخلق النفوس كلها من الله سعداء من أهل الهداية والرحمة؟ حتى لا يكونوا مجرمين محرومين عن درجات الجنان والسعادة والرضوان؟
فأزال تعالى هذا الوهم، وأزاح إمكان وقوعه في الخارج، لأن ما هو الواقع على أشرف الإمكانات وترجيح الأخس على الأشرف، مستحيل الوقوع من الواهب الحق، والمحال لا يكون مقدورا عليه، لأنه لا شيء محض لا ماهية له، وإنما هو أمر يخترعه الوهم الكاذب.
فقال: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } ، بالتوفيق والإيمان وإلجائها لسلوك سبيل الرحمة والرضوان، ولكنه ينافي الحكمة والمصلحة الكلية المقتضية لحفظ النظام على أفضل ما يمكن من الوجود والقوام، إذ لو كان الأمر كما توهم، لبقيت النفوس كلها على طبقة واحدة، وفات بقاء سائر الطبقات المتصورة في حيز الإمكان من غير أن يخرج من الكمون والبطون إلى منصة البروز والظهور، والرحمة مقتضية لايصال كل مستحق إلى ما يليق به، لئلا تخلو أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها، فتبقى في العدم أمور جمة غفيرة، ولا تتمشى الأمور الخسيسة، التي يحتاج إليها في بقاء النفوس الشريفة، كيف ولو لم يكن الكناس والحجام في العالم، لاضطر الحكيم إلى مباشرة الكنس والحجامة.
ولا بد أيضا في ظهور بعض صفات الله الجلالية من وجود أهل الحجاب والذلة والقسوة والظلمة، البعداء عن الرحمة والمحبة والنور، وإلا فلا ينضبط نظام العالم، ولا يتم صلاح المهتدين لوجود الاحتياج إلى سائر الطبقات، كما لوحنا إليه من أن المظاهر لو كانت كلها أنبياء وأولياء وأخيارا لاختل بقاؤهم بعدم النفوس الغلاظ والشياطين من الإنس والجن القائمين بعمارة هذا العالم، ألا ترى إلى ما ورد في قوله تعالى: إني جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم.
فوجب في الحكمة الحقة الإلهية، التفاوت في الاستعدادات بالقوة والضعف، والصفاء والكدورة، وترتب الدرجات على حسبها، والحكم بوجود كل طبقة من السعداء والأشقياء في الفضائل والرذائل، لتجلي الله سبحانه بجميع الصفات، ويظهر منه جميع أسمائه الحسنى، فإن الغفور، والعفو، والعدل، والمنتقم، والتواب، والمضل وأمثالها أسماء لا يتجلى الحق بها إلا إذا جرى على العبد ذنب.
ولذلك وقع في الحديث:
" لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون "
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين ".
وإليه الإشارة بقوله: { ولكن حق القول مني } أي بحسب اقتضاء العناية الأزلية والقضاء السابق، وكثيرا ما أطلق القول والكتابة من قبل الله سبحانه، ويراد الفعل من جهة ما يوجبه التقدير الأزلي المنوط بالأسباب القصوى الإلهية، كقوله تعالى:
وحق عليهم القول
[فصلت:25]، وقوله:
كتب على نفسه الرحمة
[الأنعام:12].
{ لأملأن جهنم }: أي جهنم الطبيعة السفلية التي ستطلع نيرانها ويبرز إيلام عذابها في الآخرة، فإن حقيقة نار الجحيم، إنما نشأت من هذا العالم، وأما ظهورها على الأفئدة، فهو مختص بيوم الآخرة، فكما أن الدنيا مملوءة من الكفار والفجار، فكذا جهنم الآخرة مملوءة من الجن والإنس أجمعين، وهم أكثر عمار هذا العالم من النفوس المكارة الوهمانية والأرضية الجاسية الغليظة الطبايع لما مر أن النظام لا ينصلح إلا بأن لا يكون هذا العالم مشحونا بالجهلة والأرذال والكفرة والمنافقين، وأن أهل الله لا يكونون إلا الأقلين، مع أن غيرهم من أشخاص المواليد ما خلقت إلا لأجلهم، لأنهم اللب الأصفى من شجرة الطبيعة، والباقي بمنزلة القشور على مراتبها، فحقت عليهم كلمة العذاب، كما حق على العود والحطب الاحتراق بالنار، لما صدر عنهم ما يؤدي إلى ذلك على وجه الاختيار المنبعث عن الأسباب الغائبة لا على وجه الإلجاء والاضطرار، لأنهم استحبوا العمى على الهدى، فوقعوا باختيارهم في المحنة والبلوى، والقوا أنفسهم بأيديهم إلى الهلكى.
فإن قلت: إذا كان الكل بقضاء الله وقدره، فلماذا يعاقب الله من ساقه القدر إلى ارتكاب الجرائم والخطيآت؟
قيل: هذا السؤال منك ناش من جهلك بحقيقة العقوبات الإلهية، فإنك لاعتيادك بأفاعيل الناقصين من المختارين، كإنعامهم على الصديق، وانتقامهم من العدو، الناشئين من اعتقاد النفع ودفع الم الغضب والغيظ، تعتقد أن العقوبات الأخروية من باب الانتقام للتشفي الحاصل منه للمنتقم، فيتخلص به عن ألم التهاب نار الغضب، هيهات، إنما العقاب أمر يتعقب على فعل الخطيات، وهو من اللوازم والتبعات التي يتأدى إليه اقتراف السيئات، وبالحقيقة، النفوس العمالة في الدنيا هي بعينها حمالة حطب نيرانها يوم الآخرة: " رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا " ، بل نفس الشهوة ها هنا تتصور بصورة النار المضرمة هناك.
وقد أفصح الله تعالى عن هذا المعنى في قوله:
سيجزون ما كانوا يعملون
[الأعراف:180]، وقوله:
فأصابهم سيئات ما عملوا
[النحل:34]، وقوله:
إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها
[الكهف:29]، وقوله:
" إنما هي أعمالكم ترد إليكم ".
ولهذا عقب هذه الآية بقوله سبحانه:
{ فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هذآ إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } [السجدة:14].
[32.14]
فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان أمر المعاد، وقلة التأمل فيه، وترك الاستعداد له.
" والنسيان " خلاف " التذكر " ، ونسبته إليه تعالى إما من باب صنعة المشاكلة، كما في قوله سبحانه
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى:40].
والمعنى: أن انهماككم في الشهوات، أغفلكم وأنساكم عن معرفة الله وعلم المعاد، فنسيناكم، أي جازيناكم جزاء نسيانكم.
وإما لأن علمه تعالى بالممكنات، لما كان ناشيا عن علمه تعالى بذاته التي هي عين إيجاده لها، ويكون علمه بها تذكرا لها، لأنه علمها أولا في مرتبة ذاتها علما كماليا إجماليا. ثم علمها في مرتبة متأخرة، هي عين وجوداتها علما ثانيا، وعدم هذا العلم بشيء الذي هو النسيان، عبارة عن عدم إيجاده إياها عدما ناشيا عن عدم الاستعدادات، وفقدان الأسباب الموجبة إلى نحو كمالي من الوجود، فإن للوجود والحياة والنورية مراتب متفاوتة، ومقابل كل مرتبة منها مرتبة من العدم والموت والظلمة.
فحياة أهل الإيمان مطلقا مرتبة لا تكون لغيرهم، لاختصاصهم بقوله (صلى الله عليه وآله سلم):
" المؤمن حي في الدارين ".
وحياة الشهداء مرتبة أخرى فوقها لقوله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بمآ آتاهم الله من فضله
[آل عمران:169 - 170].
وحياة الأولياء مرتبة فوق الجميع، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
، وهم الذين قال تعالى فيهم:
" من قتلته فأنا ديته "
أي حياته.
وفرق بين من يكون مرزوقا عند الرب تعالى، ومن يكون يطعمه ويسقيه ربه، وكذا فرق بين من يكون حيا عند الرب، ومن تكون حياته بالحق تعالى.
وبإزاء كل من هذه الأقسام للحياة، قسم من الموت، كما قال الله تعالى للكفار
لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا
[الفرقان:14].
فالمراد بنسيان المجرمين إياه تعالى ها هنا موت الجهل، لأن معرفته ومعرفة اليوم الآخر يؤديان إلى حياة الآخرة بلقاء الله، لأن ذات الله تعالى مبدأ الأشياء وغايتها، والمعرفة هنا بذر المشاهدة هناك، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، ونسيانه تعالى إياهم لازم، لأنه عبارة عن عدم إفاضة نور الحق عليهم، لعدم خروجهم عن غلاف البشرية، وحجب الشهوات والتعلقات بالأجرام الكثيفة الدنيوية، حتى صاروا عين هذه الحجب. وقيل: النسيان هنا بمعنى الترك، أي تركتم ذكر العاقبة، فتركناكم من الرحمة.
واعلم أن السعادة الإنسانية منوطة بشيئين:
بالعلم الذي هو عبارة عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وبالعمل: الذي حاصله تصفية مرآة القلب عن شواغل الدنيا ومستلذاتها.
وترك الأول يوجب السقوط عن درجة أهل القرب والسعادة، وانتكاس الرأس.
وترك الثاني يوجب العذاب الأليم.
فالله سبحانه قد راعى هذه الدقيقة، فجعل كلا من الشقاوتين منوطة بما يوجبه.
والمعنى: فذوقوا ما أنتم فيه من نكس الرؤوس إلى عالم الجحيم والخزي والحجاب الذائم، بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا عذاب الخلد الأليم في دار جهنم، بسبب ما عملتم من ترك النظر في أمر العاقبة، وفعل المعاصي الموبقة، والكبائر المهلكة، والإخلاد إلى أرض الطبيعة السفلية، فالموت العقلي والهلاك الأخروي من لوازم الكفر والجهل المركب، والخلود في عذاب الجحيم ونار الحميم، من لوازم الإخلاد إلى شهوات الدنيا وحلاواتها التي هي بعينها آلام مؤذية وسموم مهلكة.
[32.15]
لما ظهر من الآية السابقة كون الشقاوة الأبدية متسببة عن الكفر الذي هو ضرب من الجهل بالله وآياته واليوم الآخر، وعن النقصان الذي يحصل من فعل المعاصي وترك الطاعات، أراد أن يشير إلى أن أي مرتبة من المعرفة تحصل منه السعادة العلمية، ويتخلص به من الشقاوة التي بأزائها، وأي مرتبة من العمل الصالح توجب الفوز بنعيم الجنان، والنجاة من عذاب النيران.
ولما كان الإيمان اسما جامعا لمجموع هذين المعنيين، ذكر للمؤمن خواص ثلاثة علمية قلبية، وخواص ثلاثة عملية بدنية، ليبين أن مجرد كلمة الشهادة من غير معرفة برهانية أو كشفية لا توجب الخلاص من الشقاوة الذاتية العلمية، ومجرد الأعمال البدنية من غير تهذيب الباطن وتصفية القلب، لا توجب النجاة من العذاب الأليم.
فالأولى من الصفات العلمية: كون العبد بكثرة مزاولة المعارف الإلهية، بحيث إذا ذكر بآيات الله، أي المعارف المذكورة في القرآن، أو أفيد بالحقائق الإيمانية، أو وعظ بتقوى الله والزهد الحقيقي، تذكر بها واتعظ بمواعظها واعتبر بأمثالها، وفهم دثور الدنيا وفنائها، خاضعا لآيات الله، للين قلبه وصفاء فطرته، ساجدا فانيا فيها، نازلا مما كان قبل ذلك من نشأته الحيوانية، وعما يعتقده من حوله وقوته وقدرته، وهذا أخص خواص المؤمن الذي لا يوجد لغيره، كما أفصح الله عنه بقوله:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا
[الأنفال:2]. لأن هذه خاصية علمية لا توجد إلا في العارفين بالله وآياته، وهي أساس الدين، وأصل سائر الحسنات.
والثانية: منها: ان يكون العبد مسبحا مقدسا ربه، حامدا له، وهو عبارة عن تجريد ذاته عن صفات الأجسام، واتصافه بصفات الملائكة، وتشبهه وتخلقه بأخلاق الله، فذلك هو تسبيح المؤمنين حقا، كما صرح به بعض أئمة العلم والعرفان.
ووجه ذلك: ان كثرة مزاولة الفعل، والرسوخ في الاتصاف بصفة على الكمال، يؤدي بصاحبه إلى صيرورته من حقيقة ذلك الفعل وجنس تلك الصفة، أو لا ترى أن كثرة تسخن الحديد بمجاورة النار بواسطة النفاخات، تؤدي به إلى أن يكتسي صورة النارية ويفعل فعلها، فلا تتعجب من صيرورة المؤمن الحقيقي مفارقا محضا كالملائكة المقربين الذين شأنهم التسبيح والتقديس، لأن دأب العرفاء والحكماء تجريد الحقائق عن الزوائد والمشخصات، وتنقيح المقاصد عن الفضول والحشويات، والتفرقة بين الذاتي والعرضي في كل باب، كيف والتعقل ليس معناه في مصطلح القوم إلا هذا التجريد والتوحيد، فبكثرة فعل التجريد والتوحيد الواقعتين منهم دائما، بلغوا إلى مرتبة التجرد عن الخلائق، والتوحيد عن الغواشي البدنية، حتى عرفوا وشاهدوا تنزيه الباري وتوحيده وحمدوه حق حمده.
والثالثة: انهم لا يستكبرون عن سماع آياته، كما يستكبر عنه من يصر مستكبرا كأن في أذنيه وقرا، لأنه لا يبلغ إلى مقام الإيمان إلا بسماع العلوم والآيات، ونحوه قوله تعالى:
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنآ
[الإسراء:107 - 108]، ولا يتكبرون أيضا على أحد بظهور صفات النفس والأنانية، وذلك لفنائهم ذاتا وصفة، واستغراقهم في شهود ذاته تعالى وصفاته، كيف والوجود مقصور عندهم على ذاته تعالى وصفاته وأفعاله، فعلى من يتكبرون؟
وأما خواصهم الثلاثة العملية فهي التي ذكرها الله في قوله سبحانه:
{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } [السجدة:16].
[32.16]
" التجافي عن المضاجع " ظاهرا، تنحي أبدانهم عن الفراش ومواضع النوم لصلاة الليل، لأنهم المتهجدون بالليل القائمون عن مواضعهم للصلاة، عن الحسن ومجاهد وعطا، وهو المروي عن أبي جعفر وابي عبد الله (عليه السلام).
وباطنا تنحي أرواحهم بحسب قواهم العملية عن الغواشي الطبيعية والشواغل الجسمية، التي تلي الجنبة السافلة منها، والقيام عن المضاجع البدنية والخروج عن عالم الأجسام بقطع التعلقات ومحو الآثار، أو عن عالم الإمكان بمحو الصفات.
روى الواحدي باسناده
" عن معاذ بن جبل " قال: بينا نحن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحر فتفرق القوم، فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقربهم مني، فدنوت منه فقلت: يا رسول الله! أنبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار.
قال: سألت عن عظيم، وانه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان.
قال: وان شئت أنبأتك بأبواب الجنة؟
قال: قلت: أجل يا رسول الله.
قال: الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله تعالى - ثم قرأ هذه الآية - " ".
وقيل: نزلت في الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة.
وعن أنس: نزلت فينا معاشر الأنصار، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء الآخرة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقيل: هم الذين يصلون ما بين المغرب والعشاء الآخرة، وهي صلاة الأوابين.
وأما دعاؤهم ربهم: فهو توجههم إلى التوحيد ومقام العندية، وعبادتهم بمقتضى العبودية خوفا من سخط الله والتردي في مهوى الطرد والبعد، أو من جهة الاحتجاب بصفات النفس، وطمعا في بقاء ذاته - ان كان من المقربين -، وفي رحمة الله وجناته، - ان كان من أهل العمل -.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم.
ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون وهم قليل.
ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء، فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس ".
وأما إنفاقهم مما رزقوا: فهو إيتاؤهم الزكاة من المال، وتعليمهم المعارف والحقائق على أهل الاستعداد.
[32.17]
أي لا تعلم نفس من النفوس - لا ملك مقرب ولا نبي مرسل - ما ادخر الله لأولئك الموصوفين بالأوصاف المذكورة وأخفاه لهم عن جميع خلائقه، لا يعلمه إلا هو مما يقر به عيونهم من جمال الذات ولقاء نور الأنوار، فيجدون من اللذة والسرور ما لا يبلغ كنهه ولا يمكن وصفه، كما في الحديث الرباني:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
، جزاءا بما كانوا يعملون من الأعمال القلبية والتأملات القدسية، المستلزمة للأعمال البدنية على وفق أحكام التجليات وشروق الإفاضات.
إشراق فرقاني
إعلم أن أسعد الخلق في الآخرة أقواهم حبا لله، وأشدهم شوقا للقائه، فإن معنى الآخرة القدوم على الله ودرك سعادة لقائه، وما أعظم نعيم المحب المستهتر إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير مزاحم ومكدر ومنغص ورقيب وخوف الانقطاع، إلا أن هذا النعيم على قدر الحب واستيلائه وشدته، وان لم ينفك عن أصل المحبة مؤمن، كما لا ينفك عباده عن أصل المعرفة، وإلا لم يكن المؤمن مؤمنا - هذا خلف -.
وإنما يحصل ذلك بشيئين:
أحدهما: قطع العلائق وإخراج حب الدنيا وما فيها من القلب، فبقدر ما يشغل القلب بغير الله، ينقص منه حب الله، ويفرغ إناء قلبه عن ذكر الله بقدر اشتغاله بغيره، لأن قلب كل أحد واحد:
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
[الأحزاب:4]. والكفر؛ عبارة عن امتلاء القلب بمحبة الباطل، وكل ما سوى الله باطل دون وجهه الكريم، والمحب التام المحبة لله، ومن امتلأ قلبه من محبته، وإليه الإشارة بقوله
قل الله ثم ذرهم
[الأنعام:91]، بل هو معنى قول:
لا إله إلا الله
[الصافات:35] على التحقيق، أي لا معبود ولا محبوب سواه، ولذلك قال:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23]، وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أبغض اله عبد في الأرض الهوى "
، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قال لا إله إلا الله مخلصا وجبت له الجنة "
، ومعنى الإخلاص: أن يخلص قلبه لله، فلا يبقى فيه شركة لغير الله، ومن هذا حاله فالدنيا سجنه، لأنها مانعة له عن مشاهدة محبوبه، وموته خلاصه من السجن وقدومه على محبوبه.
والسبب الثاني لقوة المحبة، قوة المعرفة لله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب، وذلك بعد تظهيره من الشواغل، وهي بمنزلة وضع البذر في الأرض بعد تطهيرها من الحشيش، فيتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة، وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله لها مثلا في قوله:
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء
[إبراهيم:24] وإليه الإشارة بقوله:
إليه يصعد الكلم الطيب
[فاطر:10]، فهي المعرفة، نعم، والعمل الصالح يرفعه ويحركه، ولذلك قال: { جزآء بما كانوا يعملون } [السجدة:17]، لأن العمل الصالح كالحامل (كالخادم - ن) له، وإنما فائدة العمل كله في تطهير القلب أولا من الدنيا، ثم في إدامة طهارته، وأصل الطهارة والصفاء لكونه أمرا عدميا لا يراد لنفسه، بل لهذه المعرفة، وكذا العلم المتعلق بكيفية العمل يراد للعمل، فالعلم هو الأول والآخر.
تتمة
الواصلون إلى هذه النعمة العظيمة، ينقسمون إلى الأقوياء والضعفاء، فالسابقون الأولون هم الذين درجتهم درجة العقول القادسة والملائكة المهيمة، أول معرفتهم لله تعالى وبه يعرفون غيره، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53]، وبقوله:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران:18].
ومنه نظر بعضهم حيث قيل له: بم عرفت ربك؟ فقال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي.
واللاحقون التالون هم الذين درجتهم درجة النفوس الكلية والملائكة المدبرة، فيكون أول معرفتهم بالأفعال، ثم يترقون منه إلى صفات الله، ثم إلى ذاته، فالله سبحانه غاية أفكارهم كما أن الله فاعل أفكار الأولين، والى هؤلاء الإشارة بقوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53]، وبقوله:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض
[الأعراف:185]. وبقوله:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض
[يونس:101]، وبقوله:
الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين
[الملك:3 - 4] - الآية -.
وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين، وهو الأوسع على السالكين، ولهذا وقعت دعوة القرآن إليه أكثر، والأمر بالتدبر والتفكر في بدائع الفطرة، والاعتبار والنظر في آيات الآفاق والأنفس خارج عن الحصر، إذ النجاة من العذاب الدائم موقوف على حب الله تعالى، وعدم الاشتراك فيه، وهو متوقف على المعرفة، فطلبه واجب، لكونه مقدمة أمر واجب هو الخلاص من العقاب الدائم، وما لا يتم واجب المطلق إلا به فهو واجب، فطلب المعرفة والعلم بالله فريضة على كل مسلم ومسلمة.
إيضاح تفصيلي
لك أن تقول: إن كلا الطريقين وعر وصعب، فاوضح منهما ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل بها إلى المحبة.
فاعلم أن الطريق الأعلى، والمشرب الأصفى عن شوب الإشراك، هو الاستشهاد بالحق على سائر الخلق كما هو الواقع، فإن وجود الموجودات رشح وتبع لوجوده، فينبغي أن يكون المعلوم المشهود على وفق الواقع الموجود، إلا أنه غامض دقيق، والكلام فيه خارج عن فهم أكثر الخلائق، فلا فائدة في إيراده في الكتاب والتعاليم.
وأما الطريق الأسهل الأدنى، فأكثره غير خارج عن حد الأفهام، وإنما قصرت عنه أفهام الأكثرين لإعراضهم عن التدبر في الآيات، واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس.
والمشتغلون بهذا الطريق الأسهل، إما أن يكون نظرهم في ما يقبل الفساد والتغير والحركة والزمان، وموضوع علمهم الأجسام الطبيعية والفلكية والعنصرية من الحيثية المذكورة، وبحثهم عن معرفة أنواعها وعوارضها الذاتية بالبرهان المستفاد من العلة القريبة، كالمادة والصورة في الإدراك التصديقي أو بالحد المستفاد من الجنس والفصل في الإدراك التصوري، فيسمى علمهم علما طبيعيا، وهم الحكماء الطبيعيون الذين يصلون إلى معرفة الله تعالى، والاعتقاد بوجود ذاته وصفاته وأفعاله عن طريق الحركة وعوارضها، وبهذا الطريق سلك الخليل (عليه السلام) على ما حكى الله عنه بقوله:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي
[الأنعام:76] الآية.
وإن كان نظرهم في حقائق الممكنات مطلقا، ومباديها وغاياتها الثابتة الخارجة عن الحركة والزمان، وموضوع علمهم الموجود المفارق عن المادة ولواحقها في الوجود والتعقل جميعا، وبحثهم عن إثبات أنواعه وعوارضه بالبرهان الضروري الأزلي الدائم، المستفاد من فاعل الوجود وغايته، وبالحد المستفاد منهما أيضا، إذ الصورة في المفارقات غير مفتقرة إلى علة مقارنة، بل إنما يتقوم ذاته وماهيته مما يتقوم به وجوده، لما تقرر هناك أن " لم هو " و " ما هو " في البسائط المفارقة شيء واحد، فيكون معرفتهم هذه علما الهيا، وهم الحكماء الإلهيون، لأن غاية معرفتهم وحكمتهم هي الوصول إلى الحق الأول ومجاوريه من الملكوت الأعلى.
بل غاية هذين العلمين جميعا وثمرتهما، معرفة الباري جلت أسماؤه، إلا أن في الأدون منهما حصلت بتوسط معرفة النفس التي هي مرقاة معرفة الرب، كما في الحديث المشهور، وفي الأعلى من غير توسطها.
وأما الطريقة التي هي فوق تينك الطريقتين، فهي التوصل إلى معرفة ذاته تعالى بذاته، وذلك بأن ينظر أولا إلى نور الوجود المنتشر في أهوية ماهيات الممكنات المنبسط على سطوح هياكل الممكنات، ثم يعرف من حقيقته المطلقة التي هي أجلى من كل متصور وأول كل تصور، تقدمه على كل شيء له ماهية غير الوجود، حتى يتكشف له ما نفس حقيقة الوجود المحض، المجرد عن كل موضوع ومحل، والمستغني عن كل سبب فاعلي أو غائي، كالماهيات، أو مقوم فصلي كالأنواع، أو مقسم كالأجناس، أو مشخص كالكلي مطلقا، أو صوري كالمواد، أو مادي كالصور والأعراض، أو الجميع كالأجسام، لأن كلا من هذه الأمور، تسقط أوليته وتقدمه فيعلم أنه بسيط الحقيقة من كل الوجوه، غني عما سواه، مفتقر إليه ما سواه دفعا للدور والتسلسل.
فيعلم من هذا أن صفاته الكمالية عين ذاته، والجميع أمر واحد، فلا تكثر [في] الواجب بالذات، فيكون الباري أحدي الذات والصفات جميعا، فتكون خالقيته بما هو ذاته ووجوده.
فإذا علم ذاته وصفاته على هذا الوجه، وعلم أن ذاته وصفاته [واحد] يعلم أفعاله، وأنها نهج واحد مستمر لقوله:
ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الأحزاب:62]. فيعلم أن أول ما صدر يجب أن يكون جوهرا قدسيا، ثم جوهرا آخر كذلك إلى ما شاء الله من سلسلة الملائكة المقدسين، وبتوسط أولئك المقربين سلسلة أخرى من النفوس المجردة ضربا من التجرد، وضربا من التعلق بالأجرام الدوارة شوقا وطربا إلى لقاء الله، لورود الإشراقات العقلية المتتالية على ذواتهم، لكل منها بواسطة علة مفارقة قريبة مختصة، وذلك لاختلاف الحركات والآثار الدالة على اختلاف الوسائل لئلا تنثلم وحدة الباري جل مجده.
وبالجملة ينتقل من كل عال إلى سافل، ويعرف من خاصية كل فاعل كيفية فعله وأثره، إلى أن يستقصي الموجودات ويحيط بالعالم الموجود بنور مبدع الوجود، وهذه طريقة الصديقين الذين يعرفون بنور الحق ما سواه، ولا يستدلون على نور الوجود بهذا الظلام، ولا على صباح الفطرة بليالي هذه الأجسام.
تتمة
ثم إن قوله تعالى: { جزآء بما كانوا يعملون } ، قد حسم عرق أطماع المتمنين، وقلع باب اغترارات المعطلين القاعدين عن تحصيل العلم والعرفان، ظنا منهم أن مجرد دعوى الإيمان، أو التشبث بأئمة هذا المذهب، أو صورة الأعمال الظاهرة، يؤدي إلى نعيم الجنان، أو رضوان من العزيز الرحمان، من غير معرفة السبب المجازي، ومن غير تحقق الوجه الذي يؤدي العمل به إلى حصول الثمرة الأخروية التي بذرها المعرفة الثابتة في القلب أولا، وهذه الأعمال بمنزلة السقي لها.
إذ التحقيق: أن وجود الاعتقادات الإيمانية والمعارف الإلهية، إذا قوي في الباطن، واشتد رسوخها في القلب، تؤدي بصاحبها إلى صورة النعيم الأخروي، بل هذه ستصير هي إذا رسخت في الباطن، كما أن الميل إلى اللذات الحسية والاعتقاد بوجودها وركون النفس إليها والإخلاد إلى عالمها، إذا تكررت ورسخت في الباطن، تنجر إلى عذاب الجحيم كما أشرنا إليه سابقا.
وفي القرآن آيات كثيرة دالة على ثبوت هذا الإنجرار، كقوله تعالى في سورة الأعراف:
ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون
[الأعراف:43]. وكقوله تعالى في سورة يس:
فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون
[يس:54]، وفي سورة النجم:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزآء الأوفى * وأن إلى ربك المنتهى
[النجم:39 - 42]. وكما في قوله تعالى:
سيجزيهم وصفهم
[الأنعام:139] وقوله تعالى:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا
[آل عمران:30]. وقوله:
يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54]. وقوله في سورة الشورى:
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم
[الشورى:22]. إلى غير ذلك من الآيات.
ومما يدل أيضا على أن السعادة الأخروية والقرب عند الله والوصول إلى الخير الحقيقي منوطة بالحكمة والمعرفة، والله الهادي والموفق لهما، وأن الصارف للإنسان عن طلبها والباعث على الإعراض عنها والرضاء بالجهل، هو الشيطان اللعين الباعث لطلب الجاه والدنيا والشهرة عند الناس، والخوف من زوال الثروة والعزة قوله سبحانه:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب
[البقرة:268 - 269].
وكما أن السعادة الأخروية منوطة بالحكمة، فكذلك التوغل في الدنيا والتوسع في لذاتها وشهواتها، مرتبطة بنسيان الحكمة وترك التدبر في الآيات، وفهم المعارف والبينات، لقوله:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء
[الأنعام:44] الآية، وأما قوله تعالى:
والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون
[الأنعام:49] فهو إشارة إلى عاقبة هذه اللذات الدنيوية، فالإعراض عن الحكمة والمعرفة، والتكذيب بالآيات البينات، مما يفتح على النفس أبواب التنعمات في الدنيا، وحقيقة هذه الشهوات ليست في القيامة إلا صورة النار والحسرة والندامة، والدنيا ها هنا متاع قليل، وفي الآخرة عذاب شديد، وذلك قوله تعالى:
ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار
[البقرة:126].
وقس على ذلك أيضا قوله:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا
[طه:124] فإن المراد من تلك المعيشة الضنك ما هي بحسب النشأة الآخرة، ولهذا عقبه بقوله:
ونحشره يوم القيامة أعمى* قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
[طه:124 - 126].
والعاقل ينبغي أن يرجع إلى ذاته ويتأمل في نفسه، ويطرد عن باطنه التعصب والعناد والاستكبار، والسكر الحاصل له بجاه مستحقر، واشتغال بعلوم جزئية، فتنحصر عنده الآيات الدالة على حقيقة القرآن ووصفه، وماهية الرسول المنزل إليه كتاب الله ونعته، بحسب ما هو الداخل في قوام كل منهما، غير الأوصاف الخارجة عن ملاك الأمر فيهما، فيرى هل يجد فيها دلالة على فضلهما وشرفهما إلا من جهة مزية علمية، وفضيلة حكمية، لهما على سائر الكتب وسائر الناس، لا أظن عاقلا في مرية من هذا.
وهي كقوله تعالى في نعت القرآن:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم
[المائدة:15 - 16].
وكقوله في نعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
[الجمعة:2].
وقال سبحانه في صفة أهل الإيمان:
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12].
ومما يدل على أن العلماء بالله ورسوله أهل الإيمان خاصة قوله تعالى:
ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد
[سبأ:6]. وقوله:
أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب
[الرعد:19].
كذلك من تصفح كلام الله وحديث رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلمات الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، يعرف أن رأس الشقاوة كلها هو الكفر بالله وصفاته وأفعاله واليوم الآخر، وليس الكفر إلا ضرب من الجهل المضاد للحكمة، كقوله سبحانه:
والذين كذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة حبطت أعمالهم
[الأعراف:147].
ومما يدل على أن الجهل والنسيان منشأ العذاب في الآخرة قوله تعالى:
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون * لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون
[النحل:108 - 109].
وكقوله تعالى في مذمة أهل الجحود:
ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال:21 - 23].
وقوله سبحانه في مذمة المعرضين عن الحكمة:
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا
[الكهف:57].
وقد جعل الله سبحانه الرجس على النفوس الجاهلة الغير العارفة بحقائق الإيمان في قوله:
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون
[يونس:100] والسر فيه: أن من لم يبلغ إلى درجة تصير نفسه عقلا بالفعل، ولم يرد إلا ما يدركه الحواس، فهو متعلق الوجود بالأجساد الدنيوية وأرجاسها الشهوية والغضبية، مثل الكلب والخنزير، والدنيا دار النجاسة، وطلابها الأرجاس والأنجاس لقوله (عليه السلام): " الدنيا جيفة وطلابها كلاب " وفي الحديث:
" الدنيا ملعونة وملعون ما فيها ".
والآيات الدالة على أن منشأ العذاب في الآخرة هو الجهل والإعراض عن تعلم الحكمة والمعرفة، كثيرة لا تحصى، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين.
[32.18]
وكلمة " من " في الموضعين مفرد لفظا مجموع معنى، فبالاعتبار الأول أورد: " كان مؤمنا " و " كان فاسقا " محمولين على اللفظ، وأورد: " لا يستوون " حملا على المفهوم كما يدل عليه قوله: " أما الذين آمنوا " ، " وأما الذين فسقوا " ، ومثله قوله تعالى:
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك
[محمد:16].
والمراد " بالفاسق " هنا: الكافر، لخروجه عن الإيمان، لما في الآية التالية من ذكر عدم الخروج والتكذيب.
قال ابن أبي ليلى: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورجل من قريش.
وقال غيره نزلت هذه الآية إلى قوله: " لعلهم يرجعون " فيه (عليه السلام) والوليد بن عقبة، فالمؤمن علي (عليه السلام) والفاسق الوليد، وذلك أنه قال لعلي (عليه السلام): " أنا أبسط منك لسانا وأحد منك سنانا " فقال (عليه السلام): " ليس كما تقول يا فاسق ".
قال قتادة: " لا والله ما استويا، لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة ".
مكاشفة
إنه لما علم مما سبق غاية خسة الكافر والفاسق، بحيث تنزل درجتهم عن درجة الأنعام والبهائم لقوله:
وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون
[السجدة:14]، وغاية درجة المؤمن بحيث يعلو ويفوق على كثير من خلقه تعالى، حتى ضروب من ملائكة الله لقوله تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون
[السجدة:17]، فيتوهم ها هنا للنفوس الغير المتدربة في العلوم الدقيقة والأنظار اللطيفة العميقة، أن أفراد الإنسان لما كانت متساوية الحقيقة، فيمتنع أن يصير بعضهم أعلى عليين، وبعضهم أسفل سافلين.
والجواب: بأن هذا التفاوت إنما يكون بالعوارض الغريبة التي لا مدخلية لها في تقوم شيء من الافراد غير منجح (صحيح - ن)، ولا تقبله الطبائع السليمة، كيف والسبب الاتفاقي لا يكون دائميا ولا أكثريا، فلا بد أن يكون علة خلود المؤمن في الجنة، وعلة خلود الكافر في النار، أمرا داخلا في تجوهر العبد وحقيقته وذاته، بل الحق الحقيق بالتصديق، إن الإنسان بحسب النشأة الأخروية أنواع مختلفة حسب اختلاف الأخلاق والملكات الراسخة في باطنه، وستظهر في القيامة بصورها المناسبة لمعانيها المتخالفة الحقائق.
وممن تفطن بهذا المطلب المنكشف بنور القرآن، واحد من الفلاسفة المعروف بفرفوريوس، القائل باتحاد العاقل والمعقول، لكن لم يبلغ نظره إلى مرتبة البالغين من رجال هذا الدين المتين، الذي هو صراط السالكين إلى عالم الحق واليقين، فالله سبحانه رفع نقاب الاختفاء، وكشف غطاء الامتراء عن المحجة البيضاء، وبين ها هنا نفي المماثلة بين المؤمن والكافر في الذات والحقيقة، وسلب المساواة بين العارف والمنكر في درجة الماهية، كما في قوله تعالى:
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
[الزمر:9].
وفي القرآن آيات كثيرة دالة على أن الإنسان بحسب النشأة الباطنية، متخالف النوع متبائن الحقيقة والصورة، سيما التخالف بين المؤمن والكافر، والعالم والجاهل، مثل قوله تعالى:
وامتازوا اليوم أيها المجرمون
[يس:59]. وكقوله:
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ أولئك هم شر البرية * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية
[البينة:6 - 7]. وقوله تعالى:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون
[القلم:35 - 36].
ومن الشواهد الدالة على هذا المطلب قوله سبحانه في حق المؤمنين:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257].
وفي حق الكافرين:
يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة:257]. وكذا قوله في حق المؤمنين:
أصحاب الميمنة
[البلد:18] وفي حق الكافرين
أصحاب المشئمة
[البلد:19]، تنبيه بليغ على إثبات ما ادعيناه.
ومما يدل أيضا في الحديث قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يحشر الناس على صور نياتهم "
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير ".
ولولا مخافة الإطناب، لأوردت ها هنا برهانا تفصيليا على هذا المطلب مما ألهمني الله به، نبين منه كون الإنسان متخالف الماهية في الباطن بحسب ما يخرج عقله الهيولاني من القوة إلى الفعل، وإن كان نوعا واحدا في الظاهر بحسب ما تخرج مادته الجسمانية من القوة إلى الفعل، ويتبين أن نفسه الناطقة صورة الصور في هذا العالم ومادة المواد في عالم آخر، إن هذا لبلاغا لقوم عابدين.
[32.19-20]
{ جنات المأوى }: نوع من الجنان، كل منها غاية ما يمكن لطائفة من الناس أن يبلغ إليها بقوة الإيمان والعمل الصالح، لأن صيغة الجمع تدل على أنها مراتب متفاوتة، قال جل عزه:
ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى
[النجم:13 - 15].
وقيل: سميت بذلك، لما روي عن ابن عباس، قال: تأوي إليها أرواح الشهداء، وقيل: هي عن يمين العرش، وقرأ: { جنات المأوى } - على الإفراد -.
و " النزل " عطاء النازل، ثم عمم.
والمعنى: لما فارق الحق سبحانه في الآية السابقة بين المؤمن والكافر في الحقيقة والمرتبة، ونفى عنهما المساواة، أراد أن ينبه على ذلك بتفصيل دواعي كل واحدة من هاتين الطائفتين عن الأخرى، والفرق بين أعراضهما وغاية قصودهما ونهاية توجههما، لأنه تباين المأوى الطبيعي، يدل على تباين الطبيعة المقتضية، فإن لكل طبيعة حيزا طبيعيا، ولكل من الطيور مأوى خاصا، والتعبير عن مقام كل من القبيلتين بالمأوى، تنبيه بليغ لمن وفق لإدراك الإشارات القرآنية والآيات الإلهية. على أن السعيد مفطور على أن يعمل عمل أهل الجنة، والشقي مفطور على أن يعمل أعمال أهل النار، وهما طالبان بالاختيار لما قدر لهما في دار القرار.
وأما قوله في حق الكفار: { كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ - من غم - أعيدوا فيها }: فهو نعي لهم، وبيان لكيفية ترديهم إلى عالم البوار، فإن أحد الداعيين المقتضيين إذا كان جبليا والآخر عرضيا اتفاقيا، فلا محالة يغلب الأول على الثاني بالأخرة، أو لا ترى أن عمال الدنيا وأهل الحرف والمتوغلين في الشواغل الحسية، كلما بلغوا إلى صحبة الخائضين في العلوم، واستطابوا حالتهم، واستنشقوا روائحهم، وتهوسوا الوصول إلى مرتبتهم، والخروج من ظلمة الجهالة وضيق النقص وخسة الرذالة إلى نور العلم وفسحة الكمال وشرف العرفان، غلبت عليهم شقوتهم، وقويت فيهم جواذب الطبيعة السفلية، وأهبطهم ثقل الأوزار والأثقال والتعلقات مثل السلاسل والأغلال، حتى توصلهم إلى أسفل درك الجحيم، لاستيلاء الميل السفلي عليهم، وقهر الملكوت الأرضي بسبب رسوخ الهيآت الذميمة.
والآيات الدالة على أن أهل الحجاب الكلي، والمتوغلين في الحسيات، اضطروا إلى التردي والتقلب في النار كثيرة، منها قوله تعالى:
وما هم بخارجين من النار
[البقرة:167]. وقوله:
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم
[المائدة:36]. وقوله:
يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين
[المائدة:37]. وقوله:
أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
[المائدة:41]. وقوله:
ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
[البقرة:126].
والسبب العقلي فيه، إن الجحيم الأخروي من جنس هذه الدار، فكل من غلبت عليه جهة الحس والمحسوسات، ولم يصدق بوجود عالم آخر ضميرا واعتقادا، وإن أقر به قولا ولسانا، وليس له ربتة الوصول إلى حقائق الإيمان، ولا العمل بمقتضاه والسلوك على وفق مؤداه، ولا يخرج طير روحه أبدا من قفص هذا العالم، فمآله إلى الجحيم وله عذاب مقيم.
[32.21]
اختلف المفسرون في ما هو المراد من العذاب الأدنى، فقيل: هو المصائب والمحن في الأنفس والأموال، - عن أبي بن كعب وابن عباس وابي العالية والحسن -.
وقيل: هو الأسر والقتل يوم بدر، - عن ابن مسعود وقتادة والسدي -.
وقيل: ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكة، حتى أكلوا الجيف والكلاب - عن مقاتل -.
وقيل: هو الحدود - عن عكرمة وابن عباس -.
وقيل: هو عذاب القبر - عن مجاهد -.
وروي أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام).
والأكثر في الرواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): إن العذاب الأدنى الدابة والدجال.
وأما العذاب الأكبر، فهو عذاب الآخرة بالإتفاق.
{ لعلهم يرجعون }: أي ليرجعوا إلى الحق ويتوبوا من الكفر.
وقيل: ليرجع الآخرون عن أن يذنبوا مثل ذنوبهم.
وقيل: لعلهم يرجعون، أي يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه، كقوله تعالى:
فارجعنا نعمل صالحا
[السجدة:12].
والظاهر أن هذا الوجه ناظر إلى كلام من وجه حمل العذاب الأدنى بعذاب القبر - كما نقل عن مجاهد -، وهو ليس بشيء، لأنه يلزم تعليل فعل الله تعالى بأمر عبثي لا فائدة فيه، فإن إرادة الرجوع منهم إلى الدنيا بعد القيامة، إرادة أمر مستحيل الوقوع كما مر، فلا يجوز أن تكون إذاقة العذاب إياهم من الله، معللة بتلك الإرادة الوهمية الجزافية، اللهم إلا أن يقال: نفس تلك الإرادة نوع من الألم والعذاب فيهم - وهو كما ترى -.
ولا يبعد أن يراد من العذاب الأدنى نفس البقاء في الدنيا والبشرية، فإن البشرية كلها عذاب، وهو منشأ عذاب القبر، بل القبر الحقيقي هو الكون في حفرة هذا القالب الدنيوي، وهو موت الروح وعذابه.
وسئل بعض الأكابر عن العذاب في القبر، فقال: القبر كله عذاب، إلا أنه قبر متحرك، كما قيل:
در حبس جرخ كور روانست اين تنم.
وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي فلينظر إلي ".
مشكاة فيها مصباح
إن مفهوم الترجي المستفاد من لفظ: " لعلهم " ها هنا وفي مواضع كثيرة من القرآن، مما استصعب القوم استناده إلى الله تعالى، لكونه يستعمل فيما لا قطع لوجوده من الاحتمالات المرجوة الوقوع، والله محيط بالأشياء من غير احتجاب وخفاء عليه، وأيضا " لعل " من الله إرادة، وإرادة الله إذا تعلقت بشيء كان ثابتا ولم يمتنع تحققه، وتوبتهم مستحيلة الوقوع، وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر، ولم أجد في كلام أحد من الناظرين في الكلام، والباحثين في علم الكلام، ما به يطمئن القلب ويسكن الروع، وكنت منتظرا حتى يأتي الله بأمر كان مفعولا [أما المذكور في أقوالهم فوجوه:
أحدها: إن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله:
لعله يتذكر أو يخشى
[طه:44]، أي: إذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره.
وثانيها: إن من ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون انفسهم على إنجازها على أن يقولوا: " عسى ولعل " وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب.
وثالثها: أنه جاء على طريق الإطماع دون التحقق، لئلا يتكل العباد مثل:
توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم
[التحريم:8].
ورابعها: أنه وقع " لعل " موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله عز وجل خلق عباده ليستعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلل في إقدارهم وتمكنهم، وهداهم النجدين، وأراد منهم أن يتقوا ويتوبوا إليه ليرجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، ونظيره قوله تعالى:
ليبلوكم أيكم أحسن عملا
[هود:7].
وقيل: " لعل " بمعنى " كي " ، ووجه بأنها للإطماع، والإطماع من الكريم يجري مجرى المختار.
وخامسها: ما قال القفال، وهو أن في " لعل " معنى التكرير والتأكيد، إذ اللام للابتداء، نحو " لقد " ، ولقولهم " علك " أي تفعل كذا، و " عل " يفيد التكرير، ومنه العل بعد النهل، فقول القائل: " إفعل كذا لعلك تظفر بحاجتك " معناه: إفعل فإن فعلك يؤكد طلبك ويقويك].
وأما ما ألهمني الله به وقذف في قلبي من نوره، هو أن لعلم الله تعالى وإرادته مراتب متفاوتة في النزول، فكما أن لعلمه مرتبة كمالية هي نفس ذاته بذاته، إذ بذاته يعلم جميع الأشياء الكلية والجزئية، وهذا العلم ليس متكثرا بل علم واحد إجمالي، هو واجب بالذات، وهو مرآة كل الحقائق ومجلي جميع الرقائق، وبعد ذلك مرتبة تفصيل المعقولات الكلية، وهو مرتبة القضاء الإلهي، وهي مفاتيح الغيب، لقوله:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام:59]، وهو أيضا خزائن الرحمة لقوله تعالى:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه
[الحجر:21]، ثم بعده مرتبة الجزئيات والشخصيات المقدرة بأوقاتها وأزمنتها المثبتة بهيآتها في كتاب لا يجليها لوقتها إلا هو، وهذه المرتبة " عالم القدر " لقوله:
وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر:21]، وهذا هو " كتاب المحو والإثبات " ، كما أن السابق: " اللوح المحفوظ " لقوله:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب
[الرعد:39].
وبعد ذلك مرتبة وجودات المعلومات في موادها الخارجية الجزئية المكتوبة بمداد الهيولى التي تسمى " بالبحر المسجور " ، و " الكتاب المبين " ، كما أشير في قوله:
لو كان البحر مدادا لكلمات ربي
[الكهف:109] - الآية. وفي قوله:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
[الأنعام:59]. وهاتان المرتبتان قابلتان للتغيير، وبهاتين الأخيرتين يتضح (يسترجع - خ) عروض التغير في علمه تعالى بالحوادث من حيث هو معلوم، لا بما هو علم، وإن كانا أمرا واحدا بالذات، وهذا مما لا يعلمه إلا المحققون المحقون، المتحققون بالشهود.
فكذلك الحكم في مراتب إرادته، فإن علمه تعالى بالأشياء بعينه إرادته، بمعنى مراديته، لما ثبت بالبرهان والكشف من أن صفاته الكمالية كلها بعينه حقيقة واحدة، وبمعنى واحد بلا اختلاف حيثيات ولا تعدد جهات إلا بمجرد التعبير.
فإذا علمت هذا، اتضح لك حق الإيضاح من مشكاة هذا المصباح، كيفية نسبة هذه المفهومات التجددية والمعاني الامتحانية الاختيارية، التي بإزاء بعض الألفاظ الواردة في القرآن، المتكررة ذكرها كهذا اللفظ، وكلفظ " الابتلاء " في قوله:
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع
[البقرة:155] وقوله:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين
[محمد:31]، وقوله
ونبلوا أخباركم
[محمد:31]. وكلفظ " الدعاء " ، و " التعجب " ، و " الاستفهام " ، كقوله:
قتل الإنسان مآ أكفره
[عبس:17]. وقوله:
قاتلهم الله أنى يؤفكون
[التوبة:30].
وأمثال هذه ونظائرها كثيرة في القرآن، فافهم واغتنم وتثبت فيها، ولا تكن من الخابطين، ولا تتصرف في كتاب الله بإخراجها عن معانيها الأصلية من غير ضرورة داعية، واحملها على الحقيقة، ولا تنكر ما لم تسمعه من أحد ولم تبلغك بالنقول ولا وصل إليك من العقول، ولا تنحصر العلوم فيما سمعته أو فهمته، فإن لله لطائف رحمة في قلوب عباده، وكمال بدائع صنع في أراضي بلاده، فلا تتعجب من هبوب رياح رحمته، ونزول أمطار عنايته ورأفته على من يشاء، وهو رؤوف رحيم، واتل قوله:
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف:76].
[32.22]
أي لا أحد أظلم لنفسه من نبه على حجج الله وبيناته التي توصله إلى درجة الكمال وقرب المهيمن المتعال، ثم أعرض عنها جانبا ولم ينظر فيها، لأن منشأ الإعراض الجحود والإنكار والجهل والاستكبار، ولفظ " ثم " ، يستعمل في هذا الموضع للاستبعاد، والمعنى: إن هذا القسم من الإعراض مستبعد في العقل، كما تقول لصاحبك: " وقع بيدك مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها " استبعادا لتركه، والله ينتقم منهم بأن يعاقبهم بما يستدعيه إعراضهم عن آيات الله من العذاب الدائم والعقاب الأليم الحاصل من الطرد والإبعاد والسقوط عن مقتضى الفطرة.
إيضاح فرقاني
مفهوم الآية يدل على أن المراد من لفظ الموصول هم المنافقون المستعدون بحسب نفوسهم لتذكر الآيات، إلا النفوس الجرمانية الظلمانية الصم البكم العمي الذين لا يعقلون، وهم المختوم على قلوبهم رأسا، فإن الإعراض عن المعارف والحكم والآيات عند ذكرها، المستدعي لضرب من التذكر، إنما يتصور فيمن له نوع من الفطانة التبراء والاستبداد بالرأي الذي قل ما ينفك عنه المشتغلون بالأبحاث والعلوم الجزئية، وهؤلاء أشد عذابا يوم القيامة من الذين لا يستعدون بحسب الفطرة إلى الإرتقاء إلى ذروة الكمال من هبوط النقص والوبال ومزابل الجهال.
ومما يدل على هذا، ما سيذكره تعالى في الآية اللاحقة من السورة بقوله:
فلا تكن في مرية من لقآئه
[السجدة:23]، فإن شأن هذه النفوس الإمتراء والمراء والبحث والمجادلة وإيراد الشبهة والشكوك، وشأنه تعالى تثبيت عبده عند تزلزل الأقدام بالشكوك والأوهام، وتأييده عند معارضة الجاحدين من الأقوام، كقوله:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
[الإسراء:74] الآية.
وأكثر هذه الطائفة المعرضين عن حجج الله الناطقة والصامتة، إنما اغتروا بفطانتهم لسماعهم وحفظهم بعض الأقوال من المشائخ والسابقين، من غير فهم ودراية، بل بمجرد قول ورواية ، وشكك اللاحق منهم في السابق، وطعن الآتي منهم بالماضي، يغتاب بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، ويغتاظ بعضهم من بعض بحرقة قلوبهم وألم نفوسهم، وهم في العذاب مشتركون، أولهم مع آخرهم كما ذكر الله تعالى:
كلما دخلت أمة لعنت
[الأعراف:38]، وهم الأشرار والمنافقون:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف:106]، وهم أهل البدع والأهواء، شرهم كلهم على أهل الورع والدين، وأضرهم على العلماء الربانيين، وأشدهم عداوة للذين آمنوا، هذه الطائفة المجادلة والمخاصمة الذين يخوضون في الفروع والخلافيات، ويهملون الأصول واليقينيات، ومع هذه البلية يدعون إنهم بهذه العقول السخيفة ينصرون دين الله ويعرفون طريق الحق، نعوذ بالله من شرورهم على الدين وإفسادهم على المؤمنين.
[32.23-24]
قرأ حمزة والكسائي ويونس عن يعقوب: لما صبروا - بكسر اللام -، والباقون بفتح اللام وتشديد الميم، فعلى الأول " ما " مصدرية، والجار متعلق " بجعلنا " أي: جعلنا منهم أئمة لصبرهم، وعلى الثاني " لما " للمجازاة، وحذف الجزاء لإغناء الفعل المتقدم عنه. و " الكتاب " للجنس، والضمير في " لقائه ": إما لموسى (عليه السلام)، أي من لقائك موسى ليلة الإسراء. أو يوم القيامة. أو للكتاب، أي: من لقاء موسى الكتاب، يعني: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من لقائك مثل لقائه كقوله:
فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك
[يونس:94]. ومثل قوله: " من لقائه " ، قوله:
وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم
[النمل:6]. وقوله:
ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا
[الإسراء:13].
وقيل: " من لقائه " معناه: من لقاء موسى إياك في الآخرة.
وقيل: معناه فلا تكن - يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - في مرية من لقاء موسى الكتاب، أي: من تلقيه بالرضاء والقبول - عن الزجاج -.
وقيل معناه: فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى الأذى - عن الحسن.
والضمير في " جعلناه " ، إما للكتاب، لما في التوراة من الأحكام وبيان الحلال والحرام، أي: وجعلنا موسى هاديا لبني إسرائيل - عن قتادة -، أو وجعلنا الكتاب هاديا لهم - عن الحسن -، وجعلنا منهم أئمة يهدون الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه لما صبروا عليه من مشاق التكليف وتثبتهم على اليقين، كما نجعلن من أمتك أمه يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين، وتثبتوا عليه من اليقين -. وعن الحسن: صبروا عن الدنيا.
ونقل في الكشاف: إنما جعل الله التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل (عليه السلام). وهذا النقل أيضا يدل على أن الغالب فيها الأحكام العملية التي يتطرق إليها النسخ والتغيير، دون المعارف والربوبيات المحفوظة عنها.
مكاشفات سرية ونفثات روعية
إعلم أن الفرق بين القرآن المجيد وسائر كتب الله المنزلة على الأنبياء، بأن القرآن كلام الله وكتابه جميعا، وغيره كتاب فقط، وكلام الله أشرف من كتابه بوجوه:
أولها: إن كلامه تعالى قوله، وكتابه فعله، والقول أقرب إلى القائل من الكتاب إلى الكاتب، فكلام الله أشرف من كتابه.
وثانيها: إن الكلام والقول من عالم الأمر:
إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون
[النحل:40]، والكتاب من عالم الخلق، وعالم الأمر كله علوم عقلية وحقائق معنوية، بخلاف عالم الخلق، لأن العلوم والمعاني زائدة فيه على صحائف مداركها وألواح مشاعرها.
وثالثها: إن كلام الله نزل على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسره، وكتاب الله نزلت صورة ألفاظه على ألواح وقراطيس.
ورابعها: إن تلقي الكلام وتعلمه بأن تتجلى حقيقته وينور معناه على قلب من يشاء من عباده، لقوله تعالى:
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى:52]، ومن علمه الله تعالى القرآن بهذا التعليم، كان ذلك عليه من الله فضلا عظيما، كما قال لحبيبه بعد تعليمه:
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء:113]. فتلقيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن من حيث هو قرآن بأن يتخلق به، إذ كان القرآن خلقه، كما هو المروي عن بعض أزواجه حين سئلت عن خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن الله يقول:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم:4]، قالت: " كان خلقه القرآن ". وأما تلقي الكتاب وتعلمه فبالدراسة والقراءة والتلاوة، فالأنبياء (عليهم السلام) يتدارسون الكتب لقوله تعالى
كتب يدرسونها
[سبأ:44].
وخامسها: إن تنزيل القرآن على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكاشفة أسراره منه، وتجلي أنواره له، أمر بينه وبين الله لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأما إنزال الكتب على سائر الأنبياء فهو مما يقرؤه كل قارئ.
وسادسها: إن سائر الكتب يستوي في هداها الأنبياء ولأمم، لقوله في هذه الآية: { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } ، وقوله:
هدى للناس
[البقرة:185]. وأما القرآن من حيث هو كلام، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مخصوص بالهداية به عند تجلي أنواره في التنزيل على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال:
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى:52]، وقال:
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء:113]، أي خصصك بهداه وعلمه.
وسابعها: إن الكتب المنزلة عليهم كانت تصرف فيهم، بأن يكون الكتاب مع أحدهم نورا من الله يجيء به إلى قومه ليكون هدى لهم، كما قال:
قل من أنزل الكتاب الذي جآء به موسى نورا وهدى
[الأنعام:91]، وأما تنزيل القرآن على قلب الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان تصرفه فيه بأن جعله نورا من الله، يجيء ذلك النور إلى الأمة ومعه القرآن، كما قال تعالى:
قد جآءكم من الله نور
- وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) -
وكتاب مبين
[المائدة:15].
وثامنها: قد فرق الله بين ما شرف النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بإنزال الكلام على قلبه، وبين ما شرفوا به من إنزال الكتاب، فقال تعالى تشريفا لموسى (ع):
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة
[الأعراف:145]. وقال تعالى تشريفا لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم):
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم:10]. وانظر وتدبر كيف قال:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22]. فشتان بين نبي تشرف بكتابه الموعظة له في الألواح، وبين نبي تشرفت أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم.
وتاسعها: إن من خصائص إنزال القرآن بما هو كلام الله، أنه متى نزل على قلب أحد صار خاشعا متصدعا من خشية الله لقوله سبحانه:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله
[الحشر:21]، ولما نزل على قلب الرسول صار قلبه خاشعا خاضعا من خشية الله، حتى قال كما هو المروي عنه:
" أنا أعلمكم بالله وأخشاكم منه ".
وأما إنزال الكتب فليس من لوازمه الخضوع والخشوع والتخلق بأخلاق الله، ولذا قيل: لو كانت التوراة أنزلت على قلب موسى (عليه السلام) لا في الألواح، لعله ما ألقى الألواح في حال الغضب، وما احتاج إلى صحبة الخضر (عليه السلام)، لتعلمه العلم كما حكى الله تعالى عنه بقوله:
هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا
[الكهف:66-67].
[32.25]
" الفصل ": هو ما يميز به الشيء عن غيره بحسب تجوهر ذاته وقوام حقيقته، وكثيرا ما يطلق الفصل على بمدئه القريب، كالنفس الحيوانية للحساس، والنفس الناطقة للناطق، فإنهما مبدآن قريبان لهذين الفصلين المنطقيين المحمولين بوجه، وبوجه آخر هما عين هذين إذا أخذ كل منهما لا بشرط شيء من التقييد والإطلاق، وربما يطلق على المبدأ العالي لحقيقة الشيء وتحصله وتميزه، فإن الصور النوعية عند طائفة، هي الفصول المنوعات للحقائق الجرمانية، وعند طائفة أخرى، تطلق الصور على المفارقات النورية والجواهر العقلية الواقعة في عالم الصور المفارقة، كما هو عند أفلاطون الإلهي، والرواقيين، وأئمتهم الأقدمين كسقراط وفيثاغورس وأنباذقلس وأغاثاذيمون، وعند طائفة أخرى، هم أعلى مرتبة وأدق مسلكا (وأمتن) دليلا وأجل ذوقا وأوثق برهانا وأرفع نظرا، وهم الحكماء الإيمانيون، والأفاضل الربانيون كأبي يزيد البسطامي، وسهل التستري، والجنيد البغدادي، ومحي الدين الأعرابي وتابعيهم، أن أسماء الله تعالى بعينها مبادئ الفصول الذاتية للحقائق الإمكانية، وما يحاذيها من الصور المجردة في عالم العقول، أو الصور الحسية في عالم الجسم مستهلكة التأثير والأثر تحت سطوع الأنوار الإلهية والأسماء الربوبية، استهلاك النور الضعيف في النور الأقهر القوي، واضمحلال وجود السافل تحت وجود العالي .
فإذا علمت هذا، وتذكرت ما ادعيناه فيما سبق، من أن الإنسان بحسب الباطن والنشأة الأخروية أنواع كثيرة حسب كثرة الأخلاق المتخالفة، والصفات الغالبة الراسخة المتنوعة، أيقنت معنى كون " يوم القيامة " " يوم القضاء " " ويوم الفصل بين الخلائق " ، فالله يقضي بينهم يوم القيامة بحسب ظهور مظاهر أسمائه ومجالي شؤونه، ويفصل بينهم بالحق، ويميز المحق من المبطل في ما يختلف فيه من الأديان والمذاهب، وقد مر منا نقل آيات دالة على أن أنواع الإنسان كثيرة بحسب النشأة الآخرة، وظهور هذه الكثرة في حقائق الإنسان، إنما يتوقف على قيام الساعة، لقوله تعالى:
وامتازوا اليوم أيها المجرمون
[يس:59].
تذكرة
الدنيا دار اشتباه ومغالطة، متشابك فيها الحق والباطل، ويتعانق فيها الخير والشر، والنور والظلمة، ويتقابل المتخاصمان، والآخرة دار الفصل والتفريق، يتفرق المختلفان،
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون
[الروم:14]، ويتميز المتشابهان، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينفصل الخصمان، ويحق الحق ويبطل الباطل
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة
[الأنفال:42]، وليحق الحق ويبطل الباطل، والآخرة دار جمع أيضا، ولا منافاة بين هذا الفصل وذاك الجمع، بل هذا يوجب ذاك كما في قوله تعالى:
هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين
[المرسلات:38].
و " الحشر " أيضا بمعنى الجمع:
وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا
[الكهف:47]. وحشر الخلائق على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم وملكاتهم، فلقوم على سبيل الوفد:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85]، ولقوم على وجه التعذيب:
ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار
[فصلت:19]، وبالجملة، يحشر كل أحد إلى ما يتوجه إليه باطنه ويعمل لأجله ظاهره ويحبه بقلبه ويشتاقه بجنانه:
احشروا الذين ظلموا وأزواجهم
[الصافات:22]،
فوربك لنحشرنهم والشياطين
[مريم:68]، وفي الخبر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لو أحب أحدكم حجرا لحشر معه ".
تذكرة أخرى
إعلم أن عجائب عالم الآخرة عظيمة، وأشخاصه وأنواعه كثيرة، وكل ما يوجد في هذا العالم من الحيوانات يوجد نظيره في الآخرة، مع أنواع أخر لم تعهد في الدنيا، وما سوى الإنسان لا ينتقل من هذه الدار إلى تلك الدار، وإنما نشأت جميع الخلائق يوم القيامة من ماهية الإنسان وعقله الهيولاني.
ووجه ذلك: إن تكرر الأفاعيل والانفعالات البدنية يوجب حدوث الأخلاق والملكات النفسانية، وكل صفة وملكة تغلب على باطن الإنسان تتصور في الآخرة بصورة تناسبها، ولا شك أن أفاعيل الأشقياء المدبرين بحسب هممهم القاصرة عن ارتقاء عالم الملكوت، النازلين بحسب دواعيهم الخسيسة في البرازخ الحيوانية بالأعمال الشهوية والغضبية والوهمية البهيمية والسبعية والشيطانية، فلا جرم تكون تصوراتهم مقصورة على أغراض حيوانية أو شيطانية تغلب على نفوسهم، ويحشرون على صور تلك الحيوانات والشياطين في دار الآخرة، كما في قوله:
وإذا الوحوش حشرت
[التكوير:5]. وقوله:
لنحشرنهم والشياطين
[مريم:68]. وقوله:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف:36]. وفي الحديث:
" يحشر الناس على نياتهم "
، " يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير " ، وهكذا الناس يتصورون بصورهم الحقيقية الأخروية التي تقتضي ملكاتهم وأخلاقهم على أهل الكشف وأصحاب الشهود، الذين غلب على باطنهم سلطان الآخرة، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
[32.26]
" الواو " للعطف على معطوف عليه أمر منوي من جنس المعطوف، والفاعل في " يهد " مضمر يدل عليه: " كم " ، أي كثرة إهلاكنا القرون، لا نفس " كم " ، لأنها لا تقع فاعلة، فلا يقال: " جاءني كم رجل " ، ولأن " كم " في محل النصب على تقدير الاستفهام الذي له صدر الكلام، لأنه مفعول أهلك، و " يمشون " في محل النصب على الحال. ويحتمل أن يكون الفاعل نفس هذا الكلام بحسب المحكي عنه، والمعنى كقولك: " يعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال " ، أو ضمير يرجع إلى الله بدليل قراءة زيد: " نهد " بصيغة المتكلم.
وقرأ يمشون - بضم الياء وتشديد الشين - أي: أو لم يبصرهم ويبين لهم كم أهلكنا من القرون الماضية لكفرهم وعتوهم وارتكابهم المعاصي، فانتقمنا منهم، يمشون هؤلاء القوم - يعني كفار قريش - في مساكنهم، ويمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم، ويرون آثارهم.
وقيل معناه: أنا أهلكناهم بغتة وهم مشغولون بصنايعهم ومشاؤون في منازلهم، إن في ذلك دلالات واضحات على حقارة الدنيا والحث على طلب الأمور الباقية، أفلا يسمع هؤلاء الكفار من أهل التواريخ والحكايات ما يوعظون به من المواعظ والمنبهات.
مكاشفة إلهامية
" المشي في المساكن ": إشارة إلى وقوف قوم على أوائل الأنظار ومبادئ الأفكار، وعدم خروجهم عن عتبة باب المحسوسات والأوليات مع غاية سعيهم فيما لا يعني، ونهاية جدهم في طلب هذا الفاني، وهم يمشون في الحقيقة في مساكنهم، ويجمعون تلفيقات أقوام بلا روية جمعا، وهم
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف:104]. ومشاهدة هذا الحال في أكثر الجهال المتشبهين بأرباب الكمال، المتورطين في مواقع الهلاك والوبال، الهائمين في أودية الشبه والضلال، تنبيه بليغ وهداية واضحة ودلالة كاشفة لأهل الاستبصار والسلوك إلى عالم الملكوت وقرب الحق المهيمن المتعال ذي الجمال والجلال، فيتفطن اللبيب الذكي، أنهم في واد وأهل الآخرة في واد آخر، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون.
نصيحة
أهل الاستبصار لا يستنكفون عن التعلم استبدادا بالرأي، ولا يجحدون الحق استتباعا للنفس والهوى، أو تقليدا وتعصبا للمذاهب والآباء، ومما يؤيد هذا الوجه، تعقيب هذه الآية بمثل وارد منه تعالى في غاية الملاءمة لما كنا بصدده بحسب المضرب كما سنوجهه.
[32.27]
" السوق ": الحث على السير، و " الجرز " الأرض اليابسة التي جرز نباتها، أي قطع، إما لعدم الماء، أو لأمر آخر كالرعي وغيره، ولا يقال للتي لا تنبت ك السباخ: " جرز " كما دل عليه قوله: { فنخرج به زرعا }. واشتقاق هذا اللفظ من قولهم: " سيف جراز " أي: قطاع لا يبقي شيئا إلا قطعه، وفي " الجرز " أربع لغات: بضم الجيم والراء، وبفتحهما، وبضم الجيم وإسكان الراء، وبفتح الجيم وإسكان الراء.
قد نبه الله سبحانه الكفار بوجه آخر معطوف على الوجه السابق بقوله: { أولم يروا أنا } أي: أو لم يعلموا أنا نسوق الماء بالأمطار والثلوج أو الأنهار والعيون إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، وقيل: نسوق الماء بالسيول إليها، لأنها مواضع عالية وهي قرى بين الشام واليمن - عن ابن عباس -. وقيل: هي أبين.
فيخرج به زرعا تأكل منه - أي من ذلك الزرع - أنعامهم من عصفه، وأنفسهم من حبه كما في قوله تعالى :
وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم
[عبس:31 - 32]، فلا يبصرون بدائع صنعه، ولطائف رحمته في حق أنفسهم وفي حق أنعامهم.
مكاشفة قرآنية
لما كانت الآية السابقة بحسب ما وجهناها وأولنا إليه، إشارة إلى الحث والترغيب للإهتداء بأنوار كتاب الله تعالى، والإرتقاء إلى أعلام الحقائق القرآنية، والزجر والتهديد والنهي والوعيد للقاعدين عن سلوك هذه الدرجة العظيمة، بحكاية إهلاك قرون ماضية كانوا يمشون في مساكنهم السفلية، ويترددون في منازلهم الحسية البدنية، لطلب الأغراض الخسيسة والمقاصد الحيوانية، ففي هذه الآية إشارة تمثيلية إلى كون القرآن ماء تحيى به أراضي القلوب الميتة بموت الجهالة والنقص، كما تحيى الأرض الجرز بوابل السماء.
وتمثيل القرآن بماء المطر شائع في كتاب الله، كما في قوله:
والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الأرض بعد موتهآ إن في ذلك لآية لقوم يسمعون
[النحل:65]، وكقوله يعني أو لم يروا أنا نسوق ماء العلم القرآني من سماء الملكوت العقلي وجو العالم الأعلى إلى أرض النفوس الساذجة المنقطعة عن شواغل الدنيا وعوائق الهوى، فنخرج به زرع العلوم الكشفية الإلهية، والآداب والأحكام العملية، تتغذى وتتقوى بالأولى روح الإنسان وباطنه تكميلا للقوة العقلية، وتتروض وتتهذب بالثانية نفس الإنسان وظاهره تكميلا للقوة العملية، فإن النفس بمنزلة المركب للروح العقلي، كما أن البدن بمنزلة المركب للنفس الحيوانية، ولهذا استعير لفظ الرياضة الموضوعة لمن يروض الحيوان، أي: يمنعه عن العلف لتقبل التأديب والتعليم، لأجل النفس الحيوانية عند تسخير الروح العقلي إياها، وضبطه لها عن اللذات، لتشايع قواها الروح في سلوكها طريق الحق وسيرها إلى الله.
فكما أن القرآن يوجد فيه علوم الآخرة ومكاشفات الأسرار الإلهية والآيات الربوبية، فكذلك يوجد فيه أحكام الحل والحرمة، وطريق المعاملات، وكيفية المعاشرة مع الخلق، وعلم التمدن والسياسات، والجروح والقصاص، والأقضية والحكومات، فتلك الآخرة، وهذه الدنيا على وجه تكون وسيلة للآخرة، فافهم واغتنم.
أفلا يبصرون: آي آثار الحياة العقلية، وشواهد الأنوار الملكوتية في القلوب المهتدية بآيات المعارف القرآنية، والنفوس التي أنبت الله فيها بمياه الألطاف الروحانية (الرحمانية - ن) أشجار الكلمات الطيبات، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتلك الأمثال نضربها للناس.
[32.28-29]
قال الفراء: المراد به فتح مكة، وقال السدي: " الفتح ": هو القضاء بعذابهم في الدنيا، وهو يوم بدر، وقال مجاهد: هو الحكم بالثواب والعقاب يوم القيامة. كان الكفار يسمعون المسلمين يستفتحون بالله عليهم، فقالوا لهم: متى هذا الفتح، فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول لهم وينبئهم على أن بعد الفتح لا ينفع إيمان من كان كافرا من قبل، كما في قوله تعالى
يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل
[الأنعام:158]، أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب.
هذا على تقدير أن يكون يوم الفتح القيامة، وأما على أحد الوجهين الأخيرين ففيه إشكالان:
أحدهما: عدم مطابقة الجواب للسؤال في الظاهر.
والثاني: أنه قد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر.
والجواب عن الأول: أن مقصود السائلين عن وقت الفتح واستعجالهم به على وجه التكذيب والاستهزاء، فوقع الجواب على حسب غرضهم وأسلوب استبعادهم له، فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا (تستبعدوه - ن)، فكأني بكم وقد وجدتم في ذلك اليوم وآمنتم به، فلم ينفعكم إيمانكم يوم الحساب، ولا لكم الاستمهال عن حلول العقاب.
وعن الثاني: أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع إيمان فرعون حين الغرق.
كشف تنبيهي
" يوم الفتح ": يطلق تارة على وقت الولادة المعنوية التي تنفتح مملكة البدن وعساكر قواها البهيمية والسبعية والشيطانية للروح، وتارة يطلق على القيامة الصغرى، وهو الموت الطبيعي الذي يفتح باب حجاب البدن، وتارة يطلق على يوم القيامة الكبرى بظهور المهدي (عليه السلام) وغلبته على الدجال والدجالين، ولا ينفع حينئذ إيمان المحجوبين، لأنه لا يكون إيمانهم بحسب الكشف والبرهان، بل بحسب حديث النفس واللسان والمجادلة والبحث والغلبة والطغيان، فلا يغني عن هؤلاء المحجوبين عذاب الطرد والبعد والحرمان.
[32.30]
وانتظر يا محمد بوعدي لك ولقومك المؤمنين بالنصر على أعدائكم الجاحدين والمكذبين، إنهم منتظرون حوادث الزمان فيكم من موت أو قتل أو غلبة منهم عليكم، كما في قوله تعالى:
فتربصوا إنا معكم متربصون
[التوبة:52].
وفي قراءة ابن السميفع " منتظرون " - بفتح الظاء -. وقيل في معناه: وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، يعني: أنهم هالكون لا محالة.
إشارة
يحتمل أن يكون المراد: انتظر الفتح الحقيقي، والخلاص من آلام الدنيا وعداوة أهلها، وكيد الأعداء، وملاقاة الأصدقاء ومشاهدة أرواح الأنبياء وملائكة الله في السماء، فإن الأرواح والملائكة ينتظرون قدومك عند الإرتقاء إلى الملك الأعلى الذي بيده ملكوت الأشياء.
خاتمة
في فضل السورة وعدد آياتها وموقع نزولها
عن أبي بن كعب
" عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: من قرأ { الم * تنزيل } [السجدة:1 - 2]، و { تبارك الذي بيده الملك } [الملك:1] فكأنما أحيى ليلة القدر ".
وروى ليث عن جابر قال:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينام حتى يقرأ { الم * تنزيل } [السجدة:1 - 2] و { تبارك الذي بيده الملك } [الملك:1] "
، قال ليث: فذكرت ذلك لطاووس، قال: فضلتا على كل سورة في القرآن، ومن قرأهما كتب له ستون حسنة ومحي عنه ستون سيئة ورفع له ستون درجة.
وروى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قرأ سورة السجدة في كل ليلة جمعة، أعطاه الله كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمد وأهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الكشاف أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قرأ { الم * تنزيل } في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام.
وعدد آياتها تسع وعشرون آية بصري وثلاثون عند الباقين، والاختلاف في الآيتين: ألم - كوفي جديد، حجازي، شامي.
وهي مكية ما خلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة، وهي:
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون
[السجدة:18] - إلى تمام الآيات.
[36 - سورة يس]
[36.1]
أي: يا إنسان - أعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لأنه الإنسان الحقيقي المعنوي، الذي اجتمعت فيه صور الأسماء كلها مفصلة، كما في العقل الأول مجملة - لما روي عن ابن عباس: " إن معناه " يا إنسان " في لغة طي " ، وقيل في توجيهه لفظا - إن صح النقل -: أن يكون أصله " يا أنيسين " فكثر النداء به على ألسنتهم، حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: " م الله " في " أيمن الله ".
وقد مرت الإشارة في سورة السجدة، إلى قاعدة كلية في الحروف المقطعة، بها يمكن أن يستنبط معنى الإنسان الكامل، من كلمة " سين " فقط - إن كان " يا " حرف النداء. ومن مجموع " ياء " و " سين " بوجه اخر - إن لم يكن كذلك - فليرجع إليها.
وقرئ " ياسين " بالفتح، ككيف وأين، أو بالنصب، على " اتل يس " ، وبالكسر على الأصل، وبالرفع على " هذه يس ".
واتفق أكثر المفسرين، على أن المراد منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وان اختلفت العبارات، وتعددت الإشارات، فقيل معناه: " يا إنسان ". وهو قول ابن عباس. وقيل: " يا رجل ". عن الحسن وأبي العالية. وقيل: معناه: " يا محمد " (صلى الله عليه وآله). عن سعيد بن جبير ومحمد بن حنفية. وقيل معناه: " يا سيد الأولين والآخرين " وقيل: " هو اسم النبي (صلى الله عليه وسلم)، عن علي وأبي جعفر الباقر (عليهما السلام). ولهذا يقال لآله (عليهم السلام): " آل يس ".
[36.2]
المحكم عن الباطل والتحريف، أو: ذي الحكمة، لما فيه من الآيات الدالات على العلوم الربوبيات. وفيه سر آخر، وهو أن يكون المراد به عقل الرسول، الذي فيه صور معلومات الأشياء وحقائقها، كما في اللوح المحفوظ، وهو الذكر الحكيم، وقد وقع الإصطلاح من أقوام، على تسمية العقل الذي فيه مبدء تفاصيل المعقولات: " عقلا قرآنيا ". وعلى تسمية العقل الذي فيه مبدء تفاصيل المعقولات: " عقلا قرآنيا ". وعلى تسمية النفس التي استمدت منه في حضور تلك التفاصيل: " عقلا فرقانيا ". فعلى هذا يكون هذا القسم من قبيل " لعمرك ".
ومما يؤكد هذا المطلب، أن كل ما ظهر من الآثار الصادرة من الله في مظهر خاص، بحسب ما يوجد فيه من ملكة قائمة، أو صفة راسخة، أو اتصال قوي بالمبدء الفعال، فهو إنما كان من حقيقة ذلك المظهر، فالقرآن بحسب الذات والماهية. كان خلق الرسول ، وهذا أمر اتفقت عليه أذواق أهل الله.
[36.3]
من الحق إلى الخلق في السفر الثالث النزولي، بعد السفرين الأولين: أحدهما: " المعراجي السمائي " والآخر: " الأسمائي " فإن الرسالة من قبل ملك مسبوقة بالوصول إليه، والمعارفة التامة معه.
[36.4]
وهو الطريق الذي يفضي سالكه إلى الحق الأول، وهو الذي كان مسلوك جميع الأنبياء ثم الأولياء ثم الحكماء، ثم الأمثل فالأمثل من دين التوحيد الإلهي، وهو تهذيب النفس أولا، بالأعمال والآداب الشرعية عن أوساخ الأفاعيل الشهوية والغضبية، الذي هو بمنزلة إماطة الأذى عن الطريق، ثم صيانتها عن اغواء وساوس الوهم واضلال شياطين الجن والإنس، بالعلوم الميزانية والتعليمية، وهو بمنزلة مدافعة قطاع الطريق، ثم تكميل افضل اجزاء النفس، وهو القوة النظرية، بالعلوم الحقيقية والمعارف الالهية، وعند ذلك يكون اوان الوصول إلى المقصود الاول، الذي اليه ينتهي سير العقول
ألا إلى الله تصير الأمور
[الشورى:53]. والمتكفل لجميع هذه المعاني على اشرف وجه وآكده، هو القرآن المجيد الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
[فصلت:42].
[36.5]
وقرئ بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على تقدير " أعني " ، وبالجر على البدلية من " القرآن " ، أو من " الصراط " ، لأن القرآن المبين، حبل الله المتين، وبه يسلك سبيل رب العالمين، ويعرج إلى سماء الحق واليقين، والتنكير في " صراط مستقيم " ، دال على أنه من بين الصرط المستقيمة، بحيث لا يكتنه وصفه ولا يحاط بحده.
[36.6]
ثم بين الغاية في إرسال الرسل، وتنزيل الكتاب بقوله:
{ لتنذر }:
بهذا القرآن، وتعلم بهذا الكتاب والحكمة.
{ قوما مآ أنذر آبآؤهم }:
الأقدمون، وأشياخهم الماضون بهذه المعارف الغامضة، الأبية، والمقاصد الشريفة الإلهية، خصوصا علم المعاد، وبعض أحوال المبدء مما لا تستقل به العقول، ولا يدركه أحد إلا بمتابعة أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
{ فهم غافلون } [6]:
عما وراء طور العقل، كما يغفل سائر عوام الناس وأصحاب الحواس، عما يدركه الأكياس بدقة عقولهم، من غير استيناس بالقرآن ولا اقتباس.
وقوله: { قوما مآ أنذر آبآؤهم } صفة وموصوف، من باب وصف الشيء بحال متعلقه، اي " قوما غير منذر آباؤهم " على نحو قوله:
لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك
[القصص:46].
والمعنى - والله أعلم - أن الاديان والعلوم لم تكن في الازمنة الماضية والامم السابقة، بهذه المثابة، من التمامية والكمال، والتقديس عن النقص والشر والوبال، كما في قوله تعالى:
كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
[البقرة:151].
وعن قتادة: لانهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وعن الحسن: لم يأتهم نذير من أنفسهم وقومهم وان جاءهم من غيرهم. وقيل: معناه: لم يأتهم من أنذرهم بالكتاب حسب ما أتيت، وهذا على قول من قال: كان في العرب قبل نبينا صلى الله عليه وآله من هو نبي كخالد بن سنان، وقس بن ساعدة، وهذا الوجه قريب مما ذكرناه أولا، فافهم.
ومنهم من جعل " ما " مصدرية، او موصولة منصوبة على المفعولية الثانوية، فيكون الكلام على هذين الوجهين، لإثبات الإنذار السابق لا لنفيه، أي: لتنذر قوما انذار آبائهم. او: لتنذر قوما ما انذر آباؤهم من العذاب وغيره، فقوله: " فهم " متعلق على الاول بالنفي، يعني: عدم الانذار منشأ غفلتهم وذهولهم. وعلى الثاني، متعلق بالانذار، من باب تعلق السبب المستدعي لشيء به، كما تقول: عظ فلانا فإنه غافل، أو: فهو غافل.
[36.7]
لأن الإيمان عبارة عن صيرورة النفس، بحيث يعرف الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعمل بمقتضاه، ويسلك بمؤداه، وينهى النفس عما يهواه، ويعبد الله كأنه يراه، وهذا مما لا يتيسر الا لنفس زكية، وقلب لطيف قابل لتصوير الحقائق، واكثر الناس غلبت عليهم الجسمية والكثافة، والنفاق والشيطنة، وكلاهما حجاب، إلا أن الاول، من باب النقص الواقع بسبب التجسم في أول الفطرة، والثاني من باب المرض المزمن الطاري.
فاذا تقرر ذلك، فاعلم أن القول قوله:
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[السجدة:13] وهو عبارة عن حكمه القضائي، وتقديره الازلي، بأن نظام هذا العالم وعمارته، وقوامه، ووجود العلماء المهتدين، وعبوديتهم، لا ينتظم ولا يصلح، الا بأن يكون في العالم نفوس غلاظ وقلوب قاسية ، وشياطين أنسية مكارة بحسب ما غلب عليهم من طاعة الشهوة والغضب، وخدمة الهوى، والتردي إلى أسفل درك جحيم الدنيا:
ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود:119]. فيتوجهون بتلك الدواعي والاغراض الخسيسة، الى عمارة الدنيا، والسعي في طلبها، والإخلاد اليها، والعمل لأجلها، من الزراعة والعمارة، وإخراج القنوات، وتحصيل المزروعات، وصنعة المكاسب الدنية، والصنائع الكثيفة، كالحجامة والكنس والحياكة وغير ذلك، وسبيل عمارة الدنيا، غير سبيل عمارة الآخرة، من تلطيف السر بالتقوى، وتنوير الروح بالعلم والهدى، ألا ترى الى قوله تعالى في الحديث القدسي:
" إني جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم "
وفي الحديث:
" ان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ".
وقد اوردنا هذه المعاني والدلائل في تفسير سورة السجدة، عند قوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[السجدة:13].
ومن تأمل في وضع الدنيا وأسبابها، علم أن التعيش لا يتصور إلا بأن يكون أكثر الناس غليظي الطبائع، دنيي الهمم، بعيدين عن تذكر الدار الآخرة، وعالم الملكوت، كما دلت عليه آيات كثيرة في هذا الباب كقوله:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103] وقوله:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف:106] وكقوله:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها
[الأعراف:179] الآية. وكقوله:
وأكثرهم الكافرون
[النحل:83].
وكقوله:
وأكثرهم للحق كارهون
[المؤمنون:70]. وقوله:
ولكن أكثرهم لا يشكرون
[يونس:60].
وكل من توجه بقلبه إلى الدنيا، سهل الله له طريقها، ومن توجه سره إلى الآخرة وعالم الملكوت، سهل الله له سبيلها، وكل ميسر لما خلق له، ومآل طالب الدنيا إلى الجحيم، ومآل طالب الآخرة إلى النعيم، من كان لله كان الله له، ومن كان للدنيا كانت الدنيا سبيله ومبتغاه ومولاه:
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا
[النساء:115].
[36.8]
ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى تعليمهم وإرشادهم بقوله:
{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان }.
الضمير للأغلال، لأن طوق الغل في عنق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن، حلقة فيها رأس عمود خارجا منها إلى الذقن، فلا يتمكن معه من خفض رأسه أو قذاله.
{ فهم مقمحون } [8]:
رافعون رؤوسهم، وغاضون أبصارهم، من " قمح البعير " إذا روي ورفع رأسه، وقيل للكانونين: " شهرا قماح " لأن الإبل إذا وردت الماء فيهما رفعت رأسها لشدة برده.
ومنهم من جعل الضمير للأيدي على سبيل الكناية، وإن لم تكن مذكورة، لدلالة الأغلال والأعناق عليها، وذلك، لأن الغل يجمع اليد إلى الذقن والعنق، ولا يجمع العنق إلى الذقن، وأكد ذلك بما روي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرءا: (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا) وبقراءة بعضهم: (في أيديهم). ورجح الأول بقوله: (فهم مقمحون)، حيث جعل الإقماح نتيجة ما ذكر، وإلا لم يكن للسببية وجه ظاهر، وبأن الإضمار ضرب من التعسف، وعدول عن الظاهر، وعلى الوجهين لا يتفاوت المعنى، لأن الغل لا يكون في العنق دون اليد، ولا في اليد دون العنق.
والمقصود، تمثيل حال الجهلة الناقصين الكافرين، أو المعاندين والمنافقين، المعرضين عن العلم واليقين، والحكمة والدين، في إعراضهم عن استماع كلام أهل الحق، برجل غلت يداه إلى عنقه، لا يمكنه أن يبسطهما إلى خير، وهو إشارة إلى قصور القوى العملية، التي هي بمنزلة اليد اليسرى لها، عن فعل الخيرات، وترك اللذات، وبرجل طامح برأسه لا يبصر مواطيء قدمه، وهو إشارة إلى استنكاف النفس العسوفة الجحودة العنودة، المحجوبة بفطانتها البتراء، المغترة ببصيرتها العمشاء عن قبول التعلم، والاستكبار عن الحق، والاغترار بالعقل الجزئي، وذلك لأن المستكبر عند استكباره، يكون رافعا رأسه، لاويا عنقه، شامخا بأنفه، لا ينظر إلى الأرض.
وإنما أضاف الجعل إلى نفسه، إما لأن عند تلاوة النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن عليهم، ودعوته إياهم، صاروا بهذه الصفة، فهو مثل قوله:
حتى أنسوكم ذكري
[المؤمنون:110]. وإما لأن الموجد لهذه النفس الشقية الجاهلة، التي كفرت بأنعم الله، إنما خلقها لأجل تعمير هذه الدنيا الفانية، واستخدامها لأمور حيوانية، وهو مما يستتبع لأوصاف وأخلاق ذميمة، وهيئات رديئة، ينشأ منها هذه الحالات عند سماع الآيات، لأنها ما خلقت لأجل السعادة الأخروية، بل خلقت لأشياء أخر، لو لم تكن هي لوقع الضرر في أشياء شريفة، روعي جانبها ولفتها (لمها) فافهم.
[36.9]
هذا تمثيل لحالهم، بحسب ما توجبه الأسباب والعلل الخارجية، كما أن الأول تمثيل لحالهم بحسب ما تؤدي إليه المبادئ والهيئات الداخلية، أي فمن هذه صفتهم في إعراضهم عن الحق، وتمردهم عن قبول الإيمان والهداية وسلوك الصراط المستقيم، فقد حل غضب الله عليهم وخذلانه إياهم، فكأنه قال: تركناهم مخذولين، وطردناهم ملعونين، بأسباب تدعوهم إلى طريق الشر والخذلان والطرد، إذ سد عليهم جوانبهم عن الوصول إلى دار النعيم، وضيق عليهم الطريق إلا إلى الجحيم، لأنهم أشقياء مردودون إلى أسفل سافلين، مقهورون بالقهر الإلهي لا ينجع فيهم الإنذار، ولا سبيل إلى خلاصهم من النار،
كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون
[يونس:33].
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار
[غافر:6].
سدت عليهم الطرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي، الذي هو محل الإلهام، فحجبوا عنه بختمه وطبعه ورينه، والسمع والبصر هما المشعران لإدراك الإنسان الكامل، خليفة الله في أرضه، وهما بابان للفهم والإعتبار، فحرموا عن جدواهما لطمس عيونهم، وصمم آذانهم، فلا يمكنهم الإنتفاع بهما، والاستعمال لهما فيما خلقا لأجله، لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى قلوبهم، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلوم الكشفية الإلهامية، ولا في الظاهر إلى العلوم التعليمية الكسبية الأدبية، فسدت عليهم الطريقتان.
فالسد الأول: الواقع من بين أيديهم، يوجب انسدادهم عن الوصول إلى عالم الآخرة، وعالم الغيب والباطن، الذي تتوجه إليه النفوس بحسب الفطرة بالموت الطبيعي.
والسد الثاني: الواقع من خلفهم يوجب انسدادهم عن الانتفاع بعالم الأجسام، وصرف نعم الله، من الآلات والحواس الجسمانية فيما خلقت لأجله، فحبسوا في سجون الظلمات، ووقعوا في شجون أودية الهوى والدركات، مغشون بأغشية الهيئات الرديات، مغطون بأغطية الشواغل الماديات، ولذا قال: { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } أي غطيناهم، وجعلنا على أبصارهم غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي، لأن شرط الرؤية مفقودة، لأنهم في حجب ثلاثة، وظلمات ثلاثة: عمى القلب أولا، وعمى الشواغل والتعلقات ثانيا، وعمى الجحود والعناد ثالثا، فما أعظم عذابهم وما أشد حجابهم، حيث قال الله فيهم، اعراضا عنهم، وتسريحا إياهم في مرتع الدواب خليعي العذار، وتسوية بينهم وبين الأنعام السائمة بلا قيد وعقال.
[36.10]
لأن الإيمان مرتبة من العلم بالمبدء والمعاد، والتقوى بموجبه، والزهد في الدنيا، والتجرد عن دار الأضداد، والرضا بقضاء الله، والتوكل عليه في كل المواد، وهي تفتقر إلى قريحة صافية وقادة، وقلب خاش خاضع لذكر الله، متشوق إلى عبوديته، متواصل الفكر في طلب الحق، والوصول إلى دار القرار، ومنزل المصطفين الأخيار، فكيف يتصور هذه الأمور، من قلوب هي كالحجارة أو أشد قسوة، فلا ينجع فيهم الانذار، ولا ينفع لهم التعليم والتكرار، بل الإنذار والتعليم، إنما ينفع للقلوب الرقيقة اللطيفة الخاشية لله، الطالبة للحق، وتذكر الآيات والمعارف كما قال:
{ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } [يس:11].
[36.11]
{ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب }:
لكونه ذا فطرة صحيحة، وقلب خاضع خاشع لذكر الله، خاش من الرحمان في عالم الغيب، وإنما أطلق هذا الاسم، للإشارة إلى أن خشية أهل العرفان، حاصلة من إدراك العظمة لله، وشدة النورية الالهية، واشعة الرحمة اللامتناهية، وليست الخشية منهم خشية العقاب، وإلا لناسب أن يذكر بدل اسم " الرحمان " اسم " المنتقم " أو " القهار " أو " العدل ".
واعلم أن نفي الإنذار هاهنا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالقياس إلى الأشقياء المردودين، كما يستفاد من كلمة " انما " الكائنة للحصر، ليس بمناف لثبوته سابقا مع انتفاء الإيمان، وذلك لأن النفي ها هنا باعتبار. نفي ترتب الغاية والبغية، لأن ثمرة الإنذار ترتب الإيمان، فإذا انتفت الثمرة، فكأنه انتفى الإنذار، وأما الإثبات، فهو باعتبار تحققه في نفسه، مع قطع النظر عن التأثير ووجود الأثر، فلا يتنافيان، وهذا كالشمس المضيئة، التي شأنها إضاءة وجه الأرض، فإذا حجب عنها حجاب، وحدث فوق الأرض سحاب، فلم يستضيء منها وجه الأرض، يصدق على الشمس حينئذ إنها مضيئة، ويصدق أيضا أنها غير مضيئة، كل منهما باعتبار آخر.
{ فبشره بمغفرة }:
من الله له عن ذنوبه المتقدمة والمتأخرة، كوروده في جحيم الدنيا، ومصاحبة مؤذياتها، وقبوله الصفات الهيولية مدة بشوم الإقتران مع أقران السوء ورؤيتهم.
{ وأجر كريم } [11]:
ونعيم جسيم، من جنة الأفعال والصفات، أو الذات، على حسب الدرجات.
ولما كان قبول دعوة الحق بالإنذار، والاهتداء بفهم الآيات والأنوار، وطلب اليقين بحقائق الدين، يوجب أن يحيى القلوب بالحياة الأبدية الأخروية، ويتنور بروح الحقائق والمعارف اليقينية. ويتخلص من موت الجهالة، وينجو من عذاب الأخلاق الردية، وكل ما يخرج من القوة إلى الفعل، فيحتاج إلى سبب يخرجه، والمخرج للنفوس الميتة بموت الجهل وعذاب النقص والآفة، إلى روح العقل المستفاد، المضيء في دار المعاد، وفسحة المعارف والأنوار، الواقعة في دار القرار، ومشاهدة الصور الحسان، الموجودة في طبقات الجنان، إنما يكون مبدءا دراكا فعالا للمعقولات، خلاقا للعلوم المفارقة عن هذه الماديات، وهو الباري سبحانه، أو ضرب من ملائكته المقربين، إذ لو لم يكن حصول المعارف عنده، أو عند مقربيه، بتأييده على سبيل الفعالية، لكان مفتقرا في إدراكه للمعارف والعلوم، وخروجه من القوة إلى الفعل، إلى مبدء آخر أجل منه رتبة وفضيلة، فيلزم أن يكون إله العالم ناقصا في رتبته، مفتقرا إلى غيره في كمال وجوده، وهو ممتنع عليه - تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا -
[36.12]
فعقب ذلك بقوله:
{ إنا نحن }:
أي هو تعالى، أو ضرب من ملائكته المقربين المهيمين، الذين فعلهم مطوي في فعل الحق، لفناء ذواتهم بغلبة سلطان النور الطامس الأزلي على أنوارهم، واختفاء أشعة تأثيراتهم العقلية، تحت شعاع الضوء القيومي.
{ نحيي الموتى }:
من النفوس الهالكة في عالم الظلمات ومقبرة الدنيا، وقبور الهيئات البدنية النائمة نوم الغفلة، وقصور الوجود بروح المعارف والعلوم، ويقظة الكشف والشهود، ويؤيد هذا، ما ذكر عن الحسن: " إحياؤهم أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان ". وقيل: " نحيي الموتى ببعثهم بعد مماتهم ".
{ ونكتب ما قدموا وآثارهم }:
قيل: أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وما هلكوا عنه من آثار حسنة: كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو بناء بنوه، من مسجد أو رباط أو قنطرة، أو نحو ذلك، أو سيئة: كوظيفة وخراج أنشأها بعض الظلمة على الناس، أو سكة أحدثها، فيها تخسيرهم، أو لهو فيه صد عن ذكر الله، من ألحان وملاه، كالنرد والشطرنج، وكذلك كل سنة حسنة أو سنة سيئة يستن بها، ونحوه قوله تعالى:
ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر
[القيامة:13] قدم من أعماله، أو أخر من آثاره.
قاعدة فرقانية فيها مكاشفة قرآنية
الاشارة في تحقيق هذه الآية:
إن كل من فعل فعلا، وتكلم كلاما، أو عمل عملا صالحا، أو اقترف معصية، حصل من ذلك أثر في نفسه، وحدث فيها حال وكيفية نفسانية، هي ضرب من الصورة والنقش، وإذا تكررت الأفاعيل، وتكثرت الأقاويل، استحكمت الآثار في النفس، فصارت ملكات بعدما كانت أحوالا، و " المقام " في لغة أهل التصوف، هو هذه الملكة، فيصدر بسببها الأفعال المناسبة لها بسهولة من غير روية.
ومن هاهنا، يتأتى تعلم الصنايع، وتهيؤ المكاسب العلمية والعملية، ولو لم يكن هذا التأثر للنفس، والاشتداد به فيها يوما فيوما، لم يكن للإنسان تعلم الحرف والصنايع، بل يحتاج في كل تراخ وتعطل، إلى تجشم كسب جديد، ولم ينجع التأديب والتهذيب في الإنسان، ولم يكن أيضا في تأديب الأطفال وتمرينهم على الأعمال فائدة، فالآثار الحاصلة من الأفعال والأقوال في القلوب، بمنزلة النقوش والكتابة في الألواح
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22] وتلك الألواح النفسية يقال لها: " صحائف الأعمال ".
وتلك الصور والنقوش الكتابية، تحتاج في حصولها في تلك الألواح، إلى مصورين وكتاب غير تلك الموضوعات، لما علمت، من استحالة كون كشيء واحد، مصورا ومصورا ونقاشا ومنتقشا، ومعلما ومتعلما، وبالجملة فاعلا وقابلا، واستحالة كون المعطي للكمال قاصرا عنه، فالمصورون والكتاب يجب أن يكونوا أجل رتبة، وأشد تجردا، وأعظم كرامة من النفوس القابلة، فهم " الكرام الكاتبون " ، وهم ضروب من ملائكة الله، المتعلقة بأعمال العباد وأقوالهم، لقوله تعالى:
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
[ق:18].
وهم على كثرة أصنافهم ، حسب أصناف العباد قسمان: " ملائكة اليمين " وهم يكتبون أعمال أصحاب اليمين، و " ملائكة الشمال " وهم يكتبون أعمال أصحاب الشمال، وإليه الإشارة في قوله تعالى:
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد
[ق:17].
وفي الخبر: " كل من عمل حسنة يخلق الله منها ملكا يثاب به، ومن اقترف سيئة يخلق الله منها شيطانا يعذب به " فالأول أشير إليه بقوله تعالى:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أوليآؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة
[فصلت:30 - 31]. والثاني إليه الإشارة بقوله تعالى:
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم
[الشعراء:221 - 222]، وقوله:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف:36].
وفي كلام فيثاغورس، وهو من أساطين الحكماء، المقتبسين أنوار معارفهم من مشكاة علوم الأنبياء (عليهم السلام): " اعلم أنك ستعارض بأقوالك وأفعالك وأفكارك، وستظهر لك من كل حركة، فكرية أو قولية أو عملية، صور روحانية وجسمانية، فإن كانت الحركة غضبية شهوية، صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك، ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك، وإن كانت الحركة عقلية، صارت ملكا بمنادمته في دنياك، وتهتدي بنوره في أخراك، إلى جوار الله وكرامته ".
وهذا النور هو ما يشار إليه بقوله تعالى:
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12] وأمثال هذا في كلام الله كثير، كما سيلوح لك بفضله إنشاء الله.
فإذا تقرر هذا، فقوله: " ما قدموا " إشارة إلى تلك الأحوال النفسانية، والارتسامات المتتالية مرة بعد أخرى، قبل رسوخ تلك الصفات، وصيرورتها ملكة يعسر زوالها. وقوله: " وآثارهم " إشارة إلى الملكات الراسخة، التي هي أثر حاصل بعد انقضائها، وانقطاع الأعمال المستدعية لها.
ثم لما كان هذا العالم دار التغير والزوال، وألواح النفوس المتعلقة به قابلة للمحو والإثبات، يمكن فيها تبديل الصفات والهيئات، وإزالة السيئات بالحسنات، والتوبة عن المعاصي قبل حصول الأخلاق والملكات، وسد أبواب المغفرة عند استحكام الرين والظلمات، وأما عند ظهور الآخرة فتستحكم الأخلاق، بحيث يصير كل خلق رديء (صورة) خلق آخر من الحيوانات، فيحشر الناس على حسب هيئاتهم، كما ورد في الحديث، وهذا معنى قوله:
يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة:6 - 8].
زيادة كشف
رسوخ الهيئات، وتأكد الصفات الحاصلة من تكرر أعمال الحسنات والسيئات، هو المسمى عند الحكماء ب " الملكة " ، وفي لسان أهل النبوة والمشاهدة ب " الملك " و " الشيطان " ، والمعنى واحد وإن اختلفت الإشارات، ولو لم يكن لتلك الملكات النفسانية، من الثبات ما يبقى أبد الآباد، لم يكن لخلود أهل الطاعة والمعصية، في الثواب والعقاب وجه، لأن منشأ الدوام، لو كان نفس العمل أو الحالة الزائلة من النفس، يلزم بقاء المعلول مع زوال العلة.
وأيضا، الفعل الجسماني الواقع في زمان متناه، ومكان خاص، كيف يكون منشأ للجزاء الثابت في الزمان الغير المتناهي؟ ومثل هذه المجازاة، لا تليق بالحكيم، وقد قال:
ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق:29]. وقال:
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
[البقرة:225]. ولكن، إنما يخلد أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، بالثبات في النيات.
ومن ها هنا، ظهرت نكتة أخرى في قوله: { ونكتب ما قدموا وآثارهم } ، وهي بيان السبب الموجب للعقاب، من غير ظلم وجور واعتساف وميل وحيف في الميزان والحساب، فكل من فعل مثقال ذرة من الخير أو الشر، يرى أثره وملكوته في صحيفة ذاته، أو صحيفة أرفع من ذاته، في كتاب لا يجليها إلا لوقتها، وإذا حان وقت أن يقع بصره إلى وجه ذاته عند كشف الغطاء، وفراغه عن شواغل هذه الأدنى وما يورده الحواس، ويلتفت إلى صفحة باطنه وقلبه، وهو المعبر عنه بقوله:
وإذا الصحف نشرت
[التكوير:10]. فمن كان في غفلة عن ذاته، وحضور قلبه، يقول عند ذلك كما حكى الله عنه بقوله:
مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا
[الكهف:49]. وأشير إلى نشر الصحف أيضا بقوله تعالى:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا
[آل عمران:30].
وفي الخبر أيضا: " أن من قال سبحان الله غرست له في الجنة شجرة " ومن قال كذا وكذا حسنة، خلق الله له الحور العين، وقصورا وبيوتا وأنهارا يتمتع بها أبدا مخلدا.
وكذا الحكم في جانب المعصية، فيخلق الله من سيئات المجرمين والمنافقين، ما يكون سبب آلامهم دائما مخلدا، وقال تعالى في قصة ابن نوح (عليه السلام):
إنه عمل غير صالح
[هود:46] وفي الخبر " خلق الكافر من ذنب المؤمن " ونظائر هذه كثيرة في الآيات والأخبار.
ومنشأ ذلك، أن الدار الآخرة دار الحياة لقوله:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت:64] ومواد أشخاص الآخرة، هي التصورات الباطنة والتأملات القلبية، لأن الدار الآخرة ليست من جنس الدار الدنيا، لأن هذه دار الشهادة وهي دار الغيب، والإنسان إذا انقطع عن الدنيا، وتجرد عن مشاعر هذا الأدنى، وكشف عنه الغطاء، يكون الغيب بالنسبة إليه شهادة وحضورا، والعلم عينا، والخبر عيانا، والسر علانية.
فكل أحد يكون بعد كشف الغطاء، ورفع الحجاب، حديد البصر لقوله تعالى:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22]. فيكون بصيرا بنتائج أعماله، مشاهدا لآثار أفعاله، قارئا لصفحة كتابه، مطلعا على حساب حسناته وسيئاته لقوله تعالى:
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء:13 - 14].
فمن كان من أصحاب اليمين، وأهل المعرفة واليقين، أوتي كتابه من الجهة التي تناسبه، وهي جهة عليين
إن كتاب الأبرار لفي عليين * ومآ أدراك ما عليون * كتاب مرقوم يشهده المقربون
[المطففين:18 - 21]. ومن كان من أصحاب الشمال، والمنكوسين الفجار، وصاحب الأنظار الجزئية، والأفكار المتعلقة بالأعمال والآثار، فقد أوتي كتابه بشماله لقوله تعالى:
وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يليتني لم أوت كتابيه
[الحاقة:25] أو من وراء ظهره لقوله تعالى:
وأما من أوتي كتابه ورآء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا
[الانشقاق:10 - 12] ويكون أيضا كتابه في سجين لقوله تعالى:
إن كتاب الفجار لفي سجين
[المطففين:7]، لأنه من جملة المجرمين المنكوسين لقوله تعالى:
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة:12].
ثم اعلم، أن جميع هذه الكتب والصحائف، إنما تنتسخ عن أصل مقدس عظيم هي فروع له، وأبواب مأخوذة منه، وجداول منشعبة من بحره، وهو أم النسخ وإمام الكتب، وهو كتاب عقلي مبين، فيه صور جميع الممكنات على وجه أعلى وأرفع، لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، والعقول المقدسة عن أرجاس عالم الحواس، وأدناس الوهم والوسواس، ولذلك قال بعد الإشارات إلى صحائف الأعمال، وكتب الأفعال لأصحاب الشمال:
{ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } [12]:
أي عددنا كل شيء من الحوادث، في كتاب ظاهر الكتابة، لأن حقائق الأشياء مسطورة أولا فيه، ثم تتفرع منه العلوم المفصلة، وتتشعب من بحره أنهار الحقائق، وجداول المعارف، وهو " اللوح المحفوظ " ، و " لوح القضاء الإلهي " ، النافذ حكمه في المدارك النفسانية، والألواح القدرية، وعنده مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، والراسخون في العلم، وعنده خزائن العلوم والمعارف المتعلقة بالحوادث الكائنة والآتية، لقوله تعالى:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام:59]، وقوله:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر:21]. وتلك المفاتح لخزائن العلوم والمعلومات، هي قلوب الملائكة المقربين، المحفوظين بحفظ الله، وتبقيته وحراسته إياهم، عن الخلل والنقصان والذهول، وعالمهم " عالم القضاء " السابق على عالم القدر واللوح النفسي، وعالم اللوح الخارجي، - أي المادة بما فيها من الصور العينية -.
قيل: الوجه في إحصاء كل شيء في الكتاب الإلهي، اعتبار الملائكة به، إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور، فإن صدور الأنواع الكثيرة، يحتاج إلى جهات كثيرة في عالم الألوهية، يوجب تكثر الفيض من الواحد الحقيقي، الذي ما أمره إلا واحد كلمح بالبصر، ففي هذه دلالة على حصول صور الأشياء كلها، في ذلك الكتاب، على وجه مفصل مرتب، يجمع ويرتقي إلى أمر واحد، وقد بسطنا القول فيه بوجه تحقيقي في مقام آخر، ذكره يؤدي إلى التطويل، ويخرج عن طور الكلام في التأويل.
[36.13]
{ واضرب [يا محمد] لهم مثلا }:
أي: مثل لهم مثالا، من قولهم: " هؤلاء أضراب " أي: أمثال، و " هذه الأشياء على ضرب واحد " أي: على مثال واحد. وقيل: " اذكر لهم مثلا " أي: قصة عجيبة.
{ أصحاب القرية }:
وهي أنطاكية - على رأي المفسرين - وأصحابها كانوا عبدة أوثان.
{ إذ جآءها المرسلون } [13]:
وهم رسل عيسى (عليه السلام) إلى أهلها، أرسلهم داعين إلى الحق.
[36.14]
{ إذ أرسلنآ إليهم اثنين }:
أي رسولين من رسلنا، وإنما أضيف الإرسال هاهنا إلى الله تعالى، وإن كان عيسى (عليه السلام) هو الذي أرسلهما، لأن إرساله كان بأمر الله - كما قيل -، أو لأنه لغاية قرب عيسى (عليه السلام) من الله، وتجرده عن أغراض النفس، واستهلاك نوره في نور الحق، كان في مقام العبودية، فكان فعله فعل الحق، من قبيل قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17].
ومثل قول النبي (صلى الله عليه وآله):
" من أطاعني فقد أطاع الله ".
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من رآني فقد رأى الحق ".
وكما في الحديث المشهور:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته ".
وها هنا سر آخر، وهو أن الإنسان إذا بلغت منزلته في البراءة عن الهوى والنفس، إلى أن مات عن نفسه، واتصل بعالم القدس، يصير بحيث يفيض عليه نور الحق، بلا توسط ملك مقرب أو نبي مرسل، فإذا كان مأمورا باصلاح النوع، كان لغاية استعداده وقربه من الحق، يقبل منصب الرسالة أو الخلافة بلا واسطة، وإن كان حصول هذا المقام له بنور المتابعة لمن استخلفه، وهذا كما لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث كان إماما للمؤمنين، وخليفة لرسول رب العالمين، بنص من الله، لأجل كرامته في نفسه، وقربه من الله بحسب التابعية، كما تدل عليه أحاديث كثيرة، مثل قوله (صلى الله عليه وآله):
" أنا وعلي من نور واحد "
وقوله:
" لا تسبوا عليا فإنه ممسوس بنور الله "
، ونظائر ذلك.
وبالجملة، بعض المناصب لشرفها، لا بد وأن تكون من قبل الله، بلا مشاركة أحد، لقرب الاستعداد، وإن كانت الأمور كلها من الله، إلا أن بعضها مترتب على بعض، وبعضها فائض من الله بلا واسطة الخلق، وذلك كالنبوة والرسالة والولاية، فإن " الولي " ولي بكرامة باطنية من الله، وكذا " الحكيم " ، و " العارف " ، فإن كلا منهما فيض ورحمة من الله، لا يمكن انتقاله من شخص إلى آخر باختيار العباد، وليست كذلك السلطنة والحكومة، والقضاء والإمارة، وتولية الأوقاف وما يجري مجراها.
ولهذا، حكي في قصة رسولي عيسى (عليه السلام)، كما سننقل، أنهما قالا، حين سألهما ملك القرية: " من أرسلكما؟ ": " أرسلنا الله الذي خلق كل شيء " ومن ها هنا، علم أن أمثال هذه المناصب موهبة، وإن كان للكسب فيه مدخل ما، على وجه الإعداد والتقدمة، بتوفيق من الله وتيسيره.
{ فكذبوهما }:
أصحاب القرية: قال ابن عباس: " ضربوهما وسجنوهما ".
وشرح قصتهما - كما نقل -، أنهما لما قربا من المدينة، رأيا شيخا يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، صاحب يس، فسألهما عن حالهما فأخبراه، فقال: " أمعكما آية؟ " فقالا: " نشفي المريض ونبريء الأكمه والأبرص؟ " ، وكان له ولد مريض من سنتين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفي على أيديهما خلق كثير.
ورقي حديثهما إلى الملك، فقال لهما: " ألنا إله سوى إلهنا؟ " قالا: " نعم، من أوجدك وآلهتك " فقال: " قوما حتى أنظر في أمركما " فتبعهما الناس وضربوهما وقيل: حبسا.
ثم بعث إليهم عيسى (عليه السلام) رسولا آخر لقوله:
{ فعززنا بثالث }:
أي: فقويناهما وشددنا ظهورهما برسول ثالث، يقال: " المطر يعزز الأرض " إذا لبدها وشدها، و " تعزز لحم الناقة " وقريء بالتخيف، مأخوذا من " العزة " و " المنعة " من " عزه، يعزه " إذا غلبه وقهره، أي فغلبنا وقهرنا بثالث، وهو شمعون.
وترك ذكر المفعول به، وإضماره، للإشعار، بأن الغرض ذكر المعزز، وما لطف فيه من حسن التدبير، حتى قهر الباطل وأذل المنكر، وإذا انصب الكلام في محط الغرض من سياقه، فلا ضير في طرح ما سواه ورفضه، كقولك: " حكم الأمير اليوم بالحق " ، منن غير ذكر المحكوم له أو عليه.
وحكي، أنه لما أرسل شمعون إلى أهل القرية، دخل متنكرا، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به، فقال له ذات يوم: " بلغني أنك حبست رجلين ، فهل سمعت ما يقولانه؟ "
قال: " لا، حال الغضب بيني وبين ذلك ".
فدعاهما، فقال شمعون: " من أرسلكما؟ ".
قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ".
فقال: " صفاه وأوجزا ".
قالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد ".
قال: " وما آيتكما؟ ".
قالا: " ما يتمنى الملك ".
فدعا بغلام مطموس العينين، فدعيا الله حتى انشق له بصره، وأخذا بندقتين، فوضعاهما في حدقتيه، فكانتا مقلتين ينظر بهما، فقال له شمعون: " أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟ ".
قال: " ليس لي عنك سر، ان إلهنا لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع ".
وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع، ويحسبون أنه منهم، ثم قال: " إن قدر الهكما على إحياء ميت آمنا به " فدعوا بغلام مات من سبعة أيام، فقام وقال: " إني أدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء، فرأيت شابا حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة ".
قال الملك: " من هم؟ ".
قال: " شمعون وهذان ".
فتعجب الملك، فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه، نصحه فآمن، وآمن قومه، ومن لم يؤمن، صاح عليهم جبرئيل صيحة فهلكوا.
{ فقالوا إنآ إليكم مرسلون } [14]:
قال شعبة: " كان اسم الرسولين الأولين، شمعون ويوحنا، واسم الثالث بولس ". وقال ابن عباس وكعب: " الأولان صادق وصدوق، والثالث سلوم ". قالوا لهم: يا أهل القرية قد أرسلنا الله إليكم.
[36.15]
{ قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا }.
فلا تصلحون للرسالة، كما لا نصلح نحن لها، لأن أفراد البشر أفراد نوع واحد، والطبيعة الواحدة النوعية، أفرادها متماثلة في استحقاقية شيء واحد بحسب ذواتها، فكل ما جاز لأحد جاز للجميع، لكنا نعلم بديهة، أن ما رأينا من الأمثال غير مستحقين لرسالة الله، لغاية انكبابهم على الدنيا، وظلمة نفوسهم، وقساوة قلوبهم، فالجميع هكذا، ولذلك قالوا كما حكى الله عنهم بقوله:
{ ومآ أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون } [15]:
هذه غاية شبهة الجاحدين للحق، والمنكرين للبعثة والرسالة، ولا يبعد أن تكون إحدى الفوائد والأغراض المسوقة إليها هذه القصة ، هي حكاية هذه الشبهة، وارتكازها في أوهام ضعفاء العقول، المنتسبة إلى الفلسفة، المتشبهة بهم من الطباعية والدهرية والصبوية، وبراهمة الهند، المنسوبة إلى برهمان الهندي، حيث إنهم بعد علمهم بأحوال المبدء، وتيقنهم بوجوده وتنزهه وتقدسه، تحيروا في أحوال الآخرة والمعاد، واضطربت أفكارهم في حقيقتها، وحقيقة الرسالة، وحقيقة الرسول المنذر بوقوعها، وسعادتها وشقاوتها، ونيرانها وجنانها، وسلسبيلها وزقومها، ومالكها ورضوانها، بل صرحوا بنفي المعاد بعد الممات، حيث ورد، أن الإنسان المتكون من مزاج حاصل من أضداد عند امتزاج، مهما فسد، لا يرجى له ولغيره فيه فائدة، فحكموا بأنه إذا مات، مات، ومعاده قد فات، كما حكى الله عنهم بقوله:
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر
[الجاثية:24]. والإنسان عندهم كالعشب والمرعى، ينبت وينمو من الأرض، فيصير غثاءا أحوى.
وعلى هذه الطريقة، جرى خصوم الخليل (عليه السلام) من الصابئة، على ما حكى الله تعالى عنهم في مواضع جمة من كتابه، مثل قوله:
أبشر يهدوننا
[التغابن:6].
ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم
[المؤمنون:24]
يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون
[المؤمنون:33]. ومدار إنكارهم واستكبارهم على هذه الشبهة التي أشير إليها في مواضع من الكتاب كما قال الله تعالى:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا
[الإسراء:94]. فحصر الله مدار إصرارهم وجحودهم، على أن البشر لا يصلح للرسالة، لأن أفراده مشتركون في الماهية، فمن المحال أن يختص واحد منها بخاصية دون بعض آخر.
هذه حجتهم الداحضة، وغاية إنكارهم الغامضة، إلا أنها مندفعة بوجهين شريفين، قرآنيين، كل منهما في غاية الاستنارة والاستحكام:
الوجه الأول: ما وقعت الإشارة إليه ها هنا، حكاية عما ألهم الله به رسل عيسى (عليه السلام)، جوابا عن إنكار أهل القرية رسالتهم، حيث ما اغتروا به بفطانتهم البتراء، من الشبهة التي شرحناها، وهو قوله تعالى: { قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون } [يس:16].
[36.16]
لا على الوجه الذي فهمه الزمخشري ومن تبعه، وهو أن قوله: " ربنا يعلم " جار مجرى القسم في التوكيد، كقولهم " شهد الله " ، و " علم الله " ، لأن معنى الآية، دفع الشبهة العلمية المفصلة، فاستئناف الدعوى مقرونة بالقسم غير منجح، والبيان القسمي غير نافع في المقامات العلمية، التي لا يتوصل إليها إلا بالطمأنينة اليقينية، على أن احتمال التورية في القسم قائم، ثم اعتذاره، بأن هذا القسم، لما كان مشفوعا بالبينة الشاهدة، والآيات الواضحة، مستحسن، كما ترى.
وإنما حمله على هذا التوجيه في الآية أمران: أحدهما: وجود اللام للتأكيد في " مرسلون " ، الثاني دون الأول. وثانيهما: المماثلة المعنوية بين قولهم " ربنا يعلم " وقول الناس " شهد الله " ، و " علم الله " ، الواقعين أحيانا في مقام القسم وكلا الوجهين ضعيف كما لا يخفى.
وأيضا لا على الوجه الذي فهمه أتباع الأشاعرة من قولهم: أن للفاعل المختار، أن يرجح بعلمه وإرادته، بعض الأمور المتماثلة من غير مرجح، لأن الألوهية إنما تتحقق، بأن يفعل ما يشاء ويختار ما يريد - أي من غير مخصص -، قالوا: كما أن شأن الإرادة تخصيص أحد الطرفين المتساويين - كما في قدحي عطشان وطريقي هارب - فكذا شأنها تخصيص احد المتساويين في الماهية ولوازمها من غير افتقار مرجح وداع، وذلك، لأن إثبات الفاعل المختار على هذا الوجه، مفسوخ الأصل مبرهن الفساد - كما حقق في مظانه -، بل أن يكون المراد منه، أن الله تعالى بحسب عنايته الأزلية المتعلقة بنظام هذا النوع الإنساني، وعلمه الأزلي بمصلحة الكائنات، يهدي من يشاء من عباده، ويصطفي من الناس من يصلح للرسالة، لا لمجرد اتفاق أو جزاف - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - بل بحسب اختلاف الأفراد في سبق الاستعداد، وصلوح القوابل والمواد، وتفاوتهم في اللطافة والكثافة، وصفاء القلب ونورية الفؤاد، وقلة الحجب وكثرتها عن المبدء الجواد.
فإن الأرواح الأنسية، بحسب الفطرة الأولى والثانية، مختلفة في الصفاء والكدورة، والقوة والضعف، مترتبة في درجات القرب من الله، وكذا المواد السفلية بإزائها، متفاوتة تفاوتا نوعيا أو صنفيا أو شخصيا، وقد قدر بإزاء كل مادة ما يناسبها من الروح، فحصل من مجموعها استعدادات مناسبة لبعض العلوم والأخلاق، والصفات والكمالات، فأعظم السعادات لأجود الاستعدادات، وأكمل الكمالات لأشرف الأرواح، وهي أرواح الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، في كل زمان، بحسب أوضاع كل وقت، وأشرف أرواح الأنبياء، روح خاتمهم وسيدهم، سيد الكل في الكل، (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعده طبقة أولياء أهل بيته الطاهرين، المستمرة سلسلتهم إلى زمان ظهور المهدي، ولي آخر الزمان، صلوات الله عليه وآبائه أجمعين.
وإنما وجب بلوغ الكمال في النوع، بحسب ملكه العلم والحال، إلى مرتبة النبوة بأمرين: عناية من الله، وحاجة من الخلق في بقائهم الدنيوي، وخلاصهم الأخروي، لما ثبت أن الإنسان مدني بالطبع.
أما الأول: فمن لم يهمل أخمص القدمين دون التصغير، مع قلة نفعه، بل تكميلا للزينة المستغنى عنها، ولم يضع تقويس الحاجبين، موترا بوتر أهداب العيون، وتسوية أشعارها مع حقارة فوائدها، فبأن لا يسوغ الضن بإفاضة النبوة على روح من الأرواح البشرية، مع كونه رحمة للعالمين كان أولى.
وأما الثاني: فمن نظر في العالم الصغير، الذي هو الهيكل الإنسي، متى لم يكن رئيس مطاع لقواه وأعضاءه يسوي كل واحد منها على مكانه، ويدبر لكل منها غذاء يناسبه، وقسطا من الحرارة الغريزية والروح البخاري يلائمه، وغير ذلك من كميات مراتب الهضم والدفع، والنمو والتوليد، لخرب سريعا، حيث أصبح كل منها مطاعا مطيعا، بل لا بد للكل من أمير واحد، ورئيس واحد، يدبرها ويسوسها، ولو كان المدبر أكثر من واحد كان البدن كما قيل: " خانه به دو كدبانو نارفته بماند ".
وإذا كان أمر العالم الصغير، لا يتم ولا يتمشى دون قاهر أمير، فما ظنك بعالم العناصر المثار لآثار الفتن، المكمن لأنواع المحن، بل لا بد للخلق من الهداية إلى كيفية المصالح، وجلب المساعي والمناهج، ووجود هاد للخلق مؤيد من عند الله، يأتمرون بأمره، وينزجرون بزجره
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر:7].
فحاصل هذا الجواب عن شبهتهم، أن أفراد البشر وإن كانوا متماثلين بحسب معنى الإنسانية النوعية، إلا أن بعضهم اختص بكرامة آلهية، وعناية ربانية، لأجل استحقاق خفي، وعصمة باطنية لا يعلمها إلا الله، فلا بد في العناية الأزلية من بعثه وإرساله، وهو مفاد قولهم { ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون } مثل قوله تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام:124]. وقوله:
الله يصطفي من الملائكة رسلا
[الحج:75]. وقوله تعالى:
الله يجتبي من رسله من يشآء
[آل عمران:179].
الوجه الثاني: في حل شبهتهم ودفع حجتهم، هو أن أفراد الإنسان، وإن كانت متماثلة في البشرية، إلا أنها متخالفة الحقيقة بحسب البواطن والأرواح، ونشوء الآخرة من نفوسها - وقد مر تحقيق ذلك في تفسير سورة آلم السجدة - والآيات الدالة على أن أرواح الإنسان محشورة يوم القيامة على صور متخالفة في الحقيقة، كثيرة.
وهذا مما يحتاج دركه، بعد قيام البرهان العقلي والنقلي عليه، إلى صفاء في القلب، وذوق شديد، وخوض عظيم في معرفة النفس، وكيفية اتحادها بالمعقولات، وتقلبها في الأطوار والنشآت، لينكشف أن أفراد الإنسان، وإن كانت متفقة في معنى نوعي، هو معنى الحيوان المدرك للكليات بالقوة، لكنها بعد صيرورة عقولها الهيولانية، متحدة بما تخرج به من القوة إلى الفعل من الهيئات والملكات، تصير متخالفة الحقائق.
والنفس، وإن كانت أمرا صوريا في عالم الحس والشهادة، مقوما للنوع الخاص البشري، الذي اجتمعت فيه أنواع الصور الحسية، الطبيعية والنباتية والحيوانية، إلا أنها في أول الفطرة، هي محض القوة والفاقة بالنسبة إلى عالم الغيب والنشأة الآخرة، نسبتها إلى الصور الغيبية التي فيها، نسبة الهيولى الأولى إلى الصور الحسية.
وكما أن الهيولى، واحدة نوعية، متماثلة في جميع الطبائع بحسب جوهريتها الأولى، متخالفة الجواهر، بانضمام الصور المقوية إياها جوهرية ثانية، فكذلك النفوس الإنسانية بحسب فطرتها الأولى، متماثلة متحدة النوع، وبحسب ما يخرج من القوة إلى الفعل، من الملكات والأخلاق الحاصلة لها، من تكرر الأعمال والأفعال، متكثرة الأنواع، يناسب كل نوع منها، لنوع من تلك الملكات والأخلاق، ولحيوان غلب عليه ذلك الخلق، فيحشر على صورته، لكونها على صفته.
فعدد الحيوانات الحاصلة من الإنسان في النشأة الثانية بحسب النوعية، أكثر من عدد أنواع الحيوانات في هذا العالم، لأنه سيظهر منها في القيامة أقسام من الحيوانات، لم يعهد مثلها في هذه الدار، لحصولها بالمسخ الحاصل لبعض النفوس، من امتزاج أوصاف حيوانات متعددة، اجتمعت في باطنها، ورسخت بكثرة الأعمال المؤدية إليها بطول الزمان، أو بشدة التعلق من تلك النفوس، بفنون دواعي تلك الحيوانات، وأغراضها ومقاصدها، فحشرت هي في القيامة، على صورة تحسن عندها القردة والخنازير - كما ورد في الحديث عن رسول الله - (صلى الله عليه وآله وسلم).
والتناسخ بهذا المعنى ثابت عند أئمة الكشف والشهود، مصرح به في مواضع من الكتاب والحديث، وعلى هذا المعنى، يحمل كلام أساطين الحكماء المتقدمين، القائلين بالنقل، لا على تعلق النفس من بدن عنصري إلى بدن آخر، لنهوض البرهان القطعي، من العرشيات التي ألهمني الله تعالى بها بفضله وكرمه، على استحالته، وقد أوردناه في كتاب المبدء والمعاد، وأولئك الأقدمون، أجل شأنا من أن يغفلوا عن مفسدة القول بالتناسخ، بل مقصودهم يوافق شريعتنا المصطفوية - على الصادع بها وآله أجزل الصلاة والتحية -.
والحاصل، أن الإنسان بحسب الأعمال والأفعال، والأفكار والنيات المستنتجة لحصول الأخلاق والملكات، يصير إما من جملة الملائكة، أو الشياطين أو الحيوانات المنتكسة الرؤوس إلى جهة السفل، ولكل من هذه الأجناس الثلاثة، أنواع كثيرة، يمكن أن يصير إليها أفراد الإنسان، بحكم المناسبة، ويحشر في زمرتها، بمقتضى الميل والمحبة، ولهذا المعنى، قيل للإنسان، إنه " باب الأبواب " كما نقل عن حكماء الفرس.
فإذا تقرر هذا فنقول: أرواح الأنبياء والأولياء - سلام الله عليهم وتقديساته -، بمنزلة الملائكة المقربين، أي الكروبين الواقعين في الصف الأول من صفوف الملائكة، ومن بينهم نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، بمنزلة العقل الأول، وقد ذكرنا في تفسيرنا لآية الكرسي، كون المراد من الحديث المتفق عليه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أول ما خلق الله العقل "
، هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتمام ما ذكر فيه من " الإقبال والإدبار، وبك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب " شرح لأحواله (صلى الله عليه وآله وسلم)، منطبق عليه، صادق في حقه.
ثم كل طبقة من طبقات العرفاء والعلماء والصلحاء، بمنزلة طبقة من طبقات الملائكة، وصف من صفوفهم الواقعة بعد الصف الأول ، محشورة معها، وعوام أهل الإيمان، بمنزلة عوام الملائكة.
ونفوس المنافقين، من أهل المكر والوسوسة والحيلة والجربزة، تحشر في القيامة مع الشياطين لقوله تعالى:
لنحشرنهم والشياطين
[مريم:68]. ونفوس أهل الدنيا - الغالب عليها حب الشهوات، من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وحب الرياسة، من الخيل المسومة والأنعام والحرث - تحشر مع الأنعام والدواب.
فإذا كان التخالف بين أفراد الإنسان، بهذه المثابة من التخالف الجنسي - فضلا عن النوعي -، فكيف يدعي أحد، أن نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، كنفوس عوام الناس؟ وقال (صلى الله عليه وآله):
" لست كأحدكم، أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
، والله سبحانه قد كفر من ذهب إلى مماثلة النبي مع سائر الناس، وقال ببشريته، لقوله تعالى:
أبشر يهدوننا فكفروا
[التغابن:6] وأما قوله:
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف:110]، فهو مماثلة بحسب النشأة الحسية، والإشتراك في الجسمية المشتركة.
فالمماثلة التي ادعاها المنكرون للنبوة، المتمسكون بهذه الشبهة، إن ادعوها بحسب المادة البدنية المشتركة، فالجواب، بعد تسليم هذه المقدمة، أن اختصاص النبوة ببعض الأفراد، إنما يكون بكرامة لاحقة، وفضيلة فائضة من الله، على حسب صفاء القابل ولطافة المحل، فلا يلزم تخصيص بلا مخصص أصلا، كما مر في الوجه الأول. وإن ادعوها بحسب الأرواح والبواطن، فالممثالة ممنوعة، بل الثابت المحقق خلافه، كما مر في الوجه الآخر، فالشبهة من أصلها منقلعة منحسمة.
وللمتأمل أن يفهم من هذه الآية، إشعارا لطيفا بالوجه الثاني، من وجهي الجواب عن شبهة المنكرين لرسالة الرسل الثلاثة - على نبينا وآله وعليهم السلام - بأن يكون المراد، أن جهة المخالفة النوعية الحاصلة بيننا وبينكم، ليست مما يمكن أن تصل إلى إدراكه أفهامكم وافهام أمثالكم، لأنه أمر خفي، لا يعلمه إلا الله، ولا يمكن الوصول إلى دركه إلا بإلهام الله، وتعليمه من اختاره من عباده للهداية، لأن صفة النبوة والولاية، أمر باطني، ونور عقلي، يحصل من الله تعالى، ويقذف منه في قلب من يشاء من عباده وأوليائه، وإذا تنور الباطن بذلك النور، خرج عما كان عليه، وانقلب نفسه عقلا مستفادا، وناره نورا مضيئا في المعاد.
وفي القرآن آيات كثيرة، وإشارات بليغة، وتلميحات لطيفة، دالة على أن أرواح المؤمنين، مخالفة في الحقيقة لنفوس الكفرة والمنافقين، وعلى أن أرواح الأنبياء، جواهرها مخالفة لأرواح غيرهم، وأن روح خاتم الأنبياء - (عليه وآله الصلاة والسلام) من الملك الأعلى - فوق الجميع.
ولا يتوهمن أن قوله تعالى:
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف:110]، ينافي ما ادعيناه، من مخالفة حقيقة الرسول (صلى الله عليه وآله) لعامة الناس، لما دريت، أن الاشتراك والمماثلة بحسب البشرية، التي هي متفقة المعنى بين الناس، والمخافة بحسب الباطن ومقام العندية، وعلى هذين المقامين، يتوزع كل ما ورد في الاتفاق والإختلاف له مع عامة العباد.
فكل ما كان من قبيل قوله تعالى:
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف:110]، كان المراد به الإشارة إلى مقام البشرية والنزول في هذه الدار، وكذلك قوله تعالى:
قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك
[الأنعام:50].
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير
[الأعراف:188] وقوله:
قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
[الإسراء:93]، وقوله:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم
[الجمعة:2]، وقوله:
لقد جآءكم رسول من أنفسكم
[التوبة:128]، وقوله (صلى الله عليه وآله):
" اني ابن امرأة كانت تأكل القديد ".
وكل ما كان من قبيل قوله:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80]. وقوله:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران:31]. وقوله:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء:107]، وقوله:
نور وكتاب مبين
[المائدة:15]، كان المراد به باطنه بحسب مقامه المحمود الموعود له في قوله:
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
[الإسراء:79].
اللهم اجعلنا من التابعين له، الواردين معه، ومن أهل بيته المقدسين الحوض، المحشورين معهم، الواقفين تحت لوائهم.
[36.17]
تحذير شديد، وإلزام بليغ لهم، وجواب بنمط آخر على كلامهم يناسب جمهور الناس.
ووجه الاحتجاج بهذا القول عليهم، بعد القول الأول المناسب للخواص: أن وجوب النظر أمر عقلي، كل عاقل يعلم من نفسه بحسب الغريزة العقلية التي أعطاه الله، والفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، ويكون حجة الله على خلقه، والقاضي بينه وبينهم، أن شكر المنعم واجب، لأن في إهماله، خطر سوء العاقبة، وفي فعله الأمن والسلامة، والعاقل لا يختار الخطر على الأمن، ولا يرجح احتمال الضرر على تيقن السلامة.
نعم، ربما يغفل عن مقايسة الجانبين، ويذهل عن تصور الطرفين، لشدة توغله في الشواغل، فيحتاج إلى منبه، والله تعالى، لغاية رحمته على عباده، بعث الرسل إليهم من خارج، بعد أن أعطاهم عقلا من داخل، لتنبه تلك الرسل عقولهم عن نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وسنة التقليد، ولذا قيل: " العقل شرع من داخل والشرع عقل من خارج " ، فلو لم يكن الله قد أفاض في الداخل العقول، لما كانت مهتدية، ولا لهم فائدة من بعثة الرسول، فالمعنى: وليس يلزمنا إلا أداء الرسالة وتبليغ الأحكام.
وقيل معناه: وليس علينا أن نحملكم على الإيمان، فإنا لا نقدر عليه، لأن الإيمان عطائي حاصل بإفاضة الله تعالى على القلب، ولا يمكن حصوله بالإكراه والجبر، كقوله تعالى:
لا إكراه في الدين
[البقرة:256].
ثم لما كان من عادة الجهال والأرذال بسبب محبتهم للدنيا والنفس والمال، أن يخافوا من زوال شيء مما تلذذوا به غاية الخوف، فيتمنوا كل ما اشتهوه وآثروه، وقبلته طباعهم، وتشاءموا بكل ما نفروا عنه وكرهوه، وحيث كانت الدنيا مبلغ همتهم، وغاية قيمتهم، ورأوا أهل الدين والورع في وضع البذاذة والتقشع، لتطليقهم الدنيا، وإيثارهم الآخرة عليها تشوقا إلى لقاء المولى، ورأوا المعرضين عن الحكمة والمعرفة بخلاف ذلك، فتطيروا بأهل الدين وتشاءموا من مصاحبة أرباب العلم واليقين، وتيمنوا بخدمة الظلمة والشياطين، وافتخروا بصحبة الحكام والسلاطين، فلو صاحبوا أحدا من الصلحاء، فكل ما أصابهم من قبيل الآفة والنقص فتطيروا به، كما حكى الله عن أهل القبط، وتشاؤمهم بأهل السبط بقوله:
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه
[الأعراف:131]، ومن مشركي أهل مكة، وتشاؤمهم بالنبي (صلى الله عليه وآله)
وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك
[النساء:78]. فلذلك قال أصحاب القرية كما حكى سبحانه عنهم بقوله :
{ قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم } [يس:18].
[36.18]
لما عجزوا عن إلزام الرسل، وسكتوا عن إقامة العذر عن قبول دعوتهم، ولم يبق لهم مهرب عن ذلك، تشبثوا بذيل النفس والدنيا، وأقروا بالعجز عن ترك هذا الأدنى، وتعللوا أعذارهم في عدم الإيمان بالرسل، وقبول دعوة التكليف، بأن صحبة الهداة والمذكرين شؤم لهم. ثم ما اكتفوا بذلك، حتى قابلوا أهل الله بالمجاهدة بالنزاع، والمخاصمة والرجم والإيلام الشديد.
وذلك كله لفساد العقل، ومحبة الباطل، وطاعة الهوى، وقبول دعوة الشيطان، لأن الشيطان يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء وسوء الظن بالله، وترك التوكل وتكذيب الرسل، والاعراض عن الحق والإقبال على الخلق، وانقطاع الرجاء من الله، ومتابعة الشهوات، ومواصلة السيئآت، وإيثار الحظوظ، وترك العفة والقناعة، والتمسك بالملوك والظلمة، وتعلق القلب بحب الدنيا، وهو رأس كل خطيئة، وبذر كل بلية.
فهذه كلها وأضعافها، من فروع وسوسة الشيطان، وترويجه الباطل في معرض الحق، فمن فتح على قلبه باب وسوسة الشيطان وترويجه، ولم يقمع فساده وشره عن قلبه، بالعقل الكامل، والبرهان النير القدسي، الدال على خسة الدنيا وحقارة طالبيها، أو بالسماع من أهل الله وأصحاب القلوب، المذكورين لخساسة الدنيا وزوالها، ووخامة عاقبة شهوة النفس ووبالها، فسوف يبتلى بهذه الآفات، ويقع في عرضة هذه البليات، التي من جملتها التشؤم بصحبة الفقراء وأهل الدين، الذين هم ملوك الآخرة وسلاطينها، وخدمتهم مفتاح أبواب الرحمة والسعادة، والوصول إلى صحبتهم مقصود الأولياء ومجهودهم في الدعاء، كما في الصحيفة الملكوتية، لمولانا وسيدنا، زين العابدين، وسيد الساجدين، علي بن الحسين (عليهما السلام) من قوله: " اللهم حبب إلي صحبة الفقراء، وأعني على صحبتهم بحسن الصبر ".
وقد أمر الله سبحانه، حبيبه (صلى الله عليه وآله) بصحبتهم، وحسن معاشرتهم، والصبر معهم، والإطالة في مجالستهم بقوله:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
[الكهف:28] الآية. لأن في صحبتهم خير الدارين، وفي صحبة الجهال وأهل الترفه والتنعم شر الدارين، وصرف العمر في هوى النفس وطاعة الشيطان، وفساد الآخرة ووبالها، لشؤم اقتران عبدة الهوى والأوثان، ولهذا قال حكاية عن جواب رسله لأعدائه:
{ قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون } [يس:19]:
[36.19]
قريء " طيركم معكم " أي: سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر، أو أسباب شؤمكم معكم، وهو الكفر والمعاصي، فإن رأس الشقاوة الأبدية الكفر مع الجحود، لأنه جهل مضاد لليقين، وبعده المعاصي والأعمال القبيحة، كما أن رأس السعادات الأبدية، الإيمان الحقيقي، لأنه ضرب من العلم اليقيني بالأمور الإلهية، وأحوال المبدء والمعاد، لأن معنى السعادة، إدراك الخير والملائم، وخير الخيرات هو الله سبحانه، وملائكته ورسله، وأولياؤه وعباده الصالحون، فإدراكه وإدراك مقربيه ومعتكفيه، ألذ الخيرات وأشرف السعادات، وبعد هذه السعادة الذاتية، السعادة الحاصلة من فعل الحسنات، لأنها توجب الفوز بدرجات الجنان، والنجاة من عذاب يوم القيامة والنيران.
فإذا تقرر أن السعادة والشقاوة، بحسب العلم والجهل، ذاتيتان أزلا وأبدا، مخلدتان دائما سرمدا، وبحسب الأعمال والأفعال تترتب عليهما المكافأة، والمجازاة، وتتقدر بحسبهما المثوبات والعقوبات بقوله:
جزآء بما كانوا يكسبون
[التوبة:95]. فلا شؤم كشؤم الكفر، ثم المعاصي. ولا خير كخير الإيمان، ثم الحسنات، إلا أن هذه المسألة مع وضوحها وإنارتها، قد خفيت على أكثر الأذهان، لاشتغالهم بما يلهيهم عن الذكر، وينسيهم عن طلب السعادة، وترك الشقاوة، ولذا قال: " أئن ذكرتم " ، معناه إن تدبرتم عرفتم صحة ما قلناه، وقيل معناه: " إن ذكرتم تطيرتم بما معكم ".
وقريء: " أإن ذكرتم " بهمزة الاستفهام، " وإن " الشرط.
وقريء: " آإن ذكرتم " - بألف بينهما - بمعنى " أتطيرون إن وعظتم ".
وقريء: " أأن ذكرتم " - بأن الناصبة بعد الهمزة الاستفهامية - بمعنى " أتطيركم لأن ذكرتم ".
وقريء: " أن " الناصبة بغير استفهام، فيكون إخبارا، أي " تطيرتم بأنفسكم لأن ذكرتم ".
وقريء: " أين ذكرتم " - على التخفيف - أي شؤمكم لازم معكم، بحيث يسري في كل مكان ذكرتم، وذلك يتصور بوجهين: إما بأن كانوا إذا ذكرت اسماؤهم، لعنوا وشتموا وشئموا بهم، لقبح أفعالهم وسوء أعمالهم، وابدائهم الظلم والبدعة كأمراء الجور، وإما بأن كان ذكرهم يؤدي إلى الوحشة والغيبة والعداوة والبغضاء بين الناس، وإلا فصيرورة المكان مشؤوما بمجرد ذكر طائفة - كما فسره صاحب الكشاف - حيث قال: " وإذا شؤم المكان بذكرهم كانوا بحلولهم فيه أشأم " ، فلا وجه له ظاهرا، لأن المكان لو شؤم بذكر الكفار والظلمة، فما من مكان ومجمع، كالمساجد والمساكن الشريفة، إلا وقد يذكر فيها أحيانا الكفار الأشرار، خصوصا إذا كانوا ملوكا وأمراء في الدنيا، فتذكر اسماؤهم في كل مجمع، بفنون من الذكر مدحا وذما، فيلزم أن يكون أكثر المجامع مشؤوما.
ثم ذكر سبب شؤمهم، ومبدأ شرهم، وهو إفسادهم لفساد عقولهم بقوله: " بل أنتم قوم مسرفون " ، لأن " الإسراف " في اللغة: الإفساد، ومجاوزة الحد " والسرف ": الفساد، ومعناه: ليس فيها ما يوجب التشؤم بنا، ولكنكم متجاوزون عن الحد في التكذيب والمعصية، فمن قبلكم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو (قيل): بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم، متمادون في غيكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك بهم، واستفاضة الخير من صحبتهم، من رسل الله وأوليائه، المذكرين بالله، وسبيل العافية، والدار الآخرة، فغاية منشأ الشؤم، التشؤم بما يجب التبرك به، كما أن غاية الجهل، عناد أهل العلم والمعلمين، وغاية الضلال معاداة أهل الهداية والهادين.
[36.20]
هذا الرجل، هو " حبيب بن إسرائيل النجار " ، وكان في سابق الزمان ينحت الأصنام، وهو كناية عن اشتغاله سابقا بالإعتقادات الجزئية، والصور الخيالية والوهمية، التي يتصور وجودها في الخيال بتصرف القوة المتفكرة، وهي التي من شأنها تصوير الحقائق في كسوة الحكاية الخيالية، وإنكار العقائد الحقة الإلهية، إلا في صور المحسوسات، فصاحب العقيدة الوهمية، لقصور علمه ما يعتقده إلها، وليس إلهه ومعبوده - على حسب اعتقاده - إلا ما يوجده بوهمه، ويصوره بقوته المتصرفة، فهو الذي ينحت صنما، ويعتقده إلها، ويتخذه معبودا، كما في قوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23].
وأكثر الناس - إلا من أيده الله بالتقديس الأتم، والتنزيه الأكمل - عابدون لأصنام العقائد الجزئية، ومعتقدون للصور الوهمية، حتى أن عبدة الأصنام الخارجية، الحجرية والخشبية والمعدنية، إنما عبدوها لإعتقادهم معنى الالوهية في تلك الأجساد، من الجماد وغيره، فهم أيضا بالحقيقة، قد عبدوا معتقداتهم، وما حصل في أوهامهم، فالهوى معبودهم جميعا أولا وبالذات، والصنم الخارجي معبود لهم بالعرض، فعلى هذا، غير الموحد العارف، لهم جميعا اشتراك في الإشراك، واتفاق في طلب الهوى وعبادة غير الحق وما سوى.
وما من مؤمن، إلا وله عبور عن هذه الإعتقادات الجزئية، فورود الصور الوهمية، أو الأصنام الخيالية، لا على وجه الإذعان، بل على مسلك التفتيش وتصوير الاحتمالات البعيدة، ليقام على نفيها البرهان، كما وقع للخليل - على نبينا وآله وعليه السلام - من العبور على آلهة عبدة الكواكب، لزيادة الكشف واليقين، في تنزيه الحق الأول عن مماثلتها، ولإقامة البرهان، على فساد توهم المحجوبين، وإخراج تلك الصور، التي هي إله سائر المعتقدين، من المشركين والمعطلين، من أن تستأهل اعتقاد الألوهية فيها، فإنه يوجب العذاب الأليم، ويستدعي عقوبة الاحتجاب من الله، والتردي إلى أسفل درك الجحيم.
فقد ظهر أن أهل البصيرة الإلهية، يعبرون عنها في أسرع زمان، من غير أن يتضرروا بها، كما قال واحد من أهل البيت (عليهم السلام): " جزناها وهي خادمة " ، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:
إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:71 - 72].
فكان حبيب النجار، من جملة أهل البصيرة، الذين نور الله بواطنهم بكشف الحقائق، والارتقاء من عالم الوهم والخيال، إلى عالم التقديس بنور المعرفة والحال، وهو أحد السباق الثلاثة، المذكورة في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون "
وفي تفسير الثعلبي بزيادة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" وعلي أفضلهم ".
وهم ممن آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، وهذه إحدى خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم يؤمن احد بنبي غيره إلا بعد ظهوره، وفيه سر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كنت نبيا، وآدم بين الماء والطين ".
وها هنا سر آخر، وهو أنه قد ورد في الحديث عنه (عليه السلام):
" إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس "
فلعل ذلك لما قد ذكر الله فيها " حبيب " ، المشهور " بصاحب يس " ، ووصفه بما يدل على قربه ومنزلته عند الله، من التوحيد والكرامة والنصيحة لقومه، وهو ممن آمن بنبينا قبل بعثه بستمائة سنة، ففي ذلك آية عظيمة لنبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكونه حبيب الله، الذي آمن به حبيب قبل ظهوره هذا.
وقيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل، أتاهم، وأظهر دينه لهم، وقاول الكفرة الجحدة، فقالوا: " وأنت تخالف ديننا؟ " فوثبوا عليه فقتلوه، وقيل: توطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه، وقيل: رجموه وهو يقول: " اللهم اهد قومي " ، وقبره في سوق انطاكية، فلما قتل، غضب الله عليهم، وأهلكوا بصيحة جبرئيل (عليه السلام).
ويفهم أيضا من قوله تعالى: { وجآء من أقصى المدينة } ، أنه ممن كان مستوحشا عن الخلق، مؤثرا للعزلة والخلوة.
وقيل: كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان قد آمن بالرسل عند ورود اثنين منهم القرية، كما نقلنا من قصتهما، وسبب إيمانه برسالتهما، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم، جاء يعدو ويشتد، قال: " يا قوم اتبعوا المرسلين، الذين أرسلهم الله إليكم، وأقروا برسالتهم ".
وعن ابن عباس: أنه كان به زمانة وجذام فأبرأوه، فآمن بهم، وقيل أنه إنما علم بنبوتهم لأنهم لما دعوه قال: " أتأخذون على ذلك أجرا؟ " قالوا: " لا " ويؤيده قوله تعالى:
{ اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } [يس:21]:
[36.21]
وهذه الآية، كلام تام في الترغيب إلى الإيمان بما يقول الرسول، ونصيحة جامعة في إعلام المحجوبين عن الوصول إلى معرفة حال الأنبياء، وحثهم على الاهتداء بهداهم والإقتداء بقولهم، أي: لا يأخذون من دنياكم شيئا، حتى تقع لكم الخسارة باتباعهم، ويوصلون إليكم الخير الكثير، والهداية إلى طريق النجاة عن العذاب الأليم يوم القيامة، فلكم في اتباعهم، انتظام خير الدنيا والآخرة، وهذا أقرب معالجة في دفع مرض الشك في صدق الأنبياء، عن الناقصين في المعرفة واليقين.
ويقرب منه، ما قاله أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، لبعض من قصر عقله عن فهم حقيقة الدين. وكان شاكا في صدق خبر المرسلين: " إن صح ما قلت فقد تخلصنا جميعا، وإلا فقد تخلصنا وهلكت " أي العاقل هو الذي يختار طريق الأمن في جميع الأحوال، فطريق ترغيب المنكرين للشريعة والدين، كما يستفاد من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، حسب ما شرحه بعض أعلام علماء المسلمين، أن يقال لهم: أن ما قال الأنبياء والرسل، المؤيدون بالمعجزات، هل هو ممكن الصدق، أو ممتنع الصدق.
فإن قال قائل منهم: " إني أعلم أن ما يقولون أمر مستحيل كاجتماع النقيضين، وحلول عرض واحد في محلين، وكون شخص واحد في آن واحد في مكانين " ، فهو فاسد العقل مخروق، لا يوجد مثله في العقلاء، بل خارج عن حد التكليف كالصبيان والمجانين.
وإن قال: " إني شاك فيما يقولونه " ، فيقال: " لو أخبرك شخص مجهول عند تركك طعاما في بيتك لتأكله ساعة أخرى، " أنه قد ولغت فيه حية، وألقت سمها فيه " ، وجوزت صدقه، فهل تأكل منه أم تتركه، وإن كان ألذ الأطعمة عندك؟ " فتقول: أتركه لا محالة، لأنني إن قبلت قوله - وكان كاذبا - فلا يفوتني إلا هذا الطعام، والصبر عنه وإن كان شديدا فهو أقرب، وإن لم أقبل وكان صادقا، فتفوتني الحياة، وألم الموت بالإضافة إلى ألم الصبر عن الطعام عظيم.
فيقال له: سبحان الله، كيف تؤخر صدق الرسل والأنبياء، والأولياء والعلماء كلهم - مع ما ظهر معهم ولهم من المعجزات - عن صدق رجل واحد مجهول الحال، لعل له غرضا فيما يقوله؟ فكيف ترجح قوله في التصديق، على قول أولئك الأخيار؟ بل جميع العقلاء وذوي الألباب قائلون باليوم الآخر. وإن اختلفوا في كيفية كونه، روحانيا أو جسمانيا أو مجموعا، فإن صدق الرسل والعلماء، وأنت معرض عن قبول ما يقولونه، فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد، وإن كذبوا، فلا يفوتك لوفاتك، إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية الكدرة.
فلا يبقى له توقف إن كان عاقلا مع هذا الفكر اليسير، أن يقبل دعوتهم، إذ لا نسبة لمدة العمر إلى أبد الآباد، فإنا لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة، وقدرنا طائرا يختطف كل سنة واحدة منها، لفنيت، ولم ينقص من أبد الآباد شيء، فكيف يغتر رأي العاقل في الصبر عن شهوة الدنيا، لأجل سعادة تبقى أبد الآباد؟
[36.22]
هذا نمط آخر له، في نصيحة الجاهلين من أهل القرية، وإيقاظ النائمين من قومه، وهو التلطف لهم، والمواساة معهم، والتسوية بين نفسه وبينهم، فيما اختار لنفسه، فأبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه قصدا لمناصحتهم، وطلبا لصلاح حالهم، لغاية الشفقة عليهم، والمساهمة معهم، حيث لم يرد لهم إلا ما أراد لروحه، ولهذه الرعاية في إثبات المشاركة والمساهمة وقع قوله: { وما لي لا أعبد الذي فطرني } ، بدل قوله: " وما لكم لا تعبدون الذي فطركم " ألا ترى، أنه كيف عاد عما ساق الكلام لهذه الرعاية، إلى ما يستدعيه سوق الكلام لأصل المقصد، من الخطاب لهم للنصيحة والإرشاد، واراءتهم سبيل السداد، فقال: " وإليه ترجعون " ، بعد قوله: " الذي فطرني " ، إذ المقابلة بين المبدء والمرجع، مما يقتضي أن يكون أحدهما مقيسا إلى ما يقاس إليه بعينه الآخر، ويقاس إلى أحدهما ما يقاس بعينه إلى الآخر، ولما لم يلتفت لفت هذه المخاطبة على ما تستدعيه المقابلة، بل نسب إلى المبدء بالخلق والإجادة، غير ما نسب إلى المعاد بالرجوع والإعادة، فعلم أن تغيير الأسلوب، كان تنصيصا على المساهمة وتأكيدا للمناصحة.
وقيل: إنه لما قال لهم:
اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون
[يس:21]، أخذوه ورفعوه إلى الملك، فقال له الملك: " أفأنت تتبعهم "؟ فقال: { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } ، أي تردون عند البعث، فيجزيكم بكفركم، ثم أنكر اتخاذ الأصنام وعبادتها.
[36.23-24]
أي كيف ساغ لي في اتخاذ الأصنام آلهة لي، إن أراد الله إهلاكي والإضرار بي، لا تدفع عني شفاعتهم شيئا، بمعنى أن لا شفاعة لهم ولا ينقذوني، أي لا يمكن لهم أن يخلصوني من ذلك الهلاك والضرر والمكروه، إني إن فعلت ذلك، لفي عدول واضح عما فطرت عليه العقول.
والوجه في وقوعه على نمط الاحتجاج، أن العبادة لا يستحقها إلا المنعم بأصول النعم، والمعطي للعبد ما به القوام، وما به يدفع عنه الهلاك والآلام، وليس هو إلا القيوم الواحد الأحد، والغرض من مخاطبة النفس، مجرد تصوير الدليل وتحقيق المقدمات، لا إظهار الندامة على ما سبق كما توهم، أي كيف يجوز للعاقل أن يستحل عنده أن يتخذ آلهة من دون الله، ويختار على عبادته عبادة أصنام لا يقدرون على دفع ضر وآفة عنه، ولو أراد الرحمن بضر له، لم يتمكنوا على شفاعته، ولو شفعوا له، لم تنفع شفاعتهم إياه، ولا أيضا يقدرون على انقاذه من شر الطبع والهوى بالشفاعة وغيرها، كالملائكة والنبيين، انه في هذا الإختيار، لراكب متن الضلالة الظاهرة، وساكن سفينة الإنحراف المبين، عن جادة العقل الرزين، ومنهج السبق اليقين، ولا يبعد أن تكون هذه الآية، على مساق الآية المتقدمة، أي: أتتخذون من دون الله أصناما آلهة أن أرادكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا، فأنتم إذا لفي غواية جلية وضلالة بينة.
وفي الكشاف: " وقد ساق الكلام إلى أن قال:
{ إني آمنت بربكم فاسمعون } [يس:25].
[36.25]
يريد: فاسمعوا قولي وأطيعوني، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه، أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم ".
وفيه بعد، والأرجح أن يكون هذا الكلام منه مع الرسل، إظهارا لعقيدة قلبه، وإعلانا بكلمة التوحيد، واشهادا لهم على صحة إيمانه، أي اسمعوا ذلك مني حتى تشهدوا لي به عند الله.
ويعتضد هذا، بما نقل انه لما نصح قومه أخذوا يرجمونه، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال لهم: { إني آمنت بربكم فاسمعون } عن ابن مسعود قال: ثم أن قومه لما سمعوا ذلك القول منه، وطئوه بأرجلهم حتى مات، فأدخله الله الجنة، وهو حي فيها يرزق، أراد مثل قوله تعالى:
بل أحياء عند ربهم يرزقون
[آل عمران:169]. وإلى ذلك أشار تعالى:
{ قيل ادخل الجنة } [يس:26].
[36.26-27]
{ قيل ادخل الجنة }:
استئناف، كأنه وقع جوابا عن السؤال عن حاله بعد الشهادة، لأن المقام مظنة المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كيف صار بعد هذه المجاهدة في الدين، ونصرة رسل الله، وعن قتادة، رجموه حتى قتلوه. وعن الحسن ومجاهد: أن قومه لما أرادوا أن يقتلوه رفعه الله إليه فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء الدنيا وهلاك الجنة - وقالا -: إن الجنة التي دخلها يجوز هلاكها. وقيل: أنهم قتلوه إلا أن الله سبحانه أحياه وأدخله الجنة، فلما دخلها:
{ قال يليت قومي يعلمون [26] بما غفر لي ربي }:
أي سترني بنور رحمته، وكساني بكسوة الكرامة والعلم، ورباني ورقاني من حد النقصان النفساني، إلى حد الكمال العقلاني، والتربية: تكميل الشيء تدريجا، والله سبحانه يربي النفوس الإنسانية بالفضيلة، والحال من حد النقص إلى حد الكمال، وذلك لأنها في أول خلقتها في غاية الضعف، لقوله:
خلق الإنسان ضعيفا
[النساء:28]، لأنها نشأت من اللاشيء كما قال:
لم يكن شيئا مذكورا
[الإنسان:1] ولا أضعف من اللاشيء، وتكونت من وسخ الطبيعة وظلمة الهيولى كما أشار إليه بقوله:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257]، وإنما استكملت بالتدرج من حال إلى حال، وبلغت من مرتبة العقل الهيولاني إلى عالم العقل الفعال، بتتالي إلهامات من الله، وترادف كمالات عقيب رياضات من المبدء الأعلى، حتى زالت عنها العيوب والقشور، وخلصت كالذهب الخالص من الأوساخ والأكدار، الباعثة لألم الذوبان في الكور، والأغشية والظلمات الموجبة للثبور، والهيئات والأغلال الموبقة المعقبة لعذاب القبور، والجهالات الحاجبة عن البلوغ إلى عالم النور.
وهذا معنى التربية للنفس، المقتضي لها الشرف والكرامة، ولذا عقبه بقوله:
{ وجعلني من المكرمين } [27]:
وإنما تمنى علم قومه بحاله، ليكون علمهم بكماله، سببا لهم في استحصال مثل ذلك لأنفسهم، والرغبة منهم في سلوك طريقه، واكتسابهم العلم والإيمان، وتوبتهم عن الكفر والعصيان، تكثيرا لأهل الخير والإحسان، وسوقا لعباد الله إلى الجنة والرضوان، وفي الحديث:
" نصح قومه حيا وميتا ".
وفيه تنبيهات عظيمة على أسرار لطيفة، من وجوب كظم الغيظ، والصبر على كيد الكافرين، والعطف على الجاهلين، وطلب الهداية لمن أوقع نفسه في الهلاك، واستحصال الخلاص لمن تورط في الموبقات، واقتحم في نار الشهوات، كالفراش المبثوث، والنصيحة لأهل البغي والعناد، والتشمر في تخليص أعدائه، والتلطف في نجاة خصمائه، وتناسي ظلم الأعادي، وطلب انتقامهم، عوض إيلامهم، والصفح عن زلاتهم وخصوماتهم، والذهول عن الشماتة بهم، والدعاء عليهم بتمني الخير لقاتليه ، وهم كفرة لئام، وطلب الرحمة لمهلكيه وهم عبدة أصنام.
نظير ذلك ما حكي، أنه لما فعل بابن منصور ما فعل، سمع منه همهمة، فلما أصغى إليه فإذا هو يقول في مناجاته: " إلهي أفنيت ناسوتيتي في لاهوتيتك، فبحق ناسوتيتي على لاهوتيتك أن ترحم من سعى في قتلي ".
وقيل: يجوز أن يتمنى ذلك، ليعلموا أنهم كانوا على خطأ فاحش في أمره، وأنه كان على صواب وحق، وكان الحق معه مريبا له، ومكملا نفسه بالعلم والحال، وراقيا روحه إلى عالم الكرامة والجمال، وأن عداوتهم لم تورثه إلا زيادة في شرفه وفضله. ولم تعقبه إلا فوزا بنصيبه الأعلى من سعادته، لأن في ذلك تخليصا لذهبه عن الكدورات، وإصعادا له إلى عالي الدرجات، مع زيادة لذة وسرور، وتضاعف عيش وحضور.
وقريء: " المكرمين " بالتشديد.
و " ما " في قوله: " بما غفر لي " ، إما مصدرية فعلية، والمعنى " بمغفرة الله لي، وسترة ذنوبي النفسانية وعيوبي الجسمانية " ، وإما موصولة اسمية، أي " بالذي غفر لي به " كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وإما استفهامية حرفية، أي " بأي شيء غفر لي "؟ كما يقال: " علمت بما صنعت؟ وبم صنعت "؟ بإثبات الألف وحذفها، وإن كان الحذف في مثل هذا المعنى أكثر وأشهر، يريد به ما وقع منه مع قومه، من المصابرة الشديدة، وتجرع كاسات المحن الأليمة، وتوطين النفس على تحمل الضرب والطعن والقتل، إعزازا لدين الله، وإعظاما لأوليائه ورسله، حتى فارقت نفسه البدن، وارتحلت عن دار الفتنة والمحن، إلى دار المغفرة والكرامة، منخرطة روحه في سلك الملائكة، ومحشورة مع أرواح الأنبياء الكبار والأولياء أولي الأبصار، منجذبا سره إلى نور الأنوار، انجذاب إبرة ضعيفة إلى مغناطيس غير متناه في القوة والآثار، متلذذا بأشعة الأضواء العقلية، المنعكسة إليه من طبقات العقول والأرواح، المستفيضة كل منها أنوارا بالإستقامة، والإنعكاس من النور الأول وعلة العلل، بمنزلة مرايا متقابلة الوجوه متعاكسة الأضواء والأنوار، المقابلة وجوهها جميعا لوجه الشمس.
ثم حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب والاستيصال، لما جرى من سنة الله في اهلاك قوم أهلكوا موحد زمانهم، وولي الله في دورانهم فقال:
{ ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء } [يس:28].
[36.28]
{ ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء }:
يعني: وما أنزلنا لإهلاك قومه من بعد قتله أو دفعه، جندا من السماء، أي: وما احتجنا في إهلاك قرية فجرت وعتت عن أمر ربها، إلى إنزال جند من قبلنا، كما احتاج الملوك في الغلبة على خصومهم، بأسباب ومعاونات خارجية، وأشخاص وجنود وآلات واوزار للحرب، بل إنما أمرنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون. لأن القدرة الإلهية، ألطف وأمتن من أن تكون بواسطة أسباب محسوسة وأجناد مشهودة، إلا إذا اقتضت الحكمة إنزال العذاب على طائفة بهيئة خاصة، وصورة معينة، فيها عبرة للناظرين، ومصلحة للعابرين، فربما أوجبت المصلحة هلاك قوم على صورة دون أخرى، وهلاك قوم غيرهم على وجه آخر.
أولا ترى إلى قوله تعالى:
فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا
[العنكبوت:40]، ولا يبعد أن يكون شدة البأس، وعظمة هيئة الغضب، على طائفة شقية، بنسبة شقاوتهم وكفرهم، أو نسبة عظمة المبعوث عليهم، المنذر لهم، من نبي أو خليفة له، ولهذا أنزل الله جنودا من السماء يوم بدر والخندق، قال تعالى:
فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها
[الأحزاب:9]،
بألف من الملائكة مردفين
[الأنفال:9].
بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين
[آل عمران:124]،
بخمسة آلاف من الملائكة مسومين
[آل عمران:125]، مع أنه كان يكفي في اهلاكهم ملك واحد، بل ريشة واحدة، بل صيحة واحدة من صيحاته، بل إرادة واحدة منه بإذن ربه، فقد أهلكت مدائن لوط، بريشة من جناح جبرئيل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة.
ولكن، لما كان نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، جامع شؤون الأنبياء كلهم ظاهرا وباطنا، وحاوي شتات كمالاتهم وحالاتهم غيبا وشهادة، فضله الله بكل شيء على كبار الأنبياء وأولي العزم من الرسل، وأولاه من أسباب الكرامات والكمالات، ما لم يعطه أحدا، فأهلك خصومه وجاحديه بفنون من الهلاك الجسماني والروحاني، كل بحسبه، فمن ذلك ، أنه أنزل جنودا من السماء، ومن ذلك ما أشار بقوله:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17]، ومنه قوله تعالى:
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون
[يس:9] ومن ذلك قوله:
غلت أيديهم ولعنوا
[المائدة:64].
وتفصيل وجوه العقوبات، على حسب مراتب الخصومات، لحبيب الله ورسوله، الجامع لجميع الفضائل والخيرات مما يطول، وشرحه خارج عن حد العقول، فلنكتف بمجمل هذا المقام، وهو أن لله نقمة جلية وخفية، كما أن له نعمة ظاهرة وباطنة.
وقيل معنى الآية: وما أنزلنا على قومه بعده رسالة من السماء، قطع الله عنهم الرسالة حين قتلوا رسلهم، وهو مروي عن مجاهد والحسن، والمراد أن الجند هم ملائكة الوحي، الذين ينزلون على الأنبياء، وهو إشارة إلى انقطاع الوحي عنهم، لسوء استعدادهم، وغلبة جحودهم وعنادهم لحامليه، وهذا أشد مراتب العقوبة، حيث يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، الحاصل من فساد الإعتقاد، وبطلان الروح بانقطاع الأغذية الروحانية عنها، التي هي الإيمان بالله، والطاعة، والعلم، والعبادة، وتوارد السموم المهلكة لها، من الكفر والمعصية والجهل والغواية، وفي قوله تعالى:
{ وما كنا منزلين } [28]:
إشعار لطيف بثبوت ضابطة كلية، وقانون إلهي، في إهلاك كل طائفة من الكفرة الفجرة، بسبب مخصوص، يعني أن إنزال جنود من السماء، وألوف من الملائكة، لانتصار خاتم الأنبياء، مما لا يؤهله غيره، والعقوبة بها لا يناسبه إلا أعداؤه، الذين هم أعند الناس للحق، وأجحدهم للحكمة والمصلحة.
وذلك لأن نزول العذاب والقهر على الأمم المكذبة، من آثار غضب نبيهم، وتأثيره قوة قهره بحسب اتصافه بصفات الله، والنبي الخاتم، هو صاحب المقام الجمعي، والمتصف بجميع صفات الله، المتخلق بأخلاقه كلها، فله جميع أسمائه، والملائكة وفنونها وشعبها مظاهر أسمائية، فلما كان تأثير ذاته الكاملة بجميع الأسماء، كانت الملائكة نازلة بحسب تلك الأسماء وتأثيراتها، فيعينونه ويمدونه، وأما سائر الأنبياء، فلما كان اتصافهم ببعض الأسماء، كان لا ينزل من قهرهم إلا بعض الملائكة بحسب حالهم، وقوة تأثير كمالهم.
وها هنا دقيقة ينبغي أن لا تغفل عنها، وهو أن التأثير بجميع الأسماء، حتى أسماء اللطف والرحمة، لا ينافي الغضب بها، ونزول العذاب بحسبها، وبأيدي مظاهرها، التي هي ملائكة الرحمة، وذلك لأن النفوس الشقية الضالة، مما تتأذى وتتعذب بالرحمة والهداية أكثر مما يتضرر بالغضب والنقمة، كمثال الجعل ورائحة المسك، فافهم واغتنم.
فمعنى الآية: أن إنزال جنود الملائكة، من الاجرام الفلكية، من الخصائص العظيمة، التي لم أفعله، وما كنا نفعله لغيرك، فضلا لحبيب النجار، غضبا على قومه.
ثم بين سبحانه، كيفية اهلاكهم، ليعلم المتفكر المتدبر من كيفية هلاكهم مرتبتهم في النقصان، فقال:
{ إن كانت إلا صيحة واحدة } [يس:29].
[36.29]
{ إن كانت إلا صيحة واحدة }
أي ما كانت الأخذة أو العقوبة لأهل القرية، إلا صيحة واحدة، أهلكوا بها دفعة واحدة، كفجأة ونحوها بنوع واحد من الهلاك بحسب ما يستدعيه حالهم وأعمالهم.
وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع، أي ما وقعت إلا صيحة واحدة، فتكون " كان " على هذا الوجه تامة، لكن القياس والاستعمال. يقتضيان تذكير لفظ الفعل التام، لأن معناه: ما وقع عليه شيء إلا صيحة واحدة، وقد اعتذر عنه صاحب الكشاف. بأنه نظر إلى ظاهر اللفظ، وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثلها قراءة الحسن، (فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم) [الأحقاف:25] وبيت ذي الرمة:
" وما بقيت، إلا الضلوع الجراشع "
والأمر فيه هين.
وقراءة ابن مسعود: " الأزقية واحدة " من " زقا الطائر يزقو ويزقي " إذا صاح، ومنه المثل: " أثقل من الزواقي " ، وبالجملة، كان هلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر، صيحت عليهم بأجمعهم صيحة واحدة، حتى هلكوا جميعا.
{ فإذا هم خامدون } [29]:
كما تخمد النار فتعود رمادا، قيل: إنهم لما قتلوا حبيب النجار، غضب الله عليهم، فبعث جبرئيل حتى أخذ بعضادة باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة، فماتوا عن آخرهم، لا يسمع لهم حس كالنار إذا انطفأت.
وفي قوله تعالى: " خامدون " ، استعارة لطيفة، حيث شبه الروح الإنساني القائم بالطبيعة البشرية، بنار اشتعلت من فتيلة، ثم أثبت له الخمود الحاصل للفتيلة في بعض الأوقات، من النفخ الحاصل من الفم الإنساني، في نحو الأنبوبة وغيرها، وربما يكون معه صوت، ولأجل ذلك، عبر عن إهلاك النفوس بالنفخ، كما في قوله:
ونفخ في الصور
[يس:51] وكذا عن إحيائها، لأن بالنفخ كما تخمد النار كذلك قد تشتعل، على حسب اختلاف أنحاء النفخ، وهذا من سوانح وقت كتابتي هذه، ولم أره في كلام أحد.
[36.30]
{ يحسرة على العباد }:
أي أنهم حقيقون بأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويندم على أفعالهم النادمون، أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة، وأهل الإيمان من الأنس والجان، أو من جهة الله، إما على سبيل الإستعارة في فرط انكاره تعالى، لما فعلوه، وتعظيمه ما جنوه على أنفسهم، أو باعتبار وقوع الحسرة من بعض عباده المخلصين، من قبيل ما روي في حديث: " يا موسى مرضت فلم تعدني " ، وكان المريض بعض الصالحين من عباده - تعالى عن النقص والشين علوا كبيرا -.
ويؤيد هذا الوجه قراءة من قرء: " يا حسرتا " لأن المعنى: يا حسرة عليهم، ثم الوجه في مثل هذا النداء، إنه عبارة عن إحضار صورة في الخيال، احضارا قويا، حتى كأنها موجودة في العين، ثم الخطاب معها بالطلب والدعاء، لأن الحال مما يستدعي حضور مثلها، فمعنى هذا النداء أن: " يا حسرتا إحضري " فإن هذه الحال، من الأحوال التي يجب حضورك فيها، فحقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزاء العباد وأهل العناد بالرسل.
وقريء: " يا حسرة العباد " بالإضافة اليهم المفيدة للاختصاص بها من توجهها اليهم.
وقريء: " يا حسرة على العباد " بالهاء أجراء للوصل مجرى الوقف.
ثم بين سبب الحسرة، ومنشأ الندامة بقوله:
{ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } [30]:
وسبب استهزاء الناقصين من الناس، والكفرة والمنافقين بالرسل والأولياء، وكل من سلك سبيلهم في الاشتهار بذكر الله، والشتوق إلى معرفته، ومعرفة ما ينتمي إليه، من ملائكته وكتبه ورسله وأوليائه وعباده المكرمين، والإعراض عما أكب عليه الناس، من طلب الجاه والمال، ومعاشرة الخلق والمداراة معهم، والخوض في أمورهم والمشاركة في دنياهم.
وذلك لأن الرسل (عليهم السلام) ومن تابعهم، هم رجال الله البالغون في العقل والبصيرة، لا يؤثرون على لذة النظر إلى وجه ربهم لذة، ولا يريدون غير الوصول إلى خدمته وطاعته نعمة وسرورا، ولا يكدرون شراب محبة الحق الأول، برجاء نعيم أو خوف جحيم، وباقي الناس بمنزلة الأطفال الناقصين عن درجاتهم، ومراتب نقصهم على حسب جهالاتهم.
فإن مثال الخلائق في لذاتهم ما نذكره، وهو أن الصبي في أول نشوئه وحركته وتمييزه تظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو، ويكون ذلك عنده ألذ الأشياء لقصور نظره وهمته عن إدراك ما عداه، والتشوق إليه، ثم تظهر بعده لذة الزينة، ولبس الثياب، وركوب الدواب، فيستحقر منها اللعب، ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء، فيترك بها جميع ما قبله في الوصول إليها، ثم يظهر بعد هذه الأمور لذة الرياسة والعلو والتفاخر والتكاثر، وهي آخر درجات لذات هذه الدنيا، وأعلاها وأقواها، وآخر ما يخرج عن رؤوس السالكين إلى الله.
وللإشارة إلى هذه المراتب في اللذات قال تعالى:
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر
[الحديد:20].
ثم يظهر بعد هذه غريزة أخرى، يدرك بها معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته وأفعاله، فيستحقر معها جميع ما قبلها، فكل متأخر فهو أقوى، وهذا هو الأخير، إذ يظهر حب اللعب في سن الصبا، وحب النساء والزينة في سن البلوغ الحيواني، وحب الرئاسة والعلو والتكاثر في سن العشرين، وحب العلوم الحقيقية في قرب سن الأربعين - وهي الغاية العليا، ومرتبة رجال الله هذه المرتبة -.
والناس كلهم بالقياس إلى هؤلاء، في منزل واحد، هي الدنيا ومحبة ما فيها، وكما أن الصبيان يضحكون عمن يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرئاسة ويستهزؤون بهم، فكذلك الرؤساء والمتصدرون في المجالس، والمتقلدون في المناصب، يستهزؤون بمن ترك الدنيا وزينتها ورفعتها، واشتغل بمعرفة الله واشتهر بذكر الله، والعارفون بالله يقولون:
إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون
[هود:38].
ولهذا ذكر بعض أصحاب القلوب: " أن الإنسان إذا بلغ مرتبته في العلم بالله، ومحبته بذكر صفاته وأفعاله الغاية العليا، رماه الناس بالحجارة ". أي يخرج كلامه عن حد عقولهم، فيرون ما يقوله جنونا.
فقصد العارفين كلهم لذة معرفة الله تعالى، ووصله ولقائه فقط، فهي قرة أعينهم التي لا تعلم ما أخفي لهم من قرة أعين، وهي التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإذا حصلت لهم لذة معرفة الله، ومطالعة جمال الحضرة الربوبية، والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية، تضمحل منهم الرسوم، وتنقطع عنهم الهموم إلى غير طلب حبيبهم، فليس لهم عند ذلك التشوق إلى شيء سوى الحق، سواء كان من باب الدرهم والدينار، أم من باب الأراضي والعقار، أم من باب الترفع والافتخار، الذي هو أجل لذات هذه الدار.
والناس إذا شاهدوا منهم ما يخالف أطوارهم وأفعالهم، من طلب الخمول والإنزواء والاستتار، وترك التبسط والتزين والاشتهار، يعدونه إما من السحر والمكر، وإما من السفه والبعث، فهم إما يعاندونه أو يستهزؤون به.
الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون
[البقرة:15]، لأن نظام هذا العالم وتعميره، لا يتصور إلا من المكبين على الحسيات، الهالكين كالفراش في نيران الشهوات، المعرضين كالخفافيش عن أنوار الحكم والعقليات، الجاحدين كالكمه الأضاليل لألوان المعارف واليقينيات، المنكرين كالعنين للذات النفوس العاليات وكراماتهم، والعقول القادسات في مناجاتهم.
[36.31]
" الرؤية " هنا بمعنى " العلم " أي: ألم يعلموا كثرة إهلاكنا القرون، ويسمى أهل كل عصر " قرنا " لاقترانهم في الوجود - كذا في مجمع البيان -، والظاهر أنه من باب حذف المضاف مثل: " واسئل القرية " ونظائره، والاسم بحاله في الاستعمال لقطعة من الزمان من غير وضع ثان.
ولفظة " كم " استفهامية كانت أو خبرية، وإن لم يعمل فيها عامل - أما في الاستفهامية فظاهر، وأما في الخبرية فلأن أصلها الاستفهام فحكمها واحد - إلا أن معنى العامل سار في معنى الجملة بنفسها سرايتها في مثل قولك " ألم يروا أن زيدا لمنطلق " وان لم يعمل في لفظها، وهذا القدر كاف في تعلق جملة " كم أهلكنا " بعامل " ألم يروا " وانتصابها به و " كم " ينتصب بأهلكنا، وقوله: " أنهم إليهم " بدل من " كم أهلكنا " بحسب معناه من حيث هو، لا بحسب لفظه.
والمعنى: ألم يعلم هؤلاء الكفار كثرة إهلاكنا القرون الماضية لجحودهم، وإنكارهم لأهل الحق أنهم لا يرجعون؟ أي: كونهم غير راجعين إليهم؟ أي: لا يعودون إلى الدنيا، أفلا يعتبرون بهم؟ ووجه التذكير بكثرة المهلكين أي: أنكم ستصيرون إلى مثل حالهم، فانظروا لأنفسكم، واحذروا أن يأتيكم الهلاك وأنتم في غفلة عريضة وغرة شديدة.
وعن الحسن: " إنهم " بالكسر، فيكون استئنافا لا بدلا، وفي قراءة ابن مسعود: " ألم يروا من أهلكنا " فيكون البدل بدل اشتمال.
وفي الكشاف: " هذا مما يرد قول أهل الرجعة " ، وفيه نظر لا يخفى على المنصف، فإن عدم رجعة قرون من الكفرة الناقصين الهالكين هلاك الأبد، لا يدل على عدم رجعة غيرهم من النفوس الكاملة الحية بحياة العلم والعرفان، فلا استحالة في إنزال الأرواح العالية بإذن الله وقدرته في هذا العالم، لخلاص الأسارى والمحبوسين بقيود التعلقات من هذا السجن.
وأما ما نقله تأييدا لمذهبه من منع الرجعة من قوله: " ويحكى عن ابن عباس أنه قيل له: أن قوما يزعمون أن عليا (عليه السلام) مبعوث قبل يوم القيامة. فقال بئس القوم، نحن إذن نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه " ، فمدفوع: بأنه مجرد حكاية غير معلومة الصحة، وعلى تقدير صحة الرواية عنه فالمروي ممنوع، فإن المتبع في الإعتقاديات إما البرهان وإما النقل الصحيح القطعي عن أهل العصمة والولاية.
وقد صح عندنا بالروايات المتظافرة عن أئمتنا وساداتنا من أهل بيت النبوة والعلم، حقية مذهب الرجعة ووقوعها عند ظهور قائم آل محمد (عليه وعليهم السلام)، والعقل أيضا لا يمنعه، لوقوع مثله كثيرا، من إحياء الموتى بإذن الله بيد أنبيائه كعيسى وشمعون وغيرهما (على نبينا وآله وعليهم السلام).
ثم يحتمل أن يرجع ضمير " أنهم " إلى الكفرة، وضمير " إليهم " إلى القرون، ويكون معناه: أن هؤلاء لا يرجعون بحسب القوة والقدرة، أو الشوكة والجاه، أو العدة والكثرة إليهم، فكيف لا يعتبرون بمن سبقهم.
ولا يبعد أن يكون المراد اهلاكهم بحسب موت الجهل والكفر والعناد هلاكا سرمديا، فحينئذ معنى: " أنهم إليهم لا يرجعون " ، أي في شدة الجحود والنفاق والاستكبار والإغترار بالظنون الفاسدة والعقائد الباطلة، كما هو شيمة أصحاب الجدال وأهل المكر والاحتيال، الذين هم أعدى أعداء الله ورسوله، كما ذكر وصفهم وذمهم في القرآن كثيرا ، ويؤيد هذا الحمل، كون هذه الآية عقيب قوله:
ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون
[يس:30]. فالمعنى أن هؤلاء لا يصلون في الاستهزاء بالرسول إلى من أهلكنا قبلهم من المستهزئين بالرسل، الذين كانوا أشد منهم في الجحود والاستهزاء، على وزان قوله تعالى:
كم أهلكنا قبلهم من القرون
[طه:128]،
كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروهآ أكثر مما عمروها
[الروم:9].
[36.32]
من شدد " الميم " في " لما " كعاصم وحمزة وابن عامر كانت عنده بمعنى " إلا " كما في " نشدتك بالله لما فعلت " و " إن " نافية، والتقدير: ما كل إلا لدينا محضرون. ومن خففها كالباقين كانت " ما " صلة للتأكيد و " إن " مخففة من الثقيلة، وهي متلقاة باللام لا محالة، والتقدير: وإنه كل لجميع لدينا محضرون.
والتنوين في " كل " عوض من المضاف إليه، والمعنى: أن كلهم من السابقين واللاحقين محشورون مجموعون لدينا محضرون، أي مبعوثون يوم القيامة للحساب والجزاء - كما عليه جمهور المفسرين - أو دائما، لأن علمه بجميع الجزئيات والشخصيات حضوري، فجميع الموجودات حاضرة عنده مجموعا من غير تعاقب وتجدد وغيبة لبعضها عن بعض، بالقياس إلى شمول علمه ونظره، وإحاطة سمعه وبصره، فلا حاجة له في حضور الخلائق عنده إلى قيام الساعة وتبدل الدنيا بالآخرة، إنما ذلك بالقياس إلى المحجوبين بالزمان والمكان، المحبوسين في سجن الأفلاك والأركان، حيث يتحكم فيهم تبدل الأزمنة والأقران، وتتسلط عليهم انفعالات المواد والأبدان، وكل من لا تعلق له بعالم الزوال والفناء، فلا انتظار له في حضور الأشياء ومثولها بين يدي خالق الأرض والسماء، فالدنيا والآخرة سيان له، وعنده علم الساعة وإليه يحشرون.
وقيل: معنى " محضرون " معذبون.
ثم لما كانت مسألة المعاد وحشر الأجساد، وحضور العباد بأبدانهم الأخروية عند المبدء الجواد، من عظائم أركان الإعتقاد، ولطائف مسائل الإجتهاد، وفي إدراكها غموض شديد لا يمكن الوصول إليه بجهد جهيد، كرر الله ذكرها في القرآن، ومهد لإثباتها وجوها كثيرة من الأمثلة الموضحة لها عند البيان.
منها: ما ذكرها في هذه السورة التي هي مشتملة على جملة ما في الكتب الالهية من وجوه عديدة ، أوضحها بيانا، وأجلها كشفا وبرهانا، ما ذكره بقوله:
{ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون } [يس:33].
[36.33]
ومن الآيات الواضحة، والحجج القاطعة لمنكري البعث والحشر - كالأطباء والطبيعيين والدهريين والمتفلسفين، وطائفة من العوام المقلدين لهؤلاء، المتشبثين بأذيال المتشبهين بالعلماء والحكماء، ظنا منهم أن الحكمة توجب إبطال الشريعة - المبينة على ثبوت قدرة الله تعالى على حشر الأجساد، واحياء الموتى من العباد، هي الأرض الميتة، لغلبة جمود البرودة، وضعف قوة الحرارة، لفرط انحطاط الشمس عن سموت رؤوس بقاعها، فلا ينبت شيء ولا تتحرك أجزاؤها الكامنة فيها إلى جهة العلو، طلبا للكمال وارتفاعا إلى العالم الأعلى، كالميت المنقطع عن الروح بحرارتها الغريزية، المستدعية للنمو والحس والحركة، لطلب الكمال اللائق بحاله.
أحييناها: أي الأرض المنقطع عنها أثر الحياة من الحرارة المنشئة للنبات، بنفخ الحرارة السماوية، بارتفاع دائرة الشمس بشعاعها المخروطي الشبيه بهيئة الصور الإسرافيلي، النافخ بإذن الله في النيران الكامنة في عروق الأرض وأعماقها بالقوة، وأخرجنا منها ما كمن فيها من أنواع الأعشاب والحبوب، التي يتقوتونه، مثل الحنطة والشعير والأرز وغيرها: فمنه يأكلون.
فهذا ضرب من الاستدلال على ثبوت قدرة الله على إعادة الأمثال، وتوضيحه: أن منكري المعاد، إنما أنكروا إحياء الموتى، لما توهموا أن إحياءها يوجب إعادة المعدوم بعينه، وهو مما ثبت استحالته.
والجواب: أن المعاد في المعاد هو الروح بعينها وهي باقية غير فانية مع بدن محشور مثل هذا البدن لا نفسه، حتى يلزم إعادة المعدوم، فالتمثيل بإنبات الربيع، وإخراج الحبوب من الأرض بعد يبسها، كما في هذه الآية وغيرها، للإشعار بأن المعاد مثل البدن الأول كما دل عليه قوله تعالى:
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير
[فصلت:39].
وهذا القدر في معنى المعاد مما اكتفى به جم غفير من علماء الإسلام منهم الغزالي، واستدل شارح المقاصد عليه بأن النصوص دالة على إعادة المثل لا الشخص بعينه من البدن، كقوله (صلى الله عليه وآله):
" أهل الجنة جرد مرد "
وكون
" ضرس الكافر مثل جبل أحد "
وبقوله تعالى:
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها
[النساء:56] وبمثل قوله تعالى:
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم
[يس:81].
واني لا أرتضيه كما بينته في مواضع من كتبنا وتفاسيرنا، بل المعاد عندنا هو هذا الشخص بعينه، وهذا الوجه بعينه، وهذه اليد بعينها، وهذه الأعضاء بشخصياتها وتحقيق هذا المعنى يحتاج إلى بسط عظيم خارج عن طور التفسير وإن لم يمكن فهم بعض الآيات التي في بيان الحشر بدونه، وقد بسطنا القول فيه في كتبنا، وسنذكر لمعة من أسرار المعاد في أواخر هذه السورة، فليراجع إليه من أراد ذلك.
فالأولى أن يحمل الآية على أنها لدفع شبهة أخرى لهم في نفي المعاد، هي أن استيناف الحياة في البدن يحتاج إلى استعداد سابق وقبول مادة مستعدة حاصلة بالتوالد والإزدواج الحاصل من الأبوين، ثم حركة في الإنفعال وتدرج في كمال بعد كمال، حتى يحصل الولد ويحيي المني المستعد، وهذه الأسباب مفقودة بعد هلاك الكل، فكيف يوجد الخلائق الكثيرة العظيمة ويحيي عظامها البالية الرميمة دفعة من غير تعاقب وتوالد وتدرج في الاستكمال، وحصول أسباب وانفعالات وسبق استعدادات الكمال بعد كمال؟.
فالله سبحانه أزاح هذه الشبهة وأماط هذه الريبة بأن انشاء الموجودات في النشأة الثانية إنما يكون بمجرد جهات فاعلية وأسباب علوية إلهية لا بحركات وانفعالات قابلية وأسباب هيولية، كما أن إنشاء الخلائق ابتداءا لم يكن إلا بمجرد جود الله وإبداعه الأسباب الفاعلية، حتى تنزلت بتأثيراتها وإنشاءاتها إلى آخر الموجودات النازلة السفلية من غير سبق وسيلة وتقدمة استحقاق لقوله:
كما بدأكم تعودون
[الأعراف:29] وقوله:
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62].
فمثل الله تعالى لهذا المعنى بمثال إنشاء النبات والأشجار، وإحياء الأرض بها كل سنة، بعد يبسها وموتها بالأسباب العالية، والأوضاع السماوية، والقوى الفعالة، من قوة حرارة الشمس بارتفاعها، واستيناف تأثيرها بحرها وشعاعها، لا بالأسباب الأرضية بقواها المنفعلة في صورة الفاعلة - من بث البذور وإجراء المياه على الأرض وسقيها وإصلاحها - فإن شيئا من هذه الأمور لا يجدي نفعا في حياتها، لكن إذا حان وقت إرادة الله أحياها.
فكذلك الحال في وقت النشور، وإحياء الله تعالى حياة أخروية كل من في القبور، كما بين الله تعالى، وأوضح هذا المعنى في عدة مواضع من القرآن، كقوله:
وترى الأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور
[الحج:5 - 7]، وكقوله:
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى
[فصلت:39]. وكقوله:
والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الأرض بعد موتهآ إن في ذلك لآية لقوم يسمعون
[النحل:65].
ولما مثل الله تعالى في إحياء الأموات عند النشور، وبعثة من في القبور، بإحياء الأرض موتها ويبسها، أراد أن يشير إلى أن حشر الناس يوم القيامة، ووقوع الواقعة، على أقسام من الصور والهيآت المختلفة، حسب الأعمال والنيات، فمثل إنشاء الخلائق إذا نفخ في الصور، بإنشاء الأزهار والثمار المتلونة بفنون من النباتات، والأشجار المختلفة حسب ما كمن فيها من البذور والأصول، التي هي بمنزلة الأخلاق والإعتقادت الكامنة في الإنسان، التي ستبرز وتظهر منه يوم حشر ما في القبور وتحصيل ما في الصدور.
وفيه إشارة أيضا: إلى أنموذج من نعم الله الحاصلة من الأرض، لانتفاع عباده منها، واغتذائهم بها، ليتقوتوا منها ويتهيئوا لشكر خالقهم ومنشئهم، لأن جميعها مما لا يحيط به العد والحصر، فقال:
{ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب } [يس:34].
[36.34]
{ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب }:
أي بساتين وحدائق يوجد فيها أنواع الأشجار المخضرة، والنباتات المثمرة، فنونا من الثمار من نخيل وأعناب، وإنما خص القسمين لكثرة أنواعهم ووفور منافعهم.
{ وفجرنا فيها من العيون }:
أي: وفجرنا في تلك الأرض الميتة عيونا من الماء، ليسقوا بها الكرم والنخيل، كانفجار عيون الملكات العلمية بالقوة الكامنة في أرض النفوس الإنسانية، التي بها يتحقق يوم كشف الغطاء، نخيل المشاهدات وأعناب المكاشفات.
وأصل مياه العلوم الكامنة فيها، هو مياه أمطار جود الله وإفاضته وتوفيقه الهداية والتحصيل، فإذا اجتمع الماءان يوم الآخرة - ماء إفاضة الله، وأمطاره علوم المشاهدة والمكاشفة من سحاب لطفه ورحمته على القلوب، وماء ينبوع العلوم الكامنة في العقل وملكة حصول المعارف فيه - وهو العلم الإجمالي الذي نسبته إلى العلوم النفسانية التفصيلية كنسبة الكيمياء إلى الدنانير الغير المحصورة، ظهرت أنواع الصور الأخروية، ورطب استحلاء المشاهدات، وعنب شراب التجليات، فالتقى الماء على أمر قد قدر.
[36.35]
أي ثمر النخيل، اكتفاء به لأنه علم أن الأعناب في حكم النخيل أو ثمر أحد المذكورين، أو الجنات بالتأويل المذكور.
والنكتة في إثبات هذه الغاية فيما نحن بصدده، من تطبيق هذه الآية على أحوال الأرواح الإنسية بحسب المعاد، هي أنه كما أن الغرض الأصلي من غرس الأشجار وتحصيل الثمار، هو التقوت بها، والترقي إلى غاية النشوء الصوري والأشد الظاهري، وكذلك الغرض من تحصيل المعارف والصور العلمية الحاصلة بماء الإفاضة الفاعلية، وعين الإستفاضة القابلية، هو تكميل النشأة الثانية الإنسانية، وبلوغها إلى غاية فطرتها الروحية وأشد حقيقتها المعنوية.
وقريء " ثمره " بفتحتين وضمتين، وضمة وسكون.
وفي الكشاف: " الضمير لله تعالى، والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال، إلى أن بلغ الثمر منتهاه وابان أكله، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بني آدم ".
وفيه أيضا: " أصله: " من ثمرنا، كما قال: " وجعلنا، وفجرنا " فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الإلتفات ".
{ وما عملته أيديهم }:
وقريء: " ما عملت " من غير راجع، وهي في مصاحف الكوفيين، وعند قراء الحرمين والبصرة والشام مع الضمير، و " ما " فيها موصولة عطف على " ثمره " أي: والذي عملته أيديهم، من أنواع الأشياء المتخذة من النخيل والعنب الكثيرة منافعها، وقيل: يعني الغروس والزروع التي عملتها أيديهم، وقاسوا حراثتها.
ولك أن تجعل " ما " فيها نافية، يعني: هذه الثمار مع صورها ومنافعها وخصائصها، ليست ما عملته أيدي الناس، بل هي فائضة من عالم قدرة الله بواسطة ملائكته المسخرين لإنشاء الصور النوعية، يقال لها: " أرباب الأصنام " في لسان الإشراق، وتسمى عندهم بأسامي " كخرداد " و " مرداد " و " أردي بهشت " وأمثال هذه، ولها في لسان الشريعة أسامي: " كملك المياه " و " ملك الجبال " و " ملك الرياح " ونظائرها.
وفيه أيضا إشارة إلى مسألة المعاد، ورد شبهة أهل الجحود والعناد، حيث إن وجود الصور الأخروية، إنما كان بإنشاء الله بيد سدنة الجنان، وملائكة الرحمة والرضوان، وكما أن أعمال يد الإنسان في غرس الأشجار وبث البذور للثمار، مما لا دخل لها في إيجاد الصور النباتية، بل إنما كانت نوعا من الحركة والرياضة مما له مدخلية في استجلاب رحمة الله، التي يكفي فيها أدنى مرجح يخرج به من محض الإمكان للشيء المتساوي طرفا وجوده وعدمه.
فكذلك التفكرات الإنسانية، والنيات والعقائد الحاصلة من القوة المفكرة، التي هي بمنزلة يد معنوية للنفس الفاكرة، مما لا دخل لها في توليد النتائج والصور الكسبية، ولا تحصل هي بتعمل أيدي القوة الناطقة، بل إنما تفيض الصور من واهبها بإذن الله، والأفكار وتعملاتها معدات للنتائج لا محصلات، وهذه الصور المحصلة العقلية (العلمية) والعقائد الحقة، ستصير عند البعث والنشور صورا وأشخاصا عينية، على شكل وهيآت حسية نورانية جنانية، يتنعم بها السعداء، أو قبيحة مؤلمة مؤذية جحيمية، يتعذب بها الأشقياء، وهي أيضا مما خلقها الله تعالى وأنشأها وأبدعها بجهات فاعلية، من ملائكة الرحمة أو العذاب، بيد سدنة الجنان، أو النيران، من غير تعمل بشري وتصرف حيواني.
فانظر كيف روعي في الكتاب العزيز هذه المناسبات، بين عالمي الغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، ثم كرر النظر وأعد التفكر أيها العارف المستبصر في فوائد هذه الآية، ولطائف نكاتها، ودقائق أسرارها، لتظهر لك حكمة بعد حكمة ونور بعد نور.
فتأمل كيف شبه الهيولانية الساذجة من العلوم، الميتة بموت الجهل البسيط، المستعدة للحياة العقلية، الباقية في تلك الدار، القابلة لأنوار العلوم وثمار الأسرار، التي هي بمنزلة صور الجنان وخيرات حسان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، ولا يمسهن إلا المطهرون، من أدناس عالم المواد والأركان، بالأرض اليابسة الميتة، لغلبة الجمود والبرد واليبس، التي هي كالنفوس الجامدة الباردة الفظة الغليظة الساكنة من الفكر، وشبه إحياءها بإفاضة مياه العلوم بإحياء الأرض بنزول الأمطار، لأن من الماء كل شيء حي.
فالماء مطلقا يوجب الحياة مطلقا، وكل نوع منه يوجب نوعا مناسبا له من الحياة، فالماء الجسماني يوجب الحياة الجسمانية، والماء الروحاني أي العلم يوجب الحياة العلمية الأخروية.
واعلم أن " الماء " مادة الحياة، وأما صورتها فهو " النار " على مراتبها، و " النور " من جملة مراتبها، ففي الحياة الأرضية النباتية، كما لا بد من ماء سماوي كالأمطار، وماء أرضي كالعيون والأنهار، كذا لا بد فيها من نار سماوية كأشعة الشمس وغيرها، ونار أرضية هي إحدى العناصر الأربعة، المجتمعة بالإزدواج لحصول المزاج.
وهكذا في الحياة الأخروية على طبقاتها ودرجاتها، كما لا بد من مياه العلوم الفائضة من العالم الأعلى، ومياه العلوم الكامنة في النفس المتبوعة فيها بالمذاكرة والمراجعة، والكد والتعب، فكذلك لا بد من نار علوية عقلية، هي شعاع العقل الفعال، ونار سفلية نفسية هي اشتعال النفس الزكية، وقوة حدسها المتفاوتة في أفراد الناس، البالغة في بعضهم إلى غاية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار العقل الفعال، الذي هو نور، إذا اتصل به العقل المستفاد كان نورا على نور.
ثم تأمل كيف أشار سبحانه إلى إخراج العلوم الجزئية والمعارف الجمهورية، التي بها يتعيش جمهور الناس ويحيا أوساطهم، من القلوب بالكد والتعب والتكرار، بإخراج العيون من بطون الجبال والأحجار اليابسة، ونبوع الماء الزلال من التربة الكدرة، فعلم بذلك أن من القلوب كحجارة يتفجر منه الأنهار، أي أنهار العلوم والمعارف، كما أشار إليه بقوله تعالى:
وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار
[البقرة:74].
وعلم أيضا، أن منها كحجارة أو أرض يتشقق فيخرج منه الماء، وهو قلب يظهر عليه في بعض الأوقات عند انخراق حجب البشرية، فيظهر منه بعض لطائف المعاني وأنوار العلوم.
ويعلم أيضا بالمقايسة، أن منها ما هو كالحجارة القاسية، التي لا يتفجر منها أنهار العلوم، ولا يؤثر فيها شيء من الآيات والأخبار، ولا يرققها بالتليين نكتة من الحكم والمواعظ وفي قلوب أكثر أهل الدنيا وعامة الخلق، ومنها ما هو أشد قسوة وأصلب، وهي القلوب التي في الكدورة والصلابة كالحديد البارد، لا يؤثر فيها شيء من النصيحة والتعليم للتليين، ولا الزجر ولا الضرب للإنقياد والطاعة، إلا القتل والعذاب بنار الجحيم، وهكذا الحديد يستعصي على قبول الطرق وطاعة الحداد، فيستحق بذلك دخول النار وتليينها بإذن الله، فعند ذلك يقبل كل طارق يطرق منه، وها هنا أسرار أخر لا يمكن التصريح بها.
ثم تأمل وتدبر كيف ضرب الله مثلا لروح الإنسان وقلبه، بجنات جعل فيها من كل الثمرات من نخيل العلوم وأعناب المعارف، لكونه مخلوقا في أحسن تقويم، مستعدا لجميع الكمالات والكرامات، قابلا لجميع الفضائل وجملة الشمائل المحسنات، مكرما بعلم جميع الأسماء والصفات، منورا بأنوار التجليات، الحاصلة له في مظاهرها العقلية والخيالية والحسية، من عالم الصورة والمعنى والشهادة والغيب، كما في قوله تعالى:
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب
[البقرة:266].
وفي القرآن آيات كثيرة، دالة على تمثيل ما يصل إليه الإنسان من ثمرات عقائد الإيمان، ونتائج اكتساب العلم والعرفان في الآخرة عند رفع الحجاب بالجنات والأنهار، والأشجار والحور العين والصور الحسان، وغيرها من الأمثال التي لا يعلمها أحد من الخلق، إلا الراسخون في العلم، كما قال:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت:43]. وقوله:
{ أفلا يشكرون } [35]:
إشارة إلى الحث والترغيب إلى معرفة هذه الأمثال والنعماء الإلهية، ووجه ذلك، أن الشكر من جملة مقامات الدين، وأجزاء الإيمان واليقين، فإن الإيمان ليس كما ظن بابا واحدا، بل هو نيف وسبعون بابا، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، كما أن الإنسان ليس موجودا واحدا، بل هو نيف وسبعون موجودا، أعلاها القلب والروح، وأدناها إماطة الأذى عن البشرة، ككون الإنسان مقصوص الشارب، مقلوم الأظفار، نقي البشرة عن الخبث، حتى يتميز عن البهائم المرسلة، المتلوثة بأرواثها، المستكرهة الصور بطول مخالفها وأظلافها.
وهذا مثال مطابق للإيمان، ذكره بعض العارفين لأن الإيمان بالحقيقة محصل حقيقة إنسان، بل هو عند الكاملين في الحكمة، والراسخين في المعرفة عين الإنسان الحقيقي، ففي التطبيق يقال: الإيمان كالإنسان الحسي، وفقد شهادة التوحيد منه يوجب بطلانه بالكلية، كما يوجب فقد الروح بطلان الإنسان الحقيقي بالكلية، والذي ليس له إلا شهادة التوحيد وشهادة الرسالة، هو كإنسان مقطوع الأطراف، فاقد العينين، فاقد الحواس، ليس فيه إلا أصل الروح بالقوة.
وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت، فتزايله الروح الضعيفة الناقصة، فكذلك حال من اكتفى بأصل الإيمان من غير تحصيل الأعمال المورثة للأخلاق والملكات، من الصبر والشكر، والتوكل، والرضاء بالقضاء وغيرها من المقامات، فهو قريب من أن تنقلع شجرة إيمانه بقواصف الرياح عند زلزلة الساعة، أي القيامة الصغرى، التي تخصه، في مقدمة قدوم ملك الموت ومشاهدة أهوالها وحالاتها، وعند القبر والبعث في القيامة الكبرى التي تعمه.
فكل إيمان لا يثبت في اليقين القلبي أصله، ولم تنتشر في الأعمال فروعه، لم يثبت عند تصادم الأهوال وتزلزل الأحوال دوامه، وعند ظهور ناصية ملك الموت، وطلوع صباح القيامة من مغربها قيامه، وخيف عليه سوء الخاتمة - نعوذ بالله - إلا ما سقي بماء الطاعات، والتأملات القدسية على توالي الأيام والساعات، والتعرض دائما لنفحات ألطاف الله، حتى رسخ وثبت أصلها في أرض القلب، وفرعها في سماء الأحوال والمقامات والدرجات، كما أشار إليه بقوله:
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء
[إبراهيم:24] وقوله:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
[إبراهيم:27].
إذا تقرر هذا، فالشكر كسائر المقامات، ينتظم من ثلاثة أمور: علم وحال وعمل، وهكذا جميع المقامات، لأنها منتظمة من علوم وأحوال وأعمال، وهذه الثلاثة إذا قيست بعضها إلى بعض، لاح للظاهرين من الناظرين، أن العلوم تراد لأجل الأحوال، والأحوال تراد للأعمال، فالعمل هو الأفضل عندهم، وهو الغاية لديهم.
وأما عند أرباب البصائر، فالأمر بالعكس من ذلك، فالأعمال تراد للأحوال، والأحوال للعلوم، فالأفضل هي العلوم، ثم الأحوال، ثم الأعمال، لأن الأعمال غايتها الأحوال، وهي ترجع إلى تصفية القلب عن العوائق، وتصقيل وجهه عن الكدورات والحجب.
ثم نفس التصفية والتصقيل ليست كمالا وغاية مطلوبة، لأنها أمر عدمي، بل تراد لأجل أن يتمثل فيها صورة الحق - وهي العلوم الحقيقية -.
وأما آحاد هذه الثلاثة: فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت، إذا أضيف بعضها إلى بعض، وكذا آحاد الأحوال، وكذا آحاد المعارف. وأفضل المعارف علوم المكاشفة، أي علوم التوحيد من أحوال المبدء والمعاد، وأحوال الملائكة والرسل والكتب، وأهل الإنتماء إلى الوحي (صلوات الله عليهم أجمعين).
وإذا ثبت أن الشكر كباقي مقامات السالكين، ينتظم من علم وحال وعمل، وأن العلم هو الأصل المقصود من الأعمال والأحوال، فلأجله يكون الحال، ولأجل الحال تكون الأعمال، وكما أنه المقصود الأصلي والغاية القصوى، فكذا هو المورث المنتج لما سواه، فهو الأول والآخر، والمبدء والغاية، فهو يورث الحال، والحال يورث العمل، فقوله تعالى:
لعلكم تشكرون
[البقرة:52] معناه الأصلي عند العارف العالم بأسلوب الدين، والفاهم للسان القرآن المبين: لعلكم تعلمون علما ناشئا من حال ناش من عمل مشروط بعلم مقدم.
إذ لا بد أولا في الشكر، من معرفة النعمة وأنها من المنعم، ثم الحال ثانيا، وهو الفرح الحاصل بإنعامه، ثم العمل ثالثا، وهو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه، ويتعلق ذلك العمل بالقلب، وبالجوارح وباللسان، ولا بد للإحاطة بحقيقة الشكر، من بيان هذه الأمور الثلاثة على وجه الإجمال، لأن التفصيل فيها غير لائق بهذا المقام.
أما بيان العلم الذي هو الأصل، فهو أنه علم متعلق بثلاثة أمور: بعين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه، وبذات المنعم، ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر منه على من سواه، فإنه لا بد من نعمة ومنعم ومنعم عليه، تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة، فهذه الأمور لا بد من معرفتها في حق غير الله.
وأما في حق الله، فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها منه وهو المنعم، والوسائط مسخرون من جهته، فيحتاج في مقام الشكر إلى العلم بتوحيد الأفعال، بعد معرفتها على التفصيل والترتيب من العقول وترتيبها، والنفوس الكلية وأغراضها ومراتبها، والأجرام الفلكية وأشواقها وحركاتها، ثم الوسائط العنصرية بسائطها ومركباتها.
وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس، إذ دخل التوحيد والتقديس فيها، لأن المرتبة الأولى في معارف الإيمان التقديس، ثم إذا عرف ذاتا مقدسة فيعرف أنه لا مقدس إلا واحد، وما عداه غير مقدس وهو التوحيد، ثم يعلم أن كل ما عداه في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط، فالكل نعمة منه، فتقع هذه المرتبة في الرتبة الثالثة، إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد، كمال القدرة المقتضي لأن لا مؤثر في الوجود إلا الله، فتمام المعرفة في الشكر ينفي الشرك في الأفعال.
مثاله: أن من أنعم عليه ملك من الملوك بشيء، فإن رأى المنعم عليه لوزيره أو ساعيه دخلا في إيصاله إليه، فهو إشراك به في النعمة، فلا يرى النعمة منه مطلقا، بل بوجه منه، وبوجه آخر من غيره، فيتوزع شكر فرحه وحاله عليهما، فلا يكون موحدا في حق الملك، نعم لا ينقص عن توحيده في حقه وكمال شكره نعمته، أن يرى أنها وصلت بتوقيعه بالقلم على الورق، ولا يشكرهما لعلمه بأنهما مسخران تحت قدرته، وكذا لو علم أن الوزير والساعي الموصل والخازن أيضا، مضطرون من جهة الملك في الإيصال، لأنه إذا عرف ذلك، كان نظره إليهم كنظره إلى القلم والورق، فلا يورث ذلك شركا في توحيده في إضافة النعمة إليه، فكذلك من عرف الله وعرف أفعاله، علم أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، وكذا العقل والنفس - اللذان هما فوق هذه الأمور - مسخران بيد قدرته، كالقلم والقرطاس في يد الكاتب، وكذا الحيوانات لها اختيارات، في نفس اختيارها مسخرات له، فإذا عرفت الأمور هكذا، فقد عرفت الله وعرفت فعله ونعمته عليك، وكنت موحدا وقدرت على شكره، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكرا لله.
ومما يدل على أن أصل العلم بهذا الوجه شكر تام لله، ما ذكر أنه قال موسى (عليه السلام) في مناجاته: " إلهي، خلقت آدم بيدك، وفعلت كذا وكذا، فكيف شكرك؟ " فقال الله تعالى : " من علم أن ذلك مني فكانت معرفته شكرا ". فإذن، لا شكر إلا بأن تعرف أن الكل منه، فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفا إلا بالنعمة لا بالمنعم، فلا تفرح بالمنعم وحده بل بغيره، فبقدر نقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح، وبنقصان فرحك ينقص عملك، فهذا بيان هذا الأصل.
وأما بيان الأمر الثاني: فهو الحال المستمدة من أصل المعرفة، وهو الفرح بالنعم مع هيئة الخضوع والتواضع، وهذا أيضا في نفسه مرتبة من الشكر، لأنه فعل منبيء عن تعظيم المنعم، ولكن إنما يكون شكرا، إذا كان حاويا شرطه، وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالإنعام، وهذا أيضا أمر عظيم، وإمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة، ويعين على طاعة الله وطلب التقرب إليه، ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله، وتصده عن سبيله.
ولهذا قال الشبلي: " الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعم " ، وقال الخواص: " شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب، وشكر الخاصة على واردات القلوب ".
وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في لذة البطن والفرج، ومدركات الحواس من الألوان والطعوم والروائح، وخلا عن لذة القلب، لأن القلب لا يلتذ في حال الصحة والسلامة إلا بذكر الله ومعرفته ولقائه، وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات والإنحراف عن الصراط المستقيم، كمن يلتذ بأكل الطين، لإنحراف مزاجه عن نهج الإستقامة، وكمن يستبشع الحلاوات ويستحلي المرارات، لمرض عرض له، فهذا بيان الأمر الثاني.
وأما الأمر الثالث، فهو العمل بموجب العلم والحال على وجه يؤدي إلى الكمال من العلم، فالعلم هو الأول وهو الآخر، لأن هذه الأمور الثلاثة متعاكسة في الوجود الحدوثي والبقائي، أي الإبتدائي والرجوعي، وذلك لأن العلم بالنعمة والأنعام وكونهما من المنعم، لو لم يكن أصلا، لم يترتب عليه الفرح بالنعمة من حيث كونها من المنعم، وإذا لم يحصل الإنتعاش والفرح لم ينبعث منه العمل.
فإذا علمت هذا في الإبتداء، فاعلم عكسه في الرجوع، فأن فائدة العمل إصلاح القلب وصفاؤه عن المشوشات، واستقامته عن الإنحراف عن جادة الحق والصراط المستقيم، وتوسطه بين الأطراف الموجبة لهواها في أسفل درك الجحيم، وفائدة إصلاح القلب، أن ينكشف له جلال الله في ذاته وصفاته وأفعاله.
فعلم من ذلك، أن ضربا من العلوم بمنزلة عبيد وخدم، يراد لأجل الأعمال والأحوال، وهي العلوم العملية المتعلقة بكيفية الأعمال البدنية والقلبية، وضربا منه بمنزلة الملوك والسلاطين، وهي المستخدمة منه لغيرها، فأرفع العلوم " علوم المكاشفة " ، وهي معرفة الله سبحانه والإيمان به وبصفاته وأفعاله، وهي الغاية القصوى التي تطلب لذاتها وتنال بها السعادة العظمى، بل هي عين السعادة، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة، وإنما يشعر بها في الآخرة، فهي المعرفة الحرة التي لا قيد لها ولا يتقيد بغيرها.
وهي مخدومة الجميع، وغيرها عبيد وخدم لها، فإنها إنما تراد لأجلها، وكان تفاوتها بحسب نفعها بالإضافة إلى معرفة الله، فإن بعض المسائل والمعارف يفضي إلى بعض، إما بواسطة أو وسائط، حتى ينتهي إلى العلم الإلهي، فكلما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله أقل، كان أفضل.
وأما الأحوال، فيعنى بها أحوال القلب، من تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل القلب، حتى إذا اطهر وصفا، اتضحت له حقيقة الحق، فإذن فضائل الأحوال، بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتصفية لوحه، لأن يحصل له المعارف الإلهية، وهكذا تترتب الأعمال في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال ودفع الحجب والظلمات المانعة عن المكاشفات عنه.
فكما أن الحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب أفضل مما دونها لا محالة، فكذا الأعمال بحسب مراتبها في التأثير في صفاء القلب، والدفع لما يجذبه إلى زخارف الدنيا، والطاعة والمعصية عند المحققين بالعقائد الشرعية والقواعد الدينية، اسمان موضوعان لباعث صفاء القلب، وباعث كدورته وظلمته على درجاتها، إذ المعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب وقساوته، تكون كبيرة وصغيرة متفاوتة جدا، وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته وترقيقه، فدرجاتها بحسب تأثيراتها، وذلك يختلف باختلاف الأحوال.
فإن قلت: فقد حث الشرع على الأعمال وبالغ في ذكر فضلها.
قلنا: إن الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يلزم منه أن الدواء مراد لعينه، ولا على أنه أفضل من الصحة والشفاء الحاصلين به، ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب، ومرض القلب مما لا يشعر به غالبا، فالحث على الأعمال يوجب إقدام العباد عليها، ولكل عمل خاصية في القلب، فيترتب على فعل الحسنات وترك المحظورات، ما هو مقصود الشريعة من تصفية الباطن، الموجبة لسياق الخلق إلى جوار الله ومعرفته وقربه.
فهذه خلاصة ما ذكره بعض علماء الآخرة وحجج الإسلام، نقلناها ليتحقق معنى الشكر، ليتضح عند التدبر، أن العمدة في باب الشكر هو معرفة نعم الله تعالى، وكيفية صدور أفعاله سبحانه، على وجه يتقدس ويتعالى عن التكثير والتجسيم في البداية، وعن التعليل والتشريك في الغرض والنهاية، ويندرج فيه تقديس الذات عن شوائب الإمكان، وتوحيده عن مثالب التركيب والنقصان.
ولهذا أشار سبحانه بعد الحث على الشكر، إلى ما يتوقف عليه، بل يتحقق به، من العلم بأن أسباب النعم كلها منه، وكيفية صدور الأفعال عنه، على وجه لا يوجب كثرة وإمكانا، ولا يقدح في وحدانية ذاته، ولا تقدس صفاته بقوله:
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [يس:36]:
[36.36]
وقد نزه الله سبحانه ذاته وعظمها أولا، عن نسبة النقص في الذات، والشين في الصفات، والفتور والتقصير في الأفعال، وأوضح دليله ثانيا، بأنه هو الذي يستحق منتهى الحمد وغاية الشكر، فيكون الكلام كدعوى الشيء ببينته، أي تنزيها وتعظيما وبراءة عن الآفة والنقص والسوء، للذي خلق الأنواع والأشباه والأشكال والأمثال من كل نوع، أي كل طبيعة متكثرة الأفراد، كأنواع الكائنات من أصول ثلاثة، هي الموضوعات والقوابل.
لأن الأنواع المتكثرة الأفراد، الحاصلة بالقوة والإستعداد، الناشئة في سلسلة العائدات إلى الباري تعالى، المتعاكسة في الوجود لسلسلة الباديات منه: لا بد لوجودها من مادة تقبل تكثر نوعيتها وتعدد أفرادها.
وذلك لأن التكثر في ماله حد نوعي، وتأحد طبيعي، يحتمل بحسب الفرض، أن يكون اما بالماهية، أو لازمها، أو عارضها، والقسمان الأولان يوجبان انحصار النوع في شيء واحد، وهو خلاف المفروض، فتعين القسم الثالث، فلا بد من مادة قابلة، ينفعل عن الفاعل البريء عن التغير أحوالا وأغراضا: حادثة تحتاج في حدوثها وتجددها إلى قوة إنفعالية، وحركات استعدادية سفلية، تابعة لحركات ومحصلات فلكية لأغراض علوية، تلحق تلك الحركات إلى فاعل غير متناهي القدرة في التأثير، وقابل غير متناهي القوة في الإنفعال، فتنفتح أبواب نزول الرحمة والخيرات، وأسباب ورود النعمة والبركات، لقوله تعالى:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم:34] وقوله:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي
[الكهف:109] الآية.
وهي على كثرة أفرادها وأنواعها منحصرة في ثلاثة أجناس:
أولها: ما لا شعور لها، ولا نفس حساسة فيها في حد حقيقتها، وهي مما تنبت من الأرض، والمراد منها ما يندرج فيه المعادن والنباتات، إذ جميعها " مما يخرج من الأرض " وينشأ منها.
وثانيها: ما له نفس شاعرة مريدة للحركات إقداما وإحجاما، جلبا ودفعا، طلبا وهربا، شهوة وغضبا، ولا يخلو منه حيوان، إذ أدنى مراتب الحيوانية فيما له قوة اللمس، وهذه القوة موجودة لكل حيوان حتى الدود والخراطين التي تكون في الطين، فإنها إذا غرز فيها إبرة انقبضت للحرب، لا كالنبات فإنه يقطع فلا ينقبض لعدم احساسه بالقطع، ومادة تكون الحيوان وأصل خلقته إنما هي مواد فضلية منوية، موجودة في أبدان الحيوانات، حاصلة من فضلة الهضم الرابع، باستخدام النفوس الحيوانية للقوى النفسانية والطبيعية، كالجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة المحركة للغذاء في عروق البدن وأعماقه المخرجة للفضلة إلى أطراف البدن ومخارجها، مستقرة في قرار مكين بوسيلة حركات وانفعالات جماعية، واقعة من نفوس الآباء والأمهات على أغراض حيوانية، طلبا للشهوة واللذة التي هي الغاية القصوى لأفاعيلها، فأشار إلى ذلك بقوله: " ومن أنفسهم ".
وثالثها: ما له إدراكات كلية، وهي عقول مجردة وموجودات مستقلة في الوجود البقائي والكمال الأخروي، حاصلة من الأفكار والتأملات القدسية الواردة على العقول الهيولانية، وإليها أشار بقوله: { ومما لا يعلمون }.
واعلم أن جوهر الناطق الذي به تكون هوية الإنسان، ذو حالتين: حالة بها يكون نفسا، وحالة بها يكون عقلا، فهو بحسب الحالة الأولى داخل في النفوس الحيوانية، مبدؤه المزاج، ومنتهاه الموت بالإنحلال. وبحسب الحالة الثانية داخل في قسم الملائكة المقربين والعقول المقدسين، فمبدء تكونه من عالم الأمر ومرجعه إلى الله، فقوله: { ومما لا يعلمون }. إشارة إلى مادة تكون الأرواح الإنسية الكاملة في العلم والعمل، لأنها ليست من عالم الشهادة ومن مدركات الحواس، ولا مما يعلمه جميع الناس.
وأما كيفية تولدها من الأمور العقلية والأعمال المقربة لها من الكمال، المخرجة إياها من القوة إلى الفعل، فهي مما يطول شرحه، وليس لكل إنسان نصيب في فهمه، بل المغترون بظواهر العلوم، ممن يجحدون وجود عالم الأمر، وبلوغ الإنسان إليه بوسيلة العلوم والتفكرات، جهلا بأن هذا البلوغ هو الغرض الأعلى، والغاية القصوى في ارسال الأنبياء، وإنزال الكتب عليهم من السماء.
وتلخيص القول، ان الله تعالى، كما يصور الجنين بصورة الحيوانية، المرتبة على نطفة سقطت من الأب في الرحم بتدبير الأربعينات، فكذلك إذا سقطت من صلب نبوة الأنبياء، وولاية الأولياء نطف العقائد الإيمانية، في أرحام نفوس أهل الإيمان، بتربية تصرفات المعلمين والمشايخ، فالله تعالى يحولها من حال إلى حال، ويكملها بكمال بعد كمال، ويقلبها من مقام إلى مقام، حتى ينتهي إلى كمال التهيوء والإستواء، فيخلق بقدرته وهدايته في رحم النفوس، صورة وليد القدس، وطفل خلفاء الله في أرضه، على الوجه الذي يليق لتحمل الأمانة، حسب إرادة الله ومشيئته لقوله تعالى:
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء
[آل عمران:6] فيستحق الآن، أن ينفخ فيه الروح المختص بأنبيائه، وأوليائه، وهو الروح القدسي، الذي هو مجعول إلقائه وصورة كتابته، كقوله:
يلقي الروح من أمره على من يشآء من عباده
[غافر:15] وكقوله:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة:22].
ولهذه الفائدة العظيمة، والنعمة الجسيمة، أهبط الأرواح من أعلى عليين القرب إلى أسفل سافلين البعد كما قال:
اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى
[البقرة:38] فإذا نفخ فيه الروح القدسي، يكون آدم وقته، فيسجد له بالخلافة الإلهية الملائكة كلهم أجمعون، تفهم إنشاء الله وتنبه.
والمحجوب عن غير هذا العالم كالظاهريين، فسر ما لا يعلمون بأزواج من الحيوانات العفنية، والجمادات المعدنية، التي لم يجعل الله للبشر طريقا إلى العلم بها، لأنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم.
وفيه ما لا يخفى من التعسف، إذ سوق الآية يدل، على كون ما لا يعلمون، خلقا عظيما وصنعا بديعا، أشرف مما وجد في البشر في هذا العالم الأدنى، ونفي العلم به، والجهل بحقيقته، إنما هو بالنسبة إلى جمهور الناس وعامتهم، لا الخلص الكاملين من عباده، وكثيرا ما يستعمل نفي العلم، لأجل التعظيم بشيء والترغيب عليه، والمناقشة فيه، كما في قوله تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة:17].
وفي الحديث القدسي:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
ويحتمل أن يكون كلمة " من " في المواضع الثلاثة بيانية، فتكون إشارة إلى أعيان أجناس المخلوقات الثلاثة بذواتها، لا إلى موادها وقوابلها وموضوعاتها، إعلاما بكثرة ما خلق وأنواعها وأصنافها وأعدادها، الخارجة عن ما يحصره علم البشر، وعن ضبطه وإحصائه، دلالة على عظم قدرة باريها، واتساع مملكة خالقها ومنشئها جل ذكره، وما ذكرنا أولى، لكون الحكمة فيه أكثر، والفائدة فيه أشمل، ومعرفة الشيء بأسبابه وأصوله أوثق.
[36.37]
سلخ الشيء: إخراجه من لباسه، ومنه إخراج الحيوان من جلده، يقال: " سلخ جلد الشاة " إذا كشطه عنها وأزاله، ومنه: " سلخ الحية لخرشائها " أي: جلدها، ومنه قوله تعالى:
فانسلخ منها
[الأعراف:175] أي: فخرج منه خروج الشيء مما هو لابسه، فوقع ها هنا مستعارا لإزالة نور الشمس وكشفه بحركتها، عن سطوح الأجرام الأرضية الكثيفة، أو أعماق الأجرام البخارية اللطيفة بوجه، أو المائية المعتضدة، لأنها كلها مظلمة الذوات، قابلة للأنوار الكوكبية والعنصرية، التي أصلها مستفاد من ضوء الشمس، فإذا غربت عنها الشمس، رجعت إلى ظلمتها الأصلية.
والظلمة ليست صفة وجودية - كما توهمه الناس -، ولا أيضا عدم ملكة، أي عدم النور عما من شأنه قبول النور - كما زعمه المشاؤون - حتى يجوز أن يكون بعض الأجسام خاليا عن النور والظلمة جميعا، بل هي مطلق عدم النور من غير شرط وقيد، لأنا إذا أغمضنا بصرنا وفتحناه في هواء مظلم، لم نجد فرقا بين الحالين، ولم نجد إلا زوال الإنكشاف وعدم الظهور، ولذا قال: " فإذا هم مظلمون " أي: داخلون في الظلام عند انسلاخ النهار عن ليل الأجسام، وزوال ضوء الشمس عن أبصار الأنام.
واعلم أن الغرض المسوق إليه هذه الآية، هو الدلالة على وجوب الصانع البديع المبدع للإنسان ومعاده، حيث يظهر من تحقق الليل والنهار على وجه التكافؤ، وولوج أحدهما في الآخر، ودخول الزيادة والنقصان عليهما على ترتيب مخصوص، وكيفية وضع الارض، التي هي مقر الخلائق من النبات والحيوان في وسط الأفلاك، ويستعلم منها، ومن وضع مدار الشمس التي نورها سبب وجود الكائنات على هذا الوجه، عناية الباري سبحانه، وتربيته الموجودات على الوجه الأكمل الأوفق.
أولا يرى، أنه لو لم تكن الأرض كثيفة قابلة للنور والظلمة، لم يقف عندها ضوء النهار، ولو لم تكن أيضا في الوسط، لم يكن نظام الكائنات على هذا المنوال، بل لأثر فيها النور، إما بالإفراط أو بالتفريط، لقربها المفرط من الشمس، أو بعدها المفرط عنها.
وأيضا، لو لم تكن الشمس دوارة حول الأرض، لكانت دائمة التبريد أو التسخين، فلم تفعل ما فعلته من التعديل والنضج.
وأيضا، لو لم يكن النير الأعظم في وسط الأفلاك السبعة، كانت إما بعيدة عن وجه الأرض بعدا مفرطا، أو قريبة منها قربا مفرطا، ففسدت المركبات سيما الحيوانات المعتدلة الأمزجة، إما من غاية الحرارة والتحليل، أو من فرط البرودة والتجميد.
وأيضا، لو لم تكن حركاتها العرضية الشرقية على هذا الوجه من السرعة والسير الحثيث، لما فعلت اليوم والليلة بهذه المدة اليسيرة، ولما اختلف الملوان علينا في قدر أربع وعشرين ساعة، بل كانت مدة اليوم بليلة مقدار سنة، ففاتت المنافع والأغراض الضرورية المترتبة على تحقق الأيام والليالي، وتبادلهما على التتالي، ولو لم يكن مدار حركتها السريعة، مائلة عن مدار حركتها البطيئة، لبطلت الفصول الأربعة، ولكانت البقاع الواقعة تحت مدارها شديدة الحر، ولم يصل أثر نورها إلى ما بعدت عن مدارها.
ففي وجود الليل والنهار على هذا الوجه المشاهد من المدار، دلالة عظيمة على وجود الواهب البديع، وفيضان الخير الدائم منه على كل شريف ووضيع.
وفيها أيضا، إشارة إلى افتقار الماهيات المظلمة الذوات، المعراة في أنفسها عن نور الوجود المنبث على هياكلها إلى نور الأنوار، وشمس عالم الوجود ومنبع الخير والجود، لأن ذاته سبحانه، عين حقيقة النور الظاهر بذاته، المظهر لغيره، والماهيات الإمكانية خفية في ذواتها، مكتومة في أنفسها، والله تعالى مظهرها من مكمن الخفاء، وموجدها ومخرجها من سر العدم إلى فضاء الشهود وسعة الوجود، فبذاته النيرة ينور غسق الماهيات المظلمة الذوات، وينشر رحمته ونوره في أهوية الهويات، ويطلع شمس حقيقته من آفاق حقائق الممكنات، ويطرد العدم والظلمة عن اقليم المعاني والمعقولات، فلو سلخ من ليل ماهية الممكنات نهار الوجود الفائض منه عليها لحظة، لرجع الخلائق كلهم إلى عدمهم الأصلي وفنائهم الفطري، فإذا هم مظلمون، كما هو المشاهد من انسلاخ ضوء الشمس الحسي عن وجه الأجسام ودخولها في الظلام، إلا ان المستنيرات الحسية، إذا زال عنها النور الحسي عدمت عن الحس، وأما الممكنات المستنيرة بنور الوجود، فإنها إذا زال عنها فيض نور الحق فعدمت في أنفسها، وهلكت بحسب حقيقتها وزالت عن العقل والخارج جميعا، فوجود الليل والنهار، وتبدل الضوء بالظلمة، آية عظيمة دالة على وجود الحق المقيم للعالم، المديم للممكنات على الوجه الأتم الأدوم.
[36.38]
المستقر: هو الحد الموقت المقدر، الذي تنتهي إليه حركة الشمس في فلكها آخر الدورة، كأول الحمل في كل سنة، عند من جعله أول الدور، أو غيره عند آخرين، ويحتمل أن يراد به نقطة الأوج، التي فيها غاية بطء الحركة، وبعد الشمس عن الأبصار، وصغر جرمها عند الأنظار، أو مقابلها من نقطة الحضيض، أو يراد به نقطة المغرب، التي تتوجه إليها مدة حركتها فوق الأفق، حتى تبلغ إليها في مسيرها كل يوم، ثم ترجع عنها في مرائي عيوننا، أو نقطة مقابلها من المشرق، فإذا حركتها في أحد النصفين من مدارها اليومي، تخالف حركتها في النصف الآخر، بالقياس إلى موضع الناظرين، ولا بد فيما بين الحركتين المختلفتين من حد معين، ومستقر خاص تنتهي إليه وتبتديء منه، كمنزل المسافر المعهود لاستقراره.
ويحتمل أن يراد به الحد، الذي فيه غاية ارتفاعها في منتصف النهار، عند قطع نصف مدارها الصاعد، وهو حد بلوغها دائرة نصف النهار فوق الأفق، أو مقابله من نقطة تقاطع مدارها مع دائرة نصف الليل تحت الأفق.
ويحتمل أن يكون مستقرها أجلها الذي أقر الله عليه مقدار جريها وكمية سيرها، فاستقرت عليه من غير تغير عما فطر الله عليه، وهو مقدار السنة.
ويحتمل أيضا أن يراد منها، تشابه حركتها المختصة من غير رجوع وانعطاف، ولا اختلاف في السرعة والبطء، فكأنها على مستقر واحد، أو يراد ثبات وضعها من غير انحراف ولا استواء ولا سكون ولا هوى، إلى جانب السفل، ولا ارتفاع إلى جانب العلو، ليدل ثبات وضعها، وتشابه حركتها، على تدبير حافظ مديم، وتقدير عزيز عليم.
وفي قراءة ابن مسعود: " لا مستقر لها " أي: لا تزال تجري لا تستقر، لأن داعي حركتها ليس غرضا حيوانيا شهويا أو غضبيا، ولا التفاتا بالسافل وانتفاع الكائنات بها، بل تشوقا إلى بارئها، وتقربا إلى الله زلفى، وطلبا لما عنده من الخيرات الدائمة والأنوار الغير المتناهية.
وقرئ أيضا: " لا مستقر لها " على أن يكون " لا " بمعنى " ليس ذلك ".
وقيل: المستقر الوقت الذي يستقر فيه وينقطع جريها - وهو يوم القيامة - ذلك الجري والسير الحثيث، في طلب المبدء الأول على ذلك التقدير، والوجه الذي تكل في حسابه الدقيق دقائق الافهام، وتتحير في استنباطه العقول والأوهام، وتترتب عليه مع نفع الكائنات السافلات، ونشوء الحيوان والنبات على هذا النظام، غايته الأصلية، التي هي التشبه بالخير الأعظم، والتقرب إلى القيوم المنور بنور الوجود والكرم لحقائق العالم، المخرج لها عن ظلمة العدم، ما هو إلا بتقدير العزيز العليم، القاهر فوق عباده، والغالب على كل مقدور، والمحيط علما بوجوه الخير والنظام في كل معلوم، وكل ما كانت قدرته كاملة، وعلمه شاملا، فيجب أن تكون رحمته دائمة ونعمته باسطة، ويكون وجود الموجودات منه على غاية الخير في النظام، ونهاية الفضيلة والتمام والإستمرار والدوام.
[36.39]
" والقمر " قريء مرفوعا، إما على الإبتداء، أو عطفا على الليل، أي: ومن آياته القمر، وقريء منصوبا بفعل يفسره " قدرناه " ، ولا بد حينئذ من ارتكاب حذف مضاف، أي: قدرنا مسيره منازل، إذ لا معنى لتقدير نفس القمر منازل.
والمقر جرم كروي غير مشف، مركوز في سخن فلكه، يستضيء أكثر من جرمه من نور الشمس، لكثافته وصقالة سطحه، الواقع دائما في محاذاة الشمس من غير حجاب، إلا عند مقاطرته الحقيقية أو ما يقرب منها مع الشمس، فتحجبه الأرض عند ذلك عن مواجهة الشمس، ووقوع ضوئها عليه، فيرى مظلما منخسفا كله أو بعضه.
وإنما هدى الناس الحكم بأستنارته من الشمس، مشاهدة التشكلات النورية، والاختلافات الهلالية والبدرية، مع مشاهدة الخسوف له عند المقاطرة، فيعلم بضرب من الحدس، أن نوره مستفاد من الشمس.
" والمنازل " ثمانية وعشرون منزلا، وهي التي يقطعها القمر في كل شهر بحركته الخاصة لفلكه، فيرى كل ليلة نازلا بمحاذاة واحد منها، وهذه المنازل، هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب " الأنواء المستمطرة " ، لأن " النوء " سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما، وكل نجم منها هكذا إلى انقضاء السنة، ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما.
وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، فيقول: " امطرنا بنوء كذا " والجمع " أنواء " وهي: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوا، السماك، الغفر، الزباني، الأكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، الرشا.
وهذه الأسامي مشهورة فيما بين العرب، متداولة في محاوراتهم وعشقياتهم، مذكورة في قصصهم وأشعارهم، وبها يتعرفون أوقات الليل وأقسام الفصول، فإن سنينهم لما كانت مختلفة الأوائل، لكونها باعبتار الأهلة، حيث وقع أولها تارة في وسط الصيف - مثلا - وتارة في وسط الشتاء ، احتاجوا إلى ضبط السنة الشمسية ليشتغلوا في استقبال كل فصل بما يهمهم في ذلك الفصل، فوجدوا القمر يعود إلى وضعه الأول من الشمس، في قريب من ثلاثين يوما، فيسير في المنازل الثمانية والعشرين من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يختفي في أواخر الشهر، ليلتين أو ما يقاربها إذا نقص الشهر، فأسقطوا يومين من زمان الشهر، بقي ثمانية وعشرون، وهو زمان ما بين أول ظهوره بالعشيات في أوائل الشهر، وآخر رؤيته الغدوات في أواخره، كما دل عليه بقوله: { حتى عاد كالعرجون القديم } ، فقسموا أدوار الفلك على ذلك، فكان كل قسم من الأقسام الثمانية والعشرين، اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة، حاصلة من قسمة درجات تمام الدور - أعني ثلاثمائة وستين درجة -، على عدد الأقسام المذكورة فسموا كل قسم منزلا، وجعلوا لها علامات من الكواكب التي تقرب منطقة البروج، لانطباق مدار فلكه الكلي عليها، ولهذا أصاب كل برج من البروج الإثني عشر منزلان وثلث منزل.
ثم توصلوا إلى ضبط السنة الشمسية، بكيفية قطع الشمس لهذه المنازل، فوجدوها تقطع كل منزل في ثلاثة عشر يوما تقريبا، وذلك لأنهم رأوها تستر دائما ثلاثة منها، ما هي فيه بشعاعها، وما قبلها بضياء الفجر، وما بعدها بضياء الشفق، فوجدوا الزمان بين ظهوري كل منزلين ثلاثة عشر يوم بالتقريب، فأيام المنازل ثلاثمأة وأربعة وستون، لكن الشمس تعود إلى كل منزل بعد قطع جميعها في ثلاثمأة وخمسة وستين، وهي زائدة على أيام المنازل بيوم، فزادوا يوما في منزل " الغفر " ، وانضبطت لهم السنة الشمسية بهذا الوجه، وتيسر لهم الوصول إلى زمان الفصول وغيرها من الأوضاع والأصول.
واعلم أن القمر إذا أسرع في سيره، فقد يتخطى منزلا في الوسط، وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل واحد، وقد يرى في بعض الليالي بين منزلين، فما وقع في عبارة الكشاف وتبعه البيضاوي، من " أنه ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه " ليس له وجه.
وإنما شبه الله تعالى القمر، عندما كان في آخر منازله " بالعرجون " وهو " عود العذق " ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة، لدقته واستقواسه، ووصفه " بالقديم " ، زيادة في وجه الشبه، فإنه إذا قدم ازداد دقة، وانحناءا، واصفرارا، فشبه القمر به من وجوه ثلاثة.
وقريء " العرجون " بوزن " الفرجون " وهما لغتان كالبزيون والبزيون في السندس.
وفي الكشاف: " قيل: إن أقل مدة الموصوف بالقدم الحول، فلو أن رجلا، قال: " كل مملوك لي قديم فهو حر " أو كتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى له حول أو أكثر ".
وفيه، أن هذا المنقول غير معلوم الثبوت بحسب اللغة، لأن أمثاله أمور نسبية، فرب قديم بالقياس إلى أمر كان جديدا بالقياس إلى غيره، ثم على تقدير صحته، إنما كان إذا لم يكن هناك قرينة دالة على تعيين المدة تحقيقا أو تخمينا، كما في الأقارير والوصايا، ولهذا اختلف الفقهاء في تعيين ما يطلق عليه اسم " القديم " ، واحتاجوا إلى المرجحات، فلو كان أمرا ثابتا في اللغة، لما وقع منهم الاختلاف.
والظاهر أن فيما نحن فيه، ليس من هذا القبيل، كما دل عليه ما نقله صاحب مجمع البيان أبو علي الطبرسي رحمه الله، وهو قوله: " قيل: إن العذق يصير كذلك في كل ستة أشهر ".
ومن الشواهد المنقولة عن بعض ساداتنا وموالينا (صلوات الله عليهم أجمعين) ما رواه علي بن إبراهيم بإسناده، قال: دخل أبو سعيد المكاري - وكان واقفيا - على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال له: أبلغ من قدرك أنك تدعي ما ادعاه أبوك؟ فقال له أبو الحسن (عليه السلام): مالك اطفأ الله نورك، وأدخل الفقر بيتك، أما علمت أن الله عز وجل، أوحى إلى عمران: " إني واهب لك ذكرا يبريء الأكمه والأبرص " فوهب له مريم، ووهب لمريم عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عيسى، وعيسى ومريم شيء واحد، وأنا من أبي، وأبي مني، وأنا وأبي شيء واحد.
فقال له أبو سعيد: فأسألك عن مسألة. قال (عليه السلام): سل، ولا أخالك تقبل مني، ولست من غنمي ولكن هلمها.
قال: ما تقول في رجل قال عند موته: " كل مملوك لي قديم فهو حر لوجه الله "؟.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): ما ملكه لستة أشهر فهو قديم وهو حر.
قال: وكيف صار كذلك؟
قال: لأن الله تعالى يقول: { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } ، سماه " قديما " ويعود كذلك لستة أشهر. قال: فخرج أبو سعيد من عنده وذهب بصره، وكان يسأل على الأبواب حتى مات.
[36.40]
{ لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار }:
دبر الله سبحانه أمر العالم الجسماني بهاتين الآيتين - آية الليل وآية النهار -، كما دبر أمر العالم الروحاني بآيتين قدسيتين: آية النفس وآية العقل، وعظم الله أمرهما، ليعرف الإنسان كيفية تدبيره تعالى لباطن أحبائه وعباده الصالحين، بتوسط نشأتي النبوة والولاية في العالم الإنساني، فإن موجودات هذا العالم ومظاهره، مرائي يدرك بها أحوال العوالم المستعلية، فجعل لكل من هاتين الآيتين قانونا مضبوطا، وأجلا معلوما ومدة معينة، فالشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس حرية بأن توصف بالإدراك لتباطؤ سيرها عن سير القمر، والقمر جدير بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.
وقيل: لما باين الله بين فلكيهما ومجراهما، فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر، ما داما على هذه الصفة، ولا تجتمع ليلتان ليس بينهما يوم، كما لا يجتمع نهاران ليس بينهما ليل، وذلك لدورية حركات الشمس بلا رجوع، وإحاطة الفلك الذي مجراها جوانب الأرض فوق الأفق وتحته، وإلا لجاز أن يكون الطالع في كل يوم شمس أخرى لها نهار آخر وليل آخر، فيجتمع ليل أحدهما مع نهار الآخر، في وقت واحد لا يسبق عليه.
حكاية
روى العياشي في تفسيره، بالإسناد عن الأشعث بن حاتم، قال: كنت بخراسان، حيث اجتمع الرضا (عليه السلام)، والفضل بن سهل والمأمون، في الإيوان الحبري بمرو، فوضعت المائدة، فقال الرضا (عليه السلام): إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة، فقال: " النهار خلق قبل أم الليل، فما عندكم؟ ".
قال: فأداروا الكلام، فلم يكن عندهم في ذلك شيء، فقال الفضل للرضا (عليه السلام): " أخبرنا بها أصلحك الله ".
قال: " نعم، من القرآن أم من الحساب؟ " قال له الفضل: " من جهة الحساب ".
قال: قد علمت يا فضل، أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها، فزحل في الميزان، والمشتري في السرطان، والشمس في الحمل، والقمر في الثور، فذلك يدل على كينونة الشمس في الحمل، في العاشر من الطالع في وسط السماء، فالنهار خلق قبل الليل، وفي قول الله تعالى: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، أي قد سبقه النهار.
ثم في هذه الآية أسرار شريفة لا ينبغي كتمانها:
منها: أن الشمس لما كانت مثالا للعقل، وعلمه إجمالي بسيط، فعال للتفاصيل، وفياض للعلوم النفسانية المتكثرة، والقمر مثال للنفس، لكونه قابلا للنور الحسي الوارد عليه من النير الأعظم، كما أن النفس في ذاتها خالية عن أنوار العلوم، وإنما يفيض عليها من المبدء العقلي الفعال بإذن الله، حقائق الصور والكمالات، وعلومها تفصيلية متكثرة منتقلة من معقول إلى مفعول، فناسب الحركة البطيئة لها، الحاصلة من دورة واحدة في سنة واحدة تامة، جامعة لجميع أحوال الفصول الأربعة، المشتملة على حدوث أشخاص كل نوع من الأنواع الطبيعية كالإناس والخيول، وناسب القمر الحركة السريعة المشتملة على دورات كثيرة في كل سنة، وليس في دورة واحدة منها ما يجمع سائر الآجال والفصول، ولا تفي مدتها بأن تسع فيها نشوء ماله قدر وخطر من المولدات، حتى الخضروات والبقول.
فانظر كيف جعل الله الشمس والقمر خليفتين عظيمتين في تدبير الكائنات، وإنشاء النبات والحيوانات، في عالم الأشباح، كما جعلهما آيتين عظيمتين للعقل الكلي والنفس الكلية، اللذين كل منهما خليفة الله في عالم الأرواح.
وانظر كيف جعل أنورهما وأعظمهما آية النهار، وأصغرهما آية الليل، كما جعل العقل الأعظم، آية نهار عالم الجبروت والقدرة والتأثير، وهي أوائل الوجود، الفائضة حسب الإبداع من الحق المعبود، وجعل النفس الكلية آية مساء عالم الملكوت والتأثر والقبول، وهي ثواني الوجود التالية عن العقول، في قبول الرحمة والجود.
فقوله: " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " أي: لا تدرك آية النهار آية الليل، في وصف الحركة والانتقال، والتجدد من حال إلى حال، لكون القمر أقرب إلى عالم القوة والإنفعال، وضعف الأحوال، ومنبع الدثور والزوال، وهي الهيولى الأولى، الواقعة في مهوى جحيم النكال، وأسفل درك الخسة والوبال، بخلاف الشمس، فإنها أقرب إلى عالم الثبات والدوام والإتصال، ومعدن الشرف والبقاء والكمال، وأجدر بمجاورة القيوم المتعال، الغالب على أمره، والقاهر على كل شيء بالقدرة والجلال.
وقوله: " ولا الليل سابق النهار " أي: لا يسبق آية الليل آية النهار في وصف النورية والشروق، وقوة الوجود والظهور، فإن الشمس نيرة لذاتها، قاهرة للغسق بحسب فطرتها وجوهرها، تطرد الوحشة والظلمة عن هذا العالم، كما يطرد ذات الباري تعالى العدم والإمكان عن العالم الأعلى، والقمر يستعير النور من الشمس، ويكتسب ويستوهب الضياء والشروق عنها وبسببها، وكيف يسبق المستعير الكاسب المستفيض المستوهب لصفة كمالية على المبدء الفياض الواهب المعطي إياها؟
وفي هاتين الآيتين، أسرار عظيمة لمن تأمل وتدبر في إبداعهما، وتفكر في خلقهما وخلق عجائبهما، وعجائب غيرهما من أنوار الكواكب والأفلاك، وملكوت عالم السموات والأرض، إذ في كل منها آثار عجيبة، وأنظار دقيقة لمن نظر فيها وفي دورانها، وطلوعها وغروبها، واختلاف مراكزها ومناطقها وأقطابها، ومحاورها ومشارقها ومغاربها ودؤوبها في الحركة على الدوام، من غير فتور وتعب وقصور في الإنتظام، ولا ملال ولا كلال في الطلب والشوق إلى عبودية الله على الاتصال.
وعجائب السموات، مما لا مطمع في احصاء عشر عشير من جزء من أجزائها، وما من كوكب إلا والله حكم كثيرة في خلقه وإبداعه، ثم مقداره وشكله، ثم في سمكه وارتفاعه، ثم في نوره ولونه، ثم في وضعه من السماء وقربه وبعده من منطقة الفلك، وارتباطه بغيره من الكواكب، ثم في حركته على الدوام، وتشبهه بمبدئه العقلي الكامل على التمام، ثم استكماله في عبوديته وطاعته لمبدء الكل وقاهر الجميع ذي الجلال والإكرام، الذي يضمحل في جنب نوره نور كل عقل ونفس، وطبع وحس، وتبهر في إدراك عظمته عقول الملائكة والخلائق والأنام.
سر آخر
ومن الأسرار التي يدركها الإنسان بملاحظة النيرين، وسائر الكواكب، أنه كما أن نور القمر إنما هو عين نور الشمس، قد انعكس عن صفحة جرمه إلى أعين الناظرين لصقالته وكثافته، فيتوهم الإنسان أن له نورا غير نور الشمس، سواء كان مستقلا - كما توهمه العوام -، أو مستفادا منها كما أدركه الخواص بدقة علومهم البحثية، وكلاهما زيغ وغلط من الحس او العقل.
بل الحق الحقيق بالتصديق، ما انكشف لدى الأخصين من خواص الناس، المتخلصين عن ظلمات عالم الحواس، وأدناس القوى الوهمية المتعلقة بالأرجاس، المقدسين عن إغواء شياطين الوهم بالوسواس، وهو أن النور الحسي كالنور العقلي، حقيقة واحدة، لها مراتب متفاوتة في القوة والضعف، والقرب والبعد من ينبوعها وأصلها، ومرايا وقوابل متعددة مختلفة في اللطافة والكثافة، والصفاء والكدورة، والجلاء والخفاء، والإنقطاع والانطباع.
وهذا النور ذاتي للشمس بوجه، موجود لها بالذات، وعرضي لما سواها موجود لها بالتبع، بمعنى أنها مظاهر لشهوده، ومجالي لوجوده بواسطة العلاقة الوضعية، التي بها مع الشمس كالمقابلة أو ما في حكم المقابلة، لأن حقيقة النور حالة فيها أو صفة قائمة بها، وهكذا يكون حكم نور الوجود، لأنها حقيقة واحدة هي عين القيوم تعالى، ولها مظاهر مختلفة ومجالات متعددة تدرك بحسبها ومن وراء حجبها حقيقة الوجود، على ما تقتضيه طبيعة تلك المظاهر والحجب، من الماهيات والأعيان كل بحسبه، لا على ما عليه الحقيقة في نفسها، لامتناع الاكتناه لها والإحاطة بها
ولا يحيطون به علما
[طه:110]
وعنت الوجوه للحي القيوم
[طه:111].
سر آخر
وهو أن لكل من الموجودات مرتبة في ظهور الوجود بحسب الواقع، وله مرتبة فيه بحسب مدارك الناظرين، فقوة الوجود والظهور وضعفهما، كما يكونان للشيء بحسب الواقع، كذا يكونان له في ملاحظة الناظرين، لأن فرط الظهور قد يؤدي إلى الخفاء والقصور، بالقياس إلى المدارك الضعيفة، لقلة الاحتمال، وعروض الكلال، ولهذا تكون عند أكثر الناس الأجسام والمحسوسات. أقوى وجودا وأظهر انكشافا من العقول وكليات الحقائق، لقصورهم عن دركها، والحق أخفى عندهم من كل شيء، مع أنه تعالى أظهر الأشياء وأجلاها، وهذا لكونهم متوطنين في عالم الظلمات، فعيونهم العقلية وبصائرهم الباطنية، في إدراك العقليات والالهيات، كعيون الخفافيش وأبصار العمشان، بل العميان، في إدراك أنوار الحسيات، لقدرة الإشراق منه، وضعف الأحداق منهم.
فإذا علمت هذا، فالحال في نوري النيرين على ذلك المنوال، من كون أحدهما قوي الوجود والنورية بحسب نفسه في الواقع، ولكن لا تحتمله قوة الإبصار فيعرض له الاستتار، والآخر ضعيف الوجود والنورية في الواقع ولكن يقوى ظهوره عند الظلام، ويتجلى نوره في الليالي على أعين الأنام.
وهذان بعينهما مثالان للعقل والنفس، فإن أحدهما قوي الوجود والنورية العقلية في الخارج، ولكنه لا يختفي وجوده وظهوره عن الخلق، والآخر بعكس ما ذكر، بل هما مثالان للحق جل ذكره بالنسبة إلى النشأتين - نشأة الدنيا ونشأة الأخرى -، فإن الحق مستور والخلق مشهود في هذا العالم، بالقياس إلى مدارك ضعفاء العقول، المتوطنين في الظلمات كالخفافيش بعيونها الضعيفة الناقصة، وأما وجوده في الحقيقة وبحسب النشأة الآخرة، وبالقياس إلى العقول النيرة المقدسة، فمشهود جلي، ووجود الخلق مستور خفي، على عكس ما هو عند أهل الحجاب.
فالشمس والقمر آيتان دالتان على رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، فآية النهار مثال لوجود الحق في العقبى، وآية الليل مثال لوجوده في الأولى، وبوجه آخر، هما مثالان لوجود الحق والخلق، فإن أحدهما فياض النور على ذات الآخر، ولهذا يختفي عند سطوع نوره الأقهر، وجلاله الأظهر، ويظهر عند غيبته عن الحواس، وانبساط ظلمة الليل على أعين الناس، فقوله: { ولا الليل سابق النهار } من قبيل قوله:
أن يسبقونا سآء ما يحكمون
[العنكبوت:4].
سر آخر
كلما بعد القمر عن جرم الشمس، امتلأ نورا وشروقا، وزاد جلاءا وظهورا، وكلما قرب منها دق وضعف، واستقوس ظهره، وانحنت قامته، حتى إذا صار في غاية القرب عند المقارنة الحقيقية، انمحق نوره بالكلية، وزال ظهوره رأسا، فهو مثال السالك الواصل الفاني في مقام العندية والقرب، وهو أيضا مثال المحجوب الباقي مع النفس في مقام الغيرية والبعد، " فالليل " ، مثال هوية العبد وأنانيته، الموصوفة بظلمة الإمكان وسواد الحدثان، " والنهار " ، مثال الوجود الفائض عليها من شمس الحقيقة وقيوم الوجود، فالمحجوب المطرود عن باب الله، يتوهم أن لهويته وجودا مستقلا سابقا في شهوده وإدراكه، على وجود الحق، فللإشارة إلى نفي هذا الاحتمال عن بصائر أولي الأبصار، وقع قوله تعالى: { ولا الليل سابق النهار }.
سر آخر
إعلم - أيدك الله تعالى -، أن القمر عاشق صادق لملك الكواكب، وأمير السيارات، وقاهر الظلمات بالنور، حافظ الأزمنة والدهور، باسط الخيرات على الكائنات، دافع الشياطين ومردة الجن والغيلان بالأنوار الراجمات الزاجرات، منبع أنوار الحواس، وقامع وحشة الظلمة والوسواس، واهب البهجة والسرور، محيي أموات النائمات من النفوس في مراقد كالقبور، بنفخ صور الحرارة الغريزية في صباح النشور، مخرج حياة المواليد من القوة إلى الفعل، مثال الله الأعظم في هذا العالم، مظهر رايات العبودية ومظهر آيات العبودية.
ومن دأب العاشق المسكين، التوجه إلى جناب معشوقه، والتوصل إلى صحبة محبوبه، فلهذا صار القمر سريع السير، لا يمكث في منزل إلا يوم واحد غالبا، وربما يتخطى يوما واحدا منزلين، لشدة شوقه وسرعة سلوكه إلى جناب معشوقه، فيسير سيرا حثيثا، حتى يرتقي من حضيض البعد والإنفصال: إلى أوج القرب والإتصال، فإذا فنى عن ذاته عند الانمحاق، وتنور بنور محبوبه في شدة القرب والإشراق، قال بلسان حاله هذا المقال:
وكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
ثم إذا رجع إلى ذاته، وعاد إلى الصحو بعد المحو، وسافر من الجمع إلى التفرقة والتفصيل، وأخذ منصب الخلافة والرسالة في إرشاد السالكين للسبيل، وبعث لهداية المتوطنين في الظلمات، وتعليم النازلين في مراقد الجهالات، قاربت المقابلة الوضعية الحسية، فانعكست إلى ذاته الأشعة الشمسية، وأضاءت ذاته بأنوارها بعد ما كان مظلما، وأنار جوهره بأشعتها غب ما كان مغيما، قائلا: " من رآني رأى الشمس " وربما نطق:
إذا تغيبت بدا
وان بدا غيبني
فلما نظر إلى ذاته، فما رأى شيئا خاليا من أنوار الشمس وعطاياها، فقال عند ذلك في غاية سكره: " أنا الشمس " لولا أن ثبته الله بالقول الثابت، مثل ما قال أبو يزيد، والحلاج وغيرهما من أصحاب التجريد، وسكارى شراب المحبة والتوحيد، حيث كانوا أقمار سماء التفريد، ومرائي شمس الحقيقة والتمجيد، فلما أضاءت أراضي قلوبهم، وصفحات وجوههم بنور الرب، باحوا بالسر الخفي، إما لغاية السكر والوجد - فكلام المجانين يطوى ولا يروى -، وإما للإشتباه بين المرآة والمرئي، أولا ترى أن المرايا المتعددة، المختلفة في الصقالة والكدورة والإستقامة والإنحناء، إذا تجلت فيها صورة واحدة في حالة واحدة، ظهرت فيها بحسبها، ولو كان تجليها في المرايا حلولا أو قياما، لما أمكن حلول شيء واحد في محال متعددة مختلفة.
فاعلم وتثبت - أيها العارف السالك -، أن التجلي غير الحلول والاتحاد والاتصال، لئلا تقع في الضلال والكفر والاحتجاب والانفصال، فتدعي بوقاحتك الاتصاف بالكمال، وتسبق بنورك الموهوم، ووجودك المتهم المبهم الميشوم، نور المهيمن المتعال، ووجود المبدء الفعال، ولا تتوهمن أيها المحجوب لذاتك، وجودا، سوى ما أفاضه العزيز القهار، ولا تكونن بظهور هويتك الموهومة، ممحا لظهور نور الأنوار، كاشفا لنوره عن شهودك، كسف القمر نور الشمس عن عيون الناظرين من الأبصار، واتل قوله تعالى: { ولا الليل سابق النهار }.
{ وكل في فلك يسبحون } [40]:
" التنوين " في " كل ": عوض من المضاف إليه، و " الفلك " جرم كروي، مجرى الكواكب، سمي به تشبيها بفلكة المغزل في الاستدارة والحركة الدورية.
ذكر الشيخ أبو ريحان البيروني، في القانون المسعودي: " أن العرب والفرس، سلكوا في تسمية السماء مسلكا واحدا، فان العرب يسمون السماء " فلكا " تشبيها بفلك الدولاب، والفرس سموها بلغتهم " آسمان " ، تشبيها لها بالرحى، فإن " آس " هو " الرحى " بلسانهم و " مان " لفظ دال على التشبيه " انتهى.
والمعنى: وكل واحد منهم - أي من الكواكب بدليل ذكر بعضها وهو الشمس والقمر - في فلك من الافلاك يسبحون، ويتحركون من موضع إلى موضع، ومن وضع إلى وضع، بالعقل والتدبير والإرادة والاختيار، طلبا لعبادة الله وطاعته، كما يدل ضمير الجمع لذوي العقول، وليس في العقل انقباض عن كون الأفلاك وما فيها أحياء ناطقون، بل في الأنظار العقلية والقواعد الحكمية، ما يدل على كونهم عشاقا إلهيين، وعبادا راكعين ساجدين، طوافين على باب حضرة رب العالمين، رقاصين متواجدين في إدراك عظمة أول الأولين، هو الذي أدار رحاها، وبسم الله مجريها ومرساها.
وقد أطبق الطبيعيون بعلومهم الطبيعية، والآلهيون بفنون حكمتهم الالهية، على أن الأفلاك بأجمعها، حية ناطقة، عاشقة، مطيعة لمبدعها وخالقها ومنشئها ومحركها، إلا أن الطبيعيين تفطنوا به من جهة استدارة الحركات من الأجرام، التي يتحدد بها الجهات، قبل وجود الأجسام المستقيمة الحركات، حيث يحتاج دوامها إلى قوة روحانية عقلية، غير جسمانية متناهية الأفعال والإنفعالات، وأما الآلهيون فعلموا بذلك، من جهة كثرة العقول، وتعدد المباديء والغايات، ووجود الأشواق الكلية للعشاق الآلهية، وحكموا بأن غرضها من حركاتها، نيل التشبه بجنابه ومقربيه، والتقرب إلى سكان حضرته ومجاوريه.
والاشراقيون منهم، على أن حركاتها لورود الشوارق القدسية، وسنوح البوارق الآلهية عليها آنا فآنا، فكل إشراق يقتضي شوقا وحركة، وكل حركة تستدعي إشراقا وإفاضة، فتتصل الحركات حسب توارد الإشراقات، كما يقع لأهل المواجيد من أصحاب البدايات في السلوك والتوحيد. وأما الكمل فلهم مقام التمكين كالعقول المهيمين.
وذهب جم غفير من الحكماء، إلى أن كل كوكب، بل كل كرة أثيرية، له نفس على حدة، تحركه بحركة مستديرة على نفسه، وحكمه في الشعور والإرادة والشوق إلى مفارق عقلي، والتشبه بمعشوق قدسي، حكم الفلك الكلي، فحكموا أن لا ميت في عالم الأثير.
وبعضهم ذهب إلى أن النفس الفلكي، يتعلق أولا بالكوكب، لأنه بمنزلة القلب للحيوان الكبير، وبتوسطه تتعلق بالتداوير، والأفلاك الجزئية والمتممات، التي هي بمنزلة الأعضاء والأبعاض فيه.
والشيخ أبو علي بن سينا، مال إلى هذا القول ورجحه، وحكم به في النمط السادس من اشاراته حكما بتيا حيث قال: " ويلزمك على أصولك أن تعلم أن لكل جسم منها كان فلكا محيطا بالأرض، موافق المركز أو خارج المركز، أو فلكا غير محيط بالأرض، مثل التدويرات أو كوكبا، شيئا هو مبدء حركته المستديرة على نفسه، لا يتميز الفلك في ذلك عن الكواكب، وأن الكواكب تنتقل حول الأرض بسبب الأفلاك التي هي مركوزة فيها، لا بأن تنخرق لها أجرام الأفلاك.
ويزيدك في ذلك بصيرة، أنك إذا تأملت حال القمر في حركته المضاعفة وأوجيه، وحال عطارد في أوجيه، وأنه لو كان هناك انخراق يوجبه جريان الكواكب، أو جريان فلك تدوير ، لم يعرض ذلك كذلك " انتهى.
وليس الغرض من هذا النقل، الركون إلى أصوله التي قد بنى عليها إثبات هذا المرام، من امتناع الخرق على الفلكيات والالتئام، إذ لا استحالة عندنا على حسب أصولنا اليقينية الإيمانية، في بوار الأفلاك وفناء السموات، بحسب قدرة الله وإرادته، متى شاء، في أي وقت من الأوقات أراد، وإن كان الواقع ثبات أجرامها منذ خلقت، وعدم انخراقها والتئامها، كما دل عليه قوله تعالى:
وبنينا فوقكم سبعا شدادا
[النبأ:12] وقوله:
وجعلنا السمآء سقفا محفوظا
[الأنبياء:32].
بل الغرض من ذلك أمران: ترجيح القول بأن الكواكب - بل الأفلاك - كلها أحياء ناطقون مطيعون لله تعالى، كما دلت عليه هذه الآية، وقوله:
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
[يوسف:4] وكسر سورة المصرين من المتفلسفين على إنكاره، وتسكين صولة المشنعين من الفقهاء الظاهريين على من قال به.
وكفى في إثبات هذه الدعوى على المنكرين، ما وقع في بعض خطب إمام الأولياء وسيد الأوصياء أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله من الرب الأعلى، من قوله: " فملأهن أطوارا من ملائكته، فمنهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ".
ثم ما الباعث لجحود أهل الحجاب، إلا ما شاهدوا من هذه الحيوانات العصبية اللحمية المأنوسة لهم من الكلاب والذئاب، أنها ليست إلا ذوات رؤوس وأذناب، بل لم يتوهموا نفوسهم، إلا هياكل محسوسة متكثرة الأدوات، مركبة من القوى والآلات، ولم يعلموا أنها غير داخلة في مفهوم الحي الدراك، فمنعوا من إطلاق الحياة على ما في الأفلاك، ولو تأملوا قليلا، لعلموا أن نفوسهم التي بها أنانيتهم، ومنشأ جحودهم لهذا القول حية قائمة، غير ذات رأس وذنب، وشهوة وغضب، فتعسا لجماعة جوزوا الحياة والإدراك لمثل البعوضة والنملة فما دونها، ولم يسوغوا للأجرام الشريفة الإلهية والبدائع اللطيفة النورانية.
وقد عظم الله أمرها في كتابه الكريم، فكم من سورة تشتمل على تفخيم السماء والنجوم، وخصوصا النيرين وبعض السيارات، وكم من آية تشتمل على القسم بها وبمواقعها، كقوله :
والسمآء ذات البروج
[البروج:1]
والسمآء والطارق * ومآ أدراك ما الطارق * النجم الثاقب
[الطارق:1 - 3]
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها
[الشمس:1 - 2]
فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس
[التكوير:15 - 16]
والنجم إذا هوى
[النجم:1]
فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
[الواقعة:75 - 76].
ومن الشواهد على كرامة ذواتها: وشرافة جواهرها، وقوام صورها المعراة عن الأضداد والأنداد، ودوام نفوسها ومحركاتها بأمر المبدء الجواد، جعلها واسطة لأرزاق العباد، حيث قال:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون
[الذاريات:5] وكونها مرتقى الكلمات الطيبات، والدعوات المستجابات لقوله تعالى:
كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء
[إبراهيم:24].
ومن الشواهد مدحه وثناؤه تعالى، على المتفكرين والناظرين في بدائع فطرة السموات، فقال:
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا
[آل عمران:191] وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته "
أي تجاوزها من غير فكر وروية.
وتوبيخه المعرضين عنه فقال:
وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون
[الأنبياء:32] فأي نسبة لهذه المتغيرات من الأرض والبحار، إلى السموات التي هي صلاب شداد، محفوظات عن التغير إلى أن يبلغ الكتاب أجله، ولذلك سماه الله " محفوظا " كما مر، وقال أيضا:
أأنتم أشد خلقا أم السمآء بناها * رفع سمكها فسواها
[النازعات:27 - 28].
فانظر إلى هذه القدرة والملكوت، لترى بعد ذلك عجائب العزة والجبروت، ولا تظن أيها المغرور، بعلمك المشهور المكشوف عند الجمهور، الباعث لجاهك الحقير في عالم الزور، أن معنى النظر إلى ملكوت السماء، بأن تمد البصر إليه فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتعرفها، فإن البهائم والدواب تشاركك في هذا النظر، بل انظر إليها نظرا عقليا، وتفطن بها إلى ملكوتها، وتعبر من عالمها إلى عالم، آخر فيه خلائق روحانيون محبورون على مشاهدة تقديس الله، حائرون في شهود جماله وملاحظة جلاله، لا يلتفتون إلى ذواتهم المقدسة المتنورة بنور الحق، - فضلا عن التفاتهم إلى ما دونهم -.
فتحول أيها السالك بقلبك أولا في ميادينها وأقطارها، وأطل فكرك في كيفية حركاتها، وتفنن جهاتها ودورانها، ثم إلى جواهر محركاتها من نفوسها وعقولها ومعشوقاتها، إلى أن تقوم بين يدي عرش الرحمان، الذي هو معبود الكل والمعشوق الأول، فعند ذلك، ربما يرجى أن يفيض عليك من رحمته الخاصة لعباده الصالحين، ويهديك إلى صراطه المستقيم المنعم به عليهم - لا المنحرفين الضالين.
ولا يتيسر لك ذلك، إلا بمجاوزة الحد الأدنى، حتى تصل إلى الحد الأعلى على الترتيب، فأدنى شيء إليك نفسك وبدنك، ثم الأرض التي هي مقرك، ثم الهواء اللطيف المطيف بل المكتنف بك، ثم النبات والحيوان وما على وجه الأرض وملكوتها، ثم عجائب الجو من ملائكة السحاب، وزواجر الرعد والمطر، ومشيعي الثلج التي بيدها مثاقيل المياه، ومكائيل الأمطار - فتحتاج إلى العلوم المتعلقة بها من علم النبات والحيوان وعلم كائنات الجو - ثم السموات السبع بكواكبها وأشكالها وأوضاعها وحركاتها وأنظارها - فتحتاج إلى علم الهيئة والنجوم، وعلم السماء والعالم - ثم الكرسي والعرش الحافظان للزمان والمكان، المحددان للجهات والأبعاد والأحيان - فتحتاج إلى كليات علم الطبيعي وسمع الكيان - ثم الملائكة الذين هم حملة العرش وخزان السموات -، فتحتاج إلى علم الشريعة الحقة، ومعرفة عالم الملكوت والجبروت، وهو علم المباديء والغايات، وعلم المفارقات.
ثم منه تجاوز النظر إلى رب العرش والكرسي، والسموات والأرض، ورب الملائكة والروح، فتحتاج إلى علم التوحيد، الذي سلكه جميع الأنبياء من لدن آدم إلى الخاتم (عليه وعليهم السلام)، وإليه الغرض في بعثة نبينا (صلى الله عليه وآله)، هذه سبيله وسبيل من اتبعه إلى يوم القيامة، لقوله تعالى:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108].
فبينك أيها الغافل وبين ما خلقت لأجله، هذه المفاوز العظيمة، والأودية الشاقة، والعقبات الشاهقة، وأنت لم تفرغ من أدنى العقبات وهي معرفة نفسك، ثم تدعي بوقاحتك معرفة الرب وتقول: عرفته وعرفت قدرته وخلقه، ففي ماذا تفكر؟ وإلى ماذا تطلع؟.
وهذه غاية القصور، ونهاية الغرور، فارفع - قبل أن يستحكم فيك هذا الجهل المركب، ويترسخ هذا الغرور المعجب - رأسك إلى السماء، وانظر فيها نظر أولي العلم والدراية والحكمة - لا نظر البهائم إلى الدولاب والدعامة -، وفي كواكبها وفي دورانها على الدوام، ودؤوبها على الاستمرار في طاعة الله الملك العلام، من غير فتور في حركاتها، ومن غير تقصير في سعيها وسيرها: ولا تغيير في نسقها وسننها، بل تجري جميعا في منازل مرتبة بحساب مقدر، لا يزيد ولا ينقص، إلى أن يطويها الله طي السجل للكتب.
ثم انظر كيفية أشكالها، فبعضها على صورة الحمل والثور، وبعضها على صورة الأسد والعقرب، وبعضها على صورة البشر من الرامي والتوأمين، وما من صورة في الأرض إلا ولها مثال في السماء.
ثم انظر إلى عظمة مقدارها، وقوة قواها وشدة أنوارها، وكثرة آثارها وقد اتفق الناظرون في علم الهيئة، على أن الشمس مائة ونيف وستون أمثال الأرض، وفي الأخبار ما يدل على عظمة الكواكب التي نراها، أصغرها هي مثل الأرض ثمان مرات، وأكبرها تنتهي إلى قريب من مائة وعشرين مرة مثل الأرض وفي الأخبار: " أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمس مائة عام ".
وانظر كيف
" عبر جبرئيل (عليه السلام)، عن سرعة حركة الكواكب، إذ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هل زالت الشمس؟ فقال: لا، نعم. فقال: كيف تقول: لا، نعم؟ فقال: من حين قلت: " لا " إلى أن قلت: " نعم " سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام ".
فانظر إلى عظم شخصها، ثم خفة سيرها وسرعة طاعتها، ثم انظر إلى قدرة الفاطر الحكيم، كيف أثبت صورتها مع اتساع أكنافها في مرآة إحدى حدقتيك مع صغرها، حتى تجلس في الأرض وتفتح عينيك، بل أحدهما نحو السماء فترى جميعها، بل انظر إلى بارئها ومنشئها كيف أبدعها ثم أمسكها من غير عمد ترونها، ومن غير علاقة تتدلى بها، بل استحفظها بعينه التي لا تنام.
وكل العالم كبيت واحد والسماء سقفه، والعجب منك انك تطيل النظر إلى بيت فيه تصاوير وزخرفات، ثم لا تلتفت بقلبك إلى هذا البيت العظيم، وإلى أرضه وسقفه، وعجائب أمتعته، وغرائب حيواناته، وبدائع نقوشه وتصاويره، فما هذا البيت دون البيت الذي شغفت به، ومع هذا لا تنظر إليه نظر الشوق والمحبة، ليس لذلك سبب، إلا أنه بيت ربك، وهو الذي انفرذ ببنائه وتزيينه، وأنت معرض عن إلهك، ناس لذكره، لأنك ممن نسيت نفسك فأنساك الله ربك، لأن معرفة النفس تستلزم معرفة الرب، ونسيانها نسيانه.
ولهذه الملازمة الواقعة بين المعرفتين والنسيانين، قال الله تعالى:
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
[الحشر:19] وقال نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من عرف نفسه فقد عرف ربه "
، فاشتغلت ببطنك وفرجك، ليس لك هم إلا شهوتك أو حشمتك، فأنت غافل عن بيت الله تعالى، وعن ملائكته الذين هم عمار بيته المعمور وسكان سماواته، ولا تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتها ومن صنع الصانع فيه، ولا تعرف من ملائكة السموات إلا ما تعرفه النملة منك ومن سكان بيتك.
والفرق بينكما، أنه ليس للنملة طريق إلى هذه المعارف، وليست مكلفة بأداء شكر هذه النعم الجليلة، وأما أنت، فلك استعداد واقتدار على أن تجول في عالم الملكوت فتعرف عجائبها، شاكرا لنعم الله التي أعطاكها، عارفا بالله، حامدا له حق معرفته وحمده، بحسب ما أمكنك وتيسر منك، لا على ما هو حقه بحسبه، لأن ذلك شيء عجز عنه الواصفون، واعترف بالقصور الملائكة والأنبياء والمرسلون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
[36.41]
" الذرية " ، كما أطلق على الأولاد أطلق على الآباء لأنها مأخوذة من " ذرء الله " أي: خلقها، فيسمى الأولاد ذرية لأنهم خلقوا من الآباء، وسمي الآباء ذرية، لأن الأولاد خلقوا منهم، والمراد ها هنا الآباء إن كانت " الفلك " يعني به سفينة نوح (عليه السلام) لا المطلق، وإنما سميت بها، لأنها تدور في الماء كما تدور " الفلكة " في المغزل، ويدور الفلك بالنجوم، أي من جملة الآيات العظيمة للناس، الدالة على قدرة الله وحكمته وعنايته لهم، أنه حمل آبائهم وأجدادهم الذين هؤلاء من نسلهم في الفلك المشحون - يعني سفينة نوح -، المملوءة من الناس والدواب والوحش والطير، وسائر ما يحتاج إليه من فيها، فسلموا من الغرق، فانتشر منهم بشر كثير.
قيل: أن الحواريين قالوا لعيسى (عليه السلام): " لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها " فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال: " أتدرون من هذا؟ " قالوا: " الله ورسوله أعلم " فقال: " هذا كعب بن حام ".
فقال: فضرب الكثيب بعصاه فقال: " قم بإذن الله " ، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، فقال له عيسى (عليه السلام): " أهلكت؟ " قال: " لا مت وأنا شاب، ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت ".
قال: " حدثنا عن سفينة نوح " قال: " كان طولها ألف ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة للدواب والوحش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير " ثم قال: " عد بإذن الله كما كنت " فعاد ترابا.
وقيل: " الذرية " بمعنى النسل كما هو الأصل، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها، أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين، وهم في أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح.
وقيل: اسم الذرية تقع على النساء لأنهن مزارعها، وفي الحديث: " أنه نهى عن قتل الذراري " يعني النساء، وقيل: الذرية هم النساء والصبيان.
" والفلك " هي السفن الجارية في البحار، وخص الذرية بالحمل في الفلك لضعفهم، وعدم قوتهم كالرجال على المشي في السفر، فسخر الله لهم السفن للحمل في البحر، والإبل للمركوب في البر، فعلى هذا يكون معنى قوله:
{ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } [يس:42].
[36.42]
وخلقنا لهم، من مثل الفلك مطلقا ما يركبون من الإبل التي هي سفائن البر، وعلى الوجه الأول معناه: وخلقنا لهم من مثل ذلك الفلك المشحون وصورته من السفن والزوارق، التي عملت بعد سفينة نوح (عليه السلام)، ما يركبون فيها كما ركب فيه.
انظر كيف روعيت المناسبة اللفظية والمعنوية أولا بين لفظي " الفلك " ، و " الفلك " في الآيتين القرينتين.
أما المناسبة اللفظية فهي ظاهرة، أما المناسبة المعنوية فمنها ما نقلناه أولا في تفسير الفلك - بفتحتين -، ومنها ما ذكرناه ثانيا في تفسير الفلك - بالضم -.
ومنها: أنه لا بد لحركة كل منهما، بل لحركة كل من الثلاثة من محرك نفساني ذي إدراك ونطق، أما في الأخيرين فظاهر مشهور للعامة، وأما في الفلك بمعنى السماء، فهو أيضا مبين مكشوف للخاصة.
ومنها: أنه لا بد لحركة كل منها إلى محرك ملاصق هو طبيعة أو صورة، فيحتاج كل منهما إلى المحركين المباشرين للتحريك: أحدهما: المحرك المدبر المفارق - من نفس فلكي أو إنساني - وثانيهما: المحرك المباشر من طبيعة طائعة مجبورة، أو كارهة مقسورة.
ومنها: أنها تحتاج فوق المحركين المذكورين، إلى محرك آخر مباين مفارق، هو من رياح رحمة الله، وبوارق ألطافه الخاصة والعامة، العقلية والحسية، فإن النفوس الفلكية، كما برهن في الحكمة، لا تحرك الأفلاك حركة دائمة إلا بإمداد العقول القادسة، التي هي بوارق لطف الله، وجهات جوده ورحمته، بتجدد اشراقاتها، وتوارد رياح رحماتها، كما في قوله:
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال
[الرعد:12].
وكذا النفوس الإنسانية، التي هي عمال السفائن، لا تنفع دقائق حيلها وتدابيرها، في جري السفن من دون هبوب الرياح من رحمة الله المالكة لجهات حركاتها، كما قال:
هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته
[الأعراف:57] وكذا الحال في " فلكة المغزل " فاعرفه.
ثم انظر كيف تحققت المشابهة ثانيا، بين " الفلك المشحون " و " ما يركبون " ، أي: مراكب البحار، ومراكب البراري في الشكل والهيئة، ثم الخلقة والطبيعة، ثم القوائم والأعمدة، ثم الجري والحركة، ثم الآلات من الطناب والحبال والأعصاب وغير ذلك، مما يحتاج بيانه إلى التفصيل، ويؤدي ذكره إلى التطويل، فاقض العجب حامدا لله، مثنيا عليه في خلقه تعالى هذه المخلوقات العجيبة، والعظيمة المنافع، ثم في إخباره تعالى عنها، وعن منافعها بأوجز عبارة وأنور إشارة.
تلويح تأويلي
واعلم أصلحك الله، أن مثلك في هذه الدار، وبحر الهيولى المواجة بما فيها من الصور والآثار، مثل السفينة في البحر، المحكمة الآلة، المتقنة الأداة خلقها الله بحكمته، وسخرها لك بعنايته، وأجراها برياح عنايته، فإنها لا يتهيأ لها السير إلا بهبوب الرياح المحركة إياها إلى الجهات، فإذا سكنت الريح، وقفت السفينة عن ذلك الجري، ولا ينقص شيء من آلاتها إلا ذهاب الرياح، كذلك جسد الإنسان إذا فارقته النفس وانقطعت عنه الإفاضة، لا يتهيأ له تلك الحركة، ولم يعدم من الله ولا ذهب من أعضائه شيء، إلا ذهاب الريح وانقطاع الفيض عنه فقط.
ومعلوم بالبرهان، أن الريح ليس من جوهر السفينة ولا السفينة حاملة لها، بل هي محركة لها، ولا تقدر السفينة ومن عليها على استرجاع الريح بعد ذهابها، بحيلة يعملونها أو صنعة يصنعونها، كذلك الروح الذي من أمر ربه، ليس من جوهر الجسم ولا الجسم حامل للروح، ولا يقدر أحد من العالم على استرجاع النفس إذا فارقت.
فإذا تحقق ذلك، وثبت أن جسمك كسفينة معدة لهبوب الرياح بها، وورودها عليها، علم أن هلاك السفينة إذا هلكت من أحد الحالين:
إما بفساد جرمها، وانحلال تركيبها فيدخلها الماء، ويكون ذلك سببا لغرقها وهلاك من فيها إن غفلوا عنها، ولم يتداركوا بالإصلاح لها والتفقد لحالها، كهلاك البدن من غلبة أحد العناصر، ودخول الرطوبة المعفنة في البدن من بحر الهيولى، من تهاون صاحبه به وغفلته عنه، فلا تبقى الروح معه إذا فسد مزاجه، وتعطل نظامه، وتعوجت نسبته، وضعفت آلته، كما لا تبقى الريح للسفينة، والريح موجودة في هبوبها غير معدودة، كما أن الروح باقية ببقاء علتها في انعقاد معادها.
وأما القسم الثاني: فهو أن يكون هلاك السفينة بقوة الريح العاصفة الهابة الواردة منها على السفينة، ما ليس في وسع آلتها حملها ولا القدرة عليها، فتضعف الآلة وتكسر السفينة، فإن كان من فيها عارفين بعلم السباحة، اطمأنت نفوسهم، ورضوا بقضاء الله فيهم، ووعظ بعضهم بعضا، فنجوا عن ذلك من الهلاك في البحر.
كذلك حال الحكماء العارفين بأحوال المبدء والمعاد، والكاملين في العلم والعمل، الناجين من غرق بحر الهيولى، العالمين بعلم السباحة، بل الطيران في جو عالم القدس، بجناحي المعرفة والتقوى.
فإذا علمت هذا فنقول لك: " الذرية " في قوله تعالى:
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم
[يس:41] إشارة إلى الروح الإنسانية، و " الفلك المشحون " إشارة إلى البدن المخلوق كالسفينة، لأجل استكمال النفس وإخلاصها من هذه الدار، ومنزل الأشرار، لكونها في أول الفطرة أمرا ضعيفا شبيها بالعدم ، وعقلا هيولانيا يكون كمالاته بالقوة، فيحتاج كالطفل إلى ما يكون له بمنزلة المهد.
فكونه " مشحونا " ، إشارة إلى كون البدن مملوءا بالقوى المدركة والمحركة، التي هي بمنزلة سكان السفينة وعمالها، ولكل منهم عمل خاص، وآلة مخصوصة لجريان السفينة.
وقوله: { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } إشارة إلى البدن المثالي البرزخي، الذي تتعلق به النفس، وتركب عليه، ما دامت تكون في عالم البرزخ عند القبر قبل البعث، كما ذهب إليه الأقدمون من الحكماء، ومال إليه كثير من الإسلاميين، ودل عليه الكتاب والسنة، وأيدته الإمارات والشواهد، كانذارات النبوة والرؤيا الصالحة في حكايات الموتى وغيرهما، مما يؤدي بيانه إلى التطويل، وموعد ذكره مقام أليق من هذا في التنزيل.
تنبيه عرفاني
هذه الدنيا الفانية المهلكة، الداثرة الملهية، هي بعينها طريق إلى الآخرة في حق من عرفها، وعرف درجات العبد إلى الله سبحانه، إذ يعرف بنور البصيرة، أنها منزل من منازل السائرين إلى الله، وهي كجزيرة في البحر، أعد فيها العلف والزاد وأسباب السفر إلى المقصود، فمن تزود منها لآخرته، واقتصر منها على قدر الضرورة، فقد ربحت تجارته، وفاز بنعيم الآخرة، ومن عرج عليها، واشتغل بلذاتها، هلك وخسر خسرانا مبينا.
ومثال ذلك، الخلق فيها، كمثل قوم ركبوا في سفينة، فانتهت السفينة بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحوائج، وخوفهم المقام واستعجال السفينة فتفرقوا فيها، فبادر بعضهم، وقضى حاجته ورجع إلى السفينة، فوجد مكانا خاليا واسعا.
ووقف بعضهم ينظر في أزهار الجزيرة وأنوارها، وطرائف أحجارها وأصنافها، وعجائب غياضها ونغمات طيورها، فرجع إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا.
وأكب بعضهم على تلك الأصداف والأحجار، وأعجبه حسنها، فلم يسمح لنفسه إلا بأن يستصحب شيئا منها، فلم يجد في السفينة إلا مكانا ضيقا، وزادته الأحجار ثقلا على ثقل، وضيقا على ضيق، فلم يقدر على رميها، ولم يجد لها مكانا فحملها على عنقه وهو ينوء تحت أعبائه.
وولج بعضهم الغياض، ونسي المركب، واشتغل بالتفرج على تلك الأزهار، والتناول من تلك الثمار، وهو في تفرجه غير خال من خوف السباع ، والحذر من السقطات والظلمات، فلما رجع إلى السفينة لم يصادفها، فبقي على الساحل فافترسته السباع ومزقته الهوام.
فهذه صورة أهل الدنيا بالإضافة إلى الدنيا، وأصنافهم بالنسبة إلى العقبى، فتأملها واستخرج وجه الموازنة إن كنت ذا بصيرة، والمطابقة بين هذه الآية والآية الآتية من قوله:
{ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين } [يس:43-44]:
[36.43-44]
إن نشأ نهلكهم في البحر إذا حملناهم في السفن، ونغرقهم بتهييج الرياح القهرية والأمواج والإضطرابات، من آثار الغضب الإلهي، للفجار والأشرار، الذين لا صلاح لوجودهم في هذه الدار.
{ فلا صريخ لهم } أي لا مغيث لهم، أو لا إغاثة لهم، كما يقال: " أتاهم الصريخ ".
{ ولا هم ينقذون } أي لا ينجون من الموت والهلاك " إلا رحمة منا " بأن نخلصهم في الحال من الأهوال والغرق والموت إلى وقت الآجال، وموعد الإنفصال والإتصال، ونمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى النار، إن كانوا من الفسقة والفجار، لما في وجودهم مدة في الدنيا مصلحة لغيرهم في عمارة هذه الدار، أو نمتعهم متاعا حسنا إلى حين الأجل، لاستكمالهم مدة في العلم والعمل، وصرفهم نعم الله، فيهم في العبادة والطاعة برهة من الزمان شكرا لله عز وجل، لا في هواء النفس وشهواتها مع الحرس وطول الأمل، وقرأ الحسن: نغرقهم.
حكمة قرآنية تتجلى بها عناية رحمانية
اعلم أن الحكماء والمتكلمين اختلفوا في حكمة تعلق النفس بهذا البدن المركب من العناصر المختلفة، وركوبها في هذه السفينة الجارية في بحر الطبيعة بأمر الله مدة من الزمان، بمقتضى المشية، وتشعبوا القول فيها، وما بلغ إلينا من أكابر العلماء، واطلعنا بمطالعة زبر القدماء من الحكماء، وألهمنا الله بحسب متابعتنا طريقة الأنبياء والأولياء، هو أن لكل نفس من النفوس، مرتبة من الفعلية والكمال في الوجود، ونصيبها اللائق بحالها من خزائن الرحمة والجود، ولا يمكن الزيادة عليه حسب ما جبل عليه وفطر، بحسب هويتها الشخصية من جهة الفاطر الودود، وهو لسان عبادتها وتسبيحها للحق المعبود.
وسبب تعلقها بالبدن، استخراج ما في مكمن ذاتها، ومخزن هويتها من القوة إلى الفعل والتحصيل، واستكمال جوهرها بالكمال اللائق بحالها من تكرار الأفاعيل، وهذه المرتبة من الكمال الإضافي الوجودي، المختص بواحد واحد من أفراد النفوس، غير ما يمكن حصوله لطبيعة هذا النوع الإنساني، الذي هو الغاية القصوى في الكمال، ولطبقة خاصة من أفاضل أفراده المقربين من الحق المتعال، ولا ينافي أيضا ما ذكرناه، شقاوة أكثر الناس من الكفار والجهال وأصحاب الشمال، وحرمانهم وطردهم وبعدهم من رحمة الله، المختصة بحال الكاملين في المعرفة والحال، المقربين والسعداء المرتفعين عن مهابط الأرذال.
ولما سبق وثبت في صدر هذه الآية، أن " الذرية " إشارة إلى الأرواح الإنسانية، و " الفلك المشحون " إلى البدن المملوء من القوى والمشاعر الحسية، وقوله:
وخلقنا لهم من مثله ما يركبون
[يس:42] إشارة إلى البدن الأخروي البرزخي المثالي، فنقول:
إن النفوس المتعلقة بهذه الأبدان العنصرية، الراكبة على السفن الجارية في بحر عالم الطبيعة، منقسمة إلى أقسام ثلاثة:
المغرقون في بحر اللذات، المحترقون بنار الشهوات، فلا صريخ لهم من أبناء عالم القدس وسكان الجبروت، ولا هم ينقذون من قيود العالم الأدنى، ومنزل الأبالسة والشياطين، المردودين إلى أسفل السافلين، تحطمهم نيران جهنم الآخرة، التي يقال لها: هل امتلأت؟ فتقول هل من مزيد؟ ويعذبهم الله العذاب الأكبر، بما لديهم من مؤذيات الأخلاق الردية، ومؤلمات الملكات المردية.
ومنهم المرحومون لسلامة فطرتهم، وقصور معاصيهم، وضعف علائقهم الجسمانية، فهم من أهل الرحمة والشفاعة، سواء صفت نفوسهم عن الأخلاق الردية والأمراض النفسانية، أو كانوا ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وذلك لضعف عوائقهم، وقلة علائقهم، فنجوا من العذاب المهين، بشفاعة الشافعين.
ومنهم المقربون من أهل الكمال العلمي، فلهم الحظ الأوفى، والمنزلة العظمى، سواء بقوا في الحساب مدة، وتعوقوا في بعض المنازل بسبب تقصيرهم في بعض الأعمال، أو بشؤم اقترانهم بجنس سوء من القوى المتأبية عن طاعة الروح في حق الله، المتعصية في الأفعال.
فقوله: { إن نشأ نغرقهم } إشارة إلى القسم الأول يدل عليه مطابقة، وهم مثل الهالكين في البحر من التجار، والخاسرين في سعيهم وتجارتهم
فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
[البقرة:16] وهو أيضا إشارة إلى القسم الثاني، دال عليه التزاما، لأن رفع المركب من الشيئين، قد يكون برفع أحد جزئيه، فتحقق عند هذا قسم آخر، وهو الذي لا صريخ له من معلم أو مرشد يتعلم منه طريق الهداية، ويسلك به سبيل النجاة، إلا أنه ينقذ وينجو من الهلاك بمجرد سلامة ذاته عن الوزر والوبال، لقلة الأحمال والأثقال، وهو بازاء من ينجو من الغرق عند انكسار السفينة في البحر، بيد صفر من رأس المال والربح فيحتاج إلى صدقة الغير، وشفاعة من يشفع له من أهل الأرباح، ويسعى لأجله ما يتقوت به باطنه ويكسو به ظاهره.
وقوله: { إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين } إشارة إلى القسم الثالث من المقربين، حيث أمهلهم الله في الدنيا لأجل استكمالهم بالعلم والعمل، وسلوكهم سبيل الحق وعالم القدس في سفينة البدن، حتى فازوا بنعيم الأزل، ووصلوا إلى رضوان الله سبحانه، ومشاهدة صفاته وآياته قبل انقضاء الأجل، وهم بازاء الرابحين بتجارتهم في سفر البحر، والواصلين سالمين غانمين إلى منزلهم المعهود مع الأهل والولد، واجدين غاية سفرهم وسعيهم من المال الذي بذلوا فيه غاية المجهود.
[36.45]
وإذا قيل للمشركين والفجار، المنافقين المغترين بعقولهم القاصرة، وفطانتهم المبترة: اتقوا ما بين أيديكم من أمر الآخرة، فاعملوا لها، واحذروا عقوبتها وعذاب نيرانها، وما خلفكم من أمر الدنيا، فأحذروها ولا تغتروا بظاهر زينتها ورونقها وتزويقها، وذلك كما في قوله تعالى:
أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والأرض
[سبأ:9].
لعلكم ترحمون: أي لتكونوا على رجاء رحمة من الله، لأن من خاصية الإتقاء استجلاب الرحمة الالهية.
وعن مجاهد: اتقوا ما مضى من الذنوب، وما يأتي من الذنوب، أراد به: اتقوا عذاب الله بالتوبة للماضي، والإجتناب للمستقبل. وعن قتادة: اتقوا العذاب المنزل على الأمم الماضية، وما خلفكم من عذاب الآخرة.
وروى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب، وما خلفكم من العقوبة ". وسيأتي لك لهذا الوجه زيادة تحقيق وتطبيق.
وأما جواب " إذا " فهو محذوف ، دل عليه قوله:
إلا كانوا عنها معرضين
[يس:46] تقدير الكلام: إذا قيل لهم اتقوا أعرضوا عن التأمل في الحجج والبينات، وعن التفكر في أمور الآخرة، عن مأخذ العلوم اليقينية دون ظواهر النقول والحكايات.
مكاشفة قلبية
إعلم أن المعلوم المكشوف عند أهل الله، أن تكرار الأفاعيل والأعمال، يوجب حدوث الأخلاق والملكات، وهي مما سيظهر في النشأة الآخرة بصورة تناسبها، فما هو سبب إيلام الأشقياء في العقبى، من الحيات والعقارب والنيران والحميم، والزقوم، فهو بعينه موجود في سر قلبه، ومكنون باطنه، وإن لم تشاهده هذه العين وهذه الحواس، لأنها ينحصر إدراكها، بملاحظة الظواهر في صورها الدنيوية، وأما إدراكها بحقائقها وصورها الباطنية، فإنما تختص بذلك مشاعر باطنية ومدارك أخروية.
فما ورد الأمر باتقائه في قوله: { ما بين أيديكم وما خلفكم } ، يرجع إلى أمر واحد، تارة يكون في الدنيا بطور يناسب ظهوره في هذه النشأة، من صورة شهية ملذة تتلذذ به الحواس، ويشتاق له الوهم الحيواني والتخيل البهيمي، وتارة يكون في الآخرة، بطور يناسب ظهوره فيها، من صورة مؤلمة موحشة مؤذية: تتألم بها نفوس الأشقياء، ويستوحش منها كل من المشتغلين بها ها هنا، قائلا عند كشف الغطاء ورفع الحجاب وحلول العذاب:
يليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين
[الزخرف:38].
فبالحقيقة، ما يكون في الآخرة سبب إيلام المعذبين، ومنشأ عقوبة الفاسقين، هو معهم ها هنا، وفي إهابهم من العقائد الباطلة والنيات الفاسدة والأغراض النفسانية والدواعي الحيوانية، من حب المال والجاه والكبر، والفخر والحسد، والرعونة والمكر، والحيلة والرياء، وطلب الشهرة وميل الرياسة، وغير ذلك من الأمور، التي تندرج جميعها تحت حب الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة.
وهو " التنين " الذي يتولد منه للمحب للدنيا، المعرض عن طلب الآخرة، تسع وتسعون حية، لكل حية تسعة وتسعون رأسا، ينهشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم القيامة، كما ورد في الحديث في باب عذاب الكافر في قبره، فهذا التنين متمكن من صميم فؤاد الكفار والمنافقين، ينهشهم ويلحسهم، لكن لا يدركون إيلام لدغه ولسعه، وإيحاش هيئته وشكله، لسكر نفوسهم بمسكرات الدنيا، ونوم غفلتهم بمرقدات الهوى، واشتغالهم بمزخرفات هذه الأدنى.
وأهل الآخرة لصحة معرفتهم، وقوة بصيرتهم، يشاهدون إيلام هذه المشتهيات، ويتقون سمية هذه الحيات، المكنونة تحت نقوشها المزخرفات، المستورة عن إدراك المكبين على طلب اللذات، وتحصيل المألوفات الحسيات، المعرضين عما أعد الله لعباده الصالحين، من إدراك الحقائق المعقولات، والمعارف الالهيات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
تعليم فرقاني فيه سر رباني
هل تعلم ما النكتة في التعبير عن الصور الواقعة في الدنيا، التي هي دار المتغيرات والمتجددات، ودار الزراعة والحراسة، ب " ما خلفكم " ، وفي التعبير عن أمور الآخرة التي هي دار الباقيات الثابتات، ودار الثمرة والجزاء ب " ما بين أيديكم ".
النكتة فيه، أن نفس الإنسان من جملة المكونات لها، توجه طبيعي إلى عالم الآخرة وعالم البقاء، فهي منذ خلقت مجبولة بحسب الفطرة، على أن تسافر من منزل إلى منزل، وتتخطى من مرتبة إلى مرتبة، ومن حالة إلى حالة، ومن طور إلى طور، حتى تنتهي إلى آخر منزل من منازل الدنيا، وأول منزل من منازل الآخرة، ولكل إنسان، سواء كان من السعداء أو الأشقياء، درجة معينة في الآخرة، ومقام من الجنة والنار يقف عنده - هو آخر سيره ومنتهى سفره - إذ السلوك منقطع هناك، فالمنازل والدرجات هناك، بحسب مراتب السير ها هنا، كمالا ونقصا.
فإذا تقرر هذا فنقول: ما من منزل من المنازل الدنيوية، ونشأة من النشآت الصورية، إلا وتتجاوزه النفوس وتتخطاه، وتجعله خلف ظهرها، وما من منزل من منازل الآخرة، إلا وتستقبله نفس من النفوس، وتجعله نصب عينها، ويكون حاضرا بين يديها، فكل نفس من النفوس البشرية، لها جادة معلومة عند الله تسير فيها، بحسب ما يسر الله لها، فإن كانت بحسب ما تقرر في القضاء السابق، أنها من جملة الأشقياء، فهي أبدا تتقوى في تجوهرها، وتشتد في صورة طينتها، وتتطور في أطوار شقاوتها ودرجات بعدها من رحمة ربها، إلى أن بلغت غاية أشدها الباطني.
وإن كانت بحسب التقدير من السعداء، فلا تزال تتقوى روحها بالأغذية الروحانية العلمية، والأشربة العملية، فتترقى من طور إلى طور في سعادتها، وسلك سبيل سيرها، ودرجات قربها من الرحمان، إلى أن بلغت أشدها العقلي. ورشدها المعنوي، فإذا رفع الحجاب، وكشف الغطاء، كانت كل واحدة منها في مرتبتها التي بلغت إليها طرفة عين.
وإنما الغرض الأصلي من إرسال الرسل وإنزال الكتب، الاعلام والتأكيد لأهل الهداية، وزيادة التشويق والترغيب والإنذار والترهيب لهم، وإبلاغ الحجة على أهل الشقاوة والجحود، وزيادة الإبعاد والطرد والحجاب فيهم، فإن التعليم والإرشاد لا يوجب لأهل النقمة إلا غيا وضلالا، كما أن الماء الصافي، لا يزيد في الجيفة إلا تعفينا وإفسادا، كقوله تعالى:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين
[البقرة:26] وكقوله تعالى:
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة
[الأنفال:42].
فقوله: " اتقوا ": خطاب للمشركين أو لجميع المكلفين، إلا أن السامع لهذا الكلام، والمطيع له، من عرف نهاية حال الواغلين في الشهوات، ووخامة عاقبة المتلذذين بهذه المزخرفات، وأما الجهال والمنافقون، فشأنهم الإعراض عن سماع هذه الآيات، والإستهزاء بمن أتى بالحجج والبينات، كما دلت عليه هذه الآية وما يتلوها كناية وتصريحا.
وقوله: " ما بين أيديكم ": إشارة إلى الصورة المؤلمة التي يشاهدها الأشقياء في القبر والقيامة، وعند البعث والحشر، وعند الصراط والسياق إلى الجحيم.
وقوله: " وما خلفكم ": إشارة إلى الأعمال والأفعال القبيحة، المؤدية إلى الملكات والأخلاق الردية في عالم القلب الإنساني، المنكوس إلى السفل، المنتجة في عالم الآخرة إلى الصورة المؤلمة الموحشة المعذبة، من النيران والجحيم وسلاسلها وأغلالها، وحميمها وزقومها، وعقاربها وحياتها، ووهداتها.
[36.46]
أي ليست تأتيهم آية - أية آية كانت من الآيات - إلا ذهبوا عنها وأعرضوا عن النظر فيها، بمعنى أنه كلما ورد عليهم أو ألقي إليهم ما يدل على أحوال المبدء والمعاد، من برهان علمي، أو موعظة خطابية، أعرضوا عنها وأنكروها، ف " من " الأولى، للإستغراق، لكونها وقعت في سياق النفي. و " من " الثانية للتبعيض، وذلك سبيل من ضل عن الهدى، إما بكثرة حمقه واشتغاله بمشاغل هذا الأدنى، وإما باغتراره بفطانته البتراء، وجحوده بما سوى ما أدركه ببصيرته العمشاء، أو تلقفه من غيره تقليدا وتعصبا.
افتتاح كشفي
إعلم أن سبب إعراض الخلق عن استماع آيات الله وعن التفكر في أحوال الآخرة، أمور ثلاثة: أحدها: شوائب الطبيعة ومزيناتها. وثانيها: وساوس العادة وملهياتها. وثالثها: نواميس الأمثلة وتخيلاتها.
أما الأولى: فكدواعي الطبيعة وشهواتها، كشهوة البطن والفرج، ومحبة الأهل والمال والولد، وذلك قوله تعالى:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا
[آل عمران:14].
وأما الثانية: كدواعي النفس الحيوانية، وهي ألذ من اللذات الشهوية وأجل رتبة من أغراضها ومقاصدها، وهي لذة الجاه والعلو في عالم الأرض والرياسة على سائر الأقران، فرب إنسان سهل عليه ترك لذة الأكل والمباشرة، وجمع المال واليسار، إلا أنه لا يمكنه ترك العلو والافتخار، وهو آخر درجات الدنيا، الذي لا يمكن الوصول إلى نعيم الآخرة إلا بالتجاوز عنه، كما قال سبحانه:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين
[القصص:83].
وأما الثانية: فكتسويلات النفس الأمارة بالسوء وتزيينها الأعمال الغير الصالحة وترويجها الكواسد وتحسينها القبائج وإبرازها الباطل في صورة الحق بسبب تخيلات فاسدة وتوهمات باطلة توجب إعجاب المرء بنفسه، منشأها خباثة الباطن ودناءة الهمة وشيطنة الوهم، كما في قوله تعالى:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف:103 - 104].
وخصوصا ما يكون منشؤها هذه العلوم الرسمية، والفنون المشهورة، وهي أغلظها حجابا، وأعسرها دفعا، وأكثرها فسادا، وأقواها إعجابا للمرء بنفسه، واغترارا بحاله، فهي ما يقع لأكثر المتشبهين بالعلماء الحقيقيين، من اغترارهم بظنونهم الفاسدة وأفكارهم الكاسدة، وما سمعوا من ظواهر أحكام الشريعة، وتلقفوها من غير بصيرة ولا دراية، وضموا إليها دعاوي باطلة، ومقاصد شيطانية، ولمقلديهم المشغوفين بما عندهم، من سماع الحكايات والأمثال الواردة، وإجابتهم دعوة المضلين البطالين، الفارغي الهمم عن مقاصد الدين، ومتابعتهم استهواء الشياطين من الجن والإنس، والإغترار بخدعهم وتلبيساتهم المضلة المهلكة، وهم الذين حكى الله عنهم وعن تحسرهم وندامتهم في العاقبة بقوله:
ربنآ أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين
[فصلت:29].
فهذه الأمور الثلاثة، هي مجامع أسباب الغواية وأبواب مهالك الخلق، الباعثة لهم على الإعراض عن تدبر الآيات، لقوله:
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105] وهي المشار إليها في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله):
" ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ".
إلا أن أعظم هذه الآفات الحاجبة عن مكاشفة أسرار الدين، ومشاهدة أنوار الحق واليقين، الموجبة لإعراض الناس عن سماع الآيات والحكم، واستئناسهم بالدنيا، ونسيانهم أمر المعاد، هو حسبانهم أهل الظاهر وعلماء الدنيا - الراغبين في طلب اللذات الباطلة العاجلة - هداة الخلق ورؤساء المذهب، وأهل الاجتهاد في طلب الآخرة والمعاد، وهو أعظم فتنة في الدين، وأشد حجاب في سبيل المؤمنين، لأن هؤلاء قطاع طريق الحقيقة واليقين، وهل هذا إلا مثل أن يظن بالجاهل المريض طبيبا حاذقا، ويجعل السارق المفلس أمينا
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
[الروم:7] فلم تزدك متابعتهم والإقتداء بهم إلا الغواية والضلال، والتردي في مزابل الجهال
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون
[الأنعام:116].
إنذار قرآني
ثم ان نتيجة الإعراض عن سماع الآيات ونسيانها، وإنكار المعارف الموضحات، هي الظلمة في القلب، والضيق في الصدر، والوحشة في الطبع، والمعيشة الضنك في الآخرة، والعمى والحرمان في الحشر، وذلك لأن قوام النشأة الآخرة للإنسان، وبقاء حقيقته وروحه بالأغذية العلمية العرفانية، والأدوية الإيمانية اليقينية، فمن لا معرفة له لا حياة له في الآخرة، إذ الآخرة دار الحياة العلمية، لقوله تعالى:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت:64].
فبقدر نور المعرفة واليقين، وتذكر أحوال المبدء والمعاد، تزداد قوة حياة الإنسان في الآخرة لقوله تعالى:
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12] ومن لا نور له لا عيش له في الآخرة لقوله تعالى:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا
[طه:124] ومن لم يتذكر آيات الله أصلا، ولم يتدبر في أسرار الآخرة، يكون يوم الآخرة أعمى لقوله تعالى:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء:72] ولقوله تعالى:
ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
[طه:124 - 126].
وأي شقاوة أشد على الإنسان من أن يكون منسيا، والنسيان من قبله يوجب العدم والهلاك، لأن صدور كل شيء منه إنما يكون بعلمه، بل الصدور منه عين المعلومية والمذكورية عنده، كما أوضحه الحكماء في أنظارهم العلمية فافهم.
[36.47]
إذا قيل للمشتغلين بالجمع والإدخار، الناسين للآخرة والرجوع إلى الواحد القهار - لانهماكهم في طلب اللذات واقتناء الشهوات، واستغراقهم في أبحر الشواغل الماديات، ورقودهم في مراقد الجهالات-: أنفقوا شيئا مما رزقكم الله في طاعته، وأخرجوا ما أوجب عليكم إخراجه من أموالكم، احتج الذين كفروا، وستروا أنوار الحق بظلمات صفاتهم الردية، وأفعالهم القبيحة للذين آمنوا وشهدوا آيات معرفة الله بنور بصيرتهم، في منع حقوق الله، وإنكار فرائضه، وإبطال أحكامه، بأن قالوا: " كيف نطعم من يقدر الله على اطعامه، ولو شاء إطعامه أطعمه؟ فإذا لم يطعم دل على أنه لم يشأ ".
وهذه شبهة واهية ومغلطة داحضة، احتج بها طائفة من أهل الإباحة والضلال، وانحبل بمثل هذه الحبال كثير من العوام والجهال، وهي أوهن من بيت العنكبوت. ونظير هذا القول، قول من قال: " إن الله غني عن عبادتنا، وغني عن أن يستقرض منا، فأي معنى لقوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة:245] وغني عن المعاملة معنا، فما وجه قوله:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة:111]؟ ولو شاء إطعام المساكين لأطعم، ولا حاجة لنا إلى صرف أموالنا إليهم ".
فانظر كيف كانوا صادقين في دعواهم، وكيف هلكوا بصدقهم، كأكثر المتكلمين في مجالس العوام والحكام، الممارين مع أهل الحق في مسائل الحلال والحرام، بتمهيد بعض المقدمات المقبولة من النقليات، طلبا للشبهات، وإحلالا للمحرمات، فسبحان من إذا شاء أهلك بالصدق، وإذا شاء أسعد بالجهل ،
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
[البقرة:26].
وأما إفساد حجتهم، وحسم مادة شبهتهم فبأنه يجب أن يعلم كل أحد، أن الصفات والأخلاق، مواريث الأفعال والمعاملات، وأن الأعمال علاج لمرض القلوب، ودواء لما في الصدور، والأمراض الباطنية حاجبة عن وصول العبد إلى سعادة الأبد، وهي مما لا شعور بها لأكثر الخلق، إلا من ألهمه الله من الأنبياء والأولياء، ولكل مرض من أمراض القلوب دواء مخصوص، وله قدر معلوم عند الله، والطبيب إذا أثنى على الدواء، لم يدل ذلك على أن الدواء مراد لعينه، وعلى أن له فضيلة في نفسه، بل المطلوب الأصلي، هو الشفاء اللازم من تناول الدواء.
فهؤلاء الجهلة الناقصون، لما ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين، أو لأجل الله، ثم قالوا: " لا حظ لنا في المساكين، ولا حظ لله فينا وفي أموالنا وسعينا وجهادنا مع الأعداء، أنفقنا أو أمسكنا، بارزنا أم قعدنا " فقد هلكوا بهذه البضاعة من العقل والتمييز، وتمردوا عن طاعة الشريعة بهذه المرتبة الضعيفة من الفطانة، فضلوا عن السبيل، وانخرطوا في سلك الحمقى الأضاليل، ولم يعلموا أن المسكين الآخذ لما لك من المال، - وهو المهلك لك في المآل -، يزيل منك بواسطته مرض البخل المهلك، ويستخرج من قلبك حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، وحب الدينار الذي هو أس كل فاحشة، كالحجام، يستخرج الدم منك، ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك، فالحجام خادم لك، جالب نفع إليك، لأنك تخدمه وتجلب نفعا إليه، ولا يخرج الحجام عن كونه خادما، بأن يكون له غرض في أن يصبغ شيئا بالدم.
فهكذا الصدقات، وانفاق المساكين بالمال والطعام، مطهرة للبواطن ومزكية للقلوب عن خبائث الملكات، وأمراض الصفات المهلكات، ولهذه الدقيقة امتنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أخذها، وانتهى عن تناولها، كما نهى عن كسب الحجام، وسمى الصدقة " وسخ أبدان (أموال) الناس " ، وشرف أهل بيته (عليهم السلام) بالصيانة عنها.
فإذا ثبت عندك أن الأعمال مؤثرات في القلب، والقلب بحسب تأثيرها، يستعد لقبول الهداية ويستنير بنور المعرفة، فإذا انكشف لديك هذا القول الكلي، والقانون الأصلي، الساري حكمه في جميع الأوامر والنواهي الشرعية، وسائر التكاليف الدينية، فاعلم أن الجواب عن قول الكفار: " لو شاء الله اطعام المساكين لأطعمهم " ، أن التكليف من الله شيء غير المشية، وتكليف الله عباده بشيء من الطاعات، يضاهي إعلام الطبيب للمريض دواء خاصا يوجب استفراغا لمواده الفاسدة، كالحجامة وغيرها، مع استغنائه عن ذلك، فكذلك الباري يكلف عباده مع كونه غنيا عن العالمين.
ثم أن نفس التكليف بتناول الدواء من الطبيب، لا ينافي علمه بعدم تناول المريض له، فكذا تكليفه تعالى، لا ينافي تحقق علمه الأزلي، وقضائه السابق، بعدم قبول بعض العباد تكليفه، لما في ذلك من المصلحة الكلية والفائدة.
فإن رجعوا وقالوا: " فما الفائدة في التكليف في حق من لا يقبل ذلك من الكفار والفساق، حيث لم تتعلق المشية الأزلية بقبولهم، بل تعلقت بعدم قبولهم "؟.
قلنا: فائدته ترجع إلى من سواهم من المؤمنين المطيعين، الذين تؤثر فيهم الدعوة والتكليف، والإنذار والتخويف
إنمآ أنت منذر من يخشاها
[النازعات:45]. كما أن فائدة نور الشمس، تعود إلى أصحاب العيون الصحيحة.
وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى من ختم الله على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه والأعمش
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون
[التوبة:125] غاية ذلك، إلزام الحجة وإقامة البينة عليهم ظاهرا
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
[النساء:165]
ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا
[طه:134] وهو بالحقيقة، النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء.
وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضا لغاية نقصانهم، كما أن الأكمه ربما لا يصدق أولي الأبصار، ولا يعرف أن التقصير منه، وأن سائر الشرائط، من محاذاة المرئي، وظهور المبصر موجود، وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار، فكذلك يعرف قصور الناقصين عن البلوغ إلى قبول أحكام الدين، وإدراك معالم الحق واليقين، ذوو البصائر السليمة عن غشاوة الإمتراء، وآفة القصور والعمى.
تتمة
اختلف أهل التفسير في هؤلاء الذين قالوا ذلك ، فعن الحسن: أن هؤلاء هم اليهود حين أمروا باطعام الفقراء.
وعن مقاتل: إنهم مشركو قريش، قال لهم فقراء أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أطعمونا من أموالكم ما زعمتم أنه لله " يعنون به قوله تعالى:
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم
[الأنعام:136] فحرموهم، وقالوا: (لو شاء الله لأطعمكم).
وقيل، هم الزنادقة كانوا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله بمشيته وإرادته فيقولون: " لو شاء الله لأغنى فلانا " ، و " لو شاء الله لأعز فلانا " ، و " لو شاء لكان كذا " ، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله، معناه: أنطعم المقول فيه هذا القول منكم؟ وذلك لأنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله، لأنهم كانوا معطلة غير قائلين بالصانع.
وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: " لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن "؟.
وقيل: كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادرا على اطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك.
وقيل: كانوا يقولون: " إن كان هو الرزاق فلا فائدة في التماس الرزق منا وقد رزقنا وحرمكم فلم تأمرون بإعطاء من حرمه الله "؟.
وقوله: { إن أنتم إلا في ضلال مبين } ، يحتمل أن يكون قول الله للكفار، ويحتمل أن يكون حكاية قول المؤمنين لهم، ويحتمل أن يكون من تتمة جوابهم للمؤمنين.
[36.48]
كلمة " متى " ها هنا للاستعلام عن وقت قيام الساعة، وهي في عرف أهل الحكمة، سؤال عن نسبة الشيء إلى زمانه المعين أو حد منه، والزمان كالمكان من موجودات هذا العالم، لأنه كما ثبت في مقامه، مقدار الحركة السريعة اليومية يتحدد به سائر الحركات المستديرة والمستقيمة، وما يطابقها من الأزمنة والزمانيات، كما أن بموضوعه يتحدد سائر الأبعاد والأمكنة والمكانيات، والقيامة خارجة عن هذا العالم لأنها واقعة في مكمن حجب السماوات، فزمانها ومكانها نوعان آخران لا يمكن السؤال عنهما ب " متى " و " أين " ، كما لا يمكن السؤال ب " ما هو " عما لا ماهية له، كالواحد الحقيقي والمقدس القيومي، بل أمور القيامة كلها أسرار على العلم الإنساني بحسب طور هذه النشأة الدنيوية.
فلا يتصور أن يحيط بها أحد ما دام في الدنيا، ولم يتخلص عن قيد الوهم وأسر الطبيعة وزمانة الهوى، ولكل موطن ونشأة نوع خاص من الشعور والإدراك، كما أن لكل محسوس من المحسوسات حاسة مخصوصة، فعلم المبصرات عند البصر، وعلم المسموعات عند السمع، فكذا علم الساعة مردود إلى من كان عنده تعالى وحشر في حضرته، وليس للكفار قوة إدراك الساعة، كما ليس للأكمه قوة إدراك المبصرات.
فقولهم: " متى هذا الوعد "؟ سؤال عما يستحيل الجواب عنه على موجبه، كما أن سؤال فرعون: " وما رب العالمين " ، سؤال عما يستحيل الجواب عنه على موجبه، فإن أمر الساعة إذا كان كلمح البصر أو هو أقرب، وكان " متى " سؤالا عن الزمان استحال جواب السائل عنه، وهو كقول الأكمه إذا وصف له المبصرات المتلونة، فقال: " كيف تشم هذه المبصرات "؟ أو " كيف تلمس هذه المتلونات "؟ والجواب الحق معه: أن علم المبصرات يوجد عند البصر، لا يمكن طلبها بالذوق واللمس.
فالجواب الحق مع الكفار إذا قالوا: { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }؟ أن يقال لهم: " العلم بذلك عند الله " ، كما وقع في القرآن من قوله تعالى:
عنده علم الساعة
[لقمان:34] فمن يرجع إلى الله عز وجل، وحشر إليه وكان عنده، فلا بد وأن يعرف حينئذ حقيقة الساعة بالضرورة، لأنه عند الله، وعنده علم الساعة، فإذن بالضرورة، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول " الله " ، كما روي في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فثبت وتحقق تحقيقا لا شك فيه، أن علم الساعة مردود إلى الله تعالى كما قال سبحانه:
إليه يرد علم الساعة
[فصلت:47]. وسؤال الكفرة والجهال عن ذلك نوع من الضلال والإضلال، وليس لك أيها المؤمن بالله واليوم الآخر أن تعلم من أسرار القيامة وأغوارها، ما دمت في هذه النشأة البشرية، إلا أن إيمانك بالغيب وتصديقك بما جاء في الشريعة الحقة، تصديق الأكمه بوجود الألوان من جهة الخبر والإيمان بالغيب، لا من جهة الإدراك واليقين.
وإياك أن تستشرف الإطلاع عليها من غير جهة الخبر والإيمان بالغيب، بأن تريد أن تعلمها بعقلك المزخرف ودليلك المزيف، فتكون كالأكمه الذي يريد أن يعلم الألوان بذوقه أو شمه أو سمعه أو لمسه، وهذا عين الجحود والإنكار لوجود الألوان، فكذلك الطمع في إدراك أحوال الآخرة بعلم الاستدلال وصنعة الكلام، عين الجحود والإنكار لها، فمن أراد أن يعرف القيامة بفطانته المعروفة وعقله المشهور، فقد جحدها وهو لا يشعر.
فتأمل أولا في حال الأكمه كيف ينبغي له أن يؤمن بالألوان من طريق الغيب، بأن يقطع نظره عن الحواس الأربع ومدركاتها، وعزلها عن أحكامها، حتى يمكن ويتصور له أن يؤمن بالغيب من غير تشبيه ولا تعطيل، ثم طالب بعد ذلك نفسك بمثل هذا الإيمان حتى تكون مؤمنا بالغيب، فتستعد لأن تصير موقنا بالآخرة، كما قال سبحانه:
يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة
[البقرة:3] - إلى أن قال -:
وبالآخرة هم يوقنون
[البقرة:4] فكانوا أولا مؤمنين بالآخرة إيمانا بالغيب، وهذه المرتبة في الإيمان بالله واليوم الآخر، تتأدى بالمؤمن إلى العمل بالأركان من الصلاة والزكاة وغيرهما، والأعمال الصالحة بصدق النية وصفاء الطوية، ينجر به إلى مرتبة الإيقان لقوله تعالى:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر:99].
اشارة
نسبة قيام الساعة إلى أزمنة الدنيا، ليست كنسبة طرف الزمان إلى الزمان، ولا كنسبة شطر لاحق إلى سابقه - كالجمعة مثلا إلى الخميس وما قبلها - فان الدار الآخرة ليست منسلكة مع هذه الدار في سلك واحد، وكذا ليس حيز الآخرة الى احياز الدنيا كنسبة فوق هذا العالم إلى ما هو دونه، لأن كلا منهما عالم آخر، والآخرة عالم تام برأسه لا يعوزه شيء من أشياء هذا العالم، ولا يتصل بغيره، ولا هو واقع في جهة من جهات هذا العالم بحسب الزمان والمكان، بل نسبة متاها إلى متى هذه الدنيا، أشبه بنسبة محيط الدائرة إلى مركزها من نسبة بعض الخط إلى بعض آخر أو حد منه إلى غيره، وكذلك الحال في قياس أينها إلى أيون هذا العالم.
لأن القيامة لو كانت واقعة في آخر شطر من أجزاء هذا الزمان الدنياوي، أو في أبعد شطر من أبعاض هذا المكان الحسي - كما زعمه أهل الظن والتخمين -، لكان بعيدا غاية البعد من النفوس الإنسانية وهو باطل، لأن الله تعالى وصفها بالقرب منا بحسب الزمان والمكان جميعا.
أما الأول: فلقوله تعالى:
اقتربت الساعة
[القمر:1]. وأما الثاني: فلقوله تعالى:
وأخذوا من مكان قريب
[سبأ:51]
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا
[المعارج:6 - 7] فكان نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، يشاهد خازن الجنة ويتناول بيده من ثمارها وفواكهها، وكذلك علماء أمته، وهم المؤمنون حقا بأحوال الآخرة، كانوا مشاهدين للقيامة، وهي كانت قائمة في حقهم، لأنهم كانوا محشورين في دنياهم إلى الحق، راجعين إلى الله.
" ولم يحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكون حارثة " مؤمنا حقيقيا " ما لم يكن مشاهدا يوم الآخرة، ناظرا إلى أحوالها، حيث قال: " أصبحت مؤمنا حقا " قال (صلى الله عليه وآله وسلم) " " لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك "؟ قال: " رأيت أهل الجنة يتزاورون، ورأيت أهل النار يتعاوون ورأيت عرش ربي بارزا " فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أصبت فالزم " ".
وهذا الحديث متفق عليه بين الفريقين، وإن اختلف في صورة الألفاظ، فثبت أن قيام الساعة قريب عند أهل الحق، وأما أهل الظن والتخمين، وأرباب المجازفة في الكلام من غير خوض في المعارف، وتثبت في الإيقان، فهم الذين يزعمون يوم القيامة بعيدا عن الإنسان بحسب الزمان
ومآ أظن الساعة قائمة
[الكهف:36] بحسب المكان
ويقذفون بالغيب من مكان بعيد
[سبأ:53].
[36.49]
قرء ابن كثير وورش ومحمد بن حبيب عن الأعشى، وروح وزيد عن يعقوب " يخصمون " بادغام التاء في الصاد مع فتح الخاء، وقرء أبو عمرو بفتح الخاء أيضا إلا أنه يشمه الفتح ولا يشبعه، وقرء أهل المدينة غير ورش " يخصمون " ساكنة الخاء مشددة الصاد، وقرء حمزة " يخصمون " ساكنة الخاء من خصمه، وقريء " يخصمون " مكسورة الصاد " ويخصمون " اتباع الياء الخاء في الكسر.
كشف إلهامي
قد أشرنا في الآية السابقة أن سر القيامة من الأسرار العظيمة التي لا يمكن كشفها للمحبوسين في حبس هذا الزمان والمكان، والمسجونين بسجن هذا العالم مع هذه الأقران، ولم يجز للأنبياء (عليهم السلام) كشفها للناس ما داموا في قبور هذه الحواس
يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاهآ * إنمآ أنت منذر من يخشاها
[النازعات:42 - 45]، يعني لا رخصة لهم في كشف حقيقتها، بل لهم أن ينذروا بأهوالها وشدائدها وبعض حالاتها وأشراطها ومقدماتها.
ولهذا ذكر الله تعالى ها هنا شيئا من أشراطها ومقدماتها، ونبه على أنهم - أي المحجوبين بقيود هذه النشأة الفانية - ما يمكنهم أن ينظروا من حالاتها إلا صيحة واحدة - أي نفخة واحدة - وهي النفخة الأولى التي تأتيهم بغتة وتفنيهم كلهم وهم يخصمون، يشتغلون بخصوماتهم في شهواتهم ومجادلاتهم في معاملاتهم ومتاجرهم، يتبايعون في الأسواق ويتنافسون بالأموال والأقوال، ويتفاخرون بالأنساب والألقاب، وسائر ما يتشاجرون فيه ويتخاصمون به.
وبالجملة، تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم كما ورد في الحديث:
" تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه، فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يرفع أكلته إلى فيه، فما تصل إلى فيه حتى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم ".
وقيل: وهم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا؟.
ومعنى يخصمون: يخصم بعضهم بعضا.
وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون.
رمز عرشي
" الصيحة ": ضرب من النفخة، وهي النفخة التي يصحبها شدة وهلاك وعذاب، واللفظ كما مر مستعار لتأثير الفاعل الحق في إنشاء الصور، وإفادة الأرواح، إما في هذا العالم بوساطة ملك روحاني أو روح بشري، أو في عالم الآخرة تشبيها له بالنفخ في مادة النار - كالفحم وما أشبهه - الموجب تارة لاشتعال النار الكامنة، أو حصولها في الفحم بسبب مجاورته لنار أخرى، وتارة لخمودها.
وذلك أن النفوس الحيوانية الإنسانية بمنزلة نيران أو أنوار ملكوتية حاصلة في مواد الأبدان، ولطائف أعضائه الدخانية والبخارية، المجاورة بسبب صفائها ولطافتها لنار عالم الملكوت، حادثة فيها عند حصول الاستعداد التام والتسوية بالنفخ الإلهي، كما في قوله تعالى:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29] أو بواسطة عبده المقرب كما في قوله تعالى:
فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله
[آل عمران:49].
وكما أن المادة الدخانية المجاورة للنار الحسية، إنما تصير نارا مشتعلة بواسطة نفخات متعددة، بعضها يحصل لها أصل الحرارة والكون، وبعضها شدة التسخين والنارية، وبعضها التنوير والإضاءة، فكذلك خلق الله في مادة الإنسان صورا ثلاثا بالنفخات الثلاث.
فبالنفخة الأولى تتولد قوة النماء والتغذي، وبالثانية تتولد قوة الحس والحركة، وبالثالثة تتولد قوة النطق وإدراك المعقول.
ففي الأولى كان الإنسان بمنزلة النائم، وفي الثانية بمنزلة (حيران) ذي هيمان، كمن تنبه من نوم شديد، وفي الثالثة ينبعث من نوم الغفلة ويستيقظ من رقدة الجهالة قائما منتصبا لطلب العلوم ومعرفة الأحوال، والتفطن بحال من أوجده وبعثه من نومه الجمادي، وسنته النباتية، وحيرته الحيوانية، شاكرا لنعمته تعالى، عارفا بحقه، طالبا لخدمته، سالكا سبيل قربه وجواره، منخرطا في سلك عباده الصالحين.
وإنما يستكمل بعد الإنتباه بكمال بعد كمال، من ساعده التقدير ووافقه التدبير بإضافات ونفخات أخرى رحمانية، وإلهامات وإعلامات تترى سبحانية، يرتقي بكل منها من عالم إلى عالم، ومن نشأة إلى نشأة أخرى، حتى بلغ الغاية القصوى، ويرجع إلى ربه الأعلى، بعد استنارته بنوره القدسي، رجوع النار الكامن في الحطب بعد حصولها بالنفخات، واشتعالها إلى نار عظيمة هي فوق هذا العالم الأدنى.
فالعالم بمنزلة شجرة ثمرتها " الإنسان " ، والإنسان كشجرة ثمرتها " العقل النظري " ، وهو " كلمة طيبة " أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهو أيضا كشجرة ثمرتها " العقل الفعال " و " الروح القدسي " ، الذي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، وهذا الروح القدسي كشجرة ثمرتها " لقاء الله الواحد القهار " يهدي الله لنوره من يشاء من عباده، فارتقى نور العبد إلى نور الرب بعد أن هبط منه وحصل بنفخه في مكامن الكون.
فإذا علمت هذا فاعلم، أن وحدة النفخ وكثرته، باعتبار وحدة المتعلق به وكثرته، ولما كان لمجموع النفوس والأرواح - بل لجميع العالم - وحدة بها يكون الجميع أمرا واحدا - كما ثبت في مقامه - فتكون النفخات المتعلقة بها نفخة واحدة.
وأيضا قد ثبت وتحقق وانكشف وتنور، أن التعاقب والتجدد والتكثر والتعدد الواقعين في هذا العالم بحسب الحضور والغيبة في المكانيات، والمضي والحالية في الزمانيات، إنما يكونان بالقياس إلى الموجودات الواقعة في هذا العالم، لتقيد (ليعتد) وجود كل منها بمادة مخصوصة، وانحصاره في زمان معين، وأما بالقياس إلى العوالي والشواهق العقلية والنفسية، وما هو فوق الإمكان ووراء الحدوث، فالمتغيرات الزمانية كلها كآن واحد، والمختلفات المكانية كلها كنقطة واحدة، فعلى هذا كون النفخات الكثيرة حسب كثرة المواد والأزمنة، نفخة واحدة بالقياس إليه لا يحتاج إلى مؤنة بيان وبرهان، وللاشعار بأن جميع الممكنات حاصلة من فيض واحد من جانب الحق، ونفخة واحدة وكلمة جامعة هي كلمة " كن " ، وعبر عن انبساط الفيض النوري الوجودي عنه تعالى على هياكل الممكنات ب " النفس الرحماني " المشتمل على الحروف الوجودية، والكلمات الكونية، الطالع من أفق شمس الحقيقة في صباح نور الأزل، المنتشر ضوئه في أهوية الهويات الممكنة، وسطوح قوابل الماهيات الاستعدادية، المنقسم باعتبار كل موطن من مواطن القرب والبعد، ومنزل من منازل العلو والسفل، إلى الجواهر العقلية والنفسية والطبيعية، والأعراض الكمية والكيفية والنسبية.
ثم اعلم بعد ذلك، أن من الجائز أن يكون نفخة واحدة إحياء لقوم وإهلاكا لآخرين - إما بحسب الإختلاف في نحو الصدور من النافخ رحمة وغضبا، كاختلاف نفخة من الإنسان توجب حصول النارية، وأخرى منه توجب إخمادها - كما مرت إليه الإشارة في قوله تعالى:
فإذا هم خامدون
[يس:29]. وإما بحسب اختلاف القوابل مع وحدة النفخ، بأن تكون نفخة واحدة رحمة على قرية وغضبا على أخرى، وحياة لقوم وممات للآخرين، أو يكون راحة لأحد، في وقت وكراهة ومشقة له في وقت آخر، أو يكون مكروها لطائفة في أعينهم وهو خير لهم، أو محبوبا عندهم وهو في الواقع شر لهم، كما في قوله تعالى:
وعسى أن تكرهوا
[البقرة:216] الآية.
ألا ترى كيف أخرج الله الجنين من مضيق بطن أمه إلى فضاء العالم وهو مكروه له، مع كونه عين الرحمة له، حيث غفر ذنوبه الطبيعية التي اقترفها، وسيئآته المادية التي اجترحها، منذ كونه نطفة وعلقة - من تلطخه بالأنجاس وتغذيه بدم الحيض وهو أنجس المحرمات، وإخلاده إلى أرض الرحم بصحبة الظلمات - فطهره عن تلوث الأنجاس والاخباث، وعوض له عن دم الحيض بلبن سائغ شرابه من منبع نهر كالسلسبيل ليتغذى به بدنه. وتتقوى قواه الجسمانية فيستريح في سعة العالم، ويتعيش في فضاء الأرض من حين تبدلت هذه الأرض عن أرض الرحم، ويتبوء منها حيث يشاء، فخرج من ذنوبه السابقة كيوم ولدته أمه.
وكذلك إذا بلغ درجة العلم والتميز، وخرج من نوم الجهالة، غفر الله له ما تقدم من ذنوب الجهل والنقصان. وسيئات العمى والحرمان، وطهره عن دنس الغباوة والضلالة، وعوض له من الأغذية الجسمانية منذ أخذت في النقصان والقصور بالأغذية النفسانية التي هي ألوان المعارف والتصورات والأغراض الإنسانية.
ومن ها هنا ينبغي أن يعلم ويتحقق، أن إله الدنيا والآخرة لما كان واحدا وسنته لا تتبدل ولا تتحول، فإذا كان منذ كون الإنسان وخلقه من لدن كونه جمادا ونباتا ومضغة وعلقة إلى تمام خلقته وكمال عقله، كل صيحة من الله وقعت عليه، أو نفخة نفخت فيه يوجب له تحولا من حياة دنية إلى حياة هي أشرف وأعلى، فالظاهر أن إماتة الله وتوفيه للإنسان، وإخراجه إياه عن بطن هذا العالم يوجب له حياة كاملة تامة لا قصور معها ولا زوال، ولا آفة ولا مرض ولا حزن، فيستحكم عند ذلك رجاؤه، ويقوى طمعه في جود الله، بين الصيحة العظيمة وأن كانت ذات تهويل وفزع أكبر وزلزلة عظيمة صعق بها من في السموات والأرض، إلا أن جانب المغفرة أرجح وفضاء الرحمة أبسط وأوسع، فربما تكون هذه الصيحة لطفا لطائفة - وإن كانت سخطا لأخرى - أو تكون إماتة في نشأة وهي بعينها إحياء في نشأة أخرى، كما أن موت الحواس حياة للعقل، وموت الإرادة حياة الحقيقة، لأن الدنيا والآخرة متقابلتان - ما يوجب فناء أحداهما فهو يوجب بقاء الأخرى - وسيأتيك زيادة كشف في تفسير النفخة الثانية.
[36.50]
هذا إخبار عما يغشى الناس في النفخة الأولى عند قيام الساعة من الأحوال والأهوال، وما ذكره من الأحوال المشتركة بين القيامتين الكبرى والصغرى.
أما أنهم لا يستطيعون - أي لا يقدرون على الإيصاء بشيء ينفعهم في أمر آخرتهم أو في أعقابهم وأخلافهم - فلانقطاع العمل والسعي عند قيام الساعة، وانتفاء العقب والأهل والولد بعد الموت، لأن ثبوت الشيء للشيء وإضافته إليه متوقف على بقاء ذلك الشيء المنسوب إليه، بل بقاء الطرفين، والأول منتف في القيامة الصغرى، والثاني في الكبرى.
وأما نفي القدرة على الرجوع إلى أهلهم، لما علمت من استحالة رجوع النفوس من نشأة وقعوا فيها إلى نشأة سابقة عليها، لأن الطبائع مفطورة على التوجه إلى غاياتها الذاتية، والتوجهات الفطرية والتطورات الطبيعية ممتنعة الانعكاس والإنقلاب - فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله -، وهذا أصل متين قد أبتنى عليه كثير من القواعد والأحكام، وقد بنينا عليه ابطال التناسخ كما هو مذكور في مقامه.
[36.51]
هذه هي النفخة الثانية التي يحيي بها أموات القبور للبعث والنشور، وإن للنفخ صورة ونتيجة هي روحه وسره:
أما صورته: فإخراج الهواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب أو الفحم، وبالجملة، الجسم القابل للصورة النارية، فالنفخ سبب الإشتعال، وصورة النفخ مستحيل في حق الله، لأنه قيوم صمد لا جوف له، والمسبب والنتيجة غير محال في حقه، وقد يستعار بالسبب والمبدء عن المسبب والفعل المستعار منه، فيعبر عن نتيجة الغضب بالغضب، وعن نتيجة الإنتقام بالانتقام، كما في قوله تعالى:
وغضب الله عليهم
[الفتح:6] وقوله:
فانتقمنا منهم
[الأعراف:136] فإن حقيقة الغضب مستحيلة في حقه تعالى، لأنه عبارة عن نوع تغير ونقصان في الغضبان، يتأذى به ويتشفى بالانتقام، ونتيجته اهلاك المغضوب عليه أو إيلامه، يعبر به عن النتيجة، فكذا يعبر عن نتيجة النفخ بالنفخ - وإن لم يكن على صورة النفخ - فيكون مجازا مرسلا -.
هكذا قيل، والأرجح عندي أن النفخ ها هنا عبارة عن مجرد إنشاء الأرواح تشبيها بإنشاء النار، كتشبيه آلة النفخ بالصور على وزان تشبيه الأرواح الكامنة في مكامن استعداداتها من الأبدان وغيرها بالنيران المختفية في مكامن موادها الحطبية والدخانية، فيكون في الكلام استعارة مصرحة أو مكنية أو تمثيلية، كل منها باعتبار.
هذا إذا كانت موضوعات هذه الألفاظ مما اشترط فيها كونها ذوات أشكال وأوضاع وهيئات جسمانية، وإلا فمن الممكن أن يستعمل - ولو بحسب العرف الخاص ولسان الشريعة - على معان هي غايات المعاني اللغوية وملاكها وأسرارها وبواطنها، فتكون معقولات شرعية مستعملة في معانيها الحقيقية عند أهل الحق.
فالصور - بسكون الواو - هو في اللغة بمعنى " القرن " ، فاستعير أو نقل كما علمت لما يقع به النفخ مطلقا، سواء كان من قرن أو جوهر آخر، سواء كان محسوسا أم غير محسوس، بل هو جوهر من جواهر عالم الملكوت الأعلى اسمه " روح القدس " ، به يحيي الله أموات الأشباح الإنسانية بالأرواح الفائضة من هذا الروح الأعظم، وهو الذي اشتعل به نور النفس في فتيلة النطفة عند التسوية أولا، كما أشار إليه تعالى بقوله:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29].
فقد علم أن النافخ ها هنا إنما هو الله بذاته، أو بواسطة ملك مقرب هو الروح الإسرافيلي المقدس - المتوسط في فيض الحياة العقلية والنور النطقي بين الله وبين الأرواح الجزئية الإنسانية التي هي أنوار ملكوتية متعلقة بالأبدان - كتوسط الشمس في فيض النور الحسي والحرارة الغريزية بين الله وبين الأكوان العنصرية وطبائعها المستنيرة بالأنوار الحسية والحياة الدنيوية.
ومنهم من جعل " الصور " جمع " صورة " ، وأكد ذلك بتحرك " الواو " في قراءة بعض القراء، والمراد منها الصورة النوعية تتهيأ بها الأجسام الإنسانية لقبول النفس، فيكون المراد منها ما يقبل النفخ الإلهي، لا ما يقع به النفخ من الروح الإسرافيلي المشار إليه في قوله: { ونفخت فيه من روحي } [الحجر:29].
فإن قلت: جميع الأشياء إنما حصلت من إيجاد الله لها برحمته وفيضه، فما معنى هذه النسبة؟ فإنها مما يؤذن بمزيد اتصال واقتران، فإن كان نسبه إلى نفسه لأن وجود هذه الروح منه فالجميع كذلك، وقد نسب البشر إلى الطين ومنه قد حصل روح سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كان معناه أنه جزء من الله أفاض على القالب كما يفيض الماء من إناء مملوء إلى إناء، أو كما يعطي المال على السائل، فهذا يوجب تجزية ذات الله الواحد وتكثير أحديته، وهو ممتنع، فقد بطل كون إفاضته بمعنى انفصال شيء عن شيء.
قلنا: الكلام فيه موهم، والعبارة عنه قاصرة عن بيان معنى هذه الإفاضة، ولتكتف الضعفاء البصائر، القاصرون في إدراك العلوم الإلهية بمثال الشمس في هذا القول، فإن الشمس لو نطقت وقالت: " أفضت على الأرض من نوري " لكان حقا وصدقا، ويكون معنى هذه النسبة، أن النور الحاصل منها على وجه الأرض من جنس نورها الذي يوجب حياة المكونات، ونشوء الحيوان والنبات، وانبعاث النائمين من النفوس عن مراقد هي كقبور الأموات، ويقهر الظلمات ويعذب الكفرة الخفافيش والفويسقات، ويطرد المؤذيات، ويبعد مردة الجن والشياطين برواجم الساطعات. وهذه الجنسية ثابتة وإن كان الفائض الواقع على وجه الأرض من النور في غاية الضعف بالقياس إلى نور الشمس.
فعلى هذا القياس، قد علم أن " الروح " منزه عن الجهة والإشارة والجسمية ولوازمها المكانية والزمانية، وفي قوته العلم بحقائق الماهيات، والاطلاع على المغيبات، والاقتدار على احضار صور المجردات، واستخدام ملائكة القوى والروحانيات، وأخذ الأرض بقبضته وطي السماوات بيمينه، وهذه كلها توجب مضاهاة له مع الله وتشبه بأخلاقه تعالى، كما أشير إليه في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلذلك وقعت له هذه الإضافة المعنوية وخصت بهذه الكرامة الإلهية من بين سائر الموجودات التي ليست لها درجة التجرد عن الماديات والإحاطة بالعقليات.
قوله: " من الأجداث " وهو جمع " جدث " أي: من القبور، وهي لغة أهل العالية، ويقول أهل السافلة بالفاء " والنسول ": الإسراع في الخروج، أي: يخرجون سراعا من القبور إلى الموضع الذي يحكم الله فيه، لا حكم لغيره هناك.
مكاشفة قرآنية
ومن الأسرار العظيمة المتعلقة بقوله تعالى: { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } انه لما تحقق وانكشف لذوي البصائر المستنيرة بنور الله والصدور المنشرحة للإسلام، أن الدنيا مثال الآخرة، والقالب ظل القلب، فأحوال كل منهما شاهدة على أحوال الأخرى، والعاقبة نتيجة السابقة، والظاهر عنوان الباطن، فنسل الأبدان من القبور إلى مواقف الآخرة، كنسل الأرواح من الأبدان إلى المواقف الإلهية، ليعلم أن الرب تعالى غاية قصد الإنسان وسعيه، كما أنه مبدء كونه وحدوثه، ويتحقق حينئذ معنى قوله تعالى: { إلى ربهم ينسلون }.
وهذا مما لا يتيسر لأحد الإطلاع عليه إلا من جهة معرفة مبادئ تكون الإنسان وغاياته بعدما تصور وتحقق أن الإنسان ذو وجهين، أحد وجهيه جسماني مظلم متغير في ذاته قابل للفناء، والآخر منهما روحاني منير ثابت دائم بدوام علته الفياضة، باق ببقاء ربه الحي القيوم
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن:26 - 27] والوجه الجسماني، انما حياته ودوامه بالوجه النفساني، ومنه يصل الخير والمدد إلى هذا الوجه، ولو انقطع عن هذا فيضه لحظة لخرب سريعا، وانهدم بناؤه وتعطلت آلاته وتفسخت صورته، فأنت إذا طلبت مبدء الإنسان وفتشت عنه، فعليك أن تطلب وتفتش مبدء جوهريته جميعا - الجسماني والروحاني -.
فاعلم أولا، أن غاية كل شيء ترتبط بمبدئه، بل هي عينه، كما وقعت الإشارة إليه مرارا، وأن المبدء والغاية كلما كانا أرفع من الوقوع تحت الأكوان المتغيرة، كانا إلى جهة الوحدة والجمعية أقرب، وكلما كانا أدنى وأنزل، كانا إلى التعدد والإفتراق أميل.
ثم اعلم أنه لا بد للخلق من المرور على المنازل والمراتب عند النزول عن عالم الوحدة والجمعية، ثم الصعود إليها - ان ساعده التوفيق -، بل لكل من الأكوان الطبيعية مبادئ مترتبة في النزول، وغايات مترتبة في الصعود إلى جهة الحق، ومبدء كل شيء وغايته.
فمعرفة المبدء والغاية للإنسان، بل لكل شيء، أفضل أجزاء العلوم الحقيقية والمعارف النبوية، والعلم بمعاد الإنسان وما يؤول إليه حاله، من أهم المطالب، وهو الدواء النافع والدرياق الأعظم والأكسير الأحمر، والجهل بالآخرة هو السم الناقع والمرض المهلك، وبه تكون مرارة النزع عند الموت، والفزع عند البعث للنفوس المريضة بداء الجهالة، فمن عرف أن مجيئه من أين، عرف أن ذهابه إلى أين، ومن تأمل في كل واحد واحد من الأفاعيل التي لها غايات اختيارية أو طبيعية أو ذاتيه، وتدبر فيما هو المبدء بالذات لصدورها، وما هو الغاية لوردوها، لعلم يقينا أن الغاية في كل شيء، هي بعينها ما هو المبدء على وجه أشرف وأرفع.
ونحن سنبين العلم بحقائق المبادئ المتقدمة لوجود الإنسان بكلا جزئيه على وجه الإجمال، ونشير إلى أن العلم بالغايات يناط بالعلم بالبادئ ليستنتج وينكشف عن ذلك، الحكم بأن الأرواح الإنسانية لا بد لها من رجوعها إلى ربها، إما راضية مرضية، مشرقة زاهرة ناضرة ناظرة، وإما منحوسة منكوسة الرؤوس، مسجونة مقيدة بالسلاسل، محبوسة بالأغلال، مطرودة من باب الله، معذبة بنار الله:
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة:12] ليتحقق أن الكل - مع اختلاف دواعيهم ومساعيهم وتكثر نشآتهم وحالاتهم - راجعون إليه تعالى، وينكشف معنى قوله تعالى: { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون }.
أما تحصيل مبادي تكون الإنسان وأسباب تحققه بكلا جزئيه الجسماني والروحاني، فمبادي جوهره الجسماني بعد الأسباب القصوى المشتركة بين الكل من الملأ الأعلى والجواهر الملكوتية أمور:
أولها: القوة اليهولانية التي هي قوة صرفة واستعداد محض.
ثم: مرتبة الجسم المطلق الذي لا نعت له سوى الامتداد والانبساط في الأبعاد، وهو مناط النقص والآفة، ومنبع الجهل والنسيان والكفر، إذ لا حضور لصورة جزء منه عند جزء آخر، والعلم ليس إلا ادراك صورة الشيء، وها هنا غاب الكل عن الكل، والنفس إذا تعلقت به غابت عن نفسها ونسيت عالمها وربها
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
[الحشر:19].
ثم: الجسم الطبيعي المركب، الذي وجدت له صورة طبيعية غير الصورة الامتدادية، هي مبدء الكيفيات الفعلية والانفعالية.
ثم: الجسم النباتي الذي له صورة تفعل النماء وتطلب الغذاء، كالنطفة التي حصلت فيها قوة الجذب والنشو، وهي العلقة، ليصير بعد ذلك كالمضغة.
ثم: الجسد الحيواني الذي يقبل الحس والحركة الإختيارية كالجنين والطفل.
ثم: البدن الإنساني الذي فيه قوة التمييز بين الضار والنافع، والخير والشر.
فهذه خمسة مباديء وأجزاء متداخلة، وخمسة حجب مترتبة جسمانية للإنسان عن باريه سبحانه بحسب هويته الجسمانية.
وأما المراتب التي له بإزائها بحسب هويته الروحانية عند ذوي الأبصار، فأولها كحال النفس وقت تعلقها بالجسم المفرد الذي لا نعت له سوى الجسمية، ويكون اسمها في هذه المرتبة: " القوة الطبيعية " ، ثم كحالها عند كونها في الجسم المركب، واسمها عند ذلك: " القوة المزاجية ".
ثم كوقوعها في درجة الأجسام النباتية، واسمها حينئذ: " النفس النباتية ".
ثم كصيرورتها نفسا حيوانية كما في مرتبة الجنينية أو الصبوية فإن أحدهما " حيوان نائم " والآخر " حيوان مستيقظ ".
ثم كصيرورتها نفسا آدمية كما في مرتبة البلوغ، وها هنا غاية امتزاج النفس بالبدن، وتواصلهما بقواهما وآلاتهما، ونهاية تعانقهما بجنودهما، والحق أن يقال عند ذلك: يبرز الإسلام كله والكفر كله.
ثم بعده يفترقان في التوجه إلى الغاية، ويستدعيان البلوغ إلى الوطن الأصلي، فيتغالبان، فيقع التطارد بين جند الملائكة والشياطين في معركة القلب، والقلب متردد بينهما، وهو في التغير والإنقلاب دائما من جهة هذه الأسباب.
فالشهوات وأغراض الدنيا الدنية، منبعثة من القوى البدنية بوسوسة الشيطان، وهو موجود خلقه الله لعمارة هذه النشأة الأولى وبنائها بجنوده الشريرة من الشهوة، والعضب، والكبر، والحسد، وطول الأمل، ونسيان الآخرة، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله، وغيرها مما يجري مجرى هذه الصفات.
والعلوم والمعارف، والتقدس والتقوى، منبعثة من القوى الروحانية بإلهام الملك، وهو موجود أبدعه الله لعمارة الدار الآخرة بجنوده الخيرة الفاضلة من الصبر، والشكر، والخضوع، والتواضع، والزهد، والقناعة، والخوف، والرجاء، والتملق، والدعاء، والهيبة، والخشية وغيرها مما يجري مجرى هذه، فالقلب واقع - ما دام التطارد باق بين الجندين - في ما بين الملك وإلهامه والشيطان وإلهامه، لقوله تعالى:
فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس:8] ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمان "
إلى أن يفتح القلب لأحدهما فيوطنه الروح، فيكون اجتياز الثاني مجرد اختلاس، وبه يتحقق حكم السعادة والشقاوة في الآخرة.
فمراتب الروح بعد ذلك الفتح بسبب الغاية أيضا خمس: فإنها إذا تهيأت لرحمة الله، واكتساب الأسباب واستعداد النظر في عالم الملكوت، كان اسمها " العقل العملي " و " النفس المطمئنة ". وإذا نظرت في حقائق الأشياء وتأملت في المعالم الإلهية والمقاصد الإيمانية، تسمى ب " العقل النظري " و " النفس الفاكرة " وإذا حصلت لها قوة الحفظ والاسترجاع تسمى ب " النفس الحافظة " ، فإذا حصلت لها قوة المكالمة الحقيقية مع الحق، ومشاهدة الحقائق بنور مستفاد من الله يقذف في قلبه، تسمى ب " النفس الناطقة ".
وإذا اتصلت إلى لقاء الله وانخرطت في المقربيين تسمى ب " روح القدس " ، وحينئذ بلغت إلى غايتها الأصلية، من غير علوق شيء من الأضداد والخصوم، ومزاحمة شيء من العوائق والمؤذيات والهموم.
وأما إذا كانت الغلبة للجزء الظلماني بجنوده الظلمانية وقواه الشيطانية، وكان الروح أسيرا بيد الشيطان وجنوده، فلا يبالي في أي واد تهلكه من أودية الظلمات، وفي أي دركة تستهويه من دركات الجهالات.
وهذه الدركات الجحيمية معادن الشياطين، ومهالك الروح الإنسانية عند متابعة النفس والشيطان، ومع ذلك يكون مرجع الكل إلى ربهم
وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا
[الكهف:47] إلا أن حشر الخلائق إليه تعالى على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم ودرجاتهم، فبعضهم مستويا وبعضهم منكوسا، ولقوم على سبيل الوفد:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85] ولقوم على وجه التعذيب:
ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار
[فصلت:19]
فوربك لنحشرنهم والشياطين
[مريم:68] - وبالجملة - حشر كل أحد إلى عمله، أو إلى ما يعمل لأجله ويحبه:
احشروا الذين ظلموا وأزواجهم
[الصافات:22] حتى أنه: " لو أحب حجرا لحشر معه ".
تنبيه
هذه الاختلافات الكثيرة متحققة فيما يحشر إليه الناس، ومع ذلك فالجميع محشورون إلى الله، ألا إلى الله تصير الأمور، وإليه مصير كل صائر، كما إليه بدو كل باد، وإليه معاد كل موجود، كما منه نشوء كل ناش، الله يبدء الخلق ثم يعيده ثم إليه تحشرون، وذلك لسعة مملكته وتعدد جهاته وكثرة أسمائه وشدة قوته، وإحاطة علمه وسمعه وبصره، وتجرد ذاته عن الأغشية والحجب، فالزمان علة التغير والتجدد مطلقا، والمكان علة التكثر والتعدد مطلقا، وهما مناط الغيبة والخفاء، فإذا ارتفعا في القيامة، ارتفعت الحجب بين الخلائق فيجتمع الخلائق كلهم الأولون والآخرون في عرصة القيامة لأهل القيامة، فهي يوم الجمع
يوم يجمعكم ليوم الجمع
[التغابن:9].
مكاشفة أخرى
في تصوير معنى هذه الآية وخروج الخلق سراعا
من القبور إلى الله واسراعهم من الأجداث إلى ربهم
مما يجب أن يعلم كل من له نصيب من علم الكتاب، وله قدم في العمل بما فيه من الخطاب، أن الإنسان من لدن حدوثه وتولده عند كونه نطفة ذات صورة طبيعية، إلى نهاية أمره، يكون أبدا في التحول والانتقال نفسا وبدنا، وفي السفر والارتحال سرا وعلنا، وفي التبدل والتطور من منزل إلى منزل، ومن حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، ومن صفة إلى صفة إلى هذا الوقت الذي بلغ أشده.
وهذا أمر يظهر لمن نظر في أحوال الإنسان، ولاحظ ترقياته وتوجهاته من كونه أولا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنينا، ثم خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم يتدرج في التوغل في نشأة أخرى من كونه صبيا مميزا، ثم رجلا عاقلا، ثم صبورا شكورا، ثم حكيما وقورا، وهكذا لا يزال في الإمعان إلى تقوية الباطن وتوهين الظاهر، والتقرب إلى عالم الغيب والخروج عن عالم الشهادة يسيرا يسيرا، فيصير كهلا، ثم شيخا، ثم هرما مضمحلا، ثم فانيا، كل ذلك بحسب طبعه وجوهره - لا بأمر اتفاقي أو عرضي أو قسري -.
ثم إذا بطلت منه هذه الحياة الدنيوية، بطلت صورة التأليف، وحصل الافتراق والانفصال.
ثم لا يبقى في هذا الانفصال أيضا، بل يمعن البدن في الانحلال والتوجه إلى مركز الاتصال حتى ينتهي إلى الأرضية، ثم إلى الهيولية والجوهرية الصرفة، ويمعن النفس إذا كانت على الاستقامة في أطوارها وأحوالها، حتى تبلغ الغاية القصوى التي موطنها الأصلي، وذلك لأن كل متوجه ومتحول من مرتبة إلى مرتبة ومن منزل إلى منزل بحسب الطبع، فله لا محالة حيث يرتحل ويبعد من مرتبة ويتوجه ويسلك إلى مرتبة أخرى تكون غاية طبيعية ذاتية هي آخر ما يطمئن إليه ويسكن لديه ويتوطن فيه، ولا بد أيضا أن تكون هي أصلح الحالات وأوفقها له في ذاته، وأنسب المراتب والدرجات وأليقها لديه بجوهره، وما ذلك إلا ما يكون مبدء ذاته ومقوم وجوده.
فغاية ما يسافر إليه الشيء، يجب أن يكون أول ما سافر منه، وهو الموطن الطبيعي والمعدن الأصلي - دون غيره من المراتب والغايات الإضافية والحدود التي في الأوساط، لأن كلا منها لو كان غاية حقيقية، لما وقع التوجه منه إلى غيره توجها طبيعيا ذاتيا - ودأب الرحمة الإلهية أن يمسك الشيء على أشرف الحالات التي تليق به، وأعلى المراتب التي تتصور في حقه، من غير انتقال منه وارتحال عنه.
وتمامية الشيء وكماله إنما يحصل له عند وصوله إلى الحالة الأصلية التي كانت له بحسب الذات، إذ هي مما يوافق ذاته ويلائم طباعه، وكل ما يكون غير تلك الحالة من سائر الحالات، فهي لا محالة غريبة عن ذاتها مؤلمة لها، والحالات الغريبة عن الشيء تزول عنه، فيرجع الشيء آخر الأمر إلى الصفة الأصلية التي له أولا كما مر.
والحالة الأصلية للشيء، إنما تحصل له في مأواها الطبيعي، والمأوى الطبيعي للنفوس والأرواح الإنسانية، عالم الآخرة التي هي باطن هذا العالم الظاهر، وغيب هذه الشهادة، وهو عالم الأرواح وموطنها الحقيقي ومعادها بحسب طبقاتها ودرجاتها ومعادنها " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ".
ومبادئ النفوس ومواطنها مختلفة، وكلها من عالم الملائكة النورانية - على كثرة طبقاتهم -، وكل منها يرجع إلى أصله إن لم يزاحمها شيء من العوائق والسيئآت
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء:84]
ولكل درجات مما عملوا
[الأنعام:132].
فالنفوس الصالحة المرضية، تحشر في زمرة الملائكة وتأوي إلى رحمة الله، والنفوس الشقية تحشر مع الشياطين، ممنوعة عن عالمها، مطرودة عن باب الله، محرومة عن مواطنها، وما لم تصل النفس إلى عالمها ومعدنها، لم تسكن ولم تطمئن من انزعاجها واستفزازها، لأنها كانت في مأواها الأصلي حية مختارة لطيفة، عالمة، قادرة بقوة مبدعها وسائحة في عالمها، فرحانة مطمئنة عند بارئها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فإذا هبطت من عالمها ومأواها وجنة أبيها، وانحطت إلى السفل، وجولت إلى الدنيا وأجسامها المكدرة الظلمانية، انقلبت حياتها موتا، وتبدل اختيارها اضطرارا، ولطافتها كثافة، وقدرتها عجزا، وعلمها جهلا، فزالت كرامتها وشرفها وكمالها إلى المذلة والهوان والخسة والنقص والوبال، وصدرت منه معاصي كثيرة وآثار (آثام - ن) غريبة، كمن عرض له مرض شديد وحمى، فظهرت منه آثار كثيرة غريبة، كالحرارة الشديدة - وهي علامة النار -، والثقل العظيم - وهو أثر الأرض -، وتورمت أطرافه - وهو أثر الهواء - وسال العرق من مساماته وعن عروقه كقطرات الأمطار، وهكذا الحال على الاتصال إلى أن يعود إلى الحالة السابقة الأصلية، فتنعدم هذه التولدات، وتنعقد منه شيئا فشيئا إلى أن يزول بالكلية - ان ساعده التوفيق -.
وهكذا حال النفس في سقوطها عن مرتبتها وهبوطها عن نشأتها، حيث تكونت منها أمور مختلفة عند نقصانها وضعفها الذي يلحقها بسبب بعدها عن مقرها وعالمها، إذ البعد عن الموطن الأصلي منشأ (مثار - ن) الضعف والآفة، ومناط الكثرة والإنقسام، وتوزع البال واختلاف الأحوال، فإذا عادت إلى معادها، زالت الكثرة والتفرقة عنها بالكلية، كأنها لم تكن إن لم تزاحمها قيود السلاسل والأغلال المستصحبة إياها من جهة اقترانها بالأرذال، وعلوق غبار الهيئات الردية وظلمات الأعمال البدنية المقترنة بها، بسبب مجاورة أقران السوء، وشؤم صحبتهم ورجس خلطتهم.
أو لا ترى إلى الماء النازل من السماء، كيف كان مجموعا في مأواه الأصلي، ذا وقار وثقل واطمئنان وصفاء تتراءى فيه الصور والنقوش، فإذا انتقل إلى حيز النار، تبدلت الجمعية بالتفرقة، والثقل بالخفة، والاطمئنان بالإضطراب، والصفاء والاستقامة بالكدورة والإعوجاج، فوقع إلى أودية الفراق وشعب الإفتراق، ثم إذا رجع إلى مأواه الذي كان فيه، زالت الأحوال الغريبة والآفات، وعادت الحالة الأصلية، وكن قد خرج عن فطرتها، ثم عاد إليها بعد تطورات وتشكلات بأشكال غريبة، وتسميات بأسماء كثيرة، فكان بحرا، فإذا تبخر سمي " بخارا " ، وإذا تراكم بخارا سمي " سحابا " ، وإذا تقاطر سحابه سمي " مطرا " ، وإذا سال يسمى " نهرا " ، وإذا اتصل النهر بالبحر يسمى " بحرا " كما كان.
وكذا القياس في غيره من الأركان، وفي كل جماد ونبات وحيوان، فانظر إلى حال السمك في مكان السمندل، والسمندل في مكان السمك
قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون
[الأنعام:98].
[36.52]
قرئ " يا ويلتنا " ، وفي مصحف ابن مسعود " من أهبنا " من " هب من نومه " إذا انتبه وأهبه غيره، وقرئ أيضا " من هبنا " بمعنى " أهبنا " وقرئ " من بعثنا " و " من هبنا " على " من الجارة " وصيغة المجرور بها، لا على " من الاستفهامية " وصيغة الماضي الموصولة بها.
و " هذا " مبتدأ وخبره ما بعده، سواء كان الخبر مفردا - إن كانت " ما " مصدرية - أو جملة من صلة وموصول - إن كانت موصولة - ويكون المجموع جملة مستأنفة، ويكون " من بعثنا من مرقدنا " كلاما تاما يوقف عليه.
ويحتمل أن يكون " هذا " صفة للمرقد، أي: " مرقدنا الذي كنا رقودا فيه " فيكون الوقف على " مرقدنا هذا " ويكون " ما وعد " مبتدأ خبره محذوف تقديره أي: " ما وعد الرحمن وصدق المرسلون حق عليكم " أو يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: " هذا وعد الرحمن، أي: فلما رأوا أهوال القيامة وشدائدها لكونهم صاروا بسبب خروجهم عن قبورهم وقيامهم عن منامهم مكشوفي الغطاء حديدي البصر، قالوا: " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا وحشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما؟ " ثم قيل لهم: " هذا بعينه ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " أي: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين - على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق - إن جعلت " ما " مصدرية - وأما إن جعلت موصولة، فيكون معنى: " الذي صدق المرسلون " بمعنى: والذي صدق فيه المرسلون من قولهم: " صدقوهم في الحديث والقتال " ومنه: " صدقني سن بكره ".
وإنما يطابق هذا الجواب لسؤالهم عن الباعث لهم عن مرقدهم، لكونه بمعنى: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به رسله، إلا أنه جيء به على نهج التخويف والتهويل لقلوبهم، والنعي إليهم في أحوالهم، وذكر منشأ فزعهم وأهوالهم من سبق كفرهم بالله، وتكذيبهم للرسل، والإخبار لهم بوقوع ما أنذروا به على لسان الأنبياء.
ولا يبعد أن يكون المراد من طي الجواب، أن الحال أشد عليهم من أن يسع لهم السؤال ويستأهلون للجواب عن سبب البعث والنشور، كأنه قيل لهم: ليس بالبعث الذي عرفتموه - من بعث النائم في الدنيا من مرقده - حتى يسمع لكم السؤال عمن يبعثه، إن هذا هو البعث الأكبر، والقيامة الكبرى ذات الشدائد والأهوال والأحزان والأفزاع، وهو الذي وعده الله في مواضع كثيرة من كتبه المنزلة على ألسنة رسله الصادقين، ومعانيها الواردة على قلوب أوليائه الصالحين.
واختلف أهل التفسير في أن القائل لهذا الكلام من هو؟ فعن مجاهد: أنه كلام الملائكة، حيث يقع للكفار هجعة بعد النفخة الأولى، يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور الصيحة الثانية، قالوا: { من بعثنا من مرقدنا } فقالت لهم الملائكة: { هذا ما وعد الرحمن }.
وعن ابن عباس وعن الحسن: كلام المتقين.
وعن قتادة نحو ذلك حيث قال: أول الآية للكافرين وآخرها للمسلمين. قال الكافرون: { يويلنا من بعثنا من مرقدنا }؟ وقال المسلمون: { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون }.
وقيل: تمامه كلام الكافرين، يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضا.
وقيل: أنهم لما عاينوا أهوال القيامة عدوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى تلك الأهوال رقادا.
وقال قتادة: هي النومة بين النفختين، لا يفتر عذاب القبر إلا فيما بينهما فيرقدون.
حكمة فرقانية
قد تحقق عند النفوس المستنيرة بأنوار العلوم الأخروية والمعارف السلوكية، أن الإنسان أبدا في التحول والانتقال عن مراقد الدنيا إلى فضاء الآخرة، وهو دائما في القيام والإنبعاث من هذه القبور والأجداث إلى ساهرة القيامة، وهو لا يزال في طلب الخروج والارتحال بحسب الجبلة من مكامن أرحام هذه النشأة الأولى إلى سعة عرصات النشأة الأخرى، بل له كل ساعة ولحظة خلع ولبس جديد إلى أن يلقى الله تعالى - إما فرحانا مسرورا - وإما معذبا مقهورا - لقوله تعالى:
يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه * فأما من أوتي
[الانشقاق:6 - 12] - الآيات.
وأكثر الناس في غفلة عريضة وذهول طويل عنه لقوله تعالى:
لقد كنت في غفلة من هذا
[ق:22] وقوله:
بل هم في لبس من خلق جديد
[ق:15]، وقوله:
وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب
[النمل:88].
ومن هذا الجهل المحيط بهم، نشأ تعلقهم بهذه الحياة الفانية واخلادهم إلى هذه الأجسام البالية، وركونهم إلى البدن، ونسيانهم أمر العاقبة، وجعلهم الدنيا نصب أعينهم والآخرة خلف آذانهم، وانكبابهم إلى الشهوات، وإعراضهم عن سماع الآيات، فكل هذه الأمور ناشئة من ذهولهم وغفلتهم عن زوال الدنيا وثبات الآخرة، وجهلهم بأن الدنيا ليست إلا لحظات أوهام وخطرات أفهام، ولمحات أبصار وفلتات خواطر، ولهذا تعجبوا عن ظهور الساعة وتحقق البعث وكشف الغطاء قائلين: { يويلنا من بعثنا من مرقدنا }؟ فقيل لهم { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون }. فهؤلاء - وهم أكثر الناس - منكرون بالحقيقة للقيامة والبعث، شاكون في قيام الساعة وتحقق المعاد،
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا
[المعارج:6 - 7].
وأما المقر بالآخرة، المؤمن بالمعاد، الموقن بيوم الحساب، فهو الذي تنبهت نفسه من نوم الغفلة ورقدة الضلالة، وانبعثت من موت الجهالة، وحييت بروح المعارف، وانفتحت لها عين البصيرة، فيشاهد يوم القيامة ويرى كأنها قد قامت، فإذا سئل وقيل له: " كيف أصبحت؟ " قال: " أصبحت مؤمنا حقا " ، فإذا قيل له: " وما حقيقة إيمانك؟ " قال: " أرى كأن القيامة قد قامت، وكأني بعرش ربي بارزا، وكأن الخلائق في الحساب، وكأني بأهل الجنة فيها منعمين، وأهل النار فيها معذبين " ، فقيل: " قد أصبت، فألزم بعين الطريق " - كما ورد في الحديث المتفق على صحته -.
وهذا بعينه حال من مات عن حياة هذه النشأة، وحيي بحياة الآخرة، فقد قامت عليه الساعة، وإن كان بعد في الدنيا بحسب الصورة الظاهرة، لقوله (صلى الله عليه وآله):
" من مات فقد قامت قيامته ".
وأما القيامة الكلية، فهي إنما تتحقق عند موت الجميع وفناء الكل، والعارف لا يحتاج في مشاهدة أحوال الآخرة إلى فناء الكل وقيام الساعة على الجميع، لأنه من أهل الأعراف المشاهدين لأحكام الآخرة وأحوال الدنيا، العارفين بمن في الجنة والنار، لقوله تعالى:
وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين
[الأعراف:46 - 47].
وهم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، لأنهم قوم انبعثوا من موت الجهالة وانتبهوا عن رقدة الغفلة، وانفتحت بصيرتهم واستبصروا بعين اليقين ونور الهداية، وشاهدوا جميع الخلائق وحشرهم وحسابهم، لأنهم حاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا يوم حساب الخلائق، وهم قوم استوت عندهم الأماكن والأزمان، وتغاير الأمور وتصاريف الأحوال، فقد صارت الأيام كلها يوما واحدا لهم، وعيدا واحدا، وجمعة واحدة في حقهم، لتحققهم بقوله (صلى الله عليه وآله):
" بعثت أنا والساعة كهاتين ".
فيوم واحد عندهم كألف سنة مما تعدون، وخمسين ألف سنة لغيرهم، وصارت الأماكن كلها مسجدا واحدا لتحققهم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" وجعلت لي الأرض مسجدا "
والجهات كلها قبلة واحدة لتحققهم بقوله تعالى:
أينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة:115] وصارت حركاتهم كلها عبادة وسكناتهم طاعة، واستوى عندهم مدح المادحين وذم الذامين، وتغاير الأمور وتصاريف الأحوال في الأزمنة والدهور لتصديقهم قوله تعالى:
مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم
[الحديد:22 - 23] وكانت الدنيا وما فيها حقيرة عندهم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " والله ما دنياكم إلا كعفطة عنز " " والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجزوم ".
[36.53]
{ إن كانت إلا صيحة واحدة }:
ثم أخبر سبحانه عن سرعة بعث الخلائق إلى المحشر، وسعيهم إلى ربهم يوم العرض الأكبر، بأن تلك المدة لم تكن إلا صيحة واحدة بالقياس إلى قدرة الله تعالى، وعالم قدرته وجبروته وسكان ملكوته من أهل قربته وولايته، وان كانت صيحات عظيمة كثيرة حسب كثرة الخلائق، متمادية الأزمنة والدهور بالقياس إلى من يقع عليهم من أهل القبور وسكنة عالم الهلاك والدثور، كما أن الصاخة الصغرى زجرة واحدة لموت شخص واحد وقيامته، وهي زجرات متعددة متمادية بالقياس إلى كثرة أعضائه وقواه، فإن جميع أحوال القيامة الصغرى وأهوالها عند موت الإنسان واحد، وبعث روحه ونشر صحيفته وزلزلة أرض بدنه، واندكاك جبال عظامه، وانفجار عرق جبينه، وتكور شمس قلبه، وانكدار نجوم حواسه، وتعطل عشار قواه كلها دلائل وشواهد على أحوال القيامة الكبرى التي لجميع الخلائق، لقوله (صلى الله عليه وآله):
" من مات فقد قامت قيامته "
، وذلك لكون الإنسان عالما صغيرا فيه أنموذج من جميع ما في العالم الكبير.
ولست أطول في موازنة جميع الأحوال، ولكني أقول كما قال بعض محققي الإسلاميين وحكمائهم وموحديهم: إن بمجرد الموت تقوم عليك هذه القيامة، ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء مما يخصك، بل ما يخص غيرك، فإن بقاء الكواكب في حق غيرك ماذا ينفعك وقد انتشرت حواسك التي بها تنتفع بالكواكب، والأعمى يستوي عنده الليل والنهار، وانكشاف الشمس وانجلائها، لأنها قد كسفت في حقه دفعة واحدة، وهو حصته منها، فالانجلاء بعد ذلك حصة غيره، وكذلك من انشق رأسه فقد انشق سماؤه، إذ السماء عبارة عما يلي جهة الرأس، فمن لا رأس له لا سماء له، فمن أين ينفعه بقاء السماء في حق غيره؟.
فهذه هي الصاخة الصغرى، والخوخ بعد أخضر والهول بعد مدخر، وذلك إذا جاءت الطامة الكبرى، وارتفع الخصوص، وبطلت السموات والأرض ونسفت الجبال وتمت الأهوال.
فهذه هي الصغرى، وإن طول في وصفها فانا لم نذكر عشر عشير أوصافها، فهي بالنسبة إلى القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى، فإن للإنسان ولادتين:
احداهما: الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار، من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها، إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم، فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم إلى سعة فضاء الرحم، ونسبة سعة العالم الذي تقدم عليه بالموت، إلى سعة فضاء الدنيا، كنسبة سعة فضاء الدنيا أيضا إلى الرحم، بل أوسع وأعظم بكثير.
فقس الآخرة بالأولى:
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة
[لقمان:28] وما النشأة الثانية إلا على قياس النشأة الأولى
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62]. بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنين
وننشئكم في ما لا تعلمون
[الواقعة:61].
فالمقر بالقيامتين مؤمن بعالم الغيب والشهادة، موقن بالملك والملكوت، والمقر بالقيامة الصغرى دون الكبرى، ناظر بالعين العوراء إلى أحد العالمين، وذلك هو الجهل والضلال والاقتداء بالأعور الدجال.
قوله سبحانه:
{ فإذا هم جميع لدينا محضرون } [53]:
يعني إذا نفخ في الصور نفخة واحدة، اجتمعت الخلائق كلهم حاضرين عند الله كما كانوا دائما، وعند أنفسهم جميعا في ساعة واحدة، لارتفاع الحجب الواقعة بينهم بالموت، فيشاهد بعضهم بعضا، وكلهم كلا، فكل من وجد في وقت من الأوقات وفي حيز من الأحياز من أول الدنيا إلى آخرها فهو محشور مجموع مع غيره في زمان واحد متصل، هو مجموع الأزمنة، ومكان واحد متصل هو مجموع الأمكنة، ومجموع الأزمنة كساعة واحدة في القيامة ومجموع الأمكنة كمجلس واحد في الحشر.
وتحقيق ذلك؛ أن الموجودات الدنيوية لها أكوان ناقصة، لأنها من حيث كونها الدنيوي أمور مادية وموجودات تعلقية، لأن جواهرها المفتقرة إلى مواضعها كالأعراض المفتقرة إلى موضوعاتها، فهي لنقص تكونها وضعف وجودها وتغيرها وانقلابها من صورة إلى صورة، وانتقالها من حال إلى حال، تحتاج كالأطفال والصبيان إلى قابلة كالزمان ومهد كالمكان، وقد سبق منا أن المتحرك من حيث كونه متحركا كالحركة في كونه غير قار الذات، وكذا الزماني كالزمان، والمكاني كالمكان، وكل واحد من الزمان والمكان من الأمور الضعيفة الوجود، لأن وجود كل جزء من كل منهما يقتضي عدم الجزء الآخر، وحضور كل جزء يقتضي غيبة الجزء الآخر.
وأما وجود الآخرة فهو الكون التام، وموجوداتها أكوان دائمة ثابتة مستقلة، فيزول التغير عن المتغير، والزوال عن الزائل، والغيبة عن الغائب، فيتصف المتغير هناك بالثابت، والغائب بالحاضر، لأن الآخرة دار الحقائق، ولكل شيء حقيقة ثابتة، فلزمان الآخرة خاصية البقاء والثبات، ولمكانها خاصية الحضور والجمعية
يوم يجمعكم ليوم الجمع
[التغابن:9]. لكن إذا أريد أن يخبر عنهما للمحبوسين في حبس الزمان، والمسجونين في سجن المكان، يعبر عنهما بأمثلة زمانية أو مكانية. فعبر عن حقيقة الزمان بأقل زمان. لأن الموجود من الزمان عند الجمهور ليس إلا ما يسمونه " آنا " فقيل:
ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل:77]. وإذا أشير إلى مكان الآخرة وحقيقة المكان، عبر عنهما بأوسع مكان، لأن المكان شأنه السعة والإحاطة، ويتحدد بأوسع الأجسام، فقيل:
جنة عرضها السماوات والأرض
[آل عمران:133].
وكذلك يعبر عن زمان القيامة. ب " الساعة " ، وعن مكانها ب " الساهرة " ، فيكون الخلائق مجموعين حاضرين في محشر واحد في ساعة واحدة، فكما أن يوم القيامة يجمع فيه الناس كلهم من الأزل إلى الأبد، فكذلك جميع أمكنتهم وأزمنتهم.
فوجه الأرض بمساحته المعينة التي عند المهندسين ها هنا يصير يوم القيامة انبساطه وتماديه بحسب تمادي الأزمنة المارة عليه، فإن وجه الأرض في كل لحظة وساعة غيره في لحظة وساعة أخرى، ووجه الأرض باعتبار محليته لوقوع خلائق عليها غيره باعتبار محليته لوقوع خلائق أخرى، فإذا اجتمعت يوم القيامة الخلائق الواقعة في القرون والدهور الماضية والمستقبلة، اجتمعت بحسبها وجوه الأرض التي كانت الخلائق جميعا فيها من ابتداء الدنيا إلى انتهائها في كل قرن ودهر، فيكون وجه الأرض يومئذ بمقدار يسع فيه أهل المحشر كلهم.
ومن ها هنا يزول الاستبعاد ويندفع استنكار أهل الجحود والعناد، وينحل شبهة المنكرين للمعاد في حضر الخلائق كلهم، السابقين واللاحقين في صعيد واحد، لعدم تصورهم أرض القيامة التي هي بوجه غير أرض الدنيا:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار
[إبراهيم:48]..
[36.54]
لأنه يوم ايفاء الحقوق وجزاء الأعمال على وجه الحق والعدل في الثواب والعقاب، إذ لا حكم لأحد غير الواحد القهار، لارتفاع الأسباب العرضية والعلل الإتفاقية، وانعدام أسباب الجور والظلم، من جهالة الحكام وعجزهم عن امضاء الأحكام على التمام، وتدليس المتحاكمين وابدائهم الشبه والأوهام، ولانتفاء القواسر والموانع، وانسلاب التزاحم والتصادم والتضايق، وغير ذلك من الأمور التي هي من باب ضروريات الأكوان الدنيوية، والقوابل المادية المركبة من العناصر المتضادات والأركان المتفاسدات الموجبة للتغالب والتفاسد في الموجودات المتغيرة الأحوال، المتخالفة الأغراض والآمال.
وأما الدار الآخرة، فالمؤثر هناك أسباب عالية بإذن ربهم، وعمال مؤتمرة بأمر موجدهم، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والمتأثر نفوس وأرواح إنسانية بحسب ضمائرهم ونياتهم، مجردة عن الأغشية واللبوسات، ووساوس النفس وسوء العادات.
وبالجملة، الظلم إذا وقع، فإنما يقع من الشخص على نفسه، أو من غيره عليه، وكلاهما مستحيلان يوم الآخرة.
أما استحالة الثاني فيه: فإن المؤثر في الشيء هناك ليس إلا ما هو علة ذاتية لذلك الشيء، لارتفاع الأسباب العرضية والمبادئ القسرية، وعدم تزاحم الأمور وتصادم الأسباب الاتفاقية، وتضايق الوجود فيه، والعلة الذاتية للشيء مقوم لوجوده ومحصل لذاته وملائم لطبعه
ولا يظلم ربك أحدا
[الكهف:49].
وأما استحالة الشق الأول، فلأن ما يصل إلى أحد في الدار الآخرة ليس إلا حاصل ما فعله في الدنيا، لأنها دار الثواب والجزاء بلا عمل، كما أن الدنيا دار العمل بلا جزاء، فإن وقع ظلم من أحد على نفسه، فقد وقع في الدنيا لا في العقبى، ولهذا قال بعض الكبراء: " ليس الخوف من سوء العاقبة، إنما الخوف من سوء السابقة " ، " الشقي شقي في بطن أمه " أي في الدنيا.
فقد ثبت قوله تعالى: { فاليوم لا تظلم نفس شيئا } ، أي لا ينقص من له حق من حقه من الثواب، ولا يفعل به إلا بما يستحقه من العقاب، إذ الأمور جارية على مقتضى الحق والحساب، معمولة على قانون العدالة والصواب، وذلك قوله تعالى: { ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون }.
بصيرة قلبية
إن قوله تعالى: { فاليوم لا تظلم نفس شيئا } ، مما يشعر بانحصار تحقق الظلم والشر في هذه الدنيا الفانية، وأما الواصل إلى الأشقياء من عذاب النار وشدائدها، فإنما هو نتيجة أعمالهم في الدنيا، وظلمهم على نفوسهم فيها، لقوله تعالى:
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[النحل:33] أي بما سبق منهم في الدنيا، وليس يتصور ظلم مستأنف في الآخرة على أنفسهم ولا على غيرهم.
والسبب اللمي لاختصاص وقوع الظلم والشر في الدنيا دون الآخرة - مع أن الإله والمؤثر فيهما جميعا واحد حق يفعل ما يشاء ويختار ما يريد من غير مدافع أو مشارك - هو ما وقعت الإشارة إليه من أنها " دار الحركات والاستعدادات " لأنها واقعة في آخر الدرجات من الوجود، في أسفل الدركات من مراتب الخير والجود، وبعد مرتبتها في النزول والخسة، ليس إلا العدم المحض، والبطلان، بل وجودها في مرتبة العدم.
إلا أنها بحسب نسخها وجوهرها الهيولي، مما لها قوة وجود أشياء كثيرة، ولها استعداد للصور الحسية والنفسية والروحانية، بحسب امتزاجات وقعت بين عناصرها المتضادة، التي كل منها لا يتحرك عن مواضعها الطبيعية إلا بأسباب سماوية منبعثة لأغراض علوية، ومقاصد عقلية مترتبة على أشواقها الكلية، وحركاتها الدورية، حسب قضاء الله ومشيئته المقتضية نشوء الكائنات من الحيوان والنبات بعناصرها المتضادة وموادها المتفاسدة.
ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع الحيوان، وكان له استعداد الارتقاء إلى رتبة الشرف والكمال، واحتمال البقاء والدوام في نشأة أخرى هي نشأة التمام، ويوم قيام الخلائق بين يدي الحق العلام، ولا يمكن استكماله إلى هذه الغاية إلا بأسباب أخرى خارجية اتفاقية من التأديب والتهذيب، والهداية والارشاد، والوعد والإيعاد، منبعثة من جانب المبدء الجواد، بإنزال الملائكة والكتب والرسل للإمداد، والهداية إلى يوم المعاد ورب المعاد.
ولا يتعيش وجوده الدنيوي أيضا إلا بتعاون وقع من بني نوعه وجنسه، وتمدن واجتماع ومعاملات وحكومة وسياسات وحدود وجرائم وقعت من سلطان قاهر له أو عليه.
وهذه جملة من الأسباب لا تنعقد إلا ويلزمها نقائص وآفات، وتصادم شرور وظلامات، فقد قضى الله بوجود هذه الشرور في هذه الدنيا لكونها لازمة لخيرات جمة، وهي أسباب سياقة عباده إلى رضوانه، فعلم " أن الظلم في الدنيا مقضي، والعدل مرضي " ، وأما الآخرة التي هي دار المتقين، ففيها عدل بلا جور، وخير بلا شر.
ولهذا قال تعالى في حق حبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم):
وللآخرة خير لك من الأولى
[الضحى:4]. وقال حكاية عن دعاء خليله:
وألحقني بالصالحين
[الشعراء:83] وقال وليه وأخو رسوله (عليهما السلام) عند ضربة شهد فيها ربه: " فزت ورب الكعبة " ، وذلك لأن الدنيا مشحونة بالآفات والمحن والظلم والجور على أولياء الله وأحبائه.
ويحكى عن بعض من يعتقد هذا الرأي، أنه لقي أخا من أهل زمانه، فقال له: كيف أصبحت يا أخي في هذه الدنيا؟.
قال: بخير، نرجو خيرا من هذه الدنيا - إن سلمنا من آفاتها وبلياتها انشاء الله -، فكيف أنت وكيف حالك؟.
فقال: كيف حال من يصبح في دار غربة أسيرا وفقيرا لا يقدر على جر منفعة ولا يرجو دفع مضرة ؟ قال أخوه: كيف ذلك؟
قال: لانا قد أصبحنا في الدنيا معذبين في صورة المنعمين، مجبورين في صورة المختارين، مغرورين في صورة المغبوطين، أحرارا كراما في صورة عبيد مهانين، مسلطا علينا خمسة حكام يسوموننا سوء العذاب، ينفذون علينا أحكامهم شئنا أو أبينا.
قال له أخوه: أخبرني من هؤلاء الحكام؟
قال نعم: أولهم هذا الفلك الدوار الذي نحن في جوفه محبوسين، وكواكبه هذه السيارة التي لا تزال تدور علينا لا تهدأ ولا تسكن، تارة تجيئنا بالليل وظلمته، وتارة بالنهار وهاجرته، وتارة بالصيف وحرارته، وتارة بالشتاء وبرودته، وتارة بالرياح العاصفة، وتارة بالغيوم الغاشية والأمطار والبروق الخاطفة، وتارة بالصواعق الزاجرة، والزلازل المهلكة، والأخاويف الموحشة، والخسوفات والكسوفات والعلامات المظلمة، وتارة بالجدب والغلاء، وتارة بالموت والوباء، وتارة بالحروب والفتن والبلاء، وتارة بالهموم والأحزان، ليس منها خلاص، ولا من سهامها مناص إلا بالموت.
وأما الآخر، فهو هذه الطبيعة وأمورها المركوزة في الجبلة، من حرارة الجوع، ولهب العطش، ونار الشبق، وحريق الشهوات، والآلام والأمراض والأسقام، وكثرة الحاجات، ليس لها شغل إلا طلب الحيلة لجر منفعة أو لدفع مضرة عن هذه الأجساد المستحيلة، التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين، فنفوسنا في جهد وبلاء، وكد وعناء، وبؤس وشقاء، ليس لنا راحة منها إلا بالممات. فهذا اثنان.
وأما الثالث: فهو هذا الناموس الأكبر، وأحكامه وحدوده، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، وزجره وتهديده وتوبيخه، وألم الجوع عند الصيام وتعب الأبدان عند القيام، ومجاهدة النفس عند اخراج الزكوات، وتعب الأسفار عند قضاء الحج، ومشقة الأبدان عند المهاجرة، وجراحتها بالسيف والسنان عند المجاهدة ومحاربة أهل الكفر والعدوان، إلى غير ذلك من آلام ترك اللذات والراحات، وشدائد اجتناب الشهوات والمحرمات.
وأما الرابع: فهذا السلطان الجائر المالك للرقاب قهرا وجورا والمستعبد للعباد جبرا وكرها، فان قمنا بخدمته وواجب طاعته فما نقاسي من الجهد والبلوي أكثر من أن يحصى، من تعب الأجساد، وهموم النفوس، وعناء الأرواح، وتضييع العمر في خدمته، وسخط الباري يوم القيامة وعذاب الآخرة، والحجاب عن الله في طاعته، وإن فررنا من سلطانه فلا عيش لنا إلا نكدا، لافتقارنا في الدنيا إلى التعاون والتمدن والسياسة والرياسة. فهذه أربعة.
وأما الخامس: فهو شدة الحاجة إلى مواد خارجية، وأغذية بدنية لا قوام لهذا الهيكل إلا بها، من المأكول والمشروب، واللباس والمسكن، والمنكوح والمركوب، وما لا بد منه في قوام هذه الحياة الدنيا، وما نقاسي من الجهد والبلوى في طلبها ليلا ونهارا، في تعلم الصنائع الشاقة، والتجارات المتعبة، والمكاسب المكدة من الحرث والزرع والبيع والشراء والمناقشة في الحسابات والمكايسة في المعاملات، والحرص والشره في جميع الأموال وحفظها من اللصوص وحراستها من الآفات العارضة، ومكابرة القطاع، ومنازعة أهل الجور والظلم، فهذه حالنا وأكثر أبناء جنسنا في هذه الدار.
وأما من يريد المقام في الدنيا، ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات والشدائد، فهو إما غير مؤمن بالآخرة، ولا مصدق بالمعاد، ولا متصور للوجود إلا هكذا، أو يتوهم أن بعد الموت عدما صرفا أو شرا محضا، وعلى الحالين يئس من الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
وأما من تصور كيفية الدار الآخرة، وتحقق أمر المعاد وعرف فضلها وشرفها، وسرور أهلها، ولذات السعداء ونعيمهم وملكهم، فأي عذر له في التمني للخلود في الدنيا، والإخلاد إلى الأرض، وطلب الرفعة والرياسة فيها، إلا خللا وسفها في عقله، أو فسادا في اعتقاده وإيمانه، كأكثر من نراه من المنتسبين إلى الإيمان،
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف:106].
حكمة قرآنية
هذه الآية ونظائرها كقوله:
هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
[النمل:90] وقوله:
ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى
[النجم:39 - 40] وقوله:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا
[آل عمران:30] وغيرها، نصوص جلية وبراهين واضحة، على أن الثواب والعقاب في دار الآخرة إنما يكونان بنفس الأعمال والأخلاق الحسنة والسيئة، لا بشيء آخر يترتب عليها، فالملذ والمؤلم، والنعمة والنقمة، والجنة والنار في دار القرار، هي نفس صور الأعمال والآثار، كما دل عليه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إنما هي أعمالكم ترد عليكم "
، وقوله:
" إن الجنة قيعان وإن غراسها سبحان الله "
وكذا قوله تعالى:
يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54] وقد مر تحقيق هذا المطلب في سلف القول.
فالعقوبات الإلهية الواصلة إلى المجرمين، كما أنها ليست من باب الانتقام الواقع عليهم من منتقم منفصل مبائن يوقع الآلام والشدائد عليهم، ويوصل المكاره والمحن إليهم، فكذلك ليست الآلام والمكاره أمورا خارجة عن ذاتهم وصفاتهم مترتبة عليها، بل الأعمال القبيحة الواقعة منهم في الدنيا بواسطة ما في ضمائرهم ونياتهم، صارت ملكة راسخة في نفوسهم، وانحرفت بسببها فطرتهم الأصلية، توجب لهم تصورات باطلة، وأفكارا مؤلمة موحشة موجودة بوجود أخروي يناسبها، فتطلع على أفئدتهم ما كان مستكنا فيها.
ولو تيسر للشقي الفاجر أن يشاهد باطنه في الدنيا بنور البصيرة، ليراه مشحونا بأصناف السباع والشياطين، وأنواع الوحوش والهوام، مثل لغضبه وشهوته وحقده وحسده وعجبه ورياه ومكره وحيلته، وهي التي لا تزال تفترسه وتنهشه، إلا أنه محجوب عن مشاهدتها، فإذا رفع هذا الحجاب، وانكشف الغطاء، ووضع في قبره، عاينها وقد تمثلت بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها.
وأول ما يقع بصر أحدهم على صورة عمله - المطابقة إياه -، يرى بعينه العقارب والحيات قد أحدقت به، وإنما هي صفاته الحاضرة الآن قد انكشفت له صورتها، فيقول:
يليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين
[الزخرف:38]، ويريد أن يهرب عنها، وأنى يتصور لأحد أن يهرب عن نفسه ولازم نفسه!.
وعلى هذا القياس، حكم الأعمال الحسنة الواقعة من أهل السعادة الأخروية المصورة في القيامة بصورة ملذة حسان، من حور وغلمان، وجنة ورضوان، فإن حقيقة تلك الصور هي موجودة معه مختفية في باطنه، وإنما تصير حاضرة مشهودة له يوم القيامة بواسطة رفع الحجاب، لقوله تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون
[السجدة:17].
[36.55]
قد مر في تفسيرنا لآية الكرسي، أن أصحاب النار بالأصالة هي النفس والشيطان، لأنهما ظلمانيتان بجوهريهما، حاصلتان من سنخ الطبيعة النارية الكدرة الدخانية من عالم الأجرام السفلية، وأن أصحاب الجنة بالأصالة هي الروح والملائكة، لأنهما نورانيتان بجوهرهما، حاصلتان من سنخ الحقيقة النورية اللطيفة من عالم الأنوار العلوية.
وأما القلب الإنساني فهو ذو وجهين: وجه إلى النفس ووجه إلى الروح، إنما ينقلب إلى أحد من هذين القبيلين بمزاولة أحوال (أعمال - ن) تناسبه، فيصير أما من أصحاب الجنة - وهم أصحاب اليمين -، وإما من أصحاب النار - وهم أصحاب الشمال -. والجنة موطن أهل السعادة ومصعدهم في جهة العلو، كما أن النار موطن أهل الشقاوة ومهبطهم في جهة السفل.
والتنكير في قوله: " في شغل " ، مشعر بأن شغلهم شغل لا يوصف بحد من جهة المشغول فيه والمشغول عنه جميعا:
أما المشغول فيه، فما ظنك بشغل من وصل إلى دار الكرامة، ومنزل المصطفين الأبرار، ومنبع الخيرات الحسان، فاز بالنعيم الدائم، ووصل إلى الحق القائم، ووقع في ملاذ وسعادات لا يكتنه وصفها ولا يحاط بنعمتها، مع كرامة وتعظيم وشرف مقيم.
وأما المشغول عنه، فما ظنك بشغل من تخلص من هموم الدنيا وأحزانها، وأمراضها وآلامها، وهجوم آفاتها وأهوالها من مشاق التكليف ومضائق التقوى والخشية، ومرارة الصبر طول العمر عن اللذات والمرغوبات، وتخطي الأهوال والأخطار والموت عن مأنوساتها بالاختيار والإضطرار، ومفارقة الأحبة والإخوان، ومهاجرة الأولاد والأقران، ومقاسات المحن من الحساد والأعداء، ومشاهدة أوضاع الفجرة والفساق، وسوء عقائدهم، وقبح أعمالهم، وغدرهم ومكرهم، وترفع حال الجهال وتصدر الأرذال، إلى غير ذلك من مكاره هذه النشأة الدنيوية وشدائدها، وآفاتها ونقائصها، وآلامها ومحنها، وأمراضها وأوجاعها - وبالجملة شرورها التي لا ينفك عنها إنسان، فكيف المؤمن الغريب في هذه الدار المشحونة بالآفات والأخطار، الطافحة بشرور الأشرار، ثم مرارة الموت وكربه، وزهوق الروح وتعبه، ووحشة القبر وخطره، وقيام الساعة وهولها، والمناقشة في الحساب، ومعاينة ما لقي العصاة من العذاب.
وعن ابن عباس: " في افتضاض الأبكار ". لا يبعد أن يكون المراد منه كشف الحقائق العلمية، وشهود المعارف العقلية - كشفا وشهودا لا يمكن البلوغ والوصول إلى نيله إلى تلك الغاية إلا في الدار الآخرة -.
وعنه أيضا: " في ضرب الأوتار ". وليس ببعيد أيضا أن يكون المراد منه سماع نغمات الأبرار، بل الاتصال بنفوس الضاربين الأوتار والأدوار، المحركين لأشواق الدائرات في عشق جمال الأبد على الفلك الدوار، والواهبين سوانح اللذات الدائمات على الرقاصين في ملاحظة جمال السرمد على بساط الرحمة (بمشاغل - ن) الأنوار.
وعن ابن كيسان: " في التزاور " ، وعن بعضهم: " في ضيافة الله " ، وعن الحسن: " شغلهم عما فيه أهل النار بما هم فيه " ، وعن الكلبي: " في شغل عن أهاليهم من أهل النار، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم لئلا يدخل عليهم تنقيص في نعيمهم ".
واللفظ جاء بضمتين، وفتحتين، وضمة وسكون، وفتحة وسكون.
و " الفاكه ": المتنعم والمتلذذ، وكذا " الفكه " ومنه: " الفاكهة " لأنها ما يتلذذ به، وكذا " الفكاهة " وهي المزاحة، وقريء " فكهون " بغير ألف، وهو بكسر الكاف وضمها، كقولهم: " رجل حدث وحدث " أي كثير الحديث، " ونطس ونطس " للمبالغ في الشيء، والباقون بالألف في كل القرآن، إلا أن حفص وافق أبا جعفر في المطففين:
انقلبوا فكهين
[المطففين:31] وقرئ: " فاكهين " و " فكهين " على أنه حال، والظرف مستقر.
بصيرة أخروية
" الشغل " كثيرا ما يطلق ويراد منه الصنعة والكسب، وقد تحقق لنا بأرصاد روحانية وأنظار دقيقة كشفية، أن النفس الإنسانية إذا استكملت ذاتها بالعلم والتقوى، وتجردت عن غشاوة العالم الأدنى، وتشبهت بأخلاق الله، وطارت بأجنحة الكروبيين، ووصلت إلى عالمها، وبلغت إلى فطرتها الأولى، أصبحت مخترعة للصور الغيبية المستورة عن الحواس، فاعلة للأشكال الحسنة الجنانية الخارجة عن إدراك أهل الظن والقياس، لكونها شديدة الشبه عند الاستكمال والتجرد عن هذا العالم بالمبدء الفعال في الصفات والأفعال، كالحديدة الحامية المجاورة للنار، الفاعلة فعلها من الإنارة والاشعال وسائر الآثار.
فما ظنك بنفوس كريمة تنورت بنور الله، وتلبست بلباس الهيبة والعظمة والنور، وتسربلت بسربال الكرامة والسرور، في صيرورتها واهبة الحياة لما تصورتها صورة أخروية، معطية الوجود والشروق لما أنشأتها نشأة ثانوية، لكونها واقعة في أفق العظمة والإشراق، مستوطنة في دار كرامة الله العزيز الخلاق، وجنة رحمته التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولكل أحد من أهل الله في الجنة ما تشتهيه، كما قال:
ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم
[فصلت:31]، وسيأتي بعد هذه الآية بأدنى فاصلة قوله:
ولهم ما يدعون
[يس:57]، إشارة إلى هذا المعنى.
فانظر كيف جعل الله النفس الإنسانية ذات اقتدار على إنشاء الصور المطهرة في الدار الآخرة، المرتفعة عن أدناس عالم الحواس، لقيامها خاضعة خاشعة بين يدي الحق رب العالمين، خلاق صور الأشياء بالإبداع والتكوين، مفيض القوة والقدرة على المخلصين الصابرين، رب الطول والحول على الوافدين، القارعين باب الرحمة والجود، العاكفين في جانب الحق ينبوع الوجود.
فإذا تحققت هذا فاعلم أن معنى قوله: { أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون }؛ إنهم مشغولون بعمارة الجنة حيث ما يشاؤون، وهم قائمون بإنشاء الصور البهية النقية الحسان، اللاتي لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان، لصيرورتهم من جملة إخوان التقديس لا يشغلهم شأن عن شأن، وسيأتي زيادة كشف لهذا المعنى.
وإنما خصص هذه الحالة لليوم الآخر، وإن كان لبعض المتجردين عن جلباب البشرية أن تخترع نفوسهم صورا يشاهدونها في صقع من عالم الملكوت، لأن تمام الإقتدار إنما يتيسر لهم عند قيام الساعة في دار القرار، وأما التي يخترعونها ويشاهدونها قبل ذلك، فهي غير ثابتة لهم دائما، بل في بعض الأحايين على وجه شبحي مثالي، ليس في غاية الإشراق والإنارة لشوائب آفات الدنيا ومنقصاتها.
[36.56]
" هم " إما مبتدأ خبره إما " في ظلال " ، أو " على الأرائك متكئون " ، وإما تأكيد للضمير في " شغل " ، وفي " فاكهون " ، على أن أزواجهم تشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه.
و " الأرائك " جمع " أريكة " وهو: السرير في الحجلة، وقيل: " الأرائك " الوسائد، وقال الأزهري: كل ما اتكئ عليه.
وقرئ: في ظلل. وقرأ ابن مسعود: متكين.
أخبر سبحانه عن بعض أحوال السعداء وقال: هم وأزواجهم في ظلال، أي: هم وحلائلهم في الدنيا ممن وافقهم على إيمانهم في أستار عن وهج الشمس وسمومها، كما أنهم في حفظ عن برد الزمهرير وجموده، فهم في حالة معتدلة لا حر فيها ولا برد، لقوله:
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا
[الإنسان:13].
وقيل: أزواجهم اللاتي زوجهم الله في الجنة من الحور العين، في ظلال أشجار الجنة، أو في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم، على الأرائك - وهي السرر عليها الحجال.
مكاشفة
الضمير راجع إلى أرواح أهل الإيمان، الذين استكملوا بالعلم والتقوى، فصاروا تحت ظلال الملكوت، مرتفعين عن عالم الناسوت، و " أزواجهم " ، نفوسهم التي يسكنون إليها، فإن نسبة النفس إلى الروح نسبة الزوجة إلى الزوج، لانفعالها وتأثرها عن واردات الروح، وانقيادها وتسليمها له، إذا كانت صالحة مطواعة، غير ناشزة وأنفة عن طاعته، ولا كيادة غدارة في صحبته.
أي: هم ونفوسهم الموافقة لهم في التوجه إلى الحق، المشايعة المطاوعة إياهم في طريق العبودية لله، في ظلال من أنوار الصفات، وهي الحجب النورية والوسائط العقلية المشار إليها في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلما انتهى إليه نظره "
، على الأرائك - المقامات والدرجات - متكئون.
ويحتمل أن يكون " هم " مبتدأ خبره " على الأرائك متكئون " ، ويكون " أزواجهم في ظلال " جملة حالية من مبتدء وخبر، فإن النفس واقعة في ظل الروح، بل الظرفية تجويزية من باب عموم المجاز، لأن النفس هي بعينها ظل نور الروح ودخانية ناره، كما أن البدن بصفوة أخلاطه وروحه النفساني في ظل النفس وكدر صافها.
[36.57]
أي: لأصحاب الجنة في الجنة فواكه كثيرة، ولهم فيها ما يدعون، وهم يفتعلون من الدعاء أي: يدعون به لأنفسهم، كقولك: " اشتوى واجتمل " إذا شوى وجمل لنفسه، وفي قول لبيد، " فاشتوى ليلة ريح واجتمل " ، ويجوز أن يكون بمعنى " يتداعونه " كقولك: " ارتموه " و " تراموه ".
وقيل معناه: لهم فيها ما يتمنون ويشتهون. قال أبو عبيدة: تقول العرب: " ادع علي ما شئت " أي: تمنه علي، و " فلان في خير ما ادعى " أي في خير ما تمنى.
وقيل: معناه أن كل ما يدعي شيئا فهو بحكم الله، لأنه قد هذب طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم.
وقال الزجاج، هو مأخوذ من " الدعاء " ، يعني أن أهل الجنة كل ما يدعون به يأتيهم.
[36.58]
" سلام " مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة " لهم ما يدعون " عليه، كأنه قال: " لهم ما يدعون ولهم سلام " ، ويجوز أيضا أن يكون بدلا من " ما يدعون " ، و " قولا " مفعول به، أي: يقول الله قولا يسمعونه من رب رحيم ، فنودوا بدوام الأمن والسلامة مع سبوغ النعمة والكرامة، أو مفعول مطلق، أي: يقال لهم قولا من جهة رب رحيم. بمعنى أنه سبحانه يسلم عليهم بلا واسطة، أو بواسطة الملائكة، تعظيما وتكريما لهم، وعلى تقدير البدلية، يكون اشعارا بأن ذلك غاية ما يتمنونه وغاية منى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم، ولهم ذلك من غير منع.
وعن ابن عباس: الملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين.
وقيل: إن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، يقولون: " سلام عليكم من ربكم الرحيم ".
وفي الكشاف قيل: " ما يدعون " مبتدأ وخبره " سلام " ، بمعنى: ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه، و " قولا " مصدر مؤكد لقوله: " ولهم ما يدعون سلام - أي عدة - من رب رحيم " ، والأوجه أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه.
وقرئ: " سلم ". في قراءة ابن مسعود: " سلاما، نصبا على الحالية، أي: لهم ما يدعون سالما.
مكاشفة برهانية
قد سبقت الإشارة إلى أن الإنسان إذا مات عن الدنيا ولذاتها، وصفت نفسه عن درن الشهوات، وتنورت بأنوار العبودية والطاعة، وتخلقت بأخلاق الله، وبلغت مقام الفناء في التوحيد، فحشر إلى ربه وتسرمد بسرمديته، ونفذ حكمه في العالم على حسب التابعية ومقام الرضا، واستشرقت ذاته اللطيفة الصافية باشراق نور المحبة في أرجائها، فتكرم بكرامة التكوين والإيجاد، فتسخر له ما في الملك والملكوت، ويسمع دعاؤه ودعوته في عالم الجبروت، لكونه وليد القدس وخليفة الله في أرضه، ويكون ممن أمر الله سبحانه بواطن الملكوت والروحانيين وعباده المسبحين بأن يسجدوا له كلهم، بقوله:
اسجدوا لآدم
[البقرة:34]. ويكون ممن يطيع له الملكوت ويسجدون له كما سجد الملائكة كلهم لأبيه آدم حين أمرهم الله بسجوده، كما في قوله تعالى:
إني خالق بشرا من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص:71 - 72]، وها هنا يظهر سر ما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أن العالم يستغفر له من في السماء ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر ".
وبالجملة، الإنسان إذا انخرط في سلك المقربين، يصير نفس تصوره لكل ما يتمناه نفس وجود ذلك الشيء في العين، كما أن قبل ذلك يعم لكل أحد إذا تصور شيئا وتمناه خضع له في عالم توهمه، ويكون نفس تصوره لشيء وجودا خياليا ذهنيا له، فلكل أحد ها هنا ما تشتهي نفسه في خياله وضميره، إلا أن ضميره وباطنه في غاية القصور، وارادته وهمته في غاية الضعف، فيكون للأشياء بالقياس إليه وجود كالعدم، وحضور كالغيبة، وأما في الآخرة فإذا قوي روح الإنسان بالعلم والإيمان، وتخلص عن قيود الإمكان ورق الحدثان، وسلاسل الذنوب وغل العصيان، كان الذهن له خارجا، والعلم عينا، والغيبة حضورا، فيحضر ويوجد له دفعة واحدة كل ما يهمه ويهواه، هذا هو المراد بقوله تعالى: { ولهم فيها ما يدعون }.
ثم اعلم أنه
" ورد في الحديث في خبر أهل الجنة: أنه يأتي إليهم الملك بعد أن يستأذن منهم في الدخول عليهم، فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله، فإذ في الكتاب لكل إنسان يخاطب به: من الحي القيوم إلى الحي القيوم، أما بعد: فإني أقول للشيء " كن " فيكون، وقد جعلتك اليوم تقول للشيء " كن " فيكون. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فلا يقول أحد من أهل الجنة لشيء " كن " إلا ويكون ".
تأييد كشفي
قال بعض أهل المعرفة في شرح هذا الحديث: إن قوله (صلى الله عليه وآله):
" فلا يقول أحد من أهل الجنة لشيء كن إلا ويكون "
جاء (بشيء) نكرة، فعم، وغاية الطبيعة تكوين الأجسام وما تحمله مما لا تخلو عنه وتطلبه بالطبع، وغاية النفس تكوين الأرواح الجزئية في النشآت الطبيعية، فما أعطى العموم إلا للإنسان الكامل حامل السر الإلهي، فكل ما سوى الله شطر من الإنسان الكامل - فاعقل إن كنت تعقل -.
ومن أراد أن يعرف كماله، فلينظر في نفسه وأمره ونهيه وتكوينه بلا واسطة لسان ولا جارية ولا مخلوق غيره، فهو على بينة من ربه في كماله، فإن أمر أو نهى، أو شرع في التكوين بواسطة جارحة من جوارحه، فلم يقع شيء من ذلك ، أو وقع في شيء دون شيء، ولم يعم - مع عموم ذلك بترك الواسطة - فقد كمل، فلا يقدح في كماله ما لم يقع في الوجود عن أمره بالواسطة، فإن الصورة الإلهية بهذا ظهرت في الوجود، فإنه أمر عباده على ألسنة رسله وفي كتبه، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى، وبارتفاع الوسائط لا سبيل إلا الطاعة خاصة، كما قال (صلى الله عليه وآله):
" يد الله مع الجماعة "
، وقدرته نافذة، ولهذا إذا اجتمع الإنسان في نفسه حتى صار شيئا واحدا، نفذت همته فيما يريد، وهذا ذوق أجمع عليه أهل الله قاطبة، انتهى كلامه.
وقال في موضع آخر: " بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام الفاشي، والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة، ولكن لا تزال الهمة تحفظه ولا يؤودها حفظ ما خلقته، فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق، عدم ذلك المخلوق " انتهى.
وقال الغزالي في رسالة المضنون به على غير أهله، " إن النوم مستحقر لأجل انقطاعه، فلو كانت دائمة لم يظهر الفرق بين الخيالي والحسي، لأن التذاذ الإنسان بالصور من حيث انطباعها في الخيال والحس، لا من حيث وجودها في الخارج، فلو وجد في الخارج ولم يوجد في حسه بالانطباع، فلا لذة له، ولو بقي المنطبع في الحس وعدم في الخارج لدامت اللذة، وللقوة المتخيلة قدرة على اختراع الصور في هذا العالم، إلا أن صورها المخترعة متخيلة، وليست بمحسوسة ولا منطبعة في القوة الباصرة، فلذلك لو اخترع صورة جميلة في غاية الجمال، وتوهم حضورها ومشاهدتها، لم تعظم لذته، لأنه ليس بصيرا مبصرا كما في المنام.
فلو كانت له قوة على تصويرها في القوة الباصرة، كماله قوة على تصويرها في القوة المتخيلة، لعظمت لذته، ونزلت منزلة الصورة الموجودة في الخارج، ولم تفارق الدنيا الآخرة في هذا المعنى إلا من حيث كمال القدرة على تصوير الصورة في القوة الباصرة، فكلما تشتهيه فيحضر عنده في الحال، فتكون شهوته بسبب تخيله، وتخيله بسبب ابصاره، أي بسبب انطباعه في القوة الباصرة، ولا يخطر بباله شيء يميل إليه إلا ويوجد في الخيال (الحال - ن)، أي يوجد له بحيث يراه.
وإليه الإشارة بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أن في الجنة سوقا تباع فيه الصور "
، والسوق عبارة عن اللطف الإلهي الذي هو منبع القدرة على اختراع الصور بحسب المشية، وانطباع القوة الباصرة بعدها انطباعا ثانيا إلى دوام المشية، لا انطباعا هو بمعرض الزوال من غير اختيار كما في النوم في هذا العالم.
وهذه القدرة أوسع وأكمل من القدرة على الإيجاد عن خارج الحس، لأن الموجود في خارج الحس لا يوجد في مكانين، وإذا صار مشغولا باستماع واحد ومشاهدته ومماسته، صار مستغرقا محجوبا عن غيره، وأما هذا فيتسع اتساعا لا ضيق فيه ولا منع، حتى لو اشتهى مشاهدة النبي (صلى الله عليه وآله) - مثلا - ألف شخص في ألف مكان في حالة واحدة لشاهدوه كلما خطر ببالهم في الأمكنة المختلفة، وأما الإبصار الحاصل من شخص النبي (صل الله عليه وآله) الموجود في خارج الحس، فلا يكون إلا في مكان واحد، وحمل أمور الآخرة على ما هو أوسع وأتم للشهوات وأوفى لها أولى.
ولا ينتقص عن رتبتها في الوجود انتفاء وجودها من الخارج، فإن وجودها مراد لأجل حظه، وحظه من وجوده في حسه، فإذا وجد فقد توفر حظه، والباقي فضل لا حاجة إليه، وإنما يراد لأنه طريق المقصود، وقد تعين كونه طريقا في هذا العالم الضيق القاصر، أما في ذلك العالم، فيتسع الطريق ولا يتضيق " انتهى كلامه.
مباحثة عقلية
إن هذا النحرير الخبير قد تتبع أثر كلام فاضل المشائين أبي علي بن سينا في تحصيل مسألة المعاد الجسماني، حيث قال في أواخر كتابه المعروف بالشفاء، بعد أن صحح اعتقاده بالمعاد بكون بعض الأجرام السماوية موضوعا لتخيلات المتوسطين في السعادة والأشقياء، وفي جميع ما اعتقدوه من الأحوال الأخروية، أو سمعوه من الإنذارات في الدنيا، من أحوال القبر والبعث والثواب والعقاب بهذه العبارة:
" إن الصورة الخيالية ليست أضعف عن الحسية، بل تزداد عليها تأثيرا وصفاءا كما يشاهد في المنام، فربما كان المحلوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس، على أن الأخرى أشد استقرارا من الموجود في المنام بحسب قلة العوائق وتجرد النفس وصفاء القابل، وليست الصورة التي ترى في المنام بل والتي تحس في اليقظة - كما علمت - إلا المرتسمة في النفس، إلا أن إحداهما تبتدئ من باطن وتنحدر إليه، والثانية تبتدئ من خارج وترتفع إليه، فإذا ارتسم في النفس تم هناك الإدراك المشاهد، وإنما يلذ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج، وكلما ارتسم في النفس فعل فعله وإن لم يكن سبب من خارج، فإن السبب الذاتي هو هذا المرتسم، والخارج هو سبب بالعرض أو سبب السبب " انتهت ألفاظه.
والعجب منهما جميعا، كيف اقتنعا في هذه المسألة المهمة الشريفة الدينية، التي لا يخرج الإنسان من خطر سوء العاقبة إلا بتحقيقها وتبيينها، بهذه المرتبة الدنية، وقصرا في الإعتقاد بيوم المعاد على هذه الدرجة النازلة.
بل الحق الحقيق بالإعتقاد والتصديق، هو ما تنورت به نفوس الراسخين في العلم والإيمان، المثبتين في الحكمة والعرفان، من علماء هذه الملة البيضاء، وحكماء هذه الشريعة الغراء، وهو أن الصور الموجودة الموعودة في الدار الآخرة موجودات عينية وثابتات خارجية منفصلة عن النفس - لا أنها حالة فيها حلول الصور الانطباعية - وإنما هي جواهرها جواهر عينية وثابتات خارجية منفصلة عن النفس، وهي على أشكالها وهيئاتها وصفاتها المنعوتة في الكتاب والسنة، وأقدارها واعظامها وإعدادها الموعودة في لسان الشريعة من غير تجوزات واستعارات في اللفظ، وتكلفات وتمحلات في الحكاية.
وهي أقوى تأثيرا وأدوم آثارا من موجودات هذا العالم، بل لا نسبة بينها وبين هذه المؤثرات (الداثرات - ن) المستحيلات في باب الموجودية وترتب الآثار بها، وليست أنها بحيث يمكن أن ترى بهذه الأبصار البالية الفانية كما ذهب إليها الظاهريون، ولا أنها خيالية محضة لا وجود لها في العين، أو مثالية محضة لا تشاهد إلا في مظاهر أخرى نفسانية أو خيالية، أو أجرام فلكية أو كوكبية كما رآه آخرون، ولا أنها مجرد مفهومات عقلية وأمور ذهنية كلية كما زعمه المشاؤون، ولا أنها مجرد مثالات عقلية لأجسام نوعية وأرباب أنواع جسمانية لأصنام شخصية كما ذهب إليه الرواقيون، ولا أنها أشخاص وأجسام ستوجد في هذا العالم ويتعلق بها النفوس الناقصة والمتوسطة بعد مرور أكوار وأدوار كثيرة، ومضي دهور وأحقاب عديدة، كما تمحله وانتحله التناسخية.
بل كما ذكرناه، صورة عينية جوهرية موجودة، لا في هذا العالم ودار العمل، ولا يشاهد بهذه الحواس، وإنما هي ثابتة في عالم الآخرة ودار الثواب.
وعالم الآخرة جنس لعوالم كثيرة، كل منها أعظم من هذا العالم بما لا نسبة بينهما، ولكل نفس من نفوس الأخيار عالم عظيم الفسحة، ومملكة أعظم من السماوات والأرض بعدة أضعاف.
ووجود أمور الآخرة وإن كان يشبه وجود الصور التي يراها الإنسان في المنام أو في المرآة من وجه، إلا أن الموجودة في المنام والمرآة أمور ضعيفة، شأنها الحكاية المحضة، وأما الصور الموجودة في الدار الآخرة فهي أمور قوية الوجود شديدة التأثير، نسبتها إلى هذه الصور الدنيوية كنسبة هذه الصور المحسوسة إلى الموجودة في المنام، من بقايا المرتسمات الوهمية والمخزونات الخيالية، كما ورد في الحديث من قوله (صلى الله عليه وآله):
" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا "
، فيعلم منه أن الكون في الدنيا منام والعيش فيها أحلام.
وقد مرت في تفسيرنا لبعض الآيات إشارات لطيفة وتنبيهات على كيفية وجود الصور الأخروية، وأما بيانه التفصيلي على المنهج البرهاني اللمي بالنظم الحكمي المتعارف بين المباحثين، المناسب للناظرين، فقد أودعناه في بعض " الأسفار الإلهية " الموسومة بالحكمة المتعالية.
وأما إجماله، فإنما يستفاد من هذه الآية ونظائرها، بملاحظة أن النفس الناطقة الإنسانية من سنخ الملكوت وعالم القدرة والنورية، والنور فياض لذاته، والملكوتيون لهم اقتدار على اختراع الصور من غير حاجة إلى مادة وموضوع تصرفوا فيها كأرباب الصنائع في صنائعهم، ووجود المادة وعدمها مناط الفرق بين الصنع والإبداع، فإن الحاصل بالإنشاء والإبداع يكون صورة من غير مادة وموضوع، والحاصل بالصنع والتكوين صورة في مادة أو مع مادة.
لكن النفس ما دامت متعلقة بهذا البدن الكثيف الظلماني، المركب من الأضداد، لا يمكنها إنشاء الصور والأشكال التي أرادت وشاءت إلا ضعيفة الكون شبحية الوجود، بمنزلة الطلل والرسوم التي لا تترتب عليها الآثار المطلوبة، ولا تكون أيضا ثابتة باقية بل دائرة زائلة، لأن مظهرها القوة الخيالية، وهي دائمة التحلل والتجدد والزوال، والإنتقال من حال إلى حال حسب اختلاف أمزجة محلها، بسبب ما يرد على الروح البخاري من المشوشات والمتغيرات الخارجة والداخلة.
أولا ترى أن النفس كلما استراحت من الشواغل الضرورية وغير الضرورية والحركات اللازمة لحفظ البدن، المجتمعة من الأمور المتضادة المتداعية إلى الانفكاك، وتعطلت حواسها الظاهرة واحتبست عن استعمالها والاشتغال بها - إما بالنوم، أو بتوجهها إلى الجنبة العالية بقوة في ذاتها نظرية أو كسبية - اغتنمت الفرصة ورجعت إلى ذاتها النورية الفياضة، فأصبحت مخترعة للصور مشاهدة إياها بحواسها التي لها في ذاتها بلا مشاركة البدن، فإن للنفس في ذاتها بصرا وسمعا وذوقا وشما ولمسا من دون حاجة لها إلى البدن وقواه، بل هي أتم وأقوى وأصفى من هذه التي في البدن، بل هذه هي ظلال تلك، وكما أن حواس البدن كلها ترجع إلى حاسة واحدة هي " الحس المشترك " ، فجميع حواس النفس وقواها ترجع إلى قوة واحدة وهي ذاتها النورية الفياضة للصور.
وقد أشرنا إلى أن نزول الشيء عن فطرته يكثره ويضعفه، فهذه الحواس على كثرتها كأنها هي صفات النفس الموجودة في ذاتها بوجود واحد، تشعبت وتكثرت في البدن، والضعف مما يوجب التكثر والإنقسام، كالنبض يتعدد ويتواتر عند ضعفه، فإذا رجعت النفس إلى فطرتها وذاتها من هذا العالم، صار إدراكها للأشياء عين قدرتها عليه، فيكون علمها فعلا وحسها قدرة، وكلما كانت أتم قوة، وأقوى تجوهرا، وأقل مزاحمة من قواها وشواغلها، كانت ملاقاتها للصور الغيبية ومشاهدتها إياها، وترتب آثار الوجود على صورها المشهودة إلذاذا أو إيلاما أكثر.
وربما كانت قوة بعض النفوس لغاية جلالتها وقربها من الحق سبحانه بحيث تفي بضبط الجانبين، وتسع للتصرف في النشأتين، فكانت مع تعلقها بهذا البدن مشاهدا لعالم الآخرة ، وذلك لنفضهم غبار هذه المحسوسات عن أذيال نفوسهم، وعدم التفاتهم إلى صور هذه الدار إلا بعين الاحتقار، فلا يشغلهم شأن عن شأن، ولا يحجبهم منزل عن منزل، ولا يلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وتذكر الأمور الأخروية، فهي كالمبادئ الفعالة ذاتا وصفة وفعلا، فتقدر على إيجاد الصور وإنشاء الأعيان، وذلك لظهور سلطان الآخرة على قلوبهم، وقيامهم إلى الله عن هذه القبور البالية.
فهذه أنموذج لمعرفة أحوال الآخرة وما يراه الإنسان من الصور الملذة أو المؤذية الموعودة أو المتوعدة عليها في الجنة والنار، ويعلم منه كيفية احضار كل ما يشتهيه ويدعيه أهل الجنة في الجنة المشار إليه في هذه الآية قوله:
ولهم ما يدعون
[يس:57].
بل يعلم أيضا كل نفس - سواء كانت سعيدة أو شقية -، فهي إذا انقطعت عن البدن، وارتحلت عن هذه الدار، وارتفعت عنها شواغلها صحبة الأغيار، ورجعت إلى ذاتها وعالمها، وصارت جوانبها الباطنية لإدراك الأمور الأخروية قوية حديدة، لقوله تعالى:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22] فيشاهد الصور الغيبية المخزونة عنها من نتائج أعمالها وأفعالها، ومطامح أنظارها ومقاصد طبائعها وغاية هممها وقصورها، فإن كانت هي من الأمور القدسية الدائمة الباقية المقربة إلى الحق، المؤكدة للروح والريحان، والانس بروائح القدس، كانت الروح عند ملاقاتها مسرورة بها، قريرة العين بمشاهدتها، كالجنة والرضوان ومجاورة الرحمان، وإن كانت من باب اللذات الداثرات، والشهوات الدنية الفانية، كانت الروح عند ملاقاتها في غصة وعذاب أليم، وتصليه جحيم.
مباحثة أخرى
ثم إني لأتعجب من بعض الشيوخ الموصوفين بالعلم والحكمة وفقه الآيات بالإشراق والهمة، مع شدة توغله في فهم الأسرار وعلم الأنوار، واعتقاده بوجود عالم الجنة والنار - إليه رجعى نفوس الأخيار والفجار - كيف صوب واختار قول بعض العلماء، كما صوبه واختاره الشيخان الجليلان - وهما أبو علي والغزالي - تصريحا وتلميحا، من كون جرم سماوي موضوعا لتخيلات طوائف من السعداء والأشقياء، مستدلا بأنهم لم يتصور لهم العالم العقلي، ولم تنقطع علاقتهم عن الأجرام، وهم بعد بالقوة التي احتاجت بها النفس إلى علاقة البدن، وقال: " إنه كلام حسن " ، موافقا لما قال أبو علي بعد نقله إياه: " أنه مما يشبه أن يكون كلاما حقا " وكما اختاره الغزالي في مقالته المضنون بها - وهو ما نقلنا آنفا -.
إلا أن هذا الشيخ الاشراقي، خالفهما في تعلق نفوس الأشقياء بتلك الأجرام الشريفة ذوات النفوس النورانية، حيث قال: " والقوة تحوجهم إلى التخيل الجرمي، فليس يمتنع أن يكون تحت فلك القمر وفوق كرة النار جرم كروي غير منخرق هو نوع بنفسه، ويكون برزخا بين العالم الأثيري والعنصري موضوعا لتخيلاتهم، فيتخيلون به من أعمالهم السيئة مثلا من نيران وحيات تلسع، وعقارب تلدغ، وزقوم تشرب، وغير ذلك ".
وقال: " ولست أشك لما اشتغلت به من الرياضات أن الجهال والفجرة لو تجردوا عن قوة جرمية مذكرة لأحوالهم مستتبعة لملكاتهم وجهالاتهم، مخصصة لتصوراتهم، نجوا إلى الروح الأكبر " انتهى.
ولا يخفى على الخبير البصير، أن كون جسم من الأجسام فلكي أو عنصري موضوعا لتخيل النفس ومرآة لمشاهدتها صور الأشياء، لا تستم إلا بأن يكون لها معه علاقة ذاتية أو وضعية بتوسط ما هو لها معه تلك العلاقة بالذات، وبالجملة، لا بد من أن يكون ذلك الجسم في تصرف النفس بوجه من الوجوه، وأقله كما يكون في المرايا التي لها علاقة وضعية بالنسبة إلى المادة البدنية، التي هي موضوعة لأفاعيل النفس ومحل لقواها، ومطرح لأشعتها وأضوائها، المنبعثة عن ذاتها النيرة الواقعة عليك.
فإنك إذا كنت ترى صورة في المرآة، فهو لأجل علاقة وضعية لها ابتداء أو بتوسط مرآة أخرى مع عينك التي هي أيضا مرآة في تصرف النفس بعلاقة طبيعية، وليس الجرم الفلكي أو ما يجري مجراه، مما يؤثر فيه شيء من النفوس إلا نفسه الفائضة عليه من مبدئه، وقد تقرر عندنا، أن الأجرام العلوية ليست مطيعة لغير مباديها الذاتية، وهي ملائكة السماوات بأمر ربها، ولا قابلة للتأثيرات الغريبة من القواسر، وليست لتلك النفوس المفارقة عن هذه الأبدان أبدان أخرى، حتى تكون لأبدانها بالقياس إلى تلك الأجرام العلوية علاقة وضعية، لتصير هي كمرآة لتلك النفوس يشاهدون ما فيها من الصور.
وعلى تقدير صحة كونها مرائي، تكون الصور المرتسمة في مرائيها هي تخيلات الأفلاك وما في حكمها، لا تخيلات تلك النفوس، فكيف يجوزون أن تكون تلك الصور مما يتلذذ به السعداء أو يتعذب به الأشقياء؟ كيف والصور المؤلمة لهم - على ما اعترفوا به -، ليست إلا هيئاتهم الردية وتخيلاتهم النفسانية المشوشة الباطلة، وعقائدهم الوهمانية الخبيثة الفاسدة، دون الصور المطابقة لما هو الواقع، لأن الكائن في القابل الذي هو في غاية الخلوص والنقاء - كالأجرام العالية - من الفاعل الذي في غاية الشرف والبهاء - كالمبادي العقلية - لا يكون إلا صورا علمية مطابقة لما هو عليه الأمر في نفسه.
ثم من المعلوم أن علاقة الجوهر الروحاني بجرم إنما هي لنسبة طبيعية بين مادته البدنية وبين الجوهر الروحاني، فأيه نسبة حدثت بينهما بالموت حتى أوجبت اختصاصه به وانجذابه من عالمه إليه دون غيره من الأجرام؟ بل إلى حيزه دون بقية الاحياز من نوع ذلك الجرم؟
ثم أن الجسم الذي هو موضوع التخيلات، يجب أن تتصرف فيه النفس وتحركه بحركات جرمية، تابعة للحركات النفسانية وارادته الفكرية، كما يعرض لجوهر الدماغ من الإنفعال والتغيرات، وظاهر، أن الجوهر الفلكي يأبى عن تصرف فيه من غير نفسه المحركة إياه حركة متشابهة مستمرة على نهج واحد.
وإن كان جرما مركبا دخانيا تحت كرة النار - كما زعمه قوم - فهو أيضا غير صحيح، لعدم اعتدال فيه يصلح لقبول النفس المدبرة له، فإنه أن قرب من النار فتحيله بسرعة إلى جوهرها، وأن بعد منها فيكون في حيز الهواء، فأما أن يتخلخل فيصعد بحر، أو يتكاثف فينزل ببرد، وليس فيه جرم محيط يغلب عليه من الصلابة واليبس ما يحفظه من التبدد ويحرسه عن ممازجة غيره به، كما للجوهر الدماغي فينا، ليتعين فيه محل التخيل بتشكلاته، ولا بد من جوهر يابس لتنحفظ فيه الصور، ورطب ليقبل.
ثم لما كانت النفوس المفارقة عن الأبدان الإنسانية غير متناهية عندهم، لزم مما ذكروه اجتماع المفارقات كلها على جسم من أجسام العالم، فيلزم أما نهاية تلك الجواهر، أو عدم نهاية ذلك الجسم ، وكلاهما محال، فلا يستتم ما قالوه ولا يستقيم ما تصوروه من كونها مما يتعذب به الأشقياء.
وكما لم يجز ذلك في الجرم الفلكي، فكذلك لا يصح في جرم إبداعي غير منخرق منحصر نوعه في شخصه كما توهموه، بل هذا الجرم أيضا كما فرضوه، له طبيعة خامسة فلكية وإن كانت تحت كرة القمر، للزوم كونه غير مستقيم الحركة، بل ذا حركة مستديرة دائمة يخرج بها أوضاعه وكمالاته من القوة إلى الفعل، وسائر صفات الأفلاك على رأيهم، ولعل عدد نفوس الأشقياء غير متناه على رأيهم كما مر، فكيف يكون جرم دخاني متناه موضوعا لتصرفاتها وصورها الإدراكية الغير المتناهية، إذ لا أقل من أن يكون فيه بإزاء تعلق كل نفس وكل ارتسام صورة فيها قوة واستعداد لها، فيلزم أن يكون جرم واحد ذا قوة غير متناهية مجتمعة، وذلك معلوم الفساد.
بل الحق، أن الصور الملذة للسعداء، والمؤذية للأشقياء، في النشأة الثانية -، كما وعدت الشريعة الحقة النبوية، على الصادع بها وآله أفضل الصلاة والتحية - هي واقعة في صقع آخر، مظاهرها نفوس هاتين الطائفتين بضرب من الفعل والتأثير، كما أن الصور تقع في المرآة بضرب من القبول، ولا منافة بين صدور الفعل عن قوة بجهة، وانفعالها عنه بجهة أخرى، كما أن الصحة والمرض البدنيين ينشئان من النفس في هذه الدار - كما هو التحقيق - بواسطة ما سبق من أفعال تغير المزاج، ثم تنفعل النفس منهما، وتكون من أحدهما في راحة ومن الآخر في مشقة.
وذلك لكونها ذات جهتي قوة وفعل، وكمال ونقص، ووجوب وإمكان، يفعل بأحدهما وينفعل بالأخرى، وهكذا يكون حالها بحسب فعل الطاعات واقتراف السيئات المؤدية إلى الصور الحسنة والقبيحة يوم الآخرة عند تجسم الأعمال، فيتنعم أو يتعذب.
وهاتان الجهتان موجودتان في النفس ما لم يصر عقلا بسيطا صرفا يكون فعالا ودراكا، وقد ثبت عندنا أن " عنه " و " فيه " في المفارقات المحضة شيء واحد.
فقد وضح أن جميع ما يلحق النفس في الآخرة هو ما ينشأ منها، فظهر بطلان قول هؤلاء المتشبثين بأذيال الأفكار الفلسفية ، الواقفين عن الإرتقاء إلى ذروة قدس الملة المصطفوية، وأوج عرفان الحكمة المحمدية، على الصادع بها وآله أزكى الصلوات الأبدية.
تأييد تنبيهي
ومما يؤكد ويوضح ما ذكرناه، من بطلان قول هؤلاء بتعلق الأرواح بعد الموت بأجسام فلكية أو دخانية، ليكون الحاصل في قواها من الصور المثالية هي بعينها جنة السعداء وجحيم الأشقياء، وتصحيح أن تلك الصور والأشباح حادثة عن الأرواح في صقع منها وفي عالمها المختص بها، نتيجة لأعمالها وأخلاقها الحاصلة في الدنيا، هو ما صرح به بعض أهل الكشف بقوله:
" عليك أن تعلم أن البرزخ الذي تكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنيوية هو غير البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام، لأن تنزلات الوجود ومعارجه دورية، والمرتبة التي قبل النشأة الدنيوية هي من مراتب التنزلات ولها الأولية، والتي بعدها من مراتب المعارج ولها الآخرية.
وأيضا، الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير، إنما هي صور الأعمال ونتيجة الأفعال السابقة في الدنيا، بخلاف صور البرزخ الأول، فلا يكون أحدهما عين الآخر، لكنهما يشتركان في كونهما عالما روحانيا وجوهرا مثاليا " - انتهى.
وقال في الباب الثالث والستين من فتوحاته المكية: " فجميع ما يدركه الإنسان بعد موته في البرزخ من الأمور لعين الصور التي هو بها في الدنيا ".
وقال في آخر هذا الباب: " وكل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه، محبوس في صور أعماله، إلى أن يبعث يوم القيامة في النشأة الآخرة " انتهى كلامه.
وبه يعلم، أن تلك الصور الملذة والمؤلمة مبدء وجودها النفوس، لأنها نتائج الأعمال اللاحقة، وهي ليست تخيلات الأفلاك وتصوراتها التي هي بعينها صور عالم المثال السابقة عندهم، ولا يمكن أيضا أن ترتسم فيها صور أخرى حاصلة من تلك النفوس، وإلا لانفعلت عنها وتأثرت من آثارها، فانفسدت بكثرة التأثيرات الغريبة.
ويعلم من قوله: " فجميع ما يدركه الإنسان بعد موته - إلى آخره - " وقوله: " كل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه - إلى آخره - " أن الصور الإعتقادية هي بعينها ستصير بعد القيامة موجودات عينية متحققة القوام، مستمرة الثبات والدوام، مؤثرة في النفوس إلذاذا وإيلاما، وأن المكاسب العملية هي بعينها ستصير إما منشأ انطلاق النفس عن وثاقها إلى سعة الرحمة الإلهية، أو منشأ لانحباسها عن عالمها وتقيدها بسلاسل التعلقات، وضيق عطنها وطردها عن الرحمة وبعدها عن الجنة في غصة وعذاب أليم، وانحدار إلى مهوى الجحيم.
[36.59]
أي: انفصلوا وتفردوا واعتزلوا أيها المجرمون - من الكافرين والمنافقين - عن المؤمنين الكاملين في العلم واليقين، وكونوا على حدة، وذلك حين كشف الغطاء ورفع الحجب بالموت، بل عند القيام إلى المحشر عن هذه القبور، ونحوه قوله تعالى:
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون
[الروم:14 - 16].
وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يدخل فيه فيردم بابه، لا يرى ولا يرى، ومعناه: أن بعضهم يمتاز عن بعض
مكاشفة
قد سبقت الإشارة إلى كون أفراد الإنسان في النشأة الثانية وبحسب الباطن، واقعة تحت أنواع كثيرة حسب اختلاف الصفات والملكات، لأن النفوس الإنسانية - وإن كانت بحسب الفطرة الأولى متشابهة الحقيقة متماثلة الماهية، لكونها صورة فائضة على المركب العنصري من الممتزج الواقع في عرض المزاج النوعي الإنساني -، إلا أنها مادة عقلية قابلة لهيئات نفسانية، وصور عقلية تصير بها خارجة من القوة إلى الفعل في أطوار مختلفة.
فالنفوس السبعية تقبل عقولها الهيولانية هيئات سبعية من الغضب والغلبة والجور والوقاحة والتعالي والتفاخر وغيرها، حتى تصير صورها التي تخرج من القوة إلى الفعل صورا سبعية، ولكل نفس منها صورة سبعية مخصوصة لنوع من أنواع السباع الذي يناسبه ويخصه تلك الهيئات التي رسخت في تلك النفس.
وكذا النفوس البهيمية، تقبل عقولها الهيولانية هيئات بهيمية - من الشهوة والحرص ولذة البطن ولذة الفرج والزينة والرعونة وغيرها -، حتى تصير مادة تتكون فيها صورة بهيمية لكل نفس ما يناسبها من تلك الصور.
والنفوس الشيطانية تغلب عليها هيئات إبليسية من الجهل الراسخ، والاستكبار، والمكر والحيلة والجربزة والوعد بالشر والإيعاد بالخير، وغير ذلك من صفات أهل اللعنة والكفر والطرد، حتى تصير عقولها شياطين بعينها.
وأما النفوس الملكية، فالغالب عليها مزاولة العلوم العقلية، وطلب المعارف الإلهية، ومحبة الحق وملائكة الله المقربين، ومتابعة الرسل والأئمة (عليهم السلام)، والصبر والورع عن محارم الله، والإعراض عن الدنيا، والتجافي عن دار الغرور، وتذكر الموت والآخرة، حتى تصير من جنس الملائكة المقربين لكل نفس بحسب قوة إيمانه وشدة اجتنابه عن اللذات.
فإذا تقرر هذا، ظهر أن كل نفس من النفوس الإنسانية، واقعة يوم القيامة تحت نوع من أنواع تلك الأجناس الأربعة: " السبعية، والبهيمية، والشيطانية، والملكية " وتحشر معه، فالنفوس البشرية منحصرة يوم الآخرة في أجناس أربعة، لكل جنس أنواع كثيرة، لكل نوع منها أفراد غير محصورة.
وهذه الأجناس الأربعة من النفوس، اثنتان منها عمليتان شريرتان حاصلتان من تكرر الأعمال السيئة، واثنتان منها علميتان حاصلتان من تكرر الأفكار العلمية، إحداهما شريرة والأخرى خيرة.
وإنما لم تحصل من تكرر الأعمال الصالحة صورة، لأنها إما تروك محضة، أو مؤدية إلى تروك وأعدام، بل يؤدي أكثرها إلى كسر القوى ورفض الدواعي، والغاية الأصلية فيها تصفية الباطن وخلوه عن الحجب الدنيوية وعن الغشاوات النفسانية، فلا يوجب مزاولتها صورة كمالية في النفس، بخلاف الأعمال القبيحة والمعاصي، فإنها من باب اللذات الوجودية أو الهيئات الكمالية بوجه ما، فيؤدي إلى صورة في النفس - إما بهيمية أو سبعية -.
وأما اكتساب العلوم، فمزاولة الأفكار لا محالة يؤدي تكررها إلى صيرورة النفس أمرا بالفعل، فإن كانت الأفكار والتأملات مستقيمة موزونة مطابقة للقوانين الدينية والحكمية، موافقة لأصول الموجودات الدائمة الحقيقية - كالباري جل مجده وصفاته، وملكوته، وجبروته، وكلامه، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، واستواء الرحمان على العرش، وصراطه، وميزانه، وحسابه، وجمعه للخلائق في عرصة واحدة، وجنته، وناره، وتفرده يوم القيامة بالموجودية والوحدانية والقهر، - إلى غير ذلك من المعارف الإلهية والعلوم الربانية - فيصير بها الإنسان من جملة الملائكة المقربين.
وإن كانت الأفكار والتأملات من باب الشبهات والمغالطات، الموجبة للإغترار بالظنون الفاسدة والأوهام الكاسدة، والاحتجاب بها عن الحق والارتهان بالأمور الباطلة، وترويج الباطل في صورة الحق، والمماراة مع العلماء والمداراة مع السفهاء، وجعل العلوم وسيلة للجاه والمنزلة عند الناس، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما حلله بالوسواس والقياس، والتلذذ بمنادمة السلطان والترفع بها على الإخوان، وإلى غير ذلك من الأمور الشيطانية التي اشتغل بها أكثر علماء الزمان، التي منشأها قصور النظر وعدم التفرقة بين السفسطة والبرهان، والاشتباه بين المغلطة والإيقان والبهتان والعرفان، والإلتباس بين التوفيق والخذلان، والوجدان والحرمان، وإذا تكررت هذه الأفعال الشنيعة، وتراكمت الصفات الناشئة منها في النفس، ورسخت فيها محبة الباطل والإعراض عن الحكمة، والإنحراف عن سمت الحق والحقيقة، وصارت النفس عند ذلك شيطانا مريدا لعنه الله، وصورتها يوم القيامة صورة تحسن عندها القردة والخنازير - كما ورد في الحديث -.
والله تعالى أشار إلى هذه الأجناس الرديئة من النفوس الشهوية والغضبية والشيطانية بقوله:
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت
[المائدة:60] ثم - قال إشارة إلى القسم الأخير -
أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل
[المائدة:60].
وتلك الشقاوة كالسعادة على ضربين: علمي وعملي. فالسعادة والشقاوة العمليتان أبديتان مخلدتان غير منقطعتين، بخلاف الشقاوة العملية، فإنها مما يحتمل الإنقطاع ومما ينفع فيها شفاعة الشافعين، وأما الكفر والجحود وما يترتب عليهما من الصفات، فلا مطمع لانقطاع عذابها، لأن عذاب الجهل المشفوع بالإصرار، المركب مع الاغترار والإعجاب والاستكبار، مما لا يزول أبدا مخلدا نعوذ بالله منه.
فقوله: { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } ، إشارة إلى هذه الإمتيازات والانقسامات الواقعة إذا وقعت الواقعة، وهذه الصور مباديء الفصول المقسمات المنكشفة يوم القيامة للخلائق، وإليه الإشارة بقوله:
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون
[النمل:83].
ومما يدل على أن الناس بحسب البواطن والقلوب أنواع مختلفة حسب اختلاف الصفات الراسخة فيهم، قوله تعالى:
يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم
[الزلزلة:6].
وفي القرآن آيات كثيرة دالة على أن النفوس الإنسانية كانت في مباديء الفطرة وأوائل النشأة الدنياوية نوعا واحدا، ثم اختلفت بحسب الفطرة الآخرة والنشأة الثانية أنواعا كثيرة، بواسطة اختلاف الضمائر والنيات الحاصلة من الأعمال المناسبة لها، مثل قوله تعالى:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون
[يونس:19]. وقوله:
كان الناس أمة واحدة
[البقرة:213] وقوله:
ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشآء ويهدي من يشآء ولتسألن عما كنتم تعملون
[النحل:93]. وقوله:
ومن الناس والدوآب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28]. فدلت هذه الآية على أن الإنسان مختلف الأنواع كالنبات والحيوان، وأن العلماء وأهل الخشية نوع مبائن لغيرهم من أفراد البشر، وإنما ذلك بحسب الفطرة الثانية والنشأة الآخرة.
قال بعض الحكماء المتقدمين: " من أراد الحكمة فليستحدث لنفسه فطرة أخرى " ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور.
ثم لما كان الامتياز بين النفوس الآدمية في الدار الآخرة، وترتب الجزاء على الأعمال، والثواب للمطيع المسلم، والعقاب للمسيء المجرم، منشأه لأحدهما طاعة الله وللآخر طاعة الشيطان، وهي مشتركة بين تلك الأقسام الثلاثة الشقية من النفوس البهيمية والسبعية والشيطانية - وإن كانت اسوأها عاقبة هي النفوس الشيطانية الكافرة بنعمة الإيمان، التابعة في أوهامها وتفكراتها للشيطان، لما مر من أن عذابها أبدي، وهي غير قابلة للرحمة ولا ينفع فيها الشفاعة - خصهم الله تعالى بالذكر عقيب هذه الآية توبيخا لهم، ونعيا عليهم فيما هم فيه من الحسرة والندامة من جهة الهلاك المؤبد والشقاء المخلد بقوله سبحانه:
{ ألم أعهد إليكم يبني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } [يس:60 - 61].
[36.60-61]
و " العهد " في اللغة بمعنى " الوصية " ، و " عهد إليه ": إذا وصاه، وقرئ " اعهد " - بكسر الهمزة وفتح الهاء - وقد جاء عند أهل اللغة والاشتقاق كسر حرف المضارعة غير الياء في باب " فعل " كله، و " أعهد " بفتح الهمزة وكسر الهاء، ونقل عن الزجاج تجويز كون هذا الفعل من باب " نعم ينعم " و " ضرب يضرب " و " احهد " بإبدال العين حاء، و " أحد " بإبدال الهاء أيضا حاء، ومنه قولهم: دحا محا.
وعهد الله إلى بني آدم، ما فطرهم الله على فطرة الاستعداد لإيداع علم التوحيد في ذواتهم المشار إليه بقوله:
ألست بربكم
[الأعراف:172]. ولاقتناء الخيرات واكتساب السعادات الأخروية.
وميثاق ذلك العهد، ما ركز في نفوسهم من أوائل المعقولات وأدلة العقليات وشواهد السمعيات للتوحيد، وإلزام ذلك العلم إياهم، وجعله من اللوازم الذاتية لهم، بحيث إذا تجردوا عن الصفات النفسانية والغواشي الجسمانية، تبين لهم ذلك وانكشف عليهم أظهر شيء وأبينه، وهو إشهادهم على أنفسهم، لكون ذلك العلم فطريا لهم حينئذ، وإجابتهم لذلك بقولهم: " بلى " ، قبولهم الذاتي.
ونقض ذلك العهد انهماكهم في اللذات البدنية والغواشي الطبيعية، وتعبدهم للهوى والشيطان، بحيث احتجبوا عن علم التوحيد ومعارف الإيمان.
وعداوة الشيطان لبني آدم، هي اضلالهم عن الصراط المستقيم، المؤدي بسالكه إلى الوصول بالحق وجنة النعيم، ودعوته إياهم إلى ما فيه هلاكهم.
وإنما قال: { إنه لكم عدو مبين } لأنه مجبول على عداوتهم، إذ شأنه الوسوسة في الصدور، وجبلته الأمر بالفحشاء والمنكر والبغي، والوعد بالشر والتوعد على الخير.
تذكرة لوحيه فيها تبصرة عرشية
إن أردت - أيها الراغب إلى فهم أسرار القرآن ودرك أغواره - أن تسمع كلاما في كيفية عبادة أفراد النفوس الآدمية للشيطان وطاعتهم لجنوده، فاستمع لما يتلى عليك إنشاء الله من تحقيق الكلام وتبيين المرام بأصول عقلية هي دعائم لكشف هذا المقام - والله ولي التوفيق والإلهام -:
الأصل الأول
إن لله تعالى صفتين متقابلتين من بين الصفات المتقابلة، اسمهما " الهادي " و " المضل " ، وبإزائهما في المخلوقات معاني وصفات متضادة، وأفراد وأنواع متفاسدة متعاندة: كالوجوب والإمكان، والخير والشر، والنور والظلمة، والعلم والجهل، والسعادة والشقاوة، والتوفيق والخذلان، والملك والشيطان، والرحمة والغضب، والجنة والنيران، والدنيا والآخرة - إلى غير ذلك من الأمور المتقابلة المنسوبة في سلسلة المعلولية والحاجة إلى الله -.
أما أحد الطرفين - وهو الأشرف، فأولا وبالذات وبالأصالة، وأما الطرف الآخر، فثانيا وبالعرض وعلى سبيل التبعية والاستجرار، اللازمة لقصور القوابل الإمكانية عن قبول الفيض والرحمة من الحق الصرف، والنور المحض على التمام من غير نقص وآفة، لقوله:
" سبقت رحمتي غضبي "
فالخيرات كلها برضاه، والشرور كلها بقضاه، وبهذا يدفع شبهة الثنوية القائلة بوجود مبدأين قادرين بالذات.
فالملائكة كلهم مخلوقون من نور رحمة الله، والشياطين صادرة من نار غضبه. والإنسان في أول الفطرة حاصل من الله تعالى بحسب أسمائه المتقابلة، ممتزج من جهتي نور وظلمة، مخمر طينته ببديه أربعين صباحا، مركب من روح وبدن، وسر وعلن، أما روحه: فجوهر لطيف نوري علوي سماوي، حاصلة من نفخته تعالى: وأما بدنه: فجوهر كدر ظلماني أرضى سفلي، حاصل من تركيب الأجساد وامتزاج الأضداد.
وقلبه - أي نفسه الناطقة -: واقع بين الطرفين، متوسط بين النشأتين، له وجه إلى البدن وقواه الجسمانية، ووجه إلى الروح وقواه الروحانية، وله قوتان علميتان إحداهما كالملك - بحسب أصل الفطرة - وهي " القوة العاقلة " ، وأخراهما كالشيطان - بحسب الفطرة - وهي " القوة الوهمية ".
وله أيضا قوتان اخريان عمليتان، إحداهما كالبهيمة، وكالمرأة الفاسقة، اسمها " الشهوة " ، وفعلها طلب اللذة والنفع، واخراهما كالسبع الضاري وكالرجل الظالم اسمها " الغضب " ، وفعلها الانتقام والغلبة.
ولكل من هاتين القوتين فروع وخدم كثيرة لا يمكن حصرها ولا يعلم عددها إلا الله، لقوله تعالى:
وما يعلم جنود ربك إلا هو
[المدثر:31] وجميعها مخلوقة في مملكة الآدمي لعبادة الله وطاعة العقل الذي هو سر من أسرار الله، وخليفة الله في أرضه، مبعوث من جانبه على تسخير هذه الجنود، وصرفها فيما خلقت لأجله، ومنعها عن طاعة الوهم وعبادة الشيطان، كما يدل عليه قوله في هذه الآية: { ألم أعهد إليكم يبني آدم أن لا تعبدوا الشيطان }.
الأصل الثاني
إن مبادئ الأفعال الإختيارية من الإنسان - سواء كانت حسنة أو قبيحة، طاعة أو معصية - أمور أربعة:
أولها: تصور الشيء الممكن إدخاله في الوجود بقدرتنا وفعلنا - جلبا أو دفعا - والتصديق بفائدته أو ملائكته لنا بوجه.
وثانيها: الشوق، وهو توجه نفساني جبلي إلى الشيء المرغوب فيه طلبا وهربا، مبدأه قوة حيوانية ذات شعبتين، إحداهما شهوية للطلب، والأخرى غضبية للهرب.
وثالثها: العزم، وهو تصميم الشوق وتنفيذه، وهو قوة نفسانية ذات شعبتين هما الإرادة والكراهة.
ورابعها: قوة جسمانية مباشرة للتحريك، شأنها أن تعد العضلات للإنتقال، بأن تبسط العضل بإرخاء الأعصاب إلى جهة مبدئها لينبسط العضو - أي يزداد طولا وينتقص عرضا - أو تقبضه بتحديد (بتمديد - ن) الأعصاب إلى جهة مبدئها لينقبض العضو - أي يزداد عرضا وينتقص طولا -.
فهذه مبادي مترتبة للأفعال الإنسانية وبعدها عن عالم الحركة والفعل العقل العملي في الإنسان باستخدام الوهم والخيال - إن كان من أهل الخير والسعادة - أو الوهم باستخدامه - إن كان من أهل الشقاوة - ويليهما القوة الشوقية، وهي الرئيسة في القوى المحركة الفاعلية، كما أن العقل العملي أو الوهم هو الرئيس في القوة المدركة الباعثة، وبعد الشوقية وقبل الفاعلية هو القوة المسماة باللذاذة والكراهة.
وآخرها هي المحركة المباشرة للتحريك.
الأصل الثالث
إن القلب الحقيقي للإنسان الذي هو الجوهر النطقي، مثاله مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة، فتترآى فيها صورة بعد صورة لا تخلو عنها دائما، ومداخل هذه الآثار المتجددة في مرآة القلب، وسهام الحوادث المتواردة على هدفه في كل حال، إما من الظاهر كالحواس، وإما من الباطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق الآدمية، فإنه مهما أدرك بالحواس شيئا، حصل منها أثر في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة والغضب، حصل من كل منهما أثر في القلب، وإن كف عن الإحساس، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وتنتقل المتخيلة من شيء إلى شيء، ومن صورة إلى صورة، وبحسب انتقالها ينتقل باطن الإنسان من حال إلى حال، فباطنه إذن في التغير والانتقال دائما من هذه الأسباب.
وأحضر (أخص - ن) الأسباب الحاضرة فيه هي " الخواطر " ، أي الأفكار والأذكار التي من أنواع الإدراكات والتصورات، إما على الورود التجددي، أو على سبيل التذكر والإستعراض من المحفوظات في الحافظة بالقوة المسترجعة وهي المسماة بالخواطر، وهي المحركات للإرادات والأشواق، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور ماهية المنوي بالبال، وحصول صورته في الخيال، فمبدء الأفعال " الخواطر " ، ثم الخاطر يحرك " الرغبة " ، والرغبة تحرك " العزم " ، والعزم يحرك " النية " ، والنية تحرك الأعضاء بالقبض والبسط كما مر.
الأصل الرابع
إن لله تعالى في العالم مخلوقين، هما مؤثران آخران في قلوب بني آدم فوق ما ذكرنا من المبادئ الأربعة، أحدهما بالخير والسعادة، والآخر بالشر والشقاوة، اسم أحدهما " الملك " ، وهو مخلوق من نور رحمة الله، والآخر " الشيطان " ، وهو مخلوق من نار غضبه.
وإلى هذين الصنفين وقعت الإشارة بقوله عليه وآله الصلاة والسلام:
" قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ".
وروي أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة. فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمده، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم "
- ثم قرأ:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا
[البقرة:268].
وتحقيق إثبات هذين المؤثرين في القلب الإنساني مما ذكرناه في مقامه مستقصى، وتلخيص القول فيهما، أما في المؤثر الرحماني: فهو أن الأمور النادرة الواقعة في هذا العالم من خوارق العادات، مثل الخسف والزلزلة والزجر والوباء العام والقتل العام على أمة كفرت، مما لا يمكن أن ينسب إلى عناية الحق الأول والعقول الصريحة بالذات - كما حققه بعض الحكماء - بل بواسطة مدبر يفعل الأشياء بقصد جزئي، ويتخيل الأمور وينفعل عن دعاء المظلومين، فيجيب الدعوات إغاثة للملهوفين، وينتقم من الظلمة، ويفعل العقوبات، ويعذب قوما حل عليهم غضب الجبار، كل ذلك بإذن من الحق ورحمته في إيجاد هذا الموجود الملكي على سبيل العناية.
فقال بعضهم: " إنه نفس منثبتة (منبثة - ن) بعالم الكون والفساد " ، والأكثر من الحكماء أنه نفس متولدة عن العقول والنفوس السماوية، وخصوصا نفس فلك الشمس والفلك المائل، وأنه يدبر لما تحت فلك السماء بمعاضدة الملائكة المتعلقة بالكواكب والسماوات، وبسطوع أنوار الرحمة الإلهية المنبثة في عالم العقول، وقد لزم من تصوره بوجه الخير، انفعال المادة العنصرية وتلبسها في الخارج بصورة ذلك المعقول.
قال ابن سينا في بعض كتبه: " يشبه أن يكون ذلك حقا، فلا ينبغي أن ينكر أمثال هذه الوقائع في بدن العالم ونفسه، فإن العالم مشتمل على قوى فعالة ومنفعلة تحدث منها أمور عجيبة نادرة حادثة، مرغمة لأنوف أعداء الله الجاحدين للنبوات ".
وأما في المؤثر الشيطاني، فهو أنه ينبغي لك أن تتصور أولا ما قد وضح لنا بالكشف الصحيح المطابق للعقل الصريح، أن في مقابلة ذلك المبدء للعالم على وجه الخير والصلاح، المتكون في قوى الأجرام الفلكية، موجودا آخر نفسانيا صرفا متولدا من طبقة دخانية نارية يغلب عليها الشرارة والإغواء والإضلال، وتكون مدركاته من باب الأوهام الكاذبة والأقيسة الداحضة، وتكون له سلطنة بحسب الطبع على الأجسام الدخانية والبخارية وقواها ونفوسها الجزئية وطبائعها، فتطيعها تلك النفوس والقوى، لمناسبة النقص والخسة، ويكون المسمى ب " إبليس " الوارد في الكتب الإلهية وألسنة الأنبياء، هو هذا الشرير المغوي المضل. وكونه مجبولا على الإغواء والإفساد، وإدعاء الاستكبار والعلو، كما يستفاد من قوله تعالى:
أستكبرت أم كنت من العالين
[ص:75]. إنما هو بمقتضى طبعه الغالب عليه النارية الموجبة للإهلاك، والعلو المكاني الموهم لعلو المكانة والمنزلة.
وأما وجه تأثيره في نفوس الآدميين الموهم لعل المكانة والمنزلة.
وأما وجه تأثيره في نفوس الآدميين بالشر، أما من جانب المؤثر فللطافته وسرعة نفوذه في عروقهم ودمائهم التي هي محال الشعور والإعتقادات، واقتداره على إغوائهم بالوسوسة والتخيلات، وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم الآدمي ودمه، فسلطنة الشيطان أيضا سارية في لحمه ودمه، ويحيط بالقلب الذي هو منبع الدم المركب للروح البخاري، الحامل للقوى الوهمية والشهوية والغضبية، ولذلك ورد في الحديث النبوي:
" إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ".
وكما لا يتصور أن ينفك آدمي من وسواس، فلا يتصور أن ينفك من شيطان، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
" ما من أحد إلا وله شيطان ".
وهذه الشياطين الجزئية من فروعات ذلك الموجود الشرير الذي ذكرنا، كما أن العقول الجزئية الإنسانية من آثار الملك الملهم بالخيرات.
وأما من جانب القابل، فلقصور القوى الدراكة لأكثر الناس، وضعفها عن المعارضة والمدافعة والمجاهدة مع جنوده وأحزابه من القوى لا سيما " الوهمية " ، إلا من عصمه الله من عباده المخلصين، الذين أيدهم الله بالعقل القويم وهداهم إلى الصراط المستقيم:
أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون
[المجادلة:22]، وذلك لأجل تسخيرهم قواهم البدنية وخصوصا الوهمية التي هي أحد أعداء الله، المجيبة لدعوة الشيطان، إذا لم يسخره العقل المهتدي بنور رحمة الرحمان.
الأصل الخامس
إن الله خلق للعقل الإنساني جنودا كثيرة لتكون مطيعة له معينة عليه، خادمة إياه في طريق سفره إلى الله وسعيه، ولهذا خلقه وخلقها، إذ خلق الإنسان في أول حدوثه ضعيفا في خلقته، ناقصا في فطرته، وفي وقته إدراك عظمة الله وصفاته وآياته، وله استعداد الترقي من مرتبة إلى مرتبة، حتى يصل إلى المعبود الحق، ولا بد لكل مسافر في طريق مخوف فيه أعداء وقطاع من مركب وزاد وخدم، فمركبه مادة البدن، وزاده العلم والتقوى، وجنوده الأعضاء والقوى، وعدوه الشيطان، وقطاع طريقه الدواعي النفسانية والوهمية.
وهذه الجنود على صنفين: صنف يرى بالأبصار - وهي الأعضاء والجوارح -، وصنف لا يرى بالأبصار ولا يدرك بالحواس الظاهرة - وهي القوى والمشاعر - وجميعها خلقت خادمة للعقل مسخرة له بسبب فطرتها، وهو المتصرف فيها والمحول لها بإصبعيه العاقلة والعاملة، وهي مجبولة على طاعته.
أما الجند الأول فلا يستطيعون له خلافا ولا عليه تمردا، فإذا أمر العين للانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل للحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء.
وأما الجند الآخر، فهي أيضا كذلك، إلا أن الوهم له شيطنة الفطرة، يقبل إغواء الشيطان ومغاليطه فيعارض العقل في المعقولات، فيحتاج إلى تأييد من جانب الحق ليقهره ويغلب عليه، وتسخر الحواس للعقل يشبه من وجه تسخر الملائكة السماوية لله تعالى، حيث إنهم جبلوا على الطاعة، لا يستطيعون له خلافا، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وتمرد الوهم عن طاعة العقل يشبه تمرد الشيطان عن طاعة الله - وهذا مما يطول شرحه -.
ومن رؤساء جنود العقل " الشهوة " و " الغضب " ، وهما قد ينقادان له انقيادا تاما، فيعينانه على طريقه الذي يسلكه، وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد لأجل طاعة الوهم المطيع للشيطان، حتى يملكانه ويستعبدانه، وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد.
وللعقل فوق ذينك الجندين جند إلهي، هو " العلم " و " الحكمة " ، وحقه أن يستعين بهذا الجند، لأنه حزب الله، على الجندين الآخرين، الملتحقين بحزب الشيطان الذي هو القوة الوهمية، فإن من ترك الاستعانة به - كما هو حال أكثر الناس من أعداء الحكمة وأولياء الوهم - فقد سلط على نفسه الشهوة والغضب، وهلك يقينا وخسر خسرانا مبينا.
وإني في مدة عمري ما رأيت أحدا من المعرضين عن تعلم الحكمة إلا وقد غلب عليه حب الدنيا وطلب الرياسة فيها، والإخلاد إلى الأرض، وقد صار عقله مسخرا لشهوته في استنباط وجوه الحيل للوصول إلى المستلذات النفسانية، حتى استهواه الشيطان واستجاب لدعوته وكيده، فجعل آخر الأمر في نظم جنوده وأوليائه، وخرج عن الانتظام في سلك حزب الله وأوليائه - نعوذ بالله منه -.
وفي أدعية الصحيفة الملكوتية لمولانا وسيدنا علي بن الحسين (عليهما السلام) ما وقع الاستعاذة به عن مثل ذلك من قوله: " اللهم اجعلنا في نظم أعدائه، واعزلنا عن عداد أوليائه، لا نطيع له إذا استهوانا، ولا نستجيب له إذا دعانا، اللهم واهزم جنده، وأبطل كيده، واهدم كهفه، وأرغم أنفه ".
الأصل السادس
في استئناف القول في الخواطر وتقسيمها إلى خاطر الخير وخاطر الشر.
اعلم أن الخواطر المحركة للرغبة والرهبة في القلب الإنساني، تنقسم إلى ما يدعو إلى الخير - أعني ما ينفع في الدار الآخرة -، وإلى ما يدعو إلى الشر، - وهو ما يضر في العاقبة -، وهما خاطران مختلفان، فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى " إلهاما " ، والخاطر المذموم يسمى " وسواسا " ، وكل منهما ينقسم عند أرباب الرياضيات والخلوات بدقيق تأملاتهم ولطيف أفهامهم وتصرفاتهم بقسمين:
أما الأول: فإلى الرحمان والملكي، وأما الثاني: فإلى الشيطان والنفساني.
ولسنا الآن نشتغل بتحقيق كل قسم من قسمي القسمين بخصوصه لعدم الحاجة إليه فيما كنا بصدده من بيان كيفية خصومة الشيطان لابن آدم، أي القوة العاقلة، التي هي نتيجة الروح الأعظم والعقل الكلي الفعال، وهي حقيقة الإنسان، وبيان العداوة الواقعة بينه وبين أعداء الله، وكيفية المحاربة والمجاهدة بين حزب الله وحزب الشيطان.
ثم أنك قد علمت أن هذه الخواطر حادثة لما أشرنا إليه، وكل حادث لا بد له من سبب، ومهما اختلفت المعلولات، دل اختلافها على اختلاف العلل، وكما أن اتفاقها في أصل الإمكان دل على افتقارها إلى قيوم واحد، وجوده - كوحدته - عين ذاته، فكذلك اختلافها يحتاج إلى أسباب مختلفة متوسطة بينها وبين مسبب الأسباب، وهذا - مع قطع النظر عن الأنظار البرهانية - معروف في سنة الله تعالى وعادته في ترتيب المسببات على الأسباب، فمهما استنارت مثلا حيطان البيت وأظلم سقفه واسود بالدخان، علمت أن سبب الأسوداد غير سبب الإستنارة، فحكمت بأن سبب الإستنارة نور النور، وسبب الاستظلام ظلمة الدخان.
كذلك لأنوار القلب وظلماته سببان مختلفان: فسبب الخواطر الداعي إلى الخير في عرف الشريعة يسمى " ملكا " ، وسبب الخواطر الداعي إلى الشر يسمى " شيطانا " ، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الملك يسمى " توفيقا " ، والذي به يتهيأ لقبول وسوسة الشيطان يسمى " إغواءا " و " خذلانا " ، فإن المعاني المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة.
وقد مر في الأصل الرابع، بيان ماهية الملك والشيطان، وأن أحدهما عبارة عن خلق شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم، وكشف الحق والوعد بالمعروف، وقد خلقه الله وسخره لذلك. والآخر عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك، وهو الوعد بالشر والتخويف، كما دلت عليه الآية المنقولة، وقوله تعالى:
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير
[فاطر:6]. وهما جوهران مسخران لقدرته في تقليب القلوب، كما أن لك أصابع مسخرة لقدرتك في تقليب الأجسام، كما دل عليه الحديث المنقول، فإنه يتعالى أن يكون له اصبع جسماني مركب من لحم وعظم ودم منقسم بالأنامل، ولكن روح الإصبع ومعناه - كما ذكره بعض أعاظم المحققين - واسطة التحريك والتقليب، والقدرة على التغيير والتصريف، وكما أنك تفعل بأصابعك فالله سبحانه إنما يفعل ما يفعله باستسخار الملك والشيطان، وبهذا جرت حكمته واستمرت سنته في نظم الأمور وترتيب الأشياء، لتكون أسبابا لمعرفته، وطرقا إلى جنابه، وإلا فذاته غني عن العالمين، والوسائط مقهورة تحت قدرته النافذة ونوره القاهر.
الأصل السابع
إن القلب الإنساني، لصفائه ولطافته، صالح في أصل الفطرة الهيولانية لقبول آثار الملكية والشيطانية صلاحا متساويا، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والانكباب على الشهوات، أو الإعراض عنها ومخالفتها، فإن اتبع الإنسان مقتضى شهوته، ظهر تسليط الشيطان بواسطة الأوهام الكاذبة والخيالات الفاسدة المشيرة إلى اتباع الهوى والشهوات. فصار القلب عش الشيطان ومعدنه، والبدن مملكة جنوده، لأن الهوى مرعى الشيطان ومرتعه، لمناسبة ما بينهما ونحو من الاتحاد.
وإن جاهد الشهوات، ولم يسلطها على نفسه، ولم يذعن لها، بل عارضها بمدد البرهان اليقيني على وجود نشأة ثانية باقية تضاد هذه النشأة الداثرة الفانية، ودافع هذه الظنون والأوهام الكاذبة المستدعية للشهوات والركون إلى الدنيا والوتوق بلذاتها، والإخلاد إلى الأرض، والإقتصاد على هذه النشأة الناقصة الزائلة، وتشبه بأخلاق الملائكة في اقتناء المعلومات الإلهية، وتذكر المعارف اليقينية، واستن بقوة الإيمان بسنة الأنبياء والأولياء في ترك الدنيا والزهد فيها، صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم، ينزل كل يوم بزيارته كما بينا في موضعه.
ولما كان كل واحد من الناس، ما دام في هذا العالم لا يخلو عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل، إلى غير ذلك من الصفات البشرية، المتشعبة عن الهوى المتبع للقوة الوهمية التي شأنها إدراك الأمور على غير وجهها، فلا جرم لا يخلو الباطن عن جولان الشيطان فيه بالوسوسة، إلا من عصمه الله.
ولذلك
" قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما منكم إلا وله شيطان ".
قالوا: " وأنت يا رسول الله "؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم على يدي " ".
فمهما غلب على النفس ذكر الدنيا ومقتضيات الهوى ومستلذات الشهوات، وجد الشيطان المتدرع بها مجالا فوسوس لها، ومهما انصرفت النفس إلى ذكر الله، ارتحل الشيطان وضاق مجاله، فأقبل الملك وألهم، والنفس هيولانية الوجود، لها قابلية الإرتباط بكل من الملك والشيطان بتوسط قوتيه العقلية والوهمية، باستعانة انكسار القوى الشهوية والغضبية والوهمية، وفتورها واستيلائها وسورتها، وأكثر النفوس مما قد فتحها وسخرها جنود الشيطان وملوكها، فامتلأت بالوسواس الداعية إلى إطراح الآخرة وإيثار العاجلة.
الأصل الثامن
في كيفية قبول الإنسان كلا من الإلهام والوسوسة من الملك والشيطان.
اعلم أن حصول الإلهام من الملك، والوسوسة من الشيطان، يقع في قلب الإنسان على وجوه أربعة:
أحدها: كالهوى والشهوة الصادرتين عن جانب شمال القلب، في مقابلة العلم واليقين، الحاصلتين في جانب يمينه.
وثانيها: كالصور العلمية الحاصلة من هيئة العالم الكبير، الذي هو كصورة العالم الإنساني، وهي بمنزلة عقبة بين الوسوسة والإلهام، من حيث إنك لو نظرت إلى آيات الآفاق والأنفس على سبيل الاشتباه والغفلة والإعراض عنها - كما وقع لعوام الناس والمقلدين -، فشأنك منها الشبهة والوسواس في الواهمة والمتخيلة، وهما على جانب الشمال
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105] وفي الحديث:
" ويل لمن تلى هذه الآية ثم مسح بها سبلته "
والآية
إن في خلق السماوات والأرض
[البقرة:164] - إلى آخرها -.
وإذا نظرت إلى تلك الآيات على سبيل النظام والإحكام مع التدبر اللائق والتأمل التام، زالت عنك الشكوك والأوهام، وحصلت المعرفة واليقين في القوة العاقلة التي هي على جانب اليمين، وصرت من الملائكة المقربين، وخرجت من جنود الشياطين، فإن الآيات المحكمات بمنزلة الملائكة والعقول والنفوس الكلية، لأنها مبادئ العلوم البرهانية، والمتشابهات بمنزلة الشياطين والنفوس الوهمية والخيالية، لأنها مبادئ المقدمات السفسطية.
ومن الحكايات في هذا الباب، بعد ما ذكر أن سبب وقوع النفوس الإنسانية في هذا العالم أولا، ومنشأ ابتلاء بني آدم بهذه البليات الدنيوية التي أحاطت بهم من الذنوب والمعاصي، كانت هي الخطيئة الواحدة التي اكتسبها أبوهم " آدم " وأمهم " حواء " لما ذاقا الشجرة وبدت لهما سوآتهما - لنقص امكاني في جوهريهما، وقصور جبلي في ماهيتيهما - هو أنه:
لما تمت حيلة إبليس على آدم، ونال بغيته بإيصال الأذية إليه، وبلغ أمنيته بإيقاع الوسوسة عليه، سأل ربه بوسيلة بعض صفات الله كالعزة والجلال، الإنظار إلى يوم يبعثون - فأجيب إلى يوم الوقت المعلوم -، أخذ لنفسه جنة غرس فيها أشجارا، وأجرى فيها أنهارا، ووضع فيها أشكالا وهيئات وتماثيل، وصورا شبيهة بما في الجنة من الصور الحسان، ليشاكل الجنة التي أسكنها الله آدم وقاس عليها، وهندس على مثالها هندسة فانية لا بقاء لها، وجعل مسكن أهله وأولاده وذريته وجنوده، وهي كمثل السراب الذي يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
وذلك أنه كان من الجن، ومن شأن الجن - كما قيل - التخييل والتمثيل لما لا حقيقة له، كذلك فعل إبليس وجنوده، إنما هو تمويه وتزويق ومخاريق وتنميق لا حقيقة لها ولا حق عندها، كالقياس المغالطي السفسطي، ليصد بها الناس عن سنن الحق والصراط المستقيم، وبذلك وعد ذرية آدم كما حكى الله عنهم بقوله:
لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين
[الأعراف:17].
وثالثها: متابعة أهل الجحود والإنكار، وأهل التعطيل والمشبهة والكفار، في مقابلة طاعة الرسول المختار، والأئمة الأطهار، والعلماء الأخيار - صلوات الله عليهم من العزيز الغفار -، فكل من سلك سبيل الضلال، فهو بمنزلة الشياطين، ومن تابعه فقد تابع الشيطان اللعين، وكل من سلك سبيل الهداية، فهو من حزب الملائكة، ومن تابع أهل الله وذوي الإلهامات الحقة، فقد تابع أنبياء الله وملائكته المقدسين الملهمين للإيمان واليقين:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80].
ورابعها: من جهة الغايات وباعتبار الدرجات، فإن التوجه إلى الملائكة العقلانية والمهيمة والمدبرات الكلية الملكوتية، يوجب الحشر إليهم، والانخراط معهم، واستفاضة المعارف منهم، وكانت العلوم المستفاضة منهم من قبيل التعقلات والإلهامات الكلية، ويقابله التوجه إلى الأبالسة المحجوبة عن الله، المطرودة عن جناب القدس، المحبوسة في الظلمات، واكتساب الحيل والخديعة والمكر، وكان المستفاد منها من قبيل الأفكار الجزئية المتعلقة بالأمور السفلية.
فالإنسان على الوجه الأول شابه الملائكة وجنود الرحمان، وعلى الثاني شابه الشياطين ومردة الجن، المحبوسة في طبقات الجحيم، المحرومة في الدنيا عن الارتقاء إلى ملكوت السماء، المحجوبة في الآخرة عن الجنة والنعيم.
وقد انكشف من هذا، أن طبقة من الجن، وحزبا من مردة الشياطين، حيث سقطت درجتهم عن درجة الملكوت مما لا اقتدار لهم على فعل الضرر على أولياء الله، لأنهم صم بكم عمي، مقيدون في السلاسل والأغلال في الجحيم، معذبون بالعذاب والنكال الأليم.
فقد ثبت أن أصل الضلال والعمى والجهل من الشيطان، وأن أصل الهدى والبصيرة واليقين من الملك، والله الهادي والمضل فوق الكل ، وإن اسم إبليس كاسم " شجرة خبيثة " ، والشياطين بمنزلة أغصان تلك الشجرة الملعونة وتمارها، تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، فأنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون، واسم الملك كاسم " شجرة طيبة " ، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وثمارها الحاصلة منها هي العلوم الكلية الإلهية والمعارف الحكمية الربانية.
إذا تمهدت هذه الأصول فنقول: معنى قوله: { ألم أعهد إليكم يبني آدم أن لا تعبدوا الشيطان }: انه خلقتكم على فطرة العقل القادس، والبصيرة الباطنية التي لها القوة على إدراك الحقائق، والنظر في مقدمات الأمور وأسباب الأشياء وأواخرها وغاياتها، وجعلت لكم السمع والأبصار والأفئدة، والإقتدار على مدافعة تسويلات الوهم الموسوس بالشيطان، وقهره بنور البرهان وقوة الإيمان، والإطلاع على حيله ومكره وجنوده وأحزابه وأتباعه بسلامة الذوق والوجدان.
وقوله: { إنه لكم عدو مبين } معناه: أن الضدية والعناد ثابتة بينكم وبينه كما بين الملك والجن، والنور والنار، والبرهان والمغالطة، والإلهام والوسوسة، والتوفيق والخذلان، والهداية والضلال، والسعادة والنكال.
وقوله: { وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم }: إنه إذا وقعت المعارضة بين البرهان والسفسطة، والحق والباطل، والعقل والوهم، وإلهام الملك بإيثار الآخرة على الأولى، ووسوسة الشيطان بإيثار العاجلة على الآجلة، فأطيعوا أمر الحق وامضوا حيث تؤمرون، واسمعوا قول العقل الصريح والشرع الصحيح، واتبعوا سبيل المسلمين، ولا تتبعوا أمر المفسدين، وانحرفوا عن طريق المجرمين، ولا تطيعوا أمرهم، أن هذا صراط مستقيم يؤدي إلى عالم الرحمة والقرب والرضوان، وباقي الصرط معوجة منتهية إلى عالم النقمة والطرد والخسران، والهلاك والنيران.
تبصرة برهانية
اعلم أن هذه العبادة المشار إليها في الآية، الموجبة للكون على الصراط المستقيم، والتخلص عن الشيطان الرجيم، هو الاستقامة على طريق الحق بالعلم والعمل، وأما أصل العلم الذي أفضل جزئي هذه العبادة، فهو العلم الربوبي المتعلق بذات الله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله، وحقيقة الملائكة والشياطين، وعلم القلب وأحواله، وكيفية سلوك العبد من الدنيا إلى الآخرة، ومن الخلق إلى الحق، وطريق تخلصه عن اضلال الشيطان، واستعداده لإلهام الملك.
فهذه هي أصل العلوم الإيمانية التي بها يمكن للإنسان المجاهدة مع أحزاب الشيطان، وهي أصل الصراط المستقيم المدعو من الله في كل صلاة مرتين، وهو دين التوحيد المسلوك لنبينا وسائر الأنبياء (عليه وعليهم السلام) أجمعين، بقوله:
قل هذه سبيلي
[يوسف:108] وقوله:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
[الشورى:13] وقوله:
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم
[الشورى:3].
وفي الأدعية السجادية والصحيفة العبادية على مرتبها ومنشئها أفضل الصلاة والتحية، وقعت الإستعاذة من شر الشيطان بهذا الأصل كثيرا، حيث قال: " اللهم أخسأه عنا بعبادتك، واكبته بدؤوبنا في محبتك، واجعل بيننا وبينه سترا لا يهتكه وردما مصمتا لا يفتقه.
اللهم متعنا من الهدى بمثل ضلالته، وزودنا من التقوى ضد غوايته، واسلك بنا من التقى خلاف سبيله من الردى.
اللهم لا تجعل له في قلوبنا مدخلا، ولا توطنن له فيما لدينا منزلا.
اللهم وما سول لنا من باطل فعرفناه، وإذا عرفتناه فقناه، وبصرنا ما نكائده به، والهمنا ما نعده له، وأيقظنا عن سنة الغفلة بالركون إليه، واحسن بتوفيقك عوننا عليه.
اللهم واشرب قلوبنا انكار عمله، وألطف بنا في نقض حيله.
اللهم واعمم بذلك من شهد لك بالربوبية، وأخلص لك بالوحدانية، وعاداه لك بحقيقة العبودية، واستظهر بك عليه في معرفة العلوم الربانية ".
وأما أصل العمل، فله فنون كثيرة مرجع الجميع إلى سلامة القلب عن كدورة الشهوة وغشاوة الغضب، ولا شيء للإنسان بعد المعرفة أنفع من سلامة قلبه من الكدورات والغواشي
يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء:88 - 89].
وهذه المرتبة هي التي أمر الله بها خليله (عليه السلام):
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
[البقرة:131]
فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا
[الجن:14] فكل من سلم قلبه فقد فاز بدرجة الإسلام الحقيقي، وهذه أيضا مما لا يتيسر إلا بتوفيق الله حسبما قدر له في الأزل أن يكون من جملة الأخيار، آمنا من سخط الجبار، كما قال تعالى:
ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب
[آل عمران:179] فالمؤمن بالحقيقة من يتميز خبيثته الجسماني الشيطاني عن طيبته الروحاني الملكي.
تقسيم استكشافي
اعلم أن القلوب الإنسانية في الثبات على الخير وعبادة الحق، أو الشر وعبادة الشيطان، أو التردد بين الطرفين، على ثلاثة أقسام، كما ذكره بعض علماء الإسلام:
أحدها: قلب عمر (طهر - ن) بالتقوى وزكى بالرياضة، ونقى عن خبائث الأخلاق، وتنقدح فيه خواطر الخير من خزائن الملكوت، فيصرف عقله إلى التفكر في عواقب الأمور والنظر في مقدماتها، ويطلع على أسرار الخيرات والطاعات، وينكشف له بنور البصيرة جهة الخيرية فيها، فيحكم عقله بأنه لا بد من فعلها، وترك أضدادها من المعاصي، فيدعوه إلى العمل الخير، وينهى نفسه عن العمل الشر، فينظر الملك الهادي والمعلم للحقائق إلى قلبه - أي نفسه الناطقة - فيجده طيبا بجوهره، طاهرا بتقواه، مستنيرا بضياء العقل، فأفاض عليه أنوار المعرفة والهدى، وأيده بجنود لا ترى، ويهديه إلى خيرات أخرى، وإلهامات تترى، حتى ينجر الخير إلى الخير، ويحشر النور إلى النور.
وفي مثل هذه اللطيفة الربانية، يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا يخفى فيه الشرك الخفي، الذي هو " أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء " ، ولا يؤثر فيه شيء من مكائد الشيطان، بل يقف على باب قلبه ويوحي زخرف القول غرورا، وهو لا يلتفت إلى مكره، ويتوجه إلى الله وذكره، وإلى مثله الإشارة في قوله تعالى:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون
[الأعراف:201].
وثانيها: قلب مخذول مشحون بالهوى، ومقهور للشهوات، مفتوح عليه أبواب الشياطين، مغلق عليه أبواب الملائكة، ومبدء الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويحبس فيه صورة من الشهوة، فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستفتي منه، وهو قد ألف خدمة الهوى فأنس به، واستمر على مساعدة الهوى واستنباط وجوه الحيل في جواب فتواه، فيشير إلى قوله، فينشرح الصدر بالهوى، وينبسط فيه ظلماته لانحباس نور العلم عنه، وانقهار جند العقل عن مدافعة الوهم، فيقوى سلطان الشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى، فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني، ويوحي بذلك زخرفا من القول غرورا، فيضعف سلطنة البرهان على خوف القيامة، ويحجب نور الإيمان بالوعد والوعيد، إذ يتصاعد إلى القلب دخان مظلم من الهوى، يملأ جوانبه، ويطفيء سراج العقل وتصير البصيرة الباطنة كالعين التي ملأ الدخان أجفانها، فلا يقدر أن يرى الأشياء كما هي.
وهكذا تفعل غلبة الشهوة وحب الجاه وطلب الرياسة بالإنسان، ولو بصره أحد بعيوب نفسه بالوعظ والنصيحة، ويوقظه من هذا النوم الغالب عليه، وينبهه من هذه الغفلة المحيطة به، ويستفيقه من هذا الشراب الذي أسكره، ويسمعه ما هو الحق الصريح، عمي عن الفهم وصم عن السمع، كما أشير إليه بقوله تعالى:
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة:171] وهاج شهوته وطغى غضبه، وصال عليه كالسبع الضاري والكلب العقور، وتحركت جوارحه على وفق الهوى، واشتد مرضه المزمن، واشتعل نار غيظه الخامد، وانتشر دمه الفاسد في ظواهر جلده الجامد، متكلما بحديثه البارد في تخطئة هذا الناصح الفقير بصوته النكير، طلبا للانتقام وتشفيا في حقده بالاقتحام، فظهرت المعصية عنه في عالم الشهادة من خزائن الغيب بقضاء الله وقدره.
وإلى مثل هذا القلب أشار تعالى بقوله:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان:43] - إلى قوله -
بل هم أضل سبيلا
[الفرقان:44] وبقوله:
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
[يس:7] - إلى قوله -
أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[يس:10] ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات دون بعض.
اعلم أن كلا من هاتين الطائفتين مشغوف بما عنده، مغرور بما لديه، فرحان بما يجري على يديه
كل حزب بما لديهم فرحون
[المؤمنون:53]، فكما أن المحق مشغوف بما لديه من الحقائق والإلهامات والبراهين النيرة الواضحة والمعارف الحقة الدائمة، فكذا المبطل مسرور بما عليه من الوساوس المتبدلة والوهميات الكاذبة، مغرور بالأماني الشيطانية والمزخرفات العامية والمقدمات المشهورة الجمهورية، التي تستعمل في جلب القلوب وتكثير الشعوب.
فانظر إلى أنه كيف حكى الله تعالى كيفيه مناظرة وقعت بين محق ومبطل، فالمحق هو شيخ الموحدين إبراهيم الخليل - على نبينا وعليه سلام الله الملك الجليل - والمبطل هو نمرود اللعين، الذي هو من جملة الشياطين، في قوله:
ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت
[البقرة:258].
فتأمل في أنه إذا كان هذا المقدار من الإحياء والإماتة، الذي قد كان للملوك من اقتدارهم على قتل أحد وتخليص آخر من القتل، موجبا للاشتباه والإغترار والمغالطة، حيث ادعى الملعون أن ما سماه بالإحياء والإماتة إحياء حقيقي وإماتة حقيقية، فكيف في غير ذلك بسبب اغترار الشيطان وجنوده في أكثر المباحث العنادية من هذا القبيل، ومرجعه إلى القياس الفقهي الذي ورد أنه " أول من قاس به إبليس " في مقابلة النص، إذ كل ما يوجد في عالم الملكوت يوجد مثاله في عالم الدنيا، وكل ما يوجد في قلب من استولت عليه الرحمة من الإلهامات والكرامات وغيرها يوجد أمثاله وأظلاله الباطلة الفانية في نفس من استولت عليه الجهة الظلمانية الشيطانية، من الوساوس والأماني وغيرها.
وقد قيل: " العلم علمان، علم بالقلب وعلم باللسان " ، نعوذ بالله من شرير عليم اللسان جهول القلب، فوامصيبتاه من علماء الجهالة وصلحاء الإفساد، الذين هم من علماء الدنيا وجهال الآخرة، المتذكرين لأداب صحبة الخلق، الناسين لآداب صحبة الرب، المقبلين على دقائق علومهم الدنيوية، المعرضين عن حقائق علوم الآخرة، وواشوقاه إلى لقاء الأشباه - ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين -.
وثالثها: قلب متردد بين طاعة الحق وطاعة الشيطان، فالمطاردة قائمة في هذا القلب بين جنود الرحمان وجيوش الشيطان، بخلاف القسمين الأولين، فإن في الأول تكون الجنود مطيعة عابدة لله، والأحزاب مؤتمرة بأمر رسوله، منهية بنهيه، والمملكة الآدمية مفوضة لخليفة الله من القوة الملكية العقلية، وفي الثاني تكون الجنود خادمة تابعة للشيطان، جارية فيها حكمه، والمملكة مسخرة للهوى الذي هو أحد أولياء الشيطان، وأما هذا الثالث، فالمطاردة قائمة في معركة روحه النفساني، إلا أن يغلب أحد الجندين حسب ما جرى في قضاء الله وقدره، ويفتح الله المملكة لأحدهما، ولا يكون للآخر إلا الإجتياز، - لا التوطن والاستقرار -.
وكيفية هذه المطاردة بين الحزبين، أنه يبتدئ في القلب أولا خاطر الهوى، وهو من جنود الشيطان، فيدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان وهو من جنود الملك، فيدعوه إلى الخير، فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر، فتقوى الشهوة وتحسن التمتع والتنعم.
فينبعث العقل إلى نصرة خاطر الخير، ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها وينسبها إلى الجهل، ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر وقلة اكتراثها بالعواقب، فتميل النفس إلى نصح العقل.
فيحمل الشيطان حملة على العقل ويقوي داعي الهوى، ويقول: " ما هذا التحرج البارد والتزهد اليابس، لم تمتنع عن هواك وتؤذي نفسك؟ وهل ترى أحدا من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه؟ أفتترك ملاذ الدنيا لهم فيتمتعون فيها وتحجر على نفسك حتى تبقى محروما شقيا متعوبا يضحك عليك أهل الزمان؟ أتريد أن يزيد منصبك على فلان وفلان، وقد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يمتنعوا؟ أما ترى العالم الفلاني ليس يحترز من مثل ذلك، ولو كان ذلك شرا لامتنع منه؟ " فتميل النفس إلى الشيطان وتنقلب إليه.
فيحمل الملك حملة على الشيطان ويقول: " هل هلك إلا من اتبع لذة الحال ونسي العاقبة والمآل؟ أفتقتنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد؟ أم تستثقل ألم الصبر عن شهوتك؟ ولا تستثقل ألم النار؟ أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهم واتباعهم هواهم ومساعدتهم للشيطان، مع أن عذاب النار لا يخفف عنك بمعصية غيرك؟ أرأيت لو كنت في صيف ووقف الناس كلهم في الشمس، وكان لك بيت بارد، أكنت تساعد الناس، أو تطلب لنفسك الخلاص؟ فكيف تخالف الناس خوفا من حر الشمس ولا تخالفهم خوفا من حر النار؟ فعند ذلك تميل النفس إلى قول الملك.
وإلى ها هنا تكون المطاردة بين الجندين لجمهور الناس، ويختص المنسوبون إلى العلم والفقه بمراتب أخرى من المدافعة بينهما، وهي أنه بعد ذلك يحمل الشيطان حملة أخرى وهي: " إن الله سمى نفسه " غفورا رحيما " ، فغفرانه إنما يتحقق بفعل المعاصي منا، فلم تتأب أيها العقل عن الراحة وتتعب نفسك وبدنك بهذه الرياضة الشاقة؟ ولنفسك عليك حق، وإن العمر طويل - فاصبر ".
فيحمل الملك تارة أخرى فيقول: " أيتها النفس! إن العقوبات الإلهية على الخطيئات ليست من قبيل الانتقام، بل هي من لوازم المعاصي وتبعات الذنوب، والله سبحانه حكيم عادل ومغفرته لا توجب قلب الحقائق، وترك الراحة القليلة لأجل السعادة الأبدية مما تقتضيه بديهية كل عقل، وحق الله أعظم من كل حق، وطول العمر مما ليس إلينا، فلعله لم يكن إلا ساعة، وقد ورد أن " أكثر صيحة أهل النار من تسويف التوبة ".
ثم ليت شعري أيتها النفس! هل عجزت في الحال إلا لقوة الشهوة، وهي ليست تفارقك يوما آخر أو سنة أخرى، بل هي قرينك في الدنيا حتى تهلكك ان قعدت عن قلعها عن طينة قلبك ".
فلا يزال يتردد هذا القلب بين الجندين، متجاذبا بين الحزبين، منقلبا بين الطرفين، والتطارد قائم في معركة الصدر الإنساني، إلى أن يغلب عليه ما هو أنسب إليه وأولى بحسب ما قدره الله، ويفتح الله المملكة الإنسانية وعماراتها وبيوتاتها، ومنازلها وخلائقها وجنودها وأرباب صنائعها وحرفها، وحيواناتها البهيمية والسبعية، ونباتاتها وجماداتها، وفنون أطعمتها وأشربتها، ومياهها وأشجارها، وعمرانها وخرابها، وبرها وبحرها لواحدة منهما، فصارت المملكة اقطاعا لها خاصة، وتخرج عنها الثانية، وربما تخرج عنها بالكلية بحيث لا يبقى فيها عين ولا أثر.
فإن كانت الصفات التي في القلب، الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها إما فطرة أو اكتسابا - من جهة المعاشرة مع الأشرار، والتدين بدين الكفار - غلب عليه الشيطان، ومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشيطان، معرضا عن حزب الله وأوليائه، وجرى على جوارحه بسوابق التقدير ما هو سبب بعده عن الله ورحمته.
وإن كان الغالب عليه الصفات الملكية، مال إلى حزب الله، ولم يصنع إلى إغواء الشيطان وتسويلات النفس الأمارة، فظهرت منه الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه، ويكون سبب قربه من الله ووصوله إلى رضوانه.
وهذه الطاعات والمعاصي تظهر من خزائن الغيب إلى عالم الشهادة بواسطة خزانة القلب، لكونه من خزائن الملكوت، وهي أيضا إذا ظهرت كانت علامات بها تعرف أرباب القلوب سابق القضاء فيها، فبعض النفوس ممن خلقت للجنة وغلبت عليها جهة الرحمة، ويسر لها الطاعة وأسبابها.
وبعضها ممن خلقت للنار، يسر لها أسباب المعصية وسلط عليها أقران السوء، وألقى في قلبها حكم الشيطان، فإنه بأنواع الوساوس يغتر الحمقى فيهلكهم، يعدهم ويمنيهم
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
[النساء:120] كل ذلك بقضاء الله وقدره
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر:22] فجزاؤه الجنة الموعودة، وهو بإزاء من قسى قلبه واسود طبعه فجزاؤه جهنم المتوعد عليها
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله
[الزمر:22].
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى:20].
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السمآء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون
[الأنعام:125].
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده
[آل عمران:160].
فهو الهادي والمضل، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم.
وفي الحديث الإلهي المتفق عليه، المروي في كتاب الكليني وغيره.
" خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي "
، والله الغني عن طاعة المطيعين، والمتعالي عن معصية العاصين، فإن آمنوا بربهم فروح وريحان وجنة نعيم، وذلك هو الفوز العظيم والمن الجسيم، وإن كفروا فنزول من حميم وتصلية جحيم، وهناك سلاسل وأغلال وعذاب أليم؛ وحق الفريقين الثواب والعقاب
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
[الحديد:13].
وقد أخرجنا أكثر هذه المعاني في عجائب القلب من كتب أهل الله، لما فيها من لطائف الأسرار وبدائع الأنظار، وعظيم النفع في كشف معنى هذه الآية المشيرة إلى معرفة ماهية الشيطان وجنوده، وكيفية عداوته وطريق التخلص عن شره وفساده وإغوائه، المؤدي إلى نار الجحيم وسلوك سبيل المجرمين، والنجاة عنه بنور المعرفة والإيمان وقوة الصبر والتقوى وسلوك الصراط المستقيم، وثبات القدم والعزم القويم في المجاهدة مع أحزابه التي هي من أعداء الله وقطاع سبيل المسلمين، ولا يتخلص عن شرها وضرها وإضلالها وإفسادها إلا خلص أولياء الله المتقين، ولذلك عقب الآية بقوله
{ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } [يس:62].
[36.62]
قرأ أبو عمرو وابن عامر " جبلا " بضم الجيم وسكون الباء، وقرأ أهل المدينة وعاصم " جبلا " بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ روح وزيد " جبلا " بضم الجيم والباء وتشديد اللام وهو قراءة الحسن والأعرج والزهري، وقرأ الباقون من القراء " جبلا " بضمهما وتخفيف اللام، وهذه اللغات كلها واردة في معنى الخلق، وقرئ " جبلا " بكسر الجيم وفتح الباء، جمع " جبله " بكسر الأول وسكون الثاني كفطر وخلق، جمع فطرة، خلقة.
وروي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قرأ: " جيلا " واحد " الأجيال " وهم أصناف الترك والروم.
مكاشفة
معناه: ولقد أضل الشيطان الرجيم كثيرا من خلائق الله بكيده ومكره وحبائله وخدعه وشركه وأحزابه وأتباعه، ووعده بالشر ووعيده على الخير وتمنيته، كما قال تعالى:
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
[الإسراء:64] وترويجه الباطل في صورة اليقين وقبولهم دعوته بسبب انحرافهم عن الصراط المستقيم، وتركهم طريق المجاهدة معه بإبطال كيده ودفع معارضته بقوة البراهين، وإعراضهم عن الحكمة الإلهية، ورفضهم بالكلية اقتناء المعارف الربوبية، وإفسادهم أذواقهم الفطرية عن ذوق المشرب وفهم المطلب.
كما حكى الله عنهم بقوله:
ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا
[النساء:119] وإلا لكان يجب أن يسهل عليهم دفع كيد اللعين ويهون عندهم الدنيا، وتنكشف لهم حقارتها ودثورها وفناؤها، وعظمة الآخرة وبقاؤها ودوامها، ويظهر لهم كيفية الإرتقاء إليها والصعود إلى منازلها ومدارجها، وكيفية التخلص عن سجن الدنيا وحبس النفوس، والتباعد عن دار الجحيم ومهاويها ودركاتها.
فإن قلت: فما الحكمة في إيجاد مثل الشيطان، وتسلطه على أفراد الإنسان حتى أغوى كثيرا منهم، وأهلكهم وأوقعهم في سخط الله وغضبه؟
قلنا: الحكمة فيها كثيرة لا يحيط بها إلا الله، من جملتها أنه كما ينتفع الإنسان من إلهام الملك، قد ينتفع من وسوسة الشيطان، فإن اتباع الشيطان وأهل الضلال كلهم تبعة الوهم والخيال، ولو لم يكن أوهام المعطلين وخيالات المتفلسفين والدهريين، وسائر أولياء الطاغوت ومراتب جربزتهم وفنون إعوجاجاتهم وضلالاتهم وانحرافاتهم وخيالاتهم، لما انبعث أولياء الله في طلب البراهين، لبيان علة حدوث العالم على نهج الكشف واليقين.
وهكذا في الأعمال، لو لم يكن اغتياب المغتابين وتجسس المتجسسين بعيوب الناس، لم يجتنب الإنسان كل الإجتناب من العيوب الخفية، التي قد لا يراها الأصدقاء، وإنما يظهر لهم تحققها من تدقيقات الأعداء، وفحصهم والتماسهم ظهورها عليه وعلى غيره.
فكم من عدو انتفع العبد من عداوته أكثر مما ينتفع من محبة الصديق، فإن المحبة مما تورث الغفلة عن عيوب المحبوب، والعمى عن رؤية نقائصه، والصمم عن سماع مثالبه.
ومن ها هنا يظهر أن لوجود الأفاعيل الشيطانية - كإظهار العداوة والبغضاء والحسد والغدر من الأعداء - فوائد كثيرة عائدة إلى المؤمنين، ومن فوائد عداوة الأعداء وكيد الخصماء وضرر الأشقياء للعبد في هذه الدنيا، سرعة رجوعه وعوده إلى الله فرارا من أعداء الله، امتثالا لقوله:
ففروا إلى الله
[الذاريات:50].
خلق راباتوجنين بدخوكند
تاترا ناجارروزانسوكند
وقوله: { أفلم تكونوا تعقلون } ، كأنه خطاب مع العلماء، الذين كان في استعدادهم إدراك المعقولات فانفسخوا عنه، وهم الذين اشتغلوا بالدنيا وقضاء شهواتها، وتولية موقوفات النفس، والتصدي لمراداتها، والتصدر في تحصيل مرغوباتها ومستلذاتها.
أي: أو لم تتعظوا وتستيقظوا من رقدة جهالاتكم وسنة غفلاتكم، ولم تحيوا بحياة العقل والإيمان من مهالك قلوبكم، وما يكفيكم في هذا الباب وما يحملكم على النفر والنفور، ما سمعتم في القرآن من حكاية " بلعم بن باعور " حيث انسلخ عن الفطرة الموجبة للارتقاء إلى عالم السماء ومعدن النور، إلى فطرة السبع الضاري والكلب العقور، كقوله تعالى:
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث
[الأعراف:175 - 176].
أما ينهاكم أيها المكبون على الشهوات، المتشبهون بالبهائم والحشرات، ما ورد في حكاية " قارون " وقول الجهال في حقه وتمنيهم حاله، وجواب العلماء الربانيين عنهم من قوله تعالى:
قال الذين يريدون الحياة الدنيا يليت لنا مثل مآ أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاهآ إلا الصابرون
[القصص:79 - 80].
أما يشوقكم إلى العروج إلى سماوات عقلية ذات بروج مزينة ما لها من فروج؟
أما يهيجكم إلى الخروج عن هذه الهاوية المظلمة إلى عالم النور ومعدن السرور أقوال سلاطين الأنبياء والأولياء الربانيين، وحكايات أساطين الحكماء والعلماء المتألهين في معارجهم ومصاعدهم حال التحرير؟ ومواصلاتهم وعشقياتهم عند التقرير؟
أما يطربكم للسير ويطيركم مثل الطير قول سيدنا ونبينا محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) من وصفه الجنات العلى، وسدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وذكره الخلود والشهود والمقام المحمود في اليوم الموعود؟
ثم أن ملاك الأمر في تخلص الإنسان من وسوسة الشيطان، والنجاة من شره وضره وشركه وأحزابه وأتباعه ومكائده ومصائده، ليس بصورة الأعمال المستحسنة الظاهرة، ولا بقراءة الكتب المتداولة، ونقل الأحاديث المتواترة، بل بإحكام النيات وصفاء الطويات، واستفاضة المعارف من ملهم الأسرار، واستماع الآيات من مفيض الأنوار، والشهادة على وحدانية الله وتقديسه، وتصحيح مرتبة متابعة نبي الله وأنبيائه، ودرجة ولاية ولي الله وأوليائه، من غير تعصب في مذهب، أو غرض نفساني في مطلب، شهادة شهودية ومعرفة وجودية، يحتاج نيلها إلى تصفية صفحة الباطن عن نقوش الأغيار، وتجلية مرآة السرعن كدورات الأقوال والأنظار، وكنس القلب عن غبار شوائب النفس والآثار، وتخلية بيت الله بحيث لا يكون في الدار غيره ديار، شهادة خالصة من الشرك الخفي، الحاصل من امتزاج الملاعين وصحبة جنود الشياطين.
واعلم أن الكفر كالإيمان على درجات متفاوتة: إذ بإزاء كل مرتبة من الإيمان مرتبة من الكفر، فمن مراتبه: كفر القالب ، وكفر النفسن، وكفر القلب، وقد أوردنا تحقيق هذه المراتب في تفسير بعض الآيات.
فالكفر الأول هو ظاهر معلوم لكل أحد، فمن أنكر شيئا من ضروريات الدين، أو رد علامة من علامات شريعة المسلمين، فقد كفر بفتوى الفقهاء والعلماء.
وأما الكفر الثاني الذي يتعلق بالنفس: فلأن معبودها الهوى، وهو الصنم الأكبر المشار إليه في قوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23]. وفي الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" أبغض إله عبد في الأرض الهوى ".
ولعل دعاء إبراهيم (على نبينا وآله وعليه السلام) فيما حكاه الله عنه بقوله:
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام
[إبراهيم:35] مشير إلى هذه الأصنام النفسانية التي عبدتها الخلائق، من الهوى الكائن في باطن كل أحد، وقل من العباد من اجتنب عن عبادته، وإلا فمثل الخليل وبنيه (عليهم السلام) كانوا أجل شأنا وأعظم مكانا وأقدس طهارة من أن يتصور في حقهم عبادة الأصنام الحجرية والمدرية.
ولو سألت الحق، فما عبد عباد الأصنام إلا ما حضر عند نفوسهم من صورة الهوى والأوهام، لأن عابد الصنم الحجري إنما يعبده بظن الإلهية له، وتصور الربوبية فيه، وإلا فالأجسام متشاركة، فيجب أن لا يكون عنده فرق بين صمنه وغيره من الأجسام، فيلزم عليه أن يعبد كل جسم كان ويكون في العالم - وحينئذ - فلم يبق فرق يعتد به في الواقع وعند أهل الآخرة بين الكفار وعبادتهم المعروفة للصنم، وبين أرباب العقائد الجزئية في حق الله وأصحاب المذاهب الجاهلية سوى الموحدين بالحقيقة، فجميعهم من أهل الهوى والطاغوت، وعبدة الوهم والجهالات وأتباع النفس في الشهوات.
وكذا لا فرق بين نحت الأصنام باليد الجسمانية للعبودية، وبين إنشاء الوهم الصور الوهمية بقوته المتصرفة، لينال بها الوصول إلى البغية الشهوية واللذة الدنيوية.
وقد قلت في المثنوي أبياتا مناسبة لهذا المعنى.
هركه رانبوددرون باصفا
ازنقوش وهم ميسازدخدا
ميتراشد تيشه وهمش صنم
مبيرستدآن صنم رادمبدم
وهمها هستند جمله بت تراش
خودتراشد صورت وكويد خداش
بت نباشد غير صور تهاى وهم
كى درآيد صورت خارج بفهم
بت برستى خوديرستيدن بود
خواه نامش راصنم كن يا صمد
جون توغير ازحق برستى كافرى
خواه نامش حق كنى ياديكرى
خود برستى ميكنى إبليس وار
يكزمان ازحق تعالى شرم دار
دردرون سينه بت دارى همى
مى برستى دائما درهردمى
اين درونهاى توهم آميخته
كه بود اصنام ازوآويخته
كى شودباك ازبتان شك وريب
كى نماي حق دروانوار غيب؟
تاترا برطاق دل هست اين صنم
كى شوى ايزدبرست اى متهم؟
تازطاق كعبه أين اصنام را
مى نبردازى بنوراهتدا
تا بكتف روح باى عقل را
ننهى ازبرهان وكشف اى بينوا
بس نيندازى زطاق دل بفن
صورت اين وهمهاى جون وثن
كى شوداندر مدينة نفس تو
حق برستيدن ميسر أى عمو؟
كى شوددر كافرستان درون
حق برستيدن ميسر جزفسون
وأما كفر القلب، وهو أن السالك إذا انجلت مرآة سره بحيث حوذي بها شطر الحق، وتنقى عن عين قلبه الكدورات النفسانية، وارتفعت عنها الغشاوات الدنيوية، فوقع فيها نور الحق ويتجلى لها جمال الأحدية، فإذا غافصه تجليه فربما نسي هويته الإمكانية وخرج عن رتبة العبودية، ولم يثبت بالقول الثابت فاعتقد لذاته " أنها عين الحق " ، وبادر وقال: " إنها فيها " " فأنا الحق " و " سبحاني ما أعظم شأني، فقد تدرع باللاهوت ناسوتي " إلا أن يثبته الله بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، فيعرف أن الصورة الإلهية ليست في مرآة ذاته، بل تجلت فيها، وما حلت فيها، بل ظهرت منها، ولو حلت لما تصور أن تتجلى صورة واحدة لمرائي كثيرة في حالة واحدة، بل كانت بحيث إذا حلت في مرآة واحدة ارتحلت عن الأخرى.
وهيهات! فإن الله لا يتجلى لجملة من العارفين دفعة واحدة، وإن كان في بعض المجالي أظهر وأصح وأقوم وأوضح، وفي بعضها أخفى وأكتم وأبهم، وأميل إلى الإعوجاج عن الاستقامة، وذلك لتفاوت المرائي في الصقالة والصفاء وصحة الإستدارة والإستواء، في رفع الحجب عن بسيط وجهها كلا أو بعضا.
فافهم جدا واغتنم، وتنبه لما قيل " إن نور إبليس من نار العزة " لقوله تعالى حكاية عنه:
خلقتني من نار
[الأعراف:12]. ولو أظهر نوره للخلق لعبدوه:
إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
[النحل:100].
وكم من سالك بلغ إلى هذا المقام الذي هو آخر الأقدام في السفر الأول، فوقع في الكفر الأكبر، وضل وغوى، وهلك وهوى في الجحيم السفلى والحطمة الكبرى
نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة:6 - 7].
والموحد إذا جاوز عن هذه المزلقة المهوية، وارتفع عن هذه المرتبة يقول:
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
[الأنعام:79] بعد ما وقع مروره على ملكوت السماوات والأرض، وعبوره على الدرجات العلى من ملكوت ربه الأعلى، لقوله تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين
[الأنعام:75].
وفي قوله: " ليكون " إشارة إلى أن السالك لا بد له من أن ينظر أولا في حقائق الأشياء وملكوتها بالنظر الدقيق، واثباتها بالبراهين على وجه التحقيق، ليمكن له أن يرتقي منها إلى ملاحظة الذات الأحدية، والشهادة على وحدانية الباري وصفاته الصمدية.
وذكر بعضهم النكتة - في أنه (عليه السلام) لماذا قال: " هذا ربي " ، لما جن عليه الليل رأى كوكبا؟ - بما روي عن كعب الأحبار، إنه كان قرء في التوراة: " أن أرواح المؤمنين من نور جمال الله، وأن أرواح الكافرين من نار قهر الله ".
وفي الأدعية النبوية: " اللهم إني أعوذ بك من الشرك الخفي " ، وفي قوله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر:65].
ونقل عن أبي يزيد البسطامي انه قال: إلهي إن قلت يوما: " سبحاني ما أعظم شأني " ، فأنا اليوم كافر مجوسي، أقطع زناري وأقول: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله ".
وقال الحلاج:
كفرت بدين الله والكفر واجب
لدي وعند المسلمين قبيح
وكتب أبو سعيد المهني إلى أبي علي بن سينا: " دلني على الدليل " ، فقال في الرسالة على طريق الجواب: " الدخول في الكفر الحقيقي، والخروج عن الإسلام المجازي، وأن لا تلتفت إلا بما وراء الشخوص الثلاثة، حتى تكون مسلما وكافرا، وإن كنت وراء هذا فلست مؤمنا ولا كافرا، وإن كنت تحت هذا فأنت مسلم كافر، وإن كنت جاهلا من جميع هذا فإنك تعلم أن لا قيمة لك ولا نقد لك من جملة الموجودين " فأورده أبو سعيد في كتاب " المصابيح " وقال: " أوصلتني هذه الكلمات إلى ما لا يوصل إليه عمر مأة سنة من العبادة ".
تتمة استبصارية
لما تحققت أيها السالك كيفية المطاردة بين جند الله وجنود الشيطان في هذا العالم الإنساني، وعلمت أن مناط الغلبة لأحد الحزبين، ومنشأ الفتح عن أحد الطرفين بالحقيقة، ليس إلا بأصل واحد حصل على وجه الرسوخ، وهو إما الإيمان أو الكفر، فإن حصل " الإيمان الحقيقي " في القلب، كان الجنود كلهم مطيعين للملك، وان حصل " الكفر " كان الجنود كلهم مطيعين للشيطان، وإن لم يحصل شيء منهما على الحقيقة كانت المحاربة باقية، وأكثر الناس إما كفار محضة، أو ضعفاء العقل والإيمان، مترددون بين الحق والباطل، فقد رجع الأمر كله إلى أصل اليقين وحقيقة المعرفة.
لأن المجاهدة مع أعداء الله لا يمكن إلا بترك الذنوب والمعاصي، وهو لا يتيسر إلا بالصبر، الذي هو عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتصادم مقتضياتهما ومطالبهما، والصبر لا يمكن إلا بمعونة الخوف من عقاب الله، والخوف لا يحصل إلا بالعلم بأن المجاهدة مع أعداء الله واجبة، والعصيان عن أمر من نصبه للخلافة محرم، والفرار عن الزحف كبيرة موبقة، وبالتصديق بأن ضرر الذنوب عظيم.
وهذا هو تصديق الله وتصديق رسوله، والإعتقاد باليوم الآخر، ونشأة الثواب والعقاب والميزان والحساب.
و " الإيمان " عبارة عن هذه المعارف، فكأن من أصر على معصية، أو ترك الصبر، أو قعد عن الحرب، فلأنه إما غير مؤمن، وإما ضعيف الإيمان، وكما أن من فقد الإيمان بالكلية يوجب الإصرار على المعاصي، فكذلك ضعفه.
فإن سبب وقوع أكثر المنسوبين إلى الإيمان في المعصية، مع اعتقاد في الجملة بأن المعصية من أسباب البعد عن الله والعقاب في الآخرة، أمور ثلاثة:
أحدها: إن العقاب الموعود غيب غير محسوس، والنفس جبلت متأثرة بالحاضر المحسوس.
الثاني: إن الشهوات الباعثة على الذنوب ناجزة آخذة بالمخنق، وقد قويت واستولت بالاعتياد - والألف والعادة طبيعة خامسة - وليس كل من شرب في مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذبا بأصل الطب، وبأن ذلك مضر في حقه، ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر ناجزة، فهون عليه الألم الموعود.
الثالث: انه ما من مذنب لقلبه رائحة من الإيمان، إلا وهو في الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئة بالحسنة، وقد وعد بأن ذلك منشأة المغفرة، إلا أن طول الأمل غالب على الطباع، فلا يزال تسوف التوبة والتكفير، فمن سبب رجاء توفيق التوبة رمبا يقدم عليه مع الإيمان.
الرابع: انه ما من مؤمن إلا وهو معتقد أن الذنب لا يوجب العقوبة إيجابا لا يمكن العفو عنها - خلافا للمعتزلة -، فهو مذنب ينتظر العفو اتكالا على فضل الله.
فهذه أسباب أربعة موجبة للإصرار مع بقاء أصل الإيمان، نعم ها هنا سبب خامس يقدم المذنب به، وهو يقدح في أصل إيمانه، وهو كونه شاكا في صدق الرسل في انذارهم، وهذا هو الكفر، كالذي يحذره الطبيب تناول ما يضره، وهو ممن لا يعتقد فيه أنه عالم بالطب، فيكذبه أو يشك فيما يقوله، فما يبالي.
ويمكن علاج جميع هذه الأسباب الخمسة بالفكر الصحيح:
أما الأول: فلما تقرر أن كل ما هو آت آت، وإن غدا للناظرين قريب، وقد مر تحقيق قرب الساعة، وإن الموت أقرب من كل أحد من شراك نعله
وما يدريك لعل الساعة قريب
[الشورى:17].
وأما الثاني: ان المتأخر إذا وقع صار ناجزا، ويذكر نفسه أنه أبدا في دنياه بتعب في الحال لخوف أمر في الاستقبال، وهذا ألمه ليس أقل من ألم الصبر عن المعاصي.
وأما الثالث: فبأن أكثر صياح أهل النار وحسراتهم وزفراتهم من التسويف، لأن المسوف بنى الأمر على ما ليس إليه - وهو البقاء - ولعله لا يبقى، وإن بقي فلا يقدر على الترك غدا، كما لا يقدر عليه اليوم، ثم ليت شعري هل عجز في الحال إلا لغلبة الشهوة، والشهوات لا تتفارق بالإصرار، بل تتضاعف سورتها ويترسخ أصلها بالتكرار، ويتأكد خلقها بالإعتياد، وما مثال المسوف إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقطع إلا بمشقة شديدة ، قال: " أأخرها سنة ثم أعود عليها " ، فلا حماقة أعظم من حماقته.
وأما الرابع: فعلاجه بأن يتفكر في حال من يمكن العدو على نهب جميع أمواله، ويترك نفسه وعياله فقيرا مستنظرا من فضل الله، راجيا أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة، فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان، والله قادر عليه، إلا أن هذا الرجل مما يحكم عليه كل عاقل بأنه في غاية الحماقة.
وأما الخامس: فعلاجه التأمل في أسباب المعرفة بصدق الرسل، وذلك أيضا ركن عظيم من أركان حكمة الله ومعرفته، وأكثر الناس غافلون عنه، ذاهلون عن معرفة ماهية الرسالة وحقيقة الرسول، بل أكثرهم مستهزؤون بالأنبياء باطنا، وإن أقروا بالرسالة لسانا وقولا، كما مر من قوله تعالى:
ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون
[الحجر:11] وأكثرهم معرضون عن آيات الله فهما ودراية، وإن تلوها قراءة ودراسة:
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105].
فقد رجع الأمر في مجاهدة النفس والشيطان كله إلى تحصيل المعارف الإلهية والعلوم الربانية، ثم المصابرة عليها بترك اللذات، والتقوى عن المحارم والسيئآت، لقوله تعالى:
إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون
[الأعراف:27]، وقوله:
والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت
[البقرة:257] فإذا تنور الباطن بنور المعرفة والإيقان، وتطهر القلب بطهارة الورع، زالت عنه نجاسة الشرك والكفر، فيسري أثره في جميع القوى والجنود والأحزاب، فتصير كلها مسلمة متوافقة متعاضدة متظافرة في سبيل الله والسفر إليه، وكل منها ينقلب إلى أهله مسرورا.
وكما أن في الظاهر، إذا أسلم مشرك تزول عنه النجاسة وعن جميع بدنه وأعضائه وملبوساته وما يلتصق به، فكذلك إذا حل معنى التوحيد الحقيقي في القلب، وتقرر فيه المعارف الإيمانية بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وصدق بكلماته، وآمن بكتب الله المنزلة على رسله وأوليائه (عليهم السلام)، تنورت القوى كلها بأشعة نور الإيمان الحقيقي، وتطهرت الجنود كلها من رجس الشرك الخفي، ونجاسة الجهالة الشيطانية والكفر الوهمي، فصارت النفس روحا، والوهم عقلا، والسفسطة برهانا، والشهوة شوقا إلى العبودية، والغضب عزما على الطاعة ، واللذة محبة، والحسد غيرة، والقنوط رجاءا، والكفران شكرا، والحرص توكلا، والقسوة رأفة، والحمق فهما، والتهتك عفة، والكبر تواضعا، والسفه علما، والهذر صمتا، والاستكبار استسلاما، وبالجملة، جميع أجناد الشيطان تصير من توابع الملك وجنود الرحمان، وهكذا جميع أفراسه ورواحله وشركه وحبائله ومنازله ومواضعه تصير متعلقة بحزب الله، والملكة مسخرة لخليفة الله في أرض الباطن، وأهلا ساجدة له خاضعة إياه، مطيعة لأوامره ونواهيه، قائلة كلهم بألسنة أحوالهم:
صحى القلب عن سلمى وأقصر باطله
وعري أفراس الصبى ورواحله
ولقد أطنبنا الكلام، وقد بقي بعد خبايا في زوايا القلب لتبيين المرام وتحقيق الكلام، تركناها لضيق المقام وقصر العمر عن التطويل في كل مقصد على وجه التمام، على أن الصاد الشديد عنه موجود، والباعث القوي عليه مفقود، وهما قصور الإفهام من الطلبة المحصلة، وشنعة اللئام من الجهلة المطلعة.
[36.63]
واعلم أن العلم بحقيقة الجحيم والجنة والإيمان بوجودهما من المعارف التي لا بد للسالك من معرفتها، والناس معرضون عنها إعراضهم عن سائر الآيات، لانكبابهم على دواعي النفس والشهوات، وهي كسائر أسرار القيامة مما يختص معرفتها بعلماء الآخرة، وليس لعلماء الدنيا نصيب من هذه المعارف إلا الأسامي والرسوم.
ولفظة: " هذه " ، الموضوعة للمشار إليه القريب، مع لفظة " العدة " الموضوعة للأمر المتسوف حصوله، مشعرتان بأن ماهية النار والجنة من أقرب الأشياء إلى ذات العبد ونفسه وروحه، وأن ظهور موعودهما موقوف على قيام الساعة لقوله:
وبرزت الجحيم للغاوين
[الشعراء:91] وقوله:
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54] وقوله:
إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها
[الكهف:29].
والإشارة إلى ماهيتها بوجه، أن الإنسان ما لم يكن عارفا بالحق لا يمكن سلوكه إليه، والعارف ما لم يكن محبا للحق لا يمكن سلوكه إليه، فالشوق والمحبة ضرب من الوصول، وكماله هو الحشر مع المحبوب أو النزول في دار ضيافته، فالمحبوب الحقيقي لهم هو الله، ودار رحمته وكرامته هي طبقات الجنان ودرجاتها، ومحبوب أهل الكفر هو الهدى والطاغوت، ودار نزله وضيافته هي طبقات الجحيم ودركاتها.
لكن المعرفة على درجات مختلفة: الظن، والعلم، والإبصار - أي المشاهدة -.
" الظن ": لأهل هذه النشأة الدنيوية من حيث يكون فيها، و " العلم ": لأهل الآخرة من حيث هم فيها، و " المشاهدة " لأولياء الله، الذين نشأتهم فوق هاتين النشأتين.
شأن أرباب الدنيا:
ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم
[فصلت:54]. وشأن أهل الآخرة:
ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه
[الجاثية:26].
وبوجه آخر: العلم في الدنيا والمشاهدة في الآخرة:
كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين
[التكاثر:5 - 7] فالأثر الذي يصل أولا إلى السالك من مطلوبه، الإيمان بوجوده ووجوبه، والأثر الثاني هو الإتقان والتحقيق والمشاهدة:
إن هذا لهو حق اليقين
[الواقعة:95].
وجميع هذه المراتب، كما يتحقق في المطلوب الخير، كذا يتحقق في مطلوب أهل الشر، إلا أن مآل المشاهدة في الأول إلى البقاء والدوام والسعادة المخلدة، والسرور الدائم والنعيم المقيم، وفي الآخر الدثور والهلاك والزوال والعذاب الأليم، والعقاب الجسيم، فما أشد سخافة رأي أهل الظن والتخمين، حيث يزعمون يوم القيامة بعيدا عن الإنسان بحسب الزمان والمكان:
ومآ أظن الساعة قائمة
[الكهف:36]
ويقذفون بالغيب من مكان بعيد
[سبأ:53].
وقد علمت فيما مر سابقا، أن أهل العلم واليقين يعلمونه قريبا بحسب الزمان والمكان:
اقتربت الساعة
[القمر:1]
وأخذوا من مكان قريب
[سبأ:51]
إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا
[المعارج:6 - 7] وكان نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) يشاهد خازن الجنة ويتناول من ثمارها وفواكهها، ويشاهد النار ويتعوذ منها في صلاة الكسوف - كما روي -، ولم يحكم بإيمان حارثة الأنصاري بالحقيقة ما لم يكن مشاهدا للجنة وأهلها يتزاورون، وللنار وأهلها يتعاوون.
[36.64]
إن في هذه الآية نصا على أن الكفر - أي الجهل بحقيقة الساعة واليوم الآخر - هو منشأ صلي جهنم والإحتراق بنارها، وذلك لما مر من أن الجهل بوجود الآخرة يوجب الأقدام على ترك الطاعات، والإجتراء على المعاصي، والتقاعد عن الخروج من دار المعصية ومعدن الآفة، والإخلاد إلى الأرض والإغترار بظواهر الآثار، وتسويف التوبة والإعتماد على الشفاعة، كما حكى الله عنهم بقوله:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله
[يونس:18] والجهل بأن شرط تحقق الشفاعة حصول المناسبة، فلا يتصور بدونها كما أشير إليه بقوله تعالى:
لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن
[طه:109] وقوله:
فما تنفعهم شفاعة الشافعين
[المدثر:48].
وها هنا دقيقة لأهل القرآن الذين هم أهل الله وأهل العرفان، وهي أنه لما تقرر عندهم ببصائرهم الشهودية، وارصادهم وآلاتهم الروحانية، إن الدنيا وأحكامها، مرآة للآخرة وأحكامها، ولما كان الناس يوم القيامة أصنافا ثلاثة لقوله تعالى:
وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة
[الواقعة:7 - 8] إلى قوله
أولئك المقربون
[الواقعة:11] ولقوله:
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات
[فاطر:32] فكذلك الموجودون منهم في الدنيا على ثلاثة أقسام، كل قسم منها مرآة ومثال لما يؤول إليه عاقبة أمره، وأحواله وأحكامه الحاضرة مثال لأحواله وأحكامه الغائبة.
فالمتوطنون فيها، المكبون على شهواتها، أمثلة أصحاب الشمال الواقفون على النار من الأشرار والأشقياء المردودون الجهال الضلال المقيدين بالسلاسل والأغلال، وانكبابهم على شهواتها مثال احتراق أهل النار لحرقاتها.
والمتعبدون الزاهدون من أهل السعادة والصلاح هم مثل أصحاب اليمين وأهل النجاة.
وأما العلماء الراسخون السالكون إلى الله، والأحرار المرتفعون عن الخسائس الدنية، المعرضين عن لذاتها الحيوانية، فهم المقربون إلى الله تعالى، المارون على الصراط كالبرق الخاطف، من غير أن يصل إليهم أثر حرها وضرها، كما قال واحد من أهل بيت النبي (عليه وعليهم الصلاة والسلام) لما سئل عن قوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا
[مريم:71] " جزناها وهي خامدة " ، وقوله تعالى عقيب ذلك:
ثم ننجي الذين اتقوا
[مريم:72] إشارة إلى أهل النجاة والسعادة، وقوله:
ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:72] إشارة إلى أهل النكال والشقاوة.
ومن نظر إلى حال كل فرقة بعين الاستبصار والإعتبار، ورجع إلى عالم الانصاف من الجور والاعتساف، انكشف عليه أن التضاد متحقق بين أهل التوحيد وأصحاب الشمال، حيث إن أحواله وأفعاله على ضد أحوال هؤلاء وأفعالهم، ويظهر له يقينا أن الجماعة المتشبهين بالعلماء - المكبين على الدنيا وأغراض النفس والهوى - بمعزل عن درجة أهلية أهل العلم والتوحيد، وهم بمراحل عن أهل الله ورضوانه بعيد، فهم في واد وأهل دين الله في واد .
فهؤلاء أهل التضاد والعناد، كما أن أولئك أهل التوحيد والحرية والتفريد، وذلك لتقيدهم بعالم الحركات والتغيرات، من الأجسام المتضادة الصور والمواد، المتقلبة في أحوالها، كالحدوث والزوال والكون والفساد، والحياة والموت، والنوم واليقظة، والصحة والمرض، والقدرة والعجز، واللذة والألم، والراحة والتعب، والشهوة والغضب، وذلك لتقيدهم بذواتهم المستحيلة، وهوياتهم الكائنة الفاسدة، وعلومهم الجزئية المتغيرة، بحيث لم يرتقوا عن خصوصيات هوياتهم، ولم يخرجوا قدما عن عتبة باب أبدانهم العنصرية بنفوسهم الوهمية.
وإذ لا نجاة لشخص من نفسه وشخصه، فكيف لوازمه وحالاته، فهم محترقون بنار الانقلابات وحرقة الشهوات
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
[النساء:56] وأي عذاب أشد من أن يكون متعذبا من نفسه، معاقبا بمعصية هي ذاته ووجوده؟ كما قيل: " وجودك ذنب لا يقاس به ذنب " فلا جرم يكونون أبدا في الجحيم بين أمور متضادة كالسموم والزمهرير يترددون في الهاوية بين طرفي التضاد، لما بينا فيما مر، أن الهاوية من سنخ هذه الدار يبرز يوم القيامة على الأشرار:
وبرزت الجحيم للغاوين
[الشعراء:91] كما برزت اليوم على الأخيار، لقوله:
وبرزت الجحيم لمن يرى
[النازعات:36] فمن كان يتعذب تارة بأحد الضدين وتارة بالآخر:
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل
[الزمر:16].
برهوا برشود بسوزندش
برزمين بكذرد بدوزندش
دوزخ نقد مفسدان اين است
نسيه خود صد هزار جندين است
وأحوال أهل الجنة والأبرار، تعاكس أحوال أهل النار والأشرار بوجه، حيث إن هؤلاء لما كانوا أول الأمر خارجين عن قيد الشرع، مسرحين عن عقال العقل، غير مرتاضين بل سائمين في أرض الشهوات، خالعي عذار الشرع وزمام العقل، فلا جرم يقيدون في الآخرة بقيود السلاسل والأغلال، يعذبون بفنون العذاب والنكال، محتجبون بأنواع الحجب، مترددون في أسفل دركات الجحيم
كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها
[الحج:22].
وأما الأبرار، فلهم الإرتقاء من كمال إلى كمال، لهم من فوقهم غرف ومن تحتهم غرف، وهم المتخلصون من عذاب أهل التضاد، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
[36.65]
وقرئ " يختم " بصيغة الغائب المجهول، و " تتكلم أيديهم " وقرئ " ولتكلمنا أيديهم وتشهد " بلام (كي) والنصب على معنى: " ولذلك نختم على أفواههم " ، وقرئ فيها بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.
في الكشاف: " يروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحيئنذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم، وفي الحديث يقول العبد يوم القيامة: إني لا أجيز علي شاهدا إلا من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي. فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل ".
واختلف المفسرون في كيفية شهادة الجوارح على وجوه:
أحدها: إن الله تعالى يخلقها خلقة يمكنها أن تتكلم وتنطق وتعترف بذنوبها.
وثانيها: إن الله يجعل فيها كلاما، وإنما نسب الكلام إليها لأنه لا يظهر إلا من جهتها.
وثالثها: إن معنى شهادتها وكلامها، إن الله يجعل فيها من الآيات ما يدل على أن أصحابها عصوا الله بها.
مكاشفة أخروية
إن أهل الضلال وأصحاب الشمال إذا برزوا لله، وخرجوا من قبورهم إلى المحشر، كانت لهم صور وأشكال على ما اقتضه صفاتهم وأخلاقهم البهيمية والسبعية.
وفي الحديث:
" يحشر الناس على صور نياتهم "
فيحشرون في الآخرة على صور الحيوانات العجم، المنتكسة الرؤوس، المنقلبة الوجوه إلى أسفل، مختومين على أفواههم، تشهد على ضمائرهم ونياتهم هيئات أيديهم وأرجلهم، وتشهد آذانهم على أنهم صم عن سماع آيات الله، وعيونهم على أنهم عمي عن مشاهدة أهل الآخرة، وجلودهم وأبدانهم على أنهم حمق عن إدراك المعاني، كما قال:
شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون
[فصلت:20].
دقيقة كشفية
إن الله تعالى خلق في الأكوان أصنافا أربعة هي: الجسم العنصري، والجماد، والنبات، والحيوان، غلب على كل منها بحسب الفطرة والطبيعة إحدى الحجب من مراتب الاحتباس عن الجنان، وزلات الأقدام عن القيام إلى طاعة الرحمان، ليعلم بالبصيرة الباطنية انطلاق الحقيقة الإنسانية بحسب فطرتها العقلية عن هذه الحجب والقيود.
بل خلق في الحيوان أصنافا أربعة لمراتب أربع، متحققة في أفراد الإنسان، ليعلم أهل الشهود كيفية احتجاب أهل الجحيم وانحباسهم في شجون أودية الظلمات، وسجون مهاوي التعلقات لأرباب الضلالات عن لقاء الله، وينكشف عليه كيفية انكشاف وجوه أهل الرحمة وانطلاقهم عن حجب هذا العالم، وعدم انحباسهم في ظلمات ثلاث لقوى ثلاث، من شهوة البهيمية وغضب السبعية وحيلة الشيطانية.
وذلك حيث لم يتحقق علامة الانفتاح، وطلاقة الوجه، ونقاء الجسد إلا في واحد من تلك الأربعة - وهي الإنسان -، دون غيره من الأصناف الثلاثة، البهيمية والوحوش والطيور، إذ فيه علامة أهل الجنة، الذي هم " جرد مرد مكحلون " كما ورد في الحديث، ولغيره علامات المحبوسين والمسجونين والمجرمين، - فهي التقيد بالأغلال في الأعناق والأيدي والأرجل، والإنسداد عن الارتقاء إلى عالم النور، والاحتجاب بالأغشية الظلمانية، كما في قوله تعالى:
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهى إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون
[يس:8 - 9].
ثم الإشارة إلى أن النفس الإنسانية باعبتار كونها عالما مشتملا على أصناف المكونات والحيوانات، كمثل شاة في أول الأمر، لها قوائم أربعة، قيدت بثلاثة أرجل هي قواها الطبيعية والنامية والحيوانية، وأطلقت بواحدة هي قوتها الفكرية، خلق الله في كل واحد من الحيوانات الثلاثة - سوى الإنسان - ثلاث علامات من علامات الجحيم والعذاب، وخلق في الإنسان أضداد هذه العلامات، ثلاث هي كعلامات أهل الجنة.
وذلك لأن لكل واحدة من تلك الحيوانات يوجد ثلاث عقد: إحداها: عقدة العمى في العين عن مشاهدة آيات الآفاق والأنفس، ورؤية ما في كتاب الله لقراءة آياته، والأخرى: عقدة الصم في الأذن عن استماع الكلام، والثالثة: عقدة الانتكاس لنفوسها المتوجهة إلى الأغراض السفلية.
ونشأ من هذه العقد الثلاث عقد ثلاث أخرى شاهدة عليها، إحداها: اللسان الشاهدة على صمم الآذان، وثانيها: عقدة اليدين الشاهدة على عماء العين، والثالثة: الإنقلاب في البدن، لشهادة الانتكاس في النفس، فإن اللسان كخليفة الأذن، لأن كل " أصم " فطرة فهو " أبكم " ، واليد الكاتبة كخليفة العين، فإن " الأعمى " لا يقدر على الكتابة، والبدن كخليفة النفس، فانقلابه دليل انتكاسها، كما أن انحناء الغلاف دليل انحناء السيف.
[36.66-67]
الطمس: محو الشيء حتى يذهب أثره، و " الطمس على العين ": تعفية شق العين حتى تذهب وتعود ممسوحة، ومثله " الطمس على الكتاب " وهو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك.
وقوله: " فاستبقوا الصراط " إما على طريقة الحذف والإيصال، أي فاستبقوا إلى الصراط، أو بتضمين معنى " ابتدروا " ، أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه، أو ينتصب على الظرف، أي: فلو قصدوا (تصدوا) أن يستبقوا إلى الصراط فأنى يتيسر لهم، لكونهم عميا لا يبصرون الطريق.
و " المسخ ": قلب الصورة إلى خلقة مشوهة. و " المكانة " و " المكان " واحد كالمقامة والمقام، وربما يفرق بينهما، فيكون الأول للمعنوي، والثاني للوضعي.
وقرئ: مكاناتهم، وقريء: مضيا - بالحركات الثلاث -.
قد أخبر سبحانه، عن قدرته على كشف سرائر هؤلاء الكفار، وصورتهم الباطنية الغائبة عن حواس أهل الدنيا، المناسبة لصفاتهم ونياتهم، وهي الصور التي سيحشرون عليها يوم القيامة، فقال: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم.
وعن ابن عباس، أي: لأعميناهم عن الهدى. وعن الحسن والجبائي وقتادة: لتركناهم عميا يترددون.
فاستبقوا الصراط - أي: فطلبوا طريق الحق وقد عموا عنه - فأنى يبصرون. وعن ابن عباس، وقيل معناه: فطلبوا النجاة والسبق إليها، لا بصر لهم فكيف يبصرون وقد أعميناهم. وقيل: طلبوا الطريق إلى منازلهم فلم يهتدوا إليها.
ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم - التي هم فيها قعود، أي: لعذبناهم بنوع آخر من العذاب، فأقعدناهم في منازلهم ممسوخين قردة وخنازير، وقيل معناه: ولو نشاء لمسخناهم حجارة في منازلهم ليس فيهم أرواحهم.
فما استطاعوا مضيا ولا يرجون - أي: فلم يقدروا على ذهاب ولا مجيء. وقيل معناه: فما استطاعوا مضيا من العذاب ولا رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ.
مكاشفة
" الطمس على العين ": إشارة إلى إزالة الإستعداد عنهم لإدراك الحقائق بالبصيرة الباطينة، وهي القوة العاقلة النظرية، كما أن " المسخ على مكانتهم " - وهو إجمادهم في مرتبتهم التي كانوا عليها من النقص -، إشارة إلى قلب فطرتهم الإنسانية بحسب القوة العملية المستعدة لسلوك سبيل الحق بفعل الخيرات وإقامة الصلاة والزكاة إلى فطرة الدواب والأنعام، التي ليست لها قوة الإرتقاء إلى ملكوت السماء.
والحاصل، أن أهل الكفر والاحتجاب وأصحاب الضلال والعذاب، وان كانوا في أصل الفطرة مستعدين لإدراك طريق الحق القويم، وقوة المشي على الصراط المستقيم، إلا أنهم لانكارهم وجحودهم آيات الله ومعالم دينه وحكمته، طمست عقولهم النظرية وعيونهم الفطرية، فصاروا من جملة الشياطين المردودين إلى أسفل السافلين، ومسخوا بحسب قوتهم العملية فصاروا قردة وخنازير، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريقة العاملة التي لكل أحد أن يسلكها إلى مقصده الذي يناسبه بحسب أصل الفطرة - وهي الشريعة العامة التي بها نجاة كل أحد - لم يقدروا، وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فيها من علوم المعاملات والمسائل الضروريات - فضلا عن غيره من علوم المكاشفات -.
ومع قطع النظر عن كون السلوك متوقفا على البصيرة، فصاروا لكثرة اعتيادهم كالدواب والأنعام بالتوطن في عالم الأجرام، وانحباسهم كالحشرات في قعر أرض البدن، ممسوخين على مكانتهم التي كانوا عليها، مجمودين في عالم الصورة، غير مستطيعين مضيا إلى عالم الرحمة والنجاة، لفقد الآلة وضعف البنية ومسخ الماهية، ولا راجعين إلى فطرتهم الأصلية، لاستحالة ذلك بالبراهين القاطعة العقلية والشواهد الناصة (القاطعة) النقلية، كما استحالت في سنة الله صيرورة الشيخ الكبير طفلا صغيرا.
وأما قوله:
قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
[الحديد:13] فهو على سبيل التهكم بهم.
وإني قد رأيت من المستعدين من كان لهم بحسب الفطرة الأصلية لكلتا قوتيهم النظرية والعملية استعداد إدراك بعض المعارف الحقة، والإقتدار على فعل الطاعات والخيرات، والمصابرة على ترك الفسوق والشهوات، فصاروا بعد حين بسبب ملاقاة أهل الإغترار، وملازمة أقران السوء، وصحبة أهل الغفلة والجهالة، والانكباب على الدنيا، والإعراض عن الحكمة، في غاية الجمود والبلاهة، والعمى عن إدراك المعقولات، لاعتيادهم بحفظ الوساوس الوهمية، والكلمات الواهية، والأقوال المتناقضة الباطلة، وفي غاية الكسل عن الخيرات والطاعات، لانهماكهم في طلب الشهوات النفسانية، وإفناد قواهم في السعي على اقتناء المرغوبات الحسية، وتحصيل الرياسات الحيوانية.
وأكثر هؤلاء إذا تجاوزوا عن الأربعين وصاروا معمرين، وأخذت قواهم في الانتكاس والذبول - كما أشير إليه في الآية التالية، توغلوا في الإعراض عن الحق والخوض في الباطل، إلى أن صاروا أشد الناس عداوة للذين آمنوا بحسب الضمير والإعتقاد، وأغلظ المعاندين والجاحدين لأهل الحق لغاية البعد عن عالم المعاد، وأحرص الناس على حياة هذه الدنيا كاليهود الغالب على نشأتهم أحكام الظاهر، ومحبة التجسم وعداوة أهل التجرد والتوحيد والروحانيين.
كما قال تعالى:
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين
[البقرة:97] ولقوله:
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين
[البقرة:98] وهذا بالحقيقة معنى " الطمس " و " المسخ " الواقع في يهود الأمم السابقة مكشوفا، وفي مجسمة هذه الأمة مستورا، لا التناسخ بالمعنى المشهور بين الفلاسفة، لنهوض البراهين على استحالة انتقال النفس من بدن عنصري إلى بدن آخر.
وأما انقلاب باطن الإنسان بحسب كثرة الأعمال الشهوية والغضبية والجربزية إلى حقيقة البهائم والسباع والشياطين، فهذا مما اتفق عليه أكابر المحققين من أهل الكشف والشهود، وأشار إليه أعاظم الحكماء الأقدمين من أصحاب الإشراق والسلوك إلى الله المعبود، ونطقت به ألسنة الشرائع الحقة الإلهية، ودلت عليه الآيات القرآنية، وصرحت به الأحاديث النبوية.
وكفاك في هذا المعنى قوله تعالى في حق من أنزلهم أخس المنازل وأبعدهم عن ساحة الشرف الإنسانية بمراحل، وأسكنهم في حضيض الجهال ومهوى الأرذال محجوبين عن شهود الحقيقة، مخذولين عن صراط سوى الطريقة، بعدما كانوا مكرمين من حيث استعدادهم بكرامة الآدمية، مشرفين بشرافة مسجودية الملائكة من جهة الفطرية:
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل
[المائدة:60].
فإنه صريح في أنهم جعلوا في جحودهم الحق، وإنهماكهم في الشهوات وطلب الرياسات، أنزل رتبة وأسفل دركة من القردة والخنازير وعبد الطاغوت - بحسب القوة العملية - وأعمى قلبا عن رؤية الحق، وأضل انحرافا عن الصراط المستقيم من الشيطان الرجيم - بحسب القوة النظرية -، فإن الحيوانات - وإن كانت أشرارا خسيسة دنية - والشياطين - وإن كانت خبيثة ضالة عن طريق الحق - لكن ليس لها استعداد الارتقاء إلى مقارنة الحق الأعلى، ومجاورة مقربيه وطبقات جنانه وملكوته، وأما هؤلاء فإنهم كانوا بحسب أصل الفطرة وميثاق عهد الربوبية مستعدين لسلوك سبيل الله، والحشر إلى جناب رحمته، والفوز بجنانه والوصل إلى رضوانه، وقد بطل استعدادهم النظري لرؤية الأشياء كما هي، بالطمس على عيونهم، وفسد اقتدارهم العملي العروجي بالمسخ، فصاروا مغلولي الأيدي ومقيدي الأرجل، كالقردة المغلولة، والخنازير المقيدة، حيث زيد فيها غل على غل، وقيد على قيد.
ولذا قال تعالى نظرا إلى زوال القوة الدراكة بالطمس
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون
[الأنفال:22] ونظرا إلى كلال القوة الحراكة بالمسخ:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179].
فإن قلت: دعوى عدم الاستعداد رأسا للارتقاء إلى عالم السماء في الحيوانات الصامتة وإن كان مسلما معلوما، لكن عدم استعداد ادراك المعارف في الشيطان غير معلوم، لأنه كان واعظا للملائكة معلما لهم.
قلت: هذا عند أهل الله أمر محقق ثابت، ولهم في ذلك شواهد كشفية ودلائل قرآنية:
منها: اعتراضه على الحق وتمرده عن سجدة آدم، فهذا دل على أن إدراكه من باب التخيلات والأوهام، غير بالغة إلى حد التعقل، وليس من شأنه العروج إلى سماء اليقينيات، وإنما غاية سيره (مسيره) إلى سوافل الظنون والأوهام، واستراق السمع من أهل التجرد والقدس والطهارة، وليس له إلا أن ينقل صورة المسألة لغرض النفس والهوى، منضما إليها وجوه من الخبائث الباطنية والدواعي النفسانية.
ومنها: قصور فهمه عن إدراك حقيقة الإنسان وفضيلة ذاته الأصلية - ان لم يصبها آفة - على سائر الأقران، باعتبار جامعيته للنشأتين، واستحقاقه لخلافة الله في العالمين.
ومنها: وقوعه في الغلط الفاحش والقياس المغالطي المبتني على الاشتباه بين مادة الشيء وصورته، حيث لم يتفطن بأن رتبة الإنسان ليست من جهة البنية العنصرية الأرضية، بل بحسب جوهر الروح، فكأنه لم يكن عارفا بوجود المجردات العقلية.
ومنها: فعلية جوهره وغلبة النارية على ذاته، وعدم العجز والانكسار والآفة البدنية فيه، فإن منشأ استحقاقية الإنسان للارتقاء إلى عالم القدس والرضوان، ورحمة الله في حقه من جهة غاية عجزه وافتقاره وانكساره، وتقلب ذاته من طور إلى طور، وانزعاج طبعه عن وحشة هذا العالم، وكثرة آفاته وأمراضه، وضعف طبيعته في أول النشأة، كما قال تعالى:
وخلق الإنسان ضعيفا
[النساء:28].
فكل من لم يكن أول الفطرة حاله هذا الحال، وكان له ضرب من الكمال الوهمي، مبتهجا بزينة ذاته الاستعلائة وصورته النارية الاشتعالية، فخورا بقهره وعلو جسميته الدخانية، فلا محالة لم يتوقع الكمال، ولم يكن له حال منتظر يمكن له الوصول إليه بالجواز عن مقامه الذي فيه، والسالك متى لم يمت عن نشأته التي هو فيها، لم يمكنه التجاوز إلى نشأة أخرى فوقها.
ومن نظر إلى حال الإنسان من أول تكونه إلى غاية نشوه - حيث كان أولا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنينا، ثم طفلا - تيقن أن بناء استكماله وبناء انتقاله إلى حالة أخرى، زواله عن الحالة الأولى، فما لم يخلع عن ذاته كسوة صورة سابقة، لم يتلبس بكسوة صورة لاحقة، ومتى لم يمت عن نشأة، لم يحي بحياة ثانية.
ومنها: أنه لو كان في ذاته إمكان الترقي إلى مشاهدة الحقائق الإلهية، والتفطن بالعلوم الربانية، لكان بالغا إلى شيء منها في المدد المتطاولة والألوف (الأيون) الجمة الغفيرة من الأحقاف والإعمار والأدوار والأكوار التي مضت عليه، مع كثرة الشواهد والآيات الدالة على حقيقة وجود الباري الكريم الجواد، وكيفية صفاته وآثاره، وحقيقة أسرار المبدء والمعاد، وانتفاء التالي يدل على انتفاء المقدم.
أما الملازمة فواضحة، وأما انتفاء التالي: فلأن أقل المراتب في معرفة المبدء من علم الآفاق، والإيمان بقدرة الباري، ووجوب عبوديته، وامتثال أمره ونهيه، وأدنى المراتب في معرفة المعاد، من علم الأنفس الإذعان بوجود النشأة الباقية للإنسان، وفضيلته على سائر المكونات، ومعلوم أن هذا القدر من المعرفة لم يكن حاصلا له ولو على وجه التقليد والظن الحاصلين لأكثر العوام من أهل الإسلام.
ومنها: قوله تعالى:
أستكبرت أم كنت من العالين
[ص:75] فإنه كاشف عن خسة ذاته، وقصور جوهره عن أن يكون من العالين، وهم سكان عالم التقديس وجواهر الملكوت العقلية، المرتفعون بحسب كمالهم العلمي عن سوافل عالم الغواشي المادية الموجبة للجهالة، فإن بناء العلم والإنكشاف على التجرد والخلاص عن اللواحق الغريبة، وتميز الخبيث عن الطيب، وبناء الجهالة على التلبس بالأغشية الظلمانية السفلية.
فمن لم يكن بحسب جوهره وذاته من العالين - أي من جنس الملائكة العلويين - فلا يصل إلى مقامهم - لا بالفعل ولا بالقوة -، فإن التعليم والتهذيب لا يظهران إلا ما هو كامن في جبلة الشخص وذاته.
فهذه وجوه دالة على كون الشيطان ممنوع الذات والجبلة عن الاهتداء بطريق الحق، والارتقاء إلى عالم الملكوت، مطرود الماهية عن الوصول إلى اقليم النور والنعيم، محترق الطبيعة بنار الحرمان والبعد في أسفل دركة الجحيم.
ومنها: إنه خالف إجماع الملائكة في سجود آدم، وهذا دال على غاية خباثة باطنه وسوء فطرته، حيث استبد برأيه، واستنكف عن الموافقة مع أهل الله وإخوان التجريد وأولياء الله.
ومنها: أنه خاطبه الله خطاب الإمتحان بجوهر ذاته، ليظهر به حجة الله عليه واستحقاقية اللعن والبعد وقال:
ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك
[الأعراف:12] فلو كان ذا بصيرة لقال: " منعني تقديرك وقضاؤك ومشيتك الأزلية " ، فلما كان أعمى بالعين التي ترى أحكام الله وتقديره وهويته، بصيرا بالعين التي ترى أنانيته، فقال: " أنا خير منه " أي: منعني خيريتي منه أن أسجد لمن هو أدنى.
ومنها: استدلاله في مقابلة النص على خيرية ذاته بقوله:
خلقتني من نار وخلقته من طين
[الأعراف:12] يعني: النار علوية نورانية لطيفة، والطين سفلي ظلماني كثيف، فهي خير منه، فأخطأ اللعين في الجواب، وفي الاستدلال، والقياس من وجوه:
وقد قررنا خطأه في الجواب.
وأما في القياس: فأحد الوجوه أنا لو سلمنا أن النار أفضل وأشرف وأعلى من الطين من حيث الظاهر والصورة، لكن من حيث الحقيقة والغاية الطين أفضل وأشرف، لأن من خواص الطين الطين الإنبات والنشو والنمو، ولهذا السر كان يعلق الروح به ليصير قابلا للترقي، والنار من خاصيها الإحراق والإفناء.
كه آدم راز ظلمت صد مدد شد
زنور إبليس ملعون ابد شد
وثانيها: أن في الطين لزوبة وامساكا، فإذا استفاد الروح منه بالتربية هذه الخاصية، يصير ممسكا للفيض الإلهي، إذ لم يكن ممسكا في عالم الأرواح، ولهذا السر كان آدم مسجودا للملائكة، وفي النار خاصية الإتلاف وهو ضد الإمساك.
وثالثها: إنه مركب من الماء والتراب، والماء مطية الحياة لقوله تعالى:
من المآء كل شيء حي
[الأنبياء:30] والتراب مطية النفس وإذا امتزجا تتولد النفس الحيوانية، وهي الروح الحيواني، وهي مطية الروح الإنسانية للمناسبة الروحية بينهما، وفي النار ضد هذا من الإهلاك والإفساد.
هذا مع أن شرف مسجودية آدم وفضيلته على ساجديه، لم يكن بمجرد خواصه الطينية التي هي جهة القبول والصلاحية، - وان تشرفت طينته بشرف التخمير من غير واسطة - لقوله تعالى:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص:75] وكقوله (صلى الله عليه وآله):
" خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا "
- وإنما كانت فضيلته عليهم لاختصاصه بنفخ الروح المشرف بالإضافة إلى الحضرة فيه من غير واسطة، كما قال تعالى:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29] ولاختصاصه بالتجلي فيه عند نفخ الروح، كما في قوله (صلى الله عليه وآله):
" إن الله خلق آدم فتجلى فيه "
، وقد مر أن الملعون خلط بين جهة المادة وجهة الصورة، وشرافة آدم بصفة الإنسانية وصورته الذاتية.
ولهذا السر - ما أمر الله الملائكة بالسجود بعد تسوية قالب آدم من الطين، بل أمرهم به بعد نفخ الروح فيه، كما قال تعالى:
إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص:71 - 72] وذلك لآن آدم بعد أن نفخ فيه الروح، صار مستعدا للتجلي لما حصل فيه من لطافة الروح ونورانيته التي يستحق بها للتجلي، ومن امساك الطين الذي يقبل الفيض الإلهي مسكة عند التجلي، فاستحق سجود الملائكة لأنه صار قلبه كعبة حقيقية.
تفهم إنشاء الله وتغتنم وتنتفع به، ولا تكونن كالشيطان أعمى القلب عن مطالعة هذه الحقائق، والمتكبر عن الإيمان بها فتخرج عن جنة هذه المعارف، وروضة هذه العواطف، وتخاطب بقوله تعالى:
فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين
[الأعراف:13].
ومنها: كفره، لقوله تعالى:
وكان من الكافرين
[البقرة:34] والكفر عين الجهل.
واختلف المفسرون والفقهاء في أن كفره أهو قبل الإباء عن السجدة أم بعد؟ وفيه قولان:
الأول: إنه كان إبليس عند اشتغاله بالعبادة منافقا كافرا، وفي هذا وجهان:
أحدهما: حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتاب " الملل والنحل " عن شارح الأناجيل الأربعة - وهي المذكورة في التوراة متفرقة عن شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود -: قال ابليس: " إني أسلم أن لي آلها هو خالقي وموجدي، وهو خالق الخلق، لكن لي على حكمة الله أسئلة سبعة:
أحدها: ما الحكمة في خلق الكافر، لا سيما وقد كان عالما بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا الألم؟
الثاني: ما الفائدة في التكليف، مع أنه لا يعود إليه نفع ولا ضر، وكل ما يعود على المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته، فلماذا كلفني السجود لآدم؟
الرابع: ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم لعنني وأوجب عقابي، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه، ولي أعظم الضرر؟
الخامس: لم مكنني من الدخول في الجنة ووسوسة آدم؟
السادس: لما فعل ذلك، فلم مكنني من إغوائهم وإضلالهم؟
السابع: لما استمهلته المدة الطويل في ذلك فلم أمهلني؟ ومعلوم أن العالم لو كان خاليا عن الشر لكان ذلك خيرا؟ ".
قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء: " يا إبليس، إنك ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي، فإني أنا الله لا إله ألا أنا، لا أسأل عما أفعل ".
واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق لم يجدوا عن هذه الشبه مخلصا من إسكات الجاحد المجادل البحاث إلا بهذا الجواب الإلهي، على أن لكل من هذه الشبهات جوابا برهانيا حقا مبتنيا على الأصول الصحيحة العرفانية والمقدمات الحقة اليقينية.
الوجه الثاني: قول أصحاب الموافاة، وهو أن الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم، والكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال، والقول بالاحباط باطل، فلم يبق إلا أن يقال أن هذا الفرض محال ، وشرط حصول الايمان في وقت أن لا يصدر الكفر عنه بعده، فإذا كانت الخاتمة على الكفر، علمنا أن الذي يصدر عنه أولا ما كان ايمانا، وعلى هذا شواهد أخرى طوينا ذكرها، لأنه يؤدي إلى التطويل، وفيما ذكرنا كفاية للمتأمل المهتدي سواء السبيل.
[36.68]
قرئ " ننكسه " من " التنكيس " و " ننكسه " من " الانكاس " وقرئ " أفلا تعقلون " بالتاء والياء.
وفي الآية إشارة إلى أن الانسان كلما أمعن في السن، نكس قواه البهيمية والسبعية، وأخذت البنية في الذبول والخلقة في النقصان، وشرعت الصفات والهيئات الباطنية في التأكد والرسوخ، وابتدأت أحوال الضمائر والبواطن في الانكشاف والظهور، وقد جاءت أشراط الساعة للقيامة الصغرى، وبرزت علامات السعادة والشقاوة لذوي البصائر العقلية، أفلا تعقلون أيها العاقلون.
أو ما تستحيون من استبطائكم هجوم الموت اقتداءا برعاع الغافلين الذين لا ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، فتأتيهم الأمراض نذيرا من الموت فلا ينزجرون، ويأتيهم الشيب رسولا منه فلا يعتبرون، فيا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون!.
أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون؟ أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون إنهم إليهم لا يرجعون؟ أم يحسبون أن الموتى الذين سافروا من عندهم فهم معدومون؟ كلا، إن كل لما جميع لدنيا محضرون، ولكن ما يأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، وذلك لأنا جعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون، فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
اشارة أخرى
لما ذكر في الآية السابقة نفي استطاعة الرجوع للأشقياء إلى الفطرة الأصلية التي كانت لهم بالطمس والمسخ، وإن كان أكثر الذين (الناس) ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم كانوا لغاية الحمق والجهالة والغرور يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويتمنون آخر الآمر ومنتهى العمر حين انكسار قواهم وقصور دواعيهم الجسمانية، وظهور أسباب المذلة والهوان، وأشراط ساعة الموت والحرمان، الرجوع إلى أول العمر، وحين أوان القابلية والإستعداد قبل إفناء الآلات، وصرفها في غير ما خلق الله لأجله وكلف به العباد، وتحسر وتأسف على تضييعها لغير طائل وصرفها من غير حاصل، قائلا:
نهاية اقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
وكثيرا ما بعض الكفار يتمنون الرجوع إلى حالة الصبوية - بل الترابية - عند ظهور أهوال القيامة وشدائد الساعة عليهم، كما في قوله تعالى:
ويقول الكافر يليتني كنت ترابا
[النبأ:40] فأشار إلى دفع هذا التمني، ونفي هذا الوسواس، وكشف فساد هذا التشهي الفاسد، واستقباح هذا التصوف البارد بعد الأربعين.
يعني: متى لم يتيسر لهم قبل انطماس عيونهم القلبية، وانمساخ صورتهم الباطنية، إدراك علم التوحيد، وملاحظة عالم المعاد، والسعي في طريق العبودية لإدراك شواهد الربوبية، فبعد زوال الاستعداد، وفساد أكثر القوى والآلات، وانتكاس الخلقة من أعلى درجة الاعتدال والاستواء إلى أدنى رتبة الإعوجاج والانحناء، وانقلاب نور الحواس من غاية الاشتعال والذكاء إلى غاية الخمود والإنطفاء، أنى يتصور لهم الشروع في طلب الاهتداء وسلوك سبيل الله بهذه القوى، فمن مضت عليه أدوار السنين، وعمره الله إلى أربعين أو خمسين من غاية أشده المعنوي، أخذت خلقته في الذبول والانحلال، وقواها في الانتكاس والإضمحلال.
وذكل لأن لكل أجل كتابا، ولكل مدة وفصل من فصول العمر خاصية في ظهور الآثار، فسن الطفولية لحصول أصل الخلفة وحدوث القوى، وسن الشباب لاستعمال القوى والأعضاء وصرفها في سبيل الله وطلب الكمال، وسن الكهولة لظهور آثار التحصيل والتثبت بالقول الثابت والتحقق بحقائق الإيمان، وسن الشيخوخة لإفاضة نور المعارف على المستعدين والقيام على مسند الإفادة والإرشاد، فالأول " قوة " ، والثاني " استعداد " ، والثالث " كمال " و " تمام " ، والرابع " فوق التمام ".
وهذه المراتب كما يتصور في السعادة، وهو صيروة الإنسان من جملة الملائكة، كذا يتصور في الشقاوة، وهو صيرورة الإنسان إما من جملة الشياطين - إن كان الغالب على نفسه الجربزة والمرك وطلب العلو والاستكبار -، أو من جملة أنواع البهائم والسباع - إن كان الغالب على نفسه طلب الشهوة والغضب والصفات المشعبة عن هاتين الصفتين - فيحشر على صورة حيوان غلبت على جوهر ذاته صفات ذلك الحيوان كما مر مرارا.
وعلى أي تقدير، إذا استحكم الباطن، وقويت النفس، وخرجت من حد القوة إلى حد الفعلية في أي صفة وجودية وصورة باطينة، توجهت النفس توجها فطريا إلى عالم الآخرة، وأعرضت عن استعمال القوى، فأخذت الخلقة في الانتكاس، والأعضاء في الإندراس شيئا فشيئا إلى أن يحل الأجل.
اشارة أخرى
لما كانت النفس في أول الخلقة ممنوة بتدبير البدن، وتحصيل مقدار المادة، لأن المادة الحاصلة بالتوليد من فضل خلقة الوالد، لم يكن أولا على مقدار لائق بحال الشخص المولود، فلا محالة وجب على النفس مما أودعه الله فيها وغرز في جبلتها، أن يشتغل أولا بإكمال المادة قبل الاشتغال بكمالها، لتوقف كمالها على استعمالها إياها، فاستكمل أولا صورتها الحسية، واشتعل أنوار حواسها الظاهرة، وبلغ أشدها الصوري، وهو وقت نكاحها الجسماني.
ألا ترى أن الطبيعة من وقت الطفولية إلى هذا الحد لا تفرغ عن تحصيل المادة وإيراد ما يزداد في الإقطار زائدا على البدل المتحلل من البدن، لضعف الأعضاء ونقصان القوى، وشدة الحاجة إلى النمو والمتطلب، فانغمست عند ذلك في البدن، مستعملة للطبيعة في ذلك، فلم تنفتح بصيرتها، ولم يشتعل نور فطرتها، ولم يتبين رشدها إلا وقت بلوغ أشدها المعنوي - وهو سن الأربعين - كما أشير إليه بقوله تعالى:
حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي
[الأحقاف:15].
وذلك أوان نكاحها العقلي مع أبكار أفكار المعارف الأخروية، التي لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان، وزمان استحقاقها لدفع أموالها العلمية الموروثة من الآباء العقلية والأمهات النفسية، المشار إليها بقوله تعالى:
حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم
[النساء:6].
فلما قربت الآلات من حد كمالها، ووصلت إلى ما يصلح لاستعمالها في تصرفاتها، وانتقص الاحتياج إلى ما يزيد في أقطارها، فتفرغت إلى تحصيل كمالها، فانفتحت بصيرة عقلها، فظهرت أنوار فطرتها واستعدادها، وتنبهت عن نومها في مهد بدنها، وتيقظت عن سنة غفلتها، وتفطنت بقدس جوهرها، فطلبت مركزها وغايتها لأمرين، صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال، وفراغها عن تكميل البدن بالإقبال لقلة الإشتغال.
لكنها ما دام سن النمو باقية، وزيادة الآلات في الكمية والقوة والشدة ممكنة، ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية، وما تجردت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب الأخروية للاشتغال المذكور - وإن قل -، وذلك إلى منتهى الثلاثين من العمر، وهو أول سن وقوف القوى - كما تبين في علم الطب -.
فلما جاوزتها وأخذت في سن الوقوف، أقبلت - إن كانت في السعداء - إلى عالمها، وأشرقت أنوار فطرتها، فاشتدت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليه، ورسخت فيها الهيئات العلمية والكمالات التجردية الشهودية.
وإن كانت من الأشقياء اشتدت فيها نيران الشهوات، ورسخت فيها اليهئات الجهلية والسبعية والبهيمية، وتوجهت ذاتها بحسب ما كسبت يديها إلى مهوى السفليات، وكلما ضعفت آلاتها تضاعفت شهوتها وحرصها في طلب اللذات، وكلما نقصت جسميتها وانكسرت قواها قويت نفسانيتها واشتعلت نار قلبها واحترقت فتيلة طبعها، وكلما قصر عمرها طال ألمها، وكلما شاب بدنها شبت هوى نفسها كما ورد في الحديث:
" يشيب ابن آدم، ويشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل ".
فقوله: { ومن نعمره ننكسه في الخلق } إشعار على أن من لم يتوجه إلى طلب الآخرة، ولم يسلك صراط الله العزيز الحميد، بصرف الآلات حين أشدها الصوري في طلب الحقائق والكمالات، بل سلك سبيل الطاغوت في الانهماك إلى اللذات وصرفها في طلب الهوى والشهوات، فإذا تجاوز عمره حد الأربعين وأخذ خلقتا بدنه وأعضائه في الانتكاس والذبول، وشرعت قواه في النقصان، حان وقت ظهور النتائج عن مكامن غيب القلب، وآن زمان استضاءة مشكاة القلب بنور معرفة الله من مصباح الروح، إذ توقد فتيلة النفس من شرارة نار الهوى الكامنة في الطبيعة النطفية قبل ذلك بالرطوبات الغريزية، واحتطب المواد الشهوية، وإنما خرجت من القوى إلى الفعل بكثرة النفاخات الشهوية والغضبية، فإن لم يترسخ في القلب حب المعرفة وطلب الآخرة ورفض البدن وترك اللذة والزهد في الدنيا، فلا يتصور بعد هذا استئناف طريق الآخرة، وابتداء نشوء المعرفة عند بطلان الحواس وفقد الآلات، وقد قيل: " من فقد حسا فقد علما " ، والعود إلى الفطرة الأصلية بعد عدمها، وقد قيل: " المعدوم لا يعاد ".
وقوله: " أفلا تعقلون ": يحتمل أن يكون معناه: أفلا تتدبرون في أن من قدر على كسر القوى الجسمانية للإنسان، وإضعاف بنيته وأعضائه بالذبول والتحليل مع بقاء نفسه وذاته، وتأكد صفاتها وأخلاقها، وزيادة هيئاتها النفسانية ودواعيها الباطنية، فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية وبعثها، فإن تلك الأمور من علامات وقوع الساعة ومقدماتها وأشراطها، - كما يعرفه أهل الكشف واليقين -، إن في هذا لبلاغا لقوم عالمين.
[36.69]
وهي أن جماعة من المشركين الجاهلين بأساليب كل طبقة من الكلام، وبأحوال كل طائفة من اللئام والكرام، العاطلين عن التمييز بين ملفقات الهوى والشيطان، وبين ما أفاضه الله على أرواح أحبائه وأيدهم بنور منه، وكتب على ألواح قلوبهم تعلم الحق من العلم والإيمان، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، لقوله:
علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم
[العلق:4 - 5] كانوا يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله): " إنه شاعر " - وقيل: إن القائل " عقبة بن أبي معيط " - فقال سبحانه ردا عليهم، وتسفيها لعقولهم: { وما علمناه الشعر } أي: ليس ما فاض على قلبه بإذن الله من قبيل القياسات الشعرية، ولا ما أجرى على لسانه أشعارا موزونة، وأين المعاني التي يتخيلها الشعراء ويتقولها الأدباء عن حقائق الإيمان؟ وأين عبارات أهل النظم وأساليبهم عن بدائع ألفاظ القرآن؟- وما ينبغي له - أي: لا يليق به الشعر، لأن مأخذ معارفه ومنبع مكاشفاته مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو، ومخزن معلوماته خزائن معرفة الله التي لا تنزل إلا بقدر معلوم بواسطة بعث ملائكة الله المقدسين عن تصرفان الوهم، والهوى، ومأخذ المعاني الشعرية هو مخزونات الوهم والخيال مما تستنبطها النفس منها بوسيلة تلفيقات المتخيلة ودعابات الوهم، فأين أحدهما من الآخر؟
وفي قوله: { وما ينبغي له } اشعار بأن شأنه أجل ومرتبته أعلى من أن يتصور منه ذلك، لا أنه لا يتسهل له ذلك.
وقيل معناه: ما يتسهل له الشعر وما كان يتزين له بيت شعر، حتى أنه إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا، كما روي عن الحسن
" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتمثل بهذا البيت: " كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا " فقال أبو بكر: " يا رسول الله إنما قال الشاعر:
* " كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا " *
أشهد أنك رسول الله، وما علمك الشعر وما ينبغي لك ".
" وعن عائشة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتمثل ببيت أخي بني قيس:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول: " ويأتيك من لم تزود بالأخبار " فيقول أبو بكر: " ليس هكذا يا رسول الله " فيقول: " إني لست بشاعر وما ينبغي لي ".
وقال صاحب الكشاف: " ما ينبغي له وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط ولا يحسنه، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض ".
وعن الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له، وأما قوله: (صلى الله عليه وآله):
أنا النبي لا كذب
أنا بن عبد المطلب
وقوله (صلى الله عليه وآله):
هل أنت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، وقال آخرون: إنما هو اتفاق منه وليس بقصد إلى قول الشعر، وما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق - من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه - أن جاء موزونا، كما يتفق في كثير من الإنشاءات والخطب والرسائل للفصحاء بل كثيرا ما يتفق في محاورات الناس عبارات موزونة وألفاظ منظومة من غير قصد ولا خطور بالبال - لا من المتكلم ولا من السامع - إنها شعر.
وذكر صاحب الكشاف أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعرا.
كشف حال وتزييف مقال
هذه كلها تكلفات مستغنى عنها، وتمحلات لا تعويل عليها، مبناه على الغفلة عن هذا المرام، وعدم تحصيل الغرض المسوق إليه الكلام، وعدم التفطن بالجهة التي بها يشين صنعة الشعر ويذم الشاعر، وذلك لأن المذموم من الشعر ليس الوزن والتقفية، ولا معانيه الحقة التي فيها تأثير في النفس بالإنذار والموعظة، بل لعمري لحري أن تعد سليقة الوزن من عداد الفضيلة لا الرذيلة، وظلا من ظلال الوحدة الجمعية كالعدالة، ولائق بالمعاني الحقة أن تعد من الحكمة لا الوسوسة.
بل المذموم من الشعر التخييلات الكاذبة الباعثة على الرغبة والرهبة والمبالغات المهيجة للنفوس على الإقدام والإحجام من غير محافظة على الصدق والحقيقة، وأما المكالمات المشتملة على المقاصد الصحيحة الثابتة في ألفاظ منظومة من غير مبالغة تزيد على ما هي عليها، ولا تمزيج لها بالتخيلات الباطلة فليست بضائرة.
وكان الشعر عند الحكماء الأوائل مجرد كلام تخييلي مفيد للتخيل المحض من غير اشتراط وزن ولا قافية، وبهذا المعنى كان " هوميروس " معدودا من الشعراء، وكذا في اصطلاح المنطقيين إحدى الصناعات الخمسة بلا شرط الوزن والتقفية.
نعم شأن النبي أجل من أن يلتفت ويتوجه إلى تحصيل الوزن والقافية كما أنه أجل من أن يلتفت إلى إزالة البيت عن نظمه الذي كان له، وشيء من الروايتين المنقولتين ما دل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان متعمدا في تغيير النظم، بل على أنه جرى على لسانه غير النحو الذي قاله الشاعر، فإذا اعترض عليه بذلك قال:
" إني لست بشاعر وما ينبغي لي "
، أي: ليس لي قصد إلى صورة هذا المنظوم وسائر المنظومات، بل إلى معناه إذا كان حقا، وما ينبغي لي أن أكون شاعرا، أي منشيا للمعاني المتخيلة الشعرية، ولا متعمدا إلى ملاحظة الأوزان والبحور والقوافي، لجلالة شأني ورفعة مكاني عنه، لا أنه حرم الله عليه الشعر وجعله عاجزا عن الإتيان به، بحيث لو أراد لم يتأت له - كما ذكره الخليل وغيره - حاشاه عن ذلك.
كيف والذوق السليم يحكم بأن القصور عن الإقتدار على إنشاء الشعر وانشاده نقص في الفطرة، فيستحيل على من كان في حاق الاعتدال الإنساني، وبحبوحة العدالة النفسانية من غير انحراف واعوجاج أصلا.
وأما علم الخط والسواد، فيحتاج إلى تعمل واكتساب وتكلف خارج عما فطر الله النفس عليه، وكذا سائر الصناعات العملية الغير الكمالية، المفتقرة إلى معاونة الآلات الخارجية، وهذه بخلاف العلوم الحقيقية والأخلاق الكريمة والنبوة والحكمة، فإنها مع كونها كمالات نفسانية، ليست مما يفتقر تحققها إلى التعملات والاكتسابات كل الإفتقار، بل قد يتحقق بمحض الموهبة الربانية، لأنها ليست أمورا جسمانية متعلقة بالحركات والتعملات على سبيل الوجوب والإضطرار.
وبالجملة - الشعر يطلق على معنيين:
أحدهما: الكلام المنظوم المعتبر فيه أحد الأوزان العروضية، وترجيع القوافي، وهو قد يشتمل على الحكم والمواعظ، وقد يشتمل على المجازفات الخيالية.
وثانيها: الكلام التخييلي المؤثر في النفس بسطا وقبضا، الموقع لها ترغيبا وتنفيرا، وإقداما وإحجاما، كما في قولك: " الخمر ياقوتة سيالة " حيث يفيد النفس ترغيبا كاملا في الإقدام على شربها مع ظهور كذبه، وقولك: " العسل مرة مقيئة " ينفر الطبع عن تناوله، مع العلم بأنه كذب، تنفرا موجبا للإحجام عنه، فالمذموم هو الثاني لا الأول مطلقا، بل القسم الثاني منه.
وعلى هذا يحمل ما ورد في الأخبار، من النهي عن انشاد الشعر في المساجد وفي الصيام، لا ما كان في مدح أهل بيت النبي (عليه وعليهم السلام)، وهو منشأ تهجين الشعراء في قوله تعالى:
والشعرآء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون
[الشعراء:224 - 226] لأن الغالب على أكثرهم إنشاء الجزافيات المضلة والمخيلات الوهمية الكاذبة، ولهذا استثنى عن ذلك بقوله:
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا
[الشعراء:227].
والشعراء المؤمنون الذين يكثرون ذكر الله وأحوال الآخرة والملكوت، وغالب أشعارهم في توحيد الله والثناء عليه بما هو أهله ومستحقه، والحكمة والموعظة الحسنة، والمدح لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأولياء أهل بيته وأمته الصالحين، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب، ولا يمزجون بشائنة وعيب، وكان هجاؤهم على سبيل الإنتصار ممن يهجوهم، كما قال الله تعالى :
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم
[النساء:148].
وحق القول (الكلام) فيه: أن الشعر باب من الكلام الحسن، فحسنه كحسن الكلام وقبحه كقبح الكلام ولقد كثر الله من الشعراء الذين كانوا من الفضلاء الممدوحين والحكماء المقبولين بل الأولياء المرضيين.
والأول كحسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك، من الذين كانوا ينافحون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكافحون هجاة قريش.
والثاني: كابن فارض، والشيخين: أبي علي وأبي نصر - ثم الشيخين - شهاب الدين السهروردي، ومحي الدين بن عربي، ومن شعراء العجم: النسائي والعطار ومولوي وسعدي ونظرائهم.
وأما الثالث: فأمام الكل في الكل أمير المؤمنين علي وأولاده الأطيبين سلام الله عليهم أجمعين.
" وعن كعب بن مالك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له: " اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل " وكان يقول (صلى الله عليه وآله) لحسان بن ثابت: " قل وروح القدس معك " ".
ولما نفى الله تعالى أن يكون القرآن من جنس الشعر بالمعنى الذي مر ذكره، قال: { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } يعني: ما هو إلا ذكر من الله يوعظ به الجن والإنس، كما قال:
إن هو إلا ذكر للعالمين
[يوسف:104] وما هو إلا كتاب سماوي يقرء في المعابد، ويتلى في المساجد، ويتبرك بتلاوته، وينال الفوز بدراسته، فيه شفاء للصدور، ونجاة للنفوس، ودواء للأسقام، وهداية للأنام، ومزيل للأوهام، ومصفاة للإفهام، ومصيدة للطيور السماوية، ومطردة للأغوال المضلة، ومرقاة إلى السموات العلى ومنازل الروحانيين هو حبل من الله متين إلى أعلى شواهق عليين، كتاب مرقوم يشهدة المقربون، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين وأوهام الموسوسين، وسلسلة من سلاسل المقيدين في مجالس أهل سجين، وهو كتاب فيه دواوين الفجار الضالين المكذبين.
اشارة أخرى
في قوله تعالى: { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } ، إشارة إلى قسمين من الأقسام الخمسة المشهورة من الكلام، وهما أشرف الصناعات المنطقية وخير الطرق العلمية، يعني: الحكمة والموعظة الحسنة فان الذكر يعني به الخطابة المفيدة للظن، والقرآن يعني به البرهان المفيد لليقين.
وذلك لأن أحد قسمي البرهان - وهو الذي يعطي اللم - ما كان المفيد للتصديق، وهو الوسط في القياس علة لثبوت الحكم في الخارج، أي اتصاف الموضوع بصفة كاتصاف الإنسان بالوجود، كما أنه علة للعلم به وثبوته في النفس، فالمبرهن ها هنا من لاحظ ماهية العلة المعطية لوجود الشيء وجعلها مقدمة للوصول إلى المطلوب.
هذا شأن الحكماء في اكتسابهم العلوم الإنفعالية الإرتسامية الذهنية، وأما العلوم الشهودية الاشراقية كما هو شأن الأنبياء، فهي إنما تحصل لهم بمشاهدة المبدء الفعال، وملاحظة العين الجمعي والعقل البسيط الذي هو فعال الصور الفعلية الموجودة، وخلاق العلوم التفصيلية الاشراقية، وهو مفتاح خزائن الأشياء، المشار إليها بقوله:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه
[الحجر:21]، وحقيقة القرآن عند أهل الله بحسب المعنى هو هذا العقل البسيط، وهو مفتاح المفاتيح الغيبية المشار إليها في قوله:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام:59].
فقد ثبت أن القرآن من جهة المعنى المعقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أشرف ضروب البرهان، وأكسير سعادة الإنسان، وأما الأقسام الثلاثة الأخيرة - وهي الجدل والشعر والمغالطة -، فلا يفيد شيء منها اليقين ولا الظن إلا في قسم من الجدل، وهو الذي يؤول إما إلى البرهان أو الخطابة، ولهذا أضافه الله إليهما في قوله:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن
[النحل:125] وهي المجادلة التي ترجع إلى أحدهما مع عموم اعتراف الخلائق فيه المعتبر في مطلقه.
وأما ها هنا لم يعدها من أقسام كتاب الله الذي فيه جوامع الكلم وأصول الحكم، لما عرفت من أن الفائدة فيها من حيث هي مجادلة ليست تكميل النفوس بانفرادها مع قطع النظر عن الهيئة المدنية الجمعية، وإنما المقصود الأصلي من الأنظار العلمية، هو تكميل جواهر النفوس بحسب ذواتها، وفيما بينها وبين الله، مع قطع النظر عن النسب والأوضاع المنقطعة آخر الأمر، لقوله تعالى:
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون
[المؤمنون:101] وفي الحديث:
" كل نسب منقطع إلا نسبي ".
وأما الشعر : فلما عرفت من أن مداره على الأكاذيب، ومن ثمة قيل: " أحسن الشعر أكذبه ".
وأما المغالطة: فالفائدة فيها تغليط الغير أو الإحتراز عن تغليطه، ومرتبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينافي الأول ويتعاظم عن الثاني، فيستحيل أن يكون النازل عليه شعرا أو مغالطة، فبقي أن يكون النازل من الأقسام الثلاثة الباقية، كما دل عليه قوله:
ادع إلى سبيل ربك
[النحل:125] - الآية -.
وأما الإنحصار المستفاد من هذه الآية في الآيتين، فلما عرفت من رجوع الجدل بحسب الذات إلى أحدهما، فلا منافاة بين الأثنين، والدليل على أن الجدل من حيث هو جدل ليس مما له دخل في حصول الهداية العلمية وتكميل النفوس الآدمية، بل ليس الغرض فيها شيء إلا غلبة الخصم والظفر على العدو، وهو يشبه الحرب " والحرب خدعة " ، وليس صناعة برأسه ولا علما ولا أدبا، وينبهك عليه مشاهدة ما يعرض لأهله والمشتغلين به، لا على وجه الضرورة، من الحيرة والدهشة والشكوك والظنون والعداوة والبغضاء بينهم مثل ما يعرض لأهل صناعة الجدل، فشكك الماضي منهم الآتي، وطعن اللاحق منهم السابق، كقوله تعالى:
كلما دخلت أمة لعنت أختها
[الأعراف:38].
والعلة الموجبة لذلك أمور شتى، أعظمها أنهم ربما يكونون مقلدين في أصول يجادلون فيها من المذاهب فينظرون في الفروع، ومن يكون مقلدا في الأصل كيف يمكنه أن يكون محققا في الفرع؟ ومن يكون ذاهبا إلى الأصل بالتقليد لقائد يقوده، كمن يقود أعمى في ليل مظلم، متى يكون ناظرا إلى الفرع بعين البصيرة المستضيئة بنور الله؟.
وخصلة أخرى: أن أكثرهم ربما جادل فينصر المذاهب لا على سبيل الورع والتدين، ولكن على سبيل التعصب والغرض النفساني، وحب العشيرة والقوم، فيعمى عن الحق ويضل عن الصواب.
واعلم أنه ليس من طائفة تتعاطى العلم والأدب والكلام شر على العلماء، ولا أضر على الأنبياء، ولا أشد عداوة لأهل الدين، ولا أفسد للعقول السليمة للمسلمين، من كلام هؤلاء المجادلة وخصوماتهم في الآراء والمذاهب.
وذلك إن كانوا في زمان الأنبياء فهم الذين يطالبونهم بالمعجزات ويعارضونهم بالخصومات، مثل ما قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
[الإسراء:90] الآية، وقالوا لنوح:
وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي
[هود:27] وهم الذين كانوا إذا مروا بالمؤمنين يتغامزون، وهم الذين أخبر عنهم في هذه السورة بقوله:
ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون
[يس:30] وبقوله:
وإذا قيل لهم آمنوا كمآ آمن الناس قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء
[البقرة:13] وفي ذلك آيات كثيرة من هذا الباب، وقال الله تعالى في ذمهم وتوبيخهم:
ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون
[الزخرف:58] فهذه حال من كان منهم في زمان الأنبياء، وأما إذا كانوا في غير زمانهم، فهم الذين يجادلون أهل الدين والورع بالشبهات، وينبذون كتب الأنبياء وراء ظهورهم، يفرغون إلى المذاهب والآراء بعقولهم الناقصة وفطانتهم البتراء، ويضعون لمذاهبهم قياسات تناقضية وأحتجاجات مموهة، ويعارضون عقولا سليمة من الأحداث والعامة فيغيرون فطرهم الأصلية، ويضلونهم عن سنن الحق وسواء السبيل ويحرفون الكم عن مواضعه ويميلون طبائع أهل الديانات النبوية عن موضوعات الشرائع الناسوسية وإنك تجد فيهم من له جودة عبارة فصاحة بيان، وسحر كلام ما يقدر أن يصور بالوصف البليغ الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق وهو مع ذلك جاهل القلب ميت الروح عن فهم حقائق الأشياء، بعيد الذهن عن درك المعارف، كما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه كان يقول:
" أخوف ما أخاف على أمتي منافق القلب عليم اللسان، غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحة بيانه، ويضلهم بجهله وقلة معرفته ".
وتجد فيهم من يجادل ويحتج ويناظر، وكلامه ينقض بعضه بعضا، ولا يتفطن ولا يحس بذلك، فإذا تنبه عليه لم يشعر به، وربما يصلح فاسده بما هو أفسد وأسخف وأسقط من الأول.
وتجد فيهم الرجل العاقل (الغافل) المحصل، الركين في أشياء كثيرة من أمور الدنيا وزينة أهلها، وفي علوم جزئية مثل الطب والبيطرة والنجوم والنحو واللغة وغيرها، فإذا فتشت اعتقاده فيما هو أهل وأولى من أمور دينه وأحوال مذهبه، وجدت رأيه واعتقاده في تلك الأمور، أسخف وأقبح من رأي كثير من الجهال والصبيان، والعلة في ذلك أسباب شتى:
منها: شدة تعصبه فيما يعتقده تقليدا وافتخارا من غير بصيرة، وأخرى: إعجابه بنفسه في اعتقاده، وأخرى: اعتقاده بأصول خفي عليه خطأه فيها، وهي ظاهرة الشناعة في فروعها، فهو يلتزم تلك الشناعات في الفروع مخافة أن ينقض عليه الأصول، ويطلب لها وجوه المراوغة من إلزام الحجة تارة بالشغب وتارة بالتمويه وتارة بالمراوغة، فيروغ كالثعلب عن الجواب والإقرار بالحق، ويأنف أن يقول: " لا أدري " و " الله ورسوله أعلم " اقتداء بأدب الله كما قال:
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله
[الشورى:10] فقال:
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم
[النساء:83] وقال:
إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون
[آل عمران:55] وآيات كثيرة في مثل هذا المعنى، ولكن من هؤلاء من يحتج ويقول: معنى " الرجوع إلى الله " أي: إلى ثوابه.
[36.70]
قرئ بالتاء والياء كلاهما على صيغة الأفعال، فعلى الأول يكون المنذر هو الرسول، وعلى الثاني يكون المنذر إما الله بالقرآن، أو القرآن نفسه، وقرئ: ولتنذر ولينذر من " نذر به " إذا علمه ".
لما حقق الله ماهية ما أنزل الله على رسوله، بأن حصره في قسمين هما أشرف أقسام الكلام، لأن التقسيم باب من التعريب - وهو ضم قيود متخالفة إلى المقسم ليحصل بانضمام كل قيد إليه ماهية قسم منه وحده -، أراد أن يبين غاية المنزل، إذ الحقائق قد تعرف بغاياتها أيضا كما تعرف بقيودها وأجزائها، فبين الفائدة فيه فذكر أن الفائدة فيه أمران: إنذار المؤمنين، وإيجاب كلمة العذاب على المنافقين.
مكاشفة
تحقيق الآية يستدعي إشارات:
الأولى في معنى " الحي " هاهنا:
إن " الحياة " حياتان: حياة الجسد وحياة النفس، أما حياة الجسد: فهي " النفس " بعينها، لأن بالنفس يتحرك ويحس وينمو ويتغذى، وأما حياة النفس فهي قوة نورية بها تهتدي النفس إدراك المعارف الحقة الإلهية، التي توجب بقاءها أبدا سرما مخلدا.
وتحقيق ذلك، أن ماهية الإنسان لما كانت مجموعة من بينه جسمانية ونفس روحانية ، وهما جوهران متضادان في الأحوال الذاتية، متبائنان في الصفات الأصلية، مشتركان في الأفعال العارضة والآثار الزائدة، فصارت حياة كل منهما شيئا آخر، وإحدى الحياتين - وهي الدنيوية - لا تحتمل البقاء والدوام، لأن الحس والحركة مثاران (منشآن) للتغير والدثور، لأن قوامها بالتجدد والإنفعال والتأثر والحركة، وأما الحياة الأخروية فهي باقية دائمة، لأن العقل والإبداع اللذين فيها بإزاء الحس والحركة في الحياة الحيوانية لا يحتملان العدم والإنقطاع - كما تقرر في مقامه -.
ولكل من الحياتين قوة واستعداد وكمال، فالقوة في الحياة الحسية كما للمني، والاستعداد فيها كما للجنين ما دام كونه في مضيق الرحم، والكمال كما للمولود، وأما القوة في الحياة الملكوتية فكما لكل نفس إنسانية في أوائل درجتها ومبدء فطرتها التي فطر الله الناس عليها قبل أن يتغير أو ينحرف، وأما الاستعداد فكما لأرواح أهل الإيمان والتقوى ما داموا في مضيق رحم الدنيا ومشيمة الأبدان قبل خروجهم من حفرة القبور إلى سعة عالم الآخرة والنشور، والجنة التي عرضها السموات والأرض، وأما الكمال فكما لأهل المعرفة عند قيام الساعة عليهم - سواء قامت على غيرهم أم لا -.
قال الجنيد - قدس سره - في هذه الآية: " الحي من تكون حياته بحياة خالقه، لا من تكون حياته ببقاء هيكله، ومن يكون بقاؤه ببقاء نفسه فإنه ميت وقت حياته، ومن كانت حياته بربه كانت حياته عند وفاته، لأنه يصل بذلك إلى رتبة الحياة الأصلية ".
انتهى قوله.
الاشارة الثانية
في أن لكل من هاتين الحياتين افتقارا - في الخروج من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال - إلى أغذية وأدوية معينة.
أما أغذية الحيوانات الدنيوية وأدويتها فمعلومة لكل أحد، وقد تقع الحاجة في معرفة بعض الأدوية وتمييزها، والفرق بين ضارها ونافعها، وترياقها النافع وسمها الناقع إلى الأطباء والبيطارين.
وأما أغذية الأرواح الأخروية وأدويتها، فأغذيتها المعارف القرآنية والعلوم الربانية، وأدويتها النافعة المواعظ الخطابية والآداب الدينية والأعمال الشرعية. والمهلكات هي الجهل بالمعارف الإيمانية واكتساب ذمائم الأخلاق، والأطباء العارفون بمنافع الأغذية والأدوية الروحانية، ومضار السموم القاتلة المهلكة الشيطانية، هم الأنبياء، ثم الأولياء، والعلماء الراسخون في العلم.
الاشارة الثالثة
لما ثبت أن الإنسان جملة مجموعة، فلا جرم صارت أفعال الخلق ما داموا في الدنيا متبائنة متضادة، فصار كل أحد من حيث بدنه الجسماني الأرضي مريدا للبقاء في الدنيا متمنيا للخلود فيها مخلدا في الأرض، ومن أجل نفسه الروحانية طالبا للذات الآخرة متمنيا لحصول المعارف، وهكذا أكثر أمورهم متبائنة متضادة، كالعلم والجهل، والجود والبخل، والنفع والضر، والخير والشر، وما شاكلها من الأخلاق والأفعال والأقاويل المتضادات والآراء المتناقضات.
والاختلافات الواقعة في المذاهب والآراء، كلها منشعبة من هاتين الجهتين في الإنسان، وقل من الناس من يتجرد فيه احداهما عن الأخرى، بحيث لا يشوبها أصلا.
فإن الصفات المختصة بالجسد المجرد، هو أنه جوهر ظلماني جسماني مركب، وطبائع ممتزجة مفسد مستحيل، راجع إلى العناصر بعد انحلاله وترك استعمال النفس إياه، حتى أن حياته الحسية نور من أنوار النفس وقعت عليه فيحيا به البدن، إلا أن هذه الحياة مركب الروح الإلهي الشريف الذي هو نور من أنوار الله المعنوية، وشعلة ملكوتية حاصلة في فتيلة النور الحسي والحياة الحيوانية، بسبب النفخ الإلهي بوساطة نافخ هو ملك مقدس اسمه " إسرافيل " ، وشأنه تصوير الصور العقلية بإذن الله، وإنشاء الحياة الثانية المخلدة بإذن رب الصور المجردة.
وأما الصفات المختصة بالنفس، فهي إنها جوهر روحانية سماوية نورانية حية بالذات بالحياة الأولوية فعلا، وبالحياة الأخروية قوة، علامة بالقوة، قابلة للتقديس، فعالة في الأجسام بالآلة ومستعملة للآلات، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة لها ومفارقة إياها وراجعة إلى عنصرها ومعدنها ومبدئها ومعادها كما كانت بديا، إما بربح وغبطة سرور، أو بندامة وخسران وحسرة، أما مشرقة ناضرة، إلى ربها ناظرة، أو مظلمة مكدرة منكوسة معلقة معذبة لقوله تعالى:
كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
[الأعراف:29 - 30] وقوله:
كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين
[الأنبياء:104] وقال سبحانه:
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون
[المؤمنون:115].
وكفى بهذا أيها الأخ المسكين زجرا ووعيدا وتوبيخا وتهديدا، فتذكر الموت ومفارقة الروح إن كنت من أهل الذكر والإنذار، متنبها من نوم الغفلة، ومنبعثا من قبر الجهالة حيا بروح المعرفة، وأعيذك أن تكون من الذين ذمهم الله بقوله:
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179].
ولما تبين أن أكثر أمور الإنسان مثنوية متضادة، من جهة أنه جملة مجموعة من جوهرين متبائنين حصلا من اقليمين، صار لكل منهما حياة يتوقف بقاؤها على أغذية وأشربة مخصوصة، ولكل منهما قنية، وصارت القنية نوعين اثنين - جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين - وإنما معدن العلم والدين هو الذكر الحكيم والقرآن المبين، ولهذا قال: { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين * لينذر من كان حيا } [يس:69-70] أي بالحياة الروحانية الأخروية.
وكما أن بالمال يتمكن الإنسان من تناول اللذات - من الأكل والشرب في الحياة الدنيا - فهكذا بقوة العلم واليقين يصل إلى الأغذية والإشربة الروحانية، وبالعلم يضيء النفوس ويشرق ويكمل ويصح، كما أن بالأكل والشرب ينمى الجسد ويزيد ويسمن.
وما ورد في الباب من الأحاديث والأخبار كثيرة:
منها: ما رواه أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني عن سليم بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" منهومان لا يشبعان، طالب دنيا وطالب علم "
وفي رواية أخرى:
" منهوم العلم ومنهوم المال ".
ومنها ما رواه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: روحوا أنفسكم ببديع الحكمة، فإنها تكل كما تكل الأبدان.
وقال بعض الحكماء: أليس الرجل إذا منع عنه الطعام والشراب يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلوب، إذا منعت عن الحكمة والعلم ثلاثة أيام تموت.
ولما كان هذا هكذا صارت المجالس اثنين، مجلس الأكل والشرب واللهو واللعب، ولذات جسمانية من لحوم الحيوان ونبات الأرض، لصلاح الجسد وحياته الفانية، وزيادة لذاتها وشهوتها، ومجلس للعلم والحكمة وسماع روحاني، فيها قوة للنفوس، وقرة للأعين، ولذة للأرواح التي لا تبيد جواهرها، ولا تنقطع حياتها وسرورها ولذتها وشهوتها في الدار الآخرة، كما في قوله تعالى:
فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون
[الزخرف:71].
الاشارة الرابعة
الكفر، هو الاحتجاب، والكافرون هم المحجوبون عن الله تعالى، لقوله تعالى:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين:15] وسبب كفرهم وحجابهم أمران: إما غلبة حب الدنيا واستيلاء القوى البدنية الحسية، وإما غلبة الهوى واستيلاء القوى النفسانية الشيطانية وانحرافها وضلالها عن الهدى.
فالكفار هم أهل الإغترار، فمنهم من غرتهم الحياة الدنيا ومنهم من غرهم بالله الغرور.
أما الذين غرتهم الحياة الدنيا، فهم أهل الحرص والشهوة، فلغاية ميلهم إلى اللذات العاجلة وحرصهم إلى اقتناء المال واكتساب الشهوات، صاروا محجوبين عن فهم القرآن ومعانيه، دون ألفاظه ومبانيه، وعن إدراك أمور الآخرة وأحوال المبدء والمعاد، والعلم بالمفازات والربوبيات، فانكبوا عن الطريق وحرموا عن الجدوى، جعلوا أصابعهم في آذانهم، واشتغشوا ثيابهم، نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
وأما الذين غرهم بالله الغرور - أي الهوى والشيطان والقياس الفاسد - فهم الذين حادوا عن الطريق، وانحرفوا عن الحق بواسطة مرض قلوبهم وانحراف طبائعهم عن الصراط المستقيم، واعوجاج نفوسهم عن درك المعارف بالبراهين النيرة والآيات الربانية، وإنما سبب انحرافهم عن الحق وحيدهم عن الصراط أحد الأمرين: إما تعصب الآباء وتقليد الأسلاف، وإما الاستبداد بالرأي الفاسد والفكر الكاسد، وكل ذلك يوجب العمى في القلب.
وهذا القسم من الكفار هم " المنافقون " ، وهم من أهل القهر الإلهي، لا ينجع فيهم الإنذار ولا خلاص لأحدهم من النار.
والقرآن مع كونه شفاء للصدر، ونجاة من الأسقام، والترياق الأكبر لدفع السموم، لا ينفع في إزالة هذا الداء المهلك، ولا ينجع في قطع هذا المرض المزمن القاتل، ولا في دفع هذا السم الناقع.
كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون
[يونس:33]
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار
[غافر:6] بل الإنذار بالقرآن، والإشعار بآيات الله والتعليم بالكتاب والحكمة يزيدهم شرا ووبالا، ويضاعف فيهم جهلا وضلالا، ويحق عليهم عذابا ونكالا، ولهذا قال: { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين }.
فما هو سبب الهداية والإنذار لقوم، فهو بعينه سبب نزول كلمة العذاب على قوم آخرين من الكفار
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
[البقرة:26 - 27] - الآية -.
وأما القسم الأخير من الكافرين، فيمكن إزالة مرضهم ودفع غرورهم بهذا القرآن، لأن منشأ كفرهم واحتجابهم ليس قوة نفسانية غير قابلة للتأثر والإنفعال - لكونها قاسية كالحجارة أو أشد قسوة -، بل منشأها شهوة الطبع ومحبة الدنيا، والشهوات أمور انفعالية قابلة للزوال والدثور، وأكثر اغترارهم بالدنيا ولذاتها لأجل الشكوك، وشكوكهم ترجع إلى أن قالوا: " هذه نقد، والنقد خير من النسية، فتكون الدنيا خيرا من الآخرة " أو قالوا: " اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقينية، ولذات الآخرة مشكوك فيها، وكذا اللذة الحسية يقينية، واللذة العقلية بلقاء الله أمر مشكوك فيه، والعاقل لا يترك اليقين بالشك ".
وهذه أوهام فاسدة وأقيسة باطلة، وعلاج المغرور بها، إما البرهان وإما التصديق بمجرد الإيمان بما أخبر الله تعالى من قوله:
وما عند الله خير وأبقى
[القصص:60]
وللآخرة خير لك من الأولى
[الضحى:4]
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
[آل عمران:185] وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك طوائف من الكفار، فقلدوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان، ومنهم من قال: " نشدتك بالله أبعثك الله رسولا "؟ فكان يقول: " نعم " ، فيصدق.
وهذا إيمان العامة، وهذا بمنزلة تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب، مع أنه لا يدري وجه كونه خيرا، وأما المعرفة بالبرهان، فهو أن يعرف وجه فساد القياس الأول بفساد إحدى مقدمتيه، وإن كانت الأخرى صحيحة، فإن قوله: " النقد خير من النسية " محل التلبس، فإنه لو كانت بين النقد والنسية مماثلة في القدر والمقصود، فالنقد خير من النسية، وإلا فلا.
وأما القياس الثاني - وهو أكثر فسادا من الأول لأن كلا أصليه باطل - أما قوله: " اليقين خير من الشك " ، إنما يصح في صورة التساوي وإلا فلا، أو لا ترى أن التاجر في تعبه على يقين وفي ربحه على شك، ومع ذلك يترك الراحة اليقينية طلبا للربح المشكوك فيه، وكذا المتفقه في اجتهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك، ولهذا أمثلة كثيرة.
وأما أصله الآخر وهو: " إن الآخرة شك " فهو أيضا خطأ، بل ذلك يقين عند المؤمنين، وليقينه مدركان:
أحدهما: الإيمان والتصديق تقليدا للأنبياء والأولياء، وذلك أيضا يزيل الجهل والغرور، وهو مدرك عوام أهل الإسلام، وأكثر الخلق اطمأنوا به كما تطمئن نفوس المرضى إلى تصديق قول الأطباء الحذاق، وهذا القدر من الإيمان كاف لجملة الخلق متى لم تتغير فطرتهم الأصلية، كما لأحد صنفي الكفار من المنافقين الأشرار.
والقرآن كما يشتمل على البراهين العقلية التي يكمل بها العلماء الأحياء بالفعل - وهم أهل البرهان والكشف -، كذا يشتمل على ما ينتفع به من كان معتقدا قول الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم بعد السماع منهم، - وهم أهل الحياة الآخرة بالقوة -، سواء حصل لهم استعداد قريب كجملة المؤمنين المعتقدين بالله واليوم الآخر، الجازمين بصدق دعوى الرسول، المتابعين للأئمة بعده، أو لم يحصل، ولكن من شأنهم أن يحصل لهم الاعتقاد اليقيني، فهذا القدر من الإيمان والإعتقاد الجازم باليوم الآخر، الذي لجملة أهل الإيمان يكفي للحث على العمل لأجل الآخرة والعبادة لله، وصرف نعمه فيما خلقها لأجله، ليستعدوا بذلك لليقين، وهو المعني بالحياة الأخروية بالفعل، لقوله:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر:99].
وأما المدرك الثاني للمعرفة، الموجب لبرد اليقين، فهو إما الوحي للأنبياء أو الإلهام للأولياء، ولا تظن أن معرفة النبي (صلى الله عليه وآله) لأمر المبدء والمعاد، أو لأمور الدين، تقليد بجبرائيل بالسماع منه، كما أن معرفتك تقليد له، حتى تكون معرفتك كمعرفته، وإنما يختلف المقلد فقط - هيهات -، فإن التقليد ليس بمعرفة، بل هو اعتقاد صحيح أو فاسد، والأنبياء عارفون بالله وآياته، ومعنى معرفتهم، إنهم كشفت لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها، فشاهدوها بالبصيرة الباطنية أوضح مما يشاهده الناس بالحواس، وذلك بأن ينكشف لهم عن حقيقة الروح وهو سلم المعارف وأنه من أمر الله، ليس المراد به معنى يقابل النهي، ولا المراد به الشأن والشيء - حتى يعم الموجودات كلها - بل العالم عالمان: " عالم الأمر " و " عالم الخلق " ، لأنه عبارة عن التقدير، وكل موجود منزه عن الكمية فهو من عالم الأمر، وشرح معرفة الروح مما لا رخصة في ذكره، لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كاستضرار المزكوم بشم رائحة الورد، بل كاستضرار الجعل بشم رائحة المسك، لا كاستضرار عين الخفاش برؤية الشمس.
فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ما فوقه من المفارقات، حتى تنتهي معرفتها إلى معرفة الحق الأول، فيعرف أن الجميع مقهورون تحت أشعة نوره الأبهر وكبرياءه الأنور، وإذا علم نفسه وربه، علم أنه أمر رباني بطبعه وفطرته وذاته، وأنه في العالم الجسماني غريب، وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه، بل بكره، لأجل أمر عارض غريب من ذاته ورد على أبيه آدم أولا، وعبر عنه بالمعصية، وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته، فإنها في جوار ربه، وأنه أمر رباني، وحنينه إلى جوار الرب تعالى له طبعي ذاتي، فيشتاق إلى طلب الآخرة إلى أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته، فينسى عند ذلك نفسه وذاته.
ومهما فعل ذلك، فقد ظلم نفسه، واستحق الطرد والبعد، إذ قيل له:
ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون
[الحشر:19] أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم.
وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى " معرفة " و " ولاية " ويسمى صاحبه " وليا " و " عارفا " ، وهي مبادئ مقامات الأنبياء. وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء سلام الله عليهم.
وهذه إشارات إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العشاق الالهيون، ويشمئز من سماع ألفاظها المغترون والقاصرون، فإنها تضرهم كما تضر رياح الورد بالجعل، وكما تبهر الشمس أبصار الخفافيش.
فإذا تمهدت وتحققت لك أسرارها وأغوارها، يظهر لك أن لفظي " الإيمان " و " الحياة القلبية " كالمترادفين في لغة القرآن وفي اصطلاح حامليه، كما عند أهل الله وأبناء الحقيقة، وكذا " الموت القلبي " و " الكفر " يجريان مجرى المترادفين، وإطلاق " الحي " على المؤمن و " الميت " على الكافر على وجه يشعر بأن جهتي الحياة والموت هما الإيمان والكفر والمعرفة والجهل، شائع كثير في الآيات والأحاديث، وقد مر أن الحياة لها مراتب بحسب القوة والإستعداد، وكذا الموت الذي يقابلها، وما من نفس إلا وقد كانت في أصل الفطرة حية بالقوة قبل أن تبطل استعدادها فكل من في وجه الأرض إما أموات غير أحياء - وهم الكفار الجاحدون، حيث بطل استعدادهم للحياة القلبية بالجحود والإنكار والتمرد والإستكبار - وإما مرضى - وهم أكثر الخلق - على تفاوت جهلهم ومرضهم، وإما أصحاء - وهم العلماء بالله والمؤمنون حقا - لكنهم ما داموا في الدنيا قبل قيام القيامة عليهم بمنزلة الأجنة في بطون أمهاتهم، وفي مشيمة البدن بمنزلة الجنين في مشيمة الرحم.
والقرآن ليس شفاء للأموات لعدم السمع والبصر الباطنيين، اللذين هما بابان لفهم المعارف لهم، وبطلان القلب الحقيقي الذي هو المشعر الإلهي عنهم، كما قال تعالى:
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء
[النمل:80]. وكقوله:
ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون
[يونس:42 - 43].
فقد نبه الله تعالى لنبيه النذير المنذر (صلى الله عليه وآله)، على أن أصحاب (أهل) الحجاب الكلي سلب عنهم السمع الباطني الذي هو غاية المسع الحسي - وهو فهم المقاصد وتعقل المطالب -، وكذا نبه على أنهم لا يبصرون من الرجال الإلهيين إلا بقدر ما يراه بصر الدواب والأنعام من الصور والأشكال وهيئات الأجسام.
وقال أيضا: في غير موضع من القرآن في حق المنسلخين عن الفطرة الإنسانية " صم، بكم، عمي " سلب إدراك المعارف من طريق السمع عنهم، وسلب معرفة الرجال وأولياء الله من باب البصر عنهم، وكذا سلب عنهم الفطرة الإنسانية واستعداد الحياة البقائية الأخروية، كما أفصح الله عن انحطاط درجتهم عما كانوا، ونزول رتبتهم عما فطروا عليه بقوله:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179]، وقال أيضا:
ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون
[الأنفال:21 - 22] وقال في النعي عليهم والصريح بموتهم ميتة الجاهلية:
أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون
[النحل:21].
وإذا ثبت أن الكفار والمنافقين فقدت عنهم آلة السمع والبصر وجدوا هما، وماتت قلوبهم فلا يجديهم سماع القرآن ظاهرا، ولا دراسة الكتاب والحديث رواية بلا دراية، فقد ثبت أن القرآن لا يشفي عليلهم ولا يروي غليلهم، لأنهم أهل الحجاب، الذي حقت عليهم كلمة العذاب، وغلقت عليهم الأبواب، وهو معنى قوله: { ويحق القول على الكافرين } كما قال:
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جآءتهم كل آية
[يونس:96 - 97].
وقال أيضا:
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال:23].
واعلم أن حال أكثر المتظاهرين بالإيمان عند التحقيق هذا الحال - وإن كانوا من جملة المعدودين عند الناس من أهل الفضل والكمال - كما مضى من قوله تعالى في صدر هذه السورة " لقد حق القول على أكثرهم فم لا يؤمنون " ، فإن مجرد الإطلاع على ظاهر العربية من اللغة والنحو والصرف والعلوم الجزئية، وكذا حفظ الأقوال في الحرام والحلال وصنعة المباحثة والقيل والقال، وصنعة الكلام بالمجادلة من غير بصيرة بحقيقة الحال، لا يرتقي به الإنسان عن درجة الجهال والأرذال، ولا يرتفع إلى رتبة السعداء والمقربين من الحق المتعال، ولا يهتدي بحقائق القرآن والآيات، بل يزيده شرا ووبالا وجحودا واستكبارا عن سماع ما هو الحق، اللهم إلا بالقلب السليم عن الآفات المهلكة والأمراض النفسانية كما مرت الإشارة إليه غير مرة، ودل عليه قوله تعالى:
وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
[الإسراء:82].
فقد بقي كون القرآن منذرا لمن كان حيا، أي قابلا للحياة الأخروية، مستعدا لفهم المعارف الإلهية، مؤمنا بالله واليوم الآخر - ولو بالسماع والتسليم - من غير انحراف عن سنن الحق وحيد عن الصراط المستقيم، سواء كان صحيح القلب بريئا عن المعاصي مطلقا، أو مريضا لكن غير مزمن المرض، ولا المكذب للطبيب وهم الأولياء والحكماء.
فالدنيا بمنزلة دار الشفاء، والعلماء الربانيون هم الأطباء، والقرآن هو الدواء، والحكمة التي بها تقع الشفاء - والإعراض عنه هو السم المهلك - الموجب للشفاء
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا
[الكهف:57].
والنفوس الساذجة الغير الكاملة في العلم والعمل، هم المرضى، القابلون للتداوي، المستعدون للصحة والحياة الكاملة، والنفوس الجاهلة الشقية الغير السليمة - إن كانت لهم فطانة بتراء وجهل مشفوع بالإعتقاد، واعتقاد تقليدي مركب بالنفاق والعناد - هم المرضى الغير القابلين للعلاج، بل يزيد فيهم المرض يوما فيوما، كما قال الله تعالى:
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم
[البقرة:10].
وهؤلاء هم الذين كانوا مستعدين في الأصل للحياة، قابلين للنور، ولكن احتجبوا بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب الخطيئات ومزاولة المكائد الشيطانية وطلب الترفعات الباطلة، حتى رسخت الهيئات الفاسقة في صفحة باطنهم، وتراكمت الملكات المظلمة على مرآة قلوبهم، كما قال تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14].
فلا تقبل التصفية والتطهير بعد ذلك، لتراكم ظلمتهم وعينية نجاستهم، كما قال:
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون
[يونس:100] وذلك لكونها كثيرة التعلق بالدنيا، متعلقة الوجود بأجسادها وأبدانها الغالب عليها القوة الشهوية والغضبية مثل الكلب والخنزير، والدنيا دار النجاسة وطالبها الأنجاس وطلبة الأرجاس، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الدنيا جيفة وطلابها كلاب "
، وورد أيضا في الحديث:
" الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ".
وإن لم يكونوا ذا فطانة وعقل ولا اعتقاد صادق أو كاذب، فهم إما المطرودون والمبعدون طبعا من أهل الحجاب، أو المستضعفون من النساء والولدان.
فالأول هم الأموات المعزولون عن الخطاب، المختوم على قلوبهم أزلا، كما قال:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الأعراف:179] فالقرآن لا ينذرهم كما لا ينذر القسم الأول، إلا أن المانع في أحدهما وهم المنافقون وجودي - وهو المرض المزمن -، وفي الثاني وهم المطرودون عدمي، وهو الموت، - وقد أخبر الله تعالى عن نفي قبول الإنذار عن أحدهما بقوله:
كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون
[يونس:33] وعن نفيه عن الثاني بقوله:
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون
[يونس:101] وقوله:
الذين كانت أعينهم في غطآء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا
[الكهف:101].
وأما المستضعفون فهم غير معلومي العاقبة لا يعلم حالهم إلا الله.
فهذا ما حضرني الآن في بيان هذه الآية، والله أعلم بحقائق آياته وأسرار كلماته.
[36.71]
ثم أعاد الكلام إلى ذكر شواهد التوحيد وآيات الربوبية، فقال: أولم يروا أنا خلقنا لهم - أي: لأجل وجودهم، أو لأجل انتفاعهم - مما عملت أيدينا - أي: مما تولينا خلقه بإبداعنا وانشائنا من غير مشاركة أحد ولا إعانة معين فيه، لبدائع الفطرة وشواهد الحكمة فيها التي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو.
و " اليد " في اللغة يطلق على معان: منها: الجارحة المخصوصة، ومنها: النعمة - يقال: لفلان يد بيضاء، ومنها: القوة - يقال: فلان تلقي قولي باليدين، أي بالقوة والتقبل، ومنها: تحقيق الإضافة، كما في قول الشاعر:
دعوت لما نابني مسورا
فلبى فلبى يدي مسور
وإنما ثناه لتحقيق المبالغة في الإضافة إلى مسور، ويقولون: " هذا ما جنت يداك " وهو المعني في الآية، وإذا قال رجل: " عملت هذا بيدي " دل ذلك على انفراده بعمله من غير أن يكله إلى غيره، وهو المعني في الآية.
وفي الكشاف: " عمل الأيدي استعارة من عمل ما يعملون بالأيدي ".
قلت: فعلى هذا كان قوله: { مما عملت أيدينآ } موضع " مما عملنا بالأيدي ".
و " الأنعام " هي الإبل والبقر والغنم - فهم لها مالكون - ولو لم نخلقها لما ملكوها ولما انتفعوا بها وبألبانها وركوب ظهورها ولحومها، أي: خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكهم، وقيل: فهم لها ضابطون قاهرون لم نخلقها وحشية نافرة منهم لا يقدرون على ضبطها، بل مسخرة مذللة، من قول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير أن نفرا
أي لا أضبطه.
تبيان كلامي وبرهان حكمي
قد تقرر عند كبراء الحكماء وأولياء المعرفة والإيقان، وأهل النسك والإيمان، أن وجود الإنسان هو غاية إيجاد المكونات العنصرية من الجماد والنبات والحيوان، لأن الغاية في كل موجود حادث هو الوصول إلى كمال ثان له، والبلوغ إلى ما هو أشرف، فالكمال الثاني للجسم العنصري، هو الصورة التركيبية التي للجماد، الحافظة له عن التبدد والانحلال والفساد، وكمال مرتبة المعادن هي النفس النباتية المفيدة زيادة في الأقطار وتوليد الأمثال، وكمال النبات هي النفس الحيوانية المفيدة للحس والحركة بالإختيار، وكمال الحيوان هو البلوغ إلى درجة الإنسان، فالإنسان كمال العالم العنصري وثمرته وغايته، ولا يلزم مما ذكرناه أن يكون كل جماد ونبات وحيوان ممكن الوصول إلى ما هو فوقه إمكانا وقوعيا استعداديا، بخصوص تعينه الخاص الشخصي أو النوعي، بل اللازم منه ذلك بحسب مطلق طبيعته الواقعة في وسط من أوساط حدود التوجهات إلى غاية الوجود ومطلق وجوده، الواقع في مرتبة من مراتب القرب والبعد من خلاق الخير والجود، إذا لم يكن له حجاب من تعينه ووجوده، بل لا بد من توجهه إلى مرتبة تكون فوقه، وانتقاله إلى درجة أخرى وتطور بطور آخر، من انزعاج في وجوده وقبول تأثير ولين وانكسار سورة وقلة تمنع وشدة افتقار.
أولا ترى أن العناصر ما لم تنكسر قوتها وسورة كيفيتها حتى كادت أن تفنى وتنفسد وتتعرى عن كسوة الصورة، لم يترحم الباري عليها بإفاضة وجود مستأنف وإعطاء كسوة جديدة، وكذا الحبوب والبذور المدفونة في الأرض، ما لم تتعذب بصحبة المخالط الضد حتى كادت تنفسد، لم تحصل فيها قوة النماء ولم تتخط من طور الجمادية إلى نشأة النبات.
وكذا ليس كل جسد نباتي قابلا لصورة الحيوان التام، بل ما مكث في جهنم المعدة مدة الانهضام، ثم سلك المسالك الضيقة في العروق والمسام، وسعى في خدمة الله وعمارة كعبة القلب الصوري الصنوبري وبيت الله الحرام، حتى يصير سعيه مشكورا وذنبه مغفورا، وأعطاه الله صورة الحس والحركة وأحياه بالحياة الحسية.
وكذا ليس كل حيوان يقبل النفس الناطقة التي من شأنها إدراك المعرفة واليقين، والوصول إلى عالم الآخرة يوم الدين، بل الذي مضت عليه أيام وشهور محبوسا في جهنم المعدة، مسجونا بسجن الرحم ومضيق المشيمة، معذبا بيد مالك الطبيعة، مقيدا بقيود سدنة القوى الأربعة الهاضمة، وزبانية القوى التسعة عشر الحيوانية، شاربا شراب الحميم، متغذيا بدم الحيض الحار الأسود، متلطخا بالأفراث والأرواث، مصليا بنار الحرارة الغريزية - وهكذا -، إلى أن يأذن الله له في الدخول إلى عالم النعيم الإنساني، وجنة المشتهيات النفسانية، وكرمه بكرامة الصورة الآدمية، المحمولة في بر الجسمانيات وبحر الروحانيات، المرزوقة من طيبات الكلمات الحكمية والعقلية، المفضلة على كثير من المخلوقات، كقوله:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
[الإسراء:70].
وهكذا الإنسان، لا يستعد لنفخ الروح الإلهي القابل للخلافة الإلهية، ومسجودية الملائكة العلوية والسفلية، ما لم يرتض بالرياضات النفسانية، ولم يتهذب بالتهذيبات العقلية، ولم يمتحن بالمحن الشديدة، والتكاليف الشرعية والآداب النبوية - من الصيام والقيام وغيرها، وتكثير الأوراد والدعوات، ومواصلة الأذكار والتسبيحات طول الليل والنهار - وهكذا حتى مضت عليه مدة مديدة من الشهور والسنين، وبلغ أوان بلوغه الحقيقي الباطني إلى قرب أربعين، وهكذا يتطور من طور إلى طور حتى بلغ إلى ما لم يمكن وصفه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
والمقصود أن خلقه المكونات من البسائط والمركبات - كما دلت عليه هذه الآية وكثير من الآيات - لأجل ماهية الإنسان ووجوده الفائق على سائر المخلوقات، على الوجه الذي مر بيانه، وقد أشرنا إلى أن المتحرك إلى غاية، ما دام كونه متحركا إليها، يجب أن يكون أمرا بالقوة، شبيها بالعدم، تحقيقا لمعنى الحركة، وتحت هذا أسرار لطيفة يختص فهمه لمن وفق له.
اشارة قرآنية
اعلم أن قوله: { مما عملت أيدينآ } ، معناه - كما ذكره صاحب الكشاف - عملنا بالأيدي، وذلك لما حقق أن المؤثر الحقيقي في خلق الموجودات هو الباري سبحانه، والوسائط مسخرة لقدرته. سواء كانت ملائكة علوية أو سفلية، أو كانت أجراما سماوية أو أرضية، إذ ليس لشيء منها رتبة الإنشاء والإيجاد، اللهم ألا أن يراد بالعمل معنى التحريك والإعداد بإذن الله المعطي الجواد.
وروح اليد ومعناه الأصلي ليس منحصرا في الجارحة المخصوصة التي اعتاد أهل اللغة فهمها عند اطلاق لفظ " اليد " ، بل الواسطة الطبيعية بين القدرة على القبض والبسط ومتعلقها، سواء كانت أمورا جسمانية من عظم ولحم ورباط وعصب، أولم يكن، فكما أن ذات الله وصفاته لا تشبه ذوات الخلق وصفاتهم، فكذلك كل ما نسب إليه من اليد، واليمين، والقلم، واللوح، والكتابة، والرق المنشور، والبيت المعمور، والعرش، والكرسي، أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت.
فكما أن ذاته لا يشبه الذوات، ف " يد الله " لا تشبه الأيدي، ولا قلمه يشبه الأقلام، ولا خطه سائر الخطوط، فليس الله في ذاته يمكن أن يكون بجسم ولا في مكان - بخلاف غيره -، ولا تكون يده من لحم وعظم ودم - بخلاف سائر الأيدي - وكذا لا يكون قلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ومن توقف في تنزيه بعض الأمور الإلهية دون بعض، ويؤمن ببعض ويكفر بما وراءه، فهو كالمخنث بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، مذبذبا بين إثبات هذا ونفي ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فكيف ينزه ذاته وصفاته من مشاركة الأجسام وصفاتها، ولم ينزه يده وقلمه عنها؟ أو كيف يؤمن بذاته وصفاته ويكفر بيده وقلمه رأسا؟
فإن كنت فهمت من معنى الصفات ما يوجب الإنفعال اللائق بالأجساد، ومن معنى الإستواء على العرش ما يوجب الإفتقار والإعتماد، فكن حنبليا محضا ومشبهيا مطلقا، كما يقال: " كن يهوديا صرفا وإلا فلا تلعب بالتوراة ".
وإن كنت فهمت من معانى الصفات ما ينحفظ معها التقديس والوحدة المحضة، ومن الاستواء على العرش معنى الإستيلاء المعنوي عليه والتمكن في الإلهية وظهور الرحمانية به، فكن منزها صرفا ومقدسا فحلا في كل الأمور الإلهية.
فإذا كنت مؤمنا بجميع ما ورد في الآيات، مقدسا للباري عن وصمة الجمسانيات، فتيقن أن الأيدي العمالة لله هي الوسائط العقلية والنفسية، من الملائكة السماوية والأرضية، الموكلة بخلق مواد الحيوانات، من الجماد والنبات، فبتعديلها صور الحيوانات في مواد النطف منقوشة، وبتقويمها بسائط الأشكال على بسيط الهيولى مفروشة.
تفريع شهودي
" كلتا يدي الرحمان يمين " ،
يد الله فوق أيديهم
[الفتح:10]
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67]، ومن انكشف له معرفة ذات الله وتقديسه عن وصمة الإشتراك والإمكان، وتنزيه صفاته الحقيقية عن شوب التكثر والنقصان، وتمجيد صفاته الفعلية العملية عن القصور والحدثان، فينكشف له أن معنى القدرة الإلهية ليس كالقدرة التي في الحيوان - وهي القسمة المتساوية طرفاها، المفتقرة إلى الداعي والرجحان - وينكشف له أن يمينه ليست كالأيمان.
فإذا علم معرفة الذات والصفة والقدرة واليد، يظهر له أن الشمس والقمر، والكواكب والأفلاك، والمطر والغيم، والهواء والماء والأرض، وكل ما يحصل منه وجود الحيوان من مواد النطف والأركان، كلها مسخرات بيمينه وفي قبضة قدرته تسخر القلم في يد الكاتب، فإذا علم ذلك، انصرف عنه الشيطان وخنس، لأن توحيده عن مزج الشرك مقدس، ووجه قلبه متوجه إلى فاطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما كان من المشركين.
اشارة أخرى
في كيفية خلقة الحيوان مما عملته أيدي الرحمان
قد مرت الإشارة منا سابقا، إلى أن طينة الإنسان وحصته الحيوانية إنما قبضتها وعملتها ملائكة الله، وبهذا الإعتبار توفته رسل الله، فلنبين كيفية خلقه الحيوان مما عملته أيدي الرحمان، سواء كان مما هو داخل مملكة الإنسان وأجزاء هذا القوام، أو مما ملكه الله له من الدواب والأنعام، وذلله وسخره للحمل والركوب له وللزينة وغيرها من أغراض عالم الأجسام، ليحصل لك الإطلاع على أفعال بعض ملائكة الله السفلية الموكلة بعالم الحيوان، بل الإنسان، المقبوضة المسخرة لملائكة أخرى علوية مطوية تحت أيدي قدرة الله الرحمان، ليمكنك الشكر والحمد على نعمه المتعلقة بقوام الحياة الدنيا، المتوقفة عليها أسباب معيشتك الأخرى، ومقدمات سفرك إلى الله وقدومك بين يديه من مركبك وزادك، وإنما مركبك البدن والقوى، وزاد سفرك الذي لأجله خلقت العلم، والتقوى، وأسباب ما خلقه الله وهيأ لك من أجناس هذا العالم كالشجر والدواب والأنعام.
فمن نعم الله عليك، الملائكة الموكلة ببدنك وبما هو تحت تصرفك من الأنعام والعبيد فيما يرجع إلى الأكل والغذاء، ويتوقف عليه الحيوان في الحدوث والبقاء، فإن كل جزء من أجزاء بدنك - بل من أجزاء كل حيوان ونبات - لا يتغذى إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة - هو أقل - إلى عشرة، إلى مأة إلى ما وراء ذلك.
وبيانه أن معنى الغذاء أن يقوم جزء من الغذاء مكان جزء قد تلف من بدنك لإستيلاء الحرارات المحللات عليه، وهي الغريزية والأسطقسية الداخلتان، والشمسية والتحريكية الخارجتان، وحرارة الهواء المطيفة بك، وذلك الغذاء جسم نباتي أو حيواني يصير دما في آخر الأمر، ثم يصير لحما وعظما وعصبا، وهو لا يتحرك من مكانه بنفسه، ولا يتغير في حاله بنفسه، ومجرد الطبع لا يكفي في تردده في جهاته وأطواره، كما أن البر بنفسه لا يصير طحينا ثم عجينا ثم خبزا مستديرا مطبوخا إلا بصناع كثيرة، فكذلك الدم لا يصير لحما وعظما وعروقا وعصبا إلا بصناع في الباطن هم الملائكة، كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد.
وقد أسبغ الله عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة وتجحدها، فنقول: لا بد أولا من ملك يجذب الغذاء ويقبض طينة الخلقة إلى جوار اللحم والعظم، لما علمت أن الغذاء لا يتحرك بنفسه، بل بمحرك غائب عن البصر، ثم لا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره حتى يتغير، لأن الاستحالة حركة، وكل حركة إنما وقعت في زمان، ثم لا بد من ثالث يخلع عنه صورة الدم، ومن رابع يكسوه صورة اللحم والعظم أو العصب، ومن خامس يدفع الفضل الفاضل من حاجة الغذاء، ومن سادس يلصق ما اكتسى بصورة العظم بالعظم حتى لا يكون منفصلا، ولا بد من سابع يرعى المقادير في الإلصاق.
شك وتحقيق
فإن قلت: فهلا فوضت هذه الأفعال إلى ملك واحد، ولم افتقرت إلى سبعة أملاك، والحنطة أيضا تحتاج إلى من يطحن أولا، ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع عنه الفضالة ثانيا، ثم إلى من يصب عليه الماء ثالثا، ثم إلى من يعجن رابعا، ثم إلى من يقطعه كرات مدورات خامسا، ثم إلى من يرققها دوائر عريضة ورغفانا مستديرة سادسا، ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعا، فلا كانت أفعال الملائكة باطنا كأفعال الإنس ظاهرا؟
فاعلم أن خلقة الملائكة تخالف خلقة الإنس، ما من واحد إلا وهو وحداني الصفة، ليس فيه خلط وتركيب، فلا يكون لكل واحد إلا فعل واحد، وإليه الإشارة بقوله:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات:164] نعم ربما يصدر منه - إذا كان علويا - أفعال متعددة باستخدام وسائط مسخرة مقهورة له بجهات متعددة ترتقي إلى جهة واحدة.
وتحقيق ذلك موكول إلى علم آخر، به يعلم النظم والترتيب بين ملائكة الله العلوية والسفلية، ولذلك ليس بينهم تنافس وتقابل ولا تفاخر، بل مثالهم في تعيين ماهية كل واحد وفعله مثال الحواس الخمس، فإن البصر لا يزاحم السمع ولا يشاركه في إدراك الأصوات، ولا الشم يزاحمها، ولا هما ينازعان الشم، وليس كاليد اللحمي والرجل، فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشا ضعيفا فتزاحم به اليد، وقد تضرب غيرك برأسك مكان اليد التي هي آلة الضرب، ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز، فإن هذا نوع من الإعوجاج والعدول عن العدل، سببه اختلاف صفة الإنسان واختلاف دواعيه وتكثر أغراضه، فلما لم يكن وحداني الصفة، لم يكن وحداني الفعل، ولذلك ترى الإنسان يطيع الله مرة ويعصيه أخرى لاختلاف دواعيه وصفاته الروحانية والجسمانية، ولو تفرد الإنسان بذاته وطبعه، ولم يتغير عما فطره الله عليه، لم تكن أفعاله إلا على نظم حكمي وترتيب طبيعي.
وذلك الإختلاف غير ممكن في طبائع الملائكة، بل هم مجبولون على الطاعة، مفطورون على العبودية والخدمة، لا مجال للمعصية في حقهم، فلا جرم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، والراكع منهم راكع أبدا، والساجد منهم ساجد أبدا، لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور في أعمالهم، ولكل واحد منهم مقام معلوم لا يتعداه.
وطاعتهم لله تعالى من حيث لا مجال للمخالفة فيهم، تشبه طاعة أطرافك لك، فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان، لم يكن للجفن الصحيح تمرد وتردد واختلاف في طاعتك مرة ومعصيتك أخرى، بل كأنه منتظر لأمرك ونهيك فينفتح وينطبق متصلا بإشارتك، فهذا يشبهه من وجه ولكن يخالفه من وجه، إذ الجفن لا علم له بما يصدر من الحركة فتحا وإطباقا، والملائكة أحياء عالمون بما يفعلون.
فإذن هذه نعمة الله عليك من جملة الملائكة الأرضية العمالة، لخلقة الحيوان، وهي بعض نعم الله عليك من الملائكة العلمية والعملية الموكلة بباطنك وظاهرك وقلبك وقالبك، يجب عليك شكر هذه النعم الخفية والجلية.
ومن كفر بشيء منها كفر بالجميع من حيث لا يشعر، فإن من كفر بالقدرة على فتح العين التي من جملة نعم الله في الأجفان، التي من جملتها خلق أطرافها حادة منطبقة على الحدقة، وما يتوقف عليه من الغذاء وأسباب التغذية، فقد كفر بالعين وما يتوقف عليه من الموجودات، إذ الأجفان لا تقوم إلا بالعين، ولا العين إلا بالرأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن، ولا البدن إلا بالغذاء، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم، ولا تقوم هي إلا بالشمس والقمر والنجوم، ولا يقوم شيء منها إلا بالسموات، ولا السموات إلا بالملائكة المحركة، ولا هي إلا بعالم الأمر لقوله تعالى:
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره
[الأعراف:54] وقوله:
وأوحى في كل سمآء أمرها
[فصلت:12].
فإن الكل كالشيء الواحد الطبيعي، المرتبط بعضه ببعض، كارتباط أعضاء بدن الإنسان الواحد بعضها ببعض، وارتباط بدنه بنفسه، ونفسه بروحه وعقله، والكل مرتبط به تعالى في الوجود،
ألا له الخلق والأمر
[الأعراف:54]. فإذن، من كفر بفتح العين فقد كفر كل نعمة من نعم الله من منتهى الثريا إلى منتهى الثرى من وجوه كثيرة:
منها: ما ذكرنا من وجود السوابق التي تتوقف هي عليه، كالنظر والمشاهدة ثم التخيل، ثم التذكر، ثم التعقل، ثم الإنتقال من تعقل إلى تقعل آخر، وهكذا إلى تعقل، المبادي الفعلية، ثم تعقل وجود المبدء تعالى، ثم صفاته الجمالية، ثم الجلالية، ثم الإضافية الإلهية، ثم الافعالية، ثم الآثارية، ثم الاستغراق في شهود كبريائه وجماله، والإنخراط في سلك عبيده المهيمين في ملاحظة عظمته وجلاله، فإن الجميع مما يتوقف على فتح العين، فإن من فقد حسا فقد علما، فمن جحدة فقد جحد الكل، فلم يبق فلك ولا ملك ولا حيوان ولا نبات ولا جماد ولا بر ولا بحر إلا ويلعنه.
ولذلك ورد في الأخبار: " إن البقعة التي تجتمع فيها جماعة إما أن تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم " ، وكذلك ورد في الحديث:
" إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر "
، و " إن الملائكة يلعنون العصاة " ، في ألفاظ كثيرة لا يمكن إحصائها.
وكل ذلك إشارة إلى أن العاصي بتفريطة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت، وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بالحسنة، فيتبدل اللعن بالاستغفار، فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه، فافهم، ثم افهم.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول:
من جملة ما يتوقف عليه وجود الأنعام وسائر الحيوان فضلا عن الإنسان مما عملته أيدي الرحمان وملائكة الله العزيز المنان، تحصيل وجود الأطعمة حتى تصير صالحة للاغتذاء، وتستعد لأن تتصرف فيها الملائكة السبعة المذكورة أولا.
فاعلم أن الأطعمة كثيرة، ولله في خلقتها عجائب كثيرة لا يحصى عددها، وأسباب متوالية لا يتناهي وصفها، وذكر ذلك في كل طعام مما يطول، إذ لا طعمة إما أغذية وإما أدوية وإما فواكه.
فلنأخذ الأغذية - فإنها الأصل -، ولنأخذ من جملتها الحبوب، بل حبة من الشعير أو الحنطة التي يتغذى بها الحيوان أو الإنسان، فنقول: إذا وجدت حبة أو حبات، فلو أكلتها أو أطعمت بها دابتك لفنت وبقيت جائعا أو بقيت دابتك كذلك، فما أحوجك أن تنمو الحبة في نفسها أو تتضاعف حتى تفي بجميع حاجاتك، فخلق الله في الحبة من القوى ما تتغذى - كما خلق فيك -، فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة لا في الإغتذاء، ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه وامساكها، وهضمها ودفع فضولها، ولكن كلامنا في نفس الغذاء - كيف يحصل - لا في الإغتذاء به.
فنقول: كما أن الخشب والتراب لا يصلح لغذائك، بل تحتاج إلى طعام مخصوص مناسب لك، فكذا الحبة لا تغتذي بكل شيء، بل تحتاج إلى شيء مخصوص مناسب لها، بدليل أنه لو تركتها في البيت لم تزد بمجرد مصادفة الهواء، ولو تركتها في الماء لم تزد، ولو تركتها في أرض لا ماء فيها لم تزد، بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض، فيصير طينا، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا المآء صبا
[عبس:24 - 25] - الآية.
ثم لا يكفي الماء والتراب، إذ لو تركتها في أرض ندية صلبة متراكمة، لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى أرض خربة متخلخلة، يتخلخل الهواء إليها، ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه، فيحتاج إلى ريح يحرك الهواء ويضربه بقهر وعنف على وجه الأرض حتى ينفذ فيها، وإليها الإشارة بقوله تعالى:
وأرسلنا الرياح لواقح
[الحجر:22] وإنما لقاحها في إيقاع الإزدواج بين الهواء والماء والأرض، ثم كل ذلك لا يكفي لو كان في برد مفرط وشتاء شاق، فيحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فقد ثبت احتياج غذائها إلى هذه الأربع.
فانظر إلى ما يحتاج إليه الماء، فيسال في أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي، فانظر كيف خلق الله البحار، وفجر العيون، وأجرى منها الأنهار بيد ملائكة موكلة بها، تسمى بملك البحار وملك الأنهار.
ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها، فانظر كيف خلق الله الغيوم، فسلط الرياح عليها لتسوقها تلك الرياح بإذنه إلى أقطار العالم - وهي سحب ثقال حوامل بالماء -، ثم كيف يرسله مدرارا بيد ملك الأمطار على وجه الأرض في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة.
وانظر كيف خلق الجبال لها قوة حافظة للمياه، وملكا موكلا بها، وآخر موكلا بتفجير العيون منها تدريجا، فلو خرجت دفعة لخربت البلاد وهلك الزرع والأنعام والمواشي، ونعم الله في السحاب والجبال والبحار والأمطار لا يمكن احصاؤها وإحصاء ملائكة عمالة لها بإذن الله.
وأما الحرارة فإنها لا تحصل من الماء والأرض - وكلاهما باردان - فانظر كيف سخر الشمس وكيف جعلها مع بعدها عن الأرض مسخنة للأرض في وقت دون وقت آخر، فيحصل البرد عند الحاجة إليه، والحر عند الحاجة إليه، فهذه إحدى حكم الشمس - والحكم فيها أكثر من أن تحصى -.
ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض، فإن في كثير منها انعقادا وصلابة تفتقر إلى رطوبة غريزية تنضج وتصبغها، فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته نضج الفواكه وصبغها بتقدير الفاطر الحكيم.
بل نقول: كل كوكب في السماء فقد سخره لنوع فائدة وحكمة، كما سخر الشمس للتسخين، والقمر للترطيب، بل لا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر باحصائها، ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثا وباطلا، ولم يصح قوله تعالى:
ربنآ ما خلقت هذا باطلا
[آل عمران:191] وقوله:
وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما لاعبين
[الأنبياء:16] وكما أنه ليس في أعضائك عضو إلا لفائدة فالعالم كله كشخص واحد، وآحاد أجسامه كالأعضاء له، وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك، وشرح ذلك يطول، وأكثر الناس غافلون عن حكم الله في السماء والأرض، جاحدون في خلقها، معرضون عن آياتها، لقوله تعالى:
وهم عن آياتها معرضون
[الأنبياء:32].
وتوهم بعضهم أن التفكر في حكمة ما في السموات والتدبر في آياتها يستلزم الإيمان بالنجوم المنهي عنه في الشرع، لجهلهم بامتياز هذا العلم عن علم الأحكاميين، الذين يحكمون على الكواكب بآثار أرضية في ساعات معينة رجما بالغيب، بحسب تخمينات ومجازفات وتجارب ناقصة، فأحكامهم من هذه الجهة كاذبة وأن اتفقت أحيانا.
وليس كذلك علم الهيئة والهندسة والحساب من الرياضي، ولا علم السماء والعالم من الطبيعي، ولا البحث عن مبادئها وغاياتها والنظر في الآثار والحكم المترتبة عليها كلية من العلم الإلهي، فإن جميع ذلك من العلوم الشريفة ومن الحكمة الممدوحة في الكتاب والسنة، إلا أن بعضها أشرف من بعض، وهو ما يكون أوثق برهانا، وأعلى لمية، وأقصى غاية، وأرفع غرضا وفائدة، ولذلك
" نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى السماء وتدبر في نجومها وقرأ قوله تعالى: { ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } [آل عمران:191] ثم قال: " ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته "
ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل، ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء وضوء الكواكب وذلك مما يعرفه البهائم أيضا، فمن قنع منه بمعرفة ذلك فهو الذي مسح سبلته.
وأقول: قوله (صلى الله عليه وآله) عقيب قراءة الآية، إشارة إلى تفسير الآية ولمية عذاب النار، المفهوم من فحواها بواسطة " الفاء " التفريعية، الدالة على أن التدبر في النجوم، والعلم بحقيقة ما في السماء يوجب الوقاية عن عذاب النار، والجهل بها والإعراض عن آياتها يوجب العذاب الدائم والحرمان عن لقائه والطرد عن رحمته، والبعد عن حضرته، فلله في ملكوت السماء والأرض والآفاق والأنفس والحيوانات والنبات عجائب حكمة تطلب معرفتها أهل المحبة الإلهية، فإن من أحب عالما أحب مطالعة تصنيفه، فلا يزال مشغوفا بتصانيفه ليزداد بمزيد الوقوف على عجائب حكمته وعلمه وحاله، فكذلك الأمر في عجائب صنع الله، فإن العالم كله من تصنيفه، بل تصنيف المصنفين كلهم من تصنيفه الذي صنفه بواسطة عباده أو كتبه في قلوب أوليائه
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22] فلا تتعجب من تصنيف المصنفين، بل من الذي سخرهم للتأليف بما أنعم عليهم من هدايته وتسديده وتعريفه.
والمقصود، أن غذاء النبات لا يحصل إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب، ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها، ولا تتم الأفلاك إلا بحركاتها، ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها - وكذلك تتمادى إلى أسباب قاصية - وهي حرية بأن تكون بأيدي الرحمن.
طريقة أخرى
اعلم أن الذي ينبت في الأرض من النبات، لا يمكن أن يقضم أو يؤكل - وهو كذلك - بل لا بد في كل واحد من اصلاح وطبخ، وتركيب وتنظيف بالقاء البعض وإبقاء البعض، إلى أمور أخرى كآلات الحصاد والتصفية (والتنقية) والنقل والتحويل مما يطول.
فأول ما يحتاج إليه الحراث (الحرث) - ليزرع ويصلح الأرض - الثور الذي يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه، ثم بعد ذلك التعهد لسقي الماء مدة، ثم تنقية الأرض من الحشيش، ثم الحصاد، ثم الفرك والتنقية، ثم الطحن، ثم العجن، ثم الخبز إن كان للإنسان، فكذلك إن كان للحيوان الذي له حرمة، لأن قضيمته تتوقف على الإنسان وهو يحتاج إلى الأكل.
فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره، وعدد الأشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها - من الحديد والخشب والحجر وغيره - ويحتاج إليها النجار والحداد وغيرهم، الذين يعملون هذه الآلات القريبة بآلات أخرى بعيدة حديدية أو خشبية، تفتقر هي أيضا في وجودها إلى آلات غيرها وهكذا.
فانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس، وانظر كيف خلق الجبال والأحجار، وكيف جعل الأرض قطعا متجاورات مختلفة، فإن فتشت علمت أن رغيفا واحدا لا يستدير بحيث يصلح لأكلك - يا مسكين - ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، فابتدئ من الملك الذي يزجي السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال التي من جهة الملائكة، حتى ينتهي إلى عمل الإنسان، فإذا استدار فقد عمل فيه قريب من سبعة آلاف صانع، كل صانع أصل من أصول الصنائع التي تتم بها مصلحة الخلق.
ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات، حتى أن الإبرة - التي هي آلة صغيرة يفتقر إليها في بعض أمور الحراثة، وفي خيط اللباس للزارع الذي يمنع عنه البرد - لا يصلح صورتها من حديد يصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على يد الإبري خمسة وعشرين مرة يتعاطى في كل مرة عملا.
فلو لم يجمع الله البلاد، ولو لم يسخر العباد، وافتقرت إلى عمل المنجل الذي يحصد به البر والشعير مثلا بعد نباته ويبسه، لنفد عمرك وعجزت عنه.
ثم إن هؤلاء الصناع المصلحين للآلات والأطعمة وغيرها، لو تفرقت آراؤهم، وتنافرت طباعهم - تنافر طباع الوحش -، لتبددوا وتفرقوا وتباعدوا، ولم ينتفع بعضهم ببعض، بل كانوا كالوحش لا يحويهم مكان واحد، ولا يجمعهم غرض واحد، فانظر كيف ألف الله بين قلوبهم، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، فلأجل الألف وتعارف الأرواح، اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد، ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة، ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع.
ثم هذه المحبة مما قد تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها، وفي جبلة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة، وذلك يؤدي إلى التقابل والتنافر، فانظر كيف سلط الله السلاطين وأيدهم بالقوة والقدرة، وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لهم طوعا أو كرها.
وكيف هدى الله السلاطين إلى طريق اصلاح البلاد حتى رتبوا أجزاء المدن كأنها أجزاء شخص واحد يتعاون على غرض واحد، ينتفع البعض منها بالبعض، ورتبوا الرؤساء والقضاة والسجن وزعماء الأسواق، واضطروا الخلق إلى قانون العدل، وألزموهم التساعد والتعاون، حتى صار الحداد ينتفع بالقصاب، والخباز، وسائر أهل البلد، وكلهم ينتفعون بالحداد، وصار الحجام ينتفع بالحارث، والحارث بالحجام، وينتفع كل واحد بكل واحد، كما يتعاون جميع أجزاء البدن وينتفع بعضها ببعض.
فانظر كيف بعث الأنبياء حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا، وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الرعايا، وقوانين السياسة في ضبطهم، وكشفوا عن أحكام الإمامة والقضاء والسلطنة، وأحكام الفقه في المعاملات والمناكح والسياسات والحدود والجراحات ما اهتدوا به إلى اصلاح الدنيا، فضلا عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين.
فانظر كيف أصلح الله الأنبياء بالملائكة - الذين هم أيدي الرحمان - وكيف أصلح الله هذه الملائكة بعضهم ببعض، إلى أن ينتهي إلى المقربين الذين هم أعين الله التي لا تنام، كما قال:
فإنك بأعيننا
[الطور:48] وهكذا إلى أن ينتهي إلى الملك المقرب الذي لا واسطة بينه وبين الله.
فالخباز يصلح الخبز، والطحان يصلح الحب بالطحن، والحراث يصلحه بالحصاد، والحداد يصلح آلات الحراث، والنجار يصلح آلات الحداد، وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة، والسلطان يصلح الصناعين، والعلماء يصلحون السلاطين، والأنبياء يصلحون العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية، ويد الله التي فوق أيديهم، وقدرته النافذة في جميع المخلوقات، وسمعه وبصره وعينه التي لا تنام، وشمس وجهه الذي هو ينبوع كل حسن ونظام، ومطلع كل كمال وتمام، وغاية كل حركة وسعي واهتمام، وغاية كل معرفة وهداية وعلم وكلام، والكل من رشحات وجوده وتوابع خيره وجوده، وهو منعم جميع النعم، ورب الأرباب ومسبب الأسباب.
فإذا تقرر عندك - أيها القارئ لكتاب الله - هذه المقدمات، وتأملت في هذه الأسباب المترتبة لخلقة الحيوان المعمولة لأجل الإنسان تأملا كاملا، وتدبرت فيها تدبرا شافيا، علمت بما في هذه الآية من الإشارة إلى آثار حكمة الله العظيمة وبدائع لطفه وإحسانه، والإشعار بنعمه الجسيمة وامتنانه.
فقوله: { أولم يروا }: استفهام معناه الأمر بالنظر والإعتبار والحث على التدبر والاستبصار في الأمور التي ذكرنا شطرا منها، مما تتوقف عليها خلقة الحيوان، لينكشف على المتأمل أن أسباب خلقته لا تتم إلا بما عملته أيدي الرحمان، ليتمكن على قليل من شكر نعمه العظيمة، ويهتدي إلى لمعة من معرفة جوده وحكمته الجليلة.
ولولا فضله ورحمته وهدايته إذ قال:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت:69]، لما اهتدينا إلى معرفة هذه النبذة اليسيرة من نعمته وحكمته
بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنآ إلا الظالمون
[العنكبوت:49].
ولولا عزله إيانا عن أن نطيح بعين الطمع إلى الإحاطة بكنه نعمه، وتحذيره وتحذير رسوله إيانا عن التفكر في ذاته، لتشوقنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء بكنه نعمه، وتطلعنا إلى التفكر في ذاته، وطلب الإكتناه بحقيقته، لكن عزلنا بحكم القهر والقدرة، فقال:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم:34] وحذرنا بحكم الصمدية وشدة النورية التي احتجب بها، فقال:
ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد
[آل عمران:30] وقال نبيه المنذر (صلى الله عليه وآله):
" تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله ".
فإن تكلمنا فبلطفه وإذنه انبسطنا، وإن سكتنا فبغلبة نوره وقهره انقبضنا، فالحمد لله الذي ميزنا عن الجاحدين لأنوار الربوبية والكفار، وأسمعنا في كل لحظة من لحظات العمر قبل انقضاء الأعمار نداء الملك الجبار:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر:16].
[36.72]
من شواذ القراءات قراءة الحسن والأعمش: " ركوبهم " بالضم، وقراءة عائشة وأبي بن كعب " ركوبتهم " أما الركوب فمصدر على حذف مضاف، كذو وأمثاله، ويجوز أن يكون التقدير: " فمن منافعها ركوبهم " كما يقول الإنسان لغيره: " من بركاتك وصول الخير إلي ".
وأما " الركوب " و " الركوبة " فهما ما يركب كالقتوب والقتوبة، والحلوب والحلوبة - لما يقتب ويحلب - وقيل: " الركوبة " جمع.
وذللناها لهم - أي: سخرناها لهم حتى صارت منقادة ، ولولا تذليله وتسخيره لها وإلا فمن الذي يقدر عليها كما قيل:
يصرفه الصبي بكل وجه
ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى
فلا غير لديه ولا نكير
ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله:
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين
[الزخرف:13].
فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - قسم الأنعام بأن جعل منها ما يركب، ومنها ما يذبح فينتفع بلحمه ويؤكل.
تبصرة عقلية
لما أشار سبحانه إلى مبدء وجود الحيوان وغايته من ملائكة الله المكرمين وأوليائه الصالحين، أراد أن يشير إلى بعض منافعه العرضية وفوائده التبعية، وقد تقرر عند الحكماء في العلوم النظرية، الفرق بين ما هو علة غائية ماهية وغاية ذاتية وجودا، وبين ما يتبعها - سواء كانت من الضروريات اللازمة أو من التفضلات الزائدة - وبينوا ذلك بأدلة موضحة وأمثلة كاشفة، وحكموا بأن أفعال الله تعالى وأن لم يكن لها علة غائية، ولكن ذاته ذات لا تحصل منه الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يتصور من النظام - سواء كان ضروريا كوجود العقل للإنسان والمعرفة للعقل والنبي للأمة، أو غير ضروري لكنه من التفضلات المستحسنة، كإنبات الشعر على الحاجبين، وتقعير الأخمصين للقدمين -.
فكما أن الماء والنار والشمس والقمر إنما تفعل أفاعيلها - من التبريد والتسخين والتنوير - لحفظ كمالاتها، لا لانتفاع غيرها، ولكن يلزمها انتفاع الغير، وكذلك مقصود الأفلاك في حركاتها هي الطاعة لله والخدمة لما وراءها، والتشبه بالخير الأقصى بوساطة المعشوقات الكاملة العقلية، فلكل منها مطاع معشوق يخصه - وإلا لما اختلفت الجهات والحركات - وللجميع إله واحد ومحبوب واحد، يضمحل تحت نور كبريائه كل خير ومحبوب دونه، هو الذي أدار رحاها وبسم الله مجراها ومرساها، ومطلوبها في الحركات والصلوات والركوع والسجود، وطاعة الله وطلب التقرب منه والتشبه بما عنده، لا نظام السفليات من الإنسان والحيوان والنبات، إلا أنها يترشح منها نظام ما دونها على أبلغ وجه وأتمه، كما قيل: " وللأرض من كأس الكرام نصيب " ، فإن الأرض والأرضيات مما لا قدر لها محسوسا حتى تتحرك لأجلها الفلكيات.
وأما الإنسان الكامل، فإنه وإن كان من جهة جسميته حقيرا سفليا غاية الحقارة والسفلية، إلا أنه من حيث روحه وعرفانه مما يليق أن تطوف عليه العناصر والأفلاك، وتدور حول كعبة قلبه الأجرام العلوية بما فيها من النفوس والأملاك، لقوله تعالى: (لولاك لما خلقت الأفلاك).
فإذا تقرر عندك ما سردنا لك، ووضح لديك ما مهدنا لأجلك، فاعلم أن لوجود الحيوان علة غائية هي جهة ماهية الإنسان بحسب وجودها في القضاء الإلهي والعالم العقلي، وله غاية ذاتية هي ثمرة وجوده وتمامه وكماله - وهي وجود الإنسان -، إذ لأجله بنى العالم العنصري وخلق الأكوان، فهو الأصل في القصد من وجود الحيوان، والغرض من حدوث مواد العناصر والأركان، فهو الأول في التصور والتفكر، والآخر في التحصيل والعمل، وهو اللباب الأصفى من خلائق عالم الأركان، ومن فضالة وجوده خلق سائر الأكوان.
وها هنا دقيقة لا ينبغي الذهول عنها، وهي أن المواد الحيوانية كلها متوجهة إلى أن يحصل منها وجود الإنسان - لأن وجوده كمالها وغايتها كما علمت - ولا ينافي هذا المعنى عدم بلوغ أكثرها إلى هذه الدرجة لما فيها من الموانع والصوارف الداخلية والخارجية، الوجودية والعدمية مما يطول شرحها.
فالحيوان الكامل الواصل إلى غايته وثمرته، هو الذي وقع داخل ماهية الإنسان من حصة حيوانيته الموجودة له وفيه، وأما غيرها فهي منقطعة السير منبتة السفر - لأجل قصور قوتها - دون المرام، وإنبتات مسافتها قبل التمام.
إلا أنها وأن تعوقت وتعطلت عن سفرها إلى ذات الإنسان، لكنها بحسب الأكثر غير معوقة ولا معطلة عن خدمة الإنسان، بل مجبولة على طاعته، ساعية نحو الوصول إلى لوازم وجوده وعوارض كونه - من الأكل، والركوب، والمشارب والمنافع -، فغاية بعضها صيرورته غذاء الإنسان، وغاية بعض آخر كونه حاملا لغذائه، وغاية بعض صيرورته ملاصقا لبدنه مركوبا له، وغاية بعض آخر كونه حاملا لما يلاصق بدنه حملا لمحمول طبيعي كالجلود والأصواف أو لمحمول غير طبيعي كالأثواب وغيرها، إلى غير ذلك من المنافع التي تعود إلى الإنسان بوجه من الوجوه، مما يتعذر ذكرها جميعا على التفصيل.
والغرض أن وجود الإنسان هو الغاية الذاتية لوجود الحيوان وما يحتاج إليه أو ينتفع به من الأكل والركوب، وسائر المنافع والمشارب وغيرها هي من الغايات العرضية لوجوده، أو من التوابع اللازمة الضرورية أو غير الضرورية له، والجميع راجعة بوجه من الوجوه إلى الإنسان، لأن وجوده غاية الأكوان، وكمال هذا العالم وأجزائه من الأصول والأركان.
[36.73]
قد أجمل الله تعالى ها هنا ذكر منافع الحيوان لظهورها على البصير المتأمل وإن غفل عنها الأكثرون، ولهذا فصلها في موضع آخر بقوله:
وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا
[النحل:80] الآية.
وقوله: أفلا يشكرون - أي: أفلا يعرفون نعمة الله ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب؟ أفلا ينظرون في بدائع حكمة الله وآثار قدرته وجوده في هذه المخلوقات ومنافعها، ليدبروا في عظمة خالقها وصانعها، ليعرفوا ذاته وصفاته والهيته وحكمته وقدرته ولطفه وجوده، وتخلصوا من عذاب جهنم ونار القطيعة والطرد.
فمن منافعها وفوائدها التي لو نظر إليها الإنسان بعين التدبر - لا بعين الغفلة والعادة - لأكثر التعجب من حكمة خالقها ومصورها، هي جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها، التي خلقها الله لباسا لخلقه، وأكنانا لهم في ظعنهم وإقامتهم، وآنية لاشربتهم، وأوعية لأغذيتهم، وصوانا لأقدامهم، كما جعل ألبانها ولحومها أغذية لهم.
ومن فوائدها جعل بعضها زينة للركوب، وبعضها حاملة للأثقال وقاطعة للبوادي، إلى غير ذلك من آثار نعم الله الجليلة والدقيقة فيها ومنافعها الكثيرة التي خلقت لأجلها ولأجل غيرها.
ومعظم منافعها أنها مواضع حكمة الله لمن تدبر فيها، ومحال الشكر على نعم الله لمن قدر على الشكر له، وإنها أسباب اهتداء الإنسان إلى معرفة خالقه ورازقه إذا نظر وتأمل في دقائق النعمة وبدائع الصنعة المودعة فيها، فعلم من آثار اللطف والرحمة على ما قضى العجب من الحكمة، حامدا لله البارئ الحكيم، وشاكرا على نعماء الجواد الرحيم، حسبما أمر به وحث عليه بقوله: { أفلا يشكرون }.
ومن نظر في خلقة واحد صغير من الحيوانات، لعلم من صنائع جود الله وآثار حكمته فيه ما يعجز عن وصفه ويكل عن الإحاطة به، إذ ما من حيوان - صغير ولا كبير - إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى، بل لو أردنا أن نذكر عجائب البقة أو النملة أو النحل أو العنكبوت - وهي من صغار الحيوانات - في بناء بيتها، وفي جمع غذائها، وفي ألفها لزوجها، وفي إدخارها لنفسها، وفي حذقها في هندسة بيتها، وفي هدايتها إلى حاجتها، لم نقدر.
فانظر إلى النحل ومسدساتها، وإلى اهتدائها وتفطنها بوحي الله إليها في اتخاذ بيوتها من الجبال ومن الشجر ومما يعرشون، ثم اهتدائها إلى بناء بيوتها على وضع الأشكال المناسبة لأبدانها، وحيث لم يمكن في أفضل الأشكال ترامي (تراخي) بعضها لبعض من غير فرجة وفصل، تحرت من الأشكال إلى ما هي الأشبه بالاستدارة - وهي المسدسات - لكون مساحتها كمساحة الدائرة، حاصلة من تربيع نصف قطرها في نصف محيطها، وليس غير المسدس من المضلعات هكذا، فسبحان من هداها من المعرفة والقياس ما لم يصل إليها فهم كثير من الناس.
ثم انظر إلى العنكبوت ومثلثاته على طرف نهر أو باب، كيف يطلب أولا فرجة بين موضعين متقاربين بمقدار ذراع، حتى يمكنه أن يصل بالخيط اللعابي بين طرفيه، ثم يبتدئ فيلقي لعابه الخيطي إلى جانب فيلتصق به، فيعدو إلى الجانب الآخر، فيحكم الطرف الآخر من الخيط، ثم يحكم كذلك ثانيا وثالثا ويجعل بعد ما بينها تناسبا هندسيا، حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كاللحمة اشتغل بالتسديد، فيضيف السدى إلى اللحمة، ويحكم العقد على موضع التقاء السدى باللحمة، ويرعى في جميع ذلك تناسب الهندسية، ويجعل ذلك شبكة لاصطياد البق والذباب، ويقعد في زاوية مترصدا لوقوع الصيد في الشبكة، فإذا وقع بادر إلى أخذه وأكله، فإن عجز عن الصيد كذلك، طلب لنفسه زاوية من حائط، ووصل بين طرفيه في الزاوية بخيط، ثم علق نفسه منها بخيط آخر وبقي متمسكا في الهواء ينتظر ذبابة تطير، فإذا طار ذباب رمى نفسه إليه، فأخذه ولف خيطه على رجله وأحكمه ثم أكله.
أفترى أنه يعلم هذه الصنعة من نفسه؟ أو كون نفسه؟ أو كونه آدمي أو علمه؟ أو لا هادي له ولا معلم؟ أفيشك ذو بصيرة في أنها مسكينة عاجزة ضعيفة؟ بل الفيل العظيم بشخصه، الظاهر قوته، عاجز عن أمر نفسه، فكيف هذا الحيوان الضعيف، أفلا يشهد هو وشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته بفاطره الحكيم ومدبره العليم؟
فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المريد الخبير، وجلاله وكمال قدرته ما تتحير فيه الألباب والعقول، فضلا عن سائر الحيوانات من الأنعام وغيرها، وإنما سقط تعجب القلوب منها لأنسها بكثرة المشاهدة.
والإنسان أعجب الحيوانات، وأعجب كل عجيب، وليس يتعجب من نفسه، وأكثر الناس ناسون أنفسهم، غافلون عن عجائب القلب، شاكون في أمر المعاد وبقاء النفس وسعادتها وشقاوتها، لأنهم عن الذكر لمبعدون، وعن السمع لمعزولون، وعن آيات ربهم معرضون، لأنهم غرتهم الحياة الدنيا، ليسوا من أهل المحبة الإلهية.
ولو أنك تعظم عالما بسبب معرفتك بعلمه، فلا تزال تطلع على غرائب شمائله وآثاره، وصنائعه البديعة ونكاته الدقيقة، وتصانيفه الرشيقة وأشعاره الحسنة وكتبه النفيسة، فكلما تصفحت غريبة غريبة من تصنيفه وشعره، فتزداد به معرفة وتزداد به محبة، وله توقيرا وتعظيما واحتراما، حتى أن كل كلمة من كلماته وكل بيت من أبيات شعره يزيده محلا في قلبك ويستدعي التعظيم له من نفسك.
فهكذا المحبون لله، العاشقون لصنعته وقدرته، ويتأملون في بدائع خلق الله وتصنيفه، ويتدبرون في دقائق حكمة الله وعنايته في وجود السموات والأرض وما بينهما، ثم اعلم أن نظر العشاق الإلهيين في كل شيء نظر آخر، لأن عيونهم مكحلة بسواد الزبر الموروثة من الأنبياء، وبصائرهم منورة بأنوار متابعة سيد الرسل (عليه وآله الصلاة والدعاء) وكلما نظروا فيه بعين التوحيد، نظر غيرهم بعين التفرقة، وكلما ينظر فيه الطبيعي أو الطبيب ويكون سبب ضلالهم وشقاوتهم، ينظر فيه الموحد الموفق ويكون سبب هدايته وسعادته.
وما من ذرة في السماء والأرض والبر والبحر إلا والله يضل بها ما يشاء، ويهدي من يشاء، فمن نظر في هذه الأمور من حيث إنها فعل الله وصنعه، وأثر من آثار وجوده وكرمه وآلهيته، استفاد منها المعرفة واهتدى، ومن تأمل فيها قاصرا للنظر، من حيث لها طبيعتها الجزئية وغايتها القريبة، ومن حيث يؤثر بعضها في بعض، لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب حتى يكون طريقا من طرق الإرتقاء إلى فاطر الماهيات، فقد شقي وتردى - فنعوذ بالله من الضلال ونسأله أن يجنبنا مزلة أقدام الجهال بمنه وفضله -.
[36.74-75]
لما ذكر لمعة من شواهد إلهيته، ودلائل توحيده وعظمته وقدرته، الموجبة للإهتداء إلى طريق معرفته وعبوديته وشكر نعمته، أشار إلى سقوط درجة النازلين إلى مهوى الهوى والهوان، الهابطين في مهبط الخزي والخسران، وهم الذين اتخذوا من دونه آلهة يعبدونها لكي ينصرونهم ويدفعوا عنهم عذاب الله، وبين فساد جهلهم الذي هو أصل كفرهم وشركهم بأن هذه الآلهة التي اعتقدوها واتخذوها آلهة وعبدوها ليتقوا (ليتقربوا) بها، ويعتضدوا بمكانها، لا يقتدر شيء منها على نصرهم، ولا يستطيع الذب عنهم، بل الأمر على عكس ما قدروا وتصوروا، حيث هؤلاء من خدام آلهتهم محضرون معدون لخدمتها يخدمونها ويذبون عنها ويغضبون لها كالجنود والأعوان.
وبهذا جرى حكم الله وقضاؤه باستيلاء الدواعي الباطلة على نفوس هؤلاء البطالين الجهلة، لمصلحة قدرية وحكمة قضائية تعلقت بطاعتهم وخدمتهم لهذه الأصنام، وعبوديتهم لهذه التماثيل المنصوبة من الأجسام أو الأصنام أو غيرها، لتشارك الجهالة وموت القلب، واتفاق الجنسية والظلمة والخسة والدناءة.
وعن بعضهم: معناه: اتخذوهم لينصرونهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر خلاف ما توهموا، حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم، محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلون وقودا للنار.
وعن الجبائي: أن معنى قوله تعالى: { وهم لهم جند محضرون }: إن هذه الآلهة معهم في النار محضرون، لأن كل حزب مع ما عبدته من الأوثان في النار، فلا الجند يدفعون عنها الإحراق، ولا هي تدفع عنهم العذاب. وهذا كما قال تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء:98].
مكاشفة قرآنية
اعلم، هداك الله طريق معرفته وعبوديته، إن كل من أحب شيئا محبة نفسانية، أو اعتقد معبودا حصر الإلهية فيه من المعتقدات المخالفة لما هو الحق في ذاته، فهو بالحقيقة مشرك عابد للصنم - سواء كان صنمه صورة موهومة أو شبحا محسوسا - وقد مر أنه لا يعتقد معتقد من المحجوبين الذين جعلوا الآله منحصرا في صورة معتقدهم فقط، إلا بما جعل في نفسه وتصوره بوهمه، فإن الإله من حيث ذاته منزه عن التعين والتقيد، وبحسب أسمائه وصفاته له ظهورات في صور مختلفة، فكل من أحب غير الله كحب الله، فلم يكن أهلا لمحبة الله مخلصا، بل طردته العزة والغيرة الإلهية إلى محبة الأنداد، واتخاذ ما هو دون الله، سواء كانت الأهل والأولاد والأحجار والأجساد.
وتحقيق ذلك: أن كل محبة لشيء فهو عبودية له، والمحبة نوعان: محبة هي من صفات النفس الإنسانية، - وهي من هوى النفس الأمارة بالسوء -، ومحبة هي من صفات الحق - وهي محبة المعرفة والحكمة -، كما في قوله تعالى: (كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف) فكما أن محبوب الحق كونه معروفا، فمحبوب أهل الله كونهم عارفين له، كما أشار إليه قوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54] فمن وكل إلى محبته النفسانية تعلقت محبته بما يلائم هوى النفس وشهواتها - من الأصنام وغيرها -.
فكما أن الكفار بعضهم يحبون اللات ويعبدونها، وبعضهم يحبون العزى ويعبدونها، كذلك أهل الدنيا، بعضهم يحبون الأموال ويعبدونها، وبعضهم يحبون الأولاد ويعبدونها، كما قال تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله
[البقرة:165] ولقد حذر الله تعالى الخلق عن فتنة هذه الأشياء وأعلمهم عداوتها بقوله:
إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة
[التغابن:15] وبقوله:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم
[التغابن:14] يعني: فاحذروا عن محبتهم، لأنها عدو لكم يمنعكم عن محبة الله، - وهو الحبيب الحقيقي والمقصود الأصلي - وإنهم العدو.
فمن أحب الله، ينظر إلى ما سواه من حيث ما هو سواه بنظر العداوة، كما كان حال الخليل (عليه السلام) فقال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء:77].
ومن كان في الأزل أهلا لمحبة الله وعبوديته، فما وكل إلى المحبة النفسانية الشيطانية، بل جذبته العناية الأزلية ونظمته في سلك الكناية من قول " يحبهم " فيتجلى لهم بصفة المحبة، فانعكست تلك المحبة لمرائى قلوبهم، فبتلك المحبة يحبونه، فلا تتعلق تلك المحبة بغير الله، لأنها فائضة من عالم الوحدة فلا تقبل الشركة، كما قال تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة:165] ولو أحب غيره لأحبه من حيث كونه وليا له، نبيا مبعوثا من حضرته، أو كتابا نازلا من عنده، أو أمة قانتا لله.
ولأن الأعداء - كأهل الدنيا - أحبوا الأنداد بمحبة فانية نفسانية، والأحباء أحبوا الله بمحبة باقية أزلية، فلا محالة، لما تقطعت بالموت عنهم هذه الأسباب، ورأوا مبادئ العذاب، يتبرء أهل هذه المحبة الفانية بعضهم عن بعض، كما قال تعالى:
إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب
[البقرة:166] ويكون حاصل أمرهم الفرقة والعداوة والتبري، كقوله
يليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين
[الزخرف:38] وقوله:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف:67].
إذا تحققت ما ذكرناه، وفهمت ما مهدناه فاعلم أن المراد من قوله: { واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون } ، هو اتخاذ ما سوى الله للمحبة النفسانية التي ترجع إلى عبادة الصور الوهمية، إذ من أحب غير الله فهو لا يزال يعبده ويخدمه ويتوسل إليه، ويتحرى الطريق إلى وصلته، والتقرب منه والاتحاد به، ويتصور أن الوصول إليه يستلزم النصرة له، ويدخل السرور في قلبه، ويوجب له اللذة الوافرة والسكون والراحة والطمأنينة.
وهذا حال أكثر الناس في المستلذات الحسية، مثل الأهل، والمال، والولد، والجاه، والرفعة، والإشتهار، والصيت، والتقرب من الملوك والسلاطين، وهكذا حال من يتولى الشياطين، ويحب أهل الملل الباطلة وأصحاب الأديان الفاسدة، وكذا كل من يعتقد شيخا وإماما تعصبا وافتخارا لا من جهة المحبة الإيمانية والمحبة الإلهية، وطلب الإهتداء بالله، وتحصيل المعرفة واليقين، فإن الجميع متخذون من دون الله آلهة عابدون إياها، لاغترارهم بظنونهم الفاسدة أن هذه الآلهة الباطلة ينصرونهم من دون الله.
وذلك لجهلهم بالمعارف الحقة، وإعراضهم عن ذكر الله والتدبر في آياته وأفعاله، كما في قوله تعالى:
بل هم عن ذكر ربهم معرضون * أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون * بل متعنا هؤلاء وآبآءهم حتى طال عليهم العمر
[الأنبياء:42 - 44] ومن عرف الله وعرف صفاته وأفعاله، ونظر إلى الأشياء بنظر التوحيد الافعالي، يقول لهؤلاء المتخذين غير الله مخدومين معبودين:
أف لكم ولما تعبدون
[الأنبياء:67]، ويعلم أن لا هادي ولا معطي إلا الله، وأن لا يستطيع أحد نصره إلا الله، ولا يشفع له شفاعة إلا بإذن الله، كما قال تعالى: { لا يستطيعون نصرهم } وكقوله:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة:255].
وأما قوله: { وهم لهم جند محضرون } فيحتمل أن يراد به أن عبدة الهوى وأحباء الشهوة والدنيا، يتخذون الأهل والأولاد والأحفاد والعبيد والخدام أحباء من دون الله بمحبة فانية نفسانية، ويعتقدون أن هذه خدام لهم، وجنود وأعوان ينصرونهم - وهذا حال كل من طلب الدنيا وذهل عن الآخرة ونسي ذكر الله -.
ولا يعلم المسكين المسخر للشيطان المسحور بسحر الدنيا، أن الشيطان اللعين سخر عقله واستخدمه، وجعله رهين الشهوات وعرضة البليات والآفات، وصيره دائما مشغوفا بتحصيل الأسباب وطلب المناصب والمهمات، وجمع الذخائر والأموال، ومشغولا بالسعي والكد والتعب والقيل والقال، ومعارضة الأعداء والحساد، والمجادلة مع الخصماء والأنداد، وارتكاب المخاطر والأهوال، وقطع المفاوز والبوادي البعيدة، وركوب البحار المهلكة، حتى يهلكه في أي واد أراد، ويجعله جسرا يعبر به أهل الشهوات في طلب المراد وطريقا إلى جهنم وبئس المهاد.
ومن نظر بعين الحقيقة، يعلم أن لا حاصل له في هذه المحن الشديدة، ولا طائل تحت هذه المساعي الكثيرة، ولا فيما يتعلق به، إلا أنه صار بحسب التقدير وسيلة لأن ينتظم أحوال شهوات جماعة ارتبطت شهواتهم بسعي هذا الأحمق السفيه، وانتظمت أرزاقهم بكده وارتباطه، فعلى التحقيق هو من جملة خدام القوى الشهوية والغضبية لهذه المسميات بالأهل والعبيد، والخدم والجنود، لا أنهم عبيده وخدمه وجنوده، إلا أن هذا الأحمق وكثير من الحمقى - الذين عقولهم في هذه المرتبة - يزعمون أن أمثالهم ومن هو في مرتبتهم مخاديم والمتعلقون بهم أتباعهم وجنودهم.
ولما كان هذا من الأغلاط الفاحشة الشائعة بين الأنام، أراد الله أن يكشف عنه وأزاحه عن الأوهام فقال: { وهم لهم جند محضرون } ، وسبب ذلك، أن هذا العالم عالم الانتكاس والإنعكاس، يرى فيه الخادم مخدوما والفقير غنيا، والنار نورا والظل حرورا، والقبيح حسنا، والحسن قبيحا، والموت حياة والحياة مماتا، والذلة لذة، والناظرون بعين الشهود والمعرفة يرون بواطن الأمور، ويشاهدون اشتغال الخلق بطلب ما هو سبب النكال والوبال، ويتعجبون من شغفهم بصحبة المؤذيات، وسعيهم في خدمة العقارب والحيات، وتسميتهم لها من الحظوظ واللذات، وطاعتهم للكلاب والذئاب، وعدهم لها من جملة الأصحاب والأحباب، ويشاهدون عجائب عديدة وغرائب كثيرة:
منها: أن رجلا يعيش في قعر بئر مظلم في مزبلة، عليها سماد طرية، وجيف منتة، يأكل الدم والصديد والقاذورات، ويشرب الحميم والزقوم، وأكثر طعامه من غسلين، وشرابه من أبوال الحيوانات، ويعاشر امرأة قبيحة منتنة ركيكة مريضة، عليها أوجاع وجراحات لا تحصى، ويتغنى الرجل في جلود غير مدبوغة بألحان غير موزونة، يصف بها حسن امرأته، وهو بنفسه يضرب الدف ويرقص فرحا ويسأل الله أن يثبته على هذه الحالة أبدا.
ومنها: أن رجلا ضعيفا عاجزا به أمراض وجراحات ومحن لا تحصى، في خربة من المغارة (المفازة) المنقوشة، يدعي أن تلك الخربة عمارات، وتلك الجراحات راحات، وتلك النقوش والصور خدمه وحشمه، وهو ملك عظيم قدير يفعل ما يشاء، وبيده ملكوت الأشياء وعنده حقائق الأنباء.
فانتبه يا نائم، واستقم يا هائم، واعتصم بحبل الله المتين ليصعدك من مهوى عالم الشياطين - العارفين بعلم السيمياء، القادرين على إراءة الأشياء لا على ما هي عليها -، لعلك تنجو من عذاب أليم، وتصل إلى الرضوان والنعيم.
[36.76]
قرئ " فلا يحزنك " - بفتح الياء - من " حزنه " وبضمها من " أحزنه ".
وقرئ " أنا " - بفتح الهمزة - ولا ضير فيه كما توهم، لأنه إما على حذف لام التعليل، وهو شائع في القرآن والحديث، وقياس مطرد في الكلام دائر على ألسنة الفصحاء، وعلى هذا يكون معناه ومعنى " أنا " - بالكسر - واحدا، وكذلك في التلبية من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الحمد والنعمة لك "
روى بعضهم الكسر في " ان " وبعضهم الفتح فيها، والمعنى لا يتغير، لأن كلاهما تعليل، وإما على أن يكون بدلا من: " قولهم " كأنه قيل: " فلا يحزنك أنا نعلم ما يسرون ما يعلنون " ، وهذا المعنى محتمل مع الكسر أيضا إذ جعلت الجملة مفعولة للقول.
وعلى أي الوجهين - من الكسر والفتح - فالمعنى المختار؛ هو أنه لا يحزنك قولهم، ولا يهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، فإنا عالمون بما يسرون من عداوتهم وما يعلنون من انكارهم، فنحن مجازون إياهم عليهما، فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد لأعدائه، ويستحضر في نفسه صورة حاله في الدنيا وحالهم في الآخرة حتى ترتفع عنه الهموم، أو يتصور صورة حاله في الآخرة وحالهم في الدنيا كيلا ترهقه الأحزان.
فتعلق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر " ان " وفتحها كما توهم، وإنما يدوران على التقدير، فإن فتحت " أن " فتقدر معنى التعليل ولا تقدر البدل، وإذا كسرتها فتقدر التعليل ولا تقدر المفعولية، حتى تنجو من المعنى المعطى للكفر باعتقادك، على أن نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الحزن على كونه تعالى عالما بسرهم وعلانيتهم، ليس مما يوجب شيئا نكرا، ولكن من قبيل قوله:
فلا تكونن ظهيرا للكافرين
[القصص:86]
ولا تكونن من المشركين
[يونس:105]
ولا تدع مع الله إلها آخر
[القصص:88].
[36.77]
لما أشار إلى مخاصمة أعداء الدين لسيد المرسلين، وتكذيبهم إياه في ما أتى به من الآيات البينات، وما أنذر به من أمور الآخرة والقيامة والبعث والحشر، وذكر ما يتسلى به الرسول (صلى الله عليه وآله)، فأراد أن يشير إلى تقبيح إنكارهم للحق، ومخاصمتهم للرسول، وتكذيبهم للبعث بأبلغ وجه وأشنع صورة، وأول دليل على غيهم وضلالهم، وتمادي كفرهم وإصرارهم، وأعدل شاهد على جحودهم للنعم والأيادي، وعقوقهم بر المنعم عليهم وإحسانه، وتغلغلهم في الخسة والدناءة، وتوغلهم في المذلة والرداءة، حيث قرر ذلك بأن عنصرهم الذي خلقهم منه أخس شيء وأمهنه، وهو النطفة القذرة المذرة المنتنة، الخارجة من الأحليل - الذي هو قناة النجاسة -.
ولقد كرر الله ذكر النطفة التي منها بدء خلقة الإنسان في مواضع كثيرة من القرآن، ليتفكر أنه من أي شيء خلقه الله، ولئلا ينسى ذاته ويغفل عن شكر منعمه وخالقه المعبود، الذي خلقه من أوهن مادة وأنجس طينة، وشرفه بكسوة هذا الوجود، وصوره في أحسن صورة وتقويم، فقال:
قتل الإنسان مآ أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شآء أنشره
[عبس:17 - 22]. وقال في موضع آخر:
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون
[الروم:20] وقال أيضا:
ألم يك نطفة من مني يمنى
[القيامة:37] إلى غير ذلك من الآيات.
فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز، ليس بمجرد سماع لفظها ترك التفكر في معناها، بل لينظر الإنسان إلى النطفة التي منها بدء خلقه، فيعلم أنها مادة قذرة لو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وتفتتت، وتفكر في أنها كيف أخرجها ربها رب الأرباب من بين الصلب والترائب، ولولا عنايته وجوده في حق هذا المولود، فمن الذي أخرجها ونقلها في أطوارها، ثم في أنه كيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، بل كيف جمع بين الأجداد والجدات وألقى المحبة بينهم والألفة في قلوبهم، وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى هذا الإجتماع.
ثم كيف استخرج النطفة عن الرجل بحركة الوقاع، وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعها في الرحم، ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بدم الحيض وغذاه حتى نما وتربى وكبر، وكيف جعل النطفة - وهي بيضاء - علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة، ثم كيف قسم أجزاء النطفة - وهي متشابهة ومتساوية - إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم، ثم كيف ركب من اللحم والعظم والأعصاب والعروق وغيرها من الأعضاء الظاهرة المتشكلة بأشكال مختلفة، فدور الرأس، وشق السمع والبصر وسائر المنافذ، ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع، وقسم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مشخص لعمل معين، ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام: فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لفائدة معينة بحيث لو فقدت طبقة منها أو زالت عن موضعها ووصفها لعطلت العين.
فلو ذهبنا نصف في آحاد هذه الأعضاء وأقسامها، وأقسام أقسامها، وفوائدها وغاياتها، لانقضت الأعمار دون وصف عشر عشير من الأعشار.
فقد عجب الله تعالى من حال من كان أوله وأصله على هذه المهانة والخسة، ثم يتصدى لمخاصمة من رباه وأنماه وأعطاه كسوة بعد كسوة، وصورة غب صورة، وحرسه عن الآفات، وصانه عن المفسدات والمهلكات، وأخرجه من ظلمات ثلاث إلى فضاء العالم ورزقه من الطيبات، ورقاه من طور إلى طور ومن حال إلى حال، إلى أن كمل عقله وصار مكملا، فيتصدى لمخاصمة الجبار ويبرز المجادلة للعزيز القهار، راكبا متن الباطل، متلبسا لباس اللجاج والعناد، ذاهبا طريق الجاهلية الأولى، ناكصا على عقبيه، راجعا إلى المنزل الأدنى.
فهذا غاية شدة السفاهة والقباحة، ونهاية الخسة والوقاحة، حيث خاصم مثل هذا الخسيس الأدنى لمثل ذلك العلي الأعلى، بعد سبق هذه العطايا المتوافرة والنعم المتكاثرة، في أمر الهداية إلى طريق السعادة، وإنذار رسول مبلغ مرسل من قبله من أعلى عليين إلى هذا الذليل المهين، الواقع في أسفل السافلين، ليهديه ويرشده هذا الناصح ويهذبه ويخلصه من مهوى الشياطين، وينجيه من عذاب أليم، ويعرج به إلى الدرجات العلى في جوار رب العالمين، فيكذب رسوله ويؤذيه ويستهزئ به، ويمده في طغيانه وجهله وعناده واستكباره وإنكاره ليوم الدين.
فما أعجب هذا الطغيان! وما أشنع هذا الكفران! وما أنزل صاحبه في مهوى الخسة والهوان! وما أبعده من رحمة الغفور الرحمان!.
نكتة فرقانية في كرامة نبوية
ومما يخطر بالبال في سياق هذه الآية واتصالها بما سبق، إنه قد سلى سبحانه في الآية السابقة لرسوله (صلى الله عليه وآله) من مخاصمة أعدائه، وتكذيبهم إياه، واعلانهم مخاصمته، وإضمارهم معاداته، بأنا نعلم ذلك، ومن علم بما يصل إلى حبيبه من خصمائه وأعدائه من الأذى والجفاء - ظاهرة وباطنة، إعلانا وأسرارا - وهو قادر على مجازاتهم وتعذيبهم وإيلامهم، فمعلوم ثابت أنه يجازيهم بأبلغ الجزاء ويعاقبهم بأشد العقاب.
ثم ما اكتفى بهذه التسلية العظيمة التي جرت بها عادة المحبين في تسلية محبوبيهم من خصومة الأعادي ، حتى جعل خصوم الحبيب خصومه، وأخذ موبخا لهم في هذه الخصومة، مقبحا لهم بأبلغ وجه وآكده، فإن قوله: { فإذا هو خصيم مبين } ، إنما وقع موقع الأمر العجيب في الركاكة والقبح إذا كانت خصومته مقيسة إلى من خلقه من أصله الخسيس، ورباه وقواه إلى أن صار رجلا مميزا منطقيا، فإذا هو بعد ما كان ماءا مهينا صار خصيما مبينا - يفعل الخصومة مع خالقه وربه -.
فإذا كانت خصومته في أمر المعاد مع خالقه الذي خلقه من أخس المواد، وشرفه على جملة المكونات من الحيوان والنبات والجماد، وكان مبتدء الكلام في مخاصمتهم وتكذيبهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد دل السياق على أن الخصومة مع الرسول (صلى الله عليه وآله)، هي بعينها الخصومة مع الله، وكان على وزان قوله تعالى:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح:10] ونظائر ذلك.
[36.78]
" روي أن جماعة من كفار قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو لهب والعاصي بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك، فقال واحد منهم: " ألا ترون إلى ما يقول محمد، أن الله يبعث الأموات؟ - ثم قال: - واللات والعزى لأصيرن إليه ولأخصمنه " وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويقول: " يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم؟ " قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " نعم - ويبعثكم ويدخلك جهنم " ".
واختلفوا في القائل، فقيل هو أبي بن خلف - عن قتادة ومجاهد، وهو المروي عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)، وقيل: القائل هو العاص بن وائل السهمي - عن سعيد بن جبير - وقيل: أمية بن خلف - عن الحسن -.
وتسمية الله قوله: { من يحيي العظام وهي رميم } مثلا يحتمل وجوها:
أحدها: أنه ضرب المثل في انكاره البعث بالعظم البالي، وفته بيده، ويتعجب ممن يقول: " إن الله يحييه " ونسي خلقه، أي ترك النظر والتدبر في خلق نفسه، إذ خلق من نطفة، فإن النطفة الذائبة ليست في وهنها وبعدها عن الحياة أقل من العظم البالي في بعده عنه.
وثانيها: أن كونه مثلا لأجل ما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكارهم قدرة الله على إحياء الموتى بعد تسليمهم انشاءه ابتداءا.
وثالثها: لما فيه من التشبيه، لأن ما أنكر من قبيل ما سلم من شمول قدرته تعالى بدليل النشأة الأولى.
ورابعها: لاشتماله على ما يوجب تشبيهه تعالى بخلقه في العجز من احياء شيء وإيجاد ماهية، فإن قدرته سارية في جميع الأشياء، فإذا قيل: " من الذي يحيي العظام الرميم " كان ذلك تعجيزا لله وتشبيها له بخلقه في اتصافهم بالعجز عن ذلك.
و " الرميم ": اسم لما بلي من العظام، غير صفة كالرمة والرفات ولذا لم يؤنث مع كونه وقع خبر المؤنث.
تبيان
في هذه الآية إشارة إلى أن معرفة النفس الإنسانية أساس الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن قوله: { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه } يدل على أن جحود الجاحد للحق إنما نشأ من نسيان ذاته وخلقه، فهو بمنزلة عكس لقوله:
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
[الحشر:19] تأمل.
وهم وتنوير
ومن الفقهاء من استدل بهذه الآية على أن الحياة سارية في العظام، ولولا أن الحياة تحلها لما صح:
قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة
[يس:79]، ففرع عليه أن عظام الميتة نجسة، لأن الموت يؤثر فيها من قبل أنها مما تحله الحياة.
وهذا الاستدلال فاسد، لأن معنى إحياء العظام الرميم ليس تصيير العظام - بما هي عظام - أحياء، بل إحياؤها انبات أعضاء قابلة للحياة عليها، والغرض إثبات الإعادة للإنسان وصيرورته حيا بعد موته ورم عظامه، وليس الإنسان عظما كما ليس لحما وعصبا، بل مجموعا مركبا من العظم واللحم وغيرهما.
ومعنى حلول الحياة في اللحم دون العظم - كما قيل - ليس أن اللحم بنفسه حيوان دون العظم، بل معناه أن بعض قوى الحيوان كالقوة اللمسية وغيرها سارية في اللحم بتوسط الروح البخارية والعصب الحامل إياها، وليست هي سارية في العظم، ولهذا إذا انقطعت الحياة عن الحيوان وفارقت نفسه، تلاشت الأعضاء النافذة فيها قوة الحياة قريبا، وتغيرت فورا دون العظم والشعر وغيرهما.
[36.79]
قل يا محمد، لهذا المتعجب من الإعادة: إن المحيي لهذه العظام، المعيد لها يوم القيامة، هو الذي أنشأها أول مرة من المادة الترابية ثم المنوية، والتراب أبعد مناسبة إلى الصورة الإنسانية، وكذا النطفة الذائبة الواهنة الأساس، أبعد استعدادا في قبول التقويم من العظم الرميم، فمن قدر على اختراع شيء أولا فهو على اعادته أقدر، وإنشاؤه عليه ثانيا أسهل وأيسر وهو بكل خلق عليم، سواء كان ابتدائيا أو إعاديا، فيعلم به قبل أن يخلقه أنه إذا خلقه كيف يكون، ويعلم به قبل أن يعيده أنه إذا أعاده كيف يكون، فيكون قادرا عليه.
اشارة
لا يعبد أن يكون المراد من قوله: وهو بكل خلق عليم، أن مجرد علمه تعالى بوجه الخير في كل شيء، هو السبب الداعي لوجود ذلك الشيء، ومن جملة الأشياء المعلومة له تعالى، إعادة الإنسان، فتكون لا محالة واقعة، لكون علمه تعالى فعليا.
اشارة أخرى
يحتمل أن يراد أن أحياء العظام وردها إلى ما كانت غضة رطبة ذات حياة وحس بعد موتها ويبسها وتفتتها وإن كان بعيدا عن استعدادها واستحقاقها في نظر العقول البشرية، إلا أن لكل مادة من المواد يتصور بينها وبين أية صورة شريفة أو خسيسة تراد، أمورا متوسطة متلاحقة متفاوتة في القرب والبعد إلى تلك الصورة، ويكون لحوق تلك الأمور واحدا بعد آخر، مقربا لها من الفاعل الواهب للصور، وطريقا منها مؤديا إلى قبول القدرة من خالق القوى والقدر، تسلكه وتنتقل إليه من درجة إلى درجة، حتى تصل إلى مرتبة يشتد بها الإستعداد لقبول تلك الصورة، وتتقرب بها من المعطي الجواد، فلكل شيء طريق خاص إلى الله تعالى إذا سلكه يصل إلى رحمته وفيض وجوده، إذ وجوده منبع كل الكمالات والخيرات - ولكل وجهة هو موليها -.
فقوله: { وهو بكل خلق عليم } ، أي أنه سبحانه عالم بكيفية خلق كل شيء، وبالطريق التي يتهيأ بها وجوده، فيسبب أسبابه من تلك الطرق، فيوجده بعد تحصيل أسبابه، ففيه إشارة إلى إحاطة علمه بطرق تأدية الأشياء إلى ما قدر لها في القضاء السابق، فيعلم طريق كل أحد إلى سعادته وخيره، وطريق كل أحد إلى شقاوته وضره، إلا أن الأول منوط بتوفيقه وتسديده، والثاني مترتب على ما كسبته أيدي الناس عند انحرافهم عن الصراط بمتابعة الناس والوسواس.
اشارة أخرى
هي أن الإنسان لا يحيط علمه بجميع وجوه المناسبات بين الأشياء، فلو اجتمع العقلاء وجمعوا عقولهم في أن يدركوا جهة المناسبة بين المغناطيس وجذبه للحديد لما قدروا على ادراكها، فعلم أن في الطبيعة عجائب غريبة، وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات واتفاقات على أسياء نادرة، فلكل معلول أسباب خفية لا يعلمها إلا الله.
والإنسان لجهله بوجود الأسباب ووجوه المناسبات بين كل حادث وسببه، أخذ يتعجب من حدوث الآثار الغريبة عن بعض الأشياء، لكونها غير معهودة الحصول عنده عن هذه الأشياء - كما في هذه المسألة -، فان المعهود عنده حصول الإنسان من مادة منوية حاصلة من فضول رطوبات الأبوين، ولم يعهد عنده حصول الإنسان مرة ثانية من عظامه الرميمة، فليستبعد غاية الاستبعاد ويتعجب غاية التعجب، على أن أكثر الأشياء لو قطع النظر عن تكرر مشاهدة الإنسان حدوثها، يكون حالها هذا الحال:
منها: حدوث الإنسان بعينه عن هذه الأسباب، فإن أحدا لو لم يكن رأى تولد الإنسان، وحكي له كيفية تولده عن الأبوين بعد اجتماعهما وانفصال شيء قليل المقدار من أحدهما في جوف الآخر، ثم خروجه بعد تسعة أشهر من مسلك ضيق شخصا متكثر الأعضاء، مختلف الأشكال، ذا حواس مختلفة وحركات متفننة، مبائن الحقيقة لتلك الرطوبة في جميع صفاته سوى الجسمية، ثم بعد خروجه اهتدائه بمص الضرع وبكائه أن منع منه ساعة، ففيه شهوة وغضب، ومحبة وخصومة، وكذا سائر صفاته وآثاره المعلومة وغير المعلومة، فلا يكاد أن يذعن به.
فهكذا حال المنكر للبعث، وتعجبه عن إعادة الإنسان مرة أخرى في دار القيامة، فالله تعالى نبه على أن تعجبه إنما يكون لجهله بوجه المناسبة بين كل مادة وما يخلق منها، فقوله تعالى:
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه
[يس:77 - 78] إشارة إلى أن التعجب في تولده ابتداءا أكثر من التعجب في إعادته ثانيا، ففي كون الإنسان موضع التعجب بحسب خلقته من النطفة أولا، أليق وأولى من كونه كذلك بحسب نشوه الأخروي من أعضائه البالية ثانيا.
وقوله: { وهو بكل خلق عليم }: إشارة إلى أن جهة الإرتباط بين كل مادة وما يطرء عليها من الصور، لا يعلمها إلا هو، فيجب على المكلف أن يؤمن بما أخبر به الصادق المصدق عن ربه.
ومما يؤيد هذا الوجه ويؤكده، تعقيب هذه الآية بما يتلوها وهو قوله سبحانه:
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون } [يس:80].
[36.80]
فإن المنكر للمعاد لما مثل لإثبات مدعاه من استحالة أن يبعث الإنسان بمثال يتعجب به، وذلك هو تكون الإنسان من العظم البالي، فضرب الله مثالا آخر في مقابلة مثاله، بكون تكون ما يتكون منه أعجب وأبعد في نظر العقل مما يتعجب هو منه، ومع ذلك فهو أمر معلوم مشاهد لا يمكن لأحد إنكاره، فذكر من بدائع خلقه وعجائب فطرته، مثال انقداح النار من الشجر الأخضر، وهو أمر عجيب الشأن كثيرا، فإن النار مضادة للماء بكلتا كيفيتيه، لحرارتها وبرودته، ويبوستها ورطوبته، فينطفي عند وصوله إليها، فكيف تتولد هي منه.
فلو قيل لأحد: إن الشجر الرطب المطفي للنار يتولد منه نار محرقة له، وأن النار تنقدح من الشجر الأخضر، وأنها من الزناد التي توري بها الأعراب وأهل البوادي، كما أذعن به ابتداء، فالمرخ والعفار من الأشجار لها هذه الخاصية، يقطع منهما غصنتان مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيتخذ الرجل وقوده منهما ويسحق " المرخ " وهو الذكر على " العفار " وهي أنثى فتنقدح له النار بإذن الله.
وقيل: في كل شجر نار، إذا احتاج الإنسان حك بعضه ببعض فيخرج منه النار، وفي أمثال العرب: " في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ".
وعن ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب. قالوا: ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين.
و " الأخضر " بالتذكير، لأنه محمول على اللفظ - وقرئ " الخضراء " حملا على المعنى، ونحوه قوله تعالى:
من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم
[الواقعة:52 - 54] فالذي خلق بقدرته النار المحرقة من الشجرة الرطبة، فبأن يكون قادرا على خلق الإنسان مما بقي منه أحرى، ولإذعان العقول به أولى.
توضيح تنبيهي وتمثيل تفصيلي
إن أكثر أعداء الأنبياء وخصماء الأولياء هم جهلة الطبيعيين وأوساخ الدهريين، ومن يحذو حذوهم - كالأطباء والمتشبهين بالحكماء، المتشبثين بذيل الفلاسفة - عادتهم أن يأخذوا في طلب العلة واللمية لكل شيء، وجعلوا مدار امتيازهم عن العوام وآحاد أهل الإسلام أن يعترضوا منكرين لكل شيء، لم يعلموا أن خصوصيات المواد الجزئية ليس في وسع العقول البشرية - ما دامت في كورة الطبيعة - أن تقيم الحجة على كل منها، بل لها بعد الإطلاع على كليات المعارف الإعتقادية، قبول الخصوصيات التي لم يقم بين يديها دليل على استحالتها عند سماعها عمن لا يشغل سره غير الحق، ولا يتمجمج لسانه بالباطل، أو التوقف فيها إذا لم يترجح فيها جانب على جانب لديه.
فالجاهل من الطبيعي ومن يحذو حذوه، يأخذون في طلب علة كل شيء خاصية كالطبيعة التي لسقمونيا لاسهال الصفراء، وطبيعة افتيمون لإسهال السوداء، بما ليس في عناصره ومواده ذاك، وكذا الطبيعة المقناطيسية لجذب الحديد، وكما أنهم يطلبون العلة في آحاد البسائط، ويريدون أن تكون العلة مستفادة من عنصر الشيء، ولا يحيلونها إلى الأمور الإلهية التي تنبعث منها أسباب كل شيء ومبادئه، بل يطلبون أن يخيل لهم كل قوة وكل طبيعة حتى تصير مرتسمة في أذهانهم من غير ارتياض لهم في العقليات، ولا مكاشفات ذوقية لهم في السمعيات، ولم يعلموا أن غاية ما يمكن أن يعطى من السبب في وجود الطبائع وترتب آثارها العجيبة، من جذب المقناطيس، وتوري المرخ والعفار، وسمية البيش وترياقية الجدوار أمور ثلاثة:
أحدها: الفاعل - وهو تدبير الصانع وجوده وعدله وإعطائه كل شيء بموجب الحكمة والجود ما يليق اعطائه إياه، والصانع أعطى الهيولى التي أبدعها من الصور ما كان يجب في حكمته وجوده على التقسيم والتقسيط، الذي كان يقتضيه تقديره وعدله.
والثاني: القابل - وهو أن يقال إن القابل كان مستعدا لهذا الضرب من التخليق والتصوير، وكان استعداد ما يحصل له في حال البساطة قبل التركيب استعدادا آخر، وما يحصل له بعد التركيب وتلاحق الأمور به بحسب أنحاء التركيب وأنواع التمزيج استعدا آخر.
والثالث: الغاية - وهو الغرض الحكمي في صنع الصانع ما صنع لأجله، وله الخلق والأمر، تعالى عما يصفه الجاهلون - وعن خلو فعله عن داع وغاية كما زعمه الأكثرون - علوا كبيرا.
فهذه الأمور غاية ما تصل إليه أفهام العقول، وأما ما وراء ذلك فمما يقصر الإدراك البشري عن إدراكه، ولا يمكن الوصول إليه بطور العقل النظري إلا بمتابعة الأنبياء والإقتداء بآثارهم، والاقتباس من مشكاة أنوارهم، والعجب من هؤلاء إذ هم لا يتعجبون من النار كيف تفرق المجتمع، وكيف تحيل أجساما كثيرة إلى مثل طبيعتها في ساعة، ولا يشتغلون بالبحث عن علته وغايته، ما يجيبون عنه إذا سئلوا ذلك أن يقولوا: لأن النار حارة.
ثم السؤال عائد في النار لم تفعل هذا؟ فيكون منتهى الجواب للطبيعي أن يقول: إن الحرارة قوة من شأنها أن تفعل ذلك الفعل.
ثم إن سئلوا بعد هذا أنه لم كان هذا الجسم حارا دون البارد؟ لم يكن جوابهم إلا الجواب الإلهي، إن إرادة الصانع هكذا، ثم يتعجبون من حكايات الأنبياء ومعجزاتهم وأخبارهم عن خواص بعض الأشياء، وإنذارهم بالأمور الأخروية وما يترتب على كل فعل إنساني، من الثواب للمحسن، والعقاب للمسيء ويشتغلون في كل حكم بالبحث عن علته وطلب اللمية له، ولا يقتنعون بجواب المجيب الإلهي، من أن خاصية هذا الشيء ترتب الأثر الفلاني عليه، وأن سبب وجوده على هذا الوجه إرادة الصانع بجهات فاعلية عند حصول الأسباب المستندة إليه تعالى. كما أن سبب كون السماء سماء والأرض أرضا ارادته وعلمه الأزلي بكيفية نظام العالم، ويسخرون ممن يجيب بهذا الجواب.
وليس هذا الجواب قاصرا عن الجواب الأول الذي سبق ذكره، وليس ما يتعجب المنكر للمعاد من احياء العظام الميتة البالية، بأعجب من إذابة النار الحديد والحجر في ساعة قصيرة، لكن الناس تعجبوا عما استندروه، وحملهم التعجب على طلب العلة فيما تعجبوا عنه، ولم يعرض لهم طلب اللم فيما كثرت مشاهدتهم له، وإن كان المشاهد أعجب.
وفي المركبات العنصرية ما حكمه أعجب من الأمور النادرة، فإن حركة البدن الثقيل إلى فوق وإلى جوانب مختلفة بمجرد إرادة النفس، أعجب من كل عجيب يندر وجوده، ومع ذلك فكم من إنسان لا يتعجب عنها أصلا لعدم تنبه قلبه، وأخذ يتعجب من مثل المغناطيس في جذبها الحديد، بل من حركات المشعبذين.
وهؤلاء المتفلسفة لما لم يعرفوا الأصول، وأخذوا يتعجبون من النادر ينكرون أمور الوحي وما ينتمي إليه، حيث لم تضطرهم المشاهدة إلى الإقرار إلا في دار القرار، وهناك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
فهؤلاء أعند المعاندين للحق، وأعدى الأعداء لله ولرسوله، حيث أنكروا الوحي ومعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، بل الرؤيا والكهانة والوهم والفراسة وكثيرا مما يقرب منها، وذلك لأنهم ليسوا من أهل الحرف والصنائع المدنية لتكون درجتهم درجة العوام، أو يكون في وجودهم منفعة يعود إلى أهل المدينة الفاضلة، ولا أنهم من أهل السلامة والتسليم والتقليد ليكونوا محشورين في زمرة من تشبهوا بهم من أهل السعادة الأخروية، ولا لهم قوة الإرتقاء إلى الأمور العالية وتحقيق الحقائق الإلهية ليتحققوا بالمعارف الدينية والأحكام الأخروية.
وأما المحققون من الحكماء، ففرقة موجبة لوجود ما ورد في الوحي أو التنزيل وما أخبر به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير تأويل، لما أمعنوا في البحث والتحقيق إمعانا قويا وبحثا مستقصى، وفرقة مجوزون لجميع ذلك لما كادت درجتهم أن تبلغ درجة أولئك الفاضلين ولم تبلغها بعد، والمشهورون من أهل الدرج الأولى قليل عددهم - ويوشك أن يكون من أعرفه منهم في هذه الألف سنة بعد انقراض زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين سلام الله عليهم ولهم الأدعية الإلهية - لا يزيد عددهم عن أوائل مراتب العدد دون الثواني.
ولهذا نحن نكره أن يشتغل الناس بهذه العلوم الربانية إلا على نهج التقليد والتسليم إيمانا بالغيب، فإن المستعدين لها قليل، والمستفرغين مجهودهم في سبيلها أقل، والصابرون الواصلون بعد الفراغ أندر كثيرا مثل الكبريت الأحمر، ولهذا السبب وقع المنع في شريعتنا المطهرة عن البحث عن سر القدر، وعن ماهية الروح التي من عالم الأمر وما يجري مجرى هذين.
والله نسأل أن يعصمنا من الضلال، وأن يحرسنا عن التردي إلى مهوى النكال، وأن يسلك بنا سواء السبيل، ويحفظنا عن التشبيه والتعطيل، والله ولي الفضل والنعمة ومعطي الفيض والرحمة.
فالغرض أن الله سبحانه مثل على المنكرين للمعاد وارتجاع النفوس الآدمية إلى الأبدان وعودها إلى كلاية الأجساد بأمثلة ثلاثة، كل واحد منها أعجب وأشكل عند العقول البحثية من أمر المعاد:
أحدها: مثال تعلق النفس بالبدن، فإنه أمر مشكل عجيب، فإنها كيف تعلقت به، وهي ليست حالة فيه حلول الأعراض في محالها، ولا حلول الصور في المواد، فإنها جوهر قائم بنفسه، تتوارد عليه الكيفيات النفسانية من العلوم والأخلاق، وهو يعرف ذاته، ويعرف خالقه ويعرف كثيرا من المعقولات الكلية من غير حاجة له فيها إلى البدن، ولا إلى شيء من الحواس، لأن شيئا من هذه المعارف ليس محسوسا، ومن استغنى عن شيء في وجود فعله أو انفعاله فيكون مستغنيا عن ذلك الشيء في وجود ذاته على طريق الأولى، فلا يكون وجود النفس في البدن وجود عرض في موضوعه ولا صورة في مادتها.
والإنسان في حال حياة البدن يمكن أن يتصور نفسه غافلا عن المحسوسات كلها، وعن الأبدان والأبعاد والأجرام كلها، وهو في تلك الحالة عارف بنفسه وذاته، ومن كان ذا قدم راسخ في معرفة الباري وعبوديته، فربما يغفل عما سوى الله، ويجد ذاته كرشحة من بحر غير متناهي الفسحة، أو لمعة من نور غير متناهي الشدة، والتجرد لذكر الله على الدوام في بداية السلوك، يفضي بالسالك إلى هذه الحالة، حتى أن لا يحضر في شعوره من المحسوسات والمعقولات سوى الحق الأول تعالى مجده، ولا يشعر بنفسه، ولا بعدم شعوره بنفسه، ولا يشعر بشعوره بالحق، بل يكون شاعرا بالحق فقط، فإن الشعور بالشعور، بالحق حجاب وغفلة عن الحق، وملاحظة الوصال فراق، فالمعنى المتجرد لمعرفة الحق كيف يكون محتاجا إلى البدن.
فعلم أن تعلقها بالبدن ليس تعلق الحال بالمحل، وليس أيضا تعلقها به تعلق المحل بالحال وهو ظاهر، ولا أيضا تعلقها به تعلق العلة بالمعلول، ولا المعلول بالعلة - وإلا لما وجد أحدهما بدون الآخر - ولا تعلق أحد المضافين الحقيقيين بالآخر، لأن لكل منهما ذاتا على حدة، والمتضايفان ليسا كذلك - لما حقق في مقامه -، ولا أيضا تحريكها للبدن كتحريك الدافع للشيء بالدفع، ولا تحريك الجاذب للشيء بالجذب، ولا تحريك الحامل كالسفينة للساكن فيها، ولا المركوب للراكب، ولا الحامل للشيء على عاتقه، لأن النفس مجردة، والمجرد يستحيل عليه هذه الحالات الوضعية.
فهذا التعلق الذي للنفس بالبدن أمر مشكل لا يعلمه أحد إلا بهداية الله وتوفيقه، فأشار سبحانه إليه بقوله:
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه
[يس:78] - إلى قوله -
وهو بكل خلق عليم
[يس:79].
والمثال الثاني: مثال توقد النار من الشجر الأخضر، وهو أيضا أمر عجيب أعجب من تعلق النفس بالبدن مرة ثانية عند جمهور الأنام بل الخواص، للتضاد الواقع بين الماء والنار، فكيف يكون أحدهما سببا للآخر - وطبيعة السبب لا بد وأن تكون قريبة من طبيعة المسبب - وإليه الإشارة بقوله: { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون }.
فإن قيل: أن توقد النار من هذا الشجر، ليس إلا بعد السحق والحركة الشديدة، والحركة تحيل جوهر الماء الذي فيه إلى الهواء، ثم إلى النار، وليس أن الشجر الرطب - بما هو رطب - يتولد منه النار.
قلنا: لا نسلم ذلك، فإن تولد النار منه أمر محسوس، وانقلابه إلى الهواء ثم إلى النار غير معلوم، لا بد له من برهان، ولا سبيل لنا إليه، ثم هب إنه كذلك، فليس التعجب من توليد الحركة - وهي أمر ضعيفة الوجود بالقوة، شبيهة بالعدم - الصورة الهوائية والنارية من الشجر الأخضر الذي يتقطر منه الماء بأقل من توليد نفس الشجر لها.
والمثال الثالث: خلق مجموع السموات والأرض، فإن وجود الشيء المكاني عن غير المكاني، وتحقق الزماني عن غير الزماني، أعجب العجائب، والله سبحانه مما قد برهن على وجوده وعلى كونه خالق السموات والأرض، ومكون الكائنات من غير مكان، وموجد الزمانيات في غير زمان، فأبدع الكل بقدرته إبداعا واخترعها على مشيته اختراعا، فهو الأول بلا أولية والمبدء بلا ابتداء، كما أنه الآخر بلا آخرية والمنتهى بلا نهاية، وهو أيضا مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فأمثال هذه المتناقضات لفظا متفقات في حقه تعالى معنى، فجلال الله فوق الأوهام والعقول فضلا عن الأزمنة والأمكنة.
فإيجاده للسماء والأرض وما فيهما من عجائب المكونات من البسائط والمركبات بمجرد ارادته وأمره بوجود كل منها من غير مادة سابقة، أو حركة لاحقة، أعجب من كل عجيب، فالله سبحانه حيث هو قادر على هذا الخلق العظيم الشأن، القويم البنيان، مع ما فيه من الأنوار الشديدة الضياء، والهياكل العظيمة البهاء، والأشخاص الرفعية المكان، السريعة الدوران، الحثيثة الطوفان، عشقا وشوقا إلى مبدعها ومشوقها ومحركها العزيز المنان، وموجدها من كتم العدم إلى منصة الوجود والوجدان، والشهود والعرفان، بمجرد قوله الذي إذا قال لشيء " كن " فيكون، فهو بأن يكون قادرا على إنشاء النشأة الثانية للإنسان أخلق وأحرى عند الأذهان السليمة عن آفة الجهل والطغيان، ومرض الجحود والكفران، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:
{ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } [يس:81].
[36.81]
وقرئ " يقدر " بصيغة المضارع بدل اسم الفاعل، وقرئ " الخالق " بصيغة اسم الفاعل بدل المضارع، يعني: من قدر على خلق مثل السموات والأرض مع عظم شأنهما، فهو على خلق مثل الأناسي أقدر، وفي معناه قوله تعالى:
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس
[غافر:57].
أما السموات فلا يخفى شرفها وفضلها، وعظم أكنافها، ووثاقة أجرامها، ولطافة جواهرها، وضياء زواهرها ودراريها، وصفاء صورها ووفور أنوارها، وعظمة أقدارها، وقوة قواها وآثارها، وسرعة دورانها وحركاتها، وقدرة نفوسها المكتفية بذاتها على إقامة تحريكاتها، وإدامة تدبيراتها، وشرافة عقولها الكاملة المكملة لنفوسها المشرقة المشوقة إياها بإيراد الاشراقات العقلية والتشويقات النورية عليها، من غير فتور ودثور، وكونها مزينة بمصابيح الكواكب ومشاعل النيرات لقوله تعالى:
ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح
[الملك:5] وكون أنوارها مطردة للشياطين والظلمات لقوله:
وجعلناها رجوما للشياطين
[الملك:5].
وعلامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر بقوله:
وبالنجم هم يهتدون
[النحل:16].
وكونها مستضيئة بنور القمر، وجعل القمر فيهن نورا، مستنيرة بسراج الشمس، وجعل الشمس سراجا، وكونه سقفا محفوظا، وسبعا طباقا، وسبعا شدادا، وكون صورتها مشتملة على حكم بليغة وغايات صحيحة.
ربنآ ما خلقت هذا باطلا
[آل عمران:191]
وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا
[ص:27].
وكونها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار، وقبلة الدعاء، ومحل الضياء والصفاء، وكون ألوانها أحسن الألوان وهو المستنير، وأشكالها أفضل الأشكال وهو المستدير.
ولما فيها من منافع البلاد ومصالح العباد، من طلوع شمسها فسهل معه التقلب لقضاء الأوطار في الأطراف، وغروبها ليصلح معه الهدوء والقرار في الأكناف، ولتحصل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى أعماق الأعضاء. وأيضا لولا طلوع الشمس لانجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت إلى خمود الحرارة الغريزية وجمود الرطوبة الطبيعية، ولولا غروبها لحميت الأرض حتى يحترق كل من عليها من حيوان، فهي بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم، ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا، فصار النور والظلمة على تضادهما متظاهرين بقدرة الله على صلاح قطان الأرض.
وها هنا نكتة: كأن الله يقول: لو وقعت الشمس في جانب من السماء من غير حركة، فالغني قد يرفع بناءه على كوة الفقير فلا يصل إليه، لكني أدير الفلك وأسيرها حتى يجد الفقير نصيبه كما وجد الغني نصيبه.
وأما ارتفاع الشمس إلى سمت الرأس تارة وانحطاطها عنه أخرى، فقد جعله الله سببا لإقامة الفصول الأربعة.
وأما القمر فهو تلو الشمس وخليفتها، وبه يعلم عدد السنين والحساب، ويضبط المواقيت الشرعية، ومنه يحصل النماء والرواء، وقد ذكرنا في هذه السورة كثيرا من فضائلهما وخيراتهما.
وأما الأرض فلعجائبها وغرائبها، ومن جبالها ومعادنها، وبحارها ودررها وجواهرها، ومن كونها فراشا ومهادا، وكونها ذلولا ليمشوا في مناكبها، وجعلها ساكنة في الوسط، وقورا لا تنزعج ولا تتكلم من توارد الأثقال، ومن إرساء الجبال فيها أوتادا تمنعها من أن تميل، ثم توسيع أكنافها حتى عجز الآدميون عن بلوغ جميع جوانبها وإن طالت أعمارهم وكثر تطوافهم، فيكون لهم فراشا لقوله تعالى:
والسمآء بنيناها بأييد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون
[الذاريات:47 - 48]. وقوله:
جعل لكم الأرض فراشا
[البقرة:22]. أي وسع أكنافها لتكون بساطا فراشا، وإلا فلا يمكن الإفتراش عليها لكرويتها.
ولو لم يكن في حيزها الطبيعي في وسط الأفلاك، ولم تكن ساكنة في حيزها الطبيعي، لم يمكن الاستقرار عليها وذلك لأن الأثقال تميل بالطبع إلى تحت كما أن الخفاف تميل بالطبع إلى فوق، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء، كما أن التحت ما يلي المركز، فإذن لا حاجة في سكون الأرض إلى علاقة من فوقها، ولا إلى دعامة من تحتها، بل يكفى إرادة مبدعها وإفادته لها ميلا طبيعيا مستندا إلى أمر آلهي ركزه فيها، فأمالها إلى الوسط الحقيقي بإرادته واختياره وحكمته وعدله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وبقدرته التي تمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن امسكهما من أحد من بعده.
ومن عجائب خلقة الأرض، كونها لا في غاية الصلابة كالحجر ليمكن الزراعة عليها، وحفر الآبار والقنوات فيها، واتخاذ الأبنية منها، ولا في غاية اللين والإنغمار (الانفحاء - الإنغماء) كالماء ليسهل النوم والمشي عليها، وبناء الدور والبيوت عليها.
ومنها: كونها لا في نهاية اللطافة لتستقر عليها الأنوار، ولا في غاية الصلابة لئلا ينعكس عنها ساطع الشعاع بالكلية، بل نحو من الإقتصاد لينفذ فيها شيء من الأشعة السماوية، المولدة لمواد الصور والنفوس الأرضية.
ومنها: جعلها (جعل بعضها) بارزة من الماء، مع أن طبعها الغوص فيه، ليصلح تعيش الحيوانات البرية عليها.
ومنها: كونها قابلة للأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية، مما لا يعلم تفاصيلها إلا موجدها.
ومنها: أن يتخمر التراب الرطب به فيحصل التماسك في أبدان المركبات.
ومنها: اختلاف بقاعها في الرخاوة والصلابة والرمانة والوعورة بحسب اختلاف الأغراض والحاجات
وفي الأرض قطع متجاورات
[الرعد:4].
ومنها: اختلاف ألوانها
ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود
[فاطر:27].
ومنها: انصداعها بالنبات
والأرض ذات الصدع
[الطارق:12].
ومنها: جذبها للماء المنزل من السماء
وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه في الأرض
[المؤمنون:18].
ومنها: العيون والأنهار العظام التي فيها
والأرض مددناها
[الحجر:19].
ومنها: أن لها طبع الكرم والسماحة، تأخذ واحدا وتعطي سبعمائة
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة
[البقرة:261].
ومنها: حياتها وموتها
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها
[يس:33].
ومنها: كون ظهرها مقرا للأحياء وبطنها موطن الأموات
ألم نجعل الأرض كفاتا أحيآء وأمواتا
[المرسلات:25 - 26].
ومنها: تكون الدواب المختلفة فيها
وبث فيها من كل دآبة
[لقمان:10].
ومنها: النباتات المتنوعة
وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج
[ق:7]. فاختلاف ألوانها آية، واختلاف طعومها آية، واختلاف روائحها آية.
ومنها: قوت البشر وقوت البهائم
كلوا وارعوا أنعامكم
[طه:54].
ومنها: الطعام والآدام، ومنها الدواء، فانظر كيف أودع في عقاقيرها المنافع الغريبة، فهذا النبات يغذي، وهذا يقوي، وهذا يحيي وهذا يقتل، وهذا يمرض وهذا يصح، وهذا يبرد وهذا يسخن، وهذا يقمع الصفراء من أعماق العروق وهذا يولد الصفراء، وهذا يسهلها وهذا يستحيل إليها، وهذا يدفع البلغم وهذا يقمع السوداء، وهذا يحيل إليها، وهذا يزيد في الدم، وهذا يطفيه، وهذا يفرح، وهذا يقوم وهذا يضعف.
ومنها: الفواكه، ومنها كسوة البشر نباتية كالقطن والكتان، وحيوانية كالشعر والصوف والإبريسم والجلود.
ومنها: الأحجار المختلفة بعضها للزينة وبعضها للأبنية، فانظر إلى الحجر الذي تستخرج منه النار مع كثرته، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير، وقلة النفع بذلك الخطير.
ومنها: ما أودع الله فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة، ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحرف الدقيقة والصنائع العجيبة، واستخرجوا السمك من قعر البحر، واستنزلوا الطير من أوج الهواء، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة، والسبب فيه أن معظم فائدتهما ترجع إلى الثمنية، وهي لا تحصل إلا عند العزة، والقدرة على اتخاذهما تبطل الحكمة، ولهذا ضرب الله دونهما بابا مسدودا، ولهذا اشتهر في الألسنة " من طلب المال من الكيمياء أفلس " ، إلى غير ذلك من الخيرات العظيمة والآثار العجيبة المترتبة على وجود الأرض، ولهذا أكثر الله في كتابه ذكر الأرض، ليتفكر الإنسان في عجائبها، واعترف بمدبر حكيم ومقدر عليم إن كان ممن يسمع ويعي ويبصر ويعتبر.
تذكرة عرفانية فيها تبصرة فرقانية
اختلفوا في أن السماء أفضل أم الأرض؟ قال بعضهم: السماء أفضل لأنها معبد الملائكة، وما فيها بقعة عصي الله فيها، ولما أتى آدم (عليه السلام) بتلك المعصية اهبط من الجنة، وقال: لا يسكن في جواري من عصاني، وقال:
وجعلنا السمآء سقفا محفوظا
[الأنبياء:32] وقال:
تبارك الذي جعل في السمآء بروجا
[الفرقان:61] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدما على ذكر الأرض، والسموات مؤثرة والأرضيات متأثرة - والمؤثر أشرف من المتأثر -.
وقال آخرون: الأرض أفضل، لأنه تعالى وصف بقاعها من الأرض بالبركة
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا
[آل عمران:96]
في البقعة المباركة
[القصص:30]
إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله
[الإسراء:1]
مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها
[الأعراف:137] يعني وصف الشام.
ووصف جملة الأرض بالبركة:
وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها
[فصلت:10] إذ ما فيها إلا وهو مساكن خلق لا يعلمهم إلا الله، حتى المفاوز المهلكة، فلهذه البركات قال:
وفي الأرض آيات للموقنين
[الذاريات:20] تشريفا لهم لأنهم هم المنتفعون، كما قال:
هدى للمتقين
[البقرة:2].
وخلق الأنبياء من الأرض:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم
[طه:55] وأكرم نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله)، فجعل الأرض كلها مسجدا له وترابها طهورا، ولما خلق الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم وأولاده، ثم علم الله أصناف حاجاتهم، قال: يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم الرحيمة، فقال:
أنا صببنا المآء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا
[عبس:25 - 27] الآية.
وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم
[البقرة:22].
يا عبدي، إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منهما هذه المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك، فكيف الحال في الجنة.
فالحاصل أن الأرض لك كالأم بل أشفق لك من الأم، لأن الأم تسقيك نوعا واحدا من اللبن، والأرض تطعمك ألوانا من الأطعمة والأشربة قال:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم
[طه:55] معناه نردكم إلى هذه الأم، وليس هذا بوعيد، لأن المرء لا يتوعد بأمه، وذلك لأن مقامك في الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض، ثم أنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر وما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن أمك الكبرى؟ ولكن بشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى، إذ ما كانت لك زلة - فضلا من أن يكون لك كبيرة - بل كنت مطيعا لله، فحيث دعاك مرة بالخروج إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك.
وها هنا أسرار شريفة لا يمكن التصريح بها لدقتها وشرفها، وقصور الإفهام عن دركها، فكتمناها عن الأغيار، وضننا بها على أهل الإغترار بظواهر الآثار، وقد قيل: " صدور الأحرار قبور الأسرار ".
ظل فرشي لتمهيد نور عرشي
وفي قوله: { أن يخلق مثلهم } ذكروا معنيين:
أحدهما: إنه قادر أن يخلق مثلهم في الصغر والحقارة بالإضافة إلى السموات والأرض.
وثانيها: انه يقدر على أن يعيدهم تارة أخرى، لأن المعاد من الإنسان مثل المبتدء وإن لم يكن هو بعينه، وكلا الوجهين لا يخلو عن ضعف.
أما الأول: فلأن بناء كمال القادرين ونقصهم في الخلق وقوتهم وضعفهم من الإيجاد، ليس على عظم مقادير الجثث في المقدورات وصغرها، حتى يكون كل ما هو أعظم مقدارا أكمل خلقه وأجل صنعا وأدل شهادة على قدرة القادر وعظمة الخالق، وإلا لزم أن يكون تكوين الجمادات العظيمة المقادير، أفضل وأصعب من تكوين الإنسان، واللازم بديهي البطلان، لوجود بدائع الفطرة وشواهد الحكمة في خلقته أكثر من أن تحصى.
بل كمال لقدرة القادر، وعظمة الصانع، إنما تكون بفضيلة الوجود في المقدور، وفضيلة الوجود إنما تظهر بكثرة ترتب الآثار الحسنة، ووفور الخيرات اللازمة وبدائع المنافع الدائمة، وفضيلة السماويات على العنصريات ليست بعظمة الجثة وزيادة المقدار، بل بفضيلة الوجود وكثرة الآثار والأنوار، وبقوام الصنعة ودوام الخلقة، ووثاقة الجوهر وثبات الوجود، وخلوص الصورة عن الآفة والكدورة عن طريان الضد والمفسد للذات والصفة.
وأما قوله تعالى:
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون
[غافر:57] فليس فيه دلالة على عظمة الخلق وفضيلة الإيجاد، لما ذكرنا من دوام (قوام) صورتها وشرافة طبائعها، لا لكبر جرمها وعظم مقدارها فقط، كما يدل عليه قوله:
ولكن أكثر الناس لا يعلمون
[غافر:57].
وأما الثاني: فلأن مبناه على أن الشخص من الإنسان في النشأة الثانية غير هذا الشخص الذي كان في الدنيا، وهذا مما يوجب مفاسد شتى، مثل أن يكون المثاب أو المعاقب في الآخرة غير الذي فعل الطاعات أو المعاصي في الدنيا، وهذا هو الظلم بعينه، وغير ذلك من المفاسد، وهو في الحقيقة نفي للمعاد لا إثبات له.
اللهم إلا أن يعتذر عن الأول، بأن الكلام مع العوام الذين درجتهم درجة البهائم والأنعام، لا يعرفون كمال القدرة إلا في خلق الأجسام العظيمة المقدار، لعدم اهتدائهم بوجوه المصالح والمنافع التي تكون في خلق الإنسان، ومن عادة القرآن إيراد المقدمات المقبولة للطبائع الجمهورية مع اشتمالها على البرهانيات القطعية العظيمة النفع لطالب الحق حقيقة.
ولو بواسطة الآلات في الجملة، وهو باق بعينه، وكذا الأجزاء الأصلية في البدن، وهذا كما يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة: " إنه هو الذي كان صبيا " فهو بعينه وإن تبدلت جثته وتغيرت أشكاله وهيئاته، بل كثير من أعضائه وآلاته، ولهذا لا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب: " إن العقوبة بغير الجاني ".
وستسمع منا كلاما في تحقيق المعاد، ألهمني الله تعالى بنوره المشرق في قلب من أراد من العباد، وهو الملهم للحق والجواد المطلق، وقد أثبتنا مسائل معادية في مواضع متفرقة في تفاسير الآيات بحسب ما يليق بكل آية من المعارف الأخرويات، ينبغي لطالبي الحقيقة وسالكي الطريقة أن يتناولوا منها ما يتعلق بهذا الباب، مستعينين بالله في نيل الثواب .
اشراق نور برهاني لاراءة سر قرآني
إن الذي تستحسنه العقول الزكية، المستشرقة بأنوار المعارف القرآنية، وتستقبله القلوب المهتدية بأسرار الحقائق الإيمانية، أن النكتة في قوله تعالى: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } هي أنه لما تقرر عند أهل الحكمة والبرهان، وأصحاب المكاشفة والعرفان، بالمقدمات التي بعضها حدسية وبعضها برهانية، أن الإنسان بجميع أجزائه وأعضائه متحد الحقيقة بالعالم بجميع أبعاضه وأفراده، أعني مجموع السموات والأرض بما فيهما، وأن الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير، فالمضاهاة بينهما ثابتة والمماثلة فيهما متحققة.
وقد ثبت أيضا في العلوم النظرية، أن كل حكم ثبت لبعض أفراد حقيقة واحدة فقد أمكن ثبوته لسائر الأفراد البتة.
فلهذه المضاهاة والمماثلة الثابتة بين مجموع السموات والأرض وبين الإنسان، جعل إيجاد أحدهما دليلا على امكان ايجاد الآخر، وإذا كان الفرد الذي ثبت كونه مخلوقا له تعالى إنسانا كبيرا أكبر من سائر الأفراد، فيثبت بالطريق الأولى كون الأفراد الصغيرة مما يمكن أن تكون مخلوقة له، وكونه قادرا عليها.
فالضمير في " مثلهم " راجع إلى الإنسان، ولفظ " المثل " إشارة إلى كل ما هو مماثل له في الحقيقة النوعية، أعم من أن يكون المراد منه هذه الأفراد التي تحقق وجودها أولا في الدنيا أو غيرها مطلقا حتى يثبت صحة الإعادة في هذه الأفراد على طريق الانسحاب الكلي والشمول العمومي، كيف وقد صدق على كل فرد من الناس أنه مثل للإنسان المطلق، كما أنه ثبت أنه عين له، لكونه نوعا منتشرا غير محصور في واحد، على أن كل شيء يصدق عليه أنه مثل نفسه، وكذا مثل مثله بحسب جواز التغاير الإعتباري بين الشيء ونفسه.
ثم من المحتمل الجائز أن يكون ضمير الجمع راجعا إلى مجموع السموات والأرض بحسب التغليب لذوي العقول - أعني السموات - على غيرهم، - أعني الأرض - لما ثبت برهانا وكشفا وقرآنا وسمعا أن السموات أحياء ناطقون وعلماء عارفون بالله، عابدون له، خاضعون لعظمته، سالكون في سبيله، واجدون أنوار لطفه، نائلون أشعة رحمته، منتظرون لأمره، فإذا كان ضمير الجمع لمجموع السموات والأرض، وكان الإنسان مماثلا للمجموع من حيث هو مجموع كما مر من كونه عالما صغيرا وكون المجموع إنسانا كبيرا.
فإذا تحقق كونه تعالى قادرا على خلق العالم الكبير والإنسان الكبير فقد ثبت كونه تعالى قادرا على ما هو مثله وهو الإنسان الصغير، والعالم الصغير مطلقا في أي وقت أراد وشاء ابتدائيا، كان أو إعاديا على طريق الأولى، لأن إيجاد الأكبر أعظم وأشد من ايجاد الأصغر.
تتمة فيها تبصرة
ثم أجاب سبحانه عن الاستفهام الذي مفاده التقرير والتحقيق، وفحواه طلب الإذعان والتصديق بقوله: " بلى " أي: بلى هو قادر على خلق مثلهم، وهو الخلاق الذي ذاته بذاته خلاق الأشياء، وحقيقته بحقيقته فياض الوجودات، إلا أنه ماهية يزيد عليها صفة الخلاقية.
وهو العليم بذاته، يعلم الأشياء كلها، كلياتها وجزئياتها، ثابتاتها ومتغيراتها، مفارقاتها ومادياتها، قبل وجودها ومعها وبعدها، إذ علمه الذي هو عين ذاته سبب وجود الأشياء، فإذا علم من ذاته صورة الحكمة في الأشياء، ووجه المصلحة في الموجودات، كان علمه بنظام الخير كافيا في صدور الأشياء على النظم البديع المتضمن لوجوه المصلحة والحكمة على أفضل وجه وأتقنه، وأحكم نظام وأتمه.
ومن جملة الحكمة إنشاء النشأة الآخرة، وإلا بطلت الغايات الحقيقية، وفسدت الأغراض الإلهية المترتبة على وجود الإنسان وبقائه، وانفسخت الفوائد المتصورة على عقله وتكليفه وفكره ووهمه، واضمحلت الآثار التابعة لمشاعره وحواسه، وانقطعت المجازات الأخروية اللائقة عن فعله وتركه وطاعته ومعصيته، وكان وجوده من الله هباءا وهدرا، وخلق الأقدار والتمكين فيها سفها وعبثا، وحسناته معطلة ضائعة، وسيئاته وقبائحه غير محسوسة ولا مستتبعة للوازمها وتبعاتها.
فأين حكمة الله في وجودها، وأين عدل الله في الأنام، وقد قال:
ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق:29]
ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار
[ص:27] وذلك ظن من لم يتصور أن لكل فعل غاية حكمية، ولكل حركة نهاية طبيعية.
والحكماء الآلهيون باحثوا عن غايات الأشياء وأشواق الموجودات، وتوجهاتها إلى عواقبها وثمراتها ونتائجها، وكما أن لكل قوة وطبيعة ووهم وتخيل وتعقل مبدء فاعلي يتقوم به وجودها، فكذلك لكل منها غاية ذاتية تستعقبها وتستتبعها، فللإنسان بما غرز في طباعه من الآلات والمشاعر والقوى العلمية والعملية أفاعيل وآثار، ولها ملحقات وثمرات وعواقب وتبعات بعضها دنيوية وبعضها أخروية، وللغايات الدنيوية أيضا غايات ولغاياتها غايات أخرى حتى تنتهي إلى عاقبة العواقب وتنجر إلى آخر الغايات، وهي لا تكون إلا في الدار الآخرة عند الله.
وإبطال الغاية يوجب ابطال المبدء، ولكل مبدء مبدء حتى ينتهي إلى مبدء المباديء، وهو ذات الصانع جل اسمه، وبإبطال الأسباب والغايات والمبادئ والنهايات ينسد باب معرفة الله وإثبات الصانع، فمن كفر بنعمة الله والدار الآخرة فهو كافر به تعالى، ومؤمن بالطاغوت الذي هو من سنخ هذه النشأة الفانية
ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين
[فصلت:23].
موعد تحقيقي
أن الإعتقاد منافي أمر الإعادة هو أن المعاد في المعاد هو الإنسان بمجموع النفس والبدن، وأن هذا البدن المعين الشخصي يعاد في الآخرة مع النفس دون بدن آخر، - كما ذهب إليه قوم - وهذا هو الإعتقاد الحق في المعاد، المطابق للشرع الصريح والعقل الصحيح، فمن صدق وآمن بهذا، فقد أصبح مؤمنا حقا وآمن بيوم الحساب والجزاء، والنقصان عن هذه المرتبة خلل في أحد أركان الإعتقاد، وقصور في الإيمان بالمعاد، وإظهار شيء من خبايا هذا المطلب الحقيق بالتحقيق وإخراج علق نفيس من هذا البحر الطافي العميق، يستدعي تشييد أصول وتمهيد فصول:
الأصل الأول
أن تحصل كل ماهية نوعية وحقيقة تركيبية إنما كان بمبدء فصله الأخير، وأما مبادئ باقي فصوله وأجناسه القريبة والبعيدة فهي بمنزلة اللوازم والتوابع، وإنما دخولها في مفهوم الحد بما هو حد دون المحدود، كما قررناه في أسفارنا الإلهية.
وكثيرا ما يكون في الحد زيادة على المحدود، كما صرح به صاحب الشفاء وغيره، ومثلوا ذلك بتحديد القوس من الدائرة، والأصبع من الإنسان، حيث يدخل في تحديد القوس الدائرة لا في ذات المحدود، وكذا يدخل في تحديد الأصبع الإنسان مع خروجه عن ذات الإصبع، بل مفهوم العرض هكذا، حيث يدخل في حده الموضوع دون ذاته، وكذلك كل مركب طبيعي له صورة منوعة هي مبدء فصله الأخير، إنما يكون تحصله وتقومه من حيث حقيقته (المطلقة بنفس صورته المقومة لها) وأما المادة، فإنما الحاجة إليها لحمل صورة الماهية لأجل قصور وجودها الخارجي العنصري عن الاستقلال، وضعفه عن الإكتفاء بنفسه وبمبادئه المقومة إياه كالفاعل والغاية، وانحطاط مرتبة شخصيته عن أن يكون مجردا عن العوارض الغريبة، فلأجل كونه في وجوده العنصري مستصحبا لعوارض - مسماة بالمشخصات - عرضت لحقيقة ذاته أن يفتقر إلى المادة الحاملة لأعراضها المفارقة، وإلا فكل ذي حقيقة فهو - بما هو حق - مستغنى القوام عن المادة ولواحقها، إلا بسبب أمر غريب عارض لها، كالقصور عن البلوغ إلى كمال ذاته، والنقصان عن الوصول بتمام ماهيته، لأن المادة في كل شيء من حيث هي مادة له، مستهلكة في صورته، إذ نسبتها إلى الصورة نسبة القوة إلى الفعل، ونسبة النقص إلى التمام، لأنها مأخذ للجنس، ونسبة الجنس إلى الفصل بحسب تحصل الماهية نسبة المادة إلى الصورة في تحصل الوجود.
فكما أن الجنس ماهية ناقصة للنوع، فالمادة وجود ناقص له، فالخشب في كونه مادة للسرير مطلقا لا يدخل فيه التعين الخشبي ولا غيره، وكذا حكم جميع المواد.
ولهذا حكم بعض من له توقد في الطبع وصفاء في الذهن، بالاتحاد التركيبي بين المادة والصورة، والسر فيه عموم المادة وإبهامها، بحيث يشتمل في صدقها على الأشياء وتحققها لنفس الصورة المفردة بلا قرينة - كما حقق مثله في معنى المشتق -، فلو أمكن وجود الصورة مجردا عن المواد لكان الحقيقة بحالها كما في المثل الأفلاطونية والصور المفارقة، فالعالم عالم بصورته، والإنسان إنسان بروحه المدبرة لا ببدنه.
الأصل الثاني
إن تشخص بدن الإنسان المعين الشخصي من حيث هو بدنه، إنما هو بنفسه التي هي نحو وجوده، وصورته المقومة مرتبة ما من آحاد المقادير، ووضع ما من أفراد الأوضاع، وكيف ما من أفراد الكيفيات، وأين ما من أعداد الأيون، من غير أن تشترط خصوصية كل من أفراد هذه المقادير والأوضاع والكيفيات والأيون إلا في خصوصيات أزمنة مدة البقاء.
وقد بينا في بعض شروحنا للكتب النظرية أن الموضوع للحركة الكمية، كالنمو والذبول، هو شخص الإنسان المتقوم من نفس واحدة متعينة مع مادة مبهمة الذات والكمية، وما تقع فيه تلك الحركة هي خصوصيات الكميات.
وبنينا ذلك على أن المعتبر في تشخص الإنسان هو وجود نفسه التي هي صورة ذاته، وهي الباقية عند تبدل أعضائه من الطفولية إلى الشباب والشيب، فما دامت النفس الشخصية باقية يكون الإنسان الشخصي باقيا وإن تبدلت أعضائه كلا أو بعضا.
وكما أن تشخص ذاته بنفسه، فكذا تشخص بدنه - أعني هذا الجسم الطبيعي بالمعنى الذي هو مادة - وكذا تشخصات أعضائه أيضا بالنفس السارية قواها فيها، فاليد والرجل وسائر الأعضاء ما دامت تقومها النفس بقواها وتدبرها وتحركها، ويصل إليها مدد الفيض منها وبها، وهي مضافة إليها إضافة طبيعية لا قسرية ولا عرضية، فهي متعينة بها بأنها يدها، ورجلها، وأعضائها، وإن تبدلت خصوصيات مقادير كل منها، وآحاد كيفياتها وأوضاعها، بعدما انحفظت نسبتها الطبيعية إلى النفس الواحدة المعينة المستمرة من أول العمر إلى آخره.
فالبدن له اعبتاران: اعتبار كونه بدنا لهذه النفس، واعتبار كونه حقيقة في حد ذاته وجوهره من جملة أجسام العالم، فهو بالإعتبار الأول باق مستمر ببقاء النفس التي هي صورة ذاته وعلة وجوده وغاية تكونه، وهو بالإعتبار الثاني زائل فاسد متبدل، وكل نمو وذبول وزيادة ونقصان عليه.
فلو سئل سائل وقال: هل بدن زيد - مثلا - في وقت الشباب هو بعينه بدنه في وقت الطفولية؟
فالجواب ب " لا " و " نعم " كلاهما صحيح، كل من السلب والإيجاب صادق بوجه دون وجه، فهو من حيث هو بدن زيد شخصي ذو نفس شخصية صح أنه هو بعينه ذلك البدن بلا تبدل إلا في عوارض هذا المعنى بما هو هدا المعنى، ومن حيث إنه جسم له طبيعة جسمية - مع قطع النظر عن ارتباطه بأمر آخر - فهو في كل سنة غير الذي كان في السنة الأخرى، بل في كل ساعة ولحظة هو غير الذي كان وسيكون لكونه دائما في التحلل والذوبان.
فإذا حكمت هذا فاعلم إنه إذا فرض تبدل هذا البدن بالبدن الآخر مع بقاء النفس فيهما، صح قولك بأن أحدهما بعينه هو الآخر، وصح اعتقادك بأن ما يرى في المنام بعينه هو هذا البدن المتعين، ولا عبرة بتبدل المواد والخصوصيات، أولا ترى أن النبي (صلى الله عليه وآله) شخص واحد، وقد يرى في ليلة واحدة لألف رجل بهيئات وأشكال مختلفة، يرى لكل واحد منهم بوضع خاص من الشيب والشباب مخالف لما يرى لغيره، ومع ذلك فكل من يراه في المنام فقد يرى شخصه وذاته، لأن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي (صلى الله عليه وآله) مع أن جسده العنصري مدفون في روضة المدينة لم يتحرك من مرقده الشريف، وذلك لأن حقيقته المقدسة ليست إلا روحه المطهرة مع أي بدن كان.
فكل من رأى ببصره القلبي نفسه المقدسة مع أي تمثل كان، فقد رأى صورة ذاته بعينه، لأن العبرة بتعين الشيء هي نفسه وصورته مع أية مادة كانت، والبدن بمنزلة الآلة المطلقة للنفس والمادة المطلقة لحقيقة صورة الإنسان، والآلة من حيث هي آلة إنما تتعين بذي الآلة، وكذا المادة وجودها في غاية الإبهام، وإنما تتعين بالصورة وتستهلك فيها.
ولهذا تكون شخصية زيد وتعينه باقيا مستمرا من أول صباه إلى آخر شيخوخته، مع أن جسميته مما تبدلت وتجددت بحسب الاستحالات والأمراض، وكذا جسمية كل عضو من أعضائه، وكما أن زيدا الشخصي بمجموع ما يدخل في قوام هويته من النفس والبدن باق مستمر، فكذا جسميته وبدنه أيضا من حيث كونه بدنا له، ومرتبطا به ارتباطا طبيعيا، موجود شخصي واحد مستمر من أول العمر إلى آخره، وإن تبدلت ذاته بذاته من حيث جسميته لا من حيث بدنيته، لما علمت من الفرق بين الإعتبارين، فأتقن هذا كي ينفعك في كثير من المطالب:
منها: إثبات الحشر الجسماني وإحياء عظام الموتى وهي رميم.
ومنها: حشر بعض الناس بصورة القردة والخنازير، مع كون المحشور هو بعينه الذي كان في الدنيا متصورا بالصورة الإنسانية، وفيه سر آخر.
ومنها: كون شخص من الإنسان حين تجرده عن المواد والأبدان لم تبطل شخصيته، بل يكون حين تجرده عنها وحين تعلقه بالبدن هو بعينه شيئا واحدا شخصيا.
الأصل الثالث
إن تشخص كل شيء بنحو وجوده الذي يخصه، سواء كان مجردا أو ماديا، وما اشتهر من كون المشخص في الماديات هي العوارض المادية، فإنما هو بمعنى آخر، وهو أن كل شخص مادي يلزمه ما دام وجوده المادي كمية ما، وكيفية ما، ووضع ما، وأين ما، وزمان ما، من حد خاص إلى حد خاص يناسب قوته وبقاءه في عالم الطبيعة، فهي من لوازم كونه الطبيعي وإمارات وجوده الدنيوي، وليس أن لا يتصور بقاء شخص بعينه بدون تلك الأعراض، بل يمكن تصور ذلك فيما له إمكان أن يتقوى وجوده ويستكمل بحيث يستغني بعلته المفيضة (الفياضة) عن المقارنات والمعاونات الغريبة والأسباب الحسية المادية.
كما في الصور الإنسانية عند تجردها واستقلالها، فإن الصورة الإنسانية في أول التكون، لم تكن إلا متعلقا بالمادة البدنية، لأنها كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم نباتا، ثم حيوانا، ولكن بفضل الله ورحمته أنشأ فيها النشأة الآخرة الإنسانية، وأعطاها جناحين تطير بهما إلى صقع الملكوت متى قويت قوتها بالأغذية الروحانية، وخلعت عن ذاتها اللباس الحسي، ونفضت عن أطرافها هذه السلاسل والأغلال، بل النفس - وهي بعد في هذه الغواشي الهيولانية - تكاد تترك عالم الأجسام كلها وعوارضها جملة مع بقائها شخصا.
الأصل الرابع
إن الوحدة الشخصية في الجواهر المجردة، يجامع قبول التطور بالأطوار المختلفة، والتشأن بالشؤون المتعددة، والإتصاف بصفات متضادة، وليس الجوهر الجسماني في قبول سعة دائرة الوجود له كالجوهر الروحاني، فإن الجسم الواحد يستحيل أن يجتمع عنده أوصاف متضادة وأعراض متقابلة، وذلك لضيق وعائه الوجودي.
أولا ترى أن الجوهر الناطق من الإنسان مع وحدتها الشخصية جامعة للتجسم والتجرد، حاصرة للسعادة والشقاوة، وهي مع وحدتها حائزة للحس والخيال والعقل، وكل منها يكون من عالم آخر، وهي الحساس والمتخيل والمتعقل والمتحرك والساكن وغيرها من الحالات التي كل منها في عالم من العوالم.
وربما يكون في وقت واحد ملكا مقربا باعتبار، وشيطانا مريدا باعتبار آخر، وذلك لأن إدراك كل شيء هو أن ينال حقيقة ذلك الشيء المدرك بما هو مدرك، بل بالاتحاد معه كما يراه طائفة من العرفاء المحققون من الحكماء، كفر فوريوس مقدم المشائين، وصرح به أبو نصر الفارابي في كتبه، واعترف به أبو علي بن سينا في كتابه المسمى بالمبدء والمعاد، وفي موضع من آلهيات الشفاء أيضا، حيث قال: " ثم كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم المحسوس كله، مشاهدة لما هو الحسن المطلق والخير المطلق، والجمال المطلق ومتحدة به ومنتقشة بمثاله وهيئته، ومنخرطة في سلكه وصائرة من جوهره " انتهى.
ومن له قدم راسخ في تحقيق الحقائق المتعلقة بمعرفة النفس، يعلم أن المدرك بجميع الإدراكات، والفاعل لجميع الأفاعيل الواقعة من الإنسان على سبيل المباشرة، هو النفس الناطقة النازلة إلى مرتبة الحواس والآلات والأعضاء، والصاعدة إلى مرتبة العقل الفعال في آن واحد، وذلك لسعة دائرة وجودها وبسط جوهريتها وانتشار نورها في الأطراف والأكناف للبدن، بل تطور ذاتها بالشؤون والأطوار، وظهورها في مظاهر الأعضاء والقوى والأرواح، وتنزلها بمنزل الأجسام والأشباح مع كونها من سنخ الأنوار وعالم الأسرار.
فمن هذا الأصل، تبين وتحقق كون شيء واحد تارة مجردا وتارة ماديا، وما اشتهر من متأخري المشائين أن شيئا واحدا لا يكون له إلا أحد نحوي الوجود - الرابطي أو الاستقلالي - غير بين ولا مبرهن عليه، بل الحق خلافه، نعم، لو أريد منه أن الوجود الواحد من جهة واحدة لا يكون ناعتيا وغير ناعتي لكان صحيحا.
الأصل الخامس
إن الصور والمقادير، كما تحصل من المبدء بحسب استعداد القابل والجهات الإنفعالية، كذلك تتحصل منه بمجرد الجهات الفعلية وتصورات الفاعل والحيثيات الفاعلية، من غير مشاركة مادة ما واشتراط حركة ما واستعداد عنصر ما، ومن هذا القبيل وجود الأفلاك والكواكب وكليات الطبائع والأنواع، حيث وجدت من المبادئ العقلية بمحض تصورات المباديء كيفية وجودها ونظامها، وكما أن للأوهام تأثيرات في العالم الإنساني أحيانا ما دامت النفس في هذه الدنيا، فحكم تعقلات المبادئ في سببيتها لوجود الأجرام والأشكال، وحكم تصورات النفس في الدار الآخرة هكذا.
وإن سألت الحق، فالصور الخيالية صادرة عن النفس بقوتها الخيالية، وهي ليست موجودة في هذا العالم، وإلا لرآها كل سليم الحس لأنها من جنس المحسوسات، ولا أنها قائمة بالجرم الدماغي - كما زعمه الجمهور من الحكماء ولا في عالم المثال - كما رآه الأشراقيون - بل هي مع عظمها وكثرتها من الأشكال والصور العظيمة على عظم الأفلاك الكلية والصحاري الواسعة والبلاد العظيمة موجودة في عالم النفس وفي صقع منها، إذ القلب الإنساني أعظم بكثير من العرش وما حواه، بل العرش وما حواه لو كان في زاوية من زواياه لما أحس بها، كما ذكره أبو يزيد عن نفسه، فهي صور موجودة لا في هذا العالم، بل تراها النفس بباصرتها القلبية، وتشاهدها عند تغميض هذه العين مشاهدة أصح من مشاهدتها الحسيات المادية.
وأما عدم ثباتها وعدم ترتب الآثار عليها، فلضعف تحصلها الوجودي لكثرة شواغل النفس وانفعالها ساعة فساعة بما تورده الحواس الظاهرة عليها من آثار هذا العالم، وتفرق قواها في البدن، وضعف همتها وعدم اجتماع خواطرها، حتى لو فرض أن يرتفع عن النفس الاشتغال بأفاعيل سائر القوى المحركة والمدركة، وتزول انفعالات الحواس الظاهرة عنها، وتكون قواها منحصرة في الخيال والتصوير، تكون الصور التي تتصورها حينئذ بقوتها الخيالية وتشاهدها بباصرتها الباطنية في غاية ما فيها من قوة الوجود وترتب الأثر، وتكون هي أقوى خطرا عن هذه المحسوسات بكثير.
وكما تكون تلك القوة يومئذ قوة باصرة، تكون هي بعينها قوة فعالة، فتصير قوة واحدة من النفس عند قيامها عن شوائب هذه الدار، فاعلة ومدركة معا من غير تغاير - لا بالذات ولا بالإعتبار -، فتكون مشاهدة النفس لتلك الصور عين قدرتها عليها، كما هو مذهب الأشراقيين في علم الواجب، من أن علمه بالموجودات راجع إلى بصره الذي هو عين قدرته عليها.
الأصل السادس
إن الله تعالى قد خلق النفس الإنسانية بحيث يكون لها اقتدار على إنشاء الصور الباطنة عن الحواس، وكل صورة صادرة عن فاعلها بالذات فلها حصول له، كما أن لها حصولا لقابلها إن كانت مادية، وليس حصولها لفاعلها وقيامها به عبارة عن حلولها فيه وانصافه بها، بل إنما ذلك شأن حصول الصورة للقابل، لأن القابل لنقصه الوجودي يستكمل بالصورة - جوهرية كانت أو عرضية - ويتصف بها وينفعل عنها، وأما الفاعل فهو لا يستكمل بمفعوله ولا يتصف به ولا ينفعل عنه، لأنه فياض يفضل عن وجوده وجود معلوله في مرتبة متأخرة.
فللنفس الإنسانية في ذاتها عالم خاص بها من الجواهر والأعراض المفارقة والمادية، والأفلاك المتحركة والساكنة، والعناصر والمركبات وسائر الخلائق الحاصلة عنها بقدرتها واختراعها، والنفس تشاهدها بنفس حصولاتها لها لا بحصولات أخرى، وإلا يتسلسل لا إلى نهاية.
وهذه القدرة والقوة التي تكون لأصحاب الكرامات في إيجاد الصور الغيبية في الدنيا، تكون لعامة الناس في الآخرة، سواء كانوا سعداء أو أشقياء، إلا أن السعداء لسلامة قلوبهم عن الأمراض الباطنية، وصحة نفوسهم عن العقائد الفاسدة، يكون قرينهم في الدنيا والآخرة صور حسنة مليحة من وجوه الحسان والحور والغلمان والرضوان، وأنواع النعم والكرامات - على حسب ما غلب عليهم من العلوم والنيات وفعل الحسنات -.
وأما الأشقياء، فلخبث سيرتهم ودغل سريرتهم ورداءة أخلاقهم وملكاتهم، وإعوجاج طبائعهم وفساد عقائدهم، والفهم بالدنيا، وعادتهم بالشهوات التي هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، يكون قرينهم في القيامة عذاب جحيم، ونار حميم، وعقارب وحيات وصور موحشة قباح، وأنواع من العذاب والعقاب.
الأصل السابع
إنه لا بد لتجدد المتجددات من جهة استعدادية مرجعها إلى القصور والقوة، وليس من شرط كل حادث أن تكون له مادة جسمانية تقبل مقدارا تعليميا ذا وضع تنفعل منه هذه الحواس الدنيوية، بل المصحح لوجود هذه الهيولى أيضا ليست إلا جهة من جهات الفاعل العقلي، إذ كل من الهيوليات الفلكية والعنصرية إنما صدرت عن فاعلها القريب بجهة خسيسة فيه - هي الإمكان -، ومنشأ الإمكان - ذاتيا كان أو استعداديا - في الجواهر المفارقة أو المقارنة هو نقص الوجود وقصور التجوهر عن الوجود القيومي والتجوهر الإلهي، فإذا علمت ذلك فنقول:
كما أن العقول عند المعتبرين من الحكماء والراسخين من العرفاء على ضربين: منها العقول العالية الواقعة في سلاسل طولية، وهم الملائكة الأعلون، ليس فيهم إلا جهة شريفة هي نسبتهم إلى المبدء تعالى جده، وليس لهم التفات إلى ذواتهم النورية القدسية فضلا عما ورائهم، فلا جرم لا يقع من جهاتهم الشريفة الوجودية الوجوبية إلا عقول أخرى.
ومنها العقول العرضية التي هي الملائكة الأدنين لقربهم بعالم الأجسام، ويسمون ب " أرباب الأصنام " ، وهي أدون منزلة من القواهر الطولية، ولهذا صدرت منهم الأصنام والأجسام بواسطة التفاتهم إلى ذواتهم الفاقرة الموصوفة بالقصور الإمكاني، ولولا قصورهم الإمكاني والتفاتهم إلى ذواتهم لما صدرت عنهم الأجسام.
فعلى شبه هذا التقسيم، تنقسم النفوس بحسب الإمكان الاستعدادي: فمنها ما يتعلق بالأبدان المادية الإستعدادية والأجرام المستحيلة الكائنة الفاسدة، فتنفعل عن هيئاتها وعوارضها المادية، لكونها بالقوة لا يمكن لها أن تستكفي بذاتها.
ومنها ما لا يتعلق بالأبدان المستحيلة، بل الأبدان تنشأ منها نشأة ثانية. وتوجد بتبعيتها كوجود الظل من ذي الظل، من غير استعداد مادة وانفعال وتغير من حال إلى حال، بل بمجرد جهة فاعلية في النفس مع حيثية امكانها وقصورها عن درجة الكمال التام العقلي، إذ لو بلغت إلى حد العقل، لم يتبعها تجسم وتكدر، فهذا القسم من النفوس تجردت عن الحس دون الخيال، ولو تجردت عن الخيال والتمثيل لكانت عقولا صرفة.
فالنفس عند تفردها عن البدن العنصري، سواء كان بالنوم أو الموت، تصحبها القوة الخيالية التي للنفس بمنزلة القوة الهيولانية للبدن، ويلزمها البدن الناشيء عن النفس نشوء الظل عن الضوء، والعكس عن الشخص من غير انفعال.
وهذا القسم من النفوس سواء كانت أشرارا أو أخيارا - أقوى قوة وأشد تأثيرا من النفوس العنصرية المنفعلة عن الأبدان وقد مر أن قوة النفس لا تنافي شقاوتها.
فإذا تمهدت هذه الأصول، وتشيدت أركان هذه الفصول، فبعد تذكرها وتدبرها من أوائلها إلى خواتمها بإدراك صحيح وطبع سليم ونظر ثاقب وفهم ذكي، تحقق وتبين حقيقة المعاد الجسماني، وحقيقة الرجوع الإنساني بكلا جزئيه، الجسماني والروحاني، وبها يندفع جميع شبه المنكرين وكافة أبحاث الجاحدين للحق، المعاندين في إثبات المعادين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم، ومنه المن الجسيم.
ولولا مخافة التطويل المؤدي إلى الإطناب الممل، لا وردت واحدة واحدة من الشبه المعقودة المذكورة في باب المعاد، وتبينت وجه التفصي عنها باستعانة هذه الأصول الممهدة واستنباطها، ولكن الموفق المهتدي بنور الحق يمكنه الإستعانة بها، والإستضاءة بأشعة أنوارها، والإقتباس من لوامع أسرارها وبدائع آثارها، فيسلك بها طريق الآخرة، وينظر منها أسرار المعاد، ويزيد بسببها الإيمان بالله، والإعتقاد بيوم الحساب - يوم الجزاء لأعمال العباد، يوم يخرجون من أجداث الأجساد -.
وأما البليد الذهن المختوم على قلبه الواقف، أو العنيد المنحرف الممسوخ، فلا ينفعه تكثير الفوائد ونشر الموائد، وبسط المقدمات وإفاضة الخيرات، بل ما يزيدهم عن الحق إلا نفورا، وما زادتهم الحكمة إلا سفها وقصورا.
[36.82]
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى: في معنى الأمر
قيل: " الأمر " ها هنا بمعنى الشأن { إنمآ أمره } أي: إنما شأنه، { إذآ أراد شيئا } ودعاه داعي حكمته ومصلحته إلى تكوينه { أن يقول له كن فيكون } ولا بأس عليك أن تحمل " الأمر " ها هنا على ما يرادف معنى الحكم الإنشائي والأمر التكويني، فإن الأمر من الله كباقي أقسام كلامه على ضربين:
أحدهما: ما هو بمعنى التكوين والإنشاء المطلق.
والثاني: هو بمعنى طلب الفعل من العبد، وهو الأمر التشريعي.
ومن القبيل الأول:
ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء:69]
كونوا قردة خاسئين
[البقرة:65]
كونوا حجارة
[الإسراء:50].
ومن قبيل الثاني قوله تعالى:
كونوا قوامين بالقسط
[النساء:135].
والمخاطب بالأمر التكويني والخطاب الإيجادي، لا يكون إلا ذوات الماهيات المجعولة، المستعدة لسماع قول الحق بآذانهم السمعية، الواعية المطيعة لأذان الحق وإذنه لهم وندائه عليهم بالدخول في دار الوجود، فسمعوا نداء الحق بقوله: " كن " وأطاعوا أمره، وقالوا: سمعنا وأطعنا، ودخلوا في دار رحمته وبلدة جوده ونعمته، كما قال مخاطبا للسموات والأرض:
ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت:11].
وأما المخاطب بالأمر التشريعي والخطاب التكليفي، فلا يكون إلا ضربا من النفوس الإنسانية حين وجودها العنصري، وكونها الدنيوي وبلوغها النفساني وكمالها البدني.
وفي الأمر الأول ، لا مجال للعصيان، لأنه الدين الفطري الإلهي الذي يستحيل التمرد عنه والمعصية فيه، وبهذا جرت سنة الله التي لا تبديل لها، وأما الأمر الذي أمر به عباده على ألسنة رسله وألواح كتبه، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى، وبارتفاع الوسائط لا سبيل لأحد إلا القبول والطاعة.
ومثال هذه القاعدة، النفس الإنسانية التي خلقها الله مثالا له ذاتا وصفة، وجعلها سلما إلى حضرته، وصراطا مستقيما إلى جنابه، وحاملا لسر ربوبيته وأمره ونهيه وكتبه ورسله وملائكته وعباده الصالحين والطالحين من الجن والإنس أجمعين.
فمن أراد أن يعرف ما ذكرناه، فلينظر إلى نفسه في أمره ونهيه وتكوينه بلا واسطة لسان ولا جارحة ولا مخلوق غيره، فهو على بينة من ربه في كماله، وقد خلقت أعضاؤه مسخرة لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا، فإذا أمر العين للإنفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل للحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء، فهي له من جهة أمثالها بمنزلة أجرام السموات والأرض لله تعالى في حركاتها وسكناتها.
وله جنود روحانية هي أقرب منزلة منه، وأسرع قبولا لطاعته، وأشد سماعا لأمره ونهيه، وهي قواه الإدراكية أولا، وقواه التحريكية ثانيا، كل منهما على طبقات متفاوتة في الشرف، ودرجات مترتبة في القرب منه والطاعة لحكمه والسماع لأمره، هي كلها بمنزلة ملائكة الله العلوية والسفلية، العلمية والعملية على شعوبها وقبائلها، المترتبة في مقاماتها النازلة في مراتبها، كل له مقام معلوم، حيث أنهم كلهم جبلوا على الطاعة لا يستطيعون له خلافا، بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وأما أمره ونهيه بالواسطة من لسان أو غيره، فقد يكون واقعا وقد يكون غير واقع، فما شرع في التكوين بواسطة جارحة من جوارحه، فلم يقع في شيء دون شيء بواسطة كلال الآلات الجارحية، وفتور الأعصاب والأدوات العرضية، مع عموم ذلك إذا رفعت الوسائط وتركت من البين فلا يقدح في كماله.
المسألة الثانية
في معنى الإرادة من الله سبحانه
إن الإرادة فينا شوق متأكد عقيب داع، هو تصور الشيء الملائم الحسي أو الظني أو الحقيقي تصورا تخيليا أو ظنيا أو عقليا موجبا لتحريك القوة المحركة للأعضاء الآلية، كالأرواح ثم الأعصاب ثم الأعضاء، لأجل تحصيل ذلك الشيء من حدود العلم إلى حدود العيان والشهود.
والإرادة في الواجب، هي المحبة الإلهية التابعة لابتهاجه بذاته التي ينبوع كل فضيلة وكمال وخير، وهي عين الداعي، وهو نفس علمه بنظام الخير الذي هو عين ذاته، المقتضية للنظام الكلي، المؤدية للخيرات أتم اقتضاء وتأدية.
لأنه لما علم ذاته الذي هو أجل الأشياء بأجل علم، يكون مبتهجا بذاته أشد الإبتهاج، ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عنه من حيث كونها صادرة عنه، فالواجب تعالى يريد الأشياء لا لأجل ذواتها الإمكانية، بل لأجل أنها آثار صادرة عنه تعالى، فالداعي في إيجاده للممكنات والغاية لها هو ذاته تعالى، فيكون ذاته فاعلا وغاية، فهو الأول والآخر.
قال بعض الحكماء: لو أن إنسانا عرف الكمال الذي هو حقيقة واجب الوجود، وكان ينظم الأمور التي بعده على مثاله، حتى كانت الأمور على غاية النظام، لكان غرضه بالحقيقة واجب الوجود الذي هو الكمال، فإن كان واجب الوجود هو الفاعل فهو الغاية والغرض.
ومن ها هنا تظهر حقيقة ما قاله بعض العرفاء، لولا العشق ما يوجد أرض ولا سماء ولا بر ولا بحر ولا هواء ولا ماء.
ومما يجب عليك أن تعتقد، أن الباري تعالى، كما أنه غاية الأشياء بالمعنى المذكور - أي الداعي والسبب الغائي -، فهو غاية أخيرة، بمعنى أن جميع الأشياء طالبة لكمالاتها، ومتشوقة للخير الأتم، ومتشبهة به في تحصيل ما يتصور في حقها من الخير كل بحسبه، فلكل منها عشق وشوق إليه إراديا كان أو طبيعيا، ولأجل هذا المعنى حكم الحكماء الإلهيون بسريان العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها، وأثبتوا لكل مها شعورا وعلما، وإليه الإشارة في قوله تعالى:
ولكل وجهة هو موليها
[البقرة:148] وقوله:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء:44].
ويقتبس كل منها بنار الشوق نور الوصول لديه والقرب منه، كما قال واحد من الحكماء المعلمين : صلت السماء بدورانها، والأرض برجحانها، والمطر بهطلانه، كل يدور على المبدء.
وقيل أيضا مشيرا إلى حركة السماء وسكون الأرض: انهما لسيان في هذا الشأن:
فذلك من عميم اللطف شكر
وهذا من رحيق الشوق سكر
المسألة الثالثة
إن حقيقة الأمر التكويني والإرادة الإلهية بالمعنى الذي مر، كلتاهما واحدة، فأمره لكل شيء عين ارادته له، ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، فكل ما أمر به أمرا تكوينيا فلا بد من وقوعه، وكذا كل ما أراد وقوعه إرادة ذاتية أزلية فيجب تحققه.
المسألة الرابعة
في أن أمره للخلائق وإرادته للموجودات ليس أمر قسر وإجبار وإرادة قهر واضطرار، بل ما أمرهم إلا ما أحبوه، ولا أراد منهم إلا ما عشقوه، بحسب ذواتهم الأصلية وماهياتهم الذاتية، قبل أن ينحرفوا ويتغيروا عما فطرهم الله عليه، بل الله سبحانه عامل كل أحد من خلقه معاملة لو لم يكن خلق سواه كان عامله بها، واختار لكل موجود ما أن وكل أمره إلى نفسه اختار ذلك.
ألم تسمع في الأخبار الواردة أن الله عز وجل خلق الصنائع وعرضها على بني آدم قبل أن يخلقهم هذا الوجود الدنيوي في بعض مواطن الغيوب ومكامن النشآت، فاختار كل لنفسه صناعة، فلما أوجدهم اختار لهم ما اختاروا لأنفسهم.
وهكذا الأمر في كل ما يجري على الإنسان، لا يختص ذلك بالصنائع، بل ذلك مثال واحد من هذا الشأن، وقس عليه غيره، وليحسن كلكم ظنه بربه وليحبه بكل قلبه، فإن ربه من الرحمة إليه والحنان له على ما وصنفاه، لا على ما يظنه بعض المتفلسفة القائلة بأن " نظر الحمق بالرحمة والإيجاد إلى مجموع النظام دون خصوصيات الآحاد ".
فكأنه لم يعلم معنى كونه أرحم الراحمين، وكأنه لم يفهم كون الله أحب الأشياء للعباد، لأن المحبة والحنان يتبعان الملائمة، ولا يكون أشد ملائمة وخيرا للعبد من الخالق الذي منه وجوده وإليه معاده، وهو أوله وآخره وظاهره وباطنه وأمره كله، فالحق أن أمره لهم مسبوق بدعائهم له وطلب الدخول إليه، فلولا سبق السؤال الاستحقاقي لما ورد الأمر من الله بالدخول في دار الوجود بالفيض المقدس، كما أنه لولا الفيض الأقدس المستدعي لماهياتهم وأعيانهم الثابتة التي هي كظلال أشعة الأسماء الإلهية، لما سبق منهم الإستئذان والسؤال الوجودي الفطري الذي تسأله الذات المطيعة السامعة لقول الله " كن " الداخلة امتثالا له في الوجود.
وقول " كن " ليس أمر قهر وقسر، لأن الله غني عن العالمين، ولا حاجة له إلى وجودهم ليجبرهم عليه، كما لا حاجة له إلى عبادتهم وطاعتهم في الأمر التشريعي، وإنما أمرهم بالأحكام الدينية لما رأى فيه صلاح حالهم في النشأة الأخرى، كذلك أمرهم بالأمر التكويني أمر إذن، لأنه مسبوق بسؤال الوجود منهم له، فكأنه قال العبد لربه: إئذن لي أن أدخل في عالمك وهو الوجود، فقال الله " كن " أي " أدخل حضرتي فقد أذنت لك " كما حكى الله عن عيسى (عليه السلام):
أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله
[آل عمران:49] فلولا سبق السؤال الوجودي عن الطائر أن يكون لم يسم ذلك إذنا.
حجاب وكشف
فإن قيل: أين للمعدوم لسان يسأل بها؟
قلنا: إن ذلك بعد ثبوت أعيانهم، وثبوت ما هو بمنزلة لسانهم، كما أشرنا إليه، وهو المشار إليه في قوله (صلى الله عليه وآله):
" ان الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره "
- الحديث -، فالأول إشارة إلى الفيض الأقدس، والثاني إلى الفيض المقدس، وتحقيقها يحتاج إلى مجال آخر، لأنه من مزال الأقدام ومضال الأقوام، ومن هاهنا ضلت المعتزلة من أهل الكلام، وذهبوا إلى انفكاك الماهيات عن وجودها فبعدوا عن الحق بمراحل.
المسألة الخامسة
في لمية صدور العصيان وحصول الشقاوة لأفراد الانسان
لقائل أن يقول: لما تحقق أمره وإرادته تعالى للأشياء على الوجه الذي قررت من كونها عين المحبة الإلهية، الجاعلة كل أحد على أفضل ما يختار له ويحب لنفسه، فما معنى صدور المعاصي عنهم والآثام المعقبة لهم يوم القيامة صنوفا من الآلام؟
فنقول: كل ذلك حق، وسنطلعك على حقيقة الأمر فيه، فاعلم أن الطاعة، كل هيئة تقتضيها ذات الإنسان على ما جبلت عليها لو خلت عن العوارض الغريبة، وهي الفطرة الأولى التي فطر الله عليها العباد كلهم، والمعصية كل ما يقتضيه ذاته بشرط أمر غريب يجري مجرى المرض، والخروج عن الحالة الأولى، فيكون ميل الإنسان كشهوة أكل الطين التي هي غريبة بالنسبة إلى المزاج الطبيعي لم يحدث إلا لعروض مرض وانحراف عن مذهب الطبيعة الأصلية.
وقد ورد في الحديث القدسي:
" إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فأحتالتهم عن دينهم "
، فالطاعة هي الحنيفية التي تقتضيها ذواتها لو لم تمسسهم أيدي الشياطين، فإذا مستهم أيديها فسد عليهم مزاج فطرتهم، فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم، وكادوا أن يسقطوا عن درجتهم التي جبلوا عليها، فأتاهم رسول من الله يذكرهم العهد القديم، ويتلوا عليهم آيات ربهم، ويعود عليهم بتلك الهيئات التي كانت تقتضيها ذواتهم، فصرفوا عنها باللاحق الغريب، وتكرر عليهم بما يذكر ذلك من الصلاة والصيام والزكاة والإطعام وصلة الأرحام، إلى غير ذلك من الطاعات المعروفة، فإن كل ذلك دين الله الذي دينه ودعا إليه عباده أجمعين، وأمرهم به قبل خلق السموات والأرضين، فأطاعوه وتقلدوه طوعا ورغبة وحنينا ومحبة.
ولو لم تكن هذه الهيئات مما تقتضيها ذواتهم، كانت دعوتهم إليها دعوة إلى شقاوتهم، لأن سعادة الشيء ليست إلا ما تقتضيه ذاته ويلائم نشأته ويوافق طبعه (طلبه)، ولا شقاوته إلا خلاف ما يقتضيه ذاته، وإنما كبرت الصلاة وثقلت الطاعات على الناس لما انشب فيهم أظفار من العارض الغريب
بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون
[المؤمنون:71]
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني
[السجدة:13] الآية.
فأما الخاشعون - وهم الذين باشرت أنوار الحق نفوسهم حتى خشعوا لها، فإن الله إذا تجلى لشيء خشع له - فليست الصلاة كبيرة عليهم، ثم إن هذا المرض الذي عرض لذواتهم، والحالة المنافية التي حلت بهم، لولا أن وجدوا قبولا من ذواتهم لعروضها لهم، واذنا في لحوقها بهم، لم يكونا يعرضان لهم أبدا ولا يلحقان بهم، فإذن كان مما يقتضيه ذواتهم أن تلحق بهم أمور منافية لجواهرهم، فإذا لحقتهم تلك الأمور، اجتمعت فيها جهتان: جهة نورية فطرية، وجهة ظلمانية وهمية، فكانت ملائمة منافية.
أما الملائمة فلأن ذواتهم اقتضتها، وأما كونه منافيا فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم، فلو لم تكن منافية لهم لم يكن ما فرضناه مقتضى لها، مقتضى لها، بل أمر آخر - وهذا خلف -.
فالشيء عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم، سعيد شقي، ملتذ ولكن لذته ألمه، سعيد ولكن سعادته شقاوته، وهذا عجيب جدا، ولكن أوضحناه لك إيضاحا لم يبق معه عجب وريب إنشاء الله.
ولهذه الواقعة أمثلة كثيرة في العلوم الطبيعيات، مثل الحركة القسرية، فإنها صادرة عن الطبيعة بواسطة عروض ميل غريب، ومثل الحرارة الغريبة عند الحمى، فإنها محللة للبدن، مضعفة له، مؤذية للنفس، مع أن النفس تحدثها في البدن، لأجل انحراف الطبيعة عن اعتدالها اللائق بها في كل وقت.
ومثل الشكل الغريب الذي عرض للأرض أولا بواسطة أمر غريب حادث، فغيرها عما كانت، وأخرجها عن الكروية التي مقتضى طبيعتها الأصلية، فصار لها طبيعيا قبلته الأرض وحفظته يبوستها التي هي كيفية طبيعية لها، فالذي كان لها أولا بمنزلة الآفة والمرض، صار لها أخيرا بمنزلة المطبوع الموافق كالصحة، فلو لم يكن في طبعها من القوة الهيولانية ما يقبل الأشكال العارضة لأجل مصادفة الأمور الغريبة، لما قبلتها بوجه من الوجوه أصلا، كالأفلاك وما فيها، فالذي قبلته الأرض من هذه التضاريس في سطحها، فإنما قبلته لأنها مطبوعة من وجه، مقسورة من وجه.
وتحت هذه الأمثلة أسرار عظيمة لا يتفطن بها إلا الأقلون من العلماء
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت:43].
تفريع
فإذا علمت هذه القاعدة فمهما سمعت قول الله عز وجل يذكر هؤلاء الأشقياء بالبعد والشقاوة، فهم أشقياء مبعدون لا شك في ذلك، فإن العذاب مطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ومهما سمعت عز وجل ينبئ عن خلقه كله بالحسن والبهاء، ويذكر نفسه بالرحمة التي وسعت كل شيء، فاعلم أنه بالنظر إلى تلك الجهة الدقيقة التي نبهناك عليها، أن ذواتهم لو لم تستدع عروض العذاب الدائم لم يكن يفعل بهم ذلك، فإن الله عز وجل لا يولي أحدا إلا ما تولاه عدلا منه ورحمة.
وقد ورد: أن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم قال لهم ليختر كل منكم صورة أخلقه عليها، وهو قوله تعالى:
ولقد خلقناكم ثم صورناكم
[الأعراف:11] فمنهم من قال: " رب أخلقني خلقا حسنا أعدل ما يكون، حتى لا يكون مثلي أحد في الحسن والجمال " ومنهم من قال: " أخلقني خلقا قبيحا أبعد ما يكون من التناسب وأوغله في التنافر، حتى لا يكون مثلي في القبح والبعد عن الإعتدال أحد " ، وكل منهما أحب لنفسه التفرد، فإن حب الفرد نية فطرة الله السارية في كل الأمم التي يقوم بها وجود كل شيء، فخلق الله كلا من الخلق على ما اختار لنفسه، وأراد لكل منهم ما أراده لنفسه.
تفريع آخر
فاعلم يا حبيبي أن قبل كل نكرة معرفة، وقبل كل لعنة رحمة، وهي الرحمة التي وسعت كل شيء، فإن الله تولى كل أحد ما تولاه لنفسه، وهو قوله:
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا
[النساء:115].
وقد ورد في الخبر موقوفا على ابن مسعود في صفة يوم القيامة أن الله عز وجل ينزل في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، فينادي مناد: أيها الناس، ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أن يولي كل أحد منكم ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا، أليس ذلك عدلا من ربكم؟.
قالوا: بلى.
قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، الحديث بطوله.
وكما يولون في الآخرة ما تولوا في الدنيا، فإنما يولون في الدنيا ما تولوه في السوابق حين خلقوا في الظلمة، فإن شككت في ذلك فاتل قوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
[الأحزاب:72] - الآية. لتعلم أن الله لا يحمل أحدا شيئا قهرا وجبرا، بل يعرض عليه أولا، فإن تولاه ولاه، وأن لم يتوله لم يوله، وهذا من رحمة الله وارادته الخيالية عن الكراهة أصلا، ويرحم الله أمرءا آمن بالكتاب كله ولم يبادر بالصرف والتأويل إلى ما يبلغه بعقله وبعقول غيره من الأباطيل، ولم يسلك سبيل المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين.
وهم وتنبيه
لا يقال: ليس تولية الشيء ما تولاه عدلا من كل وجه، بل حيث يكون ذلك التولي عن رشده وبصيرة، فإن السفيه قد يختار لنفسه ما هو شر بالنسبة إليه وضر لجهله وسفاهته، ثم لا يكون توليته إياه عدلا وحكمة - بل ظلما وجورا -، وإنما العدل والحكمة والشفقة في ذلك منعه إياه وصرفه عنه.
لأنا نقول: هذا التولي الذي كلامنا فيه، ليس توليا يحكم عليه بالرشد والسفه، والمنفعة والمضرة، وإنما هو تول سابق على النفع والضر، حاكم على الخير والشر، لأن به يصير الشيء متعينا في الخارج بالأسباب المقدرة له، وما يختاره السفيه لذاته إنما يسمى شرا، لأنه مناف لذاته، فلذاته اقتضاء أول متعلق بنقيض هذا الاختيار، فذلك هو الذي أوجب لنا أن نسمي هذا شرا بالنسبة إليه، وأما اقتضاؤه الأول فلا يمكن وصفه بالشر، لأنه لم يكن قبله اقتضاء يكون هذا بخلافه فيوصف بأنه شر، بل هو الإقتضاء الذي لا يكون إلا خيرا، لأن الخير ليس إلا ما يقتضيه ذات الشيء، ولو أطلق لفظ " الشر " على ماهية امكانية تكون مرتبتها في درجة الوجود والفضيلة الحقيقية دون مرتبة موجود آخر مع استحالته أن تكون هي إلا هي، لكان ذلك الإطلاق على غير المعنى الذي كلامنا فيه الآن، فإن الشر معناه العرفي هو عدم وجود ما، أو عدم كمال وجود ما - لما من حقه بما هو هو - أن يناله بحسب استعداده الفطري أو الكسبي.
وأما كون الحمار ليس له وجود الإنسان وكماله، فلا يعد شرا بهذا المعنى، والتولي الذي كلامنا فيه، إن الحق سبحانه ما ولى كل شيء إلا ما تولاه بنفسه، هو الاستدعاء الذاتي الأولي، والسؤال الوجودي الفطري، الذي تسأله الذات القابلة المطيعة السامعة لقول " كن " منه تعالى، فيدخل في عالمه بعد الاستئذان منه، والأمر من الحق تعالى.
فهذا تحقيق الأمر الإبداعي والإرادة الأزلية المتعلقة بذوات الأشياء وأما الأمر التشريعي والتكويني الحادثان، والإرادة المترتبة على استحقاق العبد من جهة أعماله، فهي أيضا على ما يناسب الفطرة الثانية له في الدنيا والآخرة، فمن تولى الله وأحب لقائه، وجرى على ما جرى عليه الأوامر الشرعية والتكاليف الدينية، تولاهم الحق وهو يتولى الصالحين، ومن تعدى ذلك فقد طغى وتولى الطواغيت واتبع الهوى، ولكل نوع من الهوى طاغوت ولاه الله ما تولاه، فشخص لكل معبود ووجه إليه، وهو قرينه في الدنيا والآخرة:
وما على الرسول إلا البلاغ المبين
[النور:54]
أعاذنا الله من متابعة الهوى والشياطين، وجعلنا من عباده الصالحين الذين يتولاهم برحمته يوم الدين.
المسألة السادسة
في معنى القول
اعلم أن القول والكلام عبارة - عند المحققين من المتكلمين - عن إنشاء ما يدل على المعنى، وليس من شرط الدلالة المغايرة الذاتية بين الدال والمدلول عليه، بأن تكون ذات المعنى المدلول عليه شيئا آخر غير ذات ما يدل عليه، وإلا لم يفهم عند سماع الألفاظ والعبارات أنها ألفاظ وعبارات، وكذا ليس يشترط كون الدال على المعنى من جنس الأصوات والحروف، بل قد صرح المحققون من العرفاء وأهل الكشف والشهود، أن روح المعنى المقصود من الكلام هو الإعلام.
وربما يستدلون عليه بتسبيح الحصاة وغيرها، وغير ذلك من الشواهد الدالة على أن الأشياء متكلمة بألسنة ذاتها، ناطقة بحمد الله وتسبيحه من جهة وجوه دلالاتها على وحدانية الله تعالى، وقد عبر سبحانه عن هذه الدلالة في قوله سبحانه:
أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء
[فصلت:21].
وما روي عن أمير المؤمنين ويعسوب الدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إنه قال ذات ليلة وقد سمع صوت ناقوس النصارى: " هذا الناقوس يقول التسبيح الفلاني كذا وكذا " - الحديث -، وكذا ما روي عنه صلوات الله عليه أنه قال:
" أنا كلام الله الناطق "
، وكذا ما روي عنه أيضا أنه قال مخاطبا للإنسان:
وأنت الكتاب المبين الذي
بآياته يظهر المضمر
فيه دلالة واضحة على أنه ليس من شرط الكلام والكتاب أن يكون من جنس الأصوات والحروف، وأمثال ذلك منقولة من كثير من الأكابر والعرفاء وأعاظم العلماء.
والأحاديث الصحيحة الدالة على نطق الأحجار والأشجار لرسول الله (صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام) كثيرة من غير تعرض في جميع ذلك بأنه كان بطريق الصوت، أم لا - وإن كان ذلك جائزا -، بل هو مما......... ...................................................................... ....... قد وقع في بعض الأحايين حيث اتفق لهم محاكاة هذه الدلالة الذاتية بالنطق الظاهري أيضا، فيسمعونه كفاحا بسبب إشراق نور النبوة على مشكاة حواسهم الظاهرة المنورة بأنوار صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانعكس ظل السماع القلبي على قوة السمع الظاهري، فانطبع على لوح بنطاسيا صورة ذلك السماع العقلي، على سبيل الإنحدار من العالي إلى المتوسط، ثم إلى السافل، على عكس عادة الناس في إدراكهم صور حقائق الأشياء، حيث يقع لهم الإحساس بها أولا - ثم التخيل ثانيا، ثم التعقل آخرا.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن كلام الله ليس معاني قائمة بذات الله تعالى تكون هي من مدلولات الألفاظ التي وقعت في كتب الله النازلة على الأنبياء - كما ذهب إليه الأشاعرة، وسموه ب " الكلام النفسي " وقالوا إنه مدلول الكلام اللفظي - فإن ذلك يؤدي إلى مفاسد شنيعة ومثالب عظيمة يجب تنزيه الله عنها، مما هو مذكور في كتب أهل البحث والكلام.
ولا ينحصر أيضا في خلق الألفاظ والعبارات المسموعة - كما زعمه المعتزلة -.
بل مطلق إنشاء ما يدل على المعاني مع الشعور والإرادة للإعلام، ولهذا قال تعالى: - مشيرا إلى جوهر عيسى (عليه السلام):
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
[النساء:171] وقال مشيرا إلى النفوس الناطقة الإنسانية:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي
[الكهف:109] " والبحر " إشارة إلى الهيولى القابلة للتشكلات، والصور الحادثة التي هي قوالب معاني النفوس، كالمداد القابل لتشكلات الحروف الدالة على المعاني.
ذكر تنبيهي
اتفق أئمة أهل الكشف على أن النفس الإنساني تحاكي النفس الرحماني وهو كصداه ينادي بندائه ويحاكي بأدائه، فمظاهرهما متطابقة، ومراتبهما متحاكية متشابهة، ومنازلهما منحصرة في ثمانية وعشرين على ما ناح به لسان العارفين.
اشراق افاضي
ذكر بعض أكابر العلماء أنه فرق ما بين " الكلام الإلهي " و " الكتاب السماوي " ، فالكلام بسيط والكتاب مركب من حامل ومحمول، والكلام أمري
إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
[يس:82] والكتاب خلقي:
إن كتاب الأبرار لفي عليين ومآ أدراك ما عليون * كتاب مرقوم يشهده المقربون
[المطففين:18 - 21] وعالم الأمر خال عن التضاد، بل أنه مقدس عن التغير والتكثر:
ومآ أمرنآ إلا واحدة
[القمر:50] وأما عالم الخلق فمشتمل على التضاد والتغير
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
[الأنعام:59].
وكما أن الكلام يشتمل على الآيات:
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق
[البقرة:252] فكذا الكتاب يشتمل عليها
تلك آيات الكتاب المبين
[يوسف:1].
والكلام إذا تشخص وتنزل من سماء التجرد صار كتابا، كما أن الأمر إذا تنزل والحكم إذا مضى صار فعلا { كن فيكون }.
فعلم مما تمهد وتقرر أن وجود عالم الأمر " هو قول الله " ، وصحيفة عالم الخلق هي " كتاب الله " ، وآياتها أعيان الممكنات وماهيات الكائنات
إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون
[يونس:6].
وهذه الآيات البينات إنما أبدعت وأنشأت أولا في جواهر عالم الأمر والتدبير، ثم بنيت وتصورت في مواد عالم الخلق والتقدير، ليستعد أصحاب التفكر والتذكر بسبب مطالعة أبواب هذه الكتب، ومشاهدة آياتها الفعلية المثبتة في الآفاق، واستماع آياتها القولية المثبتة في الأنفس، للإرتقاء إلى عالم الأمر والإنتقال من المحسوس إلى المعقول، والارتحال من الجزئي إلى الكلي، والسفر من الخلق إلى الحق، ومن الشهادة إلى الغيب، ومن الدنيا إلى الآخرة، ليفوزوا بالسعادة العظمى، ويصلوا إلى مشاهدة عالم الربوبية والوحدانية الحقة وملكوت ربهم الأعلى
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53].
حكمة برهانية
إن الإنسان ما دام كونه الدنيوي محبوسا في مضيق الحواس ومقيدا بسجن عالم الزمان والمكان، فلا يمكنه سماع قول الحق كفاحا، ولا مشاهدة الآيات الأفاقية والأنفسية إلا واحدة بعد واحدة، وزمانا بعد زمان ويوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، فيتلو آية وتغيب عنه أخرى، فتتوارد عليه الأوضاع وتتعاقب عليه الآنات،
وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات
[إبراهيم:5].
وهو على مثال من يقرأ طومارا وينظر إلى سطر منه بعد سطر، ويطالع حرفا بعد حرف، وهذا القصور دركه عن مشاهدة الجميع دفعة واحدة، فإذا قويت بصيرته وتكحلت بنور الهدياة والتوفيق - كما هي عند القيامة - فيتجاوز نظره عن مضيق عالم الخلق والظلمات إلى سعة عالم الأمر والأنوار، فيطلع على جميع ما في هذا الكتاب المبين، الجامع للأكوان الخلقية دفعة، كمن يطوى عليه السجل الجامع للسطور والكلمات
يوم نطوي السمآء كطي السجل للكتب
[الأنبياء:104]
والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67].
ويمين الله عالم الأمر، ولم يقل بشماله، لأن أهل الشمال وسكان عالم الضلال ليس لهم نصيب من طي السموات، وكذلك كل من كان محبوسا في سجن الأجسام، مقيدا بقيود الحواس، فلا اقتدار له على مطالعة آيات الله سبحانه والإطلاع على معانيها، وفهم حقائق المعارف التي فيها، ومن لم يتمكن من فهم آيات الله فهو لا محالة معرض عنها، كأنه لم يسمعها، ويكون حاله ما أفصح الله عنه بقوله:
يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها، فبشره بعذاب أليم
[الجاثية:8].
واعلم أن في الكلام والكتاب أسرارا عظيمة لا يحتمل المقام إيرادها وذكرها، ولا يمكن لهذه الأسماع الدنيوية أن تسمعها، فوقع الاكتفاء بهذه اللمعة اليسيرة من آيات كواكبها المنيرة.
المسألة السابعة
في حاصل معنى الآية وغرضها المسوق إليه على حسب طاقتنا
لما كانت عمدة ما يصد الناس عن الإعتقاد بأمر المعاد هي أن النفس بعد خروجها عن غبار هذه الدار، وتفردها عن بدنها العنصري المستعار، وأركانها المتداعية إلى الإضمحلال والبوار، يستحيل رجوعها تارة أخرى إلى تدبير هذا البلقع الخراب، الخالي عن الإعتدال والإستعداد، الواقع في مهوى الزوال والفساد، إلا بعد حركات فلكية، واستحالات مادية، وانفعالات هيولوية، وهو ينافي حدوث الأبدان عند القيامة دفعة واحدة، ويلزم أيضا من عودها إلى البدن ما يلزم القول بالتناسخ، فأشار سبحانه إلى حل هذه العقدة ودفع هذه الشبهة، بأن إنشاء البدن الأخروي ليس من قبيل الأسباب الأرضية والجهات الإنفعالية المادية، ومن طريق الاستكمالات العنصرية والإنقلابات الهيولوية، بل جميع الأبدان والصور والأشكال الأخروية والأكوان الثانوية إنما نشأت من العالم الأعلى دفعة واحدة بحسب إرادة الله التي ينبعث منها عالم الأمر، فيحدث منها الأكوان والأبدان المكتسبة، لكل نفس بحسب ما يناسبها من أخلاقها وصفاتها.
وتعلق النفس بالبدن الأخروي ليس كتعلقها بالبدن الدنيوي، ومن عادة الله سبحانه أن يعبر عن اختراعه لشيء بلا توسط مادة جسمانية ب " الأمر " و " القول " ، ففي هذه الآية إشعار بأن نشوء الآخرة وعالم المعاد ليس من لواحق المواد وعوارض استعداد الأجساد، بل تكونها من عالم الأمر بحسب إرادة الله المبدع الجواد، بلا توسط الأمزجة الحاصلة بالإمتزاج والإعتدال، المتوسط بين أطراف التضاد، الموجب للمشابهة بالسبع الشداد، الخالية بالكلية عن الكيفيات المحسوسة القابلة للإشتداد الموجبة للتفاسد والافساد.
والنفس في هذا العالم تنشأ من البدن كنشوء الشعلة من الفتيلة بتوسط روح هي كالدخان، وفي الآخرة ينشأ البدن من النفس بحسب النيات والإعتقادات، فبين الوجودين تعاكس في النشأتين.
وفي قوله: " كن فيكون " إعلام بأن الفاعل الحقيقي لا يجوز عليه مما يجوز على الفاعل الطبيعي إذا فعل شيئا مما يقدر عليه من المباشرة لمواد الفعل ومحال القدرة، من استعمال الآلات وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب والعطب، بل إنما أمره وفعله الخاص به كحدوث القول من القائل، لا كحدوث الكتابة من الكاتب، بل كحدوث الشعاع من الشمس لا كحدوث المطر من السحاب.
وفيه أيضا إعلام بأن تخلف المعلول عن الفاعل الحقيقي في الأمور الإختراعية مستحيل.
وأما المسمى ب " الفاعل " في عالم الطبيعة، فهو في التحقيق ليس علة الوجود، بل هو سبب الحركة والإنتقال من حال إلى حال، فيحصل منه المعلول على التدرج والمهلة في الحصول، ومثل هذا الفاعل هو أشبه بالمعد منه بالمفيد الجاعل.
فهذا ما تيسر لنا في فهم هذه الآية ومنه الهداية في البداية والنهاية.
[36.83]
وقرئ " ملكة كل شيء " و " مملكة كل شيء " واعلم أن الملكة كالملكوت في المعنى، كما أن المملكة كالملك فيه.
وقرئ " ترجعون " - بضم التاء وفتحها -.
فسبحان - تقديس لذاته تعالى عن مباشرة الأجسام في فاعليته وإيجاده للأشياء، وعن استعماله القوى والآلات في صانعيته للموجودات، وتنزيه له عما يوصفه الجاهلون، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قاله الملحدون، و " الفاء " للتفريع على ما ثبت في الآية السابقة من كيفية صنعه وإبداعه، حيث بين فيها أن إيجاده لشيء عين إرادته.
وقوله تعالى:
كن فيكون
[يس:82] فيتفرع عنه تقديس الله عن القصور من الكمال والفتور في الأفعال، لأنه الذي بيده ملكوت الأشياء، وله التصرف بموجبات (بمواجب) مشيته وقضايا حكمته فيما شاء، وإليه رجوع كل شيء، لأنه الغاية الأصلية لكل ظل وفيء.
حكمة قرآنية فيها اشارات ربانية
أولاها: الإشارة إلى تقديس ذاته وتنزيه صفاته عن وصمة التغير والتجدد في نسبة الأفعال الحاصلة من مصادرها بالإنفعال إليه تعالى، وإبطال ما ارتكز في أوهام أقوام من أهل الكلام " إن الفاعل ليس إلا ما هو علة التغير " واشترط عندهم في مفهوم الفاعلية سبق الزمان موجودا أو موهوما.
وأما الإبداع المحض من غير اشتراط سبق زماني للفاعل بالذات على مجعوله، ولا اقترانه بعدم المجعول وهو التأييس (التأسيس) المطلق له من ليس ساذج غير زماني، فقوم لا يسمون مثل هذا التأييس (التأسيس) المطلق " فعلا " ، لاشتراطهم انتقال الفاعل من حالة إلى حالة، وسبق العدم الزماني فيه، وهو وهم باطل، إنما حداهم إليه حسبانهم إن حدوث العالم منه تعالى لا يتمشى إلا بهذا الوجه.
وقد أوضحنا هذه المسألة بما لا توقف لها على نسبة التغير إليه سبحانه، وفي القرآن تنبيهات بليغة على أن فعله تعالى ليس إلا الإبداع الصرف والتأييس (التأسيس) المحض، من غير مباشرة ولا تغير وانفعال وتكثر، وقوله: { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } إشارة إلى تفريع الحكم السابق بأن فعله ليس إلا بأمره المطلق وإرادته المطلقة، الخالية عن شوب قصور ووصمة حدوث وفتور.
الاشارة الثانية
الإشعار إلى تقديس ذاته وتنزيه صفاته عن أن يكون افتقار الممكن إليه في الحدوث فقط من جهته لا في البقاء، كما ذهب إليه أيضا أوهام هؤلاء القاصرين من المتكلمين، لما رأوا أن الابن يبقى بعد الأب، والبناء يبقى بعد البناء، والسخونة تبقى بعد النار، ولم يتفطنوا أن هذه الأمور ليست عللا بالحقيقة، فوقعوا في الغلط بسبب " أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ".
وقد برهن في الحكمة الحقة، على أن جسما من الأجسام - ولا أحد جزئيه - لا يكون علة لجسم آخر ولا لأحد جزئيه، وعلى أن علة كل جسم لا يكون إلا ما هو بريء عن مخالطة الأجسام والمواد.
وأما مثل البناء فحركته علة لحركة لبن ما، ثم سكونه علة لسكونه، وانتهاء تلك الحركة علة لاجتماع مادة، وذلك الإجتماع علة لشكل ما، ثم انحفاظ ذلك فلما تقتضيه طبيعة الأرضية التي في اللبنات، وهي مما أفادها الله بقوته التي تمسك السماء والأرض أن تزولا، ومن أسمائه تعالى " الحافظ " و " القابض ".
وكذلك النار علة لتسخين عنصر ما، لا أن تفيد السخونة، بل أن تبطل البرودة التي كانت مانعة من حصول السخونة في الماء من جهة واهب الصور، وأما حدوث السخونة واستحالة الماء إلى النار، فبالجاعل المفيد الذي يكسو العناصر صورها، وقد عرفت أنها لا يصح أن تكون جسما أو جسمانيا، وأما الأسباب السابقة فهي معدات ومغيرات وعلل بالعرض.
وقد ثبت وتقرر أن العلة يجب أن تكون متقدمة على المعلول بالذات لا بالزمان، فكيف تكون نار علة لوجود نار أخرى، ولا نار أحق أن تكون علة لنار متقدمة عليها بالذات من نار أخرى، وكذا الحكم في سببية إنسان - كالأب - لإنسان - كالابن.
وبالجملة، كل ماهية نوعية لا تكون واجبة الوجود، لم يكن لها بد من علة خارجة عن النوع، ولا تكون علتها إلا ما يتساوى نسبته إلى جميع أفراده، ولا تحتاج في إيجاده إلى أمر خارج عنه وعما ينتهي إليه في سلسلة الحاجة من زمان أو حركة، فكل ما سوى الله تعالى - سواء كان جوهرا أو عرضا، أو حركة أو زمانا، موجودا أو موهوما - فهي مفتقرة إليه، فائضة من لدنه، ففعله لا يكون إلا الأمر والابداع والتأييس (التأسيس) والإختراع.
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وباطنه، وما به قوام حقيقته وذاته، فيكون مثل هذا المبدع الحق والجاعل المطلق، علة الحدوث والهيئة دون بقاء الذات وقوام الماهية - تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا -.
الاشارة الثالثة
إن قوله: { بيده ملكوت كل شيء } ، مع قوله: { وإليه ترجعون } يدلان على أن ذاته المقدسة عن وصمة القصور والفتور، كما أنه فاعل لجميع الممكنات كذلك غاية لها، فهو أول الأشياء وآخرها، ومبدأها وتمامها، فالوجود كما صدر منه على الترتيب الصدوري والنظام النزولي، كذا ورد عليه ورجع إليه بالترتيب الصعودي والنظام العروجي على التعاكس في السلسلتين.
فكان أولا عقولا مجردة، ثم نفوسا منطبعة، ثم صورا منوعة، ثم صورا مجسمة، ثم هيولى - هي نهاية تدبير الأمر لقوله:
يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض ثم يعرج إليه
[السجدة:5] فيكون الحادث أولا من الهيولى جسما مطلقا، ثم نوعا بسيطا، ثم مركبا، ثم نباتا، ثم حيوانا، ثم إنسانا ذا نفس مجردة على مراتبها، ثم ذا عقل مفارق على درجاتها في الصعود، إلى أن ينتهي إلى الحق المعبود، فوقع الإبتداء من العقل والإنتهاء إلى العاقل، وبينهما أمور متفاضلة.
اعلم أنا كما أفادنا النظر في الوجود اثبات فاعل له، كذلك أفادنا إثبات غاية له، فكما لا يجوز أن يكون الممكن موجودا إلا بموجد يفيد وجوده لإفتقار ماهيته إلى مرجح، كذلك لا يجوز أن يكون موجودا إلا لغاية يتم بها وجوده لقصور وجوده عن درجة التمامية الأخيرة.
وكما أن سلسلة الأسباب الفاعلية لا بد وأن تنتهي إلى فاعل لا فاعل له، وإلا لم يكن شيء منها فاعلا ولا موجودا، لأنها على ذلك الفرض يكون الكل على حكم الوسط - وهذا خلف -، فكذلك سلسلة الأسباب الغائية لا يجوز أن تذهب إلى لا نهاية، بأن تكون لكل غاية غاية من غير انتهاء إلى غاية أخيرة لا تكون لها غاية أصلا، وإلا لم يكن لشيء من الأشياء غاية أصلا - وهو خرق الفرض -.
فثبت وتبين أن للممكنات كلها فاعل أول لا يكون له فاعل أصلا، وثبت وتبين أيضا أن لها غاية أخيرة لا تكون لها غاية أصلا، ثم يجب أن تكون هذه الغاية هي بعينها ما فرضناه فاعلا، لاستحالة تعدد الواجب تعالى، لأن كلا منهما موصوف بالمفارقة الكلية عن وصف الإمكان والقصور، والمفارقة الكلية تقتضي سلب الماهية، ويستحيل وجود شيئين كل منهما لا ماهية له، فالله هو الأول والآخر، ليس كمثله شيء، منه ابتداء ملكوت كل شيء وأمره، وإليه يرجع كمال وجوده وغايته إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، ألا إلى الله تصير الأمور.
خاتمة
في موضع نزول هذه السورة وعدد آياتها وبيان فضلها
أما موضع النزول: فهي مكة بالإتفاق، قال ابن عباس: إلا آية منها: وهي قوله:
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله
[يس:47] - الآية. نزلت بالمدينة.
وأما عدد آياتها: فهي ثلاث وثمانون آية كوفي، واثنتان وثمانون عند الباقين. واختلافها آية واحدة هي " يس " ، كوفي.
وأما فضلها: أبي بن كعب، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
" من قرأ سورة يس، يريد بها وجه الله عز وجل، غفر الله له، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة، وأيما مريض قرئت عنده سورة يس، نزل عليه بعدد كل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا، ويستغفرون له، ويشهدون قبضه، ويتبعون جنازته، ويصلون عليه، ويشهدون دفنه، وأيما مريض قرأها وهو في سكرات الموت، أو قرئت عنده، جاءه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة فسقاه إياها، وهو على فراشه، فيشرب فيموت ريان، ويبعث ريان. ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء، حتى يدخل الجنة وهو ريان ".
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" سورة يس، تدعى في التوراة المعمة، قيل: وما المعمة؟ قال: تعم صاحبها خير الدنيا والآخرة، وتكابد عنه بلوى الدنيا، وتدفع عنه أهاويل الآخرة، وتدعى المدافعة القاضية، تدفع عن صاحبها كل شر وتقضي له كل حاجة، ومن قرأها عدلت له عشرين حجة، ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله، ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء، وألف نور، وألف يقين، وألف بركة وألف رحمة، ونزعت منه كل داء وعلة ".
وعن أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
" إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس ".
وعنه، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
" من دخل المقابر، فقرأ سورة يس، خفف عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات ".
وروى أبو بصير، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال:
" إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس، فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام، كان في ليله من المحفوظين والمرزوقين حتى يصبح، ووكل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم، ومن كل آفة، وان مات في نومه، أدخله الله الجنة، وحضر غسله ثلاثون ألف ملك، كلهم يستغفرون له ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار له، فإذا أدخل لحده، كانوا في جوف قبره، يعبدون الله وثواب عبادتهم له، وفسح له في قبره مد بصره، وأمن من ضغطة القبر، ولم يزل في قبره نور ساطع إلى عنان السماء، إلى أن يخرجه الله من قبره.
فإذا أخرجه، لم تزل ملائكة الله معه يشيعونه، ويحدثونه، ويضحكون في وجهه، ويبشرونه بكل خير، حتى يجوزوا به الصراط والميزان، ويوقفوه من الله موقفا لا يكون عند الله خلق أقرب منه إلا ملائكة الله المقربون، وأنبياؤه المرسلون، وهو مع النبيين واقف بين يدي الله، لا يحزن مع من يحزن، ولا يهتم مع من يهتم، ولا يجزع مع من يجزع، ثم يقوله الرب تعالى: " إشفع عبدي أشفعك في جميع ما تشفع. وسلني عبدي أعطك جميع ما تسأل ".
فيسأل فيعطى، ويشفع فيشفع، ولا يحاسب فيمن يحاسب، ولا يذل مع من يذل، ولا يبكت بخطيئته، ولا بشيء من سوء عمله، ويعطى كتابا منشورا، فيقول الناس بأجمعهم سبحان الله، ما كان لهذا العبد خطيئة واحدة، ويكون من رفقاء محمد (صلى الله عليه وآله) ".
وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إثني عشر اسما، خمسة منها في القرآن: محمد وأحمد وعبدالله ويس ون.
فهذا يا حبيبي آخر ما قصدنا ترقيمه وحاولنا تفهيمه من الصنائع العلمية والعملية القرآنية، والذخائر العقلية البرهانية، المتعلقة بآيات هذه السورة الكريمة، ولمعات هذه الدرة اليتيمة، لتكون وسيلة لمن اهتدى في ظلمات البر والبحر، وخلص من دياجير الظلم والجور، وغلبة المضلين، وكثرة أنواع الشياطين، وخمول الحق وأهله، وانقطاع طرقه وسبله.
فأنت أيها الرفيق الشفيق، المؤمن الموقن بحقيقة هذه الأسرار، الحريص على اقتفاء هذه الآثار، كنت بين أهل زمانك وأقرانك، وأعداء إيمانك، وجحدة ايقانك، كقادح زناد في ليلة ظلماء، ذات رياح عاصفة، وظلمات متراكمة، وأهوية باردة، يريد استضاءة بنوره في طريق قد نفدت أدلتها، واندرست معالمها، وذهبت دلائلها، فلم يبق إلا طرق وعرة، وعلامات داثرة، يصعب السلوك فيها، والقصد إليها، إلا على أصحاب اقتفاء الآثار الخفية، بمعرفة قد سبقت عندهم وخفيت على الذين يريدون اطفاء نور الله بأفواههم، بذهابها وإزالتها، لئلا ترتفع حجة الله من أرضه وتنمحي آثار حكمته.
فلما أوراك الزناد بنوره، ودلك الدليل بظهوره، وصلت إلى بقعة من بقاع الجنة، وروضة من رياضها، التي فيها تبدل الأرض غير الأرض، والسموات مطويات يوم العرض، فيها رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
والحمد لله الملك المعبود، والصلاة على محمد صاحب المقام المحمود، وآله الهادين إلى سبيل المعرفة والشهود.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-2]
هذا من قبيل قولك: كانت الكاينة وحدثت الحادثة، والمراد القيامة وساعتها. والناظرون في علم الكتاب بعين الاحتجاب، يظنون أن زمان الآخرة وساعتها من جنس أزمنة الدنيا وساعتها، حتى أنهم يتوهمون أن يوم القيامة يوم مخصوص متصل أوله بآخر أيام الدنيا، فيشكل عليهم وقوع الإخبار عن وقوعه ووقوع حالاته بالفعل كما في هذه الآية.
وقد تكررت الأخبار عن وقوع القيامة وحالاتها في القرآن بألفاظ دالة على ثبوتها وتحققها بالفعل، مثل قوله تعالى:
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض
[الزمر:68]. وقوله:
ونزعنا ما في صدورهم من غل
[الأعراف:43] - الآية -
ونادى أصحاب الجنة...
[الأعراف:44]،
ونادى أصحاب النار...
[الأعراف:50]،
ونادى أصحاب الأعراف...
[الأعراف:48] - الآيات - وأشباهها كثيرة، فوقعوا في تكلف أرباب المجاز والمبالغة كما قيل في الكشاف وغيره: " إنها وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة " ولم يتفكروا بمعنى قوله تعالى:
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة
[لقمان:28] فنسبة البعث إليه كنسبة الخلق.
فكما أن ايجاد الخلائق في أزمنتها وأوقاتها المتكثرة المتجددة إنما هو من قبل الله تعالى، وبالقياس إلى مجاوريه ومقربيه من ذوات الملائكة المقربين، وعقول أوليائه الصديقين في دفعة واحدة - وإليه أشير بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" جف القلم بما هو كائن "
، مع أنه تعالى كل يوم هو في شأن، إذ له تعالى شأن واحد في شؤون كثيرة، حيث لا يشغله شأن عن شأن وزمان عن زمان، ولا مكان عن مكان، لتعاليه عن هذه الأشياء مع انبساط نور وجوده عليها، وارتفاعه عن الانحصار في عالم الأرض والسماء، مع شمول علمه ونزول رحمته إلى ما تحت الثرى -، فكذلك بعث الخلائق كلهم من أجداثهم في لحظة واحدة من جهته لقوله:
ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل:77].
ومن خواص يوم القيامة، أن مقداره بالقياس إلى طائفة خمسون ألف سنة لقوله تعالى:
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج:4]. وبالقياس إلى طائفة أخرى:
كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل:77].
إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا
[المعارج:6 - 7].
وكذلك من خواص الساعة أنها منتظرة الوقوع بالقياس إلى طائفة:
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين
[الملك:25].
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة
[الحج:55] وهي بالقياس إلى طائفة أخرى :
وأن الساعة آتية لا ريب فيها
[الحج:7].
فقوله: " ليس " مع ما في حيزه صفة " الواقعة ". ويحتمل أن يكون عاملا في الظرف كما تقول: " اليوم ليس لي عمل " ، ولا يحتاج إلى تأويل " ليس " ب " لا يكون " - كما في بعض التفاسير- بناء على أنه لنفي الحال، فلا يكون عاملا في ظرف لم يقع بعد لما وقعت الإشارة إليه.
وعلى الأول: إذا منصوبة بفعل مضمر - مثل أذكر ونحوه -، أو بمحذوف يعني إذا وقعت كان كذا وكذا.
وفي الكشاف: فسرت كاذبة " بنفس كاذبة " ، وذكر في المعنى: أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله في تكذيب الغيب، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، كقوله تعالى:
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده
[غافر:84].
لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم
[الشعراء:201].
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة
[الحج:55]. ولا يخفى ان القول بنفي وقوع الكذب على الله، والتكذيب للغيب مطلقا من نفس أصلا، مما يناقضه قوله تعالى:
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون
[الروم:55].
وقوله:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء:72].
وأيضا: الحكم بأن كل نفس عند قياس الساعة مؤمنة صادقة مصدقة، كلام ناشىء ممن لا بصيرة له في إدراك المعارف الإيمانية، بل بناء معرفته على ظواهر المنقولات وما اشتهر في المتداولات، وذلك لأن الإيمان بالله واليوم الآخر هو غاية كمال النفس الإنسانية، لأنه عبارة عن نور من أنوار الله يقذفه في قلب من يشاء من عباده، وهذا النور يطفي نار جهنم، فكيف تتنور به نفوس الكفار والمنافقين؟
وما ورد من الآيات في باب إيمانهم عند نزول العذاب، فبعضها محمول على ظهور الشقاوة عليهم يومئذ، ومشاهدتهم آثار السيئات ونتائج الكفر والعناد، وتبعات المعاصي والفسوق، وأضداد ما كانوا يحتسبون، كما في قوله تعالى:
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
[الزمر:47]. وبعضها مما لا يفهم منه أزيد من اعترافهم باللسان، ودعواهم الإيمان، كما في قوله تعالى:
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده
[غافر:84]. وربما كانوا كاذبين في هذه الدعوى يومئذ، كما كذبوا في قولهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قال الله تعالى حكاية عنهم حيث قال:
قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
[المنافقون:1] لا أنهم يصيرون بعد الموت عرفاء بالله وآياته، موحدين، وإلا فكيف يعذبهم الله عذابا أبديا؟ إذ البراهين العقلية والسمعية ناهضة على خروج أهل التوحيد عن النار، فالقول بأن كل نفس يوم القيامة غير كاذبة في محل المنع.
نعم، منشأ الكذب والغلط ومبدأ الشر والوبال لا يكون إلا في هذا العالم الذي هو منبع الشرور والعاهات، ومعدن النقايص والآفات، - كما بين في مقامه -، والنفس الشقية الكذوبة، لا تكتسب مادة الكذب والبهتان، والكفر والعصيان، ومنشأ التعذيب بالنيران، إلا بواسطة كونها مدة في هذا العالم، ولأجل تعلقها بالأبدان، فهي حمالة حطب نيرانها من ها هنا، والآخرة دار العدل والحساب والقضاء بمؤدى الشهود والكتاب: -
لا ظلم اليوم
[غافر:17].
والأولى أن تحمل الكاذبة على المصدر، كالعاقبة، أي: ليس لمجيئها وظهورها كذب، ومعناه - كما في مجمع البيان - إنها واقعة حقا وصدقا، وليس فيها ولا في الإخبار عن وقوعها كذب، واللام على الأول مثل ما في قوله تعالى:
يليتني قدمت لحياتي
[الفجر:24] وعلى ما ذكرناه مثل.
[56.3]
إما صفتان بعد الصفة، أو خبران لمبتدأ محذوف، أي: هي خافضة تخفض أقواما، ورافعة ترفع آخرين، بمعنى أن الأشقياء المدبرين يهبطون وينحطون فيها إلى الدركات الهاوية، والسعداء المقبلين يصعدون فيها إلى الدرجات العالية.
وهذا أمر متحقق الوقوع، كما تدل عليه الآيتان بصيغة اسم الفاعل الدالة على الثبات والدوام، فما من نفس ما دامت في الدنيا إلا وهي إما في الصعود أو الهبوط بحسب النشأة الثانية من جهة أعمالها الحسنة أو السيئة، لكن ظهور هذه الأحوال، وكشف الأغطية عنها لجميع الخلايق، يتوقف على قيام القيامة العظمى بموت الكل، وظهورها لكل واحد بخصوصه موقوف على القيامة الصغرى بموته.
[56.4-6]
" إذا " مع ما يليه؛ بدل من " إذا وقعت ". أو هو منصوب ب " خافضة رافعة ".
و " الرج " هو التحريك الشديد. فمعنى " رجت الأرض ": حركت تحريكا شديدا حتى انهدم كل شيء عليها من الأبنية والجبال. وهي كذلك عند قيام الساعة، كما انها كذلك عند أهل الكشف الذين غلب على باطنهم ظهور سلطان الآخرة، فهم يرون الأرض ومن عليها دائمة التحول والنقل، لازمة الانهدام والزوال من حال إلى حال.
و " البس " هو التفتيت للشيء والتفريق له حتى يعود كالسويق. وبست الجبال، صارت متفرقة الأجزاء كالذرات المبثوثة في الهواء، وكذلك أصل الجبال، فإنها في الأصل كانت أجزاء متفرقة في مدة طويلة لا يعلم كميتها إلا الله، فجمعتها أيدي بعض ملائكة الله الموكلة بتصريف الرياح وتمويج البحار، فانعقدت جبالا بإذن الله في بعض الأوقات، ثم تعود إلى ما كانت وزالت عن مواضعها في كل وقت على التدريج ولو بهبوب الرياح ونزول الأمطار وتأثير أشعة الشمس وغيرها من الأنوار، وتفسخها بالتحليل والتبخير، وعلى هذا القياس يرجع فيها كل شيء إلى أصله، ويظهر على صورته الحقيقية التي كان عليها، ولا شك أن الآخرة إنما تحصل بارتفاع الحجب وظهور الحقايق، وزوال التعينات، وتميز الحق عن الباطل.
على أن من اكتحلت عين بصيرته بنور الإيمان، وتنور قلبه بطلوع شمس العيان، يجد أعيان الأفلاك والأركان متبدلة، وطبايع الصور والأكوان متحولة متزايلة. فهي أبدا في السيلان والزوال والحركة والانتقال حركة جوهرية وتجددا ذاتيا، لا بمجرد الصفات والأعراض فقط، وفي المقولات الأربع لا غير - كما زعمه المحجوبون من أهل النظر -، بل كما أقيم عليه البرهان مطابقا لما وجده أصحاب المكاشفة والعيان، من أن الطبيعة السارية في أجسام هذا العالم، هي حقيقة سيالة متجددة الذات غير قارة بحسب الجواهر.
وعلم من ذلك أن الدنيا بحذافيرها حادثة، وهي دار زوال وانتقال، والآخرة دار قرار وثبات، كما يراه المليون حسبما وصل إليهم من حملة أسرار الوحي والتنزيل، وخزنة علم النبوة والتأويل.
[56.7]
أي أصنافا ثلاثة. وذلك لأن الإنسان فيه مبادي إدراكات ثلاثة من جهة قوى ثلاث: قوة العقل ، وقوة الخيال، وقوة الحس. ولكل قوة كمال، فكمال القوة العاقلة بإدراك المعارف الإلهية والعلوم الربانية، وبه يشحر الإنسان في جوار الله وملكوته، وكمال القوة الخيالية في فعل الخيرات وتهذيب الصفات وتبديل السيئات بالحسنات، وكمال القوة الحسية بإدراك الملايم الحسي من الملاذ الجسمانية والأعراض البدنية.
والإنسان في أول تكونه بالقوة في كمال كل من هذه المبادي الثلاثة، وهو بحسب كمال كل قوة يقع في عالم من العوالم بمقتضى طبيعة تلك القوة إن لم يكن لها مانع، فله نشآت ثلاث بحسب قوى ثلاث، فهو بالقوة في أول الوجود. فأول ما يخرج فيه من القوة إلى الفعل هو نشأة الحس، وكماله بحسبه يقتضي السكون في هذه الدار، والإنسراح في مراتع الشهوات كالبهائم والحشرات، فإذا تجاوز عن هذا المنزل، يحدث فيه العقل العملي. وقوة التخيل، وكماله بحسب هذه القوة يقتضي له التشوق إلى الدار الآخرة، والكون هناك من حيث يتخيل الخيرات المظنونة، ويقصد الأفعال الحسنة، وينوي فعل الطاعات وترك القبايح والسيئات، ومعاد الإنسان من حيث همته، ثم إذا ساعده التوفيق الإلهي، وارتفع إلى كمال القوة النظرية يحيط بالكليات ويتصل بالمفارقات، ويعرف المبادئ والغايات علما برهانيا وإدراكا مقدسا عن شوب تغير وتجدد، أو ظن، أو تخمين فمنزلته منزلة المقدسين.
فعلم ان الإنسان صار بحسب هذه المقامات منقسما على ثلاثة أقسام، ولكل قسم أحوال مخصوصة بحسب الآخرة، وله منزل خاص من المنازل الكلية - وإن كان تحت كل قسم أنواع بلا نهاية -، وهذا لا ينافي وحدة النوع الإنساني قبل أن يصير باطنه خارجا من القوة النفسانية إلى الفعل الصوري الباطني، في صفة من الصفات المكمونة فيه، والمخزونة في طينته، فوقعت الإشارة إلى تفصيل هذه الأقسام الثلاثة في قوله عز اسمه: { فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة مآ أصحاب المشأمة والسابقون السابقون }.
[56.8-10]
فأصحاب الميمنة، هم الذين يؤتون صحايف أعمالهم بأيمانهم، وأصحاب المشئمة هم الذين يؤتونها بشمائلهم - وهما جميعا من أصحاب الأعمال، والغالب عليهم القوة العملية -، لكن مبدأ أعمال الطائفة الأولى العقل العملي - كما مر -، بوساطة الإدراكات الباطنة الجزئية كالتخيل وما يجري مجراه، وغايتها طلب الخيرات المظنونة والسعادات المقبولة، ومبدأ أعمال الطائفة الثانية هو القوة المحركة الحيوانية المسماة بالشوقية، بوساطة الإدراكات الحسية، وغايتها إما طلب الشهوة بالأكل والجماع وما يجري مجراهما، أو الغضب بالغلبة والإنتقام وما يشبههما.
وأما السابقون: فهم أعلى مرتبة من أن يكونوا من أهل العمل، وإنما شأنهم مشاهدة الحقايق، وملاحظة عظمة الله وملكوته، وقد شغلهم الله بمحبته عن محبة ما سواه، وأغناهم عن الطعام والشراب، وعن النظر إلى غيره، فمنزلتهم منه منزلة الملائكة العليين المجردين عن الأجرام كلها، وعن التعلق بها، سواء كانت من هذه الأجسام الكدرة الدنياوية أو من الأجرام النورانية الأخروية.
وعن الحسن: المراد من أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة: أصحاب اليمن والشؤم لأن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. " والسابقون " المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه، وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله.
والأولى ما ذكر أولا.
وهنا وجه آخر ذكر في كثير من التفاسير وهو: ان أصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشئمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.
وتحقيقه أن العالم بتمامه كشخص واحد، لأن وجوده ظل لوجود الحق، فله وحدة طبيعية جمعية هي ظل للوحدة الحقة الإلهية، وله روح واحد هو الروح الأعظم، والعقل الأول المشتمل على مجموع الأرواح الكلية العقلية اشتمالا عقليا، وله كالإنسان جانبان:
أحدهما: جانب اليمين، وفيه الملكوت الأعلى، وهي المدبرات العلوية المتعلقة بالبرازخ النورية، وفيها جنة السعداء، ومن ملائكتها من يسوقون عباد الله إلى رضوانه، ومنهم كتاب حسناتنا يكتبون صحايف أعمالنا الحسنة، وهم الملائكة العليون، وبأيديهم كتاب الأبرار:
إن كتاب الأبرار لفي عليين
[المطففين:18]. والكتابة عبارة عن تصوير الحقايق، والكتاب هم المصورون الناقشون، والصحيفة هي محل التصوير والنقش، وكذا القلم هو الواسطة بين يمين الكاتب والكتابة. فالمراد من الكاتب هنا جوهر ملكوتي فعال علوي، ومن القلم قوته العملية المصورة، ومن الصحيفة نفوسنا الناطقة الخالية عن النقوش في أول الفطرة، ولا شك أن هذه الكتابة لا يمكن أن يشاهدها أحد بهذه الحواس الكدرة الترابية البالية، لأنها مكتوبات غيبية وقعت في عالم الغيب، لكن أكثر الناس لا يؤمنون بالغيب، ولا يعتمدون ولا يثقون إلا بوجود المحسوس بإحدى هذه الحواس.
وثانيهما: الشمال، وفيه الملكوت الأسفل، وهي المدبرات السفلية سدنة البرازخ الظلمانية، وفيها جحيم الأشقياء، ولها طائفتان من الملائكة - كما في الأول - إحداهما السائقة لأهل النار إلى النار، والثانية الكاتبة لأعمال السيئات للفجار، لقوله تعالى:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21]، والطائفة الأولى منهما هي:
ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6]. والطائفة الثانية هي ملائكة بأيديهم أقلام من النار يكتبون المعاصي والشرور، وأقوال الكذابين وأهل الزور، في صحايف لايقة للاحتراق بالنار، لما فيها من الأخبار الكاذبة والكلمات الواهية الباطلة. كما في قوله تعالى:
إن كتاب الفجار لفي سجين ومآ أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين
[المطففين: 7 - 10].
وهذا الوجه قريب المأخذ مما ذكر أولا، وذلك لأن المراد من أصحاب اليمين وأصحاب الشمال على الأول، كل من أوتي كتابه بيمينه، وكل من أوتي كتابه بشماله، والمراد منهما على الوجه الأخير، كل من كان مآله إلى الملكوت الأعلى وجنة السعداء مع العليين، وكل من كان مآله إلى الملكوت الأسفل وجحيم الأشقياء مع أهل السجين، ولا شبهة في أن من أوتي كتابه بيمينه كان حشره إلى ملائكة جانب اليمين والعليين، ومن أوتي كتابه بشماله أو من وراء ظهره كان معذبا بأيدي سدنة النار وزبانية الجحيم المعذبين لأهل النكال وأصحاب الشمال، وكان في طبقات السجين مع زمرة الشياطين، فالمآل في الوجهين واحد.
ولفظة " ما " في الموضعين للتعجب، عجب الله ورسوله من حال الفريقين في السعادة والشقاوة. والمعنى: أي شيء هذه الطائفة في السعادة، وأي شيء هذه الأخرى في الشقاوة.
{ والسابقون السابقون }: الأول مبتدأ والثاني خبره. وفي الكواشي السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمته ورضوانه.
وفي الكشاف: السابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كقول أبي النجم: " أنا أبو النجم وشعري شعري....
كأنه قال: وشعري ما انتهى إليك وسمعت فصاحته وبراعته.
وهنا وجه آخر، وهو انه كان ينبغي أن يقال: السابقون ما السابقون إلا أن الله تعالى أراد أن يصفهم بوصف لا يكتنه فقال هكذا، فكأنه قال: لا وصف لهم أفضل من هذا. وهذا من أوجه الوجوه.
ومنهم من جعل الثاني تأكيدا للأول، وجعل الخبر:
أولئك المقربون
[الواقعة:11] وليس بذاك، ووقف بعضهم على الأول وابتدأ بالثاني، وليس بصواب، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة القولين الأولين.
[56.11]
هم الذين قربت درجاتهم عند الله، وأعليت مراتبهم في الجنة، وهذا القرب ليس بالمكان ولا بالزمان، بل إنما هو بحسب قربا معنويا لأجل الشرافة والبراءة عن الدنيا وشرورها، ونقايص المواد وآفاتها، وذلك لأن ظل الوجود إذا امتد وطال وانبسط عن الباري، ووقع على قوابل الماهيات حسب اقتضاء الرحمة الواسعة - المعبر عنها بالنفس الرحماني -، فابتدأت وترتبت الموجودات من جهة الإبداع على ترتيب الأشرف فالأشرف، منتهية إلى الأخس الذي لا أخس منه كالهاوية والظلمة، ثم عادت وتوجهت إلى الكمال بعد التوحيد، وارتقت إلى الشرف بعد أن هبطت منه من جهة التكوين على ترتيب الأخس فالأخس، حتى انتهت إلى الأشرف الذي لا اشرف منه في الإمكان، وظاهر ان أشرف الممكنات وأعلاها مرتبة في سلسلة البدو هو الروح الأول والقلم الأعلى، ثم سلسلة العقول - وهم الملائكة المقربون السابقون -، ثم سلسلة النفوس المجردة -، وهم الملائكة المدبرون السابقون -، ثم النفوس المنطبعة، ثم الصور الطبيعية، ثم المواد الجسمية إلى أسفل السافلين - وهي غاية تدبير الأمر من السماء إلى الأرض -.
ثم يعرج إليه، وأخس الممكنات وأدناها منزلة في سلسلة العود هو الجسم بما هو جسم، ويليه في الخسة الصور العنصرية، ثم سلسلة الجمادات، ثم النباتات، ثم الحيوانات بنفوسها الحيوانية ومادة أرواحها البخارية التي هي أجرام لطيفة شفافة، وأشرف أنواع الحيوان؛ الإنسان نفسا وبدنا، لأن الاسطقسات في بدنه امتزجت غاية الامتزاج، حتى انتهت بروحه التي هي جسم حار لطيف حاصل من صفوة الاخلاط تنبعث من القلب في التجويف الأيسر منه، ثم اعتدلت في الدماغ اعتدالا بالغا حتى شابهت الجرم الفلكي في صفائه ونقائه ونوره وضيائه، وبعده عن التضاد الموجب للفساد، فصارت مرآة للنفس الناطقة، بها تدرك الوجود كله على هيئته التي كان عليها كليا وجزئيا، أما كلياته فبذاتها المجردة. وأما جزئياته فبهذه المرآة المجلوة. فإن في الإنسان شيئا كالملك، وشيئا كالفلك، فمن حيث اعتدال مزاجه وعدم الأضداد فقد شابه السبع الشداد، ومن حيث مفارقة صورته المواد القوابل، يشاكل العلل الأوايل والعقول الفواعل.
وأشرف الإنسان من بلغ في الشرف والبراءة إلى مرتبة السابقين الأولين من الملائكة المقربين، فصار متحدا بالعقل الفعال اتحاد العاقل بالمعقول، كما ذهب إليه كثير من الحكماء، وأشارت إليه كلمات الأولياء، وشهدت عليه أذواق الصوفية، وبرهن عليه في الشواهد الربوبية.
فانظر إلى اتقان حكمة المبدع البديع، وجود الصانع المنيع كيف بدأ بالوجود من الأشرف فالأشرف، حتى اختتم بالأجسام، وانتهى إلى معدن الشرور والظلام، ثم شرع في التلطيف والتشريف والإنارة والتصعيد والتكميل، بإفاضة ثانية ولطف جديد، ففتح فاتحة أخرى للجود والإفادة، وأنشأ النشأة الثانية للإعادة، وقد قال سبحانه:
كما بدأنآ أول خلق نعيده
[الأنبياء:104]. فعكس الترتيب الأول من الأخس فالأخس، إلى النفيس فالأنفس، حتى بلغ به إلى أرواح كالأملاك، وأبدان كالأفلاك، وهكذا إلى أن وقع الإختتام بروح أشرف الأنام، خاتم الرسل المضاهي بنوره نور العقل الأول، ولهذا المعنى قال (صلى الله عليه وآله وسلم).
" أول ما خلق الله نوري ".
فتمت به دائرة الوجود، وعادت سلسلة الإفاضة والجود في النهاية حيث وقعت منه [في] البداية، وهو سبحانه المبدأ والمنتهى في البداية والرجعى.
[56.12]
إعلم أن هؤلاء الاصفياء، وإن كانوا من جهة هوياتهم العقلية مقربين منه تعالى، لأنهم جالسون تحت قبة الجبروت، لكنهم من جهة نفوسهم الحيوانية المطيعة لأمر الله المسلمة لحكمه منسرحون في مراتع اللذات، متنعمون بنعيم الجنان، فإن لكل حقيقة درجات في الوجود، ومراتب بعضها فوق بعض، لا ينفك بعض مراتبها عن بعض، فما من حقيقة كلية في مظهر اسم من أسماء الله إلا ولها بعد مرتبة ذلك الإسم الإلهي عقل ونفس وطبيعة وجسم، حتى إن هذه الخلايق الكونية إنما هي أصنام وأظلال لحقايق أخرى عقلية روحانية، وهذه الأرض إنما هي صنم لأرض عقلية روحانية، وهذا الإنسان الحسي إنما هو صنم للانسان العقلي، والإنسان العقلي مظهر لاسم الله ونوره من أنواره حاصل من أمره في عالم الغيب. كما قال:
قل الروح من أمر ربي ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء:85].
ثم إذا ثبت أن لكل حق حقيقة ولكل محسوس معقولا، فيحتمل ان يراد من الجنات: الجنات العقلية. فإن الجنة جنتان: جنة محسوسة بالحواس الأخروية. وجنة معقولة مشاهدة ببصر الباطن العقلي. ولكل منهما درجات. كما ان العالم عالمان: غيب وشهادة. ولكل منهما منازل.
فالإنسان السعيد لروحه الذي هو عقل بالفعل، جنة معنوية بما يحمله من المعارف والعلوم، ولنفسه الحيوانية، جنة صورية بما يحمله من اللذات والشهوات، ويناله من طريق قواها العملية الحسية من أكل وشرب ونكاح وغيرها، جزاء بما صبرت عنها في الدنيا وحبست قوتها عن نيل قشورها الكدرة الظلمانية حتى صارت بلبوبها الصافية النورانية، فإن النفس كلما ارتاضت صفت وتنورت، وبحسب صفائها ونورها كانت مخزوناتها الأخروية وذخايرها العينية صافية نقية نورانية، فالمراتب والدرجات في الجنات، بحسب المراتب والدرجات في الأشواق والرغبات.
[56.13-14]
" الثلة ": الجماعة الكثيرة من الناس، وأصلها من " الثل " وهو الكسر، كما أن " الأمة " من " الأم " وهو الشج، كأنها جماعة قطعت من الناس، وكونها في مقابلة القليل دال على الكثرة. وثلة: خبر مبتدأ محذوف، اي: هم ثلة، والمراد أن السابقين المقربين كثير من الأمم الماضية التي كانت قبل بعثة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقليل من هذه الأمة. وقيل: جماعة من أوايل هذه الأمة وقليل من أواخرها.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الثلتان جميعا من أمتي ".
والمراد أن هذه في السابقين، وتلك في أصحاب اليمين، فعدد المقربين يتكاثر من مقدمي هذه الأمة دون متأخريها. لأن أكثر الأولياء والشهداء والأئمة الكبراء كانوا في الأول حيث قربت أزمنتهم من زمان الوحي والتنزيل، وعدد السعداء وأصحاب اليمين يتكاثر من الأولين والآخرين جميعا.
[56.15]
قال المفسرون: مرمولة بالذهب، مشبكة بالدر والياقوت، متداخلة بعضها في بعض كما يوضن حلق الدرع.
وقيل: متواصلة أدنى بعضها من بعض.
وقد ورد في الخبر: إن يوم القيامة يؤتى بمنابر وأسرة وكراسي كلها من النور. فالمنابر للأنبياء (عليهم السلام)، والأسرة للأولياء، والكراسي للعلماء.
ويحتمل أن يكون كناية عن مظاهر قلوبهم، أو مصادر أفعالهم.
[56.16]
أي مستندين عليها جالسين، من جلوس الملوك على أسرتهم، أو معتمدين عليها ساكنين إليها الأرواح إلى النفوس. وهو حال من الضمير في " علي " أي: استقروا عليها متكئين متقابلين، ينظر بعضهم بعضا لعدم الحجاب بينهم لا خارجا ولا داخلا. أما نفي الحجاب الخارجي عنهم، فلعدم الأبدان الغليظة لهم، والحواجز الكثيفة بينهم، وأما نفي الحجاب الداخلي عنهم، فلعدم الكفر والفقر والجهل والعمى والحسد والبغض والغضب، وساير الأمراض النفسانية في نفوسهم، فيشاهد كل منهم كلا منهم. إذ ذات كل واحد منهم عين باصرة وأذن واعية دائما، وعقل دراك بالفعل، كما أنه نور مبصر، وكلام حق مسموع دائما، وحقيقة معقولة بالفعل.
[56.17]
أي: يدور حولهم، ويستنير بأنوارهم القدسية، ويستفيض من إشراقاتهم العقلية أولاد روحانيون لهم نفوس مجردة متعلقة بأجرام كريمة نورية مستديرة الحركات مخلدون في دوام حركاتهم الشوقية، لدوام الإشراقات العقلية عليهم من آبائهم العقليين في النشأة الآخرة، لا في هذا العالم الزايل، لزواله وانقطاعه وعدم استمرار الوجود فيه بالعدد، لا في العنصريات ولا في الفكليات - كما بين في موضعه -.
وقيل: هم أولاد أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" انه سئل عن أطفال المشركين؟ فقال: هم خدم أهل الجنة ".
[56.18]
يطوف عليهم بأكواب. وهي القداح الواسعة الرؤوس بلا خراطيم ولا عرى.
و " أباريق " هي ذات العرى والخراطيم. والمراد الأواني التي تبرق لصفاء لونها وإشراقها، لا يوجد لها مماثل في هذا العالم إلا الكواكب والتداوير الفلكية الدائرة التي تديرها النفوس السماوية بأيدي قواها العملية طربا وشوقا وتقربا إلى مباديها وغاياتها ومعشوقاتها العقلية ومحركاتها الفلكية ويطوفون عليهم ايضا بكأس مملوء من شراب الأحدية معين جار في أنهار المدارك الشوقية، والمشارب الذوقية، مكشوف لأهل المشاهدة والعيان، إذ منبعه منشأ الحياة والعقل والشهود، فكيف لا يعان ولا يعاين.
[56.19]
لا يوجد من شربها صداع لصفائها من كدر الشر والآفة، وفساد التركيب وغلبة أحد الأضداد كخمور هذه الدنيا، وتعاليهم عن تأثير المزاحمات، وتصديع المصادمات، لتجردهم عن عوالم التراكيب والأضداد، وارتفاعهم عن الطبقات السافلة التي يوجد فيها الشر والفساد.
وقيل: لا يتفرقون عنها.
وقرأ مجاهد: لا يصدعون بمعنى لا يتصدعون، اي لا يتفرقون، كقوله تعالى في حق الكفار:
يومئذ يصدعون
[الروم:43]. وذلك لأن منشأ صحبتهم ومبدأ جمعيتهم هو مشرب المحبة الإلهية، ونشأة الوحدة المعنوية، والوصلة الإيمانية والرابطة الحكمية، ليس باعثها الأغراض النفسانية والأوضاع الجسمانية المؤدية سريعا إلى التفرقة والوحشة والنفرة.
وقوله: " لا ينزفون " إن كان بفتح " الزاء " فمعناه: لا تذهب عقولهم بالسكر، كما في قوله تعالى:
لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون
[الصافات:47] وهذا في قراءة الكوفيين غير عاصم.
وإن كان بكسر الزاء - كما في قراءة الباقين -، فالمعنى: لا يفنى شرابهم الروحاني ولا تزول نشأة مدامهم الحبي الإلهي، إذ منبعه منبع فيض الوجود الأبدي، وعين ماء الحياة السرمدي، الذي لن يبرح من أسكوب الفضل سائلا مائلا، ومن منبع الإفاضة والرحمة طائلا نائلا.
[56.20-21]
يتخيرون: يأخذون خيره. يقال: تخيرت الشيء: أخذت خيره وأفضله. ويشتهون: يتمنون. فإن أهل الجنة إذا تخيروا شيئا واشتهوه خلقه الله دفعة، فإذا تمنوا فاكهة - أي فاكهة كانت -، تكونت بإذن الله كما تخيروه. وإذا تمنوا لحم الطير النضيج، خلق الله لهم لحم الطير نضيجا من غير حاجة إلى ذبح الطير وإيلامه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: يخطر على قلبه الطير فيطير ممثلا بين يديه على ما اشتهى.
وهذه علم غفل عنه الأكثرون، وأدركه المكاشفون إدراكا علميا ذوقيا بعد أن اعتقدوه اعتقادا إيمانيا، وربما يبلغ العارف إلى مقام يقال له مقام: " كن " في عرفهم، فيكون هذا حاله، وإن كان بعد في الدنيا مثل حال أهل الجنة، فما يقول لشيء " كن إلا ويكون ".
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه قال - حين كان في غزوة تبوك - كن أبا ذر. فكان أبا ذر.
وذلك لأن الله قد حول باطنه في النشأة الأخروية، بل ما من عارف بالله من حيث التجلي الإلهي إلا وهو قبل النشأة الآخرة قد حشر في دنياه ونشر في قبره، فهو يرى ما لا يراه الناس، ويشاهد ما لا يشاهدون، ويفعل ما لا يفعلون، عناية من الله ببعض عباده.
كما أعرب عنه بعض العرفاء حكاية عن نفسه - وبيانه مما يحتاج إلى إظهار لمعة من علوم المكاشفة قريبة المأخذ من علوم المناظرة -، وهو أن الله سبحانه، قد خلق النفس الإنسانية وأبدعها مثالا له ذاتا وصفة - ولله المثل الأعلى -، وفعلا، مع التفاوت العظيم بين المثال والممثل له، ولذلك جعل معرفتها وسيلة إلى معرفته، كما يدل عليه الحديث المشهور:
" من عرف نفسه فقد عرف ربه ".
فهي قد أبدعت مفتاحا لمعرفة الله تعالى ذاتا وصفة وأفعالا، لا لكونها مثالا له كذلك، أما الذات، فقد خلقها الباري وجودا نوريا مفارقا عن الأجرام والأحياز والأوضاع في ذاتها. وأما الصفات، فقد خلقت عالمة قادرة حية سميعة بصيرة متكلمة، وهذه كلها صفات الله من حيث المفهوم. وأما الأفعال، فذاتها عالمها، والبدن كأنه نسخة مختصرة من مجموع العالم الدنيوي - أفلاكه وعناصره، بسايطه ومركباته، وجواهره وأعراضه -، ولها أيضا في ذواتها مملكة خاصة شبيهة بمملكة بارئها، مشتملة على أمثلة الجواهر والأعراض المجردة والمادية، وأصناف الأجسام الفلكية والعنصرية، وساير الخلايق يشاهدها بنفس حصولها فيها، ومثولها بين يديها، شهودا إشراقيا، ومثولا نوريا.
والناس في غفلة وذهول عن عجايب الفطرة الآدمية وغرايب القلب الإنساني، لاهتمامهم بعالم المحسوس ونسيانهم أمر الآخرة ومعرفة الرب والرجوع إليه:
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
[الحشر:19].
فمن جملة المضاهاة الواقعة بين الرب والنفس، أنه جعلها ذات نشأتين: - الغيب والشهادة -، كما انه عالم الغيب والشهادة، وذات عالمين: الملك والملكوت، والخلق والأمر - كما له الخلق والأمر -، فأفعال النفس بإرادتها على ضربين، فما يفعله باستخدام قواها البدنية وجنودها الجسمانية، فهي متغيرة متجددة، لأنها كائنة بواسطة الحركات وانفعلات مواد الآلات، والحركة لا تدوم لأنها عين الحدوث والإنقضاء، وربما تنقضي القوى والطبايع لكلال آلاتها وفتور موضوعاتها، وأما ما يفعله بذاتها من غير توسط القوى الطبيعية والآلات الجسمانية، فهي أمور ثابتة محفوظة عندها ما دامت ذاتها تديمها وتحفظها بعد أن حصلت لها ملكة الحفظ والإسترجاع، من جهة رجوعها إلى الباري، واتصالها بالملأ الأعلى والحفظة الكرام الكاتبين.
فكذلك أفعال الله تنقسم إلى ثابتات ومتغيرات، مبدعات وكاينات، فعلم من هذا أن الله خلق النفس الإنسانية ذات اقتدار على إيجاد صور الأشياء في عالمها الخاص، ومملكتها الغائبة عن هذا العالم بمشيتها وإرادتها، لأنها من سنخ الملكوت وعالم القدرة والجبروت، إلا أن ما تخترعه وينشأ في عالمها ما دامت في هذا العالم وصحبة الأعدام والقوى والملكات تكون حقيقة الوجود شبيهة بالأشباح والأظلال، فإذا قويت ذاتها وقربت من مبدئها بقطع هذه العلايق المادية، أصبحت مخترعة للصور الغيبية المناسبة لأخلاقها الحسنة أو السيئة، إما ملذة أو موذية، ولم تفارق الدنيا عن الآخرة إلا في كمال الصورة وقوة وجودها هناك، ونقصها وضعف وجودها هنا.
فلو كانت للنفس قدرة تامة على تصوير الصورة الملذة في عالم الحس، كما لها قدرة على تصويرها في عالم الخيال، لكان نعيمها كنعيم أهل الجنة، حيث تكون شهوتهم سبب تخيلهم، وتخيلهم سبب إحساسهم، فلا يخطر ببالهم شيء ينالون إليه، إلا ويحضر عندهم دفعة.
وإليها الإشارة بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن في الجنة سوقا تباع فيه الصور ".
والسوق، عبارة عن اللطف الإلهي الذي هو منبع القدرة على اختراع الصور بحسب المشية، وانطباعها ووجودها في العين وجودا ثابتا ما دامت المشية، لا وجودا هو بمعرض الزوال كما في منام هذا العالم. وهذه القدرة أكمل وأوسع من القدرة على الإيجاد من خارج الحس، لأن الوجود من خارج الحس يشغل بعضها عن إدراك البعض، ويحجب بعضها عن بعض لضيق عالمه، فإذا صار الإنسان مشغولا بسماع واحد ورؤيته أو مماسته، صار مستغرقا محجوبا عن غيره، وأما هذه النشأة فتتسع اتساعا لا ضيق فيه، حتى لو أراد أحد من أهل الجنة أن يأكل جميع الفواكه لأكلها بعد أخطارها بباله، ولو أراد كل أحد منهم أن يأكل ما يأكله غيره لوسعتهم لقمة واحدة، فتحضر تلك اللقمة الواحدة في ساعة واحدة لألف شخص في ألف مكان، وحمل أمور الآخرة على ما هو أوسع وأتم للشهوات وأوفى للدواعي والرغبات، أولى.
ومما ورد في الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إنه يأتي إليهم الملك بعد أن يستأذن في الدخول عليهم، فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله، فإذا في الكتاب لكل إنسان مخاطب به: من الحي القيوم الذي لا يموت، إلى الحي القيوم الذي لا يموت، أما بعد: فإني أقول للشيء: كن. فيكون، وقد جعلتك اليوم تقول للشيء: كن. فيكون. فقال: فلا يقول أحد من أهل الجنة لشيء: كن. إلا ويكون ".
قال بعض العرفاء: من أراد أن يعرف كماله فلينظر في نفسه، في أمره ونهيه وتكوينه، بلا واسطة لسان ولا جارحة ولا مخلوق غيره، فإن صح له المضاء في ذلك، فهو على بينة من ربه في كماله، فإن أمر أو نهى أو شرع في التكوين بواسطة خارجة فلم يقع، أو وقع ولم يعم، مع عموم ذلك بترك الواسطة فقد كمل، ولا يقدح في كماله ما لم يقع في الوجود عن أمره بالواسطة، فإن الصورة الإلهية بهذا ظهرت في الوجود، فإنه تعالى أمر عباده على ألسنة رسله وفي كتابه، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى، وبارتفاع الوسايط لا سبيل إلا الطاعة خاصة، ولا يتمكن من إبائه.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يد الله مع الجماعة ".
وقدرته نافذة، ولهذا لو اجتمع الإنسان في نفسه حتى صار شيئا واحدا أنفذت همته فيما يريد.
وقال أيضا في فصوص الحكم: " بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام، والعارف يخلق بالهمة ما يكون وجوده في خارج محل الهمة، ولكن لا تزال الهمة تحفظه ولا يؤودها حفط ما خلقه، فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق، عدم ذلك المخلوق ".
وقال أبو علي في تعليقاته: " كلما كان أشد تصورا يكون أتم فعلا، إلى أن ينتهي إلى الأول الذي ليس فيه شيء بالقوة، فيلزم أن يصدر عنه كل موجود، والنفس ما دامت تصوراتها بالقوة، لا يصح صدور فعل عنها إلا بصور يصور لها الأشياء ويخرجها من القوة إلى الفعل، والكواكب تؤثر في نفوسنا دون العكس، لأنها غير متشعبة القوى، ونحن قوانا متشعبة يصد بعضها عن فعل بعض بالتمام، ويشغلها عنه كما تشغل الحواس القوى الخيالية عن فعلها بالتمام، وإذا لم يشغلها تم فعلها، كالحال في المنام، والكواكب قواها غير متشعبة ولا صادة بعضها بعضا، بل كأنها قوة واحدة، فالباصرة فيها هي القوة السامعة، وهي القوة المصورة، فكأنها متوفرة على قوة واحدة، فلهذا تؤثر فينا ولا نؤثر فيها ". - انتهى -.
والحاصل أن مبدأ صدور الأفاعيل، هو تصورات المبادئ، سواء كانت الأفاعيل دنيوية أو أخروية، بشرط قوة الهمة وشدة جمعية القوى، فلما كان تفرق القوى وتوزع الدواعي مرتفعا في الآخرة - لكون الانقسام والتفرق من خواص هذه النشأة -، فلا محالة يكون هناك للنفوس الكاملة اقتدار تام على انشاء كل ما يتمنونه، واختراع كل ما يتخيرونه من الصور المستلذات كالحور والقصور، والشراب والسلسبيل والزنجبيل، فلكل نفس سعيدة عالم مثل هذا العالم، إلا أن عالمه أشرف وأصفى، لكون موضوعه الجوهر النوري النفساني، وموضوع هذا العالم المادة الكثيفة الظلمانية، وهذا اقل الدرجات وأدنى المنازل لعوام أهل الجنة، ولمن ينجو من عذاب النيران بالشفاعة أو التفضل، وللجنة طبقات بعضها فوق بعض.
[56.22-23]
قرئ بالرفع، إما على تقدير: " وفيها حور عين ". أو على العطف على " ولدان ". وبالجر: إما عطفا على " جنات النعيم " ، أو " أكواب ". وبالنصب على تقدير: " ويؤتون حورا عين " ، أي: ذوات نفسانية نورية من النفوس الواقعة تحت مراقبتهم العقلية، في مقام تجليات الجمال وسرادقات الجلال، وفي مجال مشاهداتهم الصفات في روضات القدس وحضرة الأسماء، لأن نسبة النفس إلى العقل المكمل لها بالإفاضة والتشويق. نسبة حواء إلى آدم.
وإنما وصفت بالعين، لأن ذواتها كلها عيون لا يمدون طرفا عنها، كما في قوله:
وعندهم قاصرات الطرف عين
[الصافات:48]. وذلك لفرط محبتهن وعشقهن لهم، لأنهم هم المعاشيق، لأن الحب من لوازم الوجود لأنه خير محض، وكل خير محبوب مؤثر إذا ابرئ من الشرور، وكلما هو عقل بالفعل فهو وجود بريء عن الشر، طاهر عن دنس الآفات والنقايص، فيكون معشوقا بالفعل - عشقه غيره أم لا -، كما هو معقول بالفعل - عقله غيره أم لا.
[56.24]
كل ذلك يؤتى لهم جزاء بأعمالهم، فإن جزاء علومهم وتعقلاتهم ليس الجنة وما فيها، بل مشاهدة ذات الحق الأول وصفاته وأسمائه، وذوات العقول المقدسين، والملائكة المقربين وصافتهم وآثارهم.
وتحقيق ذلك: ان اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له، وألمها في فقدان ذلك عنها، ولذة الغضب في التشفي والإنتقام، ولذة الشهوة في النكاح والطعام، ولذة البصر في درك الأضواء والأنوار، ولذة السمع في الأصوات المناسبة والألحان، ولذة الوهم في الرجاء. وألم كل منها في فقد ما يناسبه. فكذلك في قلب الإنسان قوة تسمى بالنور الإلهي لقوله:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر:22].
وقد تسمى بالروح الإلهي لقوله:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29]. وهو غير الروح الحيواني لكونه من عالم الخلق، وهو من عالم الأمر لقوله:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85].
وقد تسمى بالعقل النظري، وبالبصيرة الباطنة، وهو ممتاز عن ساير القوى والمشاعر، في أن مدركاته هي المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة، ولذاته ونعمه في نيلها، وشقاوته وجحيمه في الجهل بها والجحود لها.
فهذه القوى قد خلقت وابدعت لكي تدرك حقايق الأمور كلها، فمقتضى طبعها معرفة صور الأشياء العقلية، من إدراك الحق الإله وملائكته، وإدراك خلق العالم، وافتقاره إلى خالق مدبر حكيم موصوف بالصفات الإلهية، وبها تحصل لذته وسعادته، كما أن بمقتضى طبع ساير القوى تحصل لذتها.
ولا يخفى على ذوي البصائر، ان في المعرفة والحكمة لذة تفوق ساير اللذات، ومن لم يدرك ان في الحكمة لذة وفي تركها ألما فذلك لأنه لم يخلق بعد هذه الغريزة النورانية والبصيرة الباطنة في قلبه، فقد علم أن سعادة الجوهر العقلي من الإنسان في إدراك الحقايق العقلية، وفيها نعيمه، فنعيمه لا يوجد في السماء ولا في الأرض، ولا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا في الجنة ولا في النار. وبوجه يوجد في الجميع، إذ لكل واحدة منها حقيقة عقلية، وصورة مفارقة يشاهدها العارف ويستلذ بها في مرائي محسوساتها، ومظاهر قابلياتها محتجبة عن الأبصار، مختفية عن أنظار الأغيار، إلا أنها لا تنكشف له حق الإنكشاف، ولا تتجلى له كل التجلي إلا بعد الإنقطاع التام عن الدنيا، والإنتزاع عن المادة البدنية، فتتجلى له حينئذ تجليا، ليكون انشكاف تجليها بالقياس إلى ما علمه كانكاشف تجلي المرايا بلا حجاب بالقياس إلى أشباحها الخيالية، بل المعرفة الحاصلة في قلبه هي بعينها تستكمل في حقه، وتنقلب مشاهدة صريحة، كما أن نفسه المدبرة لبدنه تنقلب في الاستكمال عقلا مفارقا، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف وتمام الوضوح كما في قوله:
نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا
[التحريم:8].
ثم لا يخفى، ان لذة كل علم وإدراك عقلي، ليست في درجة واحدة، لظهور أن لذة العلم بالحراثة والخياطة ليست كلذة العلم باله وصفاته وملائكته وملكوت السموات، لأن زيادة اللذة في العلم بقدر زيادة شرف وجود المعلوم، وزيادة شرف الوجود بقدر كماله وشدته وبراءته عن النقص والإمكان، والزوال والتغير، فأجل اللذات وأعلى السعادات هو معرفة الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم، وإلى أسرار الأمور الإلهية، وكيفية تدبيره لعالمي الملك والملكوت، وغاية العبارة عنه أن يقال:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة:17] وانه أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فإذا، جزاء المعرفة والحكمة هو جميع أقطار ملكوت السموات والأرض وجميع صورها العقلية ميدان العارف، يتبوء منها حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بشخصه، فهو من ملاحظة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها، من غير أن يضيق على غيره، إلا أنهم يتفاوتون في سعة متنزهاتهم وكمال سعادتهم بقدر كثرة علومهم، وقوة نظرهم، ورسوخ معرفتهم، وهم درجات عند الله.
وقد وقعت الإشارة فيما مر إلى أن أجناس العوالم والنشآت منحصرة في ثلاثة - كما ان مشاعر الإنسان ومداركه ثلاث درجات -، وكل عالم ونشأة له مشعر خاص من الإنسان، وهو أيضا بحسب كمال كل درجة من درجاته الثلاث يقع في عالم من العوالم الثلاثة، ويكون من الصور الموجودة في ذلك العالم.
فعالم الدنيا ونشأة المحسوسات تختص بإدراك صورها الحسية الحواس الظاهرة، والإنسان يقع فيها ويدرك الصور المادية ويستلذ بها من حيث اشتماله على الجوهر الحاس، وبذلك يشارك الحيوانات اللحمية.
وأما عالم الصور الأخروية - وهو النشأة الغيبية -، فتختص بإدراكها الحواس الباطنة، والإنسان يقع فيها ويدرك صورها المجردة عن المادة دون المقدار والشكل، ويستلذ بها لاشتماله على جوهر العقل العملي والتخيل بالفعل، وبذلك يشارك الجن وضربا من الملائكة النفسانية.
وأما عالم الصور المفارقة الإلهية، والمثل النورية، والنشأة القدسية، فتختص بإداركها القوة الروحانية والبصيرة العقلية، والإنسان يقع فيها ويدرك صورها ببصيرته العقلية وقوته القدسية، وهذه القوة مفقودة في أكثر الناس - بل لا توجد إلا نادرا -، وعالم الدنيا منبع الظلمات ومعدن الآفات، كما أن العالم الثالث محض الأنوار والخيرات المفارقة عن الشر بالكلية.
وأما العالم الأوسط فينقسم إلى صور نورية وظلمانية، ولكل منها طبقات هي طبقات الجنة والنار، فأهل الدنيا أشقياء محض، وأهل الله سعداء محض، وأهل الآخرة ينقسمون إلى السعداء - وهم أصحاب اليمين وأهل الجنة -، وإلى الأشقياء - وهم أصحاب الشمال وأهل النار -، فمن عمل للدنيا كان أجره وجزاؤه المال والجاه، وعاقبته الحسرة والندامة والحرقة بالنار، ومن عمل للآخرة كان أجره وجزاؤه الجنة والحور والقصور، ومن نظر في معرفة الله وعلم مبدأه ومعاده وتصور حقايق الأشياء كما هي، وصدق بوجودها، كان أجره وجزاؤه الإتصال بالملأ الأعلى، ومجاورة الحق الأول ومطالعة ملكوته، ودوام النظر إلى وجهه الكريم، وذلك هو الفوز العظيم والفضل الجسيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولذلك جعل الله المذكورات من السرر والولدان والكأس من معين، والفاكهة ولحم الطير والحور العين جزاء للأعمال، لا جزاء العلوم والمعارف، إذ لا غاية لها إلا أنفسها.
قال بعض العرفاء: إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف النار ورجاء الجنة.
وهكذا حكى عن نفسه الشريفة أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له. وقد سأله بعضهم: أخبرني أي شيء أهاجك إلى العبادة والإنقطاع عن الخلق؟
فسكت، فقال: ذكر الموت؟
فقال: أي شيء الموت؟
فقال: ذكر خوف القبر؟
فقال: وأي شيء هذا؟
فقال: خوف النار ورجاء الجنة. فقال: وأي شيء هذا؟ فقال: إن ملكا بيده هذا كله إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينه وبينك معرفة كفاك جميع هذا.
وفي أخبار عيسى (عليه السلام): إذا رأيت التقي مشغوفا في طلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عن جميع ما سواه.
ولا يخفى عليك أن المشغوف بمعرفة الله وملكوته، هم العرفاء والإلهيون والحكماء الربانيون، وإني لم أجد في وجه الأرض من له شغف بعلومهم ومعارفهم إلا واحدا، تصديقا لقول من قال: " جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو أن يطلع عليه إلا واحدا بعد واحد ".
وإذا بلغ الرجل إلى غاية يكون شغفه مقصورا على إدراك أحوال الربوبية، انحطت درجته عند الناس - إذ يخرج كلامه عن حدود عقولهم -، ويهجرهم ويهجرونه ويتركهم ودينهم وينفرد عنهم آخذا بدينه عاملا بوصية ربه -
قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
[الأنعام:91].
[56.25]
" اللغو " و " العبث " من فعل القوة المتخيلة إذا لم يكن معها غاية عقلية أو فكرية.
و " التأثيم " من فعل القوة الطبيعية عند عصيانها عن طاعة النفس.
فالأول ناش من ضعف العقل، والثاني من غلبة الطبيعة وانقهار النفس وعجزها، وهما منتفيان عن أهل الجنان وأصحاب الرضوان.
[56.26]
لسلامة صدورهم ونقاء سريرتهم عن الغش والعداوة، وسلامة أقوالهم واعتقاداتهم عن الكذب والغلط، فلا يسمعون إلا قول بعضهم لبعض على وجه التحية: سلاما سلاما. فيفشون بينهم السلام وحسن الكلام.
ونصب " سلاما " ، إما على البدلية ل " قيلا " ، وإما على كونه مفعولا به، وإما على المصدرية بتقدير: سلمك الله سلاما.
[56.27]
لما ذكر بعض آثار مناقب المقربين، أراد أن يذكر بعض نتايج محاسن السعداء، وجزاء أعمالهم، فذكرهم أولا، وعجب من حالهم نفخيما لشأنهم في حسن مآلهم.
[56.28-31]
" السدر ": شجر النبق. و " المخضود ": ما لا شوك له. وأصل الخضد عطف العود اللين، فكان المخضود لكونه لينا رطبا لا شوك له غالبا.
و " الطلح ": كل شجر عظيم الشوك. وقيل شجر الموز. وقيل شجر أم غيلان، وله نور كثير الرائحة.
و " المنضود ": الذي نضد بعضه على بعض بالحمل من أسفل ساقه إلى أعلى أفنانه، فليست له سوق بارزة بل كله ثمر.
و " ظل ممدود ": أي منبسط دائم لا يتقلص ولا تنسخه الشمس.
و " ماء مسكوب ": أي مصبوب.
فإن قلت: بعض هذه اللذات مما لا يرغب فيها رغبة بالغة، بل يعافه طبع أكثر الناس، وكذا الكلام في العسل واللبن والإستبرق، فما سبب إيرادها.
قلنا: سبب ذلك أمران:
أحدهما: أنها مما خوطب به جماعة عظمت هذه الأمور في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة، ولكل إقليم مطاعم ومشارب وملابس يختص بذوقها قوم دون قوم، ولكل أحد في الجنة ما يشتهيه كما قال تعالى:
ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون
[فصلت:31].
وثانيهما: لكل شيء يكون في الدنيا فله صورة في الآخرة وكثيرا ما تكون صورته الدنيوية سمجة كريهة، وصورته الأخروية في غاية الحسن واللطافة، أو لا ترى أن أهل الايمان كثيرا ما يكونوا في الدنيا شعثا غبرا صفر الوجوده أو سودها، وفي الآخرة وجوههم أضوء من الشمس وأنور من القمر؟ أو ما سمعت أن خلوق فم الصائم عند الملائكة أطيب من رائحة المسك الأذفر؟
فهكذا قياس ساير هذه الأمور، فيحتمل أن يراد بهذه الألفاظ إما غير معانيها المعهودة، أو خلاف أفرادها الموجودة - مخالفة نوعية أو بحسب الكمال والنقص -.
أما السدر: فلا يبعد أن يراد به السدرة المنتهى، وهي الحد الذي من تجاوز عنه تجاوز من عالم الصورة إلى عالم المعاني الصرفة، ولذا قيل: إنها في منتهى الجنة وآخرها. وقيل في وصفها: إنها شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها.
وقيل: لم يجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها.
وقيل: تنتهى إليها أرواح الشهداء، قال تعالى:
عندها جنة المأوى
[النجم:15]، أي تأوي إليها أرواح السعداء وأصحاب اليمين.
ومن قال إنها ينتهى إليها علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها أراد بالعلم التخيلية الجزئية المتعلقة بعالم الصور والأشباح، دون المعارف العقلية المتعلقة بعالم المحضة، وأكثر إطلاق الملائكة على الجواهر المتعلقة بالأجسام وملكوتها وباطنها، فتكون علومها علوما جزئية، دون علوم المقربين المجردين عن عالم الصور، وأراد من غيرهم أصحاب اليمين، المقتصرين في العلوم على ما يسمعون بحسب النقل والرواية فيما يتعلق بالأعمال، دون المكاشفات الغيبية بحقايق الأشياء وأحوالها.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبح الله ".
وعند العرفاء: إن المراد من هذه الشجرة في العالم الكبير قوة ملكوتية مظهرها السماء السابعة، شأنها تصوير الحقايق وتنزيلها منزلة التخليق والتشكيل، وهي متوسطة بين عالم الأمر والخلق.
وفي العالم الصغير الإنساني، القوة الخيالية التي مظهرها اللطيفة البخارية الواقعة في بعض تجاويف الدماغ، التي في لطافتها وشفافيتها تشبه السماء السابعة، وهي - أيضا - متوسطة بين العقل والحس، شأنه تجسيم المعقولات وتجريد المحسوسات. ولهذا وقع في بعض الروايات عن ابن مسعود والضحاك: إنها شجرة ينتهي إليها ما يعرج إلى السماء وينزل إليها ما يهبط من فوقها من أمر الله.
وروي أيضا: إنها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها فيفيض منها، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح.
فإذا تقرر هذا، فيحتمل أن يراد من السدر المذكور في هذه السورة، هذه القوة الإنسانية ، ومن المذكور في سورة النجم تلك القوة الملكوتية العظيمة الواقعة بين العالمين، التي بلغ إلى حدها معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشخصه وجسده، ثم تجاوز عنها بروحه المقدس.
وأما الطلح المنضود: ففيه شبه ما في السدر في نسبة صورته الأخروية، وعن علي (عليه السلام) أنه قرأ عنده رجل: وطلح منضود، قال: وطلع، وما شأن الطلح؟ - وقرأ قوله: لها طلع نضيد - فقيل له: أو نحولها؟
فقال (عليه السلام):
" إن القرآن لا يهاج اليوم ولا يحول ".
وعن ابن عباس: ورواه أصحابنا عن يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): وطلح منضود؟ قال: لا، وطلع منضود.
وأما " الظل الممدود ": فيراد به ظل رحمة الله وعكس نوره وجوده الواقع على المخلوقات - الأقرب فالأقرب -، كما في قوله:
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا
[الفرقان:45]. - الآية -.
وأما " الماء المسكوب ": فيراد به عين ماء الحياة الأبدية الساكب دائما من أسكوب منبع الفضل والرحمة، وقيل: يسكب لهم دائما أين شاؤوا وكيف شاؤوا - لا يتعبون ولا يتعبون فيه -. وقيل: مصبوب، يجري على وجه الأرض حيث أرادوا من غير أخدود. وقيل: مسكوب ليشرب على ما يرى من حسنه وصفائه.
[56.32-33]
تكرير ذكر الفاكهة لاختلاف الصفة. فوصف فاكهة المقربين بأنها متخيرة لهم، ووصف فاكهة أصحاب اليمين بأنها كثيرة غير مقطوعة ولا ممنوعة عنهم. ولعل الوجه في هذا الاختلاف، أن المقربين لكونهم في مقام الجمعية ودرجة الأمر والتكوين، فكلما هو موجود لهم فهو موجود عندهم وقد مر أن شهواتهم وإراداتهم مبادي حصول الأشياء لأن علومهم فعلية، وأما غيرهم: فإن كان من أصحاب الشمال ومن سكان عالم الحس والطبع، فهو مجبور محض في فعله، لأن مرتبته مرتبة الطبيعة، ولها درجة الإنفعال لمجاورتها واتصالها بالمواد الإنفعالية النازلة في صف النعال وفي النزال، وإن كان من أصحاب اليمين فمقامه مقام النفس، إلا أنه نهى النفس عن الهوى، وهوى إلى درجة الطبيعة والدنيا، والنفس من حيث هي نفس وإن كانت مختارة في فعلها، إلا أن فعلها كاختيارها ليس يصدر عنها بالإستقلال، بل بمشاركة مبدأ عقلي وإمداد جوهر قدسي، وتأييد ملك علوي من الملائكة العلوية القعلية، فمنه تفيض كمالاتها، ومنه يأتي رزقها رغدا، وليست أرزاقها بتقديرها بل بتقدير مقدر عليم، وإنما شأنها استدعاء الرزق والنعمة واستجلابها وطلبها لا غير، ولها من الاختيار والمشية هذا المقدار لا يزيد عليه. وأما التكوين والتحصيل فمن فوقها.
وأما وصف فاكهتهم بالكثرة وعدم الانقطاع المقابل له - تقابل العدم والملكة -، المستلزم للاستمرار الإمتدادي الزماني، وعدم المنع المقابل له هذا التقابل دون فاكهة المقربين: فلأن عالمهم عالم الصورة والمقدار، وعالم المقربين عالم الوحدة والجمعية، وعالم المعاني المجردة والجواهر المرتفعة عن الكثرة العددية، الخارجة عن الإمتداد واللاإمتداد والاستمرار واللاإستمرار، المتبرئة عن الإنقطاع واللاإنقطاع لتجردهم عن الزمان والمكان، وتقدسهم عن التجدد والحدثان، مع أن في ذلك العالم يوجد جميع ما يوجد في عالم المقادير من صور الأنواع الكثيرة، إلا أنها فيه على وجه أعلى وأتم، وأحسن وأحكم.
وهذا مما حققه وقرر بعض الحكماء الراسخين، والأولياء الشامخين، من المتقدمين المقتبسين نور الحكمة من مشكاة الوحي والنبوة في كتابه المعروف بمعرفة الربوبية حيث قال:
" إن العالم الحسي كله مثال وصنم العالم العقلي، فإن كان هذا العالم حيا فبالحري أن يكون ذلك حيا، وإن كان هذا العالم تاما كاملا فبالحري أن يكون ذلك العالم أتم تماما وأكمل كمالا، لأنه هو المفيض على هذا العالم الحياة والقوة والكمال والدوام. فإن كان العالم الأعلى تماما في غاية التمام، فلا محالة إن هناك الأشياء كلها - إلا أنها فيه بنحو أعلى وأشرف - فثم سماء ذات حياة وفيها كواكب مثل هذه الكواكب التي في هذه السماء، غير أنها أنور وأكمل، وليس بينها افتراق كما يرى ها هنا وذلك لأنها ليست جسمانية. وهناك أرض ليس ذات سباخ، لكنها كلها حية عارمة وفيها الحيوانات كلها الأرضية التي هنا، وفيها نبات مغروس في الحياة، وفيها بحار وأنهار جارية تجري جريا حيوانيا وفيها الحيوانات المائية كلها، وهناك هواء وفيه حيوانات هوائية حية شبيهة بذلك الهواء ".
" والأشياء التي هناك كلها حية لأنها في عالم الحياة المحض لا يشوبها الموت البتة، وطبايع الحيوان التي هناك مثل طبايع هذه الحيوانات إلا أن الطبيعة هناك أعلى وأشرف من هذه الطبيعة لأنها عقلية ".
وقال أيضا: " إن الأشياء التي هناك كلها مملوة غنى وحياة كأنها حياة تغلي وتفور، وجري حياة تلك الأشياء إنما ينبع من عين واحدة، وكيفية ذلك العالم كأنها حرارة واحدة أو ريح واحدة فقط، بل كلها كيفية واحدة يوجد فيها كل طعم، وانك تجد في تلك الكيفية الواحدة طعم الحلاوة والشراب وساير الأشياء - ذوات الطعوم وقواها، وساير الأشياء الطيبة الروايح، وجميع الألوان الواقعة تحت البصر، وجميع الأشياء الواقعة تحت اللمس، وجميع الأشياء الواقعة تحت السماع - اللحون كلها -، وأصناف الايقاعات، وجميع الأشياء الواقعة تحت الحس، وهذه كلها موجودة في كيفية واحدة مبسوطة، لأن تلك الكيفية الواحدة حيوانية عقلانية تسع جميع الكيفيات التي وصفناها، ولا تضيق عن شيء منها من غير أن يختلط بعضها ببعض ويفسد بعضها ببعض، بل كلها فيه محفوظة كأن كل منها قائم على حدة ". - انتهى كلامه بترجمة حنين بن اسحق -.
فقد صح أن كل شيء في العالم الأعلى العقلي مع وحدته عين أشياء كثيرة، ففاكهة واحدة مع وحدتها مشتملة على فواكه كثيرة مما في العالم الأوسط وجنة أصحاب اليمين، وهذا أمر محقق عند أهل الذوق والوجدان، وثابت عند الواغلين في الحكمة بالبرهان.
[56.34-37]
وبسط عالية ليست على وجه هذه الأرض السفلية، كما يقال: بناء مرفوع، لا أنها كانت محفوظة ثم رفعت. وقيل: منضود بعضها على بعض حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة.
وعن الجبائي: إن معناه ونساء مرتفعات القدر في عقولهن وحسنهن وكمالهن، بدلالة تعقبها بقوله: { إنآ أنشأناهن إنشآء }. لأن المرأة يكنى عنها بالفراش، فيقال لامرأة الرجل: فراشه، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الولد للفراش وللعاهر الحجر ".
وعلى التفسير الأول أضمر لهن، لأن ذكر الفراش - أي المضاجع - دل عليهن.
{ أنشأناهن }: أي ابتدأنا خلقهن من غير مادة ولا ولادة، لأن أمور الآخرة كلها إنشاءات من غير مادة واستعداد وحركة، بخلاف أمور الدنيا، فإن كلها ماديات متجددة منقضية، فاعلها طبيعة سيالة الوجود تدريجية الحصول، وقابلها قوة إنفعالية تجددية، والتأثير من الفاعل ليس إلا التحريك والإعداد - دون الإنشاء والايجاد -، فإما أن يراد بهن اللاتي ابتدأ انشاءهن، أو اللاتي أعيد خلقهن على سبيل العود.
" وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أم سلمة رضي الله عنها سألته عن قول تعالى: { إنآ أنشأناهن إنشآء }؟ فقال: يا أم سلمة، هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجايز شمطا رمصا، جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا.
فلما سمعت عايشة ذلك قالت: واوجعاه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس هناك وجع.
وقالت عجوز لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ادع الله أن يدخلني الجنة.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الجنة لا تدخلها العجايز.
فولت وهي تبكي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أخبروها انها ليست يومئذ بعجوز وقرأ الآية ".
عربا: - بضم الراء - وقرئ: بسكونها تخفيفا جمع " عروب " أي: متحننات على أزواجهن متحببات إليهم، حسنات التبعل.
أترابا: متشابهات مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين، وكذلك أزواجهن، لما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يدخل الجنة أهل الجنة جردا مردا بيضا جعدا مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين.
[56.38]
اللام من صلة " أنشأنا " أو " جعلنا ". ويحتمل كون الظرف مستقرا، أي: هذا المذكور حاصل لأصحاب اليمين جزاء لأعمالهم وميراثا عن طاعتهم.
[56.39-40]
أي: طائفة من الأمم السابقة، وطائفة من مؤمني هذه الأمة.
قال الحسن: سابقوا الأمم الماضية أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو الأمم الماضية مثل تابعي هذه الأمة، ويوافقه قول مقاتل وعطاء وجماعة من المفسرين، والأرجح أن الثلتين جميعا من هذه الأمة - كما دل عليه الحديث المنقول آنفا - وهو أيضا قول مجاهد والضحاك واختيار الزجاج.
ومما يؤيد هذا، أن نوع الإنسان منذ أول بعثة آدم كان سالكا سبيل الحق بالاهتداء، متدرجا في الترقي والاستعلاء، متطورا في أطوار الكمالات من جهة تلاحق الاستعدادات، وظهور الأسماء بمقتضى بعثة الانبياء، ونزول الآيات وترادف المعجزات بحسب خصوصيات الأزمنة والأوقات، حتى وصلت النوبة في السعادة والاهتداء، إلى ظهور نبوة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبلغ الترقي في الكمال إلى منتهاه، ووصل الروح الآدمي إلى مبتغاه بحسب الفطرة الثانية والنشأة الباقية.
وحكي عن أرسطاطاليس الحكيم أنه قال: وراء طور العقل طور آخر، لكنه إنما يكون لأهل آخر الزمان، كما أن طور الحواس كان للأوايل ونبيهم إدريس، فاطلعوا بحواسهم على ما في السموات من عدد الكرات الفلكية والكواكب وهيآتها وحركاتها، ثم طور الوهم والهمة كان لبني اسرائيل وكان نبيهم موسى، وكان إذا تأذى من قوم يهلك منهم بلحظة ألوفا كثيرة.
ثم طور العقل فهو لنا. ثم طور وراء طور العقل يكون لأهل آخر الزمان.
ثم قال رجل من الفلاسفة كان بعده. صدق فيما قال أرسطو، ونبي هؤلاء محمد بن عبد الله العربي، فإنه اطلع على أمور بحسب الوحي من الله لم يدركها من كان قبله، ثم إن فضيلة هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ساير الأنبياء تدل على فضيلة أمته على ساير الأمم، كما في قوله:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران:110]. وزيادة الشرف والفضيلة في النبي تدل على كثرة عدد الصحابة والتابعين والأئمة الهداة والمأمومين والأتباع الصالحين والأشياع المؤمنين.
ومما يؤيد هذا القول ويعضده من طريق الرواية، ما رواه نقلة الأخبار بالاسناد عن ابن مسعود قال:
" تحدثنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة حتى أكثرنا الحديث، ثم رجعنا إلى أهلنا، فلما أصبحنا غدونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: عرضت علي الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها، فكان النبي يجيء معه الثلة من أمته، والنبي معه العصابة من أمته، والنبي معه النفر من أمته، والنبي معه الرجل من أمته، والنبي ما من أمته أحد، حتى أتى أخي موسى في كبكبة من بني اسرائيل، فلما رأيتهم أعجبوني، فقلت: ربي من هؤلاء؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه من بين اسرائيل.
قلت: يا رب، فأين أمتي؟ قال: انظر عن يمينك. فإذ ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال. فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء أمتك، أرضيت؟ فقلت: رب رضيت.
وقال: انظر عن يسارك. فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال. فقلت: يا رب من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء أمتك. أرضيت؟ فقلت: رب رضيت.
فقيل: إن مع هؤلاء سبعين ألفا من أمتك يدخلون الجنة بلا حساب، قال: فأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد بن خزيمة، فقال: يا نبي الله، ادع ربك أن يجعلني منهم. فقال: اللهم اجعله منهم.
ثم أنشأ رجل آخر فقال: يا نبي الله، ادع ربك أن يجعلني منهم.
فقال: سبقك بها عكاشة.
فقال نبي الله - صلوات الله عليه -: فداكم أبي وأمي، إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفا، فكونوا. وإن قصرتم وعجزتم فكونوا من أهل الظراب، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من الأفق. وإني قد رأيت ثمة أناسا كثيرا يتهارشون كثيرا.
فقلت: من هؤلاء؟ ومن السبعون ألفا؟ فاتفق رأينا على أنهم ناس ولدوا في الإسلام فلم يزالوا يعملون به حتى ماتوا عليه، فانتهى حديثهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ليس كذلك. ولكنهم الذين لا يسرقون ولا يتكبرون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
ثم قال: وإني لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنة. قال: فكبرنا، ثم قال: إني لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا. ثم قال: إني لأرجوا أن يكونوا شطر أهل الجنة. ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين } ".
[56.41]
ثم ذكر سبحانه أصحاب الشمال، وعجب رسوله من حالهم، وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى جهنم، أي قعر العالم، كما أفصح عن اسمها، يقال: بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر.
أو الذين يأخذون كتبهم بشمالهم، أي من جانب الحس والطبيعة، وقد مر بيان أن المعنيين متلازمان. وبيانه بوجه آخر: ان النفس الكلية الموصوفة بالقوتين - المعبر عنها بلسان الشرع ب " اللوح المحفوظ " - ظل للعقل الكلي - المعبر عنه ب " القلم الأعلى " و " النور المحمدي " ، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أول ما خلق الله نوري ".
كما أن الطبيعة ظلها، فما لم تمتد من ظل النفس وبقيت في درجة النورية سميت بالزمردة الخضراء، وما امتد من ظل النفس فتسمى طبيعة وكان امتدادها على جوهر الهيولى المظلمة، فظهر من جوهر الهيولى والطبيعة الجسم الطبيعي مظلما، ولهذا شبهوه بالفحمة السوداء، وفي هذا الجسم ظهرت صور هذا العالم وأشكاله.
فكما علمت هذا في النفس الكلية، فاعلم أن الحال في النفوس الجزئية هكذا، لأنها رقائق للنفس الكلية، فلكل نفس جزئية جانبان: الأعلى وهو اليمين، والأسفل وهو الشمال. وليس لها الانتقال من طرف إلى طرف إلا أفراد النفوس الإنسانية، فإن كلا منها كطير له جناحان، بأحدهما يطير إلى فوق - وهو القوة النظرية - وبالآخر يهوي إلى تحت، وهو القوة العملية، فمن طارت نفسه إلى العالم الأعلى، إما بقوة ذاته كالمجتهدين العارفين، أو بقوة غيره كالمقلدين المريدين، فهو من أهل السعادة الأخروية، إما من الفائزين المقربين، أو من أصحاب اليمين الناجين.
ومن هوت نفسه إلى العالم الأسفل، ونزلت درجته إلى درجة الطبيعة والحواس، فهو من أهل الشقاوة الأخروية، وأصحاب الشمال والوبال، لركونه وسكونه إلى عالم الطبيعة. فإذا زالت عنه القوى الطبيعية، ونفدت منه هذه الحواس، كان كانسان مقطوع الأعضاء، ممثول الأطراف في ظلمة شديدة لا أوحش منها، فما أصعب حال أصحاب الشمال، وما أشد نكال أهل الظلمة والوبال.
فأراد سبحانه أن يكشف عن سوء أحوالهم وقبح وبالهم:
[56.42-44]
أي في ريح حارة حر نار تدخل مسامهم وخروقهم وفي ماء مغلي حار متناهي الحرارة، وظل من دخان أسود شديد السواد، لا بارد يستراح إليه ويسكن لديه، ولا كريم ينتفع به ويتخلص من يأوي إليه من ألم الحر وأذى الجحيم، سماه " ظلا " ، ثم نفى عنه صفتي الظل، والمراد إثبات مقابل هذين الصفتين، والمعنى أنه ظل حار ضار لا كظلال أهل الجنة، وللنفي في مثل هذا الكلام بلاغة ليست للاثبات، لاشتماله على ضرب من التهكم بأصحاب الشمال، وأنهم قد حرموا روح تلك الظلال العالية، وبردها ونفعها.
واعلم - إن كنت من أهله - أن صورة جهنم وأهلها هي بعينها من حقيقة هذه الدنيا وأهلها، لكنها يظهر هناك باطنها ويبطن ظاهرها، كما أن ها هنا طويت سرائرها ونشرت ظواهرها، فالسموم بالحقيقة هي من نار الطبيعة الفاعلة للحرارة الشديدة في بواطن الأجسام المركبة من العناصر، فإن فعلها في تحليل الرطوبات الحاصلة في بدن النبات والحيوان، وإفناء فضلاتها، أقوى من فعل النار المحسوسة في الحطب اليابس، فنار الطبيعة المستورة عن الأبصار، الكامنة في هذه الأجسام، هي أحق باسم النار من هذه النار التي هي إحدى الأسطقسات، لأنها تفعل في بواطن الأجساد أكثر من ظواهرها، بخلاف هذه، ولأنها أتم فعلا وأدوم تأثيرا حيث لا يصادم تأثيرها مجاورة الماء لأنها تجامعه وتؤثر فيه.
على أن هذه النار المحسوسة أيضا مبدأ ناريتها ومنشأ إحراقها وتفريقها المختلفات، طبيعة غير محسوسة، ولها صورة أخروية قريبة من نار الطبيعة الكلية في جميع الأجسام من صور غيرها من العناصر، وهي كلها بالقياس إلى نار النفس الأمارة الموقدة التي تطلع على الأفئدة، كشرارة من نار عظيمة، وهاتان الناران - أي نار الطبيعة ونار النفس الشريرة - كامنتان عن مشاهدة الخلق هنا، ظاهرتان عليهم يوم القيامة.
وأما الحميم: فهو من حقيقة مياه هذا العالم إذا تسخنت في الأجسام والأبدان النباتية والحيوانية، واشتدت سخونتها بفعل الحرارة الغريزية الكامنة فيها، وخصوصا إذا انضمت إليها الحرارة الغريبة الحاصلة من التعب والمشقة، أو الاستحمام، أو من الحميات الشديدة، أو من الهواء المطيف بالبدن، أو من شدة تسخين الشمس أو تجميد الزمهرير - الموجب لاحتباس الحرارة أيضا في الباطن -، أو غير ذلك مما لا يخلو عنه أهل الدنيا.
وأهل السلامة الأخروية قد انقطعوا وتخلصوا بباطنهم عنها، فلا جرم نجوا عن علوق أمثال هذه الأمور. وأهل الشقاوة لما تعلقوا بهذه الأمور ظاهرا وباطنا، ففي القيامة أيضا يتعذبون بها أشد العذاب، لكشف الغطاء وحدة البصر، وقوة الحاجة إلى الخلاص عن عذابها.
وأما الظل من يحموم، فهو من ظلال الأدخنة السوداء التي يسكن إليها ويستريح بها أهل الدنيا لفقرهم وحاجتهم إلى ما يزيل عنهم أذى الحر، واعتقادهم - لفرط الجهل والنقصان - بأن السكون عندها راحة للنفس وانتفاع لها، وعدم تفطنهم بأن جميع لذات الدنيا آلام ومصيبات للنفس، وإنما تضطر النفوس إلى ارتكابها لانسداد طرق النجاة وانغلاق أبواب الخلاص عليها من عذاب جهنم الطبيعة، ودواعي تأثيرها وتحليلها ما دامت محبوسة في سجنها، مقيدة بأيدي سدنتها في حميمها وزقومها.
ويحتمل أن يراد من " اليحموم " سماء الدنيا، لأنها من حقيقة الدخان كما في قوله تعالى:
وهي دخان
[فصلت:11] وكل دخان فهو في ذاته أسود، وعند التراكم يظهر سواده ويشتد - وإن لم يظهر عند التلطف -. أو طبيعة الجسم المطلق، الذي هو ظل ذو ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب. أو هذه الأرض المظلمة.
ولفظة " من ": إما للبيان، أو للتبعيض، أو للسبب. فيراد من " الظل " إما نفس شيء من هذه الأجسام، أو جزءه، أو ما يتبعه كالبدن ونحوه، فإن البدن - أيضا - كظل تسكن إليه النفس، وهو كجزء من الأرض وحاصل من الطبيعة الأرضية المظلمة.
وروي: إن اليحموم جبل في جهنم يستغيث أهل النار إلى ظله.
[56.45-48]
لما ذكر سبحانه نبذا من أحوال أهل الضلال، وأصحاب الشمال بحسب العاقبة والمآل، أراد أن يذكر نبذا من أسباب شقاوتهم من أحوالهم وأفعالهم التي أوجبت لهم هذا النكال، وذهبت بهم إلى مضيق هذا الوبال، إذ العاقبة لكل أحد من نتيجة السابقة، والنهاية من مقولة البداية.
ثم لا شك أن مجامع مبادئ الشر والعصيان في أفراد الإنسان، منحصرة في أمور ثلاثة، لأن له قوى ثلاثا خلقها الله فيه لحاجته إليها ما دامت في الدنيا لتكون وسيلة له إلى حسن العاقبة في الأخرى - إذا صرفها فيما خلقت لأجله -، وهي بعينها أسباب الشقاوة - عند انصرافها في غير وجوه مصارفها الشرعية ومواضعها الفطرية -.
إحداها: القوة الشهوية، التي من شأنها أن تستعمل في المستقبحات وتدفع القاذورات.
والثانية: القوة الغضبية، التي من شأنها الغلبة والتهجم والإيذاء.
والثالثة: القوة الإدراكية، سيما الوهمية التي من شأنها الجربزة والمكر والحيلة.
فقوله: { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } إشارة إلى فعل القوة الشهوية على وجه الإفراط، أي: كانوا في الدنيا متنعمين مفرطين في المآكل والمشارب اللذيذة والمناكحات الشهية. وبين سبحانه أن الترف ألهاهم عن الانزجار، وشغلهم عن الاعتبار، فكانوا تاركين للواجبات طلبا للراحة.
وقوله تعالى: { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } أي: الذنب العظيم، إشارة إلى فعل القوة الغضبية، إذ الإصرار على الذنب أن يقيم عليه ولا يقعد عنه بلوم لائم، ولا ينزجر بزجر زاجر، لشدة القوة وإفراط الداعية. ولما كانت القوة الغضبية أقوى من الشهوية وأقرب إلى الأفعال الباطنة فكان ذنبها عظيما بالقياس إلى ذنب الشهوة. فكذلك ذنب القوة الوهمية اعظم من ساير الذنوب، كما أن طاعتها أعظم أجرا من طاعة هذه القوى التي تحتها.
قيل: كانوا يخلفون أن لا يبعث الله من يموت، وأن الأصنام أنداد الله.
وقوله: { يقولون أإذا متنا وكنا ترابا } ، إشارة إلى فعل القوة الوهمية، وهو الاعتقاد الباطل في استحالة البعث والنشور، بناء على مقدمات وهمية وقضايا كاذبة، يؤلف منها قياس مغالطي، أو مقدمات مشهورة، وقضايا شبيهة بالحق يؤلف منها قياس جدلي، وهذا أشد ضررا وأكثر فسادا وأصعب انقلاعا من قلوب الجماهير، مثل قول من قال من منكري المعاد: إن الإنسان إذا مات وتلاشت أعضاؤه وصارت عظامه رميما وأجزاؤه ترابا وأجزاؤه ترابا فكيف يقبل الحياة تارة أخرى؟ فإن قبلت الأجزاء الباقية نفس الحياة التي زالت عنها يلزم إعادة المعدوم، وإن قبلت غير تلك الحياة يلزم كونها حية بحياة أخرى، وحينئذ لم يبق فرق بين المعاد والمستأنف، ولا فرق أيضا بين أن يقال: ذلك الشخص عاد حيا، أو حدث شخص آخر. ولتساوي نسبته إلى ساير الأشخاص لا اختصص لواحد دون واحد في كونه هذا الشخص بعينه، إذ لا عبرة بالأجزاء الترابية.
فقوله: { أإنا لمبعوثون أو آبآؤنا الأولون } - يحتمل أن يكون للإشارة إلى ما ذكر - على قراءة من قرأ: " أو آباؤنا " بسكون الواو، لتكون العاطفة فاصلة - وأما على قراءة من قرأ بتفح الواو فيكون واصلة ودخلت عليه همزة الاستفهام - وهم أكثر القراء وقراءتهم أصح - ليحسن العطف على المضمر في " لمبعوثون " من غير تأكيد ب " نحن " ، لوجود الفاصل الذي هو الهمزة، فيحتمل أن تكون الآية للإشارة إلى شبهة أخرى لهم، وهي أن مقدار جرم الأرض مقدار محصور معدود بالفراسخ والأميال، بل ممسوح بالأذرع والأشبار، وعدد النفوس غير متناه، فلا يفي مقدار الأرض ولا يسع لأن تحصل منه الأبدان الغير المتناهية، ولا يكون فهيا أمكنة جميع الخلايق السابقين منهم واللاحقين لعدم تناهيهم، إذ لا قائل بأن المحشور والمعاد بعض الناس دون بعض.
وهذا الوجه أربط بما ذكره تعالى في الرد عليهم وهو: { قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم }.
[56.49-50]
وقرئ: لمجمعون. قد علم الله نبيه طريق رفع هذا الإعضال، ولقنه تقرير الجواب عن هذا السؤال فقال: قل يا محمد - إن الأولين والآخرين - أي الذين تقدموا عليكم من آبائكم وغير آبائكم، والذين يتأخرون عن زمانكم، - لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم - أي لمحشورون إلى أجل وقت به الله عباده، وهو يوم معلوم عند الله، هو يوم القيامة، فإن الميقات ما وقت به الشيء.
قال صاحب الكشاف: إن هذه الإضافة بمعنى " من " كخاتم فضة والحق أنها بيانية.
وهو يوم يسع الخلايق كلها، لأنه يشمل الأيام كلها لكون مقداره خمسين ألف سنة، كما أن أرض المحشر تسعهم أجمعين لأنها جامعة الأرضين كلهن - كما حققه العارفون -، فإن هذه المعية والجمعية للخلايق على ضرب آخر، ليست كمعية زمانية أو جمعية مكانية، كيف وليس لجميع الأزمنة زمان ولا لجميع الأمكنة مكان، ولا لمجموع هذه الدار دار أخرى إلا بمعنى آخر له نحو آخر من الكون.
ولنمثل لاجتماع الخلايق عند الله في يوم واحد على الساهرة بمثال واحد جزئي، وهو: ان ملاقاة الكرة المتدحرجة مع السطح المستوي لا يكون في كل آن، ولا في كل زمان من أزمنة السكون إلا بنقطة واحدة متعينة، وتكون ملاقاتها معه في زمان حركتها الدورية بخط واحد متصل، بل بنقطة واحدة بجميع النقاط كلها، لا كجمعية النقاط التي تكون في مدار قار ساكن، بل جمعية أخرى انطوت بسببها جميع أجزاء الخط، وجميع النقاط التي كل منها واقعة في آن غير آن صاحبها في نقطة الملاقاة،وكذلك حال اجتماع الخلايق في عرصة القيامة عند الله. فافهم واعتنم إن كنت من أهله.
[56.51-53]
ثم إنكم أيها الذين ضللتم عن طريق الهدى، ونكبتم عن هذه المحجة البيضاء، وعمت بصائركم عن مشاهدة أنوار ملكوت الأرض والسماء، وفسدت أذواق قرايحكم عن إدراك حقايق الأشياء، من جهة متابعة النفس والهوى، وتغيرت مدارك قلوبكم وأرواحكم عما فطرها الله عليها بمرارة المراء والإمتراء، فحرموا من جدواها، وحرم الله عليهم نعيم الجنة وطعوم أهلها، لآكلون كالبهائم والأنعام من شجر من زقوم - أي: من شجر هو الزقوم، فمن الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر وتفسيره، لأنه اسم شجرة تنبت في أصل نار الجحيم، ثمرها كأنه رؤوس الشياطين، كما وصفها الله سبحانه في سورة الصافات حيث قال:
إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رءوس الشياطين
[الصافات:64 - 65].
وهي شجرة النفس الخبيثة المتغيرة عن الفطرة العقلية بسبب اعتقادات فاسدة أفسدتها، كشجرة طيبة تغيرت رائحتها لفساد تطرق إليها وغيرها عن الطبيعة الأصلية، فصارت كريهة الطعم والرائحة، وهي بسب هذه الإعتقادات نابتة في قعر جهنم، الطبيعة المتشعبة أفنانها في دركاتها تتغذى بها قلوب الكفار ونفوس أهل النار، لأنها تنمو وتزيد بواطنهم في النفسانية وقوة الشرية والفساد، وشدة الجحود والعداوة لأهل الدين وأصحاب اليقين، وإليه الإشارة بقوله:
فمالئون منها البطون
[الصافات:66].
فشجرة الزقوم كأنها مثال لنفوس الرؤساء وأئمة الضلال المبتدعين للتعليم والإرشاد، وإليه الإشارة بقوله:
إنا جعلناها فتنة للظالمين
[الصافات:63]. إذ قد صارت تلك النفوس من جهة طلعها - أي حملها وثمرها من العلوم المغالطية والأكاذيب الوهمية - رؤوس الشياطين.
و " الآكلون من زقوم " إشارة إلى نفوس الاتباع والمقلدين الذين ظلوا عن سبيلهم ونكبوا عن دليلهم. وأكلهم منها: أخذهم الاعتقادات الباطلة منها وتدينهم بدينها، وامتلاء بطونهم منها ونشوؤهم في هذه العقايد الردية المسودة للقلوب، المغذية للنفوس الشقية، المنمية لها فظاظة وغلظة، المورثة لها شدة وقسوة، فإن غذاء الأشرار من الشرور، وهذه أغذيتهم الأخروية.
وبازاء أغذية هؤلاء، أرزاق أهل الله، ومقويات قلوبهم ومغذيات أرواحهم، وهي المعلومات اليقينية والعقايد الصحيحة الإيمانية، من معرفة المبدأ والمعاد، كما أشار إليه بقوله سبحانه:
أولئك لهم رزق معلوم، فواكه وهم مكرمون
[الصافات:41 - 42].
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم
[الصافات:62]. أي: معلوماتهم التي هي من معلومات الله، مقوية لقلوبهم، مغذية لأرواحهم، يتفكهون بها ويتلذذون في صحبة أتباعهم وأصحابهم وقلوبهم بها مكرمة عند الله، جالسة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولا شك أن اليقينيات التي تجعل العقول الهيولانية التي هي ملائكة بالقوة ملائكة بالفعل خير نزلا ونزولا إليهم من الوهميات الكاذبة التي تجعل النفوس الوهمانية التي هي شياطين بالقوة شياطين بالفعل.
وقرئ " من شجرة من زقوم " ، فعلى هذا، تذكير الضمير الراجع إليها في " عليه " لكونها على تأويل الزقوم لكونه في معناه، وأما على القراءة المعروفة بتأنيث ضمير الشجر في " منها " على المعنى، وتذكيره في " عليه " على اللفظ.
[56.54-55]
قرئ: " شرب " بالحركات الثلاث، فمفتوح الفاء والمضموم مصدران، وعن أبي عبد الله (ع): " أيام أكل وشرب " - بتفح الشين -، وأما المكسورة فبمعنى المشروب.
و " الهيم ": الإبل التي بها الداء المسماة ب " الهيام " ، وهي داء تشرب منه ولا ترتوي، والمفرد " أهيم " و " هيماء ". قال ذو الرمة:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد
صداها ولا يقضي عليها هيامها
-كذا في الكشاف - وفيه أيضا:
قيل: " الهيم " الرمال. ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك. جمع على فعل، كسحب وسحاب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض، يعني: إذا ملئت بطون بواطنهم من تناول ثمرة الزقوم، حتى صاروا كالممتلي غيظا وحقدا وحسدا وقت هيجانهم، سلط الله عليهم حرقة القلب وعطش النفس لحب الدنيا والرياسة على الأقران وإيذاء الخلق - كمن به داء الكلب لكلب النفس -، فشربوا عليها كاسات من حميم الأهواء والأماني المذمومة الردية، وأشواق الأمور السفلية، وتصورات الشرور المؤذية التي يكسر بها بعض شرارة النفس وسورة الغضب - وإن كانت مؤدية أخيرا إلى ما صارت بها نفوسهم أسوء حالا وأكثر حرقة واضطرابا، وطبايعهم أشد ثورانا وهيجانا من الأول، لغلبة الحرص والشهوة والحسد والعداوة، كالناقة الهيماء. والكلب العقور الذي به أسوء الداء.
[56.56]
إعلم أن كل ما يأكله ويشربه أهل النار من أطعمة الدنيا وأشربتها فيصير زقوما وحميما بحسب العاقبة، وهذا أمر مشهود لأهل الكشف والشهود، لأن كل ما يرد إلى باطن الإنسان، يرتفع منه أثر إلى نفسه ويؤثر فيها بحسب نياته واعتقاداته في الخير والشر. والنزل: ما يعد للنازل تكرمة له، فالله سبحانه أشار إلى مآل ما يتنعمون به في الدنيا بقوله: هذا - أي الزقوم والحميم - نزلهم الدنيوي وعاقبته في يوم الدين، وعلى هذا لا يكون الظرف معلقا بقوله: " نزلهم " فلا يكون فيه تهكم بهم.
ويحتمل أن يكون المراد: إن هذا الحميم والزقوم بصورتيهما الأخرويتين نزلهم في الآخرة، كما أنهما بصورتيهما الدنيويتين نزلهم في الدنيا، فيكون الظرف متعلقا به، وعلى هذا، ففيه تهكم كما في قوله:
فبشرهم بعذاب أليم
[آل عمران:21] وقرئ: نزلهم - بالتسكين -.
[56.57]
" لولا " كهلا، كلمة تحضيض، أي: نحن أوجدناكم أولا من غير مثال وحركة وإرادة زايدة وداع فهلا تصدقون به، ولولا تعلمون كيفية الإيجاد حتى تعلموا منها كيفية الإعادة، فإن من قدر على خلقكم في هذه النشأة الدنيوية من غير مثال، أقدر على انشائكم في نشأة أخرى من غير مثال
كما بدأكم تعودون
[الأعراف:29].
والمنكرون للبعث، وإن كانوا بزعمهم مصدقين بالخلق والإيجاد، لكن لا يعلمون تحقيقه على وجهه، ولا كيفية ارتباط الموجودات به بوجه حتى يعلموا النشأة الثانية الباقية، وإلا لم يشكوا فيها فكأنهم مكذبون بالخلق.
ويحتمل أن يكون التحضيض على البحث، أي: لما علمتم بالخلق فهلا تصدقون بامكان البعث، لأن من خلق أولا لا يمتنع عليه أن يخلق ثانيا، كما في قوله:
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62].
[56.58-59]
هذا يرجح المعنى الأول لقوله: فلولا تصدقون. إذ فيه تنبيه على أن جهلهم بالبعث لجهلهم بالخلق، ولو علموا بكيفية الإيجاد لعلموا بكيفية الإعادة، وذلك لأن القوم زعموا أن الفاعل ما يفعل بحركة ومباشرة، فكل من يباشر حركة أو يستعمل جسما حتى يتهيأ لفيضان شكل أو صورة من الواهب الحقيقي، فهم يسمون ذلك المحرك فاعلا، ولهذا يظنون الأب فاعلا للابن، والممني فاعلا للمني، والزارع فاعلا للزرع، والبناء فاعلا للبناء، فهكذا تصوروا فاعلية الفاعل الأول جل اسمه فوقعوا في الشرك، والله سبحانه نبه على فساد ظنهم، وبطلان عقيدتهم بأن الممني ليس علة للمني، ولا البناءعلة للبناء، ولا الزارع علة للزرع، بل حركة كل منهم علة لحركة شيء آخر، وذلك الشيء يصير مادة بتلك الحركة مستعدة لأن يكسوها فاعل الكل صورة أو شكلا.
أما الأب: فهو علة لحركة المني، وحركة المني إذا انتهت على الجهة المذكورة تأدت لحصول المني في القرار، وأما تصويره حيوانا أو إنسانا، وبقاؤه حيوانا وإنسانا، فله علة أخرى ومبدأ أعلى.
وأما البناء، فحركته علة لحركة اللبنة، ثم سكونه بعدها وتركه الحركة علة لانتهاء تلك الحركة، وانتهاؤها علة الاجتماع، وأما تشكيل المجتمع من اللبنات، وحفظه وإمساكه مدة فله فاعل آخر، هو الذي بقوته يمسك السموات والأرض أن تزولا.
وكذا حكم الزارع، فإن حركته علة لحركة الحبة ثم سكونه بعدها، أو ترك حركته، علة لسكون الحبة في قرارها من الأرض، مثل سكون النطفة في قرار الرحم.
فإذا ثبت أن فعل الفاعل الحقيقي هو إفاضة الوجود - لا التحريك والإعداد المورثان لإستعداد المواد كالنطف والبذور لقبول صروة الحيوان والنبات من مبدأ جواد - تحقق ان الاعادة منه مثل الابتداء لا يتفقر فيها إلى سبق مادة قابلة يستعملها التهيأ لحصول صورة ثانية، بل إذا شاء أنشأها ثانية من غير مثال سابق.
فقوله: أفرأيتم ما تمنثون - معناه: افرأيتم ما تقذفونه بالحركة الجماعية في أرحام النساء من النطف؟ إنكم مقدروه ومصوروه، أم نحن مقدروه ومصوره؟ والأول باطل فتعين الثاني. فإذا ثبت أنه تعالى مقدر الحياة بلا مادة، فهو مقدر الموت بلا مادة.
وقرأ أبو السماك " تمنون " بفتح التاء. يقال: أمنى النطفة ومناها، قال سبحانه:
من نطفة إذا تمنى
[النجم:46].
قال الرازي في الكبير: وجه الاستدلال بهذه الآية أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء وبهذا تشترك كل الأعضاء، ويجب غسلها بالالتذاذ الواقع لحصول الارتحال عنها كلها، ثم إن الله يسلط قوة الشهوة على البنية حتى يجمع تلك الأجزاء الطلية، بل إنها بحسب مادتها الغذائية كانت متفرقة في أطراف العالم، ثم الله جمعها بقدرته في بدن الحيوان، ثم في أوعية المني، ثم أخرجها ماء دافقا إلى قرار الرحم، فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها هذا الشخص، فإذا افترقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى؟!
هذا كلامه. وفيه ما لا يخفى من وجوه التكلف، حيث اعتبر مقدمات لا دلالة عليها ولا حاجة إليها، مع امكان المناقشة فيها وفي استلزامها الدعوى بعد تسليمها.
[56.60-61]
لما نبه على أن فاعل صورة الإنسان ومقدر وجوده هو الله سبحانه، بحسب جهات فاعلية ترجع إليه من علمه وإرادته وحكمته - لا بحسب جهات قابلية ترجع إلى القابل من مادته ووضعه وحركته -، لأن تلك الجهات هي منشأ الفعلية، والوجوب لحصول أصل الوجود، وهذه الجهات منشأ القوة والإمكان لتعينه، ولاختصاصه بزمان ومكان، وتعدد وانقسام، فاشار إلى أنه المعيد كما أنه المنشئ، فإن إيجاد الخلق إفادة أصل الوجود لهم، والإعادة إفادة أصل الوجود وثمرته وغايته. فالمجيء إلى الدنيا من الجنة هو النزول من الكمال إلى النقص، والخروج من الفطرة الأصلية، ولا محالة صدور الخلق من الحق لم يكن إلا على هذا الطريق.
والذهاب من الدنيا إلى الآخرة هو التوجه من النقص إلى الكمال، والرجوع من الحالة الغربية إلى الفطرة الأصلية، ولا محالة رجوع الخلق إلى الحق ليس إلا على هذا الطريق
الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون
[الروم:11].
لكن السعداء يتوجهون إليه تعالى بنفوس راضية، وقلوب سليمة عن العلايق الظلمانية والعوائق الردية، وأما الأشقياء فيرجعون إليه بنفوس مظلمة كدرة، كثيرة التعلق بالدنيا ومؤذياتها، وقلوب مسودة منكوسة متعلقة إلى الأسفل.
و " التقدير ": ترتيب الأمر على مقدار. قوله: { نحن قدرنا بينكم الموت } يحتمل أن يراد منه: نحن خلقنا الأبدان الأخروية عند الموت بهيآت متفاوتة مختلفة وقسمناها بين أرواحكم مناسبة لأعمالكم وأخلاقكم ، فإن الموت قد يطلق على حال الإنسان بعد هذه الحياة الدنيوية.
وعن مقاتل: المراد من قدرنا الموت: قسمناه عليكم قسمة الرزق، على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيتنا، فاختلفت أعماركم بين قصير وطويل.
وعن الضحاك: معناه سوينا فيه بين المطيع والعاصي وبين اهل السماء والأرض.
وقوله: وما نحن بمسبوقين - أي: لا يسبقنا أحد منكم عليه، ولا يعجزنا عنه، تقول: سبقته على شيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه.
وقيل: إنه من تمام ما قبله، فمعناه: لا يغلبنا أحد منكم على ما قدرناه من الموت بأن يدفعه.
وقيل: إنه متصل بما بعده - وهو قوله: عز اسمه: { على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون }.
إعلم أن الروح الإنساني أوجده الله دائما مدبرا للصورة الطبيعية، سواء كان في الدنيا، أو في الجنة أو في النار، أو في غيرها، فأول صورة لبسها بعد الصورة التي أخذ عليها الميثاق، هي صورة دنيوية حشرة بها في رابع شهر من حين تكون صورة جسده في الرحم إلى ساعة موته وله فيها انتقلات متصلة تتوارد عليها الأمثال على نعت الاتصال، حتى يظن أكثر الناس أن بدنه بعينه واحد شخصي من ابتداء العمر إلى انتهائه، وليس كذلك، بل له في كل حين حشر من صورة إلى أخرى مشابهة، ولتشابه الصور يلتبس ذلك عليهم، كقوله تعالى:
بل هم في لبس من خلق جديد
[ق:15] ويحتمل أن يكون اللبس من اللباس، وفي هذا تشبيه حسن كما في تفسيره بالاشتباه والالتباس.
ثم إذا مات حشر إلى صورة أخرى من حين موته إلى وقت سؤاله، فإذا جاء وقت سؤاله، حشر من تلك الصورة إلى صورة جسده الموصوف بالموت، فيجد نفسه الإنسان الميت المقبور بعينه فيحيا به، ويؤخذ بأسماع الناس وأبصارهم عن حياته إلا من خصه الله بالكشف عن ذلك من نبي أو ولي من الثقلين.
ثم يحشر بعد السؤال إلى صورة أخرى في البرزخ، بل تلك الصورة عين البرزخ يمسك فيها إلى نفخة البعث لقوله تعالى:
ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون
[المؤمنون :100] فيبعث عن تلك الصورة ويحشر إلى الصورة التي كان فارقها في الدنيا إن كان بقي عليه سؤال وحساب، وإن لم يكن من أهل ذلك الصنف، حشر في الصورة التي يدخلها بها الجنة، والمسؤول إذا فرغ من سؤاله، حشر إلى صورة يدخل بها الجنة أو النار - وأهل النار كلهم مسؤولون محاسبون -.
فإذا استقر أهل الجنة فيها، ثم دعوا إلى الرؤية ونودوا إلى الكثيب حشروا في صورة لا تصلح إلا للرؤية، فإذا عادوا حشروا إلى صورة يدخلون فيها إلى سوق الجنة، فإذا دخلوا سوق الجنة ورأوا ما فيه من الصور فأية صورة رأوها واستحسنوها انتقلوا إليها، وحشروا فيها، فلا يزالون في الجنة دائما يحشرون من صورة إلى صورة إلى ما لا نهاية له، لأن قدرة الله واسعة.
- فاعلم هذا فإنه من لباب المعرفة الإلهية -
وقوله: { وننشئكم في ما لا تعلمون } ، إشارة إلى حشر الأرواح إلى عالم المفارقات المحضة، المقابل لحشر الأمثال والأجسام إلى عالم الصور الجانية او الجهنمية، ذلك للمقربين، وهذه لأصحاب الشمال.
ويحتمل أن يكون المراد منه: وننشئكم فيما لا تعلمون من الهيئات المختلفة على حسب أعمالكم ونياتكم فإن المؤمن يخلق على أحسن هيئة وأجمل صورة، والمنافق على أقبح صورة وأوحش شكل، وربما يحشر بعض الناس على صورة حيوان لم يعهد مثله في قبح المنظر وكآبة الصورة، بواسطة تركيب الأخلاق السيئة في نفسه، التي يوجد لكل منها قبح صورة متفرقة وقد اجتمعت في ذاته، مثل من اجتمعت في ذاته شهوة الحمار، ودناءة الخنزير، وتكبر الأسد، وحرص النمل، وحقد الجمل، وحسد الغراب، وجبن الصلصل وغير ذلك، فيتركب هيئة صورة جسده من هيئات صور هذه الحيوانات.
وفي الحديث: يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير.
[56.62]
إعلم أن من علم وتفطن بصنعة الباري ومسلك عنايته وحكمته في وجود النشأة الأولى للإنسان، ومذهب طبيعته وقوى نفسه في التدرج في الأحوال، والترقي من صورة إلى صورة عند الاستكمال - حيث ابتدىء أولا من تراب ثم من نطفة، ثم من ماء مهين، ثم كان علقة جامدة في قرار مكين، ثم كان مضغة مخلقة، ثم كان جنينا مصورا تاما، ثم كان طفلا متحركا حساسا، ثم كان صبيا ذكيا فهيما، ثم شابا متصرفا قويا نشيطا، ثم كان كهلا مجربا، ثم كان شيخا كاملا إما في الحكمة والمعرفة فيكون حكيما أو وليا من أولياء الله، ثم بعد الموت يكون ملكا سماويا أو من الملائكة المقربين، أو في المكر والجربزة فيكون محتالا مكارا عدوا للدين من أعداء الله، ثم يكون بعد الموت شيطانا مريدا لعنه الله، محشورا في حزب الشياطين وأصحاب النار، وإما في طلب اللذات الحسية من الشهوة والغضب، فيكون إما ظالما محشورا بعد الموت في صورة السباع والحيات، أو فاجرا محشورا في صورة البهائم والحشرات، فيعلم يقينا أن للانسان نشأة أخرى فوق هذه النشأة الأولى، بل الدنيا والآخرة واقعتان تحت جنس المضاف بحسب المفهوم، فتعقل كل منهما وتذكره يستلزم تعقل الأخرى وتذكرها. فإن الدنيا عبارة عن حالتك القريبة قبل الموت، والآخرة عن حالتك البعيدة بعد هذه الحياة، فكل منها مقيسة إلى الأخرى ومضافة إليها.
وكما أن للإنسان أطوارا متفاوتة في الدنيا - بعضها فوق بعض -، كذلك له مواطن وأطوار متفاوتة في الآخرة، بعضها صورية وبعضها معنوية، يسافر في مواطن الآخرة، وتتوارد عليه الأمثال، وتتعاقب له الأحوال، مثل: العرض والحساب والميزان والكتاب والصراط والأعراف والجنة والنار.
ويحتمل أن يكون المراد: إنك يا إنسان، لما علمتك نشأتك الدنيوية، وحالتك الدنية الأولى التي قد وقعت لك فيها الانتقالات من رتبة إلى رتبة فوقها، فكنت أولا جمادا، ثم نباتا، ثم حيوانا، ثم بشرا سويا سميعا بصيرا متفكرا، ولم تنتقل من رتبة من هذه المراتب إلا وقد خلعت عنك صورة خسيسة وأعراض ناقصة، وألبست ما هو أجود منها وأشرف، فكذلك ينبغي لك ويجب عليك أن لا تتوانى عن استعمال القوة العاقلة التي هي آخر ما حصل لك في هذه النشأة، في تذكر أمور الآخرة، وأن الغايات كانت بازاء البدايات، ومعرفة من منه الابتداء وإليه الرجوع للكل.
فلا ترقى درجة العلوم والمعارف، إلا وتخلع عن نفسك أخلاقا وعادات وأعمالا كنت معتادا عليها منذ الصبا من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكن أن تفارق هذه الصورة البشرية، وتلبس لباس الأخيار وتتصور بصور الملائكة ويمكنك الصعود إلى المنازل العالية، والترقي إلى المراتب الجنانية مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وقرئ: النشأة والنشاءة.
وفي الكشاف: إن في هذه الآية دليلا على صحة القياس، حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.
ولا يخفى أن هذا ليس من باب القياس، فإنه من باب ملاحظة النهايات من البدايات، والاستدلال من ذوي الغايات على غايتها تؤول إليها، فكما أن النشأة النباتية غاية النشأة الجمادية، والحيوانية غاية النباتية، والحياة العقلية غاية الحياة الحسية وكمالها، فكذلك النشأة الأخرى غاية النشأة الأولى.
فمن نظر إلى ترتيب الأمور، وتفاوت الموجودات في مراتب الشرف والخسة، والكمال والنقص، ووجد أن لكل ناقص خسيس توجها غريزيا إلى ما هو أقرب منه إلى الشرف والكمال، ثم نظر إلى حال الإنسان فوجد أن له انتقالات من صورة إلى صورة فوقها، واستحالات من صفة إلى صفة يعلم علما يقينيا أن له نشأة ثانية باقية يقع له فيها الرجوع إلى موجد الكل وغاية الجميع.
وهذا استلال برهاني ومسلك شريف جدا، فإن الله تعالى قد ذكره ونبه عليه في مواضع كثيرة تعليما لعباده:
منها ما قال في سورة الحج:
يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة
[الحج:5] - إلى قوله -
وترى الأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت
[الحج:5] ثم قال:
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور
[الحج:6 - 7].
وقال في سورة المؤمنون بعد ذكر مراتب الخلقة:
ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون
[المؤمنون:15 - 16].
وقال في سورة لا أقسم:
ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى
[القيامة:37 - 38].
وقال في سورة الطارق
فلينظر الإنسان مم خلق
[الطارق:5] إلى قوله:
إنه على رجعه لقادر
[الطارق:8].
فهذا المسلك في معرفة المعاد، ليس قياسا فقهيا كما توهم، إذ القياس الفقهي من أضعف الأدلة ومما لا يفيد إلا ظنا ضعيفا. ثم القياس على تقدير صحته إنما يصح في العمليات، إذ الغرض فيها مجرد العمل - دون الاعتقاد - فكفى فيه الترجيح بالاجتهاد، وأما العقايد الحقة الدينية - سيما معرفة المبدأ والمعاد - فيجب على كل مكلف تحصيل اليقين فيها ولا يكفي الظن. وقد ذم الله تعالى أهل الظن والتخمين في قوله:
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا
[يونس:36].
[56.63-67]
قد نبه الله سبحانه في هذه السورة على ثبوت المعاد وحقية حشر الأجساد بوجوه مختلفة، بعضها لدفع شبه الجاحدين المنكرين والضالين المكذبين، وبعضها لزيادة تنوير قلوب أهل الدين:
منها قوله:
أفرأيتم ما تمنون
[الواقعة:58] - الآية -، وقد مر وجه الاستدلال به.
ومنها: إن الحبة المزروعة جوهر جامد أرضي، غاية فعل الإنسان فيه أن يدفنه في التراب ويسقيه الماء، وغاية في التراب فيه أن يفسده ويعفنه ويجعله ترابا مثله ورمادا - كما يفعل بأجساد الحيوانات -، وكذا فعل الماء في الأشياء، فإن فعل طبيعة الحبة المزروعة في مادتها التثقيل والتسكين، لا الاصعاد إلى جانب السماء، ثم الإثمار والإيلاد بعد حصول النشوء والنماء، فلولا أن الله أفادها بمحكمته قوة أخرى باطنية، وكلمة فعالة ملكوتية يفعل بها ما يغذيها أولا، ثم ينميها ثانيا، ثم يولدها ثالثا بما يقع منه الانتفاع بجنود وأعوان، وخدم منتشرة فيها يستخدمها ثلاثة رؤساء: - الغاذية والنامية والمولدة -، لكانت إما رمادا، أو هشيما تذروه الرياح، أو حطاما لا ينتفع به حيوان في مطعم ولا في ملبس، أو تبنا لا نفع فيه ولا غذاء منه، فثبت تحقق عند العارف المحقق، أن الله قد أودع في مواد الكاينات قبول فنون من الصور والكمالات والقوى والكيفيات، وأودع بعنايته وحكمته في صورها توجها طبيعيا إلى ما هو أشرف وأقرب إلى أفق النور وعالم الرحمة والسرور، ثم أفاض عليها رحمة بعد رحمة، وهداية بعد هداية ، حتى أوصلها إلى غايات درجاتها، ونهايات حركاتها، وهكذا إلى أن تنتهي حركاتها وانتقالاتها إلى الحيوانية ثم إلى الإنسانية، وكلما حصل فيها كمال أتم وصورة أقوى، كان عشقها وشوقها إلى ما هو كمال وغاية لها أكثر وأشد.
فإذا، ثبت وتحقق، أنه لا يجوز أن تقف حركة الوجود عند الإنسان وتسكن لديه ولا تتجاوزه إلى ما هو خير حقيقي، لنقصانه ما دام في الدنيا عن تمام الارتقاء إلى عالم الدوام والبقاء.
فقوله: { أفرأيتم ما تحرثون } أي: تبذرون حبوبه في الأرض، وقوله: { أأنتم تزرعونه } أي: تنبتونه وتغذونه وتنمونه، وتجعلونه في أطوار الخلقة، وتبلغونه إلى أن يبلغ الغاية ويصل النهاية.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا يقولن أحدكم زرعت، وليقل حرثت ".
وسبب نهيه عن ذلك، الاشتباه الواقع للناس بين المعد والموجد كما مر.
وقوله: { فظلتم } - وقرئ فظللتم، على الأصل، { تفكهون }: أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم حيث جعل حطاما وصار هشيما لا ينتفع به.
وعن الحسن وقتادة وعكرمة: تندمون على تعبكم فيه وانفاقكم عليه، وأصله من التفكه في الحديث، وهو التلهي به. فكأنهم يتروحون إلى الندم كما يتروح الفكه إلى الحديث بما يزيل الهم.
وقرئ: يتفكنون. وفي الكشاف: منه الحديث: مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرناء، فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون. أي: يتندمون.
وقوله: { إنا لمغرمون }: وقرئ: لأنا - أي لملزمون غرامة ما انفقنا فيه، أو مهلكون - لهلاك رزقنا - من الغرام وهو الهلاك.
وقوله: { بل نحن محرومون } - أي: قوم مبخسون ممنوعون من الرزق، عادموا الخط والبخت، ولو كنا قوما مجدودين غير محارفين لما جرى علينا ذلك.
[56.68-70]
الماء المشروب؛ هو الماء العذب الصافي الصالح للشرب. والمزن: السحاب. واحده مزنة.
لما ذكر في الآية السابقة مادة المطعوم وصورته، وفاعله الذي هو الخالق الرازق، وغايته التي هي انتفاع الإنسان به وقوام ونشأته الدنيوية مدة عمره منه، ليتهيأ في تلك المدة للعود إلى النشأة الآخرة والرجوع إلى غاية الأشياء، وأشير فيها إلى طريق الاستدلال على اثبات البعث، ذكر في هذه الآية مادة المشروب وصورته، وكيفية نزوله، ومبدأ وجوده، وحكمة كونه وغايته.
وطريق الاستدلال به على إثبات فاعل الكل وغايته، هو أن الماء جسم ثقيل بالطبع تجبره على النزول طبيعته، فإصعاده على خلاف مقتضى الطبع لا بد فيه من قوة قاهرة من عالم الأمر، هي فوق المادة والطبيعة، تجبرهما على الصعود كما تجبرها على الاصعاد قوة العزيز الحميد الذي له الملك والملكوت، والخلق والأمر، فإذا اصعدته تلك القوة التي هي ملك نوراني من ملائكة الله أداه إلى يد ملك من ملائكة السحاب وهو خادمه حامل للماء الثقيل وممسك له في جو السماء إلى أن يأذن الله له في إرساله وتقطيعه قطرات كل قطرة بالقدر الذي قدره الله على الشكل الذي شاء، وهو أفضل الأشياء وأشرفها، لكونه أبسطها وأوسعها وأدومها وأتمها، وفاعلها ومظهرها ودليلها.
ثم ترى ملك السحاب يرش الماء بتسيير الرياح وينزل المطر مدرارا في مظان الحاجة إلى الأرض الجرز، ويرسله قطرات متفاصلة لا تدرك قطرة منها قطرة، ولا تتصل واحدة بأخرى ولا تزاحمها في الطريق بل تنزل كل منها في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه يمنة ويسرة، ولا يتقدم المتأخر منها ولا يتأخر المتقدم حتى تصيب الأرض التي عينت لها ولكل حيوان فيها من طير ووحش وبهيمة ودود مكتوب على تلك القطرة بخط إلهي لا يدرك بهذه العين الظاهرة: " إنه رزق الدود الفلاني في الوقت الفلاني يصل إليه وقت حاجته وعطشه ". هذا وغير ذلك من الحكم التي أنشأها الله تعالى في الماء وانزاله من السحاب في وجوه مختلفة وعلى هيآت متعددة، مثل البرد والثلج والصقيع وغيرها، مع انعقاد البرد الصلب من الماء اللطيف، وتناثر الثلوج كالقطن المندوف من تأثير محرك قوي نداف مع انه لا تشاهده العين لغاية لطافته وشفافيته مما لا تحصى عجايبه، كل ذلك فضل من الجبار القاهر والخلاق القادر ما لأحد من الخلايق فيه شرك ومدخل، بل ليس للمؤمنين من خلقه ولا الملائكة المسبحين إلا الاستكانة والخضوع تحت جلاله، ولا للعميان الجاحدين إلا الجهل بكفيفية خلقه وأمره في شيء، ورجم الظن بذكر فاعله وعلته.
فيقول الجاهل المغرور القاصر النظر: إنما ينزل الماء من السحاب لأنه ثقيل بالطبع، وطبيعته سبب نزوله، ويظن أن هذا معرفة انكشفت له ويفرح به.
ولو قيل له: ما معنى الطبع؟ وما الذي أجبر طبع الماء حتى رقى إلى جانب السماء؟ حتى لو احتالوا تخيلوا وجها آخر وقالوا: إن الهواء انقلب بطبعه ماء في كرة الزمهرير لبرودته العارضة لأنه صعد الماء إلى هناك.
قلنا له: أيها الجاهل بعلم ما فوق الطبيعة، والغافل عمن بيده الخلق والأمر فمن الذي أجبر طبيعة الهواء حتى انقلب ماء والبرودة كيفية عرضية، والعرض لا يقلب صورة الجوهر؟ ثم من الذي أجبر طبيعة الماء المصبوب في أسفل الأشجار حتى رقى إلى أعلى الأغصان وهو ثقيل بطبعه، فإذا هوى إلى الأسفل كيف ارتفع ثانيا إلى فوق في داخل تجاويف الأشجار شيئا فشيئا، بحيث انتشر في جميع أطراف الأغصان والأوراق؟ فغذاء كل جزء من كل ورقة يجري إليه من تجاويف عروق شعرية دقيقة غير مرئية يرى منها العرق الكبير الذي هو أصل الورقة، ثم ينتشر من ذلك العرق الكبير الممتد في الطول عروق صغار، فكان الكبير نهرا وما انشعب عنه جداول، ثم ينشعب من الجداول سواقي أصغر منها، ثم تنتشر منها خطوط عنكبوتية دقيقة تخرج عن ادراك البصر حتى تنبسط في جميع عرض الورقة فيصل الماء في أجوافها إلى ساير أجزاء الورق ليغذيه وينميه ويبقي طراوته ونظارته، كذلك في ساير الأشجار والحيوانات.
والغرض منها كلها خلقة الإنسان وإنما كونت من فضالته ساير الأكوان كما حققه أهل الكشف والبرهان.
وإن كان زمام أمر الماء بيده، فكيف يتحرك إلى فوق وهو مخالف طبعه؟! وإن كان زمامه بيد جاذب فما الذي سخر ذلك الجاذب حتى يجذبه إلى فوق وساير الجوانب؟ فإن كان ينتهي بالآخرة إلى خالق السماوات والأرض وجبار الملك والملكوت فلم لا يحال عليه في أول الأمر حتى يخلص من هذا الشرك؟؟ فنهاية أمر الجاهل بداية حال العاقل.
فقوله: { المآء الذي تشربون } - أي: تشربون أنتم وأشجاركم وزروعكم، بل شرب الأشجار والزروع لدي الاعتبار عند أولي الأبصار وهو شرب الإنسان، فإن الماء يبدرق الطعام إلى ما يتغذى به النبات والحيوان ويسوقه من المواضع البعيدة إلى الإنسان بعد الاستحالات.
وقوله: { لو نشآء جعلناه أجاجا } - أي: جعلناه ملحا زعاقا لا يقدر على شربه كما كان أولا في البحر، أو أبقيناه فيه على حاله من غير أن نصعده إلى فوق ثم نرسله إلى مواضع الأرض.
{ فلولا تشكرون } - أي: لا تعرفون قدر هذه النعمة العظيمة، فإن الشكر كساير المقامات له جزء علمي - هو كالأصل -، وجزء عملي كالفرع فمن عرف الأصول التي منها تحصل الأطعمة وتصير صالحة لأن يتغذى بها الإنسان يعلم أن تلك الأسباب لأجل سياقه العباد إلى عالم المعاد، فيعمل بالضرورة عمل أهل الآخرة، كما قال تعالى:
فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا المآء صبا
[عبس:24 - 25] - الآية -.
فإنك إذا نظرت إلى طعامك عرفت انه قد حصل من الماء والتراب، وإذا نظرت إليهما عرفت انهما بصرافتهما لا يغذيانك، فتحتاج إلى البذور والحبوب، فإذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعا فيما أحوجك إلى أن تنمو الحبة في نفسها وتزيد وتتضاعف حتى تبقى لحاجاتك، فخلق الله في حبه الحنطة والشعير من القوى ما يغذى له كما خلق فيك، فإن النبات لا يفارقك في الاغتذاء والنماء، بل يفارقك في الحس والحركة الإرادية، وكما أن كل شيء لا يغذيك فكذلك النبات لا يتغذى بكل شيء، يل يحتاج إلى طعام مخصوص، بدليل أنه لو تركته في البيت لم يزدد بمجرد مصادفة الهواء، ولو تركتها في الماء لم تنم وكذلك لو تركتها في أرض لا ماء فيها، بل لا بد فيه من أرض فيها ماء يمتزج بها، ومن هواء يتخلخل فيهما، ومن حرارة تؤثر فيها، فيحتاج إلى العناصر الأربعة لتحصل منها مادة غذائية.
ثم الماء لا يتحرك بنفسه، فالله سبحانه يحركه بأيدي الملائكة الموكلة عليه - كما أشير إليه في قوله:
أنا صببنا المآء صبا
[عبس:25] -.
ثم الهواء لا يتحرك بنفسه، ولو تركت الحبة في أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت - لفقد الهواء في جوفها - ولا بد من تركها في أرض رخوة متخلخلة يتخلخل إليها الهواء، فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى تنفذ فيها.
وإليه الإشارة بقوله:
وأرسلنا الرياح لواقح
[الحجر:22].
وإنما لقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثم يحتاج إلى حرارة الربيع والصيف وهي لا تحصل من الماء والأرض لأنهما الباردان، ولا من الهواء، لقلة حرارته الذاتية ولتبرده بمجاورتهما، ولا من كرة النار لبعدها، فانظر كيف سخر الله الشمس وكيف جعلها مع بعدها عن الأرض مسخنة لها في وقت دون وقت عند الحاجة، وجعل القمر نائبا عنها في نضج الفواكه لما فيه من الترطيب، كما فيها من التسخين.
وهذه إحدى فوائد الشمس والقمر، والحكم فيهما وفي السماويات كثيرة لا تحصى، ثم إذا عرفت حاجة النبات إلى الشمس والقمر والكواكب علم أن وجودها لا يكون ولا يتم إلا بأفلاك هي مركوزة فيها، ولا تتم الأفلاك إلا بحركاتها، ولا تتم حركاتها الإرادية الشوقية إلا بملائكة نفسانية تحركها بإرادات وأشواق إلى ما هي فوقها من غايات عقلية، فلا يتم إلا بملائكة عقلية مفارقة عن الأجسام وأشواقها وأعراضها لتعاليها عن النظر إلى غير وجه الله، لأنهم المعتكفون تحت قبة الجبروت فهم أبدا في مشاهدة جماله، متحيرون لا يرومون النظر إلى ما سواه، لأنهم صائرون إليه
ألا إلى الله تصير الأمور
[الشورى:53].
فمن عرف أن كل نعمة من نعم الله لا تتم إلا بأمثال هذه الأمور المرتبة المذكورة بعضها المطوية أكثر منها لخفائها ودقتها من الأسباب المؤدية إلى عظايم عوالم ملكه وملكوته وجبروته، ثم إلى مرتبة الإلهية وأسمائها، ثم إلى تحت قبابه الأحدية وكبريائه العينية، فيعلم أن بدء الأشياء منه تعالى، فيأخذ في شكر نعمه، ويجعل كل شيء في مصرفه الذي صرفه الله إليه، فينكشف له ان مواد الأغذية كالماء والأرض والنار والهواء لفائدة الاغتذاء وحصول صورة الغذاء، وهي لحصول النشوء والنماء وهما لتمام خلقة الشخص وبقاء النوع مما لا يقبل شخصه قوة البقاء، ثم تمام الخلقة إنما يكون لحصول النفس الحساسة المتحركة وهي النفس المتخيلة، وهي للناطقة العارفة بالحق وملكوته بالقوة، وهي للقوة العاقلة بالفعل الصائرة عقلا فعالا يفيض منه المعقولات لأنه قلم الحق الأول الذي ينشأ منه تصوير الحقايق على ألواح القلوب والنفوس، والقلم بيد القدرة مقبوضة مسخرة متحركة بها ولأجلها، والقدرة تنتهي إلى القادر فمنه الابتداء وإليه الانتهاء.
فإذا علم هذا بلغ إلى مقام التوكل والرضاء. فإن بلغ إليهما وأحكمهما يصل إلى مقام الوحدة، فيصير عبدا مخلصا عن شوب الشرك بالكلية إذ في الشكر ضرب من الشرك الخفي لكونه لاستجلاب المزيد، وكذا في التوكل فإنه يستدعي متوكلا ومتوكلا عليه يتوكل المتكلف في حوالة أمره إلى الوكيل، والرضا وإن كان باب الله الأعظم، ففيه أيضا رائحة من الاشتراك فإن الراضي يستدعي وجودا مقابلا لوجود المرضي عنه، وله مجال تصرف تركه بالاختيار، وهذه المرتبة أيضا قاصرة عن درجة الواصلين إلى درجة التوحيد، فإن ارتقى من هذه الدرجات وصل إلى مقام الفناء المحض، ومحو الأثر بالكلية، وهو منزل أهل الوحدة المطلقة فإن إلى الله المنتهى وإليه الرجعى.
[56.71-72]
ثم ذكر الله سبحانه حكمة النار بعد ذكر الأرض المزروعة - لدلالة الزرع عليها بالإلتزام - وذكر الماء والهواء لكونهما أشرف العناصر وأصفاها وأبعدها مكانا عنا، مخاطبا لنا للحث على النظر في عجيب أمرها وحكمة تكونها في وجه الأرض مع بعد حيزها الطبيعي عنها بقوله: { أفرأيتم النار } - أي: نظرتم نظر المعتبر المتفكر في خلقتها وحكمتها - { التي تورون } - أي: تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والمقادح، وهما أبعد شيء عن قبول الصورة النارية.
قيل: إن العرب تقدح بعودين يحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: " الزند " والأسفل: " الزندة " ، وشبهوهما بالفحل والمطروقة.
وقد مر في سورة يس عند قوله تعالى:
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون
[يس:80] إن المرخ والعفار يقطع الرجل منهما عصيين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ - وهو ذكر - على العفار - وهي أنثى - فيقدح بإذن الله فتعلق بالحطب وغيره، فينشئ شجرتها التي تنقدح منها النار - { أأنتم أنشأتم شجرتهآ } - أي: أنبتموها وابتدأتموها - { أم نحن المنشئون } - إياها على وجه يصلح لأن تتعلق بها الدار لتكون خليفة للشمس والقمر على وجه الأرض للإضاءة ليلا ولأن تنضج به من الطعوم ما لا تنضجه الكواكب فلا يمكن لأحد أن يقول إنه أنشأ تلك الشجرة غير الله.
ثم إن النار صاعدة بالطبع كما أن الماء والشجر وغيرهما هابطة بالطبع.
وأيضا: النار نورانية والشجرة ظلمانية، والنار حارة يابسة والشجرة باردة رطبة فقد أمسك الله في داخل تلك الشجرة الظلمانية هذه الأجزاء النوارنية فقد جمع بقدرته بين هذه الأجزاء المتنافرة وجبرها على الالتيام ليستصلح بها حال النباتات ويهيأ بها للإنسان الطعام وليأخذ من يشاء من عباده طريق الآخرة ودار السلام بهذا المركب البدني، وزاد المعرفة التي هي نور من أنوار الله العقلية يهتدي به في ظلمات بر الدنيا وبحر الآخرة ويستضيء به طريق المعاد وسبيله.
وهو المحرك لأهل الإيمان إلى الجنة والرضوان، والساعي بهم إلى عالم القدس ومجاورة الرحمن، كما في قوله:
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد:12].
[56.73]
إن الله جعلها تذكرة ليتذكر بها الإنسان كثيرا من دقائق صنع الله وعجايب حكمته.
منها ما مر، ومنها أنها تدل على النار الأخروية الكبرى لما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ناركم هذه التي يوقد بني آدم جزء من سبعين جزء من حر جهنم "
فإذا رآها الإنسان ذكر جهنم وأهوالها فاستعاذ بالله منها.
ومنها: أنها تدل على نار النفس التي هي شعلة ملكوتية يتوقد بها القلب بواسطة الروح البخارية التي هي كفتيلة دخانية استعدت للاشتعال
ولو لم تمسسه نار
[النور:35]، كمادة فيها كيفية كبريتية، وتلك النفس هي التي سواها الله
فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس:8]، فتذكر قوله:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس:8 - 10] فتأخذ في تزكية النفس وتطهيرها من الآفة والنقص.
ومنها: أنها جوهر نوارني سماوي، والنور حقيقة بسيطة تختلف مراتبه بالشدة والضعف، وغاية كماله الأنوار العقلية والنفسية، وهي كظلال وأضواء للنور الأحدي الإلهي، فيتذكر بها عالم الربوبية ويسافر منها إليه كما وقع لموسى على نبينا وآله وعليه السلام.
ومنها: أنها مادة خلقة الشياطين وجنوده، فيتذكر بها إبليس وكيده ويتعوذ بالله منه بأن ينور نار نفسه بنور المعرفة، ويتقي من استيلاء شرارة الغضب وحرارة الشهوة ودخان المعصية عليه، ويطفئ بنور إيمانه نار جهنم، كما ورد في الحديث:
" إنها تقول للمؤمن: جزني يا مؤمن فإن نورك أطفأ ناري "
تأويلا لقوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم: 71 - 72].
وقوله: { ومتاعا للمقوين } - أي جعلناها بلغة ومنفعة للمسافرين عن ابن عباس والضحاك وقتادة: يعني الذين نزلوا الأرض القواء - وهي القفر.
وعن عكرمة ومجاهد: للمتمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين. فيكون المقوي عن الأضداد - الذي صار ذا قوة من المال والنعمة، والذي ذهب ماله، ونزل بالقواء من الأرض -.
وفيه إشارة لطيفة وهي: أن الروح الإنساني المسافر إلى عالم الغيب من عالم الشهادة ما دام نزوله في البدن وهو مكان قفر مظلم لا يوجد فيه شيء من نعيم الآخرة بنتفع بحرارة نار الطبيعة التي في البدن لأنها فاعلة فيه بتسخين البدن، فتصطلي بها قواه وتستضيء بها حواسه وتفعل التغذية وتهضم الطعام وتطبخ الطبيخ من اللحوم والحبوب والتوابل وغيرها في قدر المعدة أولا، ثم في قدر الكبد ثانيا. وأما إذا ارتحل الروح عن البدن ووصل إلى موطنه، استغنى بأنوار المعارف الإلهية الفاعلة للحياة الأخروية الدائمة عن أنوار الحس والحركة الناشئة عن طبيعة البدن، كما استغنى المقوي عن النار التي كان ينتفع بها في الأرض القواء ليلا - إذا رجع إلى منزله نهارا - بأنوار الشمس.
وأما أهل الجحيم، فهم بمنزلة الفقراء المحتاجين المضطرين الذين اشتدت حاجتهم إلى النار، حيث كانوا لشدة الفقر - سواء كانوا في المسكن أو في القفر -، فإنهم إذا رجعوا إلى مواطنهم في الشتاء، سكنوا في الأتونات والمزابل والمواضع المظلمة، وذلك لبرودة قواهم الطبيعية بالهرم والموت وانطفاء أنوار حواسهم، فليس لأحدهم نور، لا نور المعرفة ولا نور الحس ولا نار الطبيعة، لأنهم باعوا حرارة الطبيعة وأنوار الحواس بثمن بخس من اللذات الدنيوية، ولم يصرفوها في اكتساب نور المعرفة حتى يربحوا ويفوزوا فوزا عظيما، فهم قد خسروا خسرانا مبينا كما قال سبحانه:
فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين * مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون
[البقرة:16- 17].
[56.74]
لما ذكر سبحانه ما دل على قدرته وحكمته وإنعامه على وجه العناية الخالية عن شوب الأغراض التي تعود إليه، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) - تعليما للعباد - على انشاء التسبيح، إما تقديسا له عن فعل العبث والجزاف وعن الإرادة المعللة بالدواعي والأغراض الزايدة، وتنزيها له عما يقول الظالمون الذين يجحدون بآياته ويكفرون بوحدانيته، وإما تعجبا من أمر المبدع لهذه العجايب المصنوعة لأمره، أو من أمر من ينظر إلى هذه الآلاء الباهرة والأيادي الظاهرة ثم يمر عليها معرضا عن التدبر فيها والتفكر في منافعها وبماديها وغاياتها، كما قال:
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105]. وإما شكرا لله على هذه النعم العظيمة التي عددها ونبه عليها وعلى منافعها الدنيوية وغاياتها الأخروية.
وحقيقة التسبيح، ليست مجرد أن يقول الإنسان: " سبحان الله " بل روح التسبيح ومعناه، اعتقاد أنه تعالى مجرد عن الأوصاف والنقايص الإمكانية، منزه عن العلايق الجسمانية والعوايق الظلمانية، وهذه لا تتيسر إلا لمن كان له نصيب من القدس والتجرد، كضرب من الملائكة وطائفة من أهل الوحدة وإخوان التجريد، فإن كل معتقد يعتقد في ذات الله تعالى وصفاته بحسب مقامه وحاله، فأهل الحواس يعبدون الله في مقام التشبيه، والعقلاء المجردون يعبدونه في مقام التنزيه، وأما أهل الله الواصلون الكاملون، فيشاهدون الله ويعبدونه في جميع المقامات والأحوال في كل مقام، ويسبحونه ويعظمونه عن الأشباه والأمثال.
[56.75-76]
" لا " زائدة من قبيل قوله:
لئلا يعلم أهل الكتاب
[الحديد:29] وقيل: " لا " يزاد في القسم، فيقال: " لا والله " و " لا وعمرك " وكقول امرئ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري
لايدعي القوم اني أفر
وقيل: " لا " رد لما يقوله الكفار في القرآن إنه سحر مفترى أو كهانة، ثم استأنف الكلام وأقسم. وقيل: " لا " مثبتة، والمعنى: لا أقسم على هذه الأشياء فإن الأمر أظهر من أن يحتاج فيه إلى اليمين.
ومواقع النجوم، قيل: هي مساقطها أو مغاربها، وجهه في الكشاف بأنه لعل لله في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى الغروب أفعالا مخصوصة عظيمة، أو للملائكة عبادات موصولة، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه.
وفيه ما لا يخفى من الخدش: فإن سقوط النجم وغروبه لا يختص بآخر الليل، بل ما من وقت إلا ويكون فيه أفول نجم وغروب نوره في الأفق.
وقيل: أراد بمواقعها منازلها ومساراتها، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظمة القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، ولا يبعد أن يكون المراد بها النجوم أنفسها لأنها مواقع قدرة الله ومنازل جوده وحكمته بأن تكون الإضافة بيانية. أو يراد بالنجوم نفوسها المنورة. وبالمواقع أجرامها التي هي مواقع تلك الأنوار - فتكون الإضافة لامية -.
وفي الشواذ قرأ الحسن والثقفي " فلا أقسم " بمعنى: " فلانا أقسم " بلام ابتدائية دخلت على جملة من مبتدأ وخبر، ثم حذف المبتدأ وهو " أنا " وليس لامه للقسم لعدم اقترانها بالنون المؤكدة - كما هو دأبهم - ولأن فعل القسم يجب أن يكون للحال وجوابه للاستقبال.
وقوله: { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } جملة وقعت اعتراضا بين القسم والمقسم عليه وهو قوله
إنه لقرآن كريم
[الواقعة:77]. " ولو تعلمون " اعتراض بين موصوف وصفة، فهو اعتراض في اعتراض.
وإنما وصف هذا القسم بالعظمة المقسم به، فإن الله سبحانه قد عظم أمر السماء وما فيها من الكواكب، فكم من سورة يشتمل على تفخيمها في مواضع، وكم من قسم أقسم به القرآن كقوله:
والسمآء ذات البروج
[البروج:1]
والسمآء والطارق
[الطارق:1]
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها
[الشمس:1 - 2]
فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس
[التكوير:15 - 16]
والنجم إذا هوى
[النجم:1]. وذلك لشرفها ونوريتها وملكوتها ودوام دورتها وطاعتها لله تعالى، وسرعة حركاتها الدورية والإرادية في طلب الحق الأول وتلألؤ جماله وورود إشراقاته عليها لا لداع حيواني من شهوة أو غضب أو التفات لها إلى ما دونها.
فلها في كل إشراق أشواق، وفي كل شوق وجد ورقص وخضوع، ولكل حركة وسجود وركوع لمعة أخرى وشروق نور آخر، فهكذا تدوم الإشراقات العقلية بدوام الحركات الدورية، وتدوم الحركات الشوقية بدوام اللمعات الإلهية، وما من موضع في السماء إلا وفيه ملك ساجد وراكع من نفس أو عقل.
ولعلو منزلتها وقربها من أفق الإلهية أقسم الله تعالى بها وأحال الأرزاق إليها، فقال:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون
[الذاريات:22] ومدح الناظرين في أمرها، وأثنى على المتفكرين في خلقها القائلين:
ربنآ ما خلقت هذا باطلا
[آل عمران:191].
" وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نظر إلى السماء والكواكب وقرأ قوله تعالى { إن في خلق السماوات والأرض } [البقرة:164]. - الآية -:
" ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته "
أي: قرأها وتجاوزها من غير أن يتأمل فيها ويتدبر في ملكوتها.
وليس معنى المتفكر أن يعرف أحد رزقة السماء وضوء الكواكب كالعوام والأنعام، أولا ترى أن الله تعالى قد ذم المعرضين عن التدبر في آياتها فقال:
وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون
[الأنبياء:32]. فعلم أن معنى النظر إلى ملكوت السموات ليس بأن يمتد البصر إلى شكلها أو زرقتها وضوء الكواكب وحركتها من غير أن يتفطن بمحركها ومحرك محركها - وهكذا - إلى أن ينتهي النظر إلى لمعات أنوار الربوبية، ومعاني الأسماء الإلهية، فيرتقي إلى عالم الأسماء من عالم السماء، بأن يعلم أن كل جرم سماوي له طبع ونفس وعقل وسام آلهي متصل به الكل.
فإن كان مجرد ذلك هو المراد، فلم مدح الله خليله إبراهيم (ع) خاصة بقوله:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين
[الأنعام:75]، بل كلما يدركه بحاسة البصر وساير الحواس فهو من الدنيا - وتشترك فيه البهائم مع الإنسان - والقرآن يعبر عنه بالملك والشهادة، وما غاب عن ادراك الحواس فهو من الآخرة ويعبر عنه بالغيب والملكوت. والله تعالى عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، وهو جبار الملك والملكوت فلا يستطيع أحد أن ينفذ فيهما إلا من اصطفى من نبي:
يمعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان
[الرحمن:33]. أي: بنور قاهر.
قال المسيح الممسوح بنور الله: لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين - مرة من رحم المواد ومرة من مشيمة الحواس.
واعلم أن ارتباط هذه الآية بما سبق، أنه سبحانه لما ذكر مواد خلقة الإنسان وأسباب غذائه الجسماني الذي به قوام بنيته ونشأته الدنيوية من العناصر الأربعة، وذكرها على الترتيب من الأسفل الأخس إلى الأعلى الأشرف حتى بلغ إلى ذكر ما هو أشرفها وأقصاها - وهي النار -، فذكر حكمتها ومنفعتها وحاجة الخلق إليها، فأراد ان يهدي الناس إلى معرفة السماء ومواقع النجوم، لأنها منشأ أرواح بني آدم ومادة ميلاد نفوسهم في نشأة المعاد وعند قيامهم عند الله لأن روح الإنسان إنما تتغذى بمعارف القرآن وتحيى بحياة العلم والعرفان.
والقرآن بما فيه من العلوم الحقة والمعارف الإلهية إنما ثبت أولا من القلم الأعلى في اللوح المحفوظ، وهما من السماوات العلى، ثم نزل إلى هذه السماء الدنيا منجما، ولهذا فسر بعضهم مواقع النجوم بأوقات نجوم القرآن - أي: أوقات نزولها - وانما لم يقسم بتلك الأجسام العنصرية مع ما فيها من عجايب القدرة، وأقسم بهذه المواضع لعظم أمرها وشرف ملكوتها، فأي نسبة لجميع العنصريات إلى السماء وما فيها من الكواكب وملكوتها ومن أدرك الكل وفاته عجايب ملكوت الله واعداد حكمة الله فيها فقد فاته الكل تحقيقا، إذ هو الأمر كله، فالأرض والبحار والهواء وكل جسم سوى السماويات بالإضافة إليها كقطرة في بحر عظيم.
[56.77-78]
وقرئ: " المتطهرون " ، و " المطهرون " بالإدغام و " المطهرون " من أطهره بمعنى طهره، والمطهرون بصيغة الفاعل بمعنى أنهم يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالتعليم والاستغفار لهم، إذ القرآن الكريم عند الله، لكونه كلام الله، يتكلم به خواص ملائكته وصفوة أنبيائه في الدنيا، وخواص عباده المؤمنين في الآخرة، لدلالة قوله ولا يكلمهم الله عليه بالمفهوم، ولأنه رفيع المرتبة مصون عن النسخ ومحفوظ عن التغيير والتبديل لكونه علما بحقايق الأشياء التي لا تتبدل بتغيير الملل والمذاهب، فهو عند الله شريف المنزلة.
وقيل: إنه كريم بمعنى أنه كثير المنفعة، وهو أيضا حق لأنه عام المنافع كثير الخيرات والبركات، ينال الأجر العظيم بتلاوته تاليه، ويفوز بالثواب الجسيم العامل بما فيه، ولكونه نورا يهتدى به في ظلمات الأرض كما قال:
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى:52] والنور كثير البركة لكونه حكمة، والحكمة مفتاح كل سعادة لقوله:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269].
وقيل: إنه كريم، بمعنى إنه حسن مرضي في جنسه، لأنه معجزة للنبي الكريم المشتمل على كل دقيق وجليل من العلوم، وعلى المواعظ والأحكام، والإخبار عن المغيبات.
في كتاب مكنون - أي: مستور ما فيه عن الخلق، لكونه من عالم الغيب، والخلق من عالم الشهادة، بل مصون من أعين غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم، وسوى من وصل إلى مقامهم من الأنبياء المصطفين، وذلك الكتاب هو اللوح المحفوظ عن المحو والتغير والنسخ، لأنه جوهر مجرد عال عن عالم الأجرام التي يتطرق إليها الكون والفساد وعن عالم الألواح القدرية التي يعتريها المحو والإثبات، وأرواحها التي يجري فيها النقل والتغيير والتبديل والنسخ، فهو بجوهره عالم عقلي محل للقضاء الإلهي، ولوح كلي مكتوب فيه جميع ما قضى الله بقلم الحق الأعلى كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
" إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي ".
فهو مكتوب عنده فوق العرش بقلم القدرة الإلهية - وهو المسمى ب " أم الكتاب " لقوله:
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم
[الزخرف:4] لأن جميع العلوم الحقة الموسومة باللدنية - التي لا تعلم إلا بتوفيق الله - ثابتة فيه فائضة منه بإفاضة الله على قلب من يشاء من عباده، كما قال:
اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
[العلق:3 - 5]
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء:113].
فكما أن عالم اللوح القضائي - وهو مجموع الجواهر العقلية والأرواح المفارقة بالكلية التي هي مفاتيح الغيب لقوله تعالى:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام:59] - محل القضاء الإلهي، وهي أيضا خزائن ما في علم الله، فالعالم النفساني بجرمه السماوي محل القدرة لقوله تعالى:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر:21].
فمحل حصول المعلومات الكلية هو عالم النفوس الناطقة وإنما ترتسم صورها في الألواح القدرية على سبيل التنزل، إذ الصور الكلية العقلية في عالم القضاء في غاية الصفاء لا تتراءى ولا تتمثل في معلوميتها لما تحتها لشدة نوريتها وجمالها، كمرآة مضيئة ترد البصر عن ادرك ما فيها من الصور بشعاعها، فتنتسخ تلك الصور منه في لوح النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم، كما ينتسخ بالقلم في اللوح صورا معلومة مضبوطة بعللها وأسبابها على وجه كلي.
وهذا مثل ما يظهر في قلوبنا عند استحضارنا المعلومات الكلية كالصور النوعية في باب حدود التصورات، وككبريات القياس في باب براهين التصديقات عند الطلب للأمر الجزئي المنبعث عنه الإرادة للفعل والعزم عليه، وذلك الأول كالعلم الإجمالي الذي لنا، وهو عقل بالفعل تنشأ منه الصور الكلية عند الاستحضار، ثم ينتفش من عالم النفوس الناطقة الكلية في النفوس الحيوانية السماوية والحساسة المنطبعة في أجرامها نقوش جزئية متشخصة بأشكال وأوضاع معينة، مقارنة لاوقات مقدرة من لواحق المادة على ما يظهر في الخارج. وهذا كما ينتقش في قوتنا الخيالية كالصور الشخصية، وكصغيرات القياس - ليحصل بانضمامها إلى كبرياتها نتيجة جزئية ينبعث منه رأي جزئي يحصل عنه قصد جازم إلى فعل معين فيجب عنه حصوله في الخارج.
وذلك العالم هو لوح القدر، وخيال العالم، وكتاب المحو والإثبات، لأن جزئيات العلوم متبدلة فيه وكلياتها مضبوطة فيما فوقه، لقوله تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب
[الرعد:39].
وهذا الكتاب أيضا يسمى بالدفتين الزمردتين، وبالسماء الدنيا التي نزل إليها القرآن الكريم أولا من اللوح المحفوظ وغيب الغيوب، ثم ظهر في عالم الشهادة ، فقوله: { إنه لقرآن كريم } إشارة إلى المرتبة الجمعية الإلهية الموسومة ب " القلم الأعلى " و " العقل الأول " أعني العقل الإجمالي الذي هو فعال صور المعقولات في العقول والنفوس. وقوله: في كتاب مكنون - هو اللوح العقلي المحفوظ عن التجدد والتغير وفيه علم الفرقان.
وإنما وصف القرآن بالكريم - دون الفرقان - لأنه العقل البسيط الذي تنشأ منه الصور العقلية التفصيلية، وتتأخر منه العلوم الاستحضارية تأخر المعلوم عن العلة والمركب عن البسيط، وإنما هو العقل الفعال ومجده بالعقل القرآني لا بالعقول الفرقانية.
[56.79]
إن القرآن كالإنسان المنقسم إلى سر وعلن، ولكل منها ظهر وبطن، ولبطنه بطن آخر - إلى أن يعلمه الله - ولعلانيته علانية أخرى إلى أن تدركه الحواس وأهلها.
أما ظاهر علنه فهو المصحف المحسوس الملموس، والرقم المنقوش الممسوس.
وأما باطن علنه فهو ما يدركه الحس الباطن، ويستثبته القراء والحفاظ في خزانة محفوظاتهم كالخيال ونحوه، والحس الباطن لا يدرك المعنى صرفا، بل خلطا مع عوارض جسمانية، إلا انه يستثبته بعد زوال المحسوس، فإن التخيل والوهم أيضا كالحس لا يحضران في الباطن المعنى الصرف كالإنسانية المطلقة، بل نحو ما يدركه الحس من خارج مخلوطا بزوايد وغواش من كم وكيف وضع وأين، فإذا حاول أحدهما أن تتمثل له الصورة الإنسانية المطلقة بلا زيادة أخرى لم يمكنه ذلك، بل إنما يمكنه اشتثبات الصورة المقيدة بالعلايق المأخوذة عن أيدي الحواس وإن فارق المحسوس، بخلاف الحس فإنه لا يمكنه ذلك، فهاتان المرتبتان من القرآن أوليتان دنويتان مما يدركه كل إنسان.
وأما باطنه وشره فهما مرتبتان أخرويتان لكل منهما درجات:
فالأولى مما تدركه الروح الإنسانية التي تتمكن من تصور المعنى بحده وحقيقته، منفوضا عنه اللحواق القريبة، مأخوذا من المبادي الفعالة من حيث تشترك فيه الكثرة وتجتمع عنده الأعداد في الوحدة، ويضمحل فيه التخالف والتضاد وتتصالح عليه الآحاد، ومثل هذا الأمر لا تدركه الروح الإنسانية ما لم تتجرد عن مقام الخلق، ولم تنفض عنها الحواس ولم ترتق إلى مقام الأمر متصلة بالملأ الأعلى، إذ ليس من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يحس، كما ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل، ولن يستتم الإدراك العقلي بآلة جسمانية، فإن المتصور فيها مخصوص مقيد بوضع ومكان وزمان، والحقيقة الجامعة العقلية لا تتقرر في منقسم مشار إليه بالحس، بل الروح الإنسانية تتلقى المعقولات بجوهر عقلي من حيز عالم الأمر ليس بمتحيز في جسم ولا متمكن في حس ولا داخل في وهم. ثم لما كان الحس تصرفه فيما هو من عالم الخلق والعقل تصرفه فيما هو من عالم الأمر، فما هو فوق الخلق والأمر فهو محتجب عن الحس والعقل جميعا، ولا شك أن كلام الله من حيث هو كلامه قبل نزوله إلى عالم الأمر - وهو اللوح المحفوظ - وقبل نزوله إلى عالم السماء - وهو لوح المحو والإثبات وعالم الخلق - له مرتبة فوق مرتبة الخلق والأمر جميعا فلا يتلاقاه ولا يدركه أحد من الأنبياء إلا في مقام الوحدة الإلهية عند تجرده عن الكونين - الدنيا والآخرة - وعروجه وخرقه العالمين - الخلق والأمر -.
كما قال أفضل الأنبياء:
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل ".
فإذا تقرر هذا، ثبت أن للقرآن منازل ومراتب، كما للإنسان درجات ومعارج، فلا بد لمس القرآن في كل مرتبة ودرجة من طهارة وتجرد عن بعض العلايق، فالضمير في " لا يمسه " إن كان عائدا إلى المصحف الذي بأيدي الناس ويدركه جمهور أرباب الحواس، فلا يجوز لغير المتطهر من الأحداث والأنجاس - كالجنابة والحيض والنفاس - مس كتابته أو مس المصحف، كما هو عند البعض، وروي عن محمد بن علي الباقر (ع)، وعطا، وطاووس، وسالم، وهو مذهب الشافعي ومالك، ولا لغير المتطهر من نجاسة كفر القالب بالإقرار بالشهادتين وتلاوته وحفظ ألفاظه، فيكون " لا يمسه " خبرا بمعنى النهي.
وإن كان عائدا إلى كتاب مكنون، وجعلت الجملة الفعلية صفة له، فالمعنى: لا يمس اللوح المحفوظ ولا يحمله بما فيه إلا المجردون عن جلباب البشرية من الإنسان والملائكة، الذين وصفوا بالطهارة من آثام الأجرام كجبرئيل حاملا التنزيل في مقام التفضيل.
وإن كان عائدا إلى القرآن الكريم من حيث يحمله القلم الأعلى في مقام الإجمال - حتى تكون الجملة الإسمية صفة له، والفعلية صفة أخرى بعد صفة، وهما جميعا صفتان له بعد صفة الكرامة - فيكون المعنى: لا يمسه إلا المطهرون عن نقايص الإمكان وأحداث الحدثان، وهم أعاظم الأنبياء والمرسلين، وأكابر الملائكة المقربين.
وبالجملة، للقرآن درجات كما مر، وكذلك للإنسان بحسبها، ولكل درجة من درجاته حملة يحملونه وحفظة يحفظونه، ولا يمسونه إلا بعد طهارتهم عن حدثهم أو حدوثهم، وتقدسهم عن شواغل مكانهم أو إمكانهم، وأدنى المنازل في القرآن ما في الجلد والغلاف - كما أن أدون الدرجات للإنسان هو ما في الجلد والبشرة -، ويجب أن لا يحمله الإنسان البشري إلا بعد تطهير لبشرته وغلافه من النجاسة.
وهذا كما ورد أن للإيمان ليس بابا واحدا، بل هو نيف وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
ومثاله قول القائل: ليس الإنسان موجودا واحدا، بل هو نيف وسبعون موجودا، أعلاها الروح، وأدناها إماطة الأذى عن البشرة - بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظفار، نقي البشرة عن الأخباث - حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بارواثها، المستكرهة الصور بطول مخالبها وأظلافها.
فعلم من هذا، أن الإنسان ومراتبه مثال مطابق للإيمان ومراتبه، وكذا حكم القرآن. وسيأتيك زيادة كشف.
[56.80]
هذه صفة رابعة للقرآن، أي: منزل من عند رب العالمين إلى أهل هذا العالم، وإنما وصف بالمصدر، لأنه من حيث هذا الوجود الكوني نزل منجما بحسب الدواعي الكونية والمصالح الخلقية في الأوقات المعينة، فكأنه في نفسه تنزيل لتعالي الباري القيوم عن وصف التغير والتجدد وكثرة الدواعي والإرادات.
وأما كيفية هذا التنزيل: فنقول في بيانها: إن الذات الأحدية بحقيقة الصمدانية مما لا سبيل لأحد إلى إدراكها - سواء كان من الملائكة أو من الإناس - وغاية السبيل إليه لأهل الكونين إدراك أفعاله وآثاره، وكلامه وكتابه عندنا من جملة أفعاله وآثاره - إلا أن أحدهما - وهو الكلام، من عالم أمره، بل هو الأمر كله، لقوله تعالى:
إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
[يس :82] وأمره منزه عن التجدد والتضاد لقوله:
ومآ أمرنآ إلا واحدة
[القمر:50].
وثانيهما - وهو الكتاب - من عالم خلقه، بل هو عالم خلقه لاشتماله على التجدد والتضاد لقوله تعالى:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
[الأنعام:59].
ولكل منهما منازل ومراتب، وكل واحدة من مراتب الكلام قضاء، وكل واحدة من مراتب الكتاب قدر، وأعلى مراتب القضاء قضاء محض ليس فوقه قضاء، وهو الكلام الإلهي المبدع له في الحقيقة.
وأدنى مراتب القدر، " قدر محض " لا قدر تحته، وهو الكتاب الكوني الذي فيه كتابه أعمال أهل الشمال.
وكما أن كلام الله مشتمل على الآيات، وهي آيات الله الكبرى الواقعة في المواقف العقلية المثالية -
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق
[البقرة:252] وكذلك كتابه المبين مشتمل على آيات وهي الآفاق والأنفس
تلك آيات الكتاب المبين
[يوسف:1] - وكل كلام إذا نزل وتشخص يصير كتابا، كما أن الأمر إذا نزل صار فعلا -
كن فيكون
[البقرة:117] فالكتاب نايب الكلام، وأصل الكلام إنما يراد لتصوير ما يتضمنه باطن المتكلم في باطن المخاطب فيصير مثله، فإذا عجز المخاطب عن مس باطن المتكلم - مس الخاتم للشمعة ليجعله بمثله في نقشه ورقشه - اتخذ بين الباطنين سفيرا من الظاهرين، إما رسولا هوائيا متكلما به، أو رسالة سطحية ناطقة بما فيها. فإن الهواء بتموجه الصوتي على هيئة الحرفية كتاب بالقياس إلى ما فوقه - وهو نفس المتكلم -، وهو بعينه كلام بالقياس إلى ما تحته - وهو صحيفة الرسالة أو بسيط السماخ بهيئاتها الكتابية -.
فعلى هذا، كل واحدة من الذوات المفارقة والملائكة العقلية التي هي علوم إبداعية وصور مجردة، كلام الله باعتبار، وقلمه باعتبار. وكل واحد من الجواهر الفعلية والملائكة المدبرة كتاب الله باعتبار، ولوحه باعتبار.
وكذا الألواح القدرية والصحايف السماوية، كل منها كتاب مشتمل على آيات الربوبية ودلائل القدرة، وهكذا صحيفة الأكوان وطومار حوادث الزمان، ودفتر الصور الجسمانية، كتاب فيه آيات الليل والنهار التي ينشر بعضها وينطوي بعض آخر ويظهر ويكمن، كما قال:
إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون
[يونس:6].
فعالم الكلام والقول، فيه آيات أمرية عقلية وعلمية، وعالم الكتاب والفعل، فيه آيات خلقية كونية عملية، وما لم يطلع الإنسان أولا بمشاعر نفسه وبدنه هذه الآيات الفعلية الكتابية الآفاقية والأنفسية لم تترق بها ذاته من مقام الحس والنفس إلى مقام القلب والروح فيسمع ويفهم تلك الآيات العقلية الكلامية حتى يعرف بها الحق الأول، كما قال:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53].
فإذا علمت الفرق بين الكلام والكتاب، فاعلم أن هذا القرآن كلام الله وكتابه جميعا، وهو بما هو كلام الله نور من أنوار الله المعنوية، نازل من لدنه، ومنزله الأول قلب من يشاء من عباده المحبوبين لقوله:
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى:52]. وقوله: مخاطبا نبيه:
نزل به الروح الأمين * على قلبك
[الشعراء:193] وقوله:
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل
[الإسراء:105].
وهو بما هو كتاب نقوش وأرقام، وفيها آيات أحكام نازلة من السماء نجوما على صحايف قلوب المحبين، وألواح قلوب السالكين وغيرهم، يكتوبنها بأيديهم في صحايف أعمالهم وألواح أفكارهم، بحيث يقرأها كل قارئ ويعمل بأحكامها كل عامل، ويتساوى في هديها الأنبياء والأمم، كما في قوله:
وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس
[آل عمران:3 - 4] وقوله:
وعندهم التوراة فيها حكم الله
[المائدة:43].
وأما القرآن الكريم، ففيه عظايم علم الله، يتعلم به نبي الله لقوله تعالى
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء:113] وفيه عظايم أخلاق الله يتخلق به خاتم الأنبياء - عليه وعليهم السلام - لقوله:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم:4].
فإذا تقررت هذه المقدمات، وتبينت، فنقول في كيفية تنزيل الكلام وإنزال الكتب: إن الروح الإنسانية كمرآة مجلوة إذا صقلت بصقالة العقل النطري، وزالت عنها غشاوة والطبيعة ورين المعصية، فحينئذ لاح لها نور المعرفة والإيمان، وهو المسمى عند أئمة الحكمة بالعقل بالفعل، وبهذا النور تتراءى فيها حقائق الملكوت، وخفايا الجبروت، كما تتراءى الأشباح المثالية في المرايا العقلية إذا لم تفسد صقالتها بطبع ورين، لقوله:
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون
[التوبة:87]
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14].
فإذا اعرضت عن البدن والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحس والتخيل، وتوجهت وولت بوجهها تلقاء عالم الملكوت الأعلى اتصلت بالسعادة القصوى، ورأت عجايب الملكوت والآيات، كما في قوله:
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم:18]. ثم إن هذه الروح إذا كانت قدسية شديدة القوى، قوية الإنارة لما تحتها، لا تشغلها جهة فوقها عن جهة تحتها، فتفي للجانبين وتضبط للطرفين، لا يستغرقها لغاية قوتها وشدة تمكنها حسها الباطن عن حسها الظاهر، وليست كالأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الجانب الباطن غابت عن الجانب الظاهر، وإذا رجعت إلى مطالعة الظاهر غابت عن مطالعة الباطن، وإذا حضرت في شهود نشأة احتجبت عن النشأة الأخرى، بل إذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن الآخر، وكذلك في القوى العملية إذا اشتغلت بما تورده قوة تعطلت عما تورده قوة أخرى، وكذلك، البصر منها يخل بالسمع، والخوف يشغلها عن الشهوة، والشهوة تصدها عن الغضب، والفكر يعطلها عن الفعل، والذكر يصرفها عن الفكر.
والروح القدسية لا يشغلها شأن عن شأن، ولا تحجبها نشأة عن نشأة. فإذا توجهت إلى الأفق الأعلى وتلقت المعارف بلا تعليم بشري من الله، أو من ملائكة الله، يتعدى تأثيرها إلى قواها، وتتمثل صورة ما شاهدها في روحها البشري، ومنها إلى أجسام العالم، فتذعن لها طبيعة الخلق الأكبر وقواها من النفوس الجزئية كما تذعن للملائكة الأقربين لاتصالها بهم، فيكون حكمها حكمهم عند اتصالها بأفق النور الإلهي.
والملائكة العلمية ذوات حقيقة ولها ذوات مضافة إلى ما دونها تشنأ منها الملائكة اللوحية، وأما ذواتها الحقيقية فهي أمرية كلامية قضائية، وأما ذواتها الإضافية النفسية فهي خلقية كتابية قدرية.
وإنما يلاقي الصنف الأول للملائكة من القوى البشرية الروح القدسية في اليقظة، فإذا اتصلت الأرواح النبوية بعالمهم - عالم الوحي الإلهي - تسمع كلام الله وهو إعلام الحقايق بالمكالمة الحقيقية بينها وبينه لكونها في مقام القرب ومقعد الصدق. والوحي هو الكلام الحقيقي الإلهي كما مر. فكذلك تعاشر تلك الملائكة وتخاطبهم وتسمع صرير أقلامهم كما حكاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن نفسه.
ثم إذا نزل إلى ساحة الملكوت السماوي، تتمثل به صورة ما شاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح، ثم يتعدى منه الإنزال إلى الظاهر، وحينئذ يقع للحواس الظاهرة شبه نوم ودهش، لما علمت من أن الروح القدسي، لضبطه الجانبين، يستعمل المشاعر الحسية ويشغلها في سبيل معرفة الله وإطاعة الحق، فإذا خاطبه الله خطابا بلا حجاب من الخلق بواسطة الملك أو بدونه واطلع على آيات ربه، وانطبع في فص نفسه الناطقة نقش الملكوت وصورة اللاهوت، وكان يتشبح له مثال من الوحي وتحامله إلى الحس الباطن، فتنجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق، ويتمثل لها صورة الملك بحسب ما يحتملها، فيرى ملكا على غير صورته التي كانت في عالم الأمر، بل على صورته الخلقية القدرية، ويسمع كلامه بعد ما كان وحيا أو يرى لوحا بيده مكتوبا. فيكون الموحي إليه يتصل بالملك بباطنه وروحه، ويتلقى بروحه القدسية منه المعارف الإلهية ويشاهد آيات الله ويسمع كلام الله الحقيقي العلمي من الملك الذي هو الروح الأعظم، ثم يتمثل له الملك بصورة محسوسة، وكلامه بصورة أصوات وحروف منظومة مسموعة وفعله وكتابه بصورة أرقام ونقوش مبصرة، فيكون كل من الوحي والملك تتأدى إلى مشاعره وقواه المدركة من وجهين، ويعرض للقوى الحسية شبه الدهش، وللموحى إليه شبه الغشى، ثم يرى ويسمع ويقع الإنباء.
فهذا معنى تنزيل الكلام وإنزل الكتاب من رب العالمين، وعلم منه وجه ما قيل: إن الروح القدسية تخاطب الملائكة في اليقظة، والروح النبوية تعاشرها في النوم، ولكن يجب ان يفرق بين نوم الأنبياء ونوم غيرهم، فإن نومهم عين اليقظة.
[56.81-82]
أفأنتم بهذا الحديث الذي جاء من الغيب إلى الشهادة متهاونون. وتقديم الظرف على عامله للاهتمام به والإعتناء بأمره للمبالغة في أن المداهنة - أي لين الجانب وعدم التصلب في مثله -، مما يستغرب ويتعجب منه، بخلاف غيره من الأحاديث التي تنشأ أولا من عالم المحسوس إلى السمع، ثم ترتقي إلى الباطن، فإن أكثر الناس متخيلهم يتبع محسوسهم، وكذا معقولهم يتبع متخيلهم، ولذا قيل: " من فقد حسا فقد فقد علما " وذلك لعكوف أكثر النفوس في عالم المحسوس، وليس كذلك نفوس الأنبياء، فهم كما مر يرون ويسمعون في باطنهم أولا من عالم الغيب، ثم يتكلمون بما شاهدوه.
والرزق ما يتغذى ويتقوى به العبد سواء كان حراما أو حلالا، محسوسا أو غير محسوس. وما قيل: " إن الحرام ليس من الرزق " ، معناه: إنه لا يحصل به البقاء على السعادة الأخروية. فكما أن الملائكة غذاؤهم التسبيح والتقديس، وأهل السعادة من الناس غذاؤهم العلم وزادهم التقوى، فكذلك الشياطين وأهل الشقاوة، غذاؤهم تكذيب الحق والإبعاد عنه، وترويج الباطل وإبطال الحقايق بالشبهات والتمويهات، لأنهم بهذه الأفاعيل المزخرفة يتظاهرون ويتطاولون على الناس، ويترسخ في باطنهم نار الجحيم، ويشتد بزيادة الفظاظة والغلظة عذابهم الأليم.
كما قال تعالى:
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون
[البقرة:10].
وفي الكشاف: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } على حذف المضاف، أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب. أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر.
وقيل: نزلت في الأنوار ونسبة المنافقين السقيا إليها، والرزق: المطر.
وعن ابن عباس: أصاب الناس عطش في بعض أسفاره (ص) فدعا، فسقوا فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا. فنزلت الآية.
أي: وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث، إنكم تكذبون بكونه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم.
وعن الحسن: معناه: وتجعلون حظكم من القرآن الذي رزقكم التكذيب به.
وقرئ: تكذبون. لأنهم كذبوا في قولهم القرآن سحر وشعر وافتراء، أو قولهم: المطر من الأنواء. وكذا في تكذيبهم لما هو حق، فإن كل مكذب بالحق كاذب.
[56.83-87]
ترتيب الكلام وأصله هكذا، فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين. وباقي الكلام وقع اعتراضا أو تأكيدا. أي: فلولا ترجعون النفس - أي: الروح المحتضر - إن كنتم غير مدينين، أو في تكذيبكم البعث أو غيره صادقين إذا بلغت الحلقوم عند الموت، وأنتم يا أهل الميت حينئذ ترون تلك الحال منه، وقد صار إلى أن تخرج منه روحه. ف " لولا " الثانية مكررة مؤكدة للأولى، والمستكن المرفوع في: " بلغت " والبارز المنصوب في " ترجعونها " للنفس، والمجرور في: " أقرب إليه " للمحتصر.
و { غير مدينين } - أي: غير مسوسين بسياسة. من دان السلطان رعيته إذا ساسهم.
وقوله: { ونحن أقرب إليه منكم } إثبات لمعيته تعالى لكل شيء وقربه منه معية قيومية وقرب معنوي إلهي، لا بمداخلة ولا بمماسة كمعية جسم لجسم، ولا كمعية صورة لمادة، ولا كعرض لمحل ولا بالعكس، ولا كمعية مقوم الماهية - كالجنس والفصل - للماهية، أو مقوم الوجود كالمادة والصورة للموجود المتقوم بهما خارجا أو عقلا - فإن الباري قيوم لكل شيء وغاية له، لأنه مقوم لشيء بأحد هذه المعاني. وأقرب أسباب الشيء ومقوماته إليه هو الفاعل الحقيقي، والغاية له، لأنه مسبب الأسباب من غير سبب.
وقيل المعنى: ونحن أقرب إليه بقدرتنا وعلمنا، ومرجع هذا الكلام أيضا إلى ما مر. لأن قدرته وعلمه غير زايدين على ذاته.
وقيل المعنى: ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون رسلنا ولا تعلمون قبضهم للأرواح من الأجساد، لأن إدراك الأمور الأخروية ومقدماتها موقوف على وجود البصيرة الباطنة، وهي إنما تختص بأهل الله وأصحاب الكشف والشهود، وأما قوله:
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم
[الأنعام:93].
حيث أتى بلفظة " لو " الدالة على النفي أو الامتناع، مع كون المخاطب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): فليس متعلق " لو " نفس الرؤية مطلقا ليدل على نفيها أو نفي إمكانها منه مطلقا، بل مقيدة بجماعة مخصوصة أو زمان مخصوص قبل موتهم أو بعده، أو بغير ذلك من الموانع الخارجية، وإلا فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفا بملائكة الموت وعدد أيدهم وكيفية إخراجهم لنفوس الكفار عن أبدانهم، وبملائكة الحياة وأعوانهم وكيفية قبضهم لأرواح المؤمنين من أبدانهم ونفوسهم.
ومعنى الآية: إنكم أيها الجاحدون لحقائق الإيمان، والمنكرون للنشأة الآخرة والبعث والصراط والميزان، ورجوع الخلايق كلها إلى الرحمن الرحيم، والذاهبون إلى مذهب الإهمال والتعطيل في كل شيء ينسب إلى الحق المنان، وملائكته المدبرين للأكوان، المقتصرون على عالم الحس والشهادة، حيث إنكم تجحدون أفعال الله وآياته وملائكته ورسله في كل شيء، فتنسبون الكتاب والكلام إلى الشعر والإفتراء، وتنسبون الأرزاق إلى النجوم التي في السماء، ومصادفة الأمطار في وقت الحاجة وزمان الدعاء إلى الأنواء، والحياة والموت والصحة والمرض وغيرها إلى تأثير الأمزجة والأهوية، وتلتمسون الشفاء من الأدوية فمالكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغها الحلقوم، وإن لم يكن ثم قابض ومخرج من الأمور الغائبة عن عالمكم عالم الشهادة والأسباب البعيدة عن شهود إدراككم، فهلا إن كنتم صادقين في دعواكم ترجعونها بالتدابير الطبية والبخورات والعزائم الكهانية والنيرنجات والطلسمات النجومية، ولو على سبيل الندرة والإتفاق -، إن لم يكن قضاء حتم وقدر لازم من أمر الله بموت كل إنسان في وقت معين لا يحيط به علم البشر.
واعلم أن هذا حال أكثر المنتسبين إلى العلم والكياسة كالمتفلسفة وعامة الأطباء والمنجمين، وساير الطبيعيين والدهريين المعطلين الذين عطلوا الله عن جوده وتدبيره للعالم، وانحصرت علومهم في أحوال الطبايع الجسمانية وقواها وكيفياتها، وبهم زمانة عقول الجمهور عن الارتقاء إلى عالم الغيب فلا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، وهكذا درجة أكثر المتكلمين من المجسمة والحنابلة والكرامية ومن يحذو حذوهم في عدم الإيمان بما وراء المحسوس وما بعد الطبيعة، وإنما امتازوا عن ساير الجحدة والمنكرين وأتباع مردة الشياطين، بإقرارهم بأحكام الشرايع والأديان وعملهم بظواهر الأركان، وأما المؤمنون الحقيقيون فهم الذين يؤمنون بالغيب وعالم الملكوت الرباني، ويذعنون بالنشأة الآخرة ضميرا وقلبا، وهم ليسوا إلا العارفين خاصة، وما سواهم إن لم يكونوا من أهل سلامة الصدور والإقتداء بأهل الدين وأصحاب اليقين، والإتباع لسبيل المؤمنين، فكانوا من حزب الشياطين المبتدعين، وجنود ابليس أجمعين، فمآلهم كمآل أهل النكال وأصحاب البدع والضلال والإضلال، في صلي الجحيم والحرمان عن النعيم لقوله:
ومن...ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم
[النساء:115].
فما بالك أيها المسلم، الذي ولدت على فطرة الإسلام، تترك متابعة الرسول وأهل بيته وأتباعه الذين دبروا بعقولهم المنورة وآرائهم الرزينة أمر الدنيا والآخرة وسلكوا سبيل الله، وأنابوا إليه، ولا تتبع سبيل من أناب، واتبعت رأي الفلاسفة. فلو استنبطت من معادن وجودك باستعمال الأدوات والقوى فيما هداك إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لانفجرت مياه العلوم من صميم قلبك، وانفتحت عين عقلك، وهديت بأشعة بصيرتك إلى عوالم الغيوب وشاهدت بعين بصيرتك الجنة والنار ودار العذاب والقرار، كما قال:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات:21]؟
أو ما علمت أن الفلاسفة قد فنيت أعمارهم في الغوص في بحار الأفكار فغرقت عقولهم فيها، وتاهوا في سلوك أودية الأنظار، وانقطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة، ولم يدخل اسكندر نظرهم في تردده عالم الظلمات إلى عين حياة اليقين - التي من شرب منها لا يموت -، فماتت جنة فطرهم في مضيق عالم الشهادة، ولم يخرجوا من جوف الدنيا وظلماتها التي بعضها فوق بعض، إلى معرفة عالم الآخرة وأنوارها وعالم الغيب وأسراره.
أو لم يتفكروا في قول الله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257]. وقوله تعالى:
الذين يؤمنون بالغيب
[البقرة:3]. وقوله:
ولله غيب السماوات والأرض
[هود:123]. وقوله:
عالم الغيب والشهادة
[الأنعام:73].
فالله تعالى أوجد الملك والشهادة لقضية اسمه " الظاهر " ، وأوجد الملكوت والغيب لقضية اسمه " الباطن ".
فما بك أيها العاقل صرت مفتونا بأن لا يصدر عن الواحد إلا الواحد، وحرفت الكلمة عن مواضعها، فلو وقفت بعلم الأسماء لرأيت كل اسم آية ودليلا كذلك ككواكب السماء على سر صفة مستودع فيها حقيقة علة معلول، فكبرت لديك العلل والمعلولاته، وانعكس في مرآة وجودك جلال الأسماء والصفات، من غير انثلام قاعدة الوحدة في الإفاضة والإيجاد مع صدور الأنواع والأعداد. فأين هذا العلم الموهوب من خزائن الجود الأزلي السرمدي، من العلم المتولد لأبناء الشياطين من الفكر الردي.
فطوبى لأهل الشريعة والدين، المنقادين بالسمع والطاعة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين.
وليعلم أن العقل حجة الله في أرضه، وهو أول ما خلقه، يهدي به من يحبه فيجعله فيه مكتحلا بنور الهداية، ويضل به من يبغضه فيجعله فيه عريا عن نور الهداية لإثبات الحجة، إذ لو غاب العقل رأسا ما ثبتت الحجة، وهو مناط الثواب والعقاب، وليس للفلاسفة ومن يحذو حذوهم إلا العكوف على باب عقولهم، والاقتصار على ما أدركوه بمبادئ عقولهم وأوايلها، وجحودهم لما وراءها، وعدم اقتباسهم أنوار حقايق الأشياء من مشكاة النبوة والولاية.
فمن أثبت فلكا ولم ير ملكا، وأثبت معقولا وأنكر منقولا، فهو كالأعور الدجال، فهلا نظر بالعينين وما أثبت العالمين بحسب كل موجود، وما جمع بين المعقول والمنقول والعقل والشرع، فالشرع عقل ظاهر، والعقل شرع باطن، كما أن الفلك ملك ظاهر والملك فلك باطن، فإذا حكمت أيها العاقل بأن الفلك له اختيار وفعل - ولم تدر أن الفعل والاختيار للملك الموكل به - فقد أخطأت، فصورة الفلك وطبعه من عالم الشهادة، وصورة الملك وحقيقته من عالم الغيب، فمن لم يؤمن بالملائكة لم يؤمن بالغيب.
وهكذا الكواكب وما تضيف إليها من التدبير والتأثير، هو من الأملاك الموكلين بها، وهي في ذواتها أموات، والفلك كأرض موات أحياها الملائكة وعمرتها بالذكر والتسبيح، وإذا سمعت صوت الرعد وحكمت بعقلك أنه اصطكاك الأجرام من الحرارة والبرودة، فالذي أدركته بعقلك الظاهر صحيح لا ينكر، ولكن حرمت القضية الأخرى بأنه ملك يسوق السحاب ولا تكاد تدرك ذلك لأنه من أحكام عالم الغيب وبك زمانة السكون والوقوف في عالم الشهادة، ولا سبيل لك إلى بوادي عالم الملكوت.
فقس على هذا ساير التأثيرات العلوية من الزلازل والصواعق والهدات والموتات وغير ذلك كالخسوف والكسوف، فإنها من تخويف الله عباده، واظهار قدرته، ليستدلوا بالقدرة على القادر الحق، وليرتقوا في الأسباب مع ما ثبت بالهندسة في عالم الهيئة، فإن خسوف القمر يكون بحجاب نور الشمس عن القمر بحيلولة الأرض، وكسوف الشمس يكون بحجاب نورها عن البصر بحيلولة القمر.
فأهل الإيمان لا ينكرون ما دلت عليه البراهين الهندسية، ولكن الجاحدين لنور الشريعة ينكرون أحكام الغيب، وعلى هذا القياس ما حكمت ان الأرض كروية الخلق، والفلك كروي: مسلم لك، فهو منتهى الحدود وهذه مركز الأثقال فأين أنت من الأرضين السبع التي هي منتهى حدود عالم الملك، ثم أين أنت من السموات العلى التي أولاهن محيطة بجميع الأفلاك وما فيها فكلها حشو السماء الأولى، و كل سماء بالنسبة إلى الأخرى كحلقة في أرض فلاة، وهكذا إلى أن يصير الأرضون السبع والسموات السبع وساير ما احتوت عليه من العناصر والأفلاك بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في أرض فلاة والكرسي بما احتوى عليه كذلك بالنسبة إلى العرش العظيم. فسبحان فاطر السموات والأرض ومبدع الخلق والأمر، الذي تلاشت الأوهام وتضاءلت الأفهام في إدراك عظمته، ولم يدر أحد من عظيم خلقه وأمره إلا القدر اليسير وإليه المرجع والمصير.
[56.88-89]
قد مر في أوائل هذه السورة أن الناس بالقياس إلى العاقبة وسلوك الطريق الآخرة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: السابقين، وأصحاب الجنة، وأصحاب النار، والأخيار والأبرار، والأشرار المشار إليهم في قوله:
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات
[فاطر:32] وأشير إلى أحوال كل واحد من الثلاثة، فإعادة ذكرهم هاهنا لأن المنظور إليه بيان أحوال أرواحهم المفارقة الموت إن كان الكلام في روح المحتضر، لأن الغرض هاهنا بيان أوصاف أخرى لهم.
أي: فأما إن كان روح المتوفى من أهل الكشف واليقين والسابقين المقربين الذين هم أهل التوحيد والعلماء بالله وآياته وهم الأخيار الأحرار المرتفعون عن عالم السير والسلوك لوصولهم إلى المقصود الحقيقي، بل هم مقصد السالكين
ولا تعد عيناك عنهم
[الكهف:28] وهم الذين قيل في وصفهم: " ان حضروا لم يعرفوا وان غابوا لم يقصدوا " فحالهم بعينه حال الملائكة المقربين. { فروح } - أي: فلروحه روح الاطمينان وراحة السكون عند الله وبرد اليقين، ولقلبه ريحان من رزق معلوم تفوح منه رائحة اليقين التي بها قوة القلوب، ولنفسه جنة نعيم يسرح فيها ويرتع في رياضها قضاء لشهواتها الحيوانية، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهي المشتهيات التي كانت ممنوعة من قشورها بأمر رائض الشرع مدة الرياضة في اصطبل الدنيا ومآب الدواب وموطن الحيوانات الهالكة.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان
[العنكبوت:64]، فهي موطن الحيوانات الباقية.
وقرأ يعقوب: فروح - بالضم - وهي قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عباس والحسن، ومعناه فله البلوغ إلى مقام الروح العلوي من مقام الطبع والنفس، أو له الاتصال بالروح الأعظم والقلم الأعلى.
وقال الحسن: الروح - بالضم - الرحمة الإلهية، لأنها كالحياة للمرحوم. وقيل: البقاء.
والريحان: الرزق. أي فهذان له معا، وهو الخلود مع الرزق والنعيم.
وقيل: والريحان كل نباهة وشرف. وقيل: الريحان: المشموم من رياحين الجنة يؤتى به عند الموت فيشمه. وقيل: روح في القبر وريحان في البعث، وجنة نعيم عند دخوله دار القرار.
[56.90-91]
وأما إذا كان المتوفى من أصحاب اليمين وأهل سلامة القلب من الأمراض النفسانية - كالجهل المركب والحسد والكبر والمكر والغيلة والجحود - سواء كانت صحيفة أعمالهم ساذجة من آثار الأعمال، وألواح نفوسهم خالية عن النقوش والأفكار، أو كانوا - لصفاء قلوبهم، واقتدار نفوسهم - وفقهم الله لفعل الحسنات والطاعات، والاجتناب عن المعاصي والسيئات، أو كانوا من أهل المعصية ثم أنابوا وتابوا إلى الله فقد تاب الله عليهم، وانغسلت صفحة باطنهم بماء التوبة - والتائب من الذنب كمن لا ذنب له -.
أو كانوا ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، لكن رجح لهم جانب المغفرة والنجاة إذ كل هؤلاء من أصحاب اليمين على تفاوت درجاتهم، وهم من أهل السلامة والنجاة من عذاب الجحيم - فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك وأصحابك المؤمنين أصحاب اليمين وأهل سلامة القلب وصفاء الصدر - أي: يسلمون عليك ويلقون اليك التحية، كقوله:
إلا قيلا سلاما سلاما
[الواقعة:26] وقوله:
وتحيتهم فيها سلام
[يونس:10].
وعن قتادة: فسلام لك أيها الإنسان الذي هو من أصحاب اليمين من عذاب الله، وسلمت عليك ملائكته.
وقيل معناه: فترى فيهم يا محمد ما تحب لهم من السلامة من الخوف والمكاره. وقال الفراء: فسلام لك إنك من أصحاب اليمين - فحذف إنك.
[56.92-94]
وقرئ: { وتصلية جحيم } - بالرفع - عطفا على نزل - وبالجر - عطفا على حميم. أي: إن كان المتوفى من أهل الشمال والنكال والشر والوبال، وهم المضلون المكذبون بيوم الدين، والضالون الناكبون عن منهج الدين، لعدم نور المعرفة واليقين، فله نزل من حميم جهنم بإزاء ما يعد للضيف من الأطعمة والأشربة، وتصلية نار الجحيم أي: إدخالها له إياها لأن حقيقة ذواتهم النفسانية حصلت من نار الطبيعة وشرورهم من شررها، كما مرت إليه الإشارة، فلا جرم أن الشيء يعود إلى أصله.
وتلك النار الأخروية كانت كامنة في بواطنهم، متسخنة في قلوبهم، وكانوا في الدنيا محترقين بها وهم لا يشعرون لغلظ الحجاب، فإذا أزيل بالموت ظهر أنها موقدة تطلع على الأفئدة، كما قال الله تعالى:
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة:6 - 7]. وطبايعهم أصلها وقلوبهم القاسية كالحجارة والحديد وقدودها، لقوله تعالى:
وقودها الناس والحجارة
[البقرة:24] وقد قال:
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة
[البقرة:74].
واعلم أن النار التي يصل إليها من هو من أهلها في الآخرة مشهودة اليوم لك من حيث موضوعها ومصداقها - لا من حيث صورتها -، وينقلب فيها أهل الجحيم على الحالة التي هم عليها، وكذا الجنة مشهودة لك أيضا وأنت تتقلب فيها وتترقى من درجة منها إلى درجة، ومن باب إلى باب، - إن كنت من أهل الجنة والترقي - وأنت لا تعلم ولا تشاهدهما، لأن الصورة الدنيوية تحجبك عن ملاحظة حقيقتهما وصورتهما الأخروية، فأهل الكشف الذين أدركوا ما غاب عنهم، يرون موضوعات الأمور الأخروية ويرون من كان من أهل الجنة في روضة خضراء، ويرون تقلبهم في مراتبها وترددهم في غرفاتها، ويرون الجهنمي متى استقر له دار الجحيم وكيف يتقلب فيها ويهوي إلى منازلها ودركاتها، وما يكون فيها من لغوب ونصب وحرور وزمهرير، كما في قوله:
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات
[الشورى:22]. وأكثر أهل الكشف في ابتداء طريقتهم يرون هذا، ومن لم يكشف الله عن تبصيرته وبقي في عماء حجابه لا يدرك هذا، ويكون مثل الأعمى الذي في بستان، فإن لم ير ما هو فيه فلم يلزم من ذلك أن لا يكون فيه.
وقد نبه الشرع على ذلك بقوله تعالى:
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54].
وعلى بعض مواضع الجنة والنار بقوله:
" ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
وبقوله في وداي محسر بمنى وغير ذلك : " من أودية النار ". ولهذا شرع الإسراع في الخروج عنه لأمته، فإنه يرى ما لا يرون ويشهد ما لا يشهدون.
وأخبر أيضا في نهر النيل والفرات وسيحان وجيحان إنها: " من أنهار الجنة ".
وأهل الكشف يرون هذه الأنهار من عسل وماء وخمر ولبن كما هو في الجنة، ومن الناس من يستصحبه هذا الكشف، ومنهم من لا يستصحبه لحكمة أخفاها الله تعالى في خلقه.
وإلى هذا الكشف وقعت الإشارة.
[56.95]
أي: هذه المذكورات من الأحكام الثلاثة للطوايف الثلاثة مما لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه عند أهل الكشف، بل هو مشهود لهم، إذ معنى حق اليقين هو اليقين البالغ حد الشهود، فلأهل الله أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها، ولهم قلوب يعقلون بها، وألسنة يتكلمون بها، غير ما هي هذه الأعين والآذان والقلوب والألسنة عليه من الصورة، فكلامهم في كل ما يخبرون به مصيب، فإنهم يشاهدون ببصائرهم المنورة بنور الحق اليقين،
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج:46]. عن الحق، أي الصدور المنشرحة بالكفر، لقوله:
ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله
[النحل:106].
وأما الصدور المنشرحة للإسلام ففيها قلوب منورة من الله، لقوله:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم
[الزمر:22] فانهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون عن الله، فهم لا يرجعون إلى الله، ووالله إن عيونهم لفي وجوههم، وإن اسماعهم لفي آذانهم، وإن قلوبهم لفي صدورهم، وإن ألسنتهم لفي أفواههم، ولكن العناية ما سبقت لهم بالحسنى، فلا يرون ما يرون، ولا يسمعون ما يسمعون، ولا يعقلون ما يعقلون، وعن السمع لمعزولون، كما في قوله:
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه
[الأنفال:24] وقوله:
ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون
[الأعراف:100].
وهكذا حال أهل النار من الأشرار، كما اعترفوا بذنبهم في يوم القيامة:
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
[الملك:10]. ولله الحمد والشكر، وله التسبيح والتقديس على ما هدانا وأولانا حيث حبانا تلك القلوب والأعين والآذان والألسن.
ولقد ورد في حديث نبوي صحيح عند أهل الكشف - وإن لم يثبت طريقه عند أهل النقل لضعف الراوي - أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" لولا تزييد في حديثكم وتمزيج في قلوبكم لرأيتم ما رأى وسمعتم ما أسمع ".
وقال الله تعالى:
لتبين للناس ما نزل إليهم
[النحل:44]. وأكثر من هذا البيان الذي وقع في القرآن، سيما في هذه السورة، لا يمكن، لكن أين من يقرع محله لآثار ربه ليقبلها وينقلها من غير زيادة وتحريف؟؟ هذا قليل نادر جدا، والله ولي التوفيق.
[56.96]
أي: قدس الله ونزهه عن التشبيه والتعطيل، وعن الغرض والتعليل في الأفاعيل، وقصد التشفي عن الغضب بالانتقام في تعذيب المكذبين الضالين وإيلام الكفرة المنافقين، وعظمه بحسن الثناء عليه بما رباك وهداك مولاك إلى طريق الدين، ونور قلبك بحق اليقين، وأراك معادك ومبدأك، وفي أولاك نشأة أخراك، وعاقبة أحبائك في الجنة مع الملائكة المقربين، ومقام أعدائك في النار مع زمرة المردة والشياطين فتراهم معذبين بالحميم وتصلية جحيم،
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا
[غافر:46]، وهم مع ذلك لفرط غفلاتهم، وتراكم جهالاتهم، فرحون بما عندهم، مغترون بما هم عليه، كما في قوله:
فزين لهم الشيطان أعمالهم
[النحل:63]. وقوله:
وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول
[فصلت:25] وقوله:
فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون
[الأنعام:43].
فلا جرم حالهم كما قيل شعرا:
تسر بما تفنى وتشغل بالمنى
كما اغتر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
ونومك نوم والردى لك لازم
وتعمل شيئا سوف يكره غيه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
[57 - سورة الحديد]
[57.1]
إن هذه السورة مشتملة على المقصد الأقصى واللباب الأصفى من كيفية ارتقاء العباد من حضيض النقصان والخسران إلى أوج الكمال والعرفان، وبيان السفر إلى الله تعالى طلبا للقائه، والارتحال من أسفل السافلين وتحت الثرى في البعد والحرمان عن مجاورة الرحمن، إلى أوج عوالي العليين، وفوق السموات العلى من قرب رب الإنس والجان، وخالق النيران والجنان.
فإن خلاصة دعوة العباد، ونقاوة سياقهم إلى الملك الجبار، منحصرة في أقسام ستة: ثلاث منها كالدعائم والأصول المهمة، وهي تعريف الحق المسوق إليه المصمود له، وبيان الصراط المستقيم الذي يجب سلوكه للوصول إليه، وبيان الحال عند الوصول:
فالأول: هو معرفة المبدأ، والآخر هو معرفة المعاد، والأوسط هو معرفة الطريق.
وأما الثلاثة الأخيرة، فهي كالمعينة المتممة التي كالنوافل، والقرب الحاصل بها للعبد من الحق هو قرب النوافل، كما أن القرب الحاصل بالثلاثة الأول هو قرب الفرائض المشار إليه في الحديث المشهور.
فأحدها: تعريف السالكين إلى الحق تعالى، المجيبين دعوة العزيز الوهاب، ولطائف تربية الرب لهم، ودقائق صنعه فيهم، لصفاء جواهرهم، وطهارة أعيانهم عن الخبث والشين، ونقاوة وجه مرآتهم عن الطبع والرين، وتهيؤهم واستعدادهم لقبول صورة الحق، وتوصيف الناكبين عن الطريق، الضالين، وكيفية حلول غضب الله عليهم، وكيفية تنكيله بهم، لسوء استعداداتهم، وخبث جواهرهم وذواتهم، وتراكم الرين والطبع على مرآتهم، والمقصود فيه إما التشويق والترغيب - كما في أحوال المحبوبين -، أو الاعتبار والترهيب - كما في أحوال المغضوب عليهم -.
وثانيها: حكاية افتضاح حال الجاحدين، وكشف عواقبهم، وتسفيه عقولهم، وتجهيلهم في تحريهم طريق الهلاك والبطلان بالمجادلة والمحاجة على طريق الحق، والمقصود منه في جنبة الباطل، الإفضاح للتحذير والتنفير، وفي جنبة الحق الإيضاح للتثبيت والتقرير.
وثالثها: تعليم عمارة المراحل إلى الله تعالى، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد، والمقصود منه أن معاملة الإنسان مع أعيان هذه الدنيا، يجب أن تكون مثل معاملة المسافر مع أعيان مرحلة من مراحل سفره البعيد الذي يطلب به تجارة لن تبور.
فهذه هي المقاصد الستة المشتملة عليها والمنحصرة فيها سور القرآن وآياته، وهذه السورة الواحدة لغاية شرفها وفضلها عقلا ونقلا، حيث
" روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أن في المسبحات آية أفضل من ألف آية يشتمل عليها وينحصر فيها جميع القرآن " ".
ولنشرع في استنباط هذه النفائس الشريفة، عن هذا البحر الخضيم بقوة العزيز الحكيم، ولنسم كل واحد من المعارف الثلاثة القرآنية التي هي الأصول باسم يناسبه، كما فعله بعض أكابر العلماء، وقد وجدناه في بعض مصطلحات العرفاء، وذلك للدلالة على أن هذه المعارف في درجات متفاوتة من الشرف والفضيلة، مع اشتراك الجميع في الخير والمنفعة، فأين معرفة ذات الحق وصفاته وأفعاله، من معرفة علف الدابة وسقيها في طريق السفر إليه.
فشرح المعارف الإلهية المشتملة على معرفة ذات الحق الأول، ومعرفة صفاته، ومعرفة أفعاله، هو المصطلح عليه ب " الكبريت الأحمر " الحاصل من الخوض في لجة بحر القرآن وأبعاضه والغوص في أعماقها.
وشرح طريق السلوك إلى الله تعالى، وتعريف التبتل إليه والانقطاع عن الدنيا، هو المسمى ب " العنبر الأشهب " , " العود الأنفر " الحاصلين من السياحة في سواحل هذا البحر المحيط، المتشعب عنه علوم الأواخر والأوائل - كما تتشعب من البحر الأنهار والجداول -.
وشرح أحوال المسافرين عند الوصول إلى المهيمن المتعال، هو المقلب ب " الترياق الأكبر " و " المسك الأذفر " الحاصلين من التغلغل إلى جزائره عند استدرارهما من حيواناته.
ولك أن تسمي الثلاثة الروادف وأقسام كل قسم منها باسم يناسبه.
ولا يخفى على الذكي المتبصر، مناسبة كل قسم بما وقعت التسمية به عليه، وإياك وأن تحمل هذه الأسامي على الاستعارات الرسمية والتكلفات المجازية، فإنها ممقوتة عند ذوي الجد من أبناء الحقيقة، بل تحتها رموز وإشارات إلى معان خفية يعرفها من يعرف الموازنة والمماثلة بين عالمي الملك والملكوت، والشهادة والغيب، ولو ذهبنا إلى تحقيق الموازنة بين هذه الأمثلة الحسية، وحقائقها الغيبية، لأدى إلى الإطناب.
فلنعرض عنه إلى الخوض في الكتاب، مستمدا من العزيز الوهاب.
لما لاح لك أن المعارف الإلهية المشتمل عليها القسم الأول الذي يتوزع إلى معرفة الذات ومعرفة الصفات ومعرفة الأفعال هي " الكبريت الأحمر " فاعلم أن هذه الثلاثة ليست على رتبة واحدة، فكما أن أخص فوائد الكبريت هو الياقوت الأحمر لانه أجل قدرا وأعز وجودا، لا يقع إلا يسير منه بيد الملوك والسلاطين، وربما يظفر بما دونه بالكثير، فكذلك معرفة الذات، لكونها أجل قدرا ورتبة وأعظم رفعة لا يظفر بشيء منها إلا ملوك الآخرة وسلاطينها - مثل الأولياء والأنبياء عليهم الصلاة والدعاء، " جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، وأن يطلع عليه إلا واحدا بعد واحد ".
ولكون معرفة الذات أضيق المعارف الإلهية مسلكا ومجالا، وأصعبها على الضمير اعتقادا ومقالا، وأعصاها على الروية والفكر إذعانا، وأنفرها عن التحفظ والذكر ضبطا، فلذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على إشارات وتلويحات يرجع أكثرها إلى السلوب والتقاديس، كقوله تعالى بعد ما ختم سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح.
سبح لله - أي: نزهه وقدسه عما لا يليق بشأنه، مما يوجب التكثر والتغير وبرأه من كل نقص - ما في السموات والأرض.
وهو العزيز - في ذاته - والحكيم - في أفعاله، لكونها على أحكم ترتيب وأتقن نظام.
والصيغة تدل - ها هنا - على أن ما أسند إليه الفعل ذلك هجيراه وديدنه، ويؤكد ذلك مجيئه على صيغة المضارع أيضا في بعض الفواتح، وهذا الفعل يتعدى باللام تارة وبنفسه أخرى، وأصله الثاني، لأنه المنقول من سبح، إذا ذهب وبعد، فمعنى سبحته: بعدته عن الشين.
فاللام فيه إما أن يكون كاللام في " نصحته " و " نصحت له " ، أو يكون معنى الكلام: أحدث التسبيح ابتغاء لوجه الله وخالصا له.
قال مقاتل: يعني كل شيء من ذي الروح وغيره وكل خلق فيهما. ولعل الغرض أن العقلاء يسبحونه قولا واعتقادا، وما ليس بعاقل من سائر الحيوانات والجمادات فيسبحه بما فيه من الأدلة الدالة على وحدانية مبدعه وصفاته التي تخصه، فعبر سبحانه عن هذه الدلالة بالتسبيح، كأنها إقرار منهم بلسان الحال من جهة إمكانها وحدوثها، على الصانع القديم الواجب لذاته.
ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه، وعليهما عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه، وجوز بعضهم أن يكون " ما " - ها هنا - بمعنى " من " ، ويؤيده ما حكى أبو زيد أن الحجازيين كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: " سبحان ما سبحت له ". وقيل: المراد منه، كل ما يتأتى منه التسبيح.
هذا تمام كلام الأعلام في هذا المقام، ولا يخفى عدم ملائمة كل من التأويل والتخصيص المستفاد من كلامهم لكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على تسبيح جميع الموجودات حقيقة - حتى المسمى بالجماد والنبات -.
منها: قوله تعالى:
ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه
[النور:41].
ومنها: قوله تعالى:
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب
[الحج:18].
وفي هاتين الآيتين، إشعار بأن هذا تسبيح فطري وسجود ذاتي نشأ عن تجلي الحق لكل من خلق وأنطقه الذي أنطق كل شيء، فأحبوه وتواضعوا له من غير تكليف، بل اقتضاء ذاتي طباعي، والذي يمنع من هذه العبادة الذاتية الأفكار الوهمية والتخيلات الشيطانية، التي تكون لأكثر الناس والتي بها يستحق كثير منهم العقوبة والعذاب، كقوله تعالى:
وكثير حق عليه العذاب
[الحج:18].
والنكتة في أن " ألم تر " ، أتي بها بصيغة خطاب المفرد: أن غير النبي لم يشهد ذلك، فهو له عيان ولنا إيمان.
ومنها: قوله تعالى:
أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون
[النحل:48].
وكذا أمثالها ونظائرها من الآيات الدالة على وقوع التسبيح من جميع الموجودات حقيقة على وجه يستلزم الشعور والإدراك، وكفاك في هذا التعميم والشمول قوله تعالى:
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء:44].
وحكاية تسبيح الحصى في كف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسماعه وإسماعه، أمر مشهور، وفي ألسنة الرواة مذكور، وبالإيمان والتصديق مقرون عند الجمهور.
ويعتضد أيضا بما روي عن ابن مسعود أنه قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله حجر ولا شجر إلا ويقول: السلام عليك يا رسول الله.
وأمثاله كثير في الروايات، فلا وجه للعدول عن الظاهر المنقول المتلقى بالقبول عند أرباب الكشف والشهود. وأصحاب الإيمان والتسليم.
فإن قلت: التسبيح بالمعنى الظاهر منتف عن الجماد لعدم الإدراك فيه.
قلنا: لا نسلم ذلك، لعدم ما يدل على نفي الشعور فيه مطلقا، بل الدليل قائم في العلوم العقلية على أن الطبائع النوعية لها غايات طبيعية مترتبة على أفاعيلها، وفيها علل غائية وأسباب مستدعية لوقوع الفعل المخصوص منها، إلا أن غير أهل الكشف والحال، إذا لم يقنعوا بمجرد التقليد في العقائد والأقوال، تأبت عقولهم عن الإيمان بهذا التسبيح، وتعصت عن دركه أفكارهم إلى أن يأتي الله لهم بالفتح أو أمر من عنده.
مكاشفة
واعلم أن إثبات الشعور والإدراك لجميع ما في العناصر والأفلاك، مما دلت عليه المباحث البرهانية وشهدت به العلوم الذوقية، وأيدته المقامات الكشفية، كما أشرنا إليه، وهو مذهب جم غفير من الراسخين في العلم واليقين، ورأي طائفة عظيمة من المكاشفين، منهم الشيخ العارف والمحقق المكاشف محيي الدين الأعرابي وأتباعه وتلاميذه.
قال - قدس سره -: " إن المسمى بالجماد والنبات لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إياها في العادة فلا يحس بها مثل ما يحس به من الحيوان، فالكل عند أهل الكشف حيوان بل ناطق، غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير، ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف، فقد سمعنا الأحجار تذكر الله رؤية عين بلسان تسمعها آذاننا منه، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله، مما ليس يدركه كل إنسان ".
وتحقيق هذا التسبيح، يستدعي بسطا في الكلام لا يسعه هذا المقام، وربما يؤدي ذلك إلى شنعة الجهال واللئام عند سماعهم شيئا يخالف ما تلقفوه ممن أخذوا منه تعصبا وتقليدا، والذي يليق ذكره ها هنا هو أن لكل نوع من الأنواع الجسمانية ملكا موكلا عليه مدبرا لآحاده، ومعتنيا بتربية أفراده - كما ذهب إليه أفلاطون والحكماء المشرقيون - طباقا للشريعة الحقة من تسمية بعض ملائكة الله المدبرين لأنواع الأجسام بالإضافة إلى نوع ما يتعلق به تعلق التدبير والتأثير بإذن ربه العليم الخبير، كملك الجبال وملك البحار وملك الرياح وملك الأمطار.
فهذه أحزاب من الملائكة، موكلة بجنس الأجسام، ونسبة كل منها إلى أفراد مظهره الذي يقال له في عرف بعض عرفاء الحكماء " الطلسم " أتم في باب المعية من نسبة النفوس إلى أبدانها، بل نسبته إليها نسبة حقيقة الشيء وذاته المطلقة عن العوارض الخارجة إلى ذلك الشيء.
فكما أن الأفعال الصادرة عن الإنسان بالاختيار، إنما تصدر عن هويته وذاته الباطنة عن إدراك الحس - وهو نفسه المدبرة له - والبدن في ذاته من حيث هو بدن لا شعور له بل لا وجود له كما حققنا ذلك في موضعه -، فكذلك هذه الأجسام الطبيعية، إنما يصدر ما نيسب إليها من الحركة والسكون والتغذية والتنمية والتوليد وغيرها من حيث ملكوتها وبواطنها، التي هي صورة حقيقتها ومقوم ذاتها، لا من حيث جسميتها ومادتها.
ثم إنه قد ثبت في المعارف الربوبية، إن كل ما يصدر عن المبادئ الذاتية فهو إنما يصدر عنها تضرعا ورجوعا إلى باريها العالي، لا التفاتا إلى السافل، وحقيقة التسبيح ليست إلا ما يستلزم الخضوع والتمجيد، سواء كان باللسان أو بآلة أخرى، فأشخاص العالم بأسرها في هذه العبادة الذاتية وهذا السجود الفطري، متدينة بهذا الدين الإلهي الذي قام به وواظب عليه الجميع، إلا كل مخلوق له قوة التفكر والروية وليس إلا النفوس الناطقة الإنسانية - والحيوانية خاصة - من حيث أعيان نفوسهم لا من حيث هياكلهم، فإن هياكلهم كسائر موجودات العالم في التسبيح والسجود له، ألا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر، وجميع القوى، فالحكم لله العلي الكبير.
فإن قلت: فما تقول في الاستثناء الواقع في قوله تعالى:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين
[البقرة:34]، فإن السجدة المأمور بها لآدم في الحقيقة، سجدته لله تعالى، وطاعة لأمره، فإباء إبليس عن سجدة آدم عين إبائه عن سجدة ربه، ولهذا كان من الكافرين، فينافى ذلك بحسب الظاهر عموم الآيات المنقولة، وكلية الحكم بعبادة كل موجود من حيث هو موجود عبادة جبلية.
قلنا: إن إباء إبليس عن السجود، واستكباره وعصيانه بحسب ظاهر الأمر، هو عين سجوده وطاعته وخدمته وتواضعه لربه، باعتبار القضاء الأزلي، فإن العزيز الجليل أقامه في حجاب العزة والجلال ذليلا محجوبا حتى يكون إبليس مطرودا ملعونا محترقا بنار البعد والضلال في الدنيا، ومعذبا بنار الجحيم والنكال في الآخرة - حسب ما جرى عليه القضاء -، فلم يكن له بد من موافقة علمه تعالى الذي هو عين إرادته، ولذلك أقسم بعزته تبارك وتعالى للإغواء، لأن الإغواء من مقتضيات العزة، والاحتجاب بحجب الجلال.
ولعل في قوله: { وهو العزيز الحكيم } - في هذه الآية - إيماء بأن طاعة الموجودات وتسبيحها للحق تعالى على النهج الطباعي الشمولي الذي جرى عليه القضاء الأزلي، ولا يمكن لأحد التفصي عنه والعدول إلى غيره، فعصيان العصاة وتمردهم نحو من الطاعة والامتثال لحكم الأسماء، فأهل الحجاب، أو عباد الكثرات لا يجيبون دعوة التوحيد، ومن كان في مرتبة الجمع، يطلع على مراتبهم ويعذر الكل فيما هم عليه، ويعلم أن إنكارهم عين الإقرار وفرارهم عين الإجابة لدعوة العزيز الجبار.
كما نقل عن سيد الأولياء أمر المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود ".
[57.2]
المالك للشي: هو المتصرف فيه بأي وجه أراد من التصرف، وهذا بالحقيقة لا يكون إلا لمن له ذات ذلك الشيء بحيث يحييه ويميته إذا أراد، وإلا لكان تصرفه متوقفا على تأثير سبب مبائن، فلا يكون له التصرف بأي وجه شاء، بل ببعض وجوه التصرف. فالمالك بالحقيقة من له ذات كل شيء، فعبر عن الجميع بالأجسام العظام، لأنها الجلية المكشوفة الواقعة في عالم الشهادة.
وفي قوله تعالى: { وهو على كل شيء قدير } ، إشعار لطيف بما ذكر، وبرهان شريف عليه، لأن الموجودات مرتبطة بعضها ببعض، متوقفة بعضها على بعض كأعضاء بدن واحد، فلو لم يكن الباري موجدا للكل، لم يكن مالكا للبعض بالحقيقة.
مكاشفة
واعلم أن الموجود قد يكون وجوده لنفسه، وقد يكون لشيء آخر كالأعراض والصور لأن وجوداتها ليست إلا نعوتا وأوصافا لغيرها لا لذاتها، بخلاف الأعيان الجوهرية، لأن ماهياتها ليست نعوتا لغيرها.
والتحقيق: إن وجود الموجودات في أنفسها ليس إلا وجودها له تعالى، لأن جميعها فعل الحق، والفعل من حيث هو فعل لاقوام له في نفسه إلا بالفاعل، وما وجد من الأفعال والآثار مستقلة دون ما تصدر عنها، فليست هي بالحقيقة آثارا لها، بل تتعلق بها على نوع آخر من التعلق.
وموضع " يحي " وما ينعطف عليه، إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على أنه حال من الضمير المجرور في: " له ". ويحتمل عدم تعلق هذه الجملة لشيء، فلا يكون لها موضع من الإعراب، كقوله: { له ملك السماوات }. أو معناه: يحي النطف والبيض في الدنيا، والموتى يوم القيامة، ويميت الأحياء في الآخرة.
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): يحيى بالطاعة ويميت بالمعصية.
وعن أبي بكر الوراق: يحيى بالعلم ويميت بالجهل.
وعن ابن عباس: يحيى عند البعث ويميت في الدنيا.
وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة في المعنى، فإن حياة العلم والطاعة من قبيل حياة الأرواح في الآخرة، وموت الجهل والمعصية من قبيل موت الأجسام في الدنيا.
مكاشفة
إن نوع الإحياء مختلف في النشأتين، لأنه في الأولى تدريجي وفي الآخرة دفعي، يدل على ذلك قوله تعالى:
وهو أهون عليه
[الروم:27]، مع كونه على كل شيء قدير بنسبة واحدة من قبله، فلا تتأبى قدرته عن شيء من المقدورات، كما لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات.
فإن قلت: ما وجه صدور الإماتة منه تعالى مع كونه محض الرحمة ومنبع الخير والحياة؟
قلنا: فعل الإماتة منه تعالى لكونها مستلزمة للاحياء على وجه أبقى وأشرف، حسن، كما أن الأمر بالقصاص لكونه يوجب الحياة على وجه أكثر وأصح، حسن.
أو نقول: موت البدن من ضروريات قوام الروح بذاتها حية موجودة بالفعل، وإن كانت من أرواح الأشقياء المردودين، وممن يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
ومما يؤيد أن الحياة الآخرة نوع أقوى من الحياة الدنيا قوله تعالى:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22]، إذ حدة البصر والبصيرة تدل على قوة الحياة والوجود.
[57.3]
الواوات الثلاثة للجمعية، لكن الأولى للدلالة على أنه تعالى مجمع صفتي التقدم والتأخر، والثالثة للدلالة على أنه مجمع الظهور والبطون، والوسطى للدلالة على أنه الجامع بين ذينك المجموعين - مجموع الأولية والآخرية، ومجموع الجلاء والخفاء -.
وعن عبد العزيز: إن الواوات مقحمة، والمعنى: هو الأول الآخر الظاهر الباطن. لأن من كان منا أولا لا يكون آخرا، ومن كان ظاهرا لا يكون باطنا، وهذا يلائم القول بأن أوليته عين آخريته، وظاهريته عين باطنيته.
وعن ابن عباس: الأول قبل كل شيء بلا ابتداء، والآخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء، فهو الكائن لم يزل، والباقي لا يزال، والظاهر: الغالب العالي على كل شيء فكل شيء دونه. والباطن: العالم بكل شيء، فلا أحد أعلم منه.
وتوجيه هذا المنقول - وإن كان فيه عدول عن الظاهر المفهوم - أنه مأخوذ من بطن الشيء بمعنى علم باطنه، ولهذا أردف بقوله: { وهو بكل شيء عليم } ، لأن العالم بوجوه الشيء عالم بما سواه.
وعن الضحاك: هو الذي أول الأوائل وأخر الأواخر، وأظهر الظاهر وأبطن الباطن.
وقال البلخي: هو كقول القائل " فلان أول هذا الأمر وآخره وظاهره وباطنه " أي: عليه يدور الأمر وبه يتم.
وقيل: هو المستمر الوجود في جميع الأزمنة الماضية والآتية، الظاهر في جميعها بالأدلة والشواهد، الباطن عن إدراك الحواس والمشاعر الجلية، فيكون حجة على من جوز رؤيته تعالى في الآخرة بهذه الحاسة.
وقيل: إن الأول والآخر صفة الزمان بالذات، والظاهر والباطن صفة المكان كذلك، والحق تعالى وسع المكان ظاهرا وباطنا، ووسع الزمان أولا وآخرا، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان، فإنه كان ولا مكان ولا زمان.
مكاشفة
الأولية: قد تكون بمعنى كون الشيء فاعلا، والآخرية بمعنى كونه غاية مترتبة على وجود الفعل في العين - وإن كانت الغاية بحسب وجوده في العلم متقدمة أيضا -، فالله سبحانه أول كل شيء، بمعنى أن وجوده حصل منه، وبمعنى أن الغرض في حصول ذلك الشيء منه هو علمه بالمصلحة، وكونه تماما في الجود والرحمة فياضا على الأشياء بلا عوض، وآخر كل شيء، بمعنى أن الغاية التي تطلبه الأشياء وتقصده طبعا وارادة.
والعرفاء المتألهون، حكموا بسريان نور المحبة له والشوق إليه في جميع المخلوقات - على تفاوت طبقاتهم -، فالكائنات السفلية كالمبدعات العلوية على اقتراف شوق من هذا البحر الخضيم، واعتراف شاهد مقر بوحدانية الحق العليم:
ولكل وجهة هو موليها
[البقرة:148]، فهو الحق الأول الذي منه ابتدأ أمر العالم، وهو الآخر الذي إليه ينساق وجود الأشياء سيما بني آدم، إذ منه صدر الوجود، ولأجله وقع الكون.
وهو الآخر أيضا بالإضافة إلى سير المسافرين إليه، فإنهم لا يزالون مترقين من رتبة إلى رتبة حتى يقع الرجوع إلى تلك الحضرة بفنائهم عن ذاتهم وهويتهم، واندكاك جبل وجودهم وآنيتهم، فهو أول في الوجود وآخر في المشاهدة، والله - عز اسمه - حيث أنبأ عن غاية وجود العالم قال:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56] أي: ليعرفون: وقوله: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف. فدلنا على أنه الغاية القصوى لوجود العالم معروفا، كما أنه الفاعل له موجودا، ودلنا أيضا على بعض الغايات المتوسطة الضرورية بقوله: لولاك لما خلقت الأفلاك.
فالمبدأ والغاية لوجود العالم ولقاء الآخرة هو الله سبحانه، ولذلك بنى العالم، ولأجله نظم النظام.
قال بعض الحكماء: ولو أن أحدا من الخلق عرف الكمال الذي هو الخير الأقصى، ثم كان ينظم الأمور التي صدرت منه على الوجه الذي صدرت هي عليه وعلى مثاله، حتى كانت الأمور على غاية من النظام والتمام، لكان غرضه بالحقيقة هو ذات الباري، فهو الأول والآخر بهذا المعنى أيضا.
تتميم
قد انكشف أن الموجودات العالية كلها بحسب فطرتها التي فطرها الله عليها متوجهة نحو غايات حقة، وأغراض صحيحة، بل الغاية في الجميع أمر واحد، هو الخير الأقصى، إلا أن هاهنا غايات وهمية زينت لطوائف من المكلفين، فهم سالكون إليها في لبس وعماية من غير بصيرة ودراية، فهذه الطوائف مع ولي الوجود ومنبع الرحمة والجود في شقاق، واتباعها ليسوا عباد الله في الحقيقة، ولا الله مولاهم الحق، وحيث ما يتولونه فلهم لا محالة ولي، وهو شيطان من الطواغيت، ولما كان فعل الشيطان الوسوسة والإضلال، ولا يطيعه الإنسان إلا بقوته الوهمية التي هي من جنود الشيطان، فإن شئت سمهم عبدة الهوى، وإن شئت سمهم عبدة الطاغوت، فقد نزل لكل ذلك القرآن.
فمن تولي الله وأحب لقاءه، وجرى على ما أجري عليه النظام فقد تولاهم و
مولاهم الحق
[الأنعام:62]
وهو يتولى الصالحين
[الأعراف:196]. من كان لله كان الله له، و
من كان يرجو لقآء الله فإن أجل الله لآت
[العنكبوت:5].
ومن تعدى ذلك وطغى، وتولى الطواغيت، واتبع الهوى، فلكل نوع من الهوى طاغوت، فشخص كل إلى معبوده ووجه إليه كما في قوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23].
وإنك لتعلم أن النظامات الوهمية والغايات الجزئية تضمحل وتبقى، فكل من كان إلهه هواه، ووليه الطاغوت - والطاغوت من جوهرة هذه النشأة الدنيوية التي هي دار الغرور وموطن الزور -، كلما أمعنت هذه النشأة في العدم، ازداد الطاغوت اضمحلالا فيذهب به ممعنا في وروده العدم، منقلبا به في الدركات حتى يحله دار البوار.
عصمنا الله وإخواننا في اليقين من متابعة الهوى، والركون إلى زخارف الدنيا، وجعلنا من عباده الصالحين الذين يتولاهم برحمته يوم الدين.
وأما كونه ظاهرا: فلكونه نور السموات والأرض، والنور حقيقته الظهور، لأن ما ليست حقيقته النور فإنما يظهر بالنور، والنور بنفسه ظاهر وبذاته متجل.
وأما كونه باطنا - أي مختفيا -: فلشدة ظهوره وغاية وضوحه، ولأجل ذلك يختفي على الضمائر والأنظار، ويحتجب عن العقول والأبصار، فذاته بذاته متجل للاشياء ولأجل قصور بعض الذات عن قبول تجليه يحتجب، فبالحقيقة لا حجاب إلا في المحجوبين.
والحجاب هو القصور والضعف والنقص، وليس تجليه إلا حقيقة ذاته، إذ لا معنى له بذاته، إلا صريح ذاته، لان صفاته ليست زائدة على ذاته كما أوضحه الربانيون.
أو لا ترى الشمس التي هي أشد الأنوار الحسية، وأقوى الأضواء البصرية، كيف احتجبت لفرط ظهورها على الحاسة البصرية، حتى لا يمكن للبصر لأجل ضعف قوته ملاحظتها إلا من وراء الحجاب، كالمرآة أو الماء أو السحاب الرقيق، كما قال الشاعر:
كالشمس يمنعك اجتلاؤك وجهها
فإذا اكتست برقيق غيم أمكنا
فكذلك الحق سبحانه، فإنه وإن لم تحط بحقيقته العقول والأفكار، ولم تدرك ذاته البصائر والأبصار، إلا أنه ليس لوجهه نقاب إلا النور، ولا لذاته حجاب إلا الظهور، ولم يمنع القلوب من الاستنارة والاستجلاء بعد تزكيها عن كدورات الشهوات إلا شدة الإشراق وضعف الأحداق.
فسبحان من اختفى عن بصائر الخلق نوره، واحتجب عن عقولهم لفرط الوضوح ظهوره، وهو بكل شيء عليم، لأنه بنور ذاته يظهر جميع الأشياء على ذاته، إذ العلم بالشيء ليس إلا ظهوره عند شيء آخر، ومثوله بين يديه، والله خالق كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، إذ بيده ملكوت الأشياء، ومنه تنشأ حقائق الأنباء.
[57.4]
{ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش }
أصل الخلق: التقدير. والاستواء: الاعتدال والاستقامة، ونقيضه: الاعوجاج. والعرش: السرير، ومنه:
ولها عرش عظيم
[النمل:23]. والعرش: الملك، يقال: ثل عرشه. والعرش: السقف، ومنه قوله تعالى:
وهي خاوية على عروشها
[البقرة:259].
والمعنى: إنه لما ذكر أن جميع الموجودات تمجده وتسبحه وتعظمه - كل منها على قدر وعاء وجوده، وحوصلة إدراكه وشعوره - لعظمته ومجده وجماله وجلاله، وبين ذلك بأن له التصرف في الجميع بالمالكية والإفادة والإحياء والإماتة، وأنه أول كل شيء وآخره وظاهره وباطنه، والمملوك لا محالة يكون خاضعا ساجدا لربه ومطيعا لخالقه، فأراد أن يشعر بأن كونه بحيث يخضع ويسجد له الجميع، ليس أمرا جزافيا أو اتفاقيا، أو حكما إجباريا من غير استحقاق، بل هو أمر يليق بشأنه، واقع في مقابلة لطفه وإحسانه وكرمه وامتنانه، حيث نظم أمور العالم على أبدع نظام، وأفاد وجود كليات الجواهر وعظائم الأجرام على أشرف وضع ونظام.
إذ أنشأ أعيان السموات وأبدعها لا من شيء يقتضيه، ولا على مثال يحتذيه، ثم أمسكها بلا عماد، وأنشأ الأرض وأوجدها بلا اعتماد، في ستة أيام، ولم يخلقها في لحظة واحدة - وإن كان مقدورا له تعالى - لأن خلقها في هذه المدة أصلح وأليق بحال الكائنات وأنسب بنظام المخلوقات.
ورتبها على أيام الأسبوع، فابتدأ بالأحد وختم بالجمعة، فاجتمع له الخلق يوم الجمعة، فلذلك تسمى جمعة - عن مجاهد -.
وقيل: إن إيجاد الحوادث على إنشاء شيء بعد شيء على التدريج والترتيب، أدل على كون فاعله عالما مدبرا يصرفه على اختياره كيف يشاء، حريا بأن يعبده ويسجد له ويطيع أمره جميع عباده ومن كان في ملكه وملكوته.
وقوله تعالى: { ثم استوى على العرش } أي: استوى أمره إلى ملكه، لأن الأمور والتدابير تنزل منه.
وعن الحسن: يعني استقر ملكه واستقام بعد خلق السموات والأرض وظهر ذلك للملائكة.
وإنما أخرج هذا على المتعارف في كلام العرب كقولهم: " استوى الملك على عرشه " - إذا انتظمت أمور مملكته -، وإذا اختل أمر ملكه قالوا: " ثل عرشه ". ولعل ذلك الملك لا يكون له سرير أصلا، ولا يجلس على سريره أبدا، قال الشاعر:
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم
وأودت كما أودت إياد وحمير
وقيل: معناه: ثم قصد إلى خلق العرش، عن الفراء وجماعة، واختاره القاضي. ويلزم منه أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات والأرض، وليس بذاك، مع بعده عن اللفظ.
وروي عن مالك بن أنس أنه قال: الاستواء غير مجهول، وكيفيته غير معلومة، والسؤال عنه بدعة.
وعن أبي حنيفة أنه قال: أقرؤه كما جاء.
أي: لا تفسروه.
مكاشفة
اعلم أنه خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير محكم، فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب مع نفوسها المجردة المحركة إياها بأمر باريها طاعة وخدمة لمبدعها، وتشوقا إلى جاعلها، كما أشار إليه بقوله:
فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سمآء أمرها
[فصلت:12].
وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية، فخلق جسما قابلا للصور المتبدلة والهيآت المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال، وأشار إليه بقوله: خلق الأرض - أي: ما في جهة السفل - في يومين. ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولا، وتصويرها ثانيا، كما قال بعد قوله:
خلق الأرض في يومين
[فصلت:9]، وجعل فيها رواسي من فوقها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام - أي مع اليومين الأولين - لقوله في سورة السجدة:
الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام
[السجدة:4].
ثم لما تم عالم الملك بأمره عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة ، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتمزيج القوى والكيفيات مما يلج في الأرض وما يخرج منها، وإمدادها بما ينزل من السماء، وهدايتها بما يعرج فيها، وهو أقرب إلى كل شيء من هذه الوسائط، لأن له التأثير والإيجاد، ومنها التهيئة والإعداد، فهو تعالى مع كل شيء أينما كان، وهو القائم على كل نفس بما كسبت.
مكاشفة
إعلم أن المكشوف عند ذوي البصائر؛ أن الحق سبحانه خلق السموات والأرض في ستة أيام من الأيام الإلهية التي كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، وهي من زمان آدم إلى زمان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع دور خفاء الذات واحتجابها بالأسماء وظهور الأسماء في مظاهر الأشياء، كل يوم منها ميلاد واحد من الأنبياء العظام من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم أجمعين -.
ثم استوى على عرش الذات - وهو الروح الأعظم - باسم الرحمن في اليوم السابع، وهو يوم الجمعة، لحشر الخلائق فيه، وجمعهم وحسابهم وميزانهم لقوله تعالى:
ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود
[هود:103].
وقد اشتهر فيما بين الناس في جميع الأمصار، ان مدة الدنيا سبعة آلاف سنة على عدد الكواكب السبعة، فكل الف سنة يوم من أيام الله لقوله تعالى:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج:47].
فالستة منها هي التي خلق الله فيها السموات والأرض وما فيهما، لأن الخلق حجب الحق. فمعنى خلق: اختفى بهما فأظهرهما وبطن، ويوم السابع هو يوم الجمع، وزمان الاستواء على العرش، والظهور بالأسماء، وهذا الظهور يبتدئ في السابع مع ظهور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما روي أنه قال:
" بعثت أنا والساعة كهاتين - وجمع بين السبابة والوسطى - ".
ويزداد إلى تمام سبعة آلاف سنة من لدن آدم أول الأنبياء، إلى زمان خاتم الأولياء - المهدي صاحب الزمان (عليه السلام) -، وتنقضي الخفايا لظهور التام لقيام الساعة، ووقوع القيامة الكبرى، وعند ذلك يظهر فناء الخلق والبعث والنشور والحساب والميزان، ويتميز أهل الجنة والنار، ويرى عرش الله بارزا - كما حكى بعض العرفاء عن شهوده -.
وتمام ظهور هذه الأمور في الآخرة، وان كان العارفون يشاهدونها في مرآة الدنيا، فابتداء يوم القيامة - الذي قد طلع فجره - ببعثة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمحمديون لكونهم خير أمة أخرجت للناس، أهل الجمعة، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحبها وخاتم النبيين.
واتفق أهل الملل كلها من إليهود وغيرهم على ان الله فرغ من خلق السموات والأرض في اليوم السابع، إلا أن إليهود قالوا: إنه السبت، وابتداء الخلق من الأحد. وعلى ما ذكر يكون هو الجمعة.
وإن جعلنا الأحد أول الأيام، ووقت ابتداء الخلق، كان جميع دور النبوة دور الخفاء، وفي السادس ابتداء الظهور، وازداد في الخواص كما ذكر أنه " يوم خلق آدم " - أي: الحقيقي - " ويوم الساعة " " ويوم المزيد " ، حتى ينتهي إلى تمام الظهور وارتفاع الخفاء في آخره عند خروج المهدي (عليه السلام)، ويعم الظهور في السابع الذي هو السبت.
ولزيادة توضيح هذا المقام، نمهد مقدمة من الكلام، فنقول:
إن ما أوجده الله تعالى بحكمته البالغة، ونظمه بنظمه البديع لا يخلو عن قسمين: إما أمور طبيعية جسمانية، وإما أمور إلهية روحانية.
أما الأمور الطبيعية الجسمانية، فحدوثها وانشاؤها لا يكون إلا على سبيل التدريج، وممر الدهور والأزمان، إذا المعني بالطبيعي؛ هو ما يصدر عن الطبيعة بقدرة الله تعالى، والطبيعة بما هي طبيعة ليست حقيقتها إلا منشأ الحركة والسكون في الجسم الطبيعي، - وهما زمانيان كما حقق في مظانه -، والطبيعي إذا تدريجي لا محالة، فوجود العالم الجسماني - فلكيا كان أو عنصريا - تدريجي، لأن حقيقتهما متقومة بالتغير.
فكل عاقل لبيب، إذا فكر في كيفية إيجاد الأجسام الطبيعية وعوارضها وصفاتها الطبيعية، يعلم ويتحقق أنها واقعة في مقدار من الزمان، ويتيقن أن هيولى الكل قد أتى عليه دهر طويل وأمد مديد إلى أن تمحض وتميز اللطيف منها من الكثيف، والعالي منها من السافل، والفلكي منها من العنصري، والنير من المظلم، وتقبل الكرات الفلكية والأنوار الكوكبية وتحيط بعضها ببعض، وإلى أن استدارت الأجرام الكلية والكرات الكوكبية وركزت على مراكزها ، وإلى أن تميزت الأركان الأربعة وترتبت مراتبها ومزجت فنون تمزيجاتها لينتظم الكل كأنها شخص واحد متعاون بعضها مع بعض، منتفع بعضها من بعض، كأبعاض بدن واحد إنساني في مدة العمر. والدليل على ذلك قول الله سبحانه:
الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام
[السجدة:4]،
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج:47].
وأما الأمور الربانية والأشعة الإلهية، فهي كأنها من مراتب علمه الأزلي وعالم قضائه وأمره السرمدي، وحجب ربوبيته وسرادقات عزته، لا يبلغ عقول البشر كنهها، وقد يعبر عنها في لسان الشريعة بعبارات ورموز لا يفهم مغزاها إلا من أيده الله بتوفيق خاص، وهي المشار إليها في قوله تعالى:
ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر
[القمر:50]، تنبيها على عدم تجددها وتغيرها وارتفاعها عن عالم الزمان والتغيير.
وقد وقع في بعض شرايع السابقين وملل الأقدمين، إشارة إلى كيفية حدوث الأفلاك وما في جوفها من أمر الله سبحانه على سبيل الرمز:
انه قد أتى دهر طويل على النفس الكلي - أي الملك الأعظم الحامل للعرش الرئيس على جملة الحملة والمدبرات السماوية -، قبل تعلقها بالجسم ذي الأبعاد، وكانت في عالمها الروحاني ومحلها النوراني مقبلة على مفيضها ومبدعها ومكملها، تقبل عنه الفيض والفضائل الكثيرة، وكانت منعمة ملتذة مستريحة فرحانة بتلك الفضائل والخيرات، فأخذها شبيه المخاض، فأقبلت تطلب ما تفيض عليه من تلك الخيرات، وكان الجسم بحسب هيوليته فارغا قبل ذلك من الأشكال والصور والنقوش، فأقبلت النفس على الهيولى لتميز الكثيف من اللطيف، وتفيض عليه تلك الفضائل والخيرات.
فلما رأى الباري جل ذكره ذلك منها، ومن الجسم تهيؤ لها، فخلق من ذلك الجسم عالم الأفلاك وأطباق السموات من لدن العرش إلى قرار الأرضين على أحسن نظام وترتيب مما هي عليه الآن، وهكذا يفيض تلك الفضائل والخيرات من الصور والكيفيات متجددة متعاقبة في أزمنة متطاولة ودهور كثيرة، لاستحالة الجمع بين الصورتين في زمان واحد.
فمهما استوفت إفاضة الصور والكيفيات المقدرة في قضاء الله وقدره على المواد الفلكية والعنصرية، سكنت الأفلاك عن الدوران، والكواكب عن السير، والأركان عن الاختلاط والمزاج، وكلت القوى الجسمانية والآلات، وبلي الحيوان والمعادن والنبات، وخلع الصور والأشكال والنقوش، وانفطرت السموات وانشقت، وهدمت الجبال وبست، وتبقى فارغة كما كانت بديا.
فرجعت النفس المدبرة الكلية إلى عالمها الروحاني، ومحلها النوراني، وحالتها الأولى، وأعرضت عن شغلها الذي كان، وأقبلت نحو علتها المفيضة ولحقت بها. لان مثل النفس في إقبالها على الجسم، واشتغالها بتدبيره واصلاحه - بعد ما كانت مقبلة على مبدعها مستفيدة منه الفيض - كمثل الرجل الخير العاقل المقبل أولا على أستاذه المحب لعلمه، الحريص في تعليمه للعلوم والحكم والمعارف، المتخلق بأخلاقه الجميلة وآدابه الصحيحة برهة من الزمان، حتى امتلأ من الخيرات والفضائل والعلوم والحكم، أخذه عند ذلك شبه المخاض، واشتهى وتمنى وطلب من يفيض عليه من تلك الخيرات والفضائل ويفيده إياها، فإذا وجد تلميذا يعلم أنه يقبل منه ويفهم عنه علمه وحكمته، أقبل عليه بالفيض والإرشاد والإفادة - طمعا في إصلاحه وحرصا على تعليمه وتأديبه تشبها بأستاذه الأول -، فإذا فرغ من تعليمه وتأديبه، أقبل عند ذلك على عبادة ربه، وطلب الخلوات بمناجاته وتمنى اللحوق بأسلافه وأقاربه، والدخول في زمرة الملائكة.
وهكذا كانت سيرة الأنبياء (عليهم السلام)، وكذلك كانت سيرة الحكماء المتقدمين الذين أخذوا الحكمة من مشكاة النبوة، كل ذلك تشبها بالله في إظهار حكمته وفيض فضائله على بريته وإغداق نعمته على خليقته.
كلام من الحكماء شبه رمز
ذكروا أن ملكا عظيم الشأن، عزيز السلطان، واسع المملكة، كثير الجنود والعبيد، ولد له ولد ذكر كان أقرب الخلق به شبها وإلى والده (والديه - ن) طبعا وخلقا، فلما تربى ونشأ وكمل، ولاه أبوه بعض مملكته، وأمر أجناده وعبيده بطاعته، وأوصاه بحسن سياستهم، وأباحه جميع النعم - غير أنه نهاه عن مرتبته -.
فمكث ذلك الابن زمانا طويلا قدر نصف يوم متنعما متلذذا، إلا أنه كان ساهيا، فحسده بعض عبيد الملك ممن كان متينا قبله، فقال: " انك لا تعرف نعمة، ولا تجد لذة، لأنك ممنوع من أرفع نعمة، منهي عن ألذ شهوة ".
فاغتر بقوله، وطلب ما ليس له أن يتناوله قبل حينه، فسقطت مرتبته وانحطت درجته عند أبيه، وبدت له سوأته وخسته، واستبانت خطيئته، فهرب خوفا من أبيه ذاهبا في مملكته شبه المستتر، فأصابه العناء ولقيه البأساء والضراء والجهد والبلاء، فتذكر يوما ما كان فيه من نعمة أبيه، فحزن على ما فاته وبكى أسفا، ثم نعس فنام، فحمل إلى أبيه. فقال: " دعوه نائما إلى يوم الجمعة ".
ثم إنه ولد في اليوم الثاني ابن آخر أشبه الناس بأخيه، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان حكيما وقورا صبورا شكورا، فولاه أبوه بعض مملكته، وأمرهم بطاعته، وأوصاه بسياستهم. فدعاهم وأمرهم ونهاهم. فلم يسمعوا ولم يطيعوا له أمره، لأنه كان شبيه زحل، بل آذوه، فصبر زمانا ثم شكى إلى أبيه، فغضب عليهم ورمى أكثرهم في الماء.
فلما رأى ما أصابهم اغتم وحزن ونعس فنام وحمل إلى أبيه، فقال: " اتركوه نائما إلى يوم الجمعة ".
ثم إنه رزق في اليوم الثالث ابن آخر، وكان أشبه بأخويه اللذين تقدم ذكرهما، وكان خيرا فاضلا نجحا، فولاه أبوه مكان أخويه، وأمرهم بطاعته، وأوصى إليه بما أوصى إلى أخويه من قبل، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا ولم يطيعوا لأنه كان يشبه المشتري وفزعوه بالنار، فذهب إلى أبيه وبنى له هيكلا ونذر له قربانا وعلم مناسكا. ونادى في الناس: " تعالوا لتروا ما لم تروا، وتسمعوا ما لم تسمعوا ".
ثم نام وحمل إلى أبيه فقال: " اتركوه نائما إلى يوم الجمعة ".
وبقي نداؤه في مسامع النفوس يتوارثونه من غير أن يسمعوا، ويذهبون إلى هيكله فيرون ظاهره - ومرماه مما لا يبصرون -، ويفعلون شبه مناسكه، ولكن أكثرهم لا يفهمون لأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
ثم إنه رزق في اليوم الرابع ابن آخر، فنشأ وكمل ونما وكان جلدا قويا مقداما، فولاه أبوه مكان اخوته وأمرهم بطاعته، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا ولم يطيعوا، لأنه كان يشبه المريخ. وبارزوه وبارزهم، وناوشوه وناوشهم ونازعهم، وكان مؤيدا بقوة أبيه، فغلبهم وبدد شملهم وفرق جمعهم وشتت ألفهم، ورمى بهم في البر والبحر، ثم بقي وحيدا كالغريب يدعو فلا يجاب ويأمر فلا يهاب، فاغتم وحزن ونعس فنام وحمل إلى أبيه، فقال: " دعوه نائما إلى يوم الجمعة ".
ثم إنه رزق في اليوم الخامس ابن آخر، أشبه الناس بأخيه الأول، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان هاديا رشيدا طيبا رفيعا، فولاه أبوه مكان اخوته، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له إلا قليلا، ولم يطيعوه إلا يسيرا، لأنه كان يشبه الزهرة، ثم وثبوا عليه فأخذوا قميصه الذي ألبسته أمه إياه، فذهب إلى أبيه فاستفز عليهم بجنوده وأيدهم بروح منه، فسرى في نفوسهم وتحكم في لاهوتهم بدلا وقصاصا لما تحكموا في ناسوته، وأراد أن ينزل من الرأس، فقال أبوه: " اصبر إلى يوم الجمعة ".
ثم قال الملك في اليوم السادس للمنجمين: " اختاروا لابني الذي يشبه عطارد يوما لينزل إلى عالم الكون والفساد فينبه إخوته النيام، ويناديهم إلى ربهم، فقد رضيت عنهم، ويأمرهم بالاستعداد للصلاة فإن غدا هو يوم العيد - يوم الجمعة - فيبرز للقضاء ويحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ".
فاجتمع سادة النجوم ورؤساء الكواكب في بيت المريخ، وتشاوروا بينهم، فقال رئيس الكواكب وملكها: " أنا أختار له من قوتي وازوده من فضائلي: العظمة والجلالة، والرئاسة والسلطان، والعز والرفعة، والبهجة والبهاء، والمجد والثناء، والبذل والعطاء ".
وقال شيخهم كيوان: " أنا أختار له من قوتي وازوده من فضائلي: الحلم والوقار، والصبر والثبات، وبعد الغور وعلو الهمة، والحفظ والأمانة، والفكر والروية ".
وقال برجيس القاضي العادل: " أنا أختار له من فضائلي وازوده من قوتي: الدين والورع، والخير والصلاح، والعدل والإنصاف، والصدق والصيانة والمروة ".
وقال بهرام صاحب الجيوش: " أنا أختار له من قوتي وازوده من فضائلي: العزم والصرامة، والنجدة والشجاعة، والهمة والنشاط، والظفر والغلبة، والبذل والسخاء، والتيقظ والأنفة ".
وقالت ناهيد أخت النجوم: " أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي: الحسن والجمال والكمال، والرأفة والرحمة، والزينة والنظافة، والحب والمودة والسرور واللذة ".
وقال أخوهم الأصغر - وهو أخفاهم منظرا وأجلهم مخبرا الذي صنعته أظهر وعلومه أكثر وعجائبه أشهر -: " أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي واؤيده من مناقبي: النطق والفصاحة، والتميز والفطنة والقراءة، والعلوم والحكمة ".
قالت أم النجوم: " أنا أرضعه وأربيه، واختار له من قوتي وأزوده من فضائلي: النور والبهاء، والزيادة والنماء، والحركة في الأقطار، والتنقل في الأسفار، وبلوغ الآمال، والسير والاختبار، وعلوم مواقيت الآجال ".
ثم إنه دارت الأفلاك وتمخضت قوى الروحانيات - أهل السموات -، فنزل إلى عالم الكون والفساد في ليلة القدر قبل طلوع الفجر صاحب النشور، لينفخ في الصور، فمكث هذا المولود في الرحم أربعين يوما من أيام الشمس، وعشرين يوما في الرضاع، حتى تربى ونشأ وكمل ونما، وكان أشد الناس شبها بأخيه الثالث، لأنه كان يشبه عطارد الذي هو أخو المشتري.
فصار هذا المولود من بين اخوته أتمهم بنية وأكملهم صورة، وكان أديبا عالما حكيما ملكا عزيزا رحيما إماما عادلا نبيا مرسلا، فولاه أبوه مملكة اخوته كلها، فظهر وقهر من خالفه، ورفع واعز من وافقه، وحكم في مملكته نحو ثلاثين يوما من أيام الشمس، ثم أصابته العين فاعتل وبقي على الفراش نحو يوم من أيام القمر، مريض الجسم عليل النفس، ثم تحول إلى دار أخرى، ونهض قليلا ومشى، ونشط وانبسط، ودخل إلى كهف أبيه ونام مع اخوته.
فمكثوا زمانا، فلما انقضى دور الرقاد، وتقارب الميعاد، ناداهم الملك: " ألم يأن لكم أن تنتبهوا من نومكم، وتستيقظوا وتتذكروا ما نسيتم من أمر مبدأكم، وترجعوا معادكم من أسفاركم، وتأووا إلى دار مقامكم من غربتكم؟ فقد تم خلق السموات السبع في ستة أيام، وغدا الجمعة، يستوى بكم على العرش ويحمله يومئذ ثمانية ".
فانتبه لذلك الأخوة الذين قيل:
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم
[الكهف:22] بعد رقدتهم ثلثمائة وأربعة وخمسين من أيام الشمس بحساب القمر، يتذاكرون
كم لبثتم
[الكهف:19] في كهفكم؟ فقال أبوهم لأخيهم: -
فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا
[الكهف:22].
فأخفى أمرهم، وكتم أسرارهم لأنه
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة
[المجادلة:7]، وهو يوم جمع الخلائق كلهم للجزاء .
وكما أن للملك مدينة فيها جنوده وممالكيه، ولأهل تلك المدينة عمال وصناع لهم أجرة وأرزاق، وفيها تجار وبياع يتعاملون بموازين ومكائيل، ولهم مظالم وخصومات، ولهم فيها قضاة وعدول، ولهم فقه واحكام وفصول، وان من سنة القضاة البروز والجلوس في كل سبعة أيام يوما واحدا: فهكذا يجري حكم النفوس الكلية وملائكة الله تعالى العمالة بإذنه في الأنفس الجزئية في كل سبعة أيام - كل يوم ألف سنة -، لعرض الخلائق لدى العزيز الجبار، الواحد القهار، لفصل القضاء بينها باستخدام الملائكة العمالة بإذنه:
فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين
[الأنبياء:47].
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال:
" عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا نبي بعدي على هذه الأمة ".
تقوم القيامة وهو يوم العرض الثاني، كما أن يوم العرض الأول ما أشار تعالى إليه بقوله:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
[الأعراف:172].
وبين اليومين مدة سبعة آلاف سنة.
وكما أن لأهل المدينة فيها جنان وميادين وأنهار وبساتين، وفيها مجالس ومضائق ومساجن - فالأولى لنزاهة النفس وبهجتها وسرورها ولذتها ونعيمها، والثانية لعقوبتها وعذابها على قدر جرائمها وذنوبها - فهكذا في طبقات الوجود ومراتب الكون، فسحة وسعة - أهلها في جنات النعيم وروح وريحان ونعمة ورضوان - ومجالس ودركات - أهلها في عذاب أليم وعقاب شديد وغصة عظيمة - كما ذكره الله في التوراة والإنجيل والفرقان في مواضع كثيرة من نعت الجنان ولذاتها، ووصف النيران وآفاتها.
هذا تلخيص ما وجدنا من كلام الأكابر العظام، فأوردناه توضيحا للمقام، وليعذرني بعض أعلام الأنام من أولي الدراية والأفهام، في الخروج عن طورهم لبعد المرام، والله ولي الهداية في البداية والنهاية.
قوله عز وجل:
{ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }.
أي: يعلم ما يدخل في جوف الأرض ويستتر فيها من البذور وغيرها، وما يبرز من الأرض وما يتكون منها.
أو يعلم ما يتربى في الأرض من المعادن والنبات والحيوان، وما يخرج منها ويكون على ظهرها من هذا، فيعلم أعيانها وأطوارها، وتقلباتها وأحوالها - من القوة والفعل، والكون والبروز -، ومدة بقائها ووقت فنائها. ويعلم ما ينزل من السماء - من مطر وملك وغير ذلك -، حتى القوى والكيفيات ومباديها، وفواعلها وأرزاق الخلق، إذ الجميع مما ينزل من السماء لقوله تعالى:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون
[الذاريات:22]، وما يعرج فيها - أي يصعد إليها -، من الملائكة الحفظة وما يكتبون من أعمال الخلائق كلها.
وهو معكم، أي: عالم بكم أينما كنتم، وفي أي أحوال من أحوالكم وصفاتكم التي أنتم عليها، وأفعالكم وأقوالكم التي فعلتموها وقلتموها.
والله بما تعملون - من خير وشر - بصير، أي: شهيد، فيجازيكم على وفق أعمالكم.
مكاشفة
يعلم ما يلج في أرض العالم الجسماني التي هي تحت عوالم الأمر من الصور النوعية، لأنها من صور معلوماته، وما يخرج من الأرواح التي تفارقها، والصور التي تزائلها عند الفناء والفساد، وهي بعينها التي تنزل من سماء عالم الغيب إلى أرض عالم الشهادة، وتعرج فيها بعد الاستكمال، وتطير إليها بجناحي العلم والعمل.
أو ما ينزل من سماء الروح الكلي من العلوم الكلية والأنوار العقلية الفائضة على القلب، وينزل منه إلى أرض النفس جزئية، وما يعرج فيها من الكليات المنتزعة من الجزئيات المحسوسة، وهيآت الأعمال المزكية.
والأول: إشارة إلى العلوم الموهبية التي تفيض أولا على القلب فتتمثل في الخيال حكايتها وتنزل إليه مثالها.
والثاني: إشارة إلى العلوم الكسبية التي ترتقي إلى العقل بعد أن يقع الإحساس بالجزئيات الجسمانية، وتنتزع منه الكليات لأجل المشاركات بينها والمبائنات.
والأول: طريق الأبرار: والثاني: مسلك النظار.
وهو معكم أينما كنتم؛ لأن موجودية أعيانكم الثابتة بظهوره في مظاهرها وتجليه في مرائيها.
والله بما تعملون بصير؛ لكونه مشهودا له حاضرا عنده منقوشا في الألواح العالية وملكوتها بحضرته.
لمعة إلهية
ان معيته تعالى للاشياء ، ليست كمعية جسم لجسم، أو جسم لعرض، أو عرض لعرض، وبالجملة، ليست تلك المعية معية في الوضع والمكان، ولا في الزمان والآن، ولا في المحل والحال، ولا في الفعل والانفعال، ولا في الحركة والانتقال: لتعإليه عن هذه الأوصاف والأشباه والأمثال.
وليست أيضا معية في الوجود، لكونه قبل كل موجود، وقبليته لا تنقلب إلى المعية التي يقابلها. بل معيته تعالى نحو آخر من المعية مجهولة الكنه.
وإنما يعرف الراسخون في العلم لمعة منها، ويشمون رائحة من كيفياتها، وإذا أردوا أن يفيضوا على غيرهم من المستعدين شيئا منها، مثلوا لهم مثال المرآة وقالوا: إن الله تعالى يتجلى للاشياء كما تتجلى صورة الشخص في المرائي المتعددة المختلفة صغرا وكبرا، واستقامة واعوجاجا، وصفاءا وكدورة، وغشا وخلاصا، وان التجلي من قبله حاصلة دائما لجميع الأشياء - لأنه نور، والنور من حقيقته التجلي والظهور على المجالي والمظاهر -، لكن عدم ظهور هذا التجلي إما لضعف فيها وصغر في مرآة ذاتها، لا تطيق احتمال النور العظيم الباهر - كما لا تطيق نور الشمس أبصار الخفافيش وعيون العمشان إلا ظلالا ضعيفة منه -، وهذا مثال الأجسام والنفوس الناقصة كالجماد والنبات، وغير الناطق من الحيوان والناقص من الإنسان.
وإما لكدورة في المرآة - كالأبصار التي عليها غشاوة -، وهذا مثال نفوس العصاة من الناس، الذين على قلوبهم وعلى أبصارهم غشاوة. أي على عقولهم وعلى أبصارهم التي بها تحصل معرفة الله وملكوته غشاوة المعاصي والشهوات التي بها يقع الحجاب عن شهود معرفته تعالى.
وإما لاعوجاج وانكسار في المرآة، تقع الصورة فيها على خلاف ما هو الواقع، - كما في الحول وغيره من الأمراض العينية التي يقع بسببها الغلط في رؤية ما يتنور بنور الشمس من حقائق الأجسام -، وهذا مثال نفوس الجاحدين للحق، المتعصبين لمذاهب تقليدية رسخت في نفوسهم من أول الأمر، بحيث لا يمكن زوالها أصلا، فتظهر لبصيرتهم الحولاء، وفطنتهم العوجاء، صور الحقائق المستنيرة بنور الله تعالى على خلاف ما هي عليها، وإلا فالحق متجل على كل شيء.
كقوله - وهو أصدق القائلين -:
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
[ق:16].
وفي الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أنه تعالى فوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقد ملأت كل شيء عظمته فلم تخل منه أرض ولا سماء، ولا بحر ولا بر ولا هواء، هو الأول لم يكن قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، فلو دلي على الأرض السفلى لهبط على الله ".
وفي طريق أهل البيت (عليهم السلام) أحاديث كثيرة متقاربة المعنى قريبة من معنى هذا، وكذا حديث قرب النوافل.
وقد روي عن موسى - على نبينا وآله وعليه السلام -: أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ فاني أحس حسن صوتك ولا أراك فأين أنت؟
فقال الله: أنا خلفك وأمامك، وعن يمينك وشمالك، أنا جليس من ذكرني، وأنا معه إذا دعاني.
فما عليك - أيها المتقي عن المعاصي البدنية والقلبية، إلا أن تنفي عن عين عقلك كدورته بالتخلي عن الرذائل، وتقوي حدقته بكحل الطاعات والعبادات والقيام في الليالي والأوقات، مع استقامة الفهم والتدبر في المعاني العقلية والآيات، فإذا هو فيه، إذ ليس هناك ما ينافيه، فإذا غافصك تجليه، ولم تثبت هناك فبادرت وقلت إنه فيه - كما نقل عن المحجوبين بالحق عن مراتب مظاهر الآلهية، ولوازم الأسماء ما قالوا - إلا أن يثبتك الله بالقول الثابت فتقول: إن الصورة ليست في المرآة، ولا المعية بينهما كمعية الحال للمحل، ولا المتمكن للمكان، ولا غيره من أنحاء المعية، بل تجلت لها وظهرت فيها، ولو حلت لما تصور أن تحل صورة واحدة لمرائي كثيرة مختلفة في حالة واحدة، بل كانت إذا حلت في واحدة ارتحلت عن الأخرى، وهيهات، فإنه يتجلى لجملة من العارفين دفعة واحدة.
نعم، يتجلى في بعض المرائي أصح وأظهر وأقوم وأوضح، وفي بعضها أخفى وأميل إلى الاعوجاج عن الاستقامة، وذلك بحسب صفاء المرائي وصقالتها، وصحة استدارتها واستقامة بسيط وجهها.
وكما يتجلى حقيقة الحق لجملة من العارفين من الملائكة المقربين، وعباد الله الصالحين، كذلك يتجلى بوجه ظلي للأشياء جميعها - على تفاوت درجاتهم في الضعف والقصور -.
ولهذا المعنى قال واحد من الحكماء المتقدمين: " إن المحسوسات كلها تشتبه بالحق، إلا أنها لكثرة قشورها، وقلة نورها، لا تقدر على حكاية الحق من وصفها ".
وبالجملة: لا تخلو ذرة من ذرات الكائنات من نور الحق وتجليه وظهور فيه، لكن تحصيل هذه المعرفة، والوصول إلى مشاهدة هذا التجلي هو الإكسير الأحمر المستفاد من بحر عميق من بحار القرآن.
[57.5]
أي: يتصرف فيهما كيف يشاء، إلا أن مشيته تعالى تعلقت بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتسكين الأرض في وسط الكل، لقبولها الآثار النازلة عليها من السماء - من الأنوار والأمطار -، ليتولد منها المركبات، وتتكون منها الكائنات - من المواليد الثلاثة وغيرها -، الحاصلة من الأسباب الفعلية والانفعالية السماوية والأرضية، ثم ترجع إليه الأمور يوم القيامة ليجزى كل واحد بما عمل.
وقيل: جميع من ملكه شيئا في الدنيا يزول ملكه، ويتفرد هو سبحانه بالملك، - كما كان كذلك قبل أن خلق الخلق -.
مكاشفة
إعلم أن كل ما يصدر عن فاعل فهو في آخر الأمر يرجع إليه، كما ينكشف لنا من تتبع الأمثلة الجزئية، فإن من بنى بيتا ليسكن فيه فالداعي له في بنائه هو الراحة التي يتصورها عند تمام البيت، فهو مع هذا التصور، فاعل لفعله الذي تصل صورة منه ثانيا إليه، فكل من فعل شيئا فإنما يفعل لنفسه.
فلما أفادنا النظر في خلق السموات والأرض وما فيهما إثبات فاعل لها، موجد له ملكها، كذلك أفادنا إثبات غاية يرجع إليها الجميع، ويجب أن تكون تلك الغاية هي بعينها ما هو الفاعل لوجودها، لأنا لو جعلنا الغاية أمرا معلوما، لكان لوجودها غاية غيرها - كما أن لها فاعلا - فيتسلسل أو يدور.
وأيضا: لا يكون ما فرض غاية غاية، إذ الكلام في الغاية القصوى، ولكان الباري يحتاج في فعله إلى داع يستولي عليه ويجبره في فعله.
وأيضا: يلزم أن يكون ناقصا في فاعليته، مستكملا بغيره مما فرض غاية، والتوالي بأسرها باطلة، فكذا المقدم.
ثم إنا لو وصفنا كلا من الفاعل والغاية بالمباينة الكلية، لاقتضى ذلك تعدد الباري، ولاقتضى أيضا سلب الماهية عنهما، ويستحيل وجود شيئين كل منهما لا ماهية له، فالله هو الأول الذي تبتدئ منه الأمور، والآخر الذي ترجع إليه الأمور، فمنه تحصل الأشياء في الابتداء، وإليه تنساق الموجودات في الانتهاء، وهو الفاعل للوجود، والغاية له في الشهود.
فإن قلت: كيف يكون ماهو العلة الفاعلية علة غائية؟ والفاعل قبل الشيء لينبعث منه الشيء، والغاية بعد الشيء ليستتبعها الشيء؟
قلنا: إن العلة الغائية - إن تأملت - فهي بالحقيقة العلة الفاعلية دائما، - لا في هذه المادة خاصة -، فإن الجائع إذا أكل ليشبع، فإنما أكل لأنه تخيل الشبع فحاول أن يستكمل له وجود الشبع، فيصير من حد التخيل - وهو وجود ضعيف - إلى حد العين - وهو وجود قوي -، فهو من حيث إنه شبعان تخيلا هو الذي يأكل ليصير شبعان، وجودا، فالشبعان تخيلا هو العلة الفاعلية، والشبعان وجودا هو العلة الغائية، فالأكل صادر من الشبع ومصدر للشبع، فالشبع هو الذي كان علة فاعلية للأكل وعلة غائية له، ولكن باعتبارين: فهو باعتبار الوجود العلمي فاعل وعلة غائية، وباعتبار الوجود العيني غاية.
لكن يجب للعارف البصير أن يفرق بين الفاعل الناقص الواقع تحت الكون، وبين الفاعل التام المرتفع عن الكون، المقدس عن الاثنينية والتركيب لا في الذات ولا في الاعتبار، لأن فاعليته تامة ليست له غاية زائدة على ذاته، وعلمه بالأشياء كباقي صفاته عين ذاته، فإفاضة الخيرات منه على الماهيات، إنما هو لكونه بذاته جوادا، وبعلمه بوجه الخير في النظام، ينشأ من الأشياء على أحسن الأنحاء وأفضلها في التمام.
[57.6]
أي: يدخل ما نقص من كل منهما في الآخر حسب ما دبره فيه من مصالح العباد والبلاد - كما نقل عن عكرمة وابراهيم -.
وهو عليم بمكمونات أسرار خلقه، وخفيات ضمائر عباده، كما يعلم وجوه الخير في نظام العالم، كيف ولو لم يكن عليما بخفيات الأسرار، لم تصدر عنه المخلوقات على أفضل ترتيب وأحسن نظام، فانظر أيها المتفكر في حكمة الباري وجوده، انه لو لم يخلق الأجرام النيرات على الوضع الذي يقع التفاوت بين الليالي والأيام، والتفاضل بين النور والظلام، بأن يلج أحدهما في الآخر بأمره تارة، وبالعكس تارة أخرى، كذلك على نسق مضبوط ونظام محكم من غير اختلال ولا قصور، لما انصلح حال الخلايق والأنام على هذه الكيفية والتمام.
ألم تر كيف خلق الله النيرات العلوية على هيآت وأوضاع تنتفع منها الكائنات السفلية، من أنها لو ثبتت أنوارها، أو لازمت دائرة الوجود، لأثرت بافراط فيما حاذاها، وتفريط فيما وراء ذلك، ولو لم يكن لها حركة سريعة لفعلت ما يفعله السكون واللزوم، ولو لم تكن الأنوار الكوكبية ذات حركة سريعة مشتركة واخرى بطيئة مختصة، ولم يجعل دوائر الحركات البطيئة وسموتها مائلة عن سمت الحركة، لما مالت تلك الأنوار إلى النواحي شمالا وجنوبا، فلم تنتشر منافعها على بقاع الأرض، ولولا أن حركة الشمس على هذا المنوال من تخالف سمتها لسمت الحركة السريعة، لما حصلت الفصول الأربعة التي يتم بها الكون والفساد، وتنصلح منها أمزجة البقاع والبلاد.
[57.7]
خاطب سبحانه ذوي العقول كافة من الآدميين، دون الملائكة لكونهم مفطورين على العلم بالله ورسوله، مقدسين عن مزاولة الخبائث ليحتاجوا إلى التزكية بالإنفاق، دون سائر الحيوانات وما هو أدون منها من الجماد والنبات، لانحطاط درجتها عن استماع هذا الخطاب، فقال: معاشر العقلاء المكلفين: - آمنوا بالله - أي: اعتقدوا بوجود الحق الأول، وكونه آله الخلق، وأقروا بوحدانيته وتنزيهه وتمجيده. - ورسوله - أي: بكونه مرسلا إياه، أو صدقوا رسوله واعترفوا برسالته، لاتصافه بخصائص الأنبياء من خوارق العادات والعلم بالمغيبات. - وانفقوا - تقربا إلى طاعته، وتخلصا عما يلهيكم عن معرفته، ويبعدكم عن جواره، - مما جعلكم مستخلفين فيه - أي: من مال الله وغيره الذي خلقه لمصالح عباده، وإنما موليكم إياه لتكونوا خلفاء من قبل الله في صرفه لوجوه المنافع والمحاويج، وخولكم الاستمتاع والانتفاع.
فليست الأموال بالحقيقة إلا لمن خلقها، لا لمن كان متصرفا فيها بنقلها من موضع إلى موضع، أو مضافة هي إليه، فإن مجرد الإضافة إلى شيء لا توجب التسلط لأنها نحو ضعيف من التعلق، وإنما يكون التعلق القوي والتسلط التام على شيء بالقدرة على إيجاده واعدامه، والقادر على ما يشاء إنما كان هو الله تعالى دون غيره، فالأموال كلها عارية في يد المتولين لها، إلا أن الله جعلهم برهة من الزمان بمنزلة وكلاء مستخلفين فيها.
وإنما أوضح الله سبحانه كون المال عارية بيد صاحبه ليهون على الناس الإنفاق منه، كما يهون عليهم النفقة من مال غيرهم إذا كانوا مأذونين فيه مأمورين به.
وعن الحسن: أنفقوا من المال الذي استخلفكم الله فيه بوراثتكم إياه عمن قبلكم. وفي هذا تنبيه على أن المال حيث انتقل وصار اليكم ممن قبلكم، وسيصير منكم إلى من خلفكم، ينبغي أن تعتبروا بحال من سبقكم وعدم انتفاعه به نفسه، وأن تنتفعوا أنفسكم بالإنفاق منه، وأن تستوفوا حظوظكم البدنية والعقلية الدنيوية والدينية منه قبل أن يخرج الأمر من يدكم وينتقل المال إلى غيركم.
مكاشفة
واعلم أن هذا الحكم كما يشمل النعم الخارجية، كذلك يشمل النعم الداخلية؛ من الأعضاء والحواس والقوى التي أنعم الله بها علينا، وخولنا الاستمتاع بها في الدنيا وللانتفاع بها لأجل الآخرة، بأن نصرفها في عبادته ومعرفته، وستزول وتتخلف عنا عن قريب، بل النعم الداخلية البدنية كالنعم المالية الخارجية في كونها مبائنة لأرواحنا، خارجة عن ذواتنا، عارية في تصرفنا، إلا أن بعضها نعمة طبيعية متصلة بالبدن موجودة له، وبعضها نعمة خارجة عن البدن مبائنة له كما للروح، وسيهلك البدن ويفنى كل ما عليه وفيه من القوى والآلات والمشاعر، وتبقى الروح وحيدة منفردة عنه عائدة إلى ربها إما شاكرة وإما كافرة.
قوله عز وجل: { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } أي: جزاء عظيم وثواب جسيم، لا تكدره آفة ولا ينقصه زوال، وإنما يكون كذلك، لان كمال الإنسان منوط بالعلم والعمل، لتتزين ذاته العقلية بالمعارف الحقة والإلهيات، وتتخلص نفسه العملية عن التعلق بالشهوات المؤذيات، باقتناء الفضائل، والاجتناب عن الرذائل، ولا شك أن أفضل المعارف: معرفة الحق الأول وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي المعني بالإيمان، وأفضل الأعمال المزكية للقلب: الإنفاق للمال الذي هو الوسيلة إلى جميع اللذات الحيوانية والشهوات البهيمية.
ويمكن أن يكون الإيمان كناية عن العلوم الحقة الحقيقية مطلقا، والإنفاق كناية عن الزهد في الدنيا مطلقا، إذ بهذين الأمرين، يطير القلب بجناحيه إلى حظائر القدس، ولعل في قوله تعالى: لهم أجر كبير، إيماء إلى أن أجر الآخرة جزاء لازم وثمرة ضرورية مترتبة على اقتناء الملكات العلمية والعملية، بحيث لا يحتاج حصولها إلى جعل مستأنف وتأثير جديد، كما أشير إليه بقوله:
وإن الدين لواقع
[الذاريات:6]، يعني أن الجزاء لازم، كما أن الآلام والعقوبات الأخروية لواحق ضرورية لفعل المعاصي والشهوات، الموجبة لرداءة الأخلاق والملكات، كما يدل عليه قوله تعالى:
سيجزيهم وصفهم
[الأنعام:139]،
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[التوبة:49].
[57.8]
قرأ أبو عمرو: " أخذ " بضم الهمزة، و " ميثاقكم " بالرفع، والباقون بصيغة المعلوم، ونصب " ميثاقكم " على المفعولية، والضمير يعود إلى الله تعالى، وجملة: " لا تؤمنون " حال من معنى الفعل في " مالكم ".
حاصله: وما تصنعون كفارا بالله - مع وضوح البراهين على وحدانيته -، والحال ان الرسول يدعوكم للايمان بقواطع الحجج والبينات، ويتلو عليكم الكتاب الناطق والآيات المبينات؟ ففي الكلام حالان متداخلان.
وقرئ: ومالكم لا تؤمنون بالله ورسوله والرسول يدعوكم، أي. وأي عذر لكم في ترككم الاعتقاد بوحدانية المبعود، وما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أقيمت البراهين على ما تؤمرون به سمعا وعقلا؟
أما الأول: فلأن الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم، والعقل السليم عن الأمراض، والآفات النفسانية، مجبول على الاعتقاد بصدق قوله، بما أظهره الله على يده من المعجزات التي هي خارجة عن طوق البشر.
وأما الثاني: فلنهوض البراهين القاطعة الدالة على الإيمان بالله والرسول، وكون الغريزة الإنسانية مرتكز فيها التصديق بحقائق مفطورة عليها، كما أشار إليه بقوله تعالى: وقد أخذ ميثاقكم.
والحاصل أنه: أي عذر لكم في ترك الإيمان بعد ما أزيحت عنكم العلل، وأوضحت لكم السبل، بما ركب فيكم من غرائز العقول، ونصب لكم من دعوة الرسول المؤيدة بالدلائل والآيات التي ينبه لكم بها على الإيمان بمن هو ربكم، دون من هو مربوب مثلكم؟ إن كنتم مؤمنين -، أي ممن يهمكم التصديق بما يقوم البرهان الواضح على صحته، فقد قام ذلك عقلا وسمعا، وهما فطرة العقول ودعوة الرسول.
هذا إذا جعل خطابا للمشركين، فإن جعل خطابا للمؤمنين فمعناه: أي سبب يزيلكم عن الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى الثبات عليه، وقد أخذ هو عليه ميثاقكم إن كنتم مؤمنين موقنين بشرائط الإيمان؟ وهو كقوله:
يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله
[آل عمران:100] وعلى التأويل الأول، أخذ الميثاق من الله على عباده هو ميثاق الخلقة، وقيل هو أخذ ميثاق الذرية.
مكاشفة
يحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: إن كنتم مؤمنين: إن كنتم ممن تتمشى منه المعرفة والإيقان، لا من الذين انحطت درجتهم عن هذا وقيل فيهم: أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا، ولا من الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، فالبراهين والدلائل العقلية والسمعية ليست نافعة في حق الأشقياء الناقصين بحسب الفطرة، لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم رأسا، ولا لأهل الجحود والإنكار، لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية لفساد اعتقادهم، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله.
فالخطاب في هذه الآية، إما لأهل الفضل والثواب، سواء كانوا من المقربين والسابقين، أو من أصحاب اليمين، على تفاوت طبقاتهم، أو كانوا من أهل الرحمة الباقين على سلامة نفوسهم وصفاء قلوبهم، المتبوئين درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم، أو كانوا من أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، سواء كان العفو عنهم لقوة اعتقادهم وعدم رسوخ سيئاتهم، أو لمكان توبتهم عنها وإنابتهم إلى الله - فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات -.
أو لأجل نجاتهم من الجحيم بعد أن زال عنهم درن ما كسبوا من السيئات، كالسبيكة من الذهب التي تخرج من النار خالصة، وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا، لكن الرحمة الإلهية تتداركهم وتنالهم بالآخرة.
[57.9]
وقرئ: " لرؤف ".
لما حث سبحانه المكلفين على المعرفة بالله وملكوته من جهة ما ركب فيهم من فطرة العقول ، وقرع أسماعهم من دعوة الرسول، أخبر بأنه لزمت دعوته وقبولكم إياها لما أيده الله به من المعجزات البينة التي أظهرها على يديه، أو الآيات الفرقانية خاصة، ليخرجكم الله سبحانه بواسطة تلك الآيات من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والمعرفة.
أو ليخرجكم الرسول بدعوته، أو ليخرجكم المنزل بما فيه من الحجج المنيرة والبراهين الواضحة.
وإن الله بكم لرؤوف رحيم -، حيث بعث الرسول ونصب الأدلة، وهذا يدل على كمال الرأفة والرحمة، وللاشعار به اقترن الكلام بوجوه من التأكيد: منها الجمع بين لفظين مترادفين، وقيل: " الرأفة ": النعمة على المضرور، و " الرحمة " النعمة على المحتاج.
قيل: في هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة، فإنه بين أن الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.
اقول: تحقيق هذا المقام يحتاج إلى طور آخر من اقتناص المعارف غير ما أكب عليه علماء الكلام، لكن يجب على كل عاقل متفكر، أن يفرق بين الغاية الأخيرة والمتوسطة، وكذا بين الغاية بمعنى الداعي وما يسمى بالضروري الذي يلزم الفعل من غير أن يكون داعيا إليه، كقوله تعالى:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص:8].
مكاشفة
إعلم أن الله تعالى، كما ينزل على أشرف رسله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آيات بينات ليخرج الناس من ظلمة الغباوة والغواية إلى نور الدراية والهداية، فما من عبد من عباده المهتدين، إلا ويأتيه من قبله تعالى إشارات وتنبيهات، وتنزل منه على قلبه أنوار متتاليات ليخرج بها من ظلمة الحجب الدنيوية إلى نور المعارف الأخروية، ولكن الناس أكثرهم غافلون عنها لاشتغالهم بما يلهيهم عن ذكر الله، وينسيهم امر الآخرة، فلا يبعد أن تكون هذه الآية بيانا لأخذ الميثاق المذكور في الآية المتقدمة، فإن الله سبحانه خلق عباده على فطرة التجرد والنقاء عن علائق الأجرام، والتقدس والصفاء عن كدورات الآثام، والتهيؤ لقبول دعوة الحق والإلهام واستعداد الترقي بواسطة العلم والعمل إلى أرفع المنازل في دار السلام، ثم إذا أنشأهم في هذه الحياة الدنيا، رباهم واكملهم وأعطاهم العقل والتميز، وبعث إليهم الرسول مؤيدا بالمعجزات ، فلا يزال ينزل على قلوبهم آيات بينات من أنوار معرفته، ويفتح عليهم أبوابا من فنون رحمته وهدايته، ليهديهم إلى صراط مستقيم، ويخرجهم من ظلمات الجحيم إلى أنوار النعيم.
وإنما ينسي الناس ذكر مواثيقهم الجبلية مع الحق، وعهودهم الذاتية مع سكان ملكوته، وسائر ما كانوا مفطورين عليه بطهارة ذواتهم المخمرة بيد القدرة أربعين صباحا، واستعدادهم للمعرفة واليقين، تعلقاتهم بمشاغل الكون لضرورة حياتهم الدنيوية، ويشغلهم عما يرد على قلوبهم من أنوار المعارف باطنا وظاهرا، ويلهيهم عن ألطاف الحق الواصلة إليهم داخلا وخارجا، ارتكابهم الخطيئات، واقترافهم السيئات المبعدة لهم عن جوار الله وقربه، لان المعاصي تعمي أبصارهم، وتصم أسماعهم عن إدراك أنوار الحق وإلهاماته، فأعرضوا بها عن ذكر الله وسماع آياته البينات، واشتغلوا بما يلهيهم به الشيطان عما يلهمهم به الرحمان، لقوله تعالى:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف:36].
وتمام التحقيق في هذا المرام، أن قلب الإنسان ذو وجهين:
وجه إلى عالم الملكوت - وهو عالم المعرفة، وعالم الآخرة، وعالم الإلهام -، ووجه إلى عالم الحس - وهو عالم الجهل وعالم الدنيا وعالم الوسواس -، ثم إن الخواطر التي ترد على قلبه وتبعثه على الأفعال والحركات إما أن تنبعث من الجنبة العالية وتدعوه إلى الخير - كالعبادة والمعرفة -، أو تنبعث من الجنبة السافلة وتدعوه إلى الشر، - كالمعصية والغفلة -، فهما خاطران مختلفان، فافتقر إلى اسمين مختلفين - أيضا - وهما حادثان، فاحتاجا إلى سبببين مختلفين، لان اختلاف المعاليل الحادثة يدل على اختلاف عللها القريبة، وان كان المؤثر في فيضان الوجود مطلقا هو الله لبراءته عن شوائب الإمكان والدثور.
فسبب الخاطر الداعي إلى الخير، يسمى في عرف الشريعة " ملكا " ، وذلك الخاطر " إلهاما " ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى " شيطانا " ، والخاطر " وسوسة ". والله تعالى خالق كل شيء، فخلق الملائكة لصفة رحمته ولطفه، وخلق الشياطين لصفة قهره وغضبه، وكما أن الجنة أثر من آثار رحمته ونور من أنوار لطفه ورأفته، فكذلك النار أثر من آثار غضبه وشعلة من شعل قهره، فالإنسان متى اشتغل بعبادة ربه ومعرفة خالقه، انخرط في سلك رحمته ودخل في زمرة الملكوتيين، ومهما اشتغل بالمعاصي والشهوات ومتابعة الهوى والشيطان، استعد لمقته وغضبه، وعد من جملة الشياطين، فالإلهامات من جانب الحق بواسطة الملك لعباده الصالحين، في مقابلة الوساوس من جانب الشيطان.
وإنما يسلط الشيطان على قلب ابن آدم بواسطة " الخذلان " الحاصل له من مخالفته الحق، والعصيان، وإلا فليس له في ذاته هذا التسلط على الإنسان، وإنما يدفع كيده عنه بواسطة " التوفيق " الذي يجلبه الإنسان بفعل الطاعة والعبادة، فإذا زال كيده ودفع وسواسه عن القلب، استعد لقبول الإلهامات الداعية إلى الخير والنور، الصارفة له عن الشرور والظلمات، فأهل الرحمة مآلهم إلى الجنة والنعيم، وأهل السخط مآلهم إلى النار والجحيم، وكل جنس يحن إلى جنسه، وكل طائر يطير إلى عشه الأصلي ومعدنه الفطري، إما من جهة التوفيق والهداية، أو من جهة السخط والخذلان، والكل بمشية الله وقدرته.
وقوله سبحانه: هو الذي ينزل على عبده آيات بينات - يمكن أن يكون إشارة إلى الواردات التي ترد من جانب الرحمن على قلوب السالكين من عباده بواسطة ملائكة الرحمة، من الإلهامات والمعارف الحقة الواضحة لديهم أنها من جانب الحق.
وقوله: { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } [الحديد:9] -، إشارة إلى ثمرة هذه الألطاف والأنعام في حقهم وفي حق غيرهم، إذ بها تنتقل النفوس الإنسانية من القوة الهيولانية الظلمانية إلى العقل بالفعل المتنور بأنوار المعرفة والإيمان بالله وآياته واليوم الآخر، أو من ظلمات الصفات الشيطانية إلى أنوار الأخلاق الملكية، أو الجمع بينهما ليكون بها للعبد الخروج من القوة إلى الفعل بحسب كلتا قوتيه - العلمية والعملية -.
وكما أن الإنسان، بالتأمل في أسرار معرفة الله وسماع آيات ملكوته، والتفكر في امر الآخرة يخرج من ظلمات الجهل والنقصان إلى نور المعرفة والكمال، فكذلك في ارتكاب شهوات الدنيا، ومتابعة الهوى والشيطان، يخرج من نور الإدراكات الحسية إلى ظلمات العمى والحرمان عن مشتهيات الدنيا، لفقد (لفتور - ن) الآلات عند الفساد والبطلان، ويدل عليه قوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة:257]. والله أعلم بأسرار كلامه.
[57.10]
قرأ القراء سوى ابن عامر: " وكلا وعد الله " بالنصب على المفعولية لأنه بمنزلة " زيدا وعدت خيرا ". وقرأ ابن عامر: وكل وعد الله. بالرفع، محتجا بأن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله لم يقو عمله فيه قوته إذا تأخر، والدليل أن من قال: " زيد ضربت " وزيد بحسب المعنى مفعول ضربت، فإذا تأخر المفعول فوقع بعد الفاعل يتغير إعرابه نصبا، فكذلك قوله تعالى: { وكلا وعد الله الحسنى } يكون على إرادة " الهاء " وحذفها كما يحذف من الصفات والصلات.
وأما معناه: فقد حث سبحانه على الإنفاق الذي هو من الأعمال الحسنة الجامعة لتكميل الشخص وتهذيبه من ذمائم الأخلاق المنوطة لمحبة الأمر الفاني مع مصلحة النوع، إذ بالإنفاق ينتشر ما به ينتفع الناس ويصرف في وجوه المصالح كأهبة المجاهدين وغيرها ليستحفظ به الشريعة، فقال: وما لكم ألا تنفقوا - أي: في أن لا تنفقوا - في سبيل الله -، أي: أي شيء لكم في ترك الإنفاق في طريق الحق والجهاد في سبيله مع كونه خيرا نافعا لكم ولغيركم، والحال أن المال في معرض الزوال عمن بيده عن قريب، إما بهلاك أحدهما، أو كليهما في نفسه عن الآخر. - ولله ميراث - كل موجود - في السموات والأرض. إذ الكل يفنى وهو يبقى، فالله يرث كل شيء فيهما من مال وغيره، فما أقبح للعاقل أن يبخل بمال يكون عارية بيده من غيره، وسينتقل إليه، وهو يأمره بالإنفاق الذي فيه صلاح له ولغيره، فالآية من أعظم الحث وأبلغ البعث على الإنفاق في سبيله.
ثم بين سبحانه مراتب المنفقين في الفضيلة والأجر، وتفاوت درجاتهم بحسب الإنفاق في سبيله فقال: - لا يستوى منكم من أنفق - من قبل فتح مكة وشوكة الإسلام، وكثرة أهله وقوتهم، وقلة الحاجة إلى القتال ونفقة المقاتلين، ومن أنفق من بعد الفتح. وحذف لوضوح دلالة الكلام عليه، وقرئ: " قبل الفتح ".
أولئك - أي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا قبل الفتح وجاهدوا في سبيل الله - أعظم درجة - عنده - من الذين أنفقوا - بعد الفتح، ثم سوى بين الجميع في الوعد ومطلق الخير والمثوبة الحسنى، وهي الجنة، مع التفاضل في الرتب والدرجات.
والله سبحانه - لكونه عالما، لا يخفى عليه شيء من الدقيق والجليل، خبير بما تعملون من إنفاقكم وجهادكم، بصير بموازين الأفعال والأعمال ومراتب فضلها بحسب الصعوبة والمشقة، ودرجات شرفها بحسب النية والبصيرة والإخلاص والسريرة.
مكاشفة
واعلم أنه كما تتفاوت درجات المؤمنين بحسب أعمالهم البدنية، وأفعالهم الظاهرية، قبل انتشار نور الإسلام وظهور عزه وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجا، وبعده، كذلك تتفاوت درجات أهل الله وأولياء معرفته، بحسب سلوكهم الباطني، وسفرهم إلى شهود معرفة الله، ومهاجرتهم عن موطن النفس ابتغاء لوجه الله، ومجاهدتهم مع أعداء الله وأولياء الطاغوت تقربا إلى الحق بحسب معارفهم وعلومهم الاعتقادية الحاصلة قبل المكاشفة، فإن من كانت اعتقاداته حقة مطابقة لنفس الأمر، وعمل بموجباتها من الإنفاق والزهد والجهاد في سبيل الله، قبل كشف الغطاء ومعاينة الحقائق الدينية بالموت الإرادي، فهو أعظم جلالة وأجل مرتبة من الذين زهدوا في الدنيا وجاهدوا مع النفس والهوى بعد ذلك.
إذ الإنسان لو لم يكن مؤيدا من قبل الله تعالى بتأييد قدسي ومدد سماوي، لما كان حاله في ترك المشتهيات ومقاومة القوى النفسانية ومجاهدة الوساوس الشيطانية قبل كشف الغطاء وفتح مملكة البدن من يدي القوى الأمارة، كحاله بعد ذلك، إذ الزهد الحقيقي والورع عن محارم الله، صعب على الإنسان وقت الاحتجاب، واما عند ظهور الحقائق معاينة فليس كذلك.
ويحتمل أن يكون في الآية إشارة إلى تفاوت درجات القوى التي للإنسان، وتفاضل بعضها عن بعض بحسب الصفاء والكدورة، والقرب من عالم القدس والبعد عنه، فإن في العالم الصغير الإنساني خلائق مختلفة، وقوى متعددة، بعضها ملكية شبيهة بضرب من الملائكة، وبعضها شيطانية شبيهة بضرب من الشياطين، وبعضها شهوية كالبهائم، وبعضها غضبية كالسباع. والجميع خلقت لتكون مطيعة لأمر الله، مسخرة للقوة العاقلة، وهي مكلفة بالمجاهدة مع هذه القوى الجسمية الشهوية، والغضبية، والوهمية الفاسقة والظالمة والكافرة، ودفع معارضتها ومنازعتها مع القوة العقلية التي هي من أولياء الله إذا كملت بالعلم والعمل، وإنما انبعثت من جانب الله لتسخير قواها وإرجاعها عن متابعة الطاغوت إلى متابعة الحق وعودها بالمجاهدة من عالم الغرور إلى عالم النور، ومن معدن الكذب إلى مقعد الصدق.
والقوة العقلية التي أرسلت وجاءت من عالم الملكوت مبعوثة على عالم البدن وجنوده وقواه مأمورة من قبل الله تعالى بمعاداة الشيطان ومطاردة حزبه وجنوده، لقوله تعالى:
يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير
[فاطر:5 - 6].
فالإنسان بالقوة العقلية مأمور باتخاذ الشيطان وحزبه عدوا له، وبالمناقضة معها والمغالبة عليها، ولا يمكن الغلبة عليها إلا بتسخير القوى، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، وكل واجب مأمور به ولو تبعا.
فالقوة العقلية مأمورة من قبل الله بتسخير القوى البدنية، وفتح هذه البلدة المحرمة التي هي فيها بجنود لم تروها، من الأخلاق السليمة والصفات الملكية الحاصلة بتأييده سبحانه وإمداده في بعض الآدميين، وبجنود منقادة لها من عالم الجسم والبدن، وهي التي ليست مزاحمة للقوة العقلية بعناية الله ولطفه، لتتسلط على المملكة والجنود، فتصير القوى في جميع أوامرها وزواجرها طائعات، ولسلوك سبيل الله مستتبعات بعدما كانت عائقات، وتلك الأخلاق الحسنة كقوة الذكاء، وسرعة التفكر، والجود، والكرم، والعزم، والصبر الجميل، والتوكل وغيرها مما تتفاوت وتتفاضل في الشرف بحسب أنواعها المختلفة بالحقيقة واشخاصها المختلفة بالمحل، وفي المطاوعة والمتابعة لرئيسها وخليفة الله عليها في أرض البدن، فلا تزال المطاردة والمقاتلة بين جنود الملائكة وجنود الشياطين قائمة في معركة النفس الإنسانية، إلى أن تنفتح المملكة الآدمية لأحدهما فيستوطن فيها ويطرد الأخرى ويخرجها عن البلدة بحيث لا يكون لها الدخول فيها إلا اجتيازا.
واكثر النفوس مما قد فتح مملكتها البدنية وسخرها جنود الشيطان وملوكها، فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآخرة، وقليل منها قد استولت فيها القوة العاقلة على القوى الشيطانية وسخرتها، فأسلمت وأطاعت كلمة الله وأمره، وأجابت دعوة الحق وانخرطت مع ساير القوى المسلمة المطيعة طاعة رئيسها المطلق ومخدومها بأمر الحق.
والنفس الإنسانية لصفائها ولطافتها صالحة بحسب أصل الفطرة لقبول آثار الملكية والشيطانية لتقلبها في النشآت وتطورها بالأطوار وتلونها بالألوان المختلفة، كالإناء الزجاجي اللطيف الذي يتلون بلون ما فيه.
كيف، ولو لم يكن لها من اللطافة وقبول الأثر ما يقبل كل صورة وينتقش بكل نقش، لم تقبل آثار الملكية، ولم تنتقش فيها صور الحقائق الإلهية، فهي في أول الفطرة تصلح للآثار الحقة والباطلة - صلاحا متساويا -، وإنما يترجح أحد الجانبين على الآخر باتباع الهوى والشهوات، والإعراض عنها.
فإن اتبع الإنسان مقتضى شهوته وغضبه، ظهر تسليط الشيطان بواسطة اتباع الهوى والشهوات بالأوهام والخيالات الفاسدة الكاذبة، فصارت المملكة إقطاع [أقطار - ن] الشيطان، وصار القلب عشه ومسكنه، والهوى مرتعه ومرعاه لمناسبة ما بينهما.
وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه، وقابل بصفوف جنود الملائكة صفوف جنود الشياطين، فتقابل الصفان، وتقاتل الجندان، وتدافع الحزبان، فدفع كل من حزب الله ما يقابله من حزب الشيطان، فبقوة البرهان اليقيني بوجود النشأة الباقية، عارض الأوهام الكاذبة والظنون الباطلة الداعية إلى الشهوات، والركون إلى زخارف الدنيا، والإخلاد إلى أرض البدن، والاقتصار على هذه النشأة الزائلة، وبقوة الصبر عارض الهوى، وبقوة الخوف عن سوء العاقبة عارض الأمن من مكر الله، وبقوة الرجاء عارض القنوط من رحمة الله، وبالعزيمة طرد الكسل.
وهكذا يدفع بكل جند من جنود الرحمن جندا يقابله من جنود الشيطان، حتى ينفتح للقوة العاقلة أول بيت وضع للناس للذي ببكة الصدر، وأول معبد ومسجد وضع للقلب الحقيقي بمكة الصدر المعنوي الذي هو مزدحم القوى المتوجهة إليه، وهذا هو المسجد الحرام دخوله على القوى المشركة الطبيعية الدهرية لقوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا
[التوبة:28] خطابا للقوة الدراكة،
إنما المشركون
[التوبة:28] من القوى الطبيعية،
نجس
[التوبة:28] لمباشرتها الأرجاس البدنية والقاذورات بالإحالة والهضم والنقل من موضع إلى موضع
فلا يقربوا المسجد الحرام
[التوبة:28] وهو معبد (مسجد) القلب المتنور بنور المعرفة والإخلاص،
بعد عامهم هذا
[التوبة:28]، أي: عام الفتح وزمانه
وإن خفتم
[التوبة:28] من منعها عن الدخول فيه
عيلة
[التوبة :28] من عدم الفعل الغاذية وغيرها،
فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء
[التوبة:28] بأن يحصل لكم التقوت بالمعرفة والاستغراق في شهوده بحيث لم يبق لكم كثير حاجة إلى فعل هذه القوى كما يحصل لأهل الله.
ولقوله تعالى:
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر
[التوبة:17] لكونهم جسمانية، والتجرد شرط الإيمان والمعرفة
أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله
[التوبة:17 - 18] بالمعرفة والعبودية
من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة
[التوبة:18] أي ذكر الله
وآتى الزكاة
[التوبة:18] أي من الأجساد التي في تصرفه فيزكيها بتحليلها بالرياضات والعبادات في سبيل المعرفة
ولم يخش إلا الله
[التوبة:18] لكونه عالما به، وإنما يخشى الله من عباده العلماء
فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين
[التوبة:18] إلى طريق الآخرة وعالم القدس
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام
[التوبة:19] اللتان هما فعل الغاذية والنامية، إذ القوى الطائفة بكعبة البيت الحرام في مسجد الصدر، إنما تتقوت من فعل الغاذية، وجسمية هذا المسجد إنما يتعمر بفعل النامية
كمن آمن بالله واليوم الآخر
[التوبة:19] وهي القوة العقلية
وجاهد في سبيل الله
[التوبة:19] بمعارضتها ومصادمتها للواهمة ووساوسها الشيطانية
لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين
[التوبة:19]
الذين آمنوا وهاجروا
[التوبة:20] من موطن الجسمية إلى عالم التجرد والملكوت،
وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم
[التوبة:20] من المواد البدنية والقوى المحمولة لها،
أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون* يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم
[التوبة:20 - 22].
وكما أنه قد يستعين المجاهدون في مجاهدة طائفة من الكفار بطائفة أخرى منهم، كذلك في مجاهدة النفس يقع نظيره، كما يدفع الإنسان ثورة (سورة) الشهوة بالغضب، فإن بالغضب تنكسر الشهوة، كما ينهزم الخنزير من النمر، فالحكيم تارة يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه، ومرة يدفع ضراوة هذا الكلب بتسليط الخنزير عليه، ليجعل الكل مقهورا تحت سياسته، منخرطا في سلك عباد الله المسلمين، ويظهر العدل في مملكة البدن، ويجري الكل على الصراط المستقيم.
إذا تحقق ما ذكرناه فنقول: إن القوة العاقلة - التي هي خليفة الله في مملكة البدن - إذا غلبت بجنودها الذين هم من حزب الله، - كالمعرفة والتقوى والذكاء والصبر وغيرها -، على القوة الوهمية وجنودها وخدامها الذين هم من جنود الشيطان في أول الأمر، وزمان الجاهلية الأولى، وصارت مسلمة بيدها مقهورة تحتها، إذا جاء نصر الله والفتح إياها، ودخلت سائر القوى في دين الله - الذي هو طريق معرفة الحق والعمل بمقتضاها - أفواجا، عند هذا الفتح المعنوي الذي هو عبارة عن مشاهدة حقائق هذه الأشياء كما هي، فبعض هذه القوى منذ صحبت القوة العاقلة قبل حصول الكشف والشهود، كانت مطيعة لأمر الله، خادمة للقوة العاقلة، مؤتمرة بأوامرها، منتهية بنواهيها، منفقة لمادتها البدنية ومحللة لرطوباتها الدماغية الحاملة لها في طريق التفكر في آيات الله وسبيل ملكوته، والمجاهدة مع كفرة الأوهام الكاذبة الفاسدة.
وبعضها كانت عاصية إياها بعد، متمردة عن أوامرها ونواهيها.
فكل قوة أسلمت وأطاعت أمر الله، وأنفقت في طريق المعرفة ما تحمله من المواد الجسمية، وجاهدت في سبيل الله، وعارضت الكفرة والظلمة والفسقة تقربا إلى طاعة الحق قبل الولادة المعنوية والولاة الحقيقية، فهي أعظم أجرا وأجل رتبة من سائر القوى، وأقربها إلى أفق المجردات النورية، وكل من هذه الجنود والقوى له استحقاق الحسنى من عند الله، والمثوبة، إذا أسلمت وصارت مسخرة للقوة العاقلة، ثابتة في طاعتها لأمر الله، ومشايعتها إياها في السلوك إليه تعالى، واستنارتها بنور المعرفة واهتدائها بهداها.
فإن قلت: هذه القوى الجسمانية قائمة بهذه المادة العنصرية، فهي داثرة هالكة غير باقية بعد خراب البدن، فأنى تكون لها المثوبة والسعادة؟
قلت: هذه القوى البدنية الداثرة - ادراكية كانت الحواس، أو تحريكية - كالشهوة والغضب، كلها آثار وظلال للقوى والمشاعر التي هي في ذات القوة العاقلة، فإن لها في ذاتها بصرا وسمعا وذوقا وشما ولمسا - من دون الحاجة إلى البدن -، وكذا لها في ذاتها محبة وقهرا وقبضا وبسطا، ويدا معنوية، وجارحة روحانية، وهذه بمنزلة المعلومات والآثار لتلك، وكما إن الحواس البدنية كلها ترجع إلى حاسة واحدة - هي الحس المشترك -، فجميع حواس النفس ترجع إلى قوة واحدة - هي قوتها النظرية التي تشاهد بها المعقولات، وتتصرف فيها، وتحضرها عند العقل بقدرتها التي لها في ذاتها من دون البدن -.
ألا ترى أن الإنسان في حالة النوم - والتي هي شبيهة لحالة الموت في تعطل الحواس البدنية -، يبصر ويسمع ويذوق ويلمس ويتحرك، مع أن حواسه الظاهرة وكثيرا من قواها العلمية معطلة عن الإدراك والأفاعيل؟.
فللنفس الإنسانية قوى وخدم في ذاتها، وجنود معنوية وآلات روحانية باقية معها في النشأة الأخروية.
وكما أن لها في الدنيا صورا وأشكالا وهيآت تناسبها، فكذلك تحشر يوم القيامة وتظهر بصور وهيآت مناسبة لصفاتها وأعمالها، حين يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
[57.11]
قرئ: فيضعفه، وقرئا منصوبين على جواب الاستفهام، وبالرفع عطفا على " يقرض " ، أو على الخبرية، أي: فهو يضاعفه.
قد شبه تعالى الإنفاق في سبيله بالقرض الحسن، فأطلق هذا اللفظ عليه مجازا لعلاقة المشابهة من إعطاء شيء وأخذ شيء لغرض الإحسان.
- فيضاعفه له - أي: يعطيه الله أجره على إنفاقه مضاعفا بأضعاف من رحمته وجوده، وله أجر كريم في نفسه وقد ضم إليه الأضعاف.
مكاشفة
القرض الحسن عند أهل الله والعرفاء، أن ينفق الإنسان في طريق معرفة الله وسبيل ملكوته والتفكر في آيات جبروته، مواده الدماغية، وأرواحه النفسانية، وقواه الطبيعية، التي هي أعز نقود هذه البلدة وأجناسها، ليعوض عنها ويحصل في قلبه من نفائس الأثمار المعنوية، وشرائف نقود المعارف الإلهية التي بها يصير الإنسان من أكابر الآخرة وأغنيائها، فائقا على الأشباه والأقران، متخلصا من سجن الحسرة والحرمان، وفاقة الجهل والنقصان.
فالله تعالى حيث هيأ أسباب المعرفة والعبادة للناس، سيما ذوي البصائر والأكياس، فكأنه أراد منهم هذا القرض الحسن، بتضعيف أجرهم، وأخبر أن هذا الأجر كريم في نفسه، لأن المعارف الربانية جليلة عظيمة، لأن شرف العلم وكرامته بنسبة شرف المعلوم وكرامته، وليس في الوجود ما هو أكرم وأشرف من ذات المعبود وصفاته وأسمائه وأفعاله، فالسعي في طريقة وصوله ، والإنفاق في ابتغاء وجهه، يكون شريفا كريما أيضا، لأن وسيلة الشيء مناسبة له.
[57.12]
الظرف متعلق بقوله: وله أجر كريم. أو منصوب بتقدير " أذكر " ، تعظيما لذلك اليوم. فعلى الأول معناه: يصل هذا الأجر الكريم إليهم يوم القيامة، - وهو يوم يسعى للمؤمنين نورهم بين أيديهم وبأيمانهم إلى الجنة، فإن الطريق إلى جنة المقربين إنما يكون على الوجه الأول -، لأنها عقلية واقعة في سلسلة الأسباب المؤدية إلى وجود الإنسان، يسلكها العالم الرباني مرتقيا إليها بأنوار المعارف العقلية - وإلى جنة السعداء على الوجه الثاني -، لأنها جسمانية واقعة في السلسلة العرضية المعلولية، فيتوجه إليها أهل النسك والصلاح وأصحاب اليمين، منعطفا إليها بنور العبادة وقوة الأعمال الحسنة، ولهذا المعنى قيل: - اليمين طريق الجنة -.
وقد صرح بعض أهل الكشف والعرفان، بأن البرزخ الذي تكون الأرواح فيها بعد المفارقة من النشأة الدنيوية، هو غير البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام، لان تنزلات الوجود ومعارجه دورية، لكنهما يشتركان في كونهما عالما نورانيا وموطنا ملكوتيا، فالسعداء مطلقا يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
وقوله: { بشراكم } اليوم؛ بمنزلة حال، أي: يسعى نورهم حين يقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: { بشراكم اليوم } ، وهؤلاء الملائكة المبشرون بالجنات مختلفو الدرجات في القرب إليه تعالى حسب تفاوت منازل أهل الجنان في التقديس والخلوص، مع اتفاقهم في حصول الحقائق وصورها الحسان، فالجميع { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم } أي: الخلاص عن كل مرهوب، والظفر بكل محبوب، فإن كل واحد من أهل الجنان له ما يشتهيه وتصل إليه همته، إلا أن الهمم متفاوتة حسب تفاوت الأحوال.
قال ابن عباس رضي الله عنه: " هذا النور يكون على الصراط ". وقيل: " في عرصة القيامة ". ولا نور هنالك إلا نور الإيمان والطاعة، وكل يعطى نورا على قدر علمه (عمله).
مكاشفة
هذا النور المشار إليه في هذه الآية، هو نور المعرفة واليقين، فإن النفس الإنسانية من عالم النور والمعرفة، لكنها بسبب التعلق بعالم الأجسام الكثيفة صارت ظلمانية محجوبة عن الإدراكات ، فإذا ارتاضت ذاتها بالرياضات الدينية والأعمال الشرعية من الأفكار والأذكار والعبادات، وخرجت من مرتبة القوى الهيولانية إلى مرتبة الفعلية، حصل لها العقل المستفاد، وهو نور يستضيء ويضيء في المعاد، فصار نورا على نور. وهذا النور العارض، إنما يقذف في قلب المؤمن من عالم الملكوت، بسبب اكتساب العقليات واليقينيات عند تصوره الخير الحقيقي، أو بسبب اكتساب الاعتقادات المحمودة والظنون الحسنة عند تصوره الخير المظنون.
فالأول: نور عقلي يختص بالمقربين، يسعى بين أيديهم، ويصعد بهم إلى جوار الله وجنات المعارف العقلية التي قيل في وصفها: " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
والنور الآخر: نور يختص بغيرهم من السعداء، يسعى بأيمانهم ويذهب بهم إلى جنات جسمانية منورة غاية ما يتصور فيها لهم وفي حقهم من الصفاء والنورية والضياء. واشراق نور كل أحد بقدر قوة معرفته وإيمانه، ولهذا وقع في الأخبار: " إن أنوار الأخيار والأبرار مختلفة في الإضاءة والآثار ".
قال قتادة: " ان المؤمن يضيء له نوره كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه ".
وقال عبد الله بن مسعود: " ويؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على قدر أبهام قدميه فيضيء مرة وينطفئ أخرى فإذا أضاء قدمه مشى وإذا انطفأ قام ".
ولما كانت الحركة والإدراك متلازمين لقوله تعالى:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21]، فالأول: إشارة إلى قوة التحريك، والثاني: إشارة إلى قوة الإدراك. ثم لكل إدراك حركة تناسبه، فمرورهم على الصراط على قدر نور إيمانهم، ومن كان نوره كالشمس، كان مروره كطرف العين، ومن كان نوره دون ذلك، كان مروره على قدره، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم كالسحاب، ومنهم كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كشد الفرس، والذي أعطي نورا على أبهام قدمه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه يجر يدا ويعلق أخرى، ويجر رجلا ويعلق أخرى، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، وبهذا يقاس تفاوت الناس في المعارف .
ولذلك جاء في الخبر:
" أنه تعالى يخرج يوم القيامة من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ونصف مثقال وربع مثقال، وشعيرة وذرة "
كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان بحسب قوة اليقين وإشراقه، وسرعة التفطن والتحدس بحقائقه وأسراره، وأن هذه المقادير من الإيمان لا تمنع من دخول النار.
وقال بعض العلماء في مفهوم هذا الخبر: " إن من إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار، إذ لو دخل لأمر باخراجه أولا، وان من في قلبه مثقال ذرة لا يستحق الخلود في النار وإن دخلها ".
وقوله تعالى:
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
[آل عمران:139]، تفضيل للمؤمن العارف على المسلم، وهو المقلد مع سلامة قلبه عن النفاق.
وأما قوله تعالى:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات
[المجادلة:11]، فأراد هاهنا " بالذين آمنوا "؛ الذين صدقوا تقليدا من غير علم برهاني أو كشفي، وميزهم عن الذين أوتوا العلم. ويدل ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد - وإن لم يكن تصديقه على بصيرة وكشف -.
وفسر ابن عباس قوله تعالى:
والذين أوتوا العلم درجات
[المجادلة:11] قال: يرفع العالم فوق المؤمن بسبعمأة درجة بين كل درجتين منها ما بين السماء والأرض.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أكثر أهل الجنة البله. وعليون لذوي الألباب ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" فضل العالم على العابد كفضلي على رجل من أصحابي "
وفي كتاب الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر ".
فهذه الشواهد يتضح بها تفاوت درجات أهل الجنان بحسب تفاوت قلوبهم في الإشراق والكدورة.
وملخص القول: ان اكتساب العلوم الحقة، وفعل الحسنات في الدنيا، ينتجان تقرر الأخلاق والملكات، ورسوخ المعارف والاعتقادات، والمعرفة إذ اشتدت صارت مشاهدة عند رفع الحجب بالموت، فمشاهدة كل أحد بقدر معرفته، وهي المراد من النور، إلا أن المعارف اليقينية الدائمة العقلية البرهانية الربانية تورث المشاهدات والمكاشفات العقلية في جنة الكاملين في العلم، والمعارف الظنية الخيالية تورث المشاهدات الجسمانية في جنة أصحاب اليمين، والصور الحسان التي فيها إنما هي بمنزلة تماثيل وعلامات لما في تلك الجنات العلى، لأن العوالم متطابقة والنشآت متوافقة مع تفاضلها في الشرف والرتبة، لقوله تعالى:
وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا
[الإسراء:21].
[57.13-15]
قرأ حمزة: " انظرونا " ، بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء، من " النظرة " ، وهي: الإمهال. أطلق على الإيطاد والتبطي في المشي إلى أن يدرك المتأخر المتقدم. وقرأ الباقون: " انظرونا " بهمزة الوصلة المضمومة، أي: انتظرونا، لأنهم كالبروق الخاطفة مسروع بهم على ركاب تذف، وهؤلاء مشاة حفاة بطيئو السير، أو انظروا إلينا لنستقبلكم بوجوهكم فنستضيء بكم، لأن النور قدامهم فيحصل الاقتباس من نورهم عند المواجهة.
وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب: " لا تؤخذ منكم " بالتاء لتأنيث الفاعل، وقرأ الباقون بالياء، للفصل الواقع بين الفعل والفاعل، ولأن التأنيث غير حقيقي.
وقرئ: " الغرور " بضم الغين، معناه الاغترار - بتقدير المضاف، أي وغرتكم بالله سلامة الاغترار، أي سلامة حالكم مع اغتراركم.
وقال الزجاج: الغرور: كل ما غر من متاع الدنيا.
وقوله: " يقول " بدل: من: " يوم ترى " ، يعني: ذلك اليوم، يوم يقول أهل النفاق للذين آمنوا ظاهرا وباطنا: " انظرونا نستضيء بنوركم ونبصر الطريق فنتخلص من هذه الظلمات " ، لان المنافقين إذا خرجوا من قبورهم اختلطوا فيمشون في نورهم، فيسرع المؤمنون بقوة إيمانهم، فيتباعد المنافقون عنهم بالتخلف، فيقطع أثر نورهم عنهم.
قيل ارجعوا وراءكم: القائل: إما المؤمنون، أو الملائكة الهادون لهم. ارجعوا إلى الموقف خلفكم فالتمسوا هنالك النور حيث أعطيناه، فمن ثم يقتبس ويحمل، فيرجعون فلا يجدون نورا لظنهم أنهم أخذوا النور من موضع هناك، ولا يعلمون أن هذا النور يكتسب في الدنيا بتحصيل سببه - وهو الإيمان -، بل هذا النور وهو نفس الإيمان والمعرفة ليظهر إشراقه عند القيامة. وقولهم: " ارجعوا " ، توبيخ في صورة الأمر، لاستحالة هذا الرجوع أو التناسخ. أو أمر بمعنى: تنحوا عنا خائبين، فالتمسوا نورا آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور. وهو إقناط وتخييب لهم، لأنهم يعلمون أن لا نور وراءهم، ويحتمل أن تكون للمنافقين مرتبة ضعيفة من النور غير كافية للمشي إلى الجنة وهم يدعون الزيادة، فوقع المنع لهم من المؤمنين: أن ليس لكم إلا ما اكتسبتم من خلفكم - أي الدنيا - فارجعوا من هذا الاطلاع على ما وراءكم فالتمسوا نورا من عملكم واكتفوا به ضرورة، فيكون امرا تحقيقا.
فضرب بينهم - أي بين الفريقين - بسور: والباء مزيدة - أي حجاب حائل بين شق الجنة وشق النار. وقيل: هو حائط بين الجنة والنار. وقيل: هو الأعراف.
له باب - أي: لذلك السور باب، وقيل: أي طريق لاهل الجنة يدخلون إليها. باطن السور أو الباب الذي يلي الجنة، فيه الرحمة، وظاهره الذي يظهر لاهل النار - من قبله - أي من عنده ومن جهته، العذاب، وهو الظلمة والنار.
ينادونهم - أي: ينادى المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في الدنيا والمنازل والمساجد نصلي كما تصلون ونصوم كما تصومون - بناء على أنهم وافقوا المؤمنين في الأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وغير ذلك - قالوا بلى كنتم معنا في ظواهر الأعمال دون بواطن النيات والمعارف - ولكنكم فتنتم أنفسكم - أي محنتموها بالنفاق وأهلكتموها. وقيل أثمتم، وتربصتم - أي: انتظرتم بالمؤمنين الدوائر، أو بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قالوا:
نتربص به ريب المنون
[الطور:30]. وقيل دافعتم الأوقات بالإيمان بالله ورسوله على الإخلاص. وقيل: أخرتم التوبة، - وارتبتم - أي: شككتم في حقيقة الإسلام. أو في البعث، - وغرتكم الأماني - الكاذبة والآمال الطويلة، - حتى جاء أمر الله - وهو الموت وما بعده. - وغركم بالله الغرور - أي: الشيطان، بأن الله لا يعذبكم لأنه غفور كريم، ولم يفقهوا أن منشأ العذاب خسة جوهرهم وقبح سريرتهم، أو الاغترار والطمع في الدرجات الأخروية من غير سبق عمل، كما حكى الله عن بعضهم:
ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا
[الكهف:36].
- فاليوم لا يؤخذ منكم فدية - أي: ما يفتدى به، - ولا من المعلنين بالكفر، - هي موليكم -، أي هي أولى بكم، كما في قول لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه
مولى المخافة خلفها وأمامها
أو: هي ناصركم، أي: لا ناصر لكم سواها. والمراد نفي الناصر على القطع . ومن هذا القبيل قوله تعالى:
يغاثوا بمآء كالمهل
[الكهف:29]، ونحو قول العلماء: الحق تعالى موجود لذاته بذاته في ذاته. أي: لا لغيره ولا بغيره ولا في غيره.
وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا وأعمال أهل النار.
مكاشفة
إعلم أن الدرجات الأخروية ودركاتها تتوزع على الحسنات والسيئات، فإن مبادئ أحوال الآخرة أحوال الدنيا، لأن الدنيا عبارة عن حالتك قبل الموت، والآخرة عبارة عن حالتك بعد الموت، وقدومك إلى الله، فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك، يسمى الداني منها " دنيا " ، والمتأخر " آخرة " ، وهما من جنس المضاف، يعرف مفهوم كل منهما مع الآخر، والانتقال من الأولى إلى الأخرى كالانتقال من المحسوس إلى المعلوم، ولهذا المعنى قيل: " من فقد حسا فقد علما ".
فالآخرة نشأة علمية، وكما أن في هذا اليوم المعلوم غائب، والمحسوس حاضر، ففي يوم الآخرة على عكس ذلك، يتجلى الغائب ويخفى الظاهر، لأنها
يوم تبلى السرآئر
[الطارق:9]، ونحن الآن نتكلم في هذه النشأة الدنيا الحسية من النشأة الأخرى العلمية، ولا يتصور شرح النشأة العلمية لمن هو في عالم المحسوس - من حيث هو في عالم المحسوس - إلا بمثال، فإن من تفطن بالعقليات فهو إنما يعقلها من حيث كونه في عالم المعقول، كما قال الله تعالى:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت:43].
وما ذاك لأن هذا العالم نوم بالإضافة إلى ذلك العالم، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا ".
وما سيكون في اليقظة لا يتبين في النوم إلا بضرب الأمثال المحوجة إلى التعبير، وكذا ما سيكون في يقظة الآخرة، لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كسوة الأمثال على طرز ما يثبت في علم التعبير، فإن التعبير من أوله إلى آخره أمثلة، فيعرفك ممارسة ذلك العلم طريق ضرب الأمثال.
وليس للأنبياء (عليهم السلام) أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال، لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم لأنهم في حالة النوم، والنائم لا يكشف له شيء إلا بمثل، فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن المثل صادق.
وإنما يعنى بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجد صادقا، وإن نظر إلى صورته وجد كاذبا.
فإذا تقرر هذا فنقول: هذه الآية مثال يوضح به سوء عاقبة حال أهل النفاق، ووخامة مآل المغرورين من الجهال، المتشبهين بأصحاب الكمال، فإنهم باشتغالهم بظواهر الأعمال الحسنة الممدوحة عند الجمهور - كمدارسة العلوم وفعل الطاعات -، ظنوا أنفسهم علماء أخيارا، وهم مع ذلك من الحمقى الأشرار، وهم عند أنفسهم من المقربين، وفي نفس الأمر من الفجار المنافقين، والله يشهد أنهم لكاذبون.
وذلك لأنهم لم يراقبوا قلوبهم، ولم يهذبوا أعمالهم من الأغراض الدنيوية والشهوانية، فإذا انكشف الغطاء، وارتفع الاشتباه والمغالطة، ظهر أن قلوبهم من أنوار المعرفة خلاء، وأيديهم من آثار الهداية صفر، وهم في ظلمة الجهل والاغترار مغروقون، وفي مضائق عالم الجهل محبوسون، لا ينكشف لهم من طريق الحق موضع قدم لفقد نور البصيرة عنهم أصلا، ولا في باطنهم قوة السلوك إليه رأسا.
وذلك لعدم قصد منهم وتوجه لهم شطر الحق خالصا، أما الإدراك: فلم يدركوا إلا اعتقادات موروثة تعصبية مبتنية على أغراض نفسانية، فرسخت في قلوبهم وصارت مسامير مؤكدة، لان طبائعهم كانت أليفة إليها في مبادئ النشوء أنيسة بها، وقد أخذوها من معلميهم بحسن الظن في أول التعاليم، فصارت حجابا لهم عن إدراك الحقائق الحقة، فبقوا في ظلمة شديدة ولا أوحش منها.
وأما العمل: فإنه فرع العلم، فمتى لم يكن المعبود في التصور معبودا حقا، لم تكن العبادة له عبادة للحق، فلم ينتج ذهابا إليه وقربانا منه.
فنقول: قوله سبحانه: انظرونا نقتبس من نوركم - مثال لحال بعض المتشبهين بالعلماء من أهل الظاهر، حيث انتبه قليلا في آخر أمره عند خمود حرارة الشهوات والأغراض الدنيوية، وانطفاء أنوار الحواس، وفتور القوى، على فقدان نور المعرفة، وبرد اليقين في قلبه، ومع ذلك مغرور من جهة أنه يظن أنه بأدنى اشتغال إلى التعلم، وطلب استفاضة أنوار المعارف من حامليها من المعلمين على الحقيقة، يصير ذا علم ومعرفة ونور عقلي، فيتوجه نحو المؤمنين حقيقة والعلماء حقا، فيخاطبهم ويأمرهم بالتوجه إليه والإلتفات نحوه قائلا: انظرونا نقتبس من نوركم - ظنا منه أن ذلك منة عليهم، لأنه من جملة المعتبرين عند نفسه وعند بعض الحمقى الجاهلين.
فالعلماء حقا، لحسن إرشادهم وغاية إشفاقهم على أمثاله من الناقصين، يهدونهم طريق السلوك إلى الحق، ويرشدونهم إلى كيفية استفاضة المعارف قائلين: إن لكل مسألة من المسائل الإلهية والأسرار الناموسية مبادئ ومقدمات، لا يمكن التفطن إلى تلك المسألة إلا بعد تفطنها، سواء كان بحدس وحركة سريعة - كما هي طريقة الأنبياء والأولياء وذوي الأبصار -، أو بفكر وحركة بطيئة - كما هي طريقة العلماء والنظار وأولي الاعتبار -، وقبل الخوض في العقليات واستحصالها، يجب الاشتغال بعلم اللغة، والنحو، والصرف، وعلم الأخلاق، وعلم الحلال والحرام، ومن لم يحصل شيئا منها على وجهه مع نية صادقة واخلاص في العمل، لا يمكنه الدخول في فقه الأسرار وعلم الأنوار، لقوله تعالى:
وأتوا البيوت من أبوابها
[البقرة:189] فقوله تعالى:
قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
[الحديد:13]، إشارة إلى هذا الحال.
ومن هذا القبيل، ما حكاه الله سبحانه عن حال الجاهلين المغرورين من أصحاب النار، وامتناع استفاضتهم المعارف من المعلمين والرؤساء الذين هم من أصحاب الجنة بقوله سبحانه:
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله
[الأعراف:50]، أي من ماء المعارف الإلهية التي تكون بها الحياة الأخروية العقلية، أو شيء من سائر العلوم العقلية التي رزقها الله للعلماء مزيدا لكمالهم وحالهم:
قالوا إن الله حرمهما على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون
[الأعراف:50 - 51].
ومثال هذه الحكاية: أن رجلا شيخا من الجهال كان بليدا في أصل الفطرة، فاشتغل في أيام عمره بشيء من العلوم التي لا تسمن ولا تغني، ثم تصدى للأمور الدنيوية كالقضاء وتولية الأوقاف وغيرهما من الأعمال التي يتقلدها المتشبهين بأهل العلم في أكثر الأزمان - من غير استئهال -، وهذا الشيخ الجاهل البليد، لم يتعلم أيضا من المقدمات شيئا يعول عليه في اكتساب العلوم اليقينية، ولم يمارس المقاصد الإلهية أصلا، فيقول لعالم رباني ارتاضت نفسه بفنون من العلوم العقلية وغيرها: " أفض على قلبي دقائق علومك الإلهية " ، فيقول: " إن الله حرمه على الجاهلين ".
معناه: ان الاستعداد لقبوله، إنما يكتسب بذكاء أصلي وممارسة طويلة، بعد تعلم ما يتوقف عليه من العلوم الأدبية وغيرها، مع اخلاص في النيات، وتنزه عن الفحشاء والمنكر والبغي - من الأغراض الشهوية والغضبية والشيطانية -، وإذا بطل الاستعداد وفاتت المناسبة الأصلية فاستحالت الاستفاضة وحرمت، كما يستحيل إفاضة العلوم العقلية على أجسام البهائم والسباع التي لا شغل لها سوى طاعة الشهوة والغضب التي أمرت نفوسها، لأن الناطقة التي خدمت القوة الشهوية، منزلتها منزلة أبدان البهائم المطيعة لنفوسها، بل أنزل منها رتبة - كما بيناه في تفسير قوله تعالى:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179].
وأما قوله تعالى: فضرب بينهم بسور له باب - إلى آخره -؛ فهو مثال لصورة الشريعة الحقة التي ظاهرها حصن يحرس الناس عن المقاصد والأعمال القبيحة، والعقائد الباطلة، ومن تطرق إغواء المضلين والشياطين من أهل البدع والمذاهب الجاهلية. وباطنها أسرار حقة وأنوار محضة، بها يصل العبد إلى رحمة الله ورضوانه، فالشريعة سوط الله بها يسوق عباده إلى رضوانه، فمن نظر إلى صورة السوط الذي هو لأجل تأديب المستعدين، لم ير منه إلا أنه عذاب اليم، ومن نظر إلى الغرض المكمون في باطنه يعلم أنه محض الشفقة.
وكذا من اغتر بظواهر الشريعة من غير تدبر في أسرارها وبواطنها، لم ير فيها إلا تعب الجوارح ورياضة الجسد الموجب لظلمة الإعياء، لا سير الفكر الموجب لزيادة النور في قلوب العقلاء، فيثقل عليه حملها والعمل بها، لعدم اطلاعه على المقصود منها.
أو لا ترى إلى الصلاة
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
[البقرة:45] فإنها قرة عيونهم، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" جعل قرة عيني في الصلاة ".
ظاهرش برتن لئيمان بند
باطنش بردل حكيمان بند
وأما قوله تعالى: { ألم نكن معكم } [الحديد:14]: حكاية لحال المنافقين المغترين بأعمالهم التي توافق أعمال المستبصرين في الصورة، إلا أنها كانت مشحونة بأنواع الأغراض الشيطانية والشرك الخفي، من طلب الجاه والمنزلة عند الناس، والتفوق على أهل الله بسبب التقرب إلى الظلمة والأمراء، وتعجبهم من تخلفهم عن مراتب الرجال، وسلوكهم طريق الضلال مع توافقهم مع هؤلاء في الأفعال والأعمال.
وقوله تعالى: { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } [الحديد:14] - إلى آخر الآية - كشف فضائحهم، وإيضاح أحوالهم، وهتك أستارهم، لان الآخرة يوم الحساب ويوم تبلى السرائر. أي: جعلتم أنفسكم بسبب مباشرة تلك الأعمال ممتحنة بفنون الأغراض الدنيوية والمحن الشديدة حالا أو مآلا، كل ذلك طلبا للجاه الوهمي وتهالكا على الترأس الخيالي والتبسط في البلاد، والشهرة عند العباد، وتربصتم الفساد والهلاك - ولو ضميرا - لمن خالفكم ولم يصدقكم في آرائكم الباطلة، ولم يمكنكم في طلب الترفع وإن كانوا على الحق، وأضمرتم النفاق والفساد لأهل الحكمة والمعرفة - وهم المؤمنون حقا -، وشككتم في دينكم منذ كنتم لتصادم الشكوك وتعارض الأدلة التي لا يخلص منها إلا المخلصون - وهم على خطر عظيم وخوف ووجل شديد - وغرتكم الآمال التي منشؤها ظواهر الأعمال، وغركم بالله الشيطان، وشركه وحبائله وخدعه وغروره، أكثرها يعتري المنتسبين إلى العلوم الدينية من غير تهذيب الباطن - عصمنا الله وإخواننا الصالحين حيثما كانوا -.
وعلى ما ذكر يكون شديد المناسبة إليه.
[57.16]
قرأ نافع: " وما نزل " خفيفة الزاي. والباقون بالتشديد. فعلى الأول يكون المرفوع ضميرا عائدا إلى الموصول، وعلى الثاني هو عائد إلى الله، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب محذوف من الصلة.
وقرأ رويس: " ولا تكونوا " بالتاء على الالتفات، أو على النهي عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب. والباقون بالياء عطفا على " تخشع ".
ألم يأن - من " أنى الأمر يأني ": إذا جاء أناه، أي وقته. و " الخشوع ": لين القلب والانقياد للحق، ومثله " الخضوع ". و " القسوة ": غلظ القلب بالجفاء عن قبول الحق. و " الحق ": ما دعا إليه العقل السليم من الأمراض النفسانية، وهو الذي من عمل به نجا، ومن عمل بخلافه هلك.
وهذه الآية قيل: إنها نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وقيل: إنها نزلت في المؤمنين.
قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا.
وعن ابن عباس: ان الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن بهذه الآية.
وعن الحسن: أما والله لقد استبطأهم الله وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون، فانظروا في طول ما قرأتم منه، وما ظهر فيكم من الفسق.
وقيل: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة سنين، فتغيروا عما كانوا عليه، وينبغي للمؤمن أن يزداد يقينا وإخلاصا في طول صحبة الكتاب.
والمعنى: أما حان للمؤمنين - أي المنتسبين إلى الإيمان - أن تخشع قلوبهم وترق لذكر الله - مما يذكرهم الله وصفاته وأفعاله، وكيفية كونه مبدأ للعباد ومعادا لهم يوم الميعاد، وما نزل من الحق من الآيات والنذر القرآنية؟، والمراد من الخشوع لها: خشية القلوب عند ذكر الله، وتقوي إيمانهم عند تلاوة آياته، كقوله:
إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا
[الأنفال:2].
ومن شدد فالمراد ما نزله الله من المعارف الحقة.
ولا يكونوا - كأهل الكتاب الذين كانوا في العهد الأول فطال عليهم الأمد، أي: الزمان بينهم وبين نبيهم، أو الأمد للجزاء - أي: لم يعاجلوا بالعقوبة أو مجيء القيامة. وقرئ: " أمد " أي الوقت الأطول، فاغتروا بذلك، فقست قلوبهم - أي: غلظت وجفت، - وكثير منهم فاسقون - خارجون عن دينهم، متمرنون على المعاصي، معتادون بها، فكانوا بحيث لا ينفعهم نصح الأنبياء، ولا ينجع معهم وعظ الواعظين، ومن لا ينفعه في الدنيا نصح الناصحين، لا تنفعه في الآخرة شفاعة الشافعين، فلا تكونوا مثهلم فيحكم الله فيكم بمثل ما حكم فيهم.
مكاشفة
ينبغي أن يكون هذا الخطاب متوجها إلى جماعة مخصوصين من أهل الإيمان ومعالم الدين، لم يوجد منهم خشوع فحثوا على الرقة، كما يدل عليه قوله تعالى: ألم يأن. أي أما حان وقت الخشوع منهم فكيف فعله؟ ففي الآية تنبيه عظيم وإشعار بليغ على قبح سير أولئك المخصوصين، وفساد بواطنهم وقسوة قلوبهم، حيث نهوا عن مماثلة إليهود والنصارى الذين كانوا أغلظ الناس قلبا، وأسوأهم ضميرا وأظلمهم باطنا في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك لما نقل أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين مشتهياتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان، غلب عليهم الجفاء والقسوة فاختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره.
وأكثر من وردت التشديدات العظيمة في حقهم في القرآن والحديث هم علماء السوء الذين كان قصدهم من الاطلاع على معالم الدين وتعلم مناهج الشرع المبين التنعم بالدنيا والتوسل إلى الجاه والمنزلة عند ذويها وبنيها، فدلت الأخبار والآثار من المصطفين الأخيار، وشهدت بصائر أصحاب الاستبصار، وأنوار ضمائر أرباب الفكر والمتفكرين في مراتب الصنع والإيجاد الفائضة عن الله القهار، على أن أشد الأشرار عذابا في النار هم علماء السوء الذين تكون ظواهرهم الأخيار وبواطنهم بواطن الكفار.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ".
والسر في ذلك، أنهم يريدون أن يتوسلوا بأشرف الأشياء - وهو العلم بالله وأحكامه - إلى أخس الأشياء - وهو الجاه المنزلة في الدنيا، والتفاخر بما فيها، والركون إلى زخارفها، والإخلاد إلى الأرض -. وهذه أمور وهمية باطلة كما قال الله تعالى
وما هذه الحياة الدنيآ إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت:64].
وقال:
أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد
[الحديد:20]. فقد مثل الله تعالى الدنيا وشهواتها في كثير من آيات القرآن بأمور وهمية باطلة تغتر بها نفوس الجاهلين والناقصين، كما في قوله تعالى:
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا
[النور:39]. فويل لمن يعد نفسه من العلماء وهو في الحقيقة من الحمقى الجاهلين المغترين بلوامع السراب، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا. فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
ومثل الله تعالى في القرآن بلعم بن باعورا - وكان عالما فاجرا أخلد إلى الشهوات -، بالكلب حيث قال سبحانه:
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها
[الأعراف:175] حتى قال:
فمثله كمثل الكلب
[الأعراف:176]، في الإخلاد إلى الشهوات، سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت، فهو مصر فيها، مخلد إليها.
وقيل: مثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها خضر وباطنها نتن، ومثل قبور الكفرة والظلمة، ظاهرها عامر وباطنها اللعنة والعذاب.
همجو كور كافران بيرون حلل
وز درون قهر خدا عز وجل
وقد قيل: أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وزوالها وانصرامها، وعظم أمر الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها، ويعلم أنهما متضادان متفاسدان، مهما صلحت إحداهما فسدت الأخرى، وإنهما كالضرتين مهما ارتضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فإن من لم يعلم حقارة الدنيا وكدورتها، وانصرام ما يصفو منها بحسب الوهم، فهو فاسد العقل، فكيف يعد من لا عقل له من العلماء؟ ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان، فكيف يكون من لا إيمان له من العلماء؟ ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما مستحيل فهو جاهل بشريعة الأنبياء كلهم - صلوات الله عليهم أجمعين - بل كافر بالقرآن من أوله إلى آخره، فكيف يعد من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم يؤثر الدنيا على الآخرة، فهو جاهل أسير شيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته، فكيف يعد من أحزاب العلماء من هذه درجته في الخسة؟
فهذا دليل واضح على أن من آثر الدنيا على الآخرة فهو مغرور، وقد ركب فيه جهل الجهال وفتنة الدجال.
وكتب رجل إلى أخ له: " إنك قد أوتيت علما فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم ".
وقال عيسى (عليه السلام): " كيف يكون من أهل العلم، من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه "!
وقال صالح بن كيسان البصري: " أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة ".
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" أوحى الله إلى بعض الأنبياء: " قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون للناس جلود الكباش، وقلوبهم قلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر: إياي يخادعون، وبي يستهزؤون، لأفتحن لهم فتنة تذر الحكيم حيرانا " ".
وإليه أشار قوله تعالى:
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون
[البقرة:9 - 10].
وقوله تعالى:
الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون* أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
[البقرة:15 - 16].
وفي طريق أهل البيت (عليهم السلام): أحاديث كثيرة في ذم علماء الدنيا المعرضين عن الآخرة.
منها: ما رواه الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الكافي بسنده عن سليم بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" منهومان لا يشبعان - طالب دنيا وطالب علم - فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير حلها هلك، إلا أن يثوب أو يراجع، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجى، ومن أراد به الدنيا فهي حظه ".
وعن أبي عبد الله (ع): من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب.
وعنه (ع) قال: إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أوحى الله إلى داود (ع): لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم.
وعن أبي جعفر (ع) قال: من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوء مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها.
وعن علي بن إبراهيم - رفعه إلى أبي عبد الله (ع) قال: طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل .
فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار، متعرض للمقال في أندية الرجال، بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.
وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق، يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله على هذا خبره، وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنك في برنسه، وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشى، وجلا داعيا مشفقا، مقبلا على شأنه، عارفا بأهل زمانه، مستوحشا من أوثق إخوانه، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه.
وعن الحسين الصيقل، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل، فلا معرفة له، إلا أن الإيمان بعضه مثل بعض.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): - أنه قال في كلام له -: العلماء رجلان: عالم آخذ بعلمه، فهذا ناج. وعالم تارك لعمله، فهذا هالك. وان أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وان أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الله الجنة وأدخل الداعي النار بترك علمه واتباعه الهوى وطول الأمل.
أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة.
فهذه الأخبار تبين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا، أخس حالا وأشد عذابا يوم القيامة من الجاهل، وأن علماء الآخرة هم الفائزون المقربون، ولهم علامات:
منها: ما مر ذكرها من إعراضهم عن الدنيا وزخارفها، وزهدهم في شهواتها، وإقبالهم إلى الآخرة، ورغبتهم في درجاتها ومعارفها وحقائقها.
ومنها: أن يكون أكثر اهتمامهم بالمعارف الباطنية، ومعرفة عالم الملكوت والروحانيات، وأسرار المبدأ والمعاد، ومعرفة النفس الإنسانية، وكيفية ارتقائها إلى الكمال، وخلاصها من النقص، وطريقها إلى الآخرة، حتى تصير نفسه عالما معقولا موازيا للعالم المحسوس، مشاهدا لصورة (كمال) الكل، آخذا هيئة الوجود من المبدأ الأول - إلى الترتيب الصدوري النزولي منه، والعروجي إليه - وكيفية استكشاف هذه الأمور بالمجاهدة والمراقبة ومباشرة العبادات والأعمال الظاهرة والباطنة، والجلوس مع الله في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة، والانقطاع إلى الله عما سواه، فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف، فلا تكون مزاولتهم للعلوم الشرعية الظاهرة أكثر من مواظبتهم على المعارف الإلهية، بل ما لم يحيطوا بحظ وافر منها لم يشتغلوا باستقصاء مسائل الحلال والحرام إلا ما هو الواجب العيني بقدر ما لا بد منه - دون الواجب الكفائي الذي يقوم كل أحد فيه مقام الآخر -، وذلك لوجوب الاشتغال أولا بالأهم - والأهم: هو العلم بالله وملكوته وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، دون العلم بأوامره ونواهيه.
كما قال الشيخ الفاضل والفقيه الكامل زين المجتهدين رحمه الله - ناقلا في بعض مؤلفاته عن بعض المحققين -: العلماء ثلاثة:
عالم بالله غير عالم بأمر الله، فهو عبد استولت المعرفة الإلهية على قلبه، فصار مستغرقا لمشاهدة نور الجلال والكبرياء، فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه.
وعالم بأمر الله غير عالم بالله، وهو الذي يعرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام، لكنه لا يعرف أسرار جلال الله.
وعالم بالله وبأمر الله، فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات، فهو تارة مع الله بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم كأنه لا يعرف الله، وإذا خلا بربه. مشتغلا بذكره وخدمته، فكأنه لا يعرف الخلق.
فهذا سبيل المرسلين والصديقين، وهو المراد بقوله (عليه السلام): سائل العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكبراء.
والمراد بقوله: " سائل العلماء " العلماء بأمر الله غير العالمين بالله، فأمر بمساءلتهم عند الحاجة إلى الاستفتاء، وأما الحكماء، فهم العالمون بالله الذين لا يعلمون أوامر الله، فأمر بمخالطتهم. وأما الكبراء فهم العالمون بهما، فأمر بمجالستهم، لأن في مجالستهم خير الدنيا والآخرة.
ثم قال: ولكل واحد من الثلاثة ثلاث علامات: فللعالم بأمر الله: الذكر باللسان دون القلب، والخوف من الخلق دون الرب ، والاستحياء من الناس في الظاهر ولا يستحي من الله في السر.
والعالم بالله: ذاكر، خائف. مستحي. أما الذكر: فذكر القلب لا اللسان، والخوف: خوف الرجاء لا خوف المعصية، والحياء: حياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر.
وأما العالم بالله وأمره له ستة أشياء: الثلاثة المذكورة للعالم بالله فقط مع ثلاثة اخرى: كونه جالسا على الحد المشترك بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وكونه معلما للمسلمين، وكونه حيث يحتاج الفريقان الأولان إليه وهو مستغن عنهما فمثل العالم بالله وبأمر الله، كمثل الشمس لا تزيد ولا تنقص، ومثل العالم بالله فقط، كمثل القمر يكمل تارة وينقص اخرى، ومثل العالم بأمر الله، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء غيره - انتهى كلامه -.
ومنها: أن لا يكون متسرعا إلى الفتوى مشتاقا إليه، بل يكون متوقفا متحرزا ما وجد إلى الخلاص سبيلا، فإن سئل عما يعلمه تحقيقا بنص كتاب أو نص حديث أو إجماع أو مشاهدة باطنية جلية أفتى، وإن سئل عما شك فيه قال: لا أدري، وهذا لفظ كأن علماء هذا الزمان حرموا على أنفسهم التلفظ به عند الاستفتاء منهم.
وفي الخبر: أن العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري.
وقيل: " من سكت حيث لا يدري لله فليس أقل أجرا ممن نطق " ، لان الاعتراف بالنقص أسد على النفس، فثوابه أزيد، وهكذا كانت عادة السابقين، وكان بعضهم يقول حين سئل عن الفتوى، أتريدون أن تجعلونا جسرا تعبرون علينا إلى جهنم.
قال ابن مسعود: " الذي يفتي الناس لمجنون ".
ومنها: أن يكون أكثر بحثه في علم الأعمال عما يفسدها، ويشوش القلب، ويهيج الوسواس، ويثيب الشرور، وذلك للتوقي عنه والاحتراز من الشر، لا للمرايا والمماراة، كما أن وضع علم المغالطات في المنطق إنما هو لكي يحترز الإنسان عن الغلط، لا لأن يوقع غيره في الغلط.
وأما علماء الدنيا فأكثر اهتمامهم بتتبع غرائب التفريعات في الأقضية والحكومات، والتعب في استنباط الصور الدقيقة والاحتمالات البعيدة التي تنقضي الدهور ولا يقع مثلها، وإن وقع كان لغيرهم لا لهم، ومع ذلك لا تخلو الأرض عمن يقوم باستنباطها والشغف بتحصيلها طلبا للجاه والشهرة، حسبما قدره الله وأودع في غريزة كل أحد ما يناسبه وتنتظم به أمور غيره في عالمه، وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم بمهم غيره النادر، إيثارا لخدمة الخلق وقبولهم على القرب من الله، وحضوره عنده، وتهالكا على أن يسميه البطالون فاضلا عالما بالدقائق، وجزاؤه من الله تعالى ما ذكره بقوله:
أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم
[آل عمران:77].
ومن علامات علماء الآخرة وأولياء الله، ومجامع نعوتهم، أنهم منبعثون من موت الجهالة، منتبهين من رقدة الغفلة، عارفين بحقائق الأشياء، مشاهدين حساب يوم الدين، قوم تستوي عندهم الأماكن والأزمان، وتغاير الأمور وتصاريف الأحوال، فقد صارت الأيام كلها [عندهم] عيدا واحدا، وجمعة واحدة، وصارت الأماكن كلها مسجدا واحدا، والجهات كلها محرابا واحدا - وذلك لخروجهم بعقولهم الصافية وأذهانهم العالية عن مطمورة عالم الزمان والمكان -، وتوجهت قلوبهم شطر الحق، وتولت ذواتهم وجه الله، فصارت حركاتهم كلها عبادة لله، وسكناتهم كلها طاعة له، واستوى عندهم مدح المادحين وذم الذامين، لا تأخذهم في الله لومة لائم، قياما لله بالقسط، شهداء لله بالحق، وهم على صلواتهم دائمون، تحققوا بقوله تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة:115].
لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم
[الحديد:23].
وصار دعاؤهم مستجابا، لأنهم لا يسألون إلا ما يكون، ولا يكون إلا ما قد كان في سابق العلم، فقلوبهم في راحة من التعلق بالأسباب، وأرواحهم فارغة من التكلف بما لا يعني، ونفوسهم ساكنة عن الوسواس، وأبدانهم في راحة من أنفسهم، والناس منهم في راحة وأمان، لا يريدون لأحد سوء ولا يضمرون لأحد شرا - عدوا كان أو صديقا -، وذلك لعلمهم بحقارة الدنيا وخسة شركائها ودثور أهلها، وارتفاعهم عن الالتفات إلى هذا المنزل الأدنى.
كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم ".
وقال أيضا: " ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ".
ان أردت يا حبيبي أن لا يشتبه عليك الفرق بين علماء الدنيا المغترين بلامع السراب:
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف:104]. وبين علماء الآخرة الناجين من عذاب يوم الحساب، الفائزين بشهود رب العالمين، فتأمل فيما وصفناه، وتذكر ما ذكرناه من خواص أهل الله، لتعرف منه خواص أضدادهم وأضداد خواصهم، وإن شئت زيادة التميز بين هاتين الطائفتين، فتأمل في حكاية وقعت بين رجلين، أحدهما من أولياء الله وعباده الصالحين الذين أنجاهم من عذاب جهنم وأعتقهم من أسرها، وأخلص نفوسهم من عداوة أهلها، وأراح قلوبهم من آلام المعذبين فيها. والآخر من الهالكين المعذبين فيها بألوان (بأنواع) العذاب، المحترقة قلوبهم بحرارة عداوة أهلها، المتألمة نفوسهم بعقوباتها.
قال الناحي للهالك: كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت في نعمة من الله، طالبا الزيادة راغبا فيها، حريصا على جمعها، ناصرا لدين الله، معاديا لاعدائه، محاربا لهم.
فقال الناجي له: من أعداء الله؟
قال: كل من خالفني في مذهبي واعتقادي.
قال: إن ظفرت بهم ماذا تفعل؟
قال: أدعوهم إلى مذهبي ورأيي واعتقادي.
قال: فإن لم يقبلوا منك؟
قال: أقاتلهم وأسفك دماءهم وأسبي ذراريهم.
قال: فإن لم تقدر عليهم؟
قال: أدعو عليهم ليلا ونهارا، وألعنهم في صلاتي.
كل ذلك قربانا إلى الله تعالى.
قال الناجي: فهل تعلم أنك إذا دعوت عليهم ولعنتهم أيصيبهم شيء؟
قال: لا أدري، ولكن إذا فعلت ما وصفت لك وجدت لقلبي راحة ولنفسي لذة، ولغليل صدري شفاء.
قال له الناجي: أتدري لم ذلك؟
قال: لا. ولكن قل أنت.
قال: لأنك مريض النفس، معذب القلب، معاقب الروح. لأن اللذة إنما هي الخروج من الألم، وليس في هذا الذي ذكرته من أحوالك شيء من تصلب في الدين، ولا تقوية للشرع المبين، وإنما هي خدمة لقوتك الغضبية التي تسلطت عليك، وجعلت قلبك مسخرا لها في دواعيها، رهينا لمآربها السبعية. وقد استهزأ بك الشيطان حيث غرك بأن هذا ترويج للدين، وخدمة للشرع المبين، وبه تمن على سيد المرسلين - عليه وآله الصلاة والسلام -، شبه ما حكاه الله سبحانه عن بعض المنافقين بقوله:
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم
[الحجرات:17].
واعلم بأنك محبوس في طبقة من طبقات جهنم - وهي:
ومآ أدراك ما الحطمة* نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة:5 - 7]. وإنما تشاهد عذابها يوم القيامة عيانا، إلا أن تتقي منها بالفكر الصحيح والعقل السليم، وتتخلص بنفسك من عذابها، وتنجو بقلبك من عقابها إنشاء الله، كما وعد بقوله:
ثم ننجي الذين اتقوا (بمفازتهم) ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:72].
ثم قال الهالك للناجي: فأخبرني أنت عن رأيك ومذهبك وحال نفسك.
قال: نعم، أما أنا، فإني قد أصبحت في نعم الله واحسان لا يحصى عددها ولا يؤدى شكرها، راضيا بما قسم لي وقدر، صابرا لأحكامه، لا أريد لأحد من الخلق سوء، ولا أضمر له دغلا، ولا أنوي لهم شرا. نفسي في راحة، وقلبي في فسحة، والخلق من جهتي في أمان. أسلمت لربي، مذهبي وديني دين أبي إبراهيم (عليه السلام)، أقول كما قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
[إبراهيم:36].
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
[المائدة:118].
واعلم أيها السالك إلى جوار الله، أن أمثال هذه الآراء والاعتقادات كثيرة، وأكثر هذه الجدليات مؤلمة لنفوس معتقديها ومعذبة لقلوبهم، وهو جزاء لنفوسهم وعقوبة لهم في الدنيا إلى وقت معلوم وأجل معدود، وفي الآخرة أشد وأدهى، وهي إذا اشتدت في الآخرة بحسب الظهور والتحقق صارت نيرانا ملتهبة نزاعة للشوى، وحرقات مشتعلة فظاعة قطاعة للقلوب كما أشار إليه بقوله:
فإذا جآءت الطآمة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى
[النازعات:34 - 36]. وقوله:
كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين
[التكاثر:5 - 7].
واعلم أنه لا يصل الإنسان إلى معرفة الله على الحقيقة، إلا بعد جوازه على بعض هذه الآراء الفاسدة - إما في أيام صباه أو بعد ذلك -. ثم إن الله يهدي من يتقي الشرك به وينجيه منها كما وعد وقال:
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:71 - 72].
[57.17]
قيل: يحييها بالنبات بعد يبسها وجدوبتها، فكذلك يحيي قلب الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالضلال والكفر. وقيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وإنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض. وقيل: معناه: إن الله يلين القلوب بعد قسوتها بالألطاف والتوفيقات.
قد بينا لكم الآيات -: من شواهد العقل والنقل، كالحجج الواضحات، والدلائل الباهرات - لعلكم تعقلون -: فتعلمون بمقتضاها وترجعون إلى العبودية التامة.
مكاشفة
إعلم أن مرجع هذه الأقوال الثلاثة إلى شيء واحد في المثال والممثل له جميعا، فإن الأرض مثال للنفس الناطقة الإنسانية، المعبر عنها بالقلب الحقيقي، لتقلبها بالأحوال، لا الجسم الصنوبري الموجود في الحمير والبغال، وموتها مثال لكونها هيولانية ليس فيها شيء من المعارف والعلوم الحقة التي بها تستتم حقيقة الإنسان، أو بتوسطها وإعدادها يستعد للحياة العقلية.
والآيات المبينة له، إشارة إلى المقدمات اليقينية التي يتوسل بها في تحصيل الكمال العقلي، وهو صيرورته عقلا وعاقلا بالفعل، بتأييد من الحق الأول بواسطة بعض الملائكة العلامة الفعالة للحقائق بإذنه تعالى.
وهذه الحياة العقلية هي التي وقعت الإشارة إليها بقوله:
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء
[البقرة:154].
عند ربهم يرزقون * فرحين بمآ آتاهم الله من فضله
[آل عمران:169 - 170]. وظاهر أن المراد من الحياة التي تكون عند الله، هي الحياة المعنوية دون الجسمية (الحسية).
والمراد من رزق الله: أن يكون عنده رزق المعارف والعلوم التي بها تتغذى وتتقوى الأرواح المقدسة، لا الأغذية الجسمية التي تنمو بها الأجسام المحسوسة، كما في قوله:
ورزق ربك خير وأبقى
[طه:131].
وإن أردت حقيقة المقال في بيان النفس الإنسانية ومراتبها في الاستكمال، وبلوغها إلى حد الكمال، فعليك بمطالعة ما بيناه في معرفة النفس في كتاب " المبدأ والمعاد " ، فإنها من الغوامض التي قلما يصل إليها - إلا من أيده الله تعالى بنور الكشف والشهود -، ولا يذكر من علم النفس في كتب الحكماء إلا قدر يسير ومرتبة نازلة منه، مناسبة لمباحث الطبيعة وأحوال البدن، وذلك القدر اليسير أيضا قرة عين السالكين، وقد غفل عنه الجمهور كغفلتهم عن سائر المعارف الضرورية في سلوك سبيل الحق.
ومما يجب لا أقل على كل عارف (عاقل - ن)، أن يعرف من أحوال نفسه التي هي مرقاة إلى معرفة الله سبحانه، إنها جوهر ملكوتي من شأنها أن تعرف ربها، ويتقرب إلى الله تعالى، ويعلم أن من الله مبدأها، والى الله منتهاها، إذا سلكت طريق الحق، واكتسبت المعارف الحقيقية والعلوم، ويعلم أنها غير البدن الذي أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما حامل العذرة، ويعلم أيضا أن جهلها موتها وهلاكها في الآخرة، - كما ذهب إليه كثير من الحكماء والعرفاء -، وان حياتها الأخروية عبارة عن وجود نور مستفاد هو مبدأ للتعقلات ومنشأ لفعل الخيرات، كا ان حياتها الدنيوية البدنية عبارة عن كونها منشأ الإحساس والتحريك، وهو نور يقذف من الحق الأول فيها فينفعل منه كما ينفعل من نور الشمس وجه الأرض، فأشرقت بها كما أشرقت الأرض بنور ربها، فعند ذلك تظهر بها الحقائق والماهيات التي ليست معقولة بذاتها، كما تظهر بضوء النهار الأجسام الأرضية المظلمة الذوات، المستنيرة بنور الشمس، وحينئذ يستعد للاتصال بالملأ الأعلى وعالم القدس.
ولما كان كل ما يخرج من القوة إلى الفعل، ومن الموت إلى الحياة، ومن الظلمات إلى النور، يخرج بسبب متوسط بينه وبين الله، لكونه تعالى في غاية الوحدة والإشراق والعظمة، لا يحتمل شدة نوريته النافذة في العالم، ضعفاء البصائر والأبصار إلا بمتوسط عقلاني وعالم رباني، ورسول من الحق إلى الخلق - كالملائكة للأنبياء، والأنبياء للخلائق - فيجب أن يخرج هذه القوة الميتة الهيولانية بشيء يكون كاملا بالذات، فعالا للمعقولات، والأنوار العقلية كالشمس الفعالة للأنوار المحسوسة، وليست فيه شائبة نقص وآفة وقوة إلا الإمكان الذاتي الذي هو اعتبار ما في الذهن وقد صار مخفيا تحتي سطوع النور الأول الحق، بحيث يمتنع ظهوره من كتم الخفاء، لتحقق هذا الجوهر العقلي بالوجود الحقاني، واتصافه بالوجود الإرتباطي، ولكونه تعالى قهارا للعدم بالوجود والتحصيل، جبارا لما بالقوة بالفعل والتكميل، فما يفيض منه سبحانه على سنة الإبداع، هي أوائل الموجودات والماهيات في ملاحظة جماله وجلاله، لا التفات لهم إلى ذواتهم النورية المنورة بنور الأول تعالى، فضلا عن غيرهم من عالم الأجسام والظلمات.
فتلك الطبقة العليا من الجواهر المفارقة، أنوار عقلية لا ظلام في عالمها، وصباحات ضوائية لا ليالي لها، وإنما توجد من الطبقة التالية العرضية التي هي في صف آخر من صفوف العقول والملائكة القادسة، وهم الأدنون في أسافل العالم الجسماني ليال عشر، من غير التفات منها إلى ما دونها، بل عند التفاتهم إلى ذواتهم المستنيرة بنور الحق الأول، المشاهدة له سبحانه، وقعت منهم ظلال الأجسام الكلية وليالي الهيوليات العشر - تسع للأفلاك، وواحدة للعناصر وما يتركب منها -، وكما يفيض مما يلينا منهم والأقرب بالقياس الينا هيولى هذا العالم السفلي، فكذلك يفيض منه على القوابل والأراضي العقلية والحسية بما فيه من آثار رحمة الله الصور والنفوس والهيآت والنقوش من كمالاتها الثانوية كما في قوله:
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتهآ
[الروم:50].
وكذلك تخرجون
[الروم:19].
فمن هناك تفيض على أرواحنا العلوم الحقة والمعارف اليقينية الحاصلة فيها من ذلك العالم، إذ من المتحقق أن صور جميع ما أوجده الله تعالى حاصلة في عالم الجبروت على وجه مقدس، لا يشاهد بهذه العين الداثرة، فذلك الفياض للعلوم والمعارف، المكمل للأرواح والنفوس، وهو المسمى ب " روح القدس " ، وهو المعلم الشديد القوي، والمؤيد بإلقاء الوحي والإلهام للأنبياء والأولياء الذي كتب في قلوبنا الإيمان والمعارف، إذا توجهنا شطر كعبة الحق والجنبة العالية، وإذا أعرضنا عنه بالتوجه إلى مشاغل الجنبة السافلة، انمحت تلك النقوش عن النفوس، كمرآة صقيلة إذا أقبلت إلى النير تشعشعت، وإذا أعرضت عنه تخلت - من غير تغير في النير الأعظم بل في أحوال المرآة -.
فإذا تحقق هذا المجمل الذي قد فصل في مقامه، علم علما يقينيا: ان الله تعالى يحيى أراضي النفوس القابلة والعقول الهيولانية بعد موتها - أي تعلقها بالبدن وغمودها في النشأة الحسية التي هي منبع الجهل والغفلة والموت - بتبيين الآيات العقلية، وإفاضة المعارف اليقينية التي بها تتنور نفس الإنسان وتحيى بروح المعارف، وتتخلص من موت الجهالة، وتستيقظ من نوم الغفلة، وتتنبه من رقدة الطبيعة، وتصير معقولا وعاقلا بذاتها، فاعلة للصور المعقولة، وإليه أشار بقوله: { لعلكم تعقلون } [الحديد:17].
[57.18]
قرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد في اللفظين، والباقون بتشديدهما.
فمن خفف كان الكلام عنده بمنزلة قوله تعالى:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[البقرة:277]، لأن المصدقين - بالتخفيف - مأخوذ من " صدق " بمعنى " آمن " ، فهم الذين آمنوا واقرضوا - أي: عملوا الصالحات - إما لأن القرض الحسن من جملة الأعمال الصالحة، لأن معه أن يتصدق من المال الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على من استحق للصدقة، أو لأن المراد منه مطلق الفعل الحسن والعمل الصالح الذي له أجر كريم، سواء كان بإيتاء أمر عيني أو غيره، كما أن التصديق حينئذ يتضمن الصدقة.
ومن شدد، كان الوجه عنده أن قوله: أقرضوا الله قرضا حسنا - اعتراض بين الخبر والمخبر عنه، فهو للصدقة أشد ملائمة منه للتصديق، ولأحد أن يمنع كونه اعتراضيا ألبتة، لاحتمال أن يكون معطوفا على معنى الفعل في المصدقين، لأن اللام فيه بمعنى (الذين)، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا أو صدقوا.
وقرئ: " يضعف " بالتشديد، و " يضاعف " بكسر العين، أي: يضاعف الله لهم من الجزاء أمثال ما أنفقوا في وجوه الخير - ولهم أجر كريم -، لأنه يترتب لذاته على فعل الخير، وكلما يترتب على فعل الخير يكون أجرا كريما، لأن أمور الآخرة تكون شديدة قوية في الإلذاذ - إن كانت لذيذة -، وفي الإيلام، إن كانت أليمة -، لعدم الغشاوات والموانع عن الإدراك هناك، وكون المدرك قويا، والمدرك مكشوفا، وليست اللذة إلا إدراك الملائم، ولا الألم إلا إدراك المنافي.
فالمدرك للملائم والمنافي إذا كان في غاية القوة والحدة:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22]، والمدرك منهما إذا كان كنه حقيقة الشيء ولبه وباطنه وسريرته:
يوم تبلى السرآئر
[الطارق:9] والإدراك أيضا في غاية التحقيق واليقين حيث ينتهي إلى مشاهدة العين:
كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم
[التكاثر:5 - 8]. - يكون الإلذاذ والإيلام في غاية القوة والشدة، وهذا هو البيان في كون أمور الآخرة في بابها عظيمة شددة.
مكاشفة
النكتة في ان فعل الحسنة يكون أجره مضاعفا، وفعل السيئة يكون أجره مثله، - كما في قوله تعالى:
من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها
[الأنعام:160] - وجهان: أحدهما من جهة القابل، والآخر من جهة الفاعل.
أما الوجه الأول: فهو أن حقيقة النفس الإنسانية هي من عالم الأمر وعالم الآخرة وسنخ الروحانيات النورية، فوقعت في هذا العالم الجسماني الظلماني لجناية صدرت من أبي البشر آدم الأول، حيث أهبط من الجنة إلى الأرض غريبا وحيدا أسيرا في أيدي الظلمات، ملسوعا بلسع حيات الشهوات وموذيات اللذات، مسحورا بسحر الطبيعة ووساوس الشياطين، كما في قوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين
[التين:4 - 5].
ثم إن كل عمل وفعل صدر من الإنسان في هذا العالم، يحصل منه أثر في قلبه، لارتباط شديد بين النفس والبدن، فيحصل من تكرر الأفاعيل في النفس، أخلاق وملكات هي مواريث المعاملات، فإذا تكررت الأفاعيل الحسنة - من الصيام، والقيام، والإطعام، والصدقات بحسن النيات وصدق الطويات -، ظهرت من دوام تكررها هيآت حسنة راسخة في النفس، فيتنور عندها بنور الصفات الملكية، ويسهل معها صدور الفضائل والخيرات، كما قال الله تعالى:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى
[الليل:5 - 7].
وكذلك إذا تكررت الأفعال الذميمة والسيئات - من البخل، والاستكبار، والكذب، وغيرها -، حصلت من دوام تكررها صفات ذميمة راسخة في النفس، فتنكدر عندها بكدورة المعاصي، فيسهل معها صدور القبائح منها مما لم يكن يصدر قبل ذلك بتلك السهولة، كما قال سبحانه:
وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى
[الليل:8 - 10]، ولو لم يكن تكرر الأفاعيل مورثا لحصول الملكات في النفس، لم يحصل للإنسان الصناعات العلمية والعملية.
ثم لما كانت الأفعال الحسنة مناسبة لعالم القدس وموطن النفس، مقربة لها من عالمها، مذكرة لها عهدها القديم مع أقاربها وأوالفها. والأفعال القبيحة، مناسبة لعالم الجحيم، مبعدة لها عن عالمها - والمناسب للشيء يكون أسرع تأثيرا من المخالف الغريب في إخراج ذلك الشيء عما يقتضي طبعه -، فالأفعال الحسنة والخيرات أقوى تأثيرا في سعادة النفس وكمالها وتذكرها وقربها إليه تعالى من الأفعال القبيحة والشرور في شقاوتها ونقصها ونسيانها وبعدها عنه تعالى.
وثانيهما: إن رحمته تعالى فائقة على غضبه سابقة عليه، كما قال:
" سبقت رحمتي غضبي "
حتى أن عين الغضب وماهيته إنما وجدت منه تعالى برحمته التي وسعت كل شيء. كيف والوجود الفائض منه على كل شيء، هو عين الرحمة عليه، فوجود الغضب إنما هو من رحمة الله على عين الغضب، فسبقت نسبة الرحمة إليه تعالى على نسبة الغضب، وذلك لأن الرحمة ذاتية للحق، وعين الغضب ناشئة من عدم قابلية بعض الأشياء للكمال المطلق والرحمة التامة، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:
مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك
[النساء:79] أي من سوء استعدادك، وإن كان الكل من عند الله، إذ لا استقلال لغيره في الإيجاد.
وفي الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ان الخير كله بيديك، والشر ليس إليك ".
ومن أمعن النظر في لوازم الغضب - من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك -، يجدها كلها أمورا عدمية، فالرحمة ذاتية للحق، والغضب حالة عرضية ناشئة من أسباب عرضية.
فإذا كان كذلك، كان باعث الرحمة أسهل وجودا وأقل أسبابا وأيسر تحققا، إذ يكفيه إمكان القبول لها، وباعث الغضب بخلافه، إذ لا يكفي مجرد إمكان المحل، بل لا يتحصل إلا من وجود المنافي للرحمة، المانع إياها، فقابل الرحمة وداعيها لا يحتاج إلى تعمل كثير، غير صفاء الذات، وخلوص الفطرة، وصقالة وجه القلب عن الكدورات، بخلاف داعية الغضب، فإنها لوجود المعاصي والقبائح الغريبة من الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، ولهذه الدقيقة عبر عن باعث الرحمة: " بالكسب " ، وعن باعث الغضب: " بالاكتساب " لما في مفهومه من التعمل الزائد على ما في الطبع في قوله تعالى:
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
[البقرة:286].
فإن قلت: ما الوجه لخصوصية ذكر العشرة في التضعيف لا غيرها من الأعداد؟
قلنا: وجه ذلك، كون الإنسان معوقا في الدنيا عن فعله الخاص به - الذي هو ذكر الله ومعرفة ملائكته ورسله والدار الآخرة -، لانغمار نفسه في الحسيات، واشتغاله بالجسمانيات، وهذا بخلاف فعل المعاصي والشهوات، فإنها مما يلائم البدن وقواه، فلا يزاحمها بل تعين عليها القوى البدنية. ولما كان المبدأ الإدراكي للأفاعيل العقلية والطاعات قوة واحدة - هي الناطقة -، والمبدأ الإدراكي للأفاعيل الحسية والمعاصي قوى عشرة - أي الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة - فكل حسنة تصدر عن القوة العاقلة لا بد فيها - لكونها على خلاف طبائع القوى - من مجاهدة وقعت من العاقلة مع كل واحدة من تلك العشرة، وكل مجاهدة لها أجر واحد، فكل حسنة تستلزم عشر حسنات، مستدعية لعشرة أمثال أجر إحداها، وإليه الإشارة في قوله تعالى:
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا
[الأنفال:65].
[57.19]
{ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهدآء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم... }
الصديق: الكثير الصدق المبالغ فيه. وهو اسم مدح وتعظيم.
قال الزمخشري: " أي: هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، وهم الذين سبقوا إلى التصديق، واستشهدوا في سبيل الله - لهم أجرهم ونورهم - أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ".
ثم استشكل بعض المفسرين في هذه المماثلة بينهم في الأجر والجزاء مع تفاوت قدرهم. فأجاب عنه بعضهم بإعطاء الله تعالى أجر المؤمنين مضاعفا بفضله ورحمته، حتى يساوي أجرهم مع المضاعفة أجر أولئك.
وفيه نظر بعد، لأن باب الرحمة والتضعيف كما انفتحت لهؤلاء، انفتحت لأولئك، لأن الله تعالى واحد لا تغير فيه، فياض على الجميع، ولو كان المراد أن أجر هؤلاء مع التضعيف مثل أجرهم - لا معه -، يفوت مدح المؤمنين، - والمقام مما يقتضيه -.
والأولى أن يراد من الإيمان بالله والرسول مرتبة كاملة من المعرفة التي لا تتحقق إلا في العلماء، أو يراد منه الإيمان الحقيقي الباطني الكشفي، وهو الذي يكون للأولياء والعرفاء خاصة، فإنهم هم الصديقون والشهداء لغاية تصديقهم الحاصل بالكشف، وفنائهم عن ذاتهم الحاصل بسبب المجاهدة الباطنية مع النفس وقواها الأمارة.
قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق شهيد - وقرأ هذه الآية.
لهم أجرهم ونورهم: أي لهم ثواب طاعتهم ونور إيمانهم، وهو النور الذي يهتدون به إلى طريق الجنة، وهذا قول عبد الله بن مسعود، ورواه البراء بن عازب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى العياشي: بالاسناد عن منهال القصاب، قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أدع الله أن يرزقني الشهادة.
فقال (عليه السلام): إن المؤمن شهيد - وقرأ هذه الآية -.
وعن الحارث بن المغيرة، قال: كنا عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد والله مع قائم آل محمد بسيفه.
ثم قال: بل والله كمن جاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسيفه.
ثم قال الثالثة: بلى والله كمن استشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فسطاطه، وفيكم آية من كتاب الله - وقرأ هذه الآية، ثم قال: - صرتم والله صادقين شهداء عند ربكم.
وقيل: إن " الشهداء " منفصل عما قبله مستأنف، والمراد بالشهداء: الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم - وهو قول ابن عباس ومسروق ومقاتل بن حيان، واختاره الفراء والزجاج.
وقيل: هم الذين استشهدوا في سبيل الله - عن مقاتل بن سليمان وابن جرير.
مكاشفة
إعلم - أيها السالك -، أن لفظ " الإيمان بالله والرسول " ، يطلق بالاشتراك والمجاز العرفي بين مراتب متفاوتة في المعرفة:
إحداها: ما تلقفه العامي تقليدا أو تسليما من غير بصيرة كشفية ولا معرفة كسبية، سواء كانت برهانية أو جدلية -، وهو الإيمان باللسان، وفائدته: العصمة لصاحبه في الدنيا عن السيف والسنان.
وثانيتها: ما يستفاد من صناعة الجدل وطريق المتكلمين، وفائدتها: حراسة العقيدة عن الجاحدين والمفسدين وقطاع طريق الحق للسالكين، وليس فيه انشراح وانفتاح، ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة خالدا - ان كان مع شرائطه -.
والثالثة: ما يستفاد من البرهان اليقيني - كما في طريقة الحكماء - وفائدتها: حصول المعرفة الحقيقية للمبدأ القيوم وصفاته وأفعاله.
والرابعة: ما يستفاد من الرياضات والمجاهدات ، وترك التعلقات، والزهد الحقيقي في الدنيا وطيباتها، وفائدتها: الوصول إلى جناب الحق ومشاهدة صفاته وأسمائه وأفعاله من حيث هي أفعاله.
فالإيمان ينقسم إلى قشر، وقشر القشر، ولب، ولب اللب، كالجوز مثلا فإن له قشرين ولبين.
فالمرتبة الأولى أن يقول: " لا إله إلا الله " ، وربما كان مع الغفلة أو مع الإنكار القلبي، كما في المنافقين.
والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ ضميرا، كما يصدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد بوجه له مناسبة إلى ما هو الحقيقة، بخلاف الأول، فإنه تقليد محض.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بالنظر إلى طبيعة العالم وإمكانها وافتقارها إلى ما يرجح وجودها على عدمها، ثم بما يلزم الوجوب الذاتي من الرحمة والجود، وهداية الحق بارسال الرسل وإنزال الكتب، والجزاء لهم يوم المعاد، والثواب للمحسن، والعقاب للمسيء أو العفو عنه، إلا أن يكون فيه ما ينافيه من الكفر والإصرار والجهل والاستكبار.
الرابعة: أن يشاهد ذلك مشاهدة الموجود الحقيقي وصفاته وآثاره، ولا يرى للأفعال والآثار وجودا استقلاليا، فلا ينظر إلى شيء إلا ويرى الحق فيه مع تفاوت المرائي صفاء وكدورة، وتفاوت ظهور الحق فيها جلاء وخفاء.
وهذا عبد قد استولت عليه الأنوار الأحدية، وظهرت له سواطع العظمة الإلهية، فجعله هباء منثورا، ويندك عنده جبل إنيته، فيخر له خرورا، وفي هذا المقام يستهلك في نظره الأغيار، وتحترق بنوره الحجب والأستار، فينادي الحق: لمن الملك اليوم؟ ويجيب بنفسه لنفسه: لله الواحد القهار. والمؤمن بهذه المرتبة يقال له: " الولي " و " الصديق " و " الشهيد ".
أما كونه وليا؛ فلأنه لا يحب الله أحدا غيره وهو لا يحب غير الله، أما الأول: فلأن غيره لا يعرف الله، والمحبة تتبع المعرفة بل عينها - لأنها إدراك الملائم من حيث هو ملائم، والملائم لكل أحد سلم مذاقه عن الأمراض النفسانية، ولم يخدر طبعه بالمعاصي الجسمانية، هو المعبود الحق الذي به وجود كل شيء وكماله -. وأما الثاني: فلأن غير الله لا وجود له عند الولي، والمحبة تتبع الوجود للشيء عند المحب.
وأما كونه صديقا: فلكون كمال رتبة الصديق يكون بكمال رتبة المعرفة، وأكمل مراتب المعرفة هي المشاهدة، فمن شاهد الوجود الحقيقي ومرتبته في الكمال وشمول الإفاضة وعموم الرحمة منه على كل شيء، بحيث لا مشارك له - لا في الوجود ولا في الإيجاد -، فهو الصديق الأعظم لا غيره ممن لا يعرف الحق وفيضه إلا بالدليل أو التقليد من غير بصيرة وكشف.
واما كونه شهيدا: فلشهادة نفسه في طريق الحق، وعدم التفاته إلى هذه الحياة الدنيا، إذ الشهادة عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب سوى حب الله، وخرج حب جميع الملاذ والشهوات عن القلب، لأن من يهجم على صف القتال فهو يوطن نفسه على الموت حبا لله، وطلبا لرضاه، وبائعا دنياه بآخرته، راضيا بالبيع الذي بايعه الله، إذ قال الله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة:111]، والبائع راغب عن المبيع لا محالة، ومثل هذه الحالة تحصل للقلب في بعض الأحوال في غير العرفاء، ولكن لا يتفق زهوق الروح فيها، فالوقوع في صف القتال سبب لزهوق الروح على مثل هذه الحال، هذا فيمن ليس يقصد الغلبة والغنيمة والصيت بالشجاعة، فإن من هذا حاله - وان قتل في المعركة - فهو ليس بشهيد، لبعده عن مثل هذه الرتبة، كما دلت عليه الأخبار.
فقد علم أن رتبة الشهداء إنما تحصل لأجل أنهم جردوا أنفسهم عن التعلق بالحياة الجسمانية ابتغاء لوجه الله ونصرة لأوليائه في نية اظهار شريعته وخرجوا عن الدنيا عند تكلف هذه الحالة، ففازوا بالنعيم الأبدي.
وأما العرفاء فقد خرجوا عن التعلقات بما سوى الله تعالى، وقصروا النظر على وجه الله، من غير التفات إلى ذواتهم فضلا عن غيرها، وحصل لهم الموت الإرادي عن هذه النشأة الدنيوية، وهذه الحالة هجيراهم من غير تعمل وكلفة، فهم الشهداء بالحقيقة قبل حصول الموت الطبيعي أو القتل لهم، لأنهم قبل انقضاء هذه الحياة الدنيوية، وانهدام بناء هذه الجثة الطبيعية - أحياء عند ربهم - حياة طيبة عقلية، يرزقون - بالأرزاق المعنوية والأغذية العلمية - فرحين بما آتاهم الله من فضله - فحينئذ يستقيم معنى الآية من غير تمحل.
قوله عز وجل:
{... والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم }.
الكفر: هو عدم الإيمان عما من شأنه أن يكون مؤمنا، والإيمان - كما علمت -: هو المعرفة بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، فالكفر هو الجهل بهذه المعارف، سواء كان مع الجحود والاستكبار وتكذيب الرسول وما أتى به، أم لا، والأول يستلزم الخلود في النار قطعا، والثاني يحتمل النجاة ولو بعد المكث طويلا أو قصيرا، ويدل على خلود الكفار المكذبين في النار، التعبير عنهم والحكم عليهم بأصحاب الجحيم.
مكاشفة
كما ان مجامع سعادات الإنسان ترجع إلى تحلية قوته العلمية بالعلوم الحقيقية وحقائق الإيمان بالله واليوم الآخر، وتخلية قوته العملية من ذمائم الأخلاق ورذائل الملكات، كذلك جوامع الشقاوات ترجع إلى انتقاش النفس بنقائض المعارف الحقة، واتصافها بنقائص الصفات الذميمة.
وإنما صار الجهل الراسخ - المعبر عنه بالكفر -، والخلق الكريه - المؤدي إلى تكذيب الرسول المؤيد بالمعجرات -، موجبا للخلود في النار، لأن الجنسية علة للضم، والمرء يحشر مع محبوبه، والجحيم إنما هي من حقيقة هذه الدار، لكن ظهورها في هذه الدنيا بصورة الشهوات واللذات، وفي الآخرة بصورة النيران والجحيم والزقوم، فإذا رسخت محبة الدنيا في النفس ونسيت ذكر الله، صارت في الآخرة محجوبة عن لقاء الله ولقاء أوليائه الصالحين، وبقيت في كرب السعير وعذاب الجحيم، لرسوخ محبتها إياها في هذه النشأة، وارتكان [ارتكاز - ن) تعلقها بها.
وإنما لم تتألم النفس بعذاب الشهوات، ولم تتأذ بلسع حيات ملاذ الدنيا وعقاربها قبل الموت - مع كونها متصلة محيطة بها غير مفارقة عنها لقوله تعالى:
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[التوبة:49] - لخدر الطبيعة وسكرها الحاصل بسبب قلة المعرفة، وكثرة الاشتغال باكتساب أسباب الدنيا وجمع حطامها.
وربما يوجد من الناس من يجد الألم عين الراحة، والراحة عين الألم، فيأكل الحميم والزقوم في هذه الحياة الفانية، مشتهيا لذيذا عند إدراكه، ويعوق عن إدراك العقائد الحقة التي هي العسل المصفى، واللبن الذي لم يتغير طعمه، لكونه محجوبا عن إدراك كل من القبيلين بصورته الظاهرة، فالشهوات لذيذة حلوة عنده، والموعظة الحسنة والكلمات الحقة كريهة مرة لديه.
وهذا لأجل مرضه الواقع بسوء العادات، كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين، وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة، ويستحلي الأشياء المرة، كمن به مرض " بوليموس " حيث يأوف حسه لغلبة الخلط السوداوي، وتخدر ذائقته عن إدراك الطعوم على وجهها، فيجد المر حلوا مرا، كما قيل شعرا:
فمن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
وإلا فالقلب السليم والعقل الصحيح لا يلتذ إلا بذكر الله ومعرفته ولقائه، لأن ذلك كماله وغذاؤه وقوته، لا الأمور المحسوسة الدنيوية من المال والبنين وغيرهما من الأمور التي خلقت لأجل الانتفاع بها في طلب الآخرة والسلوك إلى الله تعالى، لا للالتذاذ والتعشق، ولما كان الكمال الحقيقي والخير المحض هو معرفة الحق الأول وملكوته التي ستقلب في الآخرة مشاهدة له، وهو إنما يتأتى بالقلب السليم من مرض العادات السيئة من مؤانسة المحسوسات، قال سبحانه:
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء:88 - 89].
[57.20]
زهد الله سبحانه الناس عن الركون إلى الحياة الدنيا، ورهبهم عن التورط في مشتهياتها بأبلغ وجه وآكده، حيث بين ان محقرات مشتهياتها ومختصرات لذاتها ليست في الواقع وعند أولياء الله الذين نظرهم على حقائق الأمور وبواطنها، إلا أمورا وهمية باطلة زائلة، وهي اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، إلا أنها كذلك من باب التجوز والتشبيه لعلاقة الاشتراك بينهما في عدم البقاء - كما وقع في بعض التفاسير -، فإن ذلك بحسب النظر الجليل وإدراك أهل الحجاب. ولا انها كذلك بحسب المبالغة والتخييل كما هو عادة الشعراء وأهل القصص - أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين -، بل هي بحسب التحقيق ليست إلا هذه المذكورات وليست إلا متاع الغرور، كما مثل الله تعالى:
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا
[النور:39]. وكما أن أمور الدنيا ليست إلا أوهام محضة وخيالات صرفة، فأمور الآخرة بعكس ذلك، إذ ليست إلا أمورا عظيمة ثابتة إلهية. لأنها بواطن الأشياء وحقائقها التي لا تبيد ولا تنقص.
وقيل: " اللعب " ما رغب في الدنيا، و " اللهو " ما الهى عن الآخرة، و " الزينة " ما يتنزينون به في الدنيا ويتحلون في أعين أهلها ثم يتلاشى.
ومنشأ التفاخر بين الناس، هو القوة الغضبية والهيئة السبعية التي لا تزال توجب التفوق على الأقران، والترفع على الأشباه، ومنشأ التكاثر هو القوة الشهوية والصفة البهيمية التي لا تزال تطلب تزايد المشتهيات.
ثم إنه تعالى مثل حال الدنيا وسرعة انقضائها وفنائها مع قلة جدواها بنبات أنبته المطر فاستوى واستكمل وأعجب الكفار نباته - دون غيرهم -، لأنهم هم المغترون بالأمور الباطلة الواهية، بسبب ما يخيل ويروق لهم من ظواهر زينتها بما ينكرون الآخرة ولا يعرفونها، فهم بها أعلق، وهي لهم أروق وألمع، لا لأهل الله والمؤمنين حقا.
وليس المراد منه المبالغة في وصف النبات وبيان حسنه بأنه يعجب الكفار، مع جحودهم لنعمة الله فيما رزقهم - كما قيل -، بل إعجاب الكافر بيان للواقع في الحكاية التي مثل بها الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون إشارة إلى القصة المذكورة في القرآن لصاحب الجنة والجنتين.
وقيل: الكفار: الزراع، ثم بعث عليه الآفة فهاج، أي يبس واصفر وصار حطاما، أي: ما ينحطم وينكسر بعد يبسه عقوبة لهم على جحودهم وكفرانهم، وفي الآخرة عذاب شديد، أي: لمن رغب في الدنيا فيشغله ذلك عن الآخرة - ومغفرة من الله ورضوان، أي: لمن تزود منها للآخرة.
وما الحياة الدنيا، لمن ركن إليها وتطمئن بها، - إلا متاع الغرور - كلامع السراب للظمآن حيث يتخيل له لغاية ظمئه ان له حقيقة.
كذلك حكم الدنيا للناقصين وضعفاء العقل، يتخيل لهم ما فيها لذة وكمالا فيغترون بها.
إعلم أن ما يوجب عقوبة أهل الجحيم في الآخرة، وتعذيبهم بالعذاب الأليم، هو بعينه موجود معهم في الدنيا، يعذب باطنهم بنيرانه، وذلك هو الاعتقادات الفاسدة والأخلاق الردية التي كلها نيرانات ملتهبة وحرقات مشتعلة تؤذي صاحبها وتوجب العداوة والبغضاء له مع أبناء الدنيا، الذين سيصيرون من أصحاب الجحيم، والخصومة معهم في مقاصدهم ومآربهم الخسيسة الدنيوية، وهذه الجهالات وذمائم الملكات، كما توجب التعذب بها لصاحبها في الأولى، فهي بعينها التي توجب التعذب بها لهم في الآخرة على وجه أشد وأبقى، لقوله تعالى:
ولعذاب الآخرة أشد وأبقى
[طه:127]. فإن أمور البدن وأشغال الدنيا ها هنا تلهي وتغفل الروح عن دركها كما هي، بخلاف النشأة الثانية، فإن البدن الأخروي لا يلهي الروح عن إدراك الآلام - ان كانت شقية - كما لا يلهيها عن إدراك اللذات الأخروية ان كانت سعيدة.
فأهل النار - إذا دخلوها - تسلط النار على ظواهرهم وبواطنهم، لأن ظواهرهم عين بواطنهم - كما حققناه في بعض كتبنا عند إثباتنا المعاد الجسماني بالاستبصار العقلي أيضا، كما هو ثابت عند الجمهور من المليين والحكماء الإسلاميين بالنص النقلي -، وليس لحقيقة العذاب تسلط ها هنا على ظواهر الأشقياء، لكن ظواهرهم مبائنة لبواطنهم - إلا نحوا ضعيفا لم يتنبهوا عليه لخدر الطبيعة وسكر البدن وجهل المادة -.
فإذا تسلط عذاب النار على ظاهرهم وباطنهم، وأحاط بهم سرادقها، ملكهم الجزع والاضطراب، فيكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، متخاصمين متقاولين، كما نطق به كلام الله في مواضع متعددة، مثل قوله تعالى:
كلما دخلت أمة لعنت أختها
[الأعراف:38]. وقوله تعالى:
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار
[ص:64].
وكما ان هيآت أمراض الجهل وغيره من الصفات، إذا كانت راسخة مقرونة مع العناد والاستكبار، لا يمكن أن تزول أصلا، فكذلك الأشقياء المردودون من الكفرة والمتجبرين، لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون، فكلما طلبوا أن يخفف عنهم العذاب وأن يقضى عليهم، واستغاثوا أن يرجعوا إلى الدنيا لم يجابوا إلى طلباتهم، كما حكى الله تعالى عن اقتراحهم واستغاثتهم بقوله تعالى:
يمالك ليقض علينا ربك
[الزخرف:77] وعن عدم إجابتهم بل منعهم عن السؤال وطردهم عن الاقتراح بمثل قوله تعالى:
إنكم ماكثون
[الزخرف:77].
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون:108].
فلما يئسوا وطنوا أنفسهم على العذاب والمكث على ممر السنين والأحقاب، وتعللوا بالأعذار، ومالوا إلى الاصطبار وقالوا:
سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص
[إبراهيم:21].
فإن قلت: كيف حكم الله على الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب - أي باطل موهوم لا حقيقة لها - مع أنها ثابتة في الواقع، والثابت في الواقع لا يكون باطلا موهوما؟
قلنا: يمكن الجواب عن هذا بحسب جليل النظر انه ليس المراد مما ذكره سبحانه ان الحياة الدنيا - التي هي القوة على الحس والحركة - أمر موهوم، إذ لا شك في أنها أمر ثابت في بعض الأوقات - وإن لم يكن دائميا -، بل الغرض منه إن هذه الحياة ليست حقيقية يمكن ثبوتها في حق الإنسان بما هو إنسان - أي ذو جوهر روحاني هو محل معرفة الله -، لأن حياته حياة علمية نطقية أخروية والحياة الحسية الدنيوية هي حياة تتصف بها الحيوانات بما هي كذلك - أي ذو جوهر حساس -، وإذا اتصف بها الإنسان في بعض الأوقات، فإنما يكون بما هو به حيوان، لا بما هو به إنسان.
فاتصاف الإنسان بتلك الحياة الحسية باعتبار أن له قلبا حقيقيا هو محل معرفة الله أمر وهمي، إذ لا وجود لها للإنسان إلا مجازا لعلاقة الارتباط بين حقيقة الإنسان - الذي هو روحه المشار إليها ب " أنا " - والجسد الحيواني الواقع تحت جنس الحيوان عند أخذه لا بشرط شيء، أي بالاعتبار الذي به حيوان - لا بما هو به بنية ومادة -، وقد تبين الفرق بينهما في علم الميزان.
ويمكن أن يقال بحسب دقيق النظر: إن المراد من الحياة الدنيا نفس الإدراك الحسي للأمور الدنيوية - تسمية للشيء باسم ما ينبعث عنه ويتم به -، فإن الحياة الحيوانية إنما تتم بالحس والحركة. وغاية الحركة أيضا هي الحس في غير الإنسان. والإحساس بالشيء لا يتم إلا بالتوهم والتخيل، والموهوم أو المتخيل - بما هو موهوم أو متخيل - لا وجود له في الخارج - بل في الذهن -، وكل ما لا وجود له في الخارج فهو لهو ولعب، أي باطل.
ولو تفطن متفطن، لعلم أن كل من يلتذ بأمر من الأمور الدنيوية أو يتألم به، فإنما يلتذ ويتألم بما هو حاضر في ذهنه - مع قطع النظر عن الخارج - حتى لو جزم إنسان بوجود أمر ملائم له لكانت لذته بذلك الملائم متحققة وإن عدم في الواقع. وذلك كمن عشق واحدا واعتقده في غاية الحسن والجمال، إذ ربما كان التذاذه بوجوده وتشوقه لجماله ثابت مدة مديدة يظن أنه موجود في موضع كذا من داره - وهو قد مات منذ أول تلك المدة -، فعلم أن وجوده الخارجي ليس موضوع هذه المحبوبية لفقده، فقس عليه حال جميع المحبوبات والمعشوقات الدنيوية في أنها أوهام محضة لا وجود لها في الخارج، والحياة الدنيا ليست إلا حالتك قبل الموت بالقياس إلى هذه المحسوسات.
ومما ينبغي لك أن تعلم، انه ليس حصول التعقلات الكلية، وادراك المعارف الإلهية، ونيل الحقائق الكونية على النحو التي هي عليه للإنسان من جملة الحياة الدنيا الحسية أصلا، بل إنما هي له لأجل ما به من النشأة الأخروية والحياة الإدراكية العقلية.
وقد علم مما ذكر أن ها هنا حكمين: إحدهما: كون الأمور الدنيوية من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، في أنفسها وبحسب جواهرها وذواتها أمورا وهمية. وثانيهما: ان وجود الأشياء للإنسان وهمي. وكلا الحكمين حق وصواب.
أما الثاني: فلما أشرنا إليه، من أن وجود الذهب في نفسه ليس ملذا للإنسان، بل الاعتقاد بوجوده له مما يتلذ به.
وأما الأول: فلما حققناه في موضعه، موافقا لما عليه المحققون من العلماء فضلا عن الأولياء والعرفاء، من أن المركبات المحسوسة الجزئية لا وجود لها منفردا عن الحقائق البسيطة المعقولة التي تتقوم بها تلك الجزئيات، وقد صرحوا بأن مناط وجود الجزئيات المادية محسوسيتها، ومناط المحسوسية وجود الشيء للجوهر الحاس، وقد علمت أن الإحساس لا يتم إلا بالتوهم، أي الوجود للقوة الوهمية التي هي من جنود الشيطان.
واعلم أن لذات الحياة الدنيا إنما هي لعب ولهو لأنها من فعل الشيطان، وإلا فليست أمور الدنيا بما هي هي - أي بالحيثية التي هي بها ثابتة وحق - لذيذة، لأن لكل شيء حقية، وحقية أمور الدنيا، تجددها وزوالها وانصرامها وفناؤها، لأنها أكوان ناقصة واقعة في جهة السلوك إلى الله تعالى والارتقاء إليه. والسالك بما هو سالك ليس له في حدود سلوكه كمال، فإن الحركة هي نفس الخروج من القوة إلى الفعل، فهي ما بين صرافة القوة والفاقة ومحوضة الفعل، والوجود واللذة الحقة من توابع الوجود الحق الذي تتوجه إليه الموجودات، والتوجه إلى الحق إنما هو بقطع الحجب الظلمانية الساترة للحق لأجل الوجود الموهوم، ينسب إليها بحسب القوة الوهمية، فعالم الكون كله خيال في خيال كما يقال:
كل ما في الكون وهم أو خيال
أو عكوس في المرايا أو ظلال
فحقية العكس أو الخيال أو الظل إذا أخذ من حيث كونه عكسا أو خيالا أو ظلا، وأما إذا أخذ العكس أصلا، والخيال عينا، والظل شخصا، فيكون كل منها باطلا، كما في قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
لان ما خلا الحق تعالى معلول ممكن، والمعلول إذا أخذ منسوبا إلى الحق كان حقا بحقية الحق وواجبا بوجوبه، وإذا أخذ غير منسوب إليه - بل منفردا عنه - كان باطلا، فالعالم بما هو عالم وسوى الحق باطل، لكنه موهوم الوجود، كما ان الظل موهوم الوجود، والوهم من فعل الشيطان، والواهمة من جنوده، وكذا كل متوهم من حيث هو متوهم - أي مذعن لأحكام الوهم - من جنود الشيطان.
كما ان العقل من جنود الحق، وكذا كل عاقل - أي مذعن لأحكام العقل -. وقد علمت أن التطارد بينهما في معركة القلب الإنساني قائم كما مر، والمعقولات جنة العقل وجنوده، يلتذ بها ويتبوء فيها حيث يشاء، كما ان الموهومات جنة الوهم وجنوده، يستلذ بها وينسرح فيها حيث يشاء.
قال بعض العلماء: إن إبليس لما تمت حيلته على آدم، ووصل بالأذية إليه، ونال بغيته وبلغ أمنيته، وسأل ربه الإنظار إلى يوم يبعثون، فاجيب إلى يوم الوقت المعلوم، اتخذ لنفسه جنة غرس فيها أشجارا وأجرى فيها أنهارا ليشاكل بها الجنة التي أسكنها آدم، وقاس عليها وهندس على مثالها هندسة فانية مضمحلة لا بقاء لها، وجعلها مسكن أهله وولده وذريته وهي كمثل السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وذلك انه من الجن، وقد قيل: إن للجن التخيل والتمثل لما لا حقيقة له، كذلك فعل إبليس وجنوده، إنما هو تمويه وتزويق ومخاريق لا حقيقة لها ولا حق عندها، ليصد بها الناس عن الطريق القويم والصراط المستقيم، وبذلك وعد ذرية آدم إذ قال:
لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين
[الأعراف:17].
والجنة التي غرسها إبليس لذريته ليصدوا بها ذرية آدم عن الجنة التي كان فيها، هي الأمور الدنيوية والشهوات الدنية الوهمية وفعل الخطايا والمآثم، وارتكاب المحارم، وحب القنية الفانية، والخروج عن طاعة الله، ومتابعة الذين أخلدوا إلى الأرض ورغبوا في الدنيا وعاجلها، ودعوا الآخرة وآجلها، التي هي دار القرار ومحل الأخيار ومقام الأبرار، وجميع هذه الأمور لعب ولهو كما وصفها الله تعالى به، فالعاقل هو الذي وفق للخروج من جنة إبليس فيرجع إلى جنة أبيه وذريته الطاهرين، ويتخلص من أدناس ذرية إبليس أجمعين وأتباعهم، وهم المعتكفون على الأمور الدنيوية، المكبون على اللذات والشهوات الدنية التي ستنقلب بعينها في الدار الآخرة إلى ألوان العقوبات وأنواع الآلام والمحن الشديدة، كما أشار سبحانه بقوله في هذه الآية: { وفي الآخرة عذاب شديد } [الحديد:20]، فهم في العذاب مشتركون، وبذلك وعد ربهم إذ قال لإبليس:
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
[ص:85].
[57.21]
الإعداد: التهيئة. أي: وضع الشيء لما يكون في المستقبل على ما يقتضيه أو يناسبه. و " الفضل " و " الإفضال " و " التفضل " واحد، وهو: النفع. وهو إما المعنى الحدثي المصدري، أو الأمر الحاصل به، والثاني هو المراد ها هنا.
ومعنى الآية: انه تعالى بعدما بين ان الحياة أمر لا حقيقة لها سوى كونها خيالا موهوما - بالوجه الذي مر بيانه -، ومثلها بمثال ينبه العاقل على دثورها وزوالها، وأشار إلى أن الحياة الآخرة أمر محقق ثابت في نفس الأمر، لكنها إما عذاب شديد، وإما غفران ورضوان، أحدهما للسعداء والآخر للأشقياء، ثم كرر الإشارة إلى أنها لمن لم يعمل لآخرته في متاع الغرور، فرغب سبحانه في المسابقة إلى طلب أحد الأمرين الأخرويين - المشار إليهما في الآية السابقة -، وهو الذي يترتب على استعمال الحياة الدنيا في طلب التوصل إلى لقاء الله واليوم الآخر قائلا : سابقوا - أي سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم ونظرائهم في المضمار، واردعوا العوارض القاطعة عن السلوك إلى البغية بالأعمال الصالحة العلمية والعملية، مقبلين إلى ما يوجب الفوز بمغفرة من ربكم.
قال الكلبي: إلى التوبة. وقيل: إلى الصف الأول للصلاة، وقيل: إلى النبي. وفي معناه: إلى كل هاد ودليل من الأئمة وبعدهم من المشايخ والمعلمين، والى - جنة عرضها كعرض السماء والأرض -، أي: وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنة هذه سعتها وعظمتها. وفي ارتكاب حذف المضاف، أو ما في حكمه في الموضعين، نظر كشفي لا يسع المقام.
قال السدي: كعرض سبع سموات وسبع أرضين.
وفي ذكر العرض دون الطول وجوه:
أحدها: إن كل ما له امتدادان مختلفان فإن عرضه يكون أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة، عرف أن طوله أبسط وأمد.
وثانيها: ان الطول قد يكون بلا عرض، بخلاف العكس.
وثالثها: الإشعار بأن طولها لا يمكن أن يقاس إلى شيء من هذا العالم.
ورابعها: ان المراد منه مطلق البسطة، كقوله تعالى:
فذو دعآء عريض
[فصلت:51]. وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة أحد: " يا عثمان ذهبت عريضا ".
قال الحسن: إن الله يفني الجنة ويعيدها على ما وصفه، فلذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض.
وقال بعضهم: إن الله قال: { عرضها كعرض السمآء والأرض } ، والجنة المخلوقة هي فوق السماء السابعة فلا تنافي.
وقوله: { أعدت للذين آمنوا } أي: ادخرت للمؤمنين بالله ورسله، وفيه ما لا يخفى من التمحل، وذلك - أي الفوز بالمغفرة والجنة - من فضل الله - لكونه موجودا كاملا تاما فوق التمام، فيفضل منه الوجود، وكمال الوجود على غيره ممن يشاء - والله ذو الفضل العظيم - لأن العالم وما فيه من فضل وجوده وفيضه، فلا استبعاد في أن يجزي الدائم الباقي على العمل القليل الفاني، ولو اقتصر على قدر ما يستحق بالأعمال كان عدلا، لكنه تفضل بالزيادة.
كما انه لو أمسك عن إفاضة الوجود على العالم كان تاما في واجبيته ومملكته وسلطانه، لكنه، تفضل بوجود العالم نافلة من غير ضرورة زائدة على ذاته، وداعية مستولية عليه، وأن أحدا لا ينال خيرا في الدنيا والآخرة إلا بفضل الله، فإنه لو لم يدعنا إلى الطاعة، ولم يبين لنا الطريق، ولم يوفقنا للعمل الصالح لما اهتدينا إليه، فذلك كله من فضل الله.
وقال أبو القاسم البلخي: إن الله سبحانه لو اقتصر لعباده في طاعتهم على مجرد إحسانه السابق إليهم لكان عدلا، فلهذا جعل سبحانه الثواب والجنة فضلا.
قيل: وفي هذه الآية أعظم رجاء لاهل الإيمان، لأنه ذكر أن الجنة معدة للمؤمنين، ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر، وانت علمت مما سبق، ان الإيمان بالله والرسول وما جاء هو به أجل مراتب الكمالية للإنسان، وبه يستحق السعادة العظمى، والغرض من الأعمال الصالحة هو خلاص النفس عن العلائق الدنية، المكدرة لمرآة القلب، المانعة عن إدراك الحقائق والمعارف الإيمانية، فالعقيدة الحقة الإلهية لا تتيسر إلا بقطع الأغراض الدنيوية بالأعمال الصالحة المقربة للقدس، ولا يتيسر الإخلاص في العمل إلا بالعقيدة الإيمانية، فالإيمان هو المبدأ والغاية في كل خير وكمال، على وجه لا يدور على نفسه دورا مستحيلا، ويحتاج بيانه إلى كلام مشبع لا يناسب المقام.
مكاشفة
في أن الجنة والنار حق
إعلم أن قوله تعالى: { أعدت للذين آمنوا } [الحديد:21]، وكذا قوله:
أعدت للمتقين
[آل عمران:133]، دليل واضح على أن الجنة مخلوقة الآن، موجودة للمؤمنين والمتقين، لأنها نتيجة أعمالهم (وان فيها جزاء لهم ونتائج لأعمالهم - ن) وأفعالهم.
ومن جملة الآراء السخيفة، رأي من زعم أن الجنة والنار لم توجدا بعد، ولا توجدان إلا بعد بوار العالم وتهافت السموات والأرضين، واشير إلى فساد هذا الرأي في قوله:
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا
[المعارج:6 - 7]. وفي قوله
أولئك ينادون من مكان بعيد
[فصلت:44].
ومن الآراء السخيفة أيضا؛ اعتقاد أكثر الناس أن أجسام أهل الجنة أجساد لحمية كثيفة، مركبة من أخلاط أربعة قابلة للاستحالات معرضة للآفات. وإذا تأمل أحد فيما وصف الله تعالى من صفات أهل الجنة، ظهر له فساد هذا الرأي، وذلك قوله سبحانه:
لا يمسهم فيها نصب
[الحجر:48]، و:
لا يذوقون فيها الموت
[الدخان:56]. وأنهم
فيها خالدون
[البقرة:25]. و:
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة:62].
ومن علامات حقية الاعتقادات؛ أن لا يقع فيها تناقض وتخالف، وهرج ومرج، وأكثر آراء المجادلين والمتشبهين بالعلماء - كأكثر الكلاميين -، يكون بحيث إذا عرضه صاحبه على عقله أنكره ضميرا - وان أقر به لسانا -، ويجده مناقضا لسائر اعتقاداته وأصوله، فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن بربه، كما قال الله تعالى:
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين
[فصلت:23].
ولا بد لكل أحد أن يعلم أن الجنة والنار الجسمانيتين غير معلومتي الكنه إلا للمكاشفين، الذين اكتحلت عيونهم بنور الله، وغلب عليهم ظهور سلطان الآخرة، فصاروا بحيث تكون أبدانهم في الدنيا ساكنة، وأرواحهم في الآخرة سائرة، فهم من أهل الاطلاع على حقائق الأمور الأخروية، ولا بد للمحجوبين ومن لم يقف على أسرارهم ولم يصل بعد إلى مقامهم، أن يعتقدوا - إيمانا بالغيب - أن الجنة التي عرضها السموات والأرض موجودة في عالم الغيب، بحيث لا يمكن مشاهدتها بهذه العين، وليست أجسام الآخرة من هذه الأجسام حتى يقع بينها تزاحم وتضائق، بل التزاحم والتضائق من خواص هذه الأجساد التي تشاهد بهذه الحواس الداثرة المستحيلة، وتلك الأجساد لا تشاهد إلا بالبصيرة الباطنية.
ولا بد أيضا أن يعلم كل من آمن باليوم الآخر، أن للأعمال والأفعال الدنيوية - باعتبار تأثيرها في عادات النفس وملكاتها - علاقة طبيعية مع أعيان الأمور الأخروية. فكما أن الأمر المسمى " بالمعصية " في الدينا، يؤدي بصاحبها في الآخرة إلى الاحتراق بالنار، والتعذيب بالحميم والزقوم، والتصلية للجحيم، فكذا المسمى " بالطاعة " يظهر في الآخرة بصورة الجنة والرضوان، والتنعم بالفواكه والحور والغلمان، والولدان، فهذه الأفعال المحمودة التي هي الطاعات، إنما تراد لأجل اكتساب الأخلاق الحسنة، وكذا الأفعال المذمومة إنما تترك لأجل أنها ستنجر إلى الأخلاق السيئة.
فالغرض من الأوامر الشرعية - أفعالا كانت أو تروكا - إنما هو تحسين العادات، وتقويم الملكات، وتبديل السيئات منها إلى الحسنات، بتوفيق من الله وتأييد منه، كما قال سبحانه في حق المخلصين من عباده:
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان:70].
وكما ان كل صفة في الدنيا تغلب على باطن الإنسان وتستولي على نفسه، بحيث تصير ملكة له توجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة، ويصعب عليه صدور أضدادها غاية الصعوبة، وربما يبلغ ضرب من الأولى حد اللزوم، وضرب من الثانية حد الامتناع. فهكذا حال الملكات والأخلاق في الآخرة، إذ كل صفة بقيت في النفس ورسخت فيها وانتقلت معها إلى تلك الدار، صارت كأنها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشية منها بصور تناسبها، وليست الأفعال والآثار الدنيوية في لزومها لمصادرها التي هي الملكات بتلك المثابة، إذ الدنيا دار اكتساب، وللعلل الاتفاقية فيها تداول وجولان، وللدواعي والصوارف الخارجية تسلط ودوران، فالشقي ربما يصير بالاكتساب سعيدا، وبالعكس، - بخلاف الدار الآخرة -، فإن باب الاكتساب والتحصيل فيها مسدود، ولكل نفس فيها حد محدود، كما اشير إليه في قوله تعالى:
لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا
[الأنعام:158].
ولأن الدنيا دار تعارض الأضداد وتفاسد المتمانعات بخلاف الآخرة، لكونها دار الجمع والاتفاق من غير تزاحم ولا تضاد، فالأسباب هناك لا تكون إلا عللا ذاتية كالفواعل الحقيقية والغايات الذاتية دون العرضية، فكل ما يصلح أثرا لصفة نفسانية لا يتخلف عنها هناك - كما يتخلف عنها ها هنا - فلا سلطنة هناك للعلل العرضية والأسباب الاتفاقية، بل الملك لله الواحد القهار كما في قوله:
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له
[سبأ:23]. أي لا تأثير هناك للعلل الاتفاقية، بل للذاتية. وكذا في قوله:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة:255]. وقوله:
فما تنفعهم شفاعة الشافعين
[المدثر:48]. أي العلل الاتفاقية دون المأذونين في الشفاعة كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأجل حصول الاستعداد والمناسبة الحاصلة من دعوته لأمته، التي كانت خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وهذا القدر من المعرفة، أقل ما يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعده الله ورسوله أو توعد عليه بلسان الشرع من الصور الأخروية المترتبة على الاعتقادات والأخلاق المستتبعة للذات والآلام، إن لم يكن من أهل المكاشفة الباطنية والمشاهدة الأخروية.
وأما معرفة التفاصيل في نتيجة كل صفة وعمل وعد به أو توعد عليه الشرع الأنور بحكومة أخروية، فيتوقف على كشف تام ومعرفة كاملة، واتصال قوي بعالم الغيب، وتجرد بالغ من علائق هذا العالم، فكل من له تحدث في العلوم، يجب عليه أن يتأمل في الصفات النفسانية والأخلاق الباطنية، وكيفية منشأيتها للآثار والأفعال الظاهرة منها، ليجعل ذلك ذريعة لأن يفهم كيفية استتباع الأخلاق المكتسبة في الدنيا من تكرر الأفاعيل للآثار المخصوصة في الآخرة، تحقيقا لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الدنيا مزرعة الآخرة ".
فكما ان شدة الغضب والغيظ في رجل غضبان يوجب ثوران دمه، واحمرار وجهه، وحرارة جسده، واحتراق مواده الرطبة - التي أرطب من الحطب اليابس - على ان الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته، والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام، وقد صارت هذه الصفة الواحدة النفسانية مصورة بهذه الهيآت والعوارض الجسمانية في هذا العالم، فلا عجب من أن يكون رسوخ هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الآخرة نار جهنم التي تطلع على الأفئدة فيحرق صاحبها.
وكما يعرض أيضا له بسببها ها هنا أمور مستنكرة وأفعاله مستكرهة - إذا لم يكن له صارف عقلي - من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر، وربما يؤدي بصاحبها إلى الضرب الشديد والقتل لغيره - بل لنفسه -، وربما يموت غيظا، فكذا القياس فيما يعرض هناك على وجه أشد وأبقى.
وبهذه الموازنة بين النشأتين يشعر قوله تعالى:
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62]، فإذا تأمل أحد في استتباع هذه الصفة المذمومة الواحدة لتلك الآثار واللوازم الذميمة، فيمكن له أن يقيس عليها باقي الصفات المؤذيات، والاعتقادات المهلكات، وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها منها يوم الآخرة من النيران وغيرها، كما في قوله تعالى:
سيجزيهم وصفهم
[الأنعام:139].
وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق وحقائق الاعتقادات، وكيفية استتباعها للنتائج والثمرات - من الجنان والرضوان، والوجوه الحسان - فعلى هذا يثبت القول بوجود الجنة والنار بالحقيقة، ولا يحتاج إلى تجوز في قوله:
أعدت للمتقين
[آل عمران:133]. وقوله:
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[التوبة:49].
[57.22]
" المصيبة في الأرض ": نحو الجدب، وقلة النبات، وآفات الزروع ونقص الثمار، وتلف الحيوانات، وموت الإنسان. " والمصيبة في الأنفس " نحو الأدواء والأمراض والأوجاع والثكل بالأولاد والموت وغيرها من الشرور والآفات الخارجية والداخلية، وربما كان بعض أنواع الوجودات والخيرات لطائفة من الناس، - هي بعينها -، مصائب وآفات لجماعة أخرى منهم بالاستجرار.
إلا في كتاب - يعني: إلا وهو مثبت مذكور في لوح محفوظ من الألواح العالية المحفوظة عن التحريف والفساد والبطلان.
من قبل أن نبرأها - يعني: المصائب، أو الأرض، أو الأنفس.
ان ذلك - أي: إثبات ذلك على كثرته وتفصيله هين على الله سهل يسير، وان كان عسيرا على غيره.
مكاشفة
إعلم أن حقائق الأشياء مسطورة أولا في العالم المسمى باللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقربين المحفوظين بحفظ الله وتبقيته وحراسته إياهم عن الخلل والنقصان والنسيان، وكما أن المهندس يسطر صورة أبنية الدار في نسخة، بل في خياله أولا، ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة المسطورة أولا في الخيال، - سطرا لا يشاهد بهذه العين -، فكذلك فاطر السموات والأرض، كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في العالم الأعلى العقلي، ثم النفسي، ثم الخيالي، ثم أخرجه على وفق تلك النسخة إلى الوجود الحسي المدرك بإحدى الحواس.
فعلمه تعالى بالأشياء الكائنة على هذا الترتيب بالوجه العقلي، بخلاف علمنا الانفعالي بها، الذي يحصل منها على عكس هذا الترتيب، فإن العالم الموجود الذي خرج إلى الوجود بصورته، تتادى منه صورة أخرى إلى الحواس، ثم إلى الخيال، ثم إلى النفس، ثم إلى العقل المنفعل المتحد بالعقل الفعال. فترتيب الصعود العودي، على عكس ترتيب النزول البدوي، فالحاصل في العقل الإنساني، موافق للعالم الموجود قبله على التعاكس في أنحاء الحصول.
وتوضيح ذلك: ان من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره، يرى صورة السماء والأرض في خياله كأنه ينظر إليهما، ولو انعدمت السماء والأرض في أنفسهما كأنه شاهدهما أو ينظر إليهما. ثم يتأدى من خياله أثر إلى العقل، فتحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال، فالعالم الموجود في اللوح العقلي، وهو سابق على وجوده في القدر والصور المثالية، وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الخارجي الكوني، ويتبع وجوده الخارجي وجوده الخيالي، ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي - أعني وجوده في القوة العاقلة الإنسانية المتحدة بالعقل الفعال -، وكما أن تلك الصور ومحالها نازلة من الله تعالى في سلسلة البدو، فكذلك صاعدة إلى الله تعالى في سلسلة العود، فالله تعالى منه البدو وإليه الرجعى.
ثم لما كانت بعض هذه الموجودات روحانية عقلية، وبعضها مثالية، وبعضها حسية، فكان الموجود الصادر من الحق عقلا، ثم نفسا، ثم حسا، فدار على نفسه فصار حسانيا، ثم نفسانيا، ثم عقلانيا.
وان اشتهيت زيادة الاطلاع على حكمة الله تعالى في خلق العالم، وعجائب صنعه في الموجودات، حيث أبرز مكنونات المكونات بقدرته وارادته أولا في قضائه وقدره، ثم أظهر مستورات الحقائق وخفيات المخلوقات ثانيا بتوسط القلم الأعلى واللوح الأعظم، على منصات الأكوان في عالم الزمان والمكان، فاستمع لشرحه اليسير الذي يتيسر سماعه للمحدق البصير:
فنقول: إن الباري تعالى، لما شرع في الإفاضة والجود، فأول ما أفاد وجوده هو العالم العقلي المشتمل على صور روحانية، هي جواهر مجردة عن الأجسام والمواد، منزهة عن العوائق الخارجية والفساد، مدركة لذواتها ولما عداها بذواتها - على ما بين بالبرهان، ونص عليه في الحديث والقرآن، وصرح به في كتب أهل العرفان -، وهي من عالم الأمر كما قال:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85].
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي. فهو مكتوب عنده فوق العرش ".
وهذا العالم، عالم الملائكة الموكلين بعالم السموات والأرضين على وجه الإفاضة والتأثير، وأعلى منهم الكروبيون، وهم العاكفون في حظيرة القدس لا التفات لهم إلى الأجسام، بل لا التفات لهم إلى غير الله، لاستغراقهم بشهود جمال الحضرة الربوبية وجلالها، ولا يستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الحق عن الإلتفات إلى غيره.
وقد وقع في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن لله أرضا بيضاء مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض، ولا يعلمون أن الله خلق آدم وابليس ".
وهذا الصنف من المفارقات التي ليست واقعة في سلسلة علل الأجسام، وليست فيها جهة نقص يكون بإزائها قصور في معلولاتها القريبة الجسمانية، فعبر عن تلك الجهة بعدم علمها بعصيان العصاة لأن علومها فعلية، فتدبر.
وبالجملة، الجميع أنوار محضة عقلية، إلا أن بعضهم المهيمون - وهم الأعلون - وبعضهم الأدنون في الصنف الأخير، وهم أنوار قاهرة فيما تحتها من النفوس والأجرام بتأثير الله تعالى، وقاهريتها صورة صفة قاهرية الله تعالى وجباريته، كما أن نوريتها من سبحات وجهه وجماله تعالى، وبهذه الاعتبار تسمى " الملائكة المقربون ". وعالمها عالم القدرة، وعالم الجبروت، إذ يفيض فيها صور الأشياء وحقائقها بإفاضة الحق سبحانه، وكذا يفيض عنها صفاتها وكمالاتها التي بها يجبر نقائصها، فعلم أن جميع الحقائق بأعيانها وكمالاتها منتقشة فيها، وبهذا الاعتبار تسمى: " عقولا ".
وذلك الانتقاش هو صورة القضاء الإلهي، فالقضاء عبارة عن ثبوت صور جميع الأشياء في العالم العقلي على الوجه الكلي، ومحله عالم الجبروت لتقدسه تعالى عن شوب الكثرة، وهو المسمى " بأم الكتاب " ، الذي أشار إليه قوله تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب
[الرعد:39].
وكل ما يفيض علينا من العلوم الحقة الموسومة بالعلوم اللدنية تفيض عنه كما قال تعالى:
اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم
[العلق:3 - 4]. وتلك الجواهر خزائن غيبه كما قال:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر:21].
وكما أن العالم الروحاني بجوهره المجرد محل القضاء، فالعالم النفساني بجرمه السماوي محل القدر، إذ الصور العقلية الكلية في عالم القضاء في غاية الصفاء والوحدة، لا يتراءى ولا يتمثل لغيرها لشدة نوريتها، كمرآة مضيئة ترد البصر عن إدراك ما فيها من الصور بشعاعها، فتنتسخ تلك الصور منه في النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم، كما تنتسخ بالقلم في اللوح صور معلومة مضبوطة منوطة بعللها وأسبابها على وجه كلي، كما يظهر في قلوبنا عند استحضارنا للمعلومات الكلية كالصور النوعية - مثلا - وكبريات القياس عند الطلب للرأي الجزئي المنبعث عنه العزم على الفعل، وهو " اللوح المحفوظ " ، ومحل القضاء، لانضباط تلك الصور فيه وانحفاظها عن التغير والزوال.
ثم ينتقش منه في النفوس الحيوانية الجزئية السماوية، التي هي قوى نفوسها الناطقة، منبعثة منها، منطبعة في أجرامها نقوش جزئية مشخصة بأشكال وهيآت معينة، مقارنة لأوقات معينة، مقدرة لمقادير وأوضاع معينة من لواحق المادة - على ما يظهر في الخارج -، كما تنتقش في قوتنا الخيالية المعلومات الجزئية كالصور الشخصية وصغريات القياس مثلا، ليحصل بانضمامها إلى تلك الكبريات رأي جزئي ينبعث عنه القصد الجازم إلى الفعل المعين، فيجب عنه ذلك الفعل بعينه، وذلك العالم هو: " لوح القدر ".
" فالقدر " عبارة عن حصول جميع الموجودات في العالم النفسي على الوجه الجزئي، مطابقة لما في المواد الخارجية، مستندة إلى أسبابها، واجبة بها، لازمة لأوقاتها. وعالمه: " عالم المثال " ، لأنه خيال العالم وسماء الدنيا التي تنزل إليها الكائنات أولا من غيب الغيوب، ثم تظهر في عالم الشهادة - كما ورد في الحديث -.
وتلك النفوس من قوى نفوسه الناطقة، بمثابة قوانا الخيالية من نفوسنا، وكل منها " كتاب مبين " ، كما أشير إليه بقوله تعالى:
ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
[الأنعام:59]. وقوله:
وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين
[هود:6].
وحصول تلك الصور المعينة المقيدة بوقتها المعين هو " قدر الشيء " المعين الخارجي كما قال:
وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر:21]. ومحل هذا القدر هو الهيولى الأولى، التي هي بعينها " لوح ذلك القدر " الذي محله الملكوت العمالة بإذن الله، كما أن محل القدر ولوح القضاء هو: " العالم النفسي " ، ومحل القضاء هو: " عالم الجبروت ".
وهذه التي ذكرناها جملة تحتاج إلى التفصيل والتدقيق في غير هذا الموقف، وقد فصلناها وبسطنا القول فيها وفي نظائرها من المقاصد الربوبيات في كتابنا الكبير المسمى ب " الأسفار الأربعة ".
ومن عجائب صنع الله سبحانه، أنه أبدع نظائر جملة هذه الحقائق المتعلقة بذاته المقدسة من القلم، واللوح، والقضاء، والقدر، وعالمي الخلق والأمر، والشهادة والغيب، والدنيا والآخرة. وأودع من كل واحد من تلك المعاني أنموذجا ومثالا في فطرة الآدمي وروحه، لتصير صورة الإنسان مثالا له ذاتا وصفاتا وأفعالا، وان لم يكن مثلا له لتعإليه عن الشبه والمثل.
فكما أن لأفعال الإنسان - عند إرادة صدورها منه وبروزها من مكامن غيبها إلى مظاهر شهادتها - أربعة مراتب:
لكونها أولا في مكمن روحه العقلي، الذي هو غيب غيوبه في غاية الخفاء، كأنها غير مشعور بها
ثم تنزل إلى حيز قلبه الحقيقي ونفسه الناطقة عند استحضارها وإخطارها بالبال كلية.
ثم تنزل إلى مخزن خياله ونفسه الحيوانية مشخصة جزئية.
ثم تتحرك أعضاؤه عند إرادة إظهاره فيظهر في الخارج.
فكذلك الحال فيما يحدث في العالم بعناية الله تعالى وارادته من الحوادث، إذ الأولى بمثابة القضاء، ومحله بمثابة القلم. والثانية بمثابة نقش اللوح المحفوظ، ومحله اللوح المحفوظ من الفساد، لأنه جوهر روحاني ناطق لا يفسد بفساد البدن.
والثالثة بمثابة الصورة في السماء الدنيا، ونقش لوح القدر على ما نراه، ومحله اللوح المقدر والجسم الصيقل البخاري الدخاني المشابه للسماء وهي دخان، والرابعة بمثابة الصور الحادثة في المواد العنصرية.
ولا شك أن النزول الأول لا يكون إلا بارادة كلية، والنزول الثاني بارادة جزئية خفية تنظم إلى الإرادة الأولى الكلية، فتتخصص بها وتصير جزئية، فينبعث بحسب ملائمتها ومنافرتها رأي جزئي يستلزم إرادة جازمة داعية إلى إظهاره، فتتحرك الأعضاء والجوارح ويظهر الفعل، فحركة الأعضاء، بمثابة حركة السماء، وظهور الفعل هو القدر على المذهب الثاني.
وكما أن سلطان الروح - الذي هو التعقل والإدراك في البدن - لا يظهر إلا في الدماغ - لمكان الروح الدماغي النفساني -، فكذلك سلطان الروح الكلي - الذي هو روح العالم -، لا يكون إلا في العرش لمكان القوة المحركة السارية فيه، فهو من العالم بمنزلة الدماغ من الإنسان.
وكما أن مظهر الأول فينا هو " القلب " الذي هو منبع الحياة، فكذلك مظهره الأول فيه هو " الفلك الرابع " الذي هو فلك الشمس، ووسط العالم، ومنبع حياة العالم، ومنشأ تدبير الكائنات ومنورها بالنور الحسي المظهر لكل شيء من الأجرام، والمعطي لها حقها من الحياة الحيوانية الحسية، كما أن الباري تعالى منبع الحياة العقلية للذوات العقلية النورية، والمنور لذواتها، والمكمل لها بافاضة العشق والنور والوجود على ذواتها التي أبدعت على كمالها الأتم وعشقها وتألهها منذ أول الفطرة، من الله مبدؤها وإليه منتهاها.
فالشمس: مثال الله الأعظم، وخليفته في عالم الأجسام بروحها وقوتها الساريتين في كل جسم من العالم، وكذلك القلب مثاله وخليفته في عالم البدن الإنساني بروحه الحيواني وقوتها الساريتين في كل عضو من الإنسان.
فروح الفلك بمثابة الروح الحيواني الذي في القلب، إذ به تحيى جميع الأعضاء. وهو " البيت المعمور " المشهور في الشريعة انه في السماء الرابعة، المقسم به في التنزيل حيث قال:
والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور
[الطور:1 - 6]. ولهذا جعلت مقام عيسى روح الله - على نبينا وآله وعليه السلام -، و " الكتاب المسطور " هو نقش القضاء الأول الثابت في الروح الأول العقلي، وذلك الروح هو " الرق المنشور " ، " والسقف المرفوع " هو السماء الدنيا المذكورة، وقريب بالبيت المعمور، لنزول الصورة منها ونفخ الروح منه، فيتم بهما خلق الحيوان، و " البحر المسجور " هو بحر الهيولى السيالة المملوة بالصور، وهي الهاوية والجحيم عند ظهور القيامة - والله أعلم -.
[57.23]
وقرأ أبو عمرو: { بمآ آتاكم } - بالقصر -، ويكون الفاعل الضمير الراجع إلى الموصول. والآخرون بالمد ليكون هو الضمير العائد إلى اسم الله، و " الهاء " محذوفة من الصلة، تقديره: بما آتاكموه.
لما ذكر سبحانه أن جميع ما أوجده الله تعالى مثبت في كتاب سابق، أراد أن يعلل ذلك ويبين حكمته فيه، فقال: لكيلا تأسوا ولا تفرحوا. أي: فعلنا ذلك لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا، ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها، والذي يوجب نفي الأسى والفرح، أن الإنسان إذا علم أن كلما حكم عليه في القضاء السابق الأزلي ليس إلا من مقتضيات ذوات الأشياء التي لا يمكن التفصي عنها، يحصل له الاطمينان الكلي والراحة الكلية بأن كل كمال تقتضيه حقيقته، وكل رزق صوري أو معنوي يطلبه عينه، لا بد أن يصل إليه.
كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ألا إن الروح الأمين نفث في روعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ".
فيستريح عن تعب الطلب، وان طلب أجمل ولا يخاف من الفوات ولا ينتظر، لعلمه بأن الله سبحانه في كل حين يعطيه من خزائنه ما يناسب وقته واستعداده، فهو واجد دائما من مقصوده شيئا فشيئا، وما لا يقدر له لا يراه من الغير، فلا يبقى له حزن على فوات شيء. وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال، لم يعظم فرحه عند نيله.
فإن قلت: بعض بني الإنسان ربما كان مقتضى ذاته أمورا لا تلائم نفسه كالفقز، وسوء المزاج، وقلة الاستعداد، ولا يرى سببا للخلاص، إذ مقتضى الذات لا يزول، فيحصل له غاية الأسى من هذا الوجه ولذلك قيل: " العلم بسر القدر يعطي النقيضين: الراحة الكلية والعذاب الدائم " ، فكيف يستقيم الحكم بعدم الأسى والحزن على فوات الأمور؟
قلنا: ليس المراد نفي الأسى والفرح الصادرين عن الشخص بحسب الطبع، بل المراد نفي صدورهما من العاقل على سبيل الاختيار المنبعث عن تصور الفائدة والنفع، وليس للحزن فائدة فيما ذكر.
ويمكن أن يقال: إن العالم بسر القدر لا يكون شقيا، والشقي لا يكون عالما به، فمن قال: " ان العلم بسر القدر يعطي النقيضين " فلا وجه له ظاهرا.
وأما ما قيل في بيان عدم الأسى والفرح: ان الإنسان إذا علم أن ما فات منه ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة، فلا ينبغي أن يحزن لذلك، وإذا علم أن ما ناله كلف الشكر عليه والحقوق الواجبة، فلا ينبغي أن يفرح لذلك، فكلام حسن محمود في المواعظ.
فإن قلت: إذا كان عدم الحزن والفرح عند المضرة والمنفعة الواصلتين للإنسان ليس مقدورا له إذ لا يملك أحد نفسه عند ورود أحدهما عن أحدهما - فكيف يلائم ويحسن هذا التعليل؟ والعلة الغائية أو الغاية الذاتية للشيء ينبغي أن يكون بينها وبينه علاقة سببية، أو أن تكون الغاية مترتبة على الفعل.
قلنا: المراد نفي الأثر المذهل صاحبه عن الصبر، المانع له عن التسليم لأمر الله، والفرح المطغي الملهي عن الشكر، الموجب للبطر والاختيال، فأما الحزن الذي لا يكاد أحد يخلو منه مع الاستسلام لحكم الله والسرور بنعمة الله مع إعطاء حقه - من الشكر - والتفطن لما يلزمه من الانتقال والدثور، والعمل بموجبه فلا بأس بهما.
وللإشعار بأن المراد من الفرح المذكور هو الذي يوجب البطر والخيلاء عقبه بقوله: والله لا يحب كل مختال فخور -، أي: معجب بما أوتي، متكبر على الناس بالدنيا، فإن الفرق بين " الخيلاء " " والفخر " كالفرق بين " العجب " " والتكبر " في أن أحدهما بحسب نفس الموصوف به، والآخر له بالقياس إلى غيره دون مقابله، لأن النكتة في ذكر شقاوة الموصوف بأحد المتقابلين دون الآخر، أن هذا أشقى منه ولأن الإتصاف بأحد هذين الوصفين يستلزم الإتصاف بالآخر، إذ قل من يكون له الفرح المطغي عند حظ دنيوي ولا يضطرب عند المصيبة، بل الغالب أن لا تثبت نفسه حالة الضراء، كما لا تثبت نفسه حالة السراء، فكل مختال فخور يكون جزوعا غير صبور، وكلا الأمرين نقص وخسة، والله لا يحب كل ناقص خسيس.
ففي هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء:
أحدها: حسن الخلق. لأن من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها لا يحسد، ولا يعادي، ولا يشاح، لأن جميعها من أسباب سوء الخلق، وهي من نتائج النقص والخسة.
وثانيها: استحقار الدنيا وأهلها إذا لم يفرح بوجودها ولم يحزن بعدمها، وإليه أشار - عليه وآله والسلام - بقوله: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس أمثال الأباعر ". يعني لا يحفل بوجودهم ولا يغيره ذلك ما لا يغير بوجود بعير عنده وتمام الخبر: " ثم هو يرجع إلى نفسه فيكون أعظم حاقر لها ".
وثالثها: تعظيم الآخرة لما سئل فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب، لأنه لما يئس من وجدان اللذة والنعيم في الدنيا، توجه إلى طلبهما في الآخرة، وأهل الدنيا بعكس ذلك، لأنهم لما يئسوا من الآخرة ولذاتها ونعيمها، انكبوا إلى الدنيا واطمأنوا بها ويئسوا من الآخرة:
كما يئس الكفار من أصحاب القبور
[الممتحنة:13].
ورابعها: الافتخار بالحق والتشبث به دون أسباب الدنيا، ويروى أن علي بن الحسين (عليهما السلام) جاءه رجل فقال: ما الزهد؟
قال: الزهد عشرة اشياء، فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا، ألا وان الزهد في آية من كتاب الله عز وجل: { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم } [الحديد:23].
وقيل: لبزرجمهر: مالك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: لأن الفائت لا يتلاقى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالخبرة.
مكاشفة
قد وضح من هذه الآية إن كل ما وقع أو سيقع في هذا العالم مقدر بهيآته وزمانه، مكتوب بوصفه وخصوصيته في عالم آخر قبل وجوده، فإن اشتبه عليك الحال في الأفعال المنسوبة إلى الاختيار، وتخيل لك انها على هذا التقدير يلزم أن يكون بالاضطرار، فما بالنا نجد الفرق بين المضطر والمختار؟ ولماذا نتصرف فيها بالتدبير والتغيير ونصرفها بالتقديم والتأخير؟
ثم إذا كان الكل بالقضاء والقدر، فلماذا يؤاخذ بها ويعاقب عليها، أو يؤجر ويثاب بقصدها؟ وما الفرق بين سهونا وعمدنا؟ فكيف يتجه المدح والذم لنا؟ وأي فائدة للتكليف بالطاعات والعبادات، ودعوة الأنبياء بالآيات والمعجزات؟ وأي تأثير للسعي والجهد؟ وأي توجيه للوعيد والوعد؟ وما معنى الابتلاء في قوله تعالى:
ليبلوكم أيكم أحسن عملا
[الملك:2] وما لا يحصى من الآيات الدالة على أن مدار التكليف هو الاختيار، وبناء الأمر في الاختبار على الاختيار؟
فتأمل جريان الأمر والنهي في مجاري القضاء والقدر، وتفكر في سلسلة الأسباب والعلل، وتدبر في مباني الأمور حق التدبر، ومعاني الآيات بقوة التفكر - ان كنت من أهله وخلقت لاجله -، عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وينكشف لك ما ينكشف لأهل اليقين والراسخين في العلم، وتتخلص عن الشرك الخفي، فبادر عند التفطن بما يتفطن به العرفاء الكاملون إلى الاعتذار والتوجه والاستغفار.
واعلم أن القضاء والقدر إنما يوجبان ما يوجبان بتوسط أسباب وعلل مترتبة منتظمة، بعضها فاعلات مقتضيات كالمبادئ العالية من الجواهر العقلية، وبعضها مدبرات ومعدات كالنفوس السماوية والحركات والأوضاع الفلكية والصور واللواحق والأمور الجارية مجرى الأشياء الاتفاقية - التي هي لزومية من وجه -، وغيرها من الإدراكات والإرادات الإنسانية، والحركات والسكنات الحيوانية، وبعضها قوابل واستعدادات ذاتية، أو عارضية تختص بسببها بحال دون حال، وصورة دون صورة - ترتيبا وانتظاما متقنا معلوما في القضاء السابق -، فاجتماع تلك الأمور من الأسباب والشرائط، مع ارتفاع الموانع، علة تامة يجب عند وجودها ذلك الأمر المدبر والمقضي المقدر، وعند تخلف واحد منها، أو حصول مانع يبقى وجوده في حيز الامتناع. ومع قطع النظر عن وجود جميع الأسباب وعدمه يبقى في حيز الإمكان.
فإذا كان من جملة الأسباب - وخصوصا القريبة منها - وجود هذا الشخص المكلف الإنساني، وادراكه، وعلمه وارادته، وقبوله التكليف بتفكره وتخيله اللذين يختار بهما أحد طرفي الفعل والترك، كان ذلك الفعل اختياريا واجبا وقوعه بجميع تلك الأمور المسماة علة تامة، ممكنا بالنسبة إلى بعض منها، فوجوبه لا ينافي إمكانه، ومجبوريته لا تنافي كونه بالاختيار، كيف وانه ما وجب إلا بعد كونه ممكنا، وما جبر عليه إلا بعد كونه مختارا.
فمن نظر إلى بعض الأسباب قاصرا نظره إلى القريبة منها، ورآها مؤثرة بالاستقلال قال بالقدر والتفويض - أي بكونها واقعة بقدرتنا الاستقلالية مفوضة الينا -، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" القدرية مجوس هذه الأمة "
لأنها تثبت مبدأين قادرين مستقلين كالمجوس القائلين بيزدان وأهرمن، وان أحدهما فاعل الخير، والآخر فاعل الشر بالاستقلال.
ومن نظر إلى السبب الأول، وكون تلك الأسباب والوسائط مستندة بأسرها على الترتيب المعلوم في سلسلة العلل والمعلولات إلى الله تعالى استنادا واجبا وترتيبا معلوما على وفق القضاء والقدر، وقطع النظر عن الأسباب القريبة، أو نفى التأثير مطلقا في العلل والمعلولات، وأبطل حكمة الله في نظم الأسباب وتقدمها على المسببات قال بالجبر وخلق الأفعال، ولم يفرق بين أفعال الأحياء وأفعال الجمادات.
وكلاهما أعور دجال لا يبصر بإحدى عينيه. أما القدري فبالعين اليمنى - أي النظر الأقوى - الذي به يدرك الحقائق. وأما الجبري فباليسرى - أي الأضعف - الذي به يدرك الظواهر.
وأما من نظر حق النظر فأصاب، فقلبه ذو عينين، يبصر الحق باليمنى فيضيف الأفعال إليه - خيرها بالذات وشرها بالعرض -، ويبصر الخلق باليسرى فيثبت تأثيرهم في الأفعال به سبحانه لا بالاستقلال، وبالإعداد لا بالإيجاد، ويتحقق بمعنى قول الصادق (عليه السلام): " لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين " فيتخذه مذهبا، وذلك هو الفضل الكبير.
وأما من أضاف الأفعال إلى الله تعالى بنظر التوحيد، وإسقاط الإضافات، ومحو الأسباب والمسببات - لا بمعنى خلق الأفعال فينا أو خلق قدرة وإرادة جديدتين متبائنتين لقدرته وإرادته عند صدور الفعل عنا -، فهو الذي طوى بساط الكون، وخلص عن مضيق البون، وخرج من البين والأين، وفني في العين، لكنه بقي في المحو ولم يجئ إلى الصحو، ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وسبحات وجهه وجلاله، فاضمحلت الكثرة في شهوده، واحتجب التفصيل عن وجوده، وذلك هو الفوز العظيم.
فإذا رجع إلى الصحو بعد المحو، ونظر إلى التفصيل في عين الجمع، غير محتجب برؤية الحق عن الخلق، ولا بالخلق عن الحق، ولا مشتغل بوجود الصفات عن الذات، ولا بالذات عن الصفات، فهو الولي المحق الصديق، صاحب التمكين والتحقيق، ينسب الأفعال إلى الله تعالى بالإيجاد، ولا يسلب عن العباد بالإعداد، كما في قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله
[الأنفال:17].
تكميل وتوضيح
فعلم مما ذكر، أن الدعوة والتكليف، والإرشاد والتهذيب، والوعد والترغيب، والإيعاد والتهديد، أمور جعلها الله تعالى مهيجات الأشواق، ودواعي إلى خيرات وطاعات، واكتساب فضائل وكمالات، ومحرضات على أعمال حسنة، وعادات محمودة، وأخلاق جميلة، وملكات فاضلة مرضية نافعة في معاشنا ومعادنا، يحسن بها حالنا في دنيانا، وتحصل لنا سعادة عقبانا، أو محذرات عن أضدادها من الشرور والقبائح، والذنوب والرذائل، مما يضرنا في العاجل، ويشقى بنا في الآجل، لم يحصل لنا شيء من الطرفين إلا بتلك الأسباب ونقائضها،
" وكانت تلك الوسائط أيضا مقدرة لنا، واجبة باختيارنا كما قال - عليه وآله السلام - لمن سأله: هل يغني الدواء والرقية من قدر الله؟
قال: " الدواء والرقية أيضا من قدر الله... " ".
ولما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" " جف القلم بما هو كائن " قيل: ففيم العمل؟ "
فقال: " اعملوا، فكل ميسر لما خلق له ".
ولما سئل: " أنحن في أمر فرغ منه أو أمر مستأنف "؟
قال: " في أمر فرغ منه، وفي أمر مستأنف ".
ومن هذا علم أن كل ما يصدر عنا من الحركات والإرادات، والحسنات والسيئات، محفوظة مكتوبة علينا، واجب صدورها عنا، مع كونها باختيارنا، كما قال تعالى:
وكل شيء فعلوه في الزبر* وكل صغير وكبير مستطر
[القمر:52 - 53].
وقال:
ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين
[يس:12]. فيه معرفات لسعادتنا وشقاوتنا في العقبى، وليست بموجبات لهما، وكذلك ما يصل الينا من الرغائب والمكاره، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ".
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " اعلموا علما يقينيا، أن الله لم يجعل للعبد - وإن اشتد جهده وعظمت حيلته وكثرت مكابدته - أن يسبق ما سمي له في الذكر الحكيم " - أي اللوح المحفوظ - والشواهد في هذا الباب أكثر من أن تحصى.
وأما الابتلاء: فهو إظهار ما كتب علينا في القدر، وابراز ما أودع فينا وغرز في طباعنا بالقوة، بما يظهره من الشواهد، ويخرجه إلى الفعل من الوقائع والحوادث والتكاليف الشاقة، بحيث يترتب عليه الثواب والعقاب، فإنها ثمرات ولوازم وتبعات وعوارض لأمور موجودة فينا بالقوة، فإذا لم تصدر عنا مباديها في الدنيا، لم تخرج هي إلى الفعل في العقبى، فكما أن المثوبات الأخروية ليست بقصد وإرادة جزافية واقعة من الحق المقدس من النقص والشين، والتفات حاصل من العالي بالقياس إلى السافل، بل من باب الاستجرار ونظم الأسباب وترتيب المسببات عليها بحكمة المدبر العليم، وإرادة الصانع الحكيم، الذي له الملك والملكوت، وبذاته التامة الفاعلية يفيض الأشياء ويخلق ما يشاء من غير مصلحة زائدة وإرادة متجددة فكذلك العقوبات الإلهية والتعذيبات الأخروية، ليست من باب الانتقام من فاعل يحدث فيه انفعال غضبي ينتقم لأجل التشفي والتخلص من حرقة الغضب وشدة اللهب، بل النفس الشقية العاصية إنما هي حمالة حطب نيرانها، لسوء أفعالها ورداءة أخلاقها كمن به مرض أدت نهمته السابقة إلى المحن الشديدة والأوجاع والآلام على سبيل اللزوم والانجرار، لا لمنتقم خارجي، فكيف تحصل الأسباب والمقدمات لشيء ولا تحصل ثمراتها وتبعاتها التي هي عوارضها ولوازمها، والجميع معلومة لله تعالى قبل وجودها ومعه وبعده، من غير تغير في ذاته ولا في صفاته، بل باعتبار تجدد الأشياء وتعاقبها في مرتبة حضورها وشهودها التجددي، والتي هي آخر مرتبة من مراتب علمه بالأشياء، التي هي عين الأشياء.
فقوله تعالى:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين
[محمد:31] وأمثالها، معناه: نعلمهم موصوفين بهذه الصفة، بحيث يترتب عليها الجزاء، وأما قبل ذلك الابتلاء، فإنه علمهم مستعدين للمجاهدة والصبر، صائرين إليها بعد حين.
فإن رجعت وقلت: إذا كانت الأسباب والمقدمات - وبالجملة الفضائل والرذائل، والطاعات والمعاصي، والخيرات والشرور - كلها مقدرة مكتوبة علينا قبل صدورها منا، معجونة فينا مربوطة بأوقاتها، فما بالنا لا نتساوى في الفضيلة والنقص؟ ولا نتعادل في الخيرات والشرور؟ ولم لا نتشاكل في الطاعات والمعاصي ولا نتماثل؟ وكيف نحترز عما يجب الاحتراز عنه فننجو من وباله وتبعاته؟ وبأي شيء يتفضل السعيد على الشقي وقد تساويا فيما قدر لهما؟ وأين عدل الله فينا وقد قال تعالى:
ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق:29].
وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[النحل:118].
فنجيبك يا أخا الجدل بمثل ما قال الشاعر:
هون على بصري ما شق منظره
فإنما يقظات العين أحلام
اصبر واستمع ما يشفيك من غيضك، ويكفيك في إزالة ريبك، واعلم أن الأعيان والماهيات متنوعة، والصفات والاستعدادات متفننة، والأرواح الإنسية بحسب الفطرة الأولى مختلفة في الصفاء والكدورة، والضعف والقوة، مرتبة في درجات القرب والبعد من الله، والمواد السفلية بأزائها بحسب الخلقة متباعدة في اللطافة والكثافة، ومزاجاتها متبائنة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي، فقابليتها لما يتعلق بها من الأرواح متفاوتة، وقد قدر بازاء كل روح ما يناسبه من المواد بحسب الفيض الأقدس، فحصل من مجموعها استعدادات مناسبة لبعض العلوم والأخلاق والصفات والكمالات، موافق لبعض الأعمال والصناعات دون بعض، على ما قدر لها في العناية الأولى والقضاء السابق، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ".
وتتفاوت العقول والإدراكات والأشواق والإرادات بحسب اختلاف الطبائع والغرائز فيسرع بعضهم بطبعه إلى ما ينفر عنه الآخر، ويستحسن أحدهم بهواه ما يستقبحه الثاني، والعناية الإلهية تقتضي نظام الوجود على أحسن ما يمكن ويتصور.
على أن الموجودات مظاهر لصفاته العليا، ومجالي لأسمائه الحسنى، وهي متخالفة في المفهوم، متباعدة في المعنى، مع أحدية ذاته الحقة وبساطة حقيقته المقدسة، فكل واحد من الممكنات مبدؤه ومعاده إلى اسم من الأسماء الإلهية، محكوم بحكمه، ملائم لما يتوجه إليه، مناسب لما يبتدأ منه " وكل ميسر لما خلق له " ،
سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص
[إبراهيم:2].
كيف؛ ولو تساوت الأشياء في الاستعدادات، لفات الحسن في ترتيب النظام، وارتفع الصلاح عن العالم، ولبقوا كلهم في طبقة واحدة، على حالة واحدة، في مرتبة واحدة، ولا تتمشى أمورهم، ولبقيت في كتم العدم المراتب الباقية - مع إمكان وجودها -، فكان حيفا عليها وجورا، لا عدلا وقسطا، وبقي الاحتياج إليها في العالم مع فقدها، فالعدل هو تسوية المواد والأشباح بحسب الصور والأرواح، وتعديل الأمزجة بحسب الأنواع، وتوزيعها على الأصناف والأشخاص، وتوجيه الأفراد من الأجناس إلى ما يناسبها من الأمور والأشغال.
فمن أساء عمله، وأخطأ في اعتقاده، فإنما ظلم نفسه بظلمة جوهره وكثافة طبعه وقصور استعداده، وكان أهلا للشقاوة في معاده، ينادى على لسان المالك: مهلا " فيداك أو كتاوفوك نفخ "
ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود:118 - 119] واختلاف الغرائز كاختلاف الأشكال والطبائع.
وأما أنه كيف السبيل إلى الاحتراز عما يجب الاحتراز عنه: فإن شريف النفس بحسب الجوهر الطيب الأصل، قلما يهم بشيء خسيس مما ليس في فطرته، ولم يقدر له من الفواحش والرذائل لعدم المناسبة، وإذا هم نادرا لغلبة صفة من صفات نفسه وقواه، واستيلاء هواه، وهيجان شهوة أو غضب فيه بأمر قبيح، ينزجر بأقل زاجر من عقله وهداه، وربما يعود قبل صدور الفعل وامضاء الهم النفساني إلى عقله وتقواه من غير عزم على الفعل، كما قال تعالى في يوسف:
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف:24].
وإذا كان دون ذلك في صفاء الفطرة والاستعداد، فلا ينزجر بزاجر من الشرع والسياسة والناصح والأديب، لخسة نفسه وخبث جوهره ودناءة طبعه، وكل يشتاق إلى ما يفعله بطبعه، ويحبه ويستحسنه، وان كان الآخر يعلم أن ضده أجود وأحسن، كمحبة الزنجي ولده مع قبحه، دون الغلام التركي مع علمه بحسنه.
ولكل من القسمين مرتبة خالصة عن الآخر، وطبقات متفاوتة متفاضلة يكون في كل منها نصيب من الآخر المقابل له، وتكون النجاة ومقابلها بحسب الغلبة لصفات الخير على صفات الشر أو بالعكس.
وبالجملة، فأعظم السعادات مطلقا لأجود الاستعدادات، وأكمل الكمالات لأشرف الأرواح الذي هو القطب الحقيقي، والحقيقة المحمدية - وهو القطب المطلق -، لا القطب الإضافي بحسب كل وقت وزمان - كسائر الأنبياء سابقا وسائر الأولياء لاحقا.
سيما أولاده المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين -، كما قال الله تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة:253] - إلى قوله تعالى -
ورفع بعضهم درجات
[البقرة:253]. وقوله:
ذرية بعضها من بعض
[آل عمران:34]. فله المرتبة العظمى في الاستعداد، والسعادة الكبرى في المعاد، المعبر عنها " بأعلى عليين " ، وكلما قصر الاستعداد نقصت السعادة، وقصر العرض بينها وبين الشقاوة القصوى المعبر عنها " بأسفل سافلين " ، فلكل صفو كدر، ولكل صاف عكر، وتقابل كل نور ظلمة، وبإزاء كل حسن قبح.
والسعادة قسمان: دنيوية واخروية:
والدنيوية قسمان: بدنية كالصحة والسلامة، ووفور القوة والشهامة. وخارجية كترتب أسباب المعاش، وحصول ما يحتاج إليه من المال.
والأخروية أيضا قسمان: علمية كالمعارف والحقائق. وعملية كالطاعات. والأولى جنة المقربين. والثانية جنة أصحاب اليمين، وكما أن الحسن والجمال من عوارض القسم الأول من الدنيوية، فالفضائل والأخلاق الجميلة من عوارض القسم الأول من الأخروية.
وتتعدد أقسام الشقاوة بازائها.
قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): " صف العالم "؟ فوصفه.
فقيل: " صف الجاهل "؟ قال: قد فعلت.
فالسعادة والشقاوة بحسب العلم والجهل ذاتيان أزلا وأبدا، مخلدتان دائما وسرمدا. وبحسب الأعمال الحسنة والسيئة تترتب عليهما المكافآت والمجازاة، وتتقدر بحسبهما المثوبات والعقوبات، كقوله تعالى:
جزآء بما كانوا يكسبون
[التوبة:82]. ولا تكون هذه الشقاوة مخلدة إلا ما شاء الله، وقد يتركب بعضها مع بعض وينفرد، إلا أن أكثر السيئات وأكبرها يتبع الجهل، وأغلب الحسنات وأعظمها يتبع العلم.
اللهم اجعلنا من السعداء المقبولين، ولا تجعلنا من الأشقياء المردودين.
ولقد أشبعنا في الكلام، ونقلنا شطرا من كتب الكرام، لكثرة تحير الناس في هذا المقام، وقد بقي بعد خبايا من الخفايا بها يتم المرام، تركناها في سنبله مخافة شنعة اللئام، الذين آرادوا أن يعرجوا إلى كنه المعارف بعلم الكلام، الموضوع لحراسة عقائد العوام من إفساد المجالدين الخصام، وقطاع طريق النجاة في الإسلام، وقد فرقنا كثيرا من المكاشفات المتكررة المتعلقة بهذا المقصد في كتبنا ورسائلنا، سيما ما يتعلق بتعذيب الجاحدين والكافرين مؤبدا، وبقائهم في الجحيم مخلدا.
وفيما ذكرناه كفاية لمن تيسر له، ولا ينجع أكثر من لمن تعسر عليه، فليرجع من أراد الوقوف والاطلاع إليه، وبالله العياذ من التقصير، وبه يتيسر كل عسير.
[57.24]
قرأ نافع وابن عامر: { فإن الله هو الغني } وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك، والباقون بإثبات { هو } لوجوده في مصاحفهم. والضمير ينبغي أن يكون فصلا، لا مبتدأ، لأن حذف الفصل أسهل - إذ لا موضع له من الأعراب - بخلاف المبتدأ، ألا ترى أنه قد يحذف فلا يخل بالمعنى. وقرئ: " بالبخل ".
وقوله: { الذين } بدل من قوله:
كل مختال فخور
[الحديد:23] كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون. وفيه دلالة على أن ذا الفرح المطغي متكبر بما أوتي، فخور على الناس. وإذا رزق هو وأشباهه مالا وحظا من الدنيا فلابتهاجهم به والتذاذهم منه وعزته لديهم، وعظمته في أعينهم - لاجل قصور عقلهم ونقص فطرتهم وخلل جوهرهم - يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويحملوهم عليه، ويرغبوهم بالإمساك ويزينونه لهم، وذلك كله من نتائج فرحهم به وبطرهم عند إصابته، والفرح بالمحقرات الدنية الدنيوية من لوازم قصور الذات وخسة الجوهر وقلة العقل، حيث لم يتنبه بدثورها وفنائها، ولما كان الابتهاج بمتاع الحياة الدنيا، والبخل عن أداء الحقوق الواجبة وغير ذلك من ذمائم الأخلاق، ناشئة عن التوجه إلى الجنبة السافلة المستلزم للإعراض عن الحق والتولي عن قبول أوامره - كالإنفاق - ونواهيه - كالبخل -، أشار إلى أنه غني عن العباد وانفاقهم، محمود في ذاته، لا يقدح في كمال ذاته ووجوب وجوده الإعراض عن شكره.
مكاشفة
إن في قوله: " هو الغني الحميد " من التهديد ما لا يخفى، للإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة تعود إلى المنفق، فإذا فات عنه ما هو المصلح لذاته، المذكي له عن ذمائم الأخلاق - كالبخل وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة -، كانت عاقبته السوء.
وليس في بخل العبد وإمساكه ضرر على الله تعالى، بل الأمر بالإنفاق والتأكيد فيه، إنما وقع من الله تعالى لغاية رحمته على عباده، حيث هداهم طريق التخلص عن عذاب الأخلاق الذميمة في الدنيا والآخرة، مع كونه غنيا عن العالمين فكيف عن العبد وانفاقه.
وقد بالغ في الحث على الإنفاق، حتى طلب الصدقات منهم بقوله:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة:245] وقال:
ويأخذ الصدقات
[التوبة:104].
وقد سلكت طائفة من المخذولين طريق الإباحة وقالوا: إن الله غني عن إنفاقنا، وغني عن أن يستقرض منا، فأي معنى لقوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة:245] ولو شاء اطعام المساكين لأطعمهم، فلا حاجة لنا إلى صرف أموالنا إليهم. كما قال الله تعالى حكاية عن الكفار بقوله:
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه
[يس:47]. وقال تعالى أخبارا عنهم:
لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا
[الأنعام:148].
فانظر كيف كانوا صادقين في كلامهم، وكيف هلكوا بصدقهم.
فسبحان من إذا شاء أهلك بالصدق، وإذا شاء أصعد بالجهل.
كه آدم راز ظلمت صد مدد شد
زنور ابليس ملعون أبد شد
رب تال للقرآن والقرآن يلعنه. رب رجل فقيه متعبد، يكون فقهه وتعبده سببا لهلاكه، ورب جاهل مذنب يكون تحسره وحزنه على قصوره وعصيانه سببا لنجاته
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
[البقرة:26].
فهؤلاء لما ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين أو لأجل الله، تحيرت عقولهم وضلت أفهامهم فقالوا: لا حظ لنا في المساكين، ولا حظ لله فينا وفي أموالنا أنفقنا أو أمسكنا ولم يعلموا أن المسكين الآخذ لمالك، يزيل - أو يقلل - حب البخل وحب الدنيا من باطنك، فإنه مهلك لك، فهو كالحجام يستخرج الدم من عروقك ليخرج العلة المهلكة من باطنك.
ولما كانت الصدقات مطهرة للبواطن ومزكاة لها عن خبائث الصفات، وغسالة لذنوبهم - لأن بالمال يتمكن الإنسان من المعاصي -، امتنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أخذها وانتهى عنها، كما نهى عن كسب الحجام، وسمى الصدقات أوساخ أموال الناس، وشرف أهل بيته بالصيانة عنها.
فهذا هو القول الكلي والسبب العقلي في وجوب الإنفاق، وقد سبق أن الأعمال مؤثرات في القلب، والقلب بحسب تأثيرها يستعد إما لقبول الهداية ونور المعرفة والإلهام، وإما لقبول الغواية وظلمة الجهل والوسواس، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى:
ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون
[الحاقة:36 - 37]. إشارة إلى حال عاقبة عمال الزكاة ومتولي الأوقاف الذين يأكلون حقوق المساكين من غير استيهال ولا اضطرار.
[57.25]
أقسم سبحانه أنه أرسل الرسل المبعوثين منه - وهم الملائكة والأنبياء عليهم التقديس والتسليم - بالحجج والمعجزات الباهرة، وأنزل معهم الوحي والميزان. والأول للهداية إلى العلوم والتعليمات، والثاني للإرشاد إلى الأعمال والمعاملات، ولهذا عقبه بقوله: ليقوم الناس بالقسط - أي: في معاملتهم بالعدل.
روي أن جبرائيل (عليه السلام) نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: " مر قومك يزنوا به ".
وعن ابن زيد والجبائي. ومقاتل بن سليمان معناه: وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفتين يوزن به - وفيه سر -.
وعن قتادة ومقاتل بن حيان: معناه أنزلنا صفة الميزان، أي أمرنا الناس بالعدل، كقوله:
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان
[الشورى:17].
وأنزلنا الحديد - الذي يتخذ منه آلات الحروب للذب عن بيضة الإسلام، ولبأس أهل الفساد ومنفعة الناس، إذ ما من منفعة به الناس دينا ودنيا إلا والحديد آلتها كالكتابة والزراعة وغيرهما.
روى ابن عمر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" إن الله - عز وجل - أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد والماء والنار والملح ".
ومعنى الإنزال عند أهل المعنى: الإنشاء منها، لأن الحوادث الكونية إنما تخلق من الله بتوسط الأسباب الفاعلة السماوية، والمواد القابلة الأرضية، فمعنى قوله: أنزلنا الحديد: أنشأناه وأحدثناه، كقوله:
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج
[الزمر:6]. وعلى هذا المعنى أيضا يحمل أمثال قوله:
وأنزلنا من السمآء مآء
[الفرقان:48] فإن السموات ليست حياضا وغدرانا للمياه ولا اصطبلا للدواب، وإلى شبه هذا ذهب مقاتل فقال: " معناه: بأمرنا كان الحديد ".
وقال قطرب: معنى " أنزلنا " ها هنا " هيأنا " من النزل، وهو ما يهيأ للضيف، أي: أنعمنا بالحديد وهيأنا، لكم.
وقيل: " نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة ".
وروي: ومعه المر والمسحاة.
وقوله: ليعلم الله من ينصره ورسوله -، معطوف على قوله: ليقوم الناس بالقسط - أي: ليعاملوا بالعدل، وليعلم الله نصرة من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح. ويحتمل أن يكون معطوفا على محذوف دل عليه ما قبله، فإنه حال متضمن تعليلا، واللام صلة لمحذوف، أي: أنزله ليعلم الله -.
وقوله: بالغيب - حال من المستكن في: " ينصره " ، أي: ينصره ورسله غائبا عنهم بمجرد العلم الواقع بالنظر والاستدلال من غير مشاهدة حسية، كما قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه.
ان الله قوي -، على إهلاك من أراد إهلاكه، - عزيز -، منيع لا يفتقر إلى نصرة، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به في العاجل، ويستوجبوا الثواب بامتثال الأمر به في الآجل، وليجمعوا بين الرحمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة.
مكاشفة
هذه الآية - كنظائرها - مشتملة على إشارات إلى فوائد نفيسة من علم المبدأ والمعاد، وتنبيهات على فوائد شريفة من معرفة سلوك طريق الآخرة، وأخذ الزاد، ينبغي التنبيه عليها:
الفائدة الأولى
الإشارة إلى كيفية إرسال الرسل وإنزال الكتب
وبيانه: أن سعادة الإنسان منوطة بأمرين:
أحدهما: الاطلاع على الحقائق والمعقولات بالعلوم الكلية.
وثانيهما: الاتصاف بالصفات المحسنات، والتنزه عن القيود والمضائق السفليات بالآراء العلمية.
وهذه الكمالات، مما يخلو الإنسان منها في أول الحدوث، لكونه ضعيف الخلقة، كما أشار إليه بقوله:
وخلق الإنسان ضعيفا
[النساء:28]. بل فائضة عليه من الله تعالى بتوسط الملائكة العلوية، وليس كل واحد من الناس مما تيسر له التفطن بالكمالات، والاتصال بعالم العلويات إلا من أيد بروح قدسي يتصل بفيض علوي، ويعلم الأشياء بإلهام غيبي ومدد سماوي، وهذا الإنسان هو " النبي " أو " الولي " ، وما يقبله بحسب صفاء باطنه وإشراق روحه عن الملك الملقي إليه المعارف، هو " الوحي " للأنبياء، أو " الإلهام " للأولياء. وستعلم الفرق بينهما.
فلا بد لهداية الخلق وإرشادهم إلى طريق النجاة، وإيصالهم إلى المعادن، من وجود متوسط بينهم وبين الله يأخذ منه العلوم والكمالات من غير تعليم بشري، ويوصله إليهم:
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
[الجمعة:2]، كيف ولو أخذ كل إنسان علمه من إنسان آخر - من غير أن ينتهي إلى الوحي والإلهام -، لأدى ذلك إلى غير النهاية، فلا بد من الانتهاء إلى من يأخذ العلوم والكمالات من معدن اللاهوت بلا تعلم أو تقليد.
ولا يتوهمن أن النبي يأخذ العلوم عن الملك الموحى إليه على سبيل التقليد، - هيهات -، العلم التقليدي ليس علما في الحقيقة، إذ العلم هو اليقين، وهو لا يحصل إلا مع الظفر بالمبادئ والأسباب بسبب اتصال النفس القدسية بالملائكة، وأخذها العلوم منهم، فإن الغير المنطبع لولا احتجابه بالبدن وقواه، وتعلقه بالدنيا، واخلاده إلى الأرض، يتصل بالمبادئ العالمية والملائكة المقربين، وخصوصا بما يقرب الينا ويؤثر في عالمنا هذا، وهو المسمى ب " روح القدس " المعلم للأنبياء، و " جبرائيل " على لغة السريانيين، فلو اتصلت به لتلألات فيه النقوش العلمية والصفات الكمالية التي فيها، إذ لا مباينة بين المجردات إلا المادة، ولا منع ولا تقصير ولا بخل في الجود والإفاضة، لأن هذه الأشياء من خواص عالم الأجسام لتضايقها وتمانعها، فلدى الارتفاع عن ذلك يطالع المغيبات.
ومن جرب من نفسه صحة المنامات - والنوم إنما هو انحباس الروح عن الظاهر في الباطن -، لا يستبعد من أن يكون نفس شديدة الارتفاع عن هذا العالم، قوية الاتصال بالملكوت الأعلى تتلقى منه المعارف الكلية والحقائق العقلية، كما تتلقى أكثر النفوس في بعض الأحايين من الملكوت الأوسط شيئا من المغيبات الزمانية المادية.
ومنبع المكاشفات العقلية المعنوية، عالم العقول والملائكة العقلية، ومعدن المكاشفات الصورية الحسية، عالم النفوس الفلكية والملائكة العملية.
فالمكاشفة العقلية أحد أجزاء النبوة، وهو جزء مشترك بين الأنبياء والأولياء، وللنبوة جزءان مختصان:
أحدهما: أن يكون النبي مأمورا من السماء بإصلاح النوع.
والثاني: طاعة الهيولى العنصرية له، بل طاعة هيولى الأفلاك بالشق والرم بسيدهم وخاتمهم (صلى الله عليه وآله وسلم) لظهور المعجزات وخوارق العادات.
وتحقيق ذلك؛ أن الإنسان ملتئم من أجزاء ثلاثة، من عوالم ثلاثة، هي مبادئ إدراكات ثلاثة: التعقل، والتخيل والإحساس.
فبكل من هذه القوى يتصرف في عالم من العوالم الثلاثة: الدنيا، والآخرة، وما هو فوقهما - أي عالم الوحدة -، وقد ثبت أن كل إدراك هو ضرب من الوجود، فكمال كل واحد من هذه القوى يوجب التصرف في عالم من تلك العوالم، والنبي هو الإنسان الذي تقوى فيه وتكمل وتشتد جميع هذه القوى الثلاث، فبالقوة العاقلة يتصل بالقدسيين، ويجاوز المقربين، وينخرط في سلكهم - بل يفوق عليهم عند اتصاله بالحق وفنائه عن الخلق واندكاك جبل إنيته، كما أخبر عن نفسه بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ".
وبالقوة المصورة، يشاهد الأشباح المثالية والأشخاص الغيبية، ويتلقى الأخبار الجزئية منهم، ويطلع بهم على الحوادث الآتية والماضية.
وبالقوة الحساسة - المساوقة للقوة المحركة - يتسلط على أفراد البشرية، وتنفعل عنه المواد، وتخضع له القوى والطبائع الجرمانية تسلط العالي على السافل، وخضوع السافل للعالي.
فالدرجة الكاملة من الإنسان بحسب نشأته الجامعة لجميع العوالم، هي التي يكون الإنسان بها معظما عند الله، مؤيدا منه بتأييد تام، وإلهام غيبي، وإمداد ملكي، واعانة فلكية يكون بحسبها قوي القوى الثلاث كلها، ليستحق بها خلافة الله ورئاسة الخلق من قبله.
فعلم مما ذكرنا، أن أصول المعجزات والكرامات، هي كمالات ثلاثة تختص بقوى ثلاث:
الخاصية الأولى: كمال القوى العاقلة، وهي أن يصوف عقل الإنسان صفاء يكون شديد الشبه بالملائكة المقربين - المسماة عند بعضهم بالعقول الفعالة - ليتصل بهم من غير كثير تفكر وتعمل، حتى يفيض عليه العلوم اللدنية من غير توسط تعليم بشري، بل تكاد أرض نفسه الناطقة تشرق بنور ربها، وزيت عقله المنفعل يضيء لغاية الاستعداد بنور العقل الفعال، الذي ليس هو بخارج عن كمال ذاته وان لم تمسسه نار التعليم البشري، لكن عند تميز ذاته القابلة للمعقول عن ذات المقبول من العقول، صارت نورا على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.
الخاصية الثانية: كمال القوة المصورة، وهو كونها في الشدة والقوة بحيث يشاهد في اليقظة عالم الغيب - كما قد يشاهد النائم في نومه -، وذلك لأن قوى النفس وان كانت متجاذبة متنازعة، كلما انجذبت النفس إلى بعضها - كالظواهر - انقطعت عن الأخرى - كالبواطن -، لكن إذا لم يكن ضعيفة منفعلة عن الجوانب، بل كانت قوية غير منفعلة عنها وسيعة للجانبين تحفظ الجميع، فعند استعمال الحواس الظاهرة تستعمل الباطنة، وتشاهد المغيبات في اليقظة، فتدرك المعقولات والكليات عن الوسائط العقلية، وتشاهد الصور الجميلة والأصوات الحسنة المنظومة على الوجه الجزئي في مقام هو رقليا، أو في غيرها من العوالم المتوسطة البرزخية الباطنية.
وليعلم أن العوالم متطابقة متحاكية، فكل ما يدرك هذا الإنسان من عالم العقل، يقع له حكاية منه في عالم الأشباح الباطنية، فذات العقل المفيض مطابقة البدن للروح، واللفظ للمعنى، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف العقلي هي الملك الذي يراه النبي والولي، أما النبي بما هو نبي، فعلى طريق الحكاية والصورة، وأما الوي بما هو ولي، فعلى طريق التجرد الصرف، وهذا أفضل أجزاء النبوة.
لكن النبي - لكمال قوته البدنية والعقلية - جميعا -، يدرك الملك الموحي على الوجهين - بخلاف غيره من الأولياء -، وكذا الحكم في المعارف التي تصل إلى النبي معنى وحكاية، وإلى الولي معنى فقط، فالشخص الملقي للمعارف على الوجه المذكور، هو الملك الموحي بإذن الله، والكلام النازل منه في غاية الفصاحة هو كلام الله والوحي.
فعلم مما ذكر، أن للملائكة ذواتا حقيقة أمرية، وذواتا بحسب القياس الينا من جهة القوة المصورة التي شأنها حكاية المعقولات، حكاية صحيحة طبيعية، وكذا للقرآن حقيقة معقولة لا يطلع عليها أحد إلا من شاء الله تعالى، وحقيقة بالقياس إلى مداركنا وحواسنا، كما أن للحق تعالى ذاتا أحدية لا يكتنهها أحد غيره، وذاتا متصفة بالإضافات والاستواء على العرش.
فلينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه، وفي إيصال كلامه إلى أفهام خلقه، وانظر كيف يجبل لهم إياه في حروف وأصوات - هي صفات البشر -، ولو استتر كنه جمال كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع كلامه عرش ولا ثرى، ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره، ولولا أن ثبت الله موسى - على نبينا وعليه السلام -، لما أطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادئ تجليه حيث صار دكا دكا.
وقد عبر بعض العارفين عن هذا وقال: إن كل حرف من كلام الله في اللوح أعظم من جبل قاف، وان الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد أن ينقلوه لما أطاقوه، حتى يأتي إسرافيل - وهو ملك اللوح -، فيرفعه فينقله بإذن الله لا بقوته وطاقته، ولكن الله طوقه ذلك واستعمله به.
فقوله: " كل حرف من كلام الله أعظم من كذا.
.. " ، المراد منه أن كل معنى من المعاني العقلية بحيث لا يمكن حمله بقوة جسمانية - لما ثبت من أن المعنى العقلي لا يحمله المحل الجسماني -، والملائكة الذين لا يطيقون حمل المعاني العقلية الكلية، هم الملائكة الجسمانيون، فحق أن المعاني القرآنية ما لم تنزل بكسوة التعينات الجزئية والأصوات والألفاظ ، لا تحملها الطبائع الجسمانية والمدارك الخيالية الانطباعية.
والمراد بإسرافيل، إما الملك العقلاني المفيض لفلك الشمس التي هي بمنزلة قلب العالم - كما مر -، أو الملك النفساني المدبر لها. وظاهر أن العقول المجردة لا تحمل المعاني الكلية إلا بافاضة الله تعالى عليها.
الخاصية الثالثة: قوة في النفس الإنساني من جهة جزئها العملي وقواها التحريكية لتؤثر في هيولى العالم بازالة صورة ونزعها عن المواد، وبإيجادها وكسوتها إياها، فتؤثر في استحالة الهواء إلى الغيم، وحدوث الأمطار، وحصول الطوفانات، وإهلاك أمة فجرت وعتت عن أمر ربها ورسله، وشفاء المرضى، وإرواء العطشى، وخضوع الحيوانات.
وهذا أيضا غير مستحيل، لما قد علمت، أن الأجسام مطيعة للمجردات، بل هي ظلال لها وعكوس عنها، فكلما أزدادت النفس تجردا وتشبها بالمبادئ القصوى، ازدادت قوة وتأثيرا في ما دونها، وإذا صدقت أن مجرد التصور والتوهم يحدث هذه التغيرات والانفعالات في هيولى البدن، وليس ذلك لكون النفس ملاصقة بالبدن منطبعة فيه، بل لتعلق قهري وارتباط علي (عقلي)، وعلاقة شوقية لها به، فلا تتعجب من نفس شريفة قوية تؤثر في بدن الغير، وفي هيولى العالم مثل هذا التأثير، لأجل مزيد قوة شوقية، واهتزاز علوي، ومحبة الهية لها، وشفقة لها على خلق الله شفقة الوالد على ولده والأم على ولدها، فتؤثر نفسه في إصلاحها وإهلاك ما يضرها، والمجاهدة لما يفسدها.
وكما ان الخاصية الثانية توجد بوجه غير مرضي ولا محمود في نفوس الأشرار، فكذا هذه الخاصية يوجد شيء منها في بعض النفوس القوية من غير تأله ولا معرفة، بل لشدة قوتها التأثيرية قد يتعدى تأثيرها في بدن آخر حتى يفسد الروح بالتوهم، ويعبر عن هذا بإصابة العين.
كما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال:
" العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر "
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا:
" العين حق ".
فإذا كان هذا النحو من التأثير - أي بدون آلة جسمانية - ممكنا في حق الأشرار، فما ظنك بنفوس عظيمة شديدة القوة شديدة البراءة عن المواد، كيف لا يتعدى تأثيرها عن بدنها وعالمها الصغير إلى غيره فيؤثر في هيولى العالم تأثيرها في بدنه، ومثل هذا يعبر بالكرامة والمعجزة عند الناس.
والخاصية الأولى أفضل أجزاء النبوة عند الخواص، ولهذا كان أعظم معجزات نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن، وهو كما ترى مشتمل على المعارف الإلهية.
وحقائق المبدأ والمعاد، وسلوك الطريق إلى الله تعالى، وبيان أحوال الواصلين إليه تعالى على وجه عجز عن دركه إلا الأقلون من الراسخين من أمته. وفيه الأخبار عن المغيبات والأفعال الخارقة للعادات، مع أن نفسه أيضا من المعجزات العقلية التي كلت أذهان العقلاء عن دركها، وخرست ألسن الفصحاء عن وصفها.
فهذا ما أوردناه من معنى إرسال الرسل وكيفية إنزال الكتب.
الفائدة الثانية
الإشارة إلى تكميل القوة النظرية وتعديل القوة العملية المستفادين من لفظي الكتاب والميزان والاقتران بينهما في الإنزال، والتعليل لهما بقيام الناس بالقسط.
وبيان ذلك: ان للإنسان هوية مجردة عن الأحياز والأمكنة، وهي لطيفة ملكوتية، وكلمة روحانية مضافة إلى الحق، فائضة بأمره من غير وساطة المواد واستعدادها إلا بالعرض - كما حققناه في موضعه -، وهي المشار إليه بقولنا: " أنا " ، وهي الجوهر الباقي منا إلى يوم الحشر والحساب، مع اضمحلال الأجزاء البدنية، وهي المحشورة إلى ربها عند القيامة بالبدن الأخروي المماثل لهذا البدن، بل عينه، لأن هوية البدن وتشخصه إنما هو بالنفس في مدة بقاء الكون، وان تبدلت الأعضاء بالاستحالات الحاصلة من الحرارات الغريزية الطبيعية، والغريبة الداخلة، والمطيفة بالبدن الخارجة.
وبالجملة، حقيقة الإنسان ليست إلا ذاته المجردة، وكل ذات إنما يكون هلاكها في نقصها وضعفها وآفتها، ومجاورة ضدها، وبقاؤها في كمالها وقوتها وصحتها ومجاورة أشباهها، ولكل شيء كمال خاص، فكمال القوة الشهوية نيل المشتهيات واللذائذ الحسية، وكمال القوة الغضبية الظفر بالانتقام، وكمال القوة الحسية إدراك المحسوسات، وكمال القوة المتخيلة تصوير المتمثلات، وكمال الواهمة الظنون والرجاء.
وللنفس الإنسانية في ذاتها كمال يخصها، ولها قوتان: إحداهما عاقلة نظرية متوجهة إلى الحق، والأخرى عاملة محركة للبدن متوجهة إليه، فكمال النفس بحسب قوتها النظرية بمعرفة حقائق الأشياء وكلياتها، والمبادئ القصوى في الوجود، وبالجملة معرفة الحق الأول بما له من صفات جماله، ونعوت جلاله، وكيفية صدور أفعاله عنه ورجوعها إليه، ومعرفة كونه غاية الأشياء الذي تتوجه إليه الموجودات في بقائها، كما تبتدئ منه في حدوثها، إلى غير ذلك من المعارف الحقة التي كانت مستعدة لها أولا عند كونها هيولانية الذات، ثم تحصل لها بسبب حصول المقدمات صورها على نحو البرهان الدائم اليقيني، ثم ستصير مشاهدة إياها فائضة من الحق الأول، ثم تصير متصلة بها، منخرطة في سلكها مستغرقة في شهود مبدئها ومعادها، بحيث لا تلتفت إلى ذاتها العارفة به تعالى، فضلا عن غيرها، بل الاضمحلال في المعروف يذهلها عن كل شيء حتى عن ذاتها وعن عرفانها لمبدئها.
فاليقين الأول هو العلم، والثاني هو العين، والثالث هو الحق، فهذا هو كمال النفس بحسب قوتها النظرية، ولا شبهة في أنه لا يحصل هذا الكمال إلا بسبق معرفة الحقائق والعلم بالمعقولات، ولا شبهة في أن كتاب الله مشتمل على جلها بل كلها، ولا شك في أن حصول المعارف والعلوم متوقف على وساطة الرسول، ووساطته إنما تحصل بانزال القرآن، فقوله تعالى: { وأنزلنا معهم الكتاب } [الحديد:25]، إشارة إلى ما تستكمل به القوة النظرية.
واما كمال النفس بحسب القوة العملية الذي يكون الميزان إشارة إليه فبيانه: أن النفس لما كانت في أول نشأتها ناقصة ضعيفة القوام بذاتها، فتحتاج في استكمالها بالكمال الذي قد سبق ذكره، إلى مادة بدنية تفيض وتستفيد بواسطة آلاته الجسمانية، ومشاعره الإدراكية، مبادئ إدراكاتها التصورية والتصديقية من الأوليات الحاصلة من المشاركات والمبائنات بين ما يقع الإحساس بها من المحسوسات الجسمانية، فتكون النفس في أول الاستكمال محتاجة إلى البدن وقواه على الوجه المذكور، ولذا قيل: " من فقد حسا فقد علما ".
ثم إن البدن جسم مركب من عناسر متضادة، فله بحسب كل منها أضداد يجب الاحتراز عنها في مدة بقائها، وهو في أول التكون قليل المقدار صغير الجسم، لكون كل بدن حاصلا من مثله في النوع بفضلة تحصل منه، وفضلة الشيء لا يمكن أن تساويه، فلهذا الوجه ولوجوه أخر مذكورة في مظانها، لا بد أن يكون في أول الحداثة قليل المقدار غير تام الخلقة، ويكون تمامه بورود الجسم الشبيه به - قليلا قليلا - في مدة حياته، وهو الغذاء، وطلبه إنما يكون بالشهوة، والشهوة لا بد لها من إدراك سابق، لأن كل جسم لا يصلح للتغذي، إذ ربما يكون سما قاتلا أو مضرا، فيحتاج الإنسان إلى قوة ما يدرك المصلح من المفسد في الأجسام الغذائية، ولا بد أن يكون مدركا بادراك جزئي من الحواس الظاهرة - لاجل التمييز -، والباطنة - لأجل الحفظ والذكر -، إذ ربما لا يكون في كل جسم ما يشهد كونه ملائما أو منافيا في كل وقت.
فثبت أن استكمال النفس متوقف على بقاء البدن مدة، وبقاء البدن متوقف على قوى ثلاث لأمور ثلاثة: قوة العلم للتمييز بين المصلح والمفسد، وقوة الغضب لدفع المفسدة، وقوة الشهوة لجلب المنفعة.
ومباشرة النفس لهذه القوى الثلاث، من باب الضرورة كما علمت، وإلا فكمالها في التجرد عنها، ومن ابتلي بصحبة الأخساء من الأضداد، فما دام اشتغاله بها وعدم الخلاص عنها، فالتوسط بين الأضداد بمنزلة الخلو عنها، فإن الماء الفاتر بمنزلة الخالي عن الحرارة والبرودة، فكمال النفس - عند استقلالها بالقوى الثلاث واستعمالها إياها -، توسطها بين الإفراط والتفريط فيها لئلا ينفعل عنها ولا يطاوعها في مآربها، بل يستعملها على هيئة الاستعلاء عليها لا الانقهار بها، وهي إنما تحصل بالتوسط فيها.
أما قوة العلم - أي استعمال الحواس الظاهرة والباطنة في أمور الدنيا -، فتوسطها واعتدالها يسمى " بالحكمة " ومعناها غير العلم العقلي بحقائق الأشياء بالقوة النظرية، فإنها كلما كانت أوفر كانت أفضل:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269]، والإفراط في هذه القوة يسمى: " الجزبرة " وهي المكر والخديعة، والتفريط بها هو " البلاهة " و " السفاهة " ، وكلا الطرفين مذمومان.
وأما قوة الغضب: فتوسطها واعتدالها " الشجاعة " - وهي فضيلة كالجود -، وكلا جانبيها - وهما " التهور " و " الجبن " - رذيلتان، كما أن طرفي الجود كالبخل والإسراف - مذمومان لقوله تعالى:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط
[الإسراء:29] وقوله:
والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما
[الفرقان:67].
واما قوة الشهوة فتوسطها واعتدالها هو " العفة " ، وطرفاها - وهما " الشره " و " الخمود " رذيلتان.
ومن تركيب هذه القوى الثلاث، وامتزاج أوساطها الثلاثة، تحصل قوة أخرى لها توسط - هي الفضيلة - المعبر عنها " بالعدالة ".
ولها طرفان مذمومان: طرف الإفراط وهو: " الظلم " وطرف التفريط وهو " الانظلام ".
فهذه الصفات الأربع أصول الفضائل العلمية، وأطرافها الثمانية هي الرذائل، ومجموعها حسن الخلق إذا صارت ملكة يناط بها خلاص الإنسان من ذمائم الأخلاق الموجب لسخط الباري وغضب الخلاق، والتعذب بالاحتراق بالجحيم لاجل الانحراف عن العدالة - المعبر عنها بالصراط المستقيم -، فخير الأمور في هذا العالم أوسطها، فكما ان نفس الطريق المستقيم ليست مقصودا، بل جوازها يؤدي إلى المقصود، فكذلك حسن الخلق ليس كمالا، بل الاتصاف به يورث الخلاص من الجحيم، وإنما الكمال الحقيقي والمقصود الأصلي هو معرفة الحق الأول وما يليه من الصفات الجمالية والأفعال الإلهية التي تكمل بها النفس، وتقر بمشاهدتها العين السليمة من الأمراض الباطنية.
فالميزان الذي يقوم فيه الناس بالقسط، وتعتدل به نفوسهم ويحسن خلقهم، هو إشارة إلى مجامع الأخلاق الحسنة.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" أثقل ما يوزن في الميزان خلق حسن ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
" وقيل: " ما الدين "؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الخلق الحسن " ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" حسن الخلق خلق الله ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا:
" إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ".
وإليه الإشارة في قوله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس:7 - 10].
وكما ان للحسن الظاهر أركانا - كالعين، والأنف، والفم، والخد -، ولا يوصف الظاهر بالحسن ما لم يحسن جميعها، فكذلك للنفس التي هي باطن الإنسان وجه إلى الخلق، ووجه إلى الحق، ووجهها الذي يلي الحق هو جهة وحدتها وبساطتها، ووجهها الذي يلي الخلق جهة تركيبها من الأخلاق، وللأخلاق أركان واصول، فلا بد من حسن جميعها حتى يحسن الخلق، ولهذا كان في الأدعية النبوية " اللهم حسن خلقي " لحسن الوجه العملي التدبيري، و: " اللهم أرني الأشياء كما هي " لحسن الوجه العلمي الشهودي.
والعدالة عبارة عن هيئة تحصل بها حسن وجه النفس، وهي فضيلة متضمنة لجميع الفضائل الخلقية، كما ان الحسن الظاهري فضيلة جسمانية متضمنة لكمال سائر الفضائل الخلقية، وتناسب جميع الهيآت البدنية، والتخاليط والتشكيلات الجسمانية، ويعبر عنها بالميزان، لاشتراكها معه فيما يعرف به مقدار الشيء، إذ يعبر (يعرف - ن) بها فقد الأخلاق - التي بها زينة جوهر الذات الإنسية - عن زيفها، واستقامة الأعمال عن ميلها وحيفها، وخلاصها عن غشها.
والموازين لا يجب أن تتساوى جميعا في الذات والماهية، بل في كونها ميزانا، وانها مما يعرف به حال الشيء كمية أو كيفية، فإن الاسطرلاب ميزان والمسطرة ميزان، والعروض ميزان، والنحو ميزان، والمنطق ميزان، لاشتراك جميعها فيما به يسمى الميزان ميزانا، وإن اختلفت في الماهية، لكن هذا الميزان الذي كلامنا فيه هو بعينه ما سيعود يوم القيامة بصورته المناسبة للنشأة الآخرة، فيعرف به كل واحد من الناس مقدار عمله بمعيار صادق، ثم يحاسبون على أقوالهم وافعالهم وضمائرهم ونياتهم مما أبدوه أو أخفوه، ثم يساقون إلى الصراط - وهو جسر ممدود بين منازل الأشقياء والسعداء أحد من السيف وأدق من الشعر، يخف عليه من استوى في الدنيا على الصراط المستقيم، الذي هو صورة العدالة ومثاله في الآخرة.
وقد أشرنا إلى أن فضيلة العدالة ليست فضيلة حقيقية للإنسان وخيرا حقيقيا، بل هي طريق مستقيم إلى الكمال والخير الحقيقيين، فلا بد من جوازها حتى تصل النفس إلى كعبة المقصود، وتتنعم بالنعيم ومجاورة المعبود.
فهذا ما أردنا من بيان معنى الميزان الذي يقوم به الناس بالقسط.
الفائدة الثالثة
الإشارة إلى ترتيب سلسلة الموجودات وتقدم بعضها على بعض وتأخر بعضها عن بعض بحسب الشرف والكمال والحاجة والافتقار في النزول منه والصعود إليه:
وبيان ذلك؛ بأن أوائل الموجودات الصادرة عنه تعالى، التي صدرت بمحض الجود والخير من غير استعداد وتركيب - وهي التي تسمى " بعالم الأمر " ، لوجودها عنه تعالى بمجرد أمره، من غير توسط وجود قابل، واستدعاء افتقار ثابت وتضرع بلسان استعداد لوجودها، وصدورها عنه تعالى على هذا الوجه، وهي عقول مفارقة - هي " الملائكة المقربون " ، وعالمها " عالم القضاء ".
ثم نفوس مجردة هي " الملائكة المدبرون " ، وعالمها " عالم التقدير والتدبير ".
ثم أجرام سماوية، وعالمها " عالم الأعمال والحركات " التي تنشأ منها العناصر الأربعة بتوسط هيولاتها المشتركة، وهي نهاية تدبير الأمر المشار إليه في قوله تعالى:
يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض
[السجدة:5].
وأما الموجودات الفائضة عنه بتوسط المواد والقوابل والاستعداد، فهي المركبات على هذا الوجه: المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم أول درجة الإنسان، وهو الذي في أوائل العقول، ثم مرتبة أهل الإيمان، ثم مرتبة العلماء، ثم الأولياء والأنبياء.
وعند الوصول إلى رتبة الأولياء والأنبياء، وقع الوصول إلى الحق، فرجعت سلسلة الموجودات في الصعود إلى الحق ثانيا عند ارتفاعها عن درجة النقصان والخسة، إلى حيث نزلت منه تعالى أولا، فهو تعالى مبدأ الأشياء وغايتها، وهو الأول والآخر.
وإذا تمهد هذا: فقوله: لقد أرسلنا - إشارة إلى عالم الملكوت المتوسطة بينه وبين الخلق، وهو مشتمل على الملائكة والأنبياء، ولا تتم النبوة إلا بالملك النفساني الذي يخبر بالحوادث الآتية والماضية، ولا تنصلح أخباره للرسول إلا بعد استعلامه من الملك العقلاني المتوسط بينه وبين الله، الذي تستفاد منه حقائق الاعتقادات الكلية، فكما أن الأنبياء يصلحون اعتقادات الخلائق، فكذلك الملائكة يصلحون بعضهم بعضا، إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل قوام، ومطلع كل حسن ونظام.
وقوله: { وأنزلنا معهم الكتاب } [الحديد:25]، إشارة إلى الملك النازل على قلوب الأنبياء بالوحي، وحكم الأنبياء عند اتصالهم بعالم الغيب ومشاهدتهم الملائكة، هو بعينه حكم الملائكة في منزلتهم ومرتبتهم في الوجود، وإن صدق عليهم حين نزولهم من عالم تقدسهم إلى درجة أفهام الخلق قوله تعالى:
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[فصلت:6].
ثم إن الإرسال والإنزال أمران نسبيان، يدلان على المنزل والمهبط بالالتزام، ومهبط نزول الرسل (الوحي - ن) والملائكة عالم الأجسام، والهبوط لا بد فيه من المرور على المراتب المتوسطة بين عالم القدس وعالم الجرم الأرضي الذي هو أسفل السافلين، فقد وقعت الإشارة إلى المراتب الكلية لسلسلة النزول.
واما الإشارة إلى سلسلة الصعود: فلفظ الميزان مما يحتمل أن يكون إشارة إلى التعادل في العناصر الذي يقال له المزاج، المشار إليه بقوله:
والسمآء رفعها ووضع الميزان
[الرحمن:7]، وهو الذي به تتهيأ المواد العنصرية لأن تحصل منه المواليد الثلاثة، فإن المانع عن قبول الحياة والشرف من الله تعالى في الأجسام السفلية هي التضاد، وإلا فالجود مبذول والرحمة واسعة، أولا ترى أن الأجرام العلوية لخلوها عن التضاد في الكيفيات، حية مطيعة لله تعالى في أوامره ونواهيه، لا كارهة كالأرضيات، كما وقعت الإشارة في قوله تعالى:
فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها
[فصلت:11]، وقوله:
وأوحى في كل سمآء أمرها
[فصلت:12].
فكلما أوغلت العناصر عند الامتزاج في الاعتدال والتوسط بين أطراف الأضداد، الذي هو بمنزلة الخلو عنها، يستعد لافاضة كمال أشرف وحياة أرفع.
فأول ما يحصل لها من التوسط والاعتدال، هو ما تحصل منه المعادن على مراتبها ثم النبات كذلك، ثم الحيوان على أنواعه، ثم الإنسان على طبقاته في الشرف والبراءة من الأضداد، وقد تقرر في العلوم الإلهية: ان الطبيعة ما لم تستوف النوع الأخس لم تتخط إلى النوع الأشرف، فقوله: { ليقوم الناس بالقسط } [الحديد:25] إشارة إلى وجود صورة الإنسان بحسب القسط والعدل في كيفيات عناصره وكمياتها، وهو المزاج المعتدل الإنساني، الذي هو أشرف الأمزجة المعبر عنه بالتسوية في قوله:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر:29].
وكون الميزان إشارة إلى الاعتدال في الكيفيات والصفات الجسمانية لأجزاء البدن، لا ينافي كونه إشارة إلى العدالة في الأخلاق النفسانية، أما علمت أن وجوه فهم القرآن لا تنحصر في واحد، فإن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا - كما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) -، بل ذلك الوجه يلائم هذا الوجه ويطابقه تطابق الظاهر للباطن، إذ العوالم متطابقة، والنشآت متحاذية، فالاعتدال في المزاج يستدعي أن تكون الصورة الإنسانية الفائضة عليه عدلا في الصفات المعنوية، واصول الأخلاق النفسانية، التي هي بمنزلة صور الكيفيات الجسمانية.
وقوله: { وأنزلنا الحديد } [الحديد:25]، إشارة إلى درجة المعادن، وهي الدرجة النازلة من المواليد، كما أن الدرجة الإنسانية من الحيوان - المشار إليها بقوله: { ليقوم الناس بالقسط } [الحديد:25]، هي الدرجة العالية منها.
وقوله: { ومنافع للناس } [الحديد:25]، يومئ إلى درجة النباتات، لأن الحديد آلة الحرث والغرس. على أن من الإشارة إلى الجماد والى نوع من الحيوان - وهما الطرفان النازل والعالي من المركبات -، لزمت الإشارة إلى النبات بالالتزام، على ما مر من توقف النوع الأشرف على النوع الأخس في سلوك الطبيعة درجات الصعود إلى الحق، كما يتوقف الأخس على الأشرف في النزول عنه، والى الحيوان بالتضمن، لأن الحيوان بما هو حيوان جزء من الإنسان، ودلالة الشيء على جزئه بالتضمن.
وأما قوله: { وليعلم الله من ينصره } ، إشارة إلى درجة أهل الإيمان والمعرفة، لأنهم ينصرون دين الله بالمجاهدة مع الكفار، وهم متفاوتون في الفضيلة، وأفضلهم العلماء الذين ينصرون دينه تعالى بالاجتهاد والاستنباط بالفكر الصحيح.
وقوله: { ورسله } ، إشارة إلى درجة الأنبياء والأولياء، الذين بهم ينتهي ارتقاء المكونات في توجههم شطر كعبة الحق وتلقاء مدينة الخير الحقيقي، الذي لا يشوبه شوب قصور وزوال، وهو الله العزيز المتعال، القوي الشديد في الآثار والأفعال، ولذلك وقع الانتهاء باسم ذاته تعالى صريحا مع ذكر صفة كمالية إضافية، واخرى جلالية سلبية، كما وقع الابتداء به ضمنا، وكذا وقع الالتفات من التكلم إلى الغيبة، لأن السلسلة الأولى شعورية، والأخرى إشعارية، فابتدأت الأولى بما يناسبها من الشعور دون الإشعار، وانتهت الثانية أيضا بما يناسبها من الإشعار، ولأن أهل السلسلة الأولى أصحاب الجبر والاستغراق في الشهود والفناء والهيمان، فلا التفات لهم إلى ذواتهم، ولا إرادة لهم سوى إرادة الله، وأهل السلسلة الثانية أصحاب الاختيار والإرادة المنفصلة عن إرادة الله، وذلك لوجود الوهم والخيال فيهم، وهو مناط التكليف، لزعمهم أن لهم وجودا مستقلا بالذات، فالإضمار والتكلم يناسب الأولى، والإبراز والغيبة يناسب الثانية.
الفائدة الرابعة
الإشارة إلى علمه بالجزئيات الزمانية على الوجه الجزئي.
وهو الذي حارت فيه أفهام الحكماء والفضلاء حيث ذكروا أن العلم بالشيء على سبيل التجدد والتعاقب يوجب التجسم والتغير في ذات العالم، مع أن القرآن مشحون بذكر ما يدل على تجدد اختبار وابتلاء، واستيناف نحو من أنحاء العلم، كقوله تعالى في هذه الآية: { وليعلم الله من ينصره } [الحديد:25]، وكقوله:
ليبلوكم أيكم أحسن عملا
[هود:7].
ومن هذا القبيل، كل آية وقعت فيها نسبة الابتلاء إليه تعالى، وهذا أمر لا يعرفه النظار بقوة البحث والنظر إلا من أيده الله بتوفيق خاص إلهي، يصل به إلى إدراك الحق بأقدام العبودية والإخلاص في العلم والعمل، وقد أومأنا إليه وإلى كشفه في مواضع متفرقة من الأسفار.
الفائدة الخامسة
الإشارة إلى الفرق بين معاني الغاية التي قد يقع بأزائها.
حرف " اللام "
فإن الغاية قد يراد بها: " السبب الغائي " ، وهو ما به يكون الفاعل فاعلا تاما، وقد يراد بها: " ما يؤدي إليه الفعل " من غير أن يكون مقصودا للفاعل في فعله، ويقال له: " الضروري " ، وقد يراد بها " ما ينتهي إليه الفعل " بحسب الذات والقصد جميعا.
والغاية بالمعنى الأول في أفعاله تعالى لا تكون إلا ذاته، لأنه تام الفاعلية والإيجاد، وبالمعنى الثالث، لو أريد به آخر ما ينتهي إليه الفعل، فهو أيضا ذاته، وقد يكون غيره، كما في الحديث القدسي عنه تعالى: " لولاك لما خلقت الأفلاك ".
وأما المعنى الثاني، فهو لا يكون إلا غير ذاته.
ومثال المعنى الأول: تصور السكنى في بناء البيت للباني، بل تصور الراحة التي يتصورها عند السكنى.
ومثال المعنى الثاني: المنفعة الحاصلة للأجير في بنائه.
ومثال الثالث: وجود السكنى أو الراحة الذي ينتهي إليه الحركات البنائية.
فقوله: - أرسلنا رسلنا - وما عطف عليه، إشارة إلى العلة الغائية بالمعنى الأول، لأن الإرسال والإنزال فعلان اختياريان، لا بد فيهما من علة غائية، وقوله: ليقوم الناس، إشارة إلى الغاية بمعنى الضروري، وقوله: وليعلم الله من ينصره -، إشارة إلى الغاية الذاتية التي ينتهي إليها الفعل بالذات.
الفائدة السادسة
الإشارة إلى عنايته وحكمته في خلق الحديد وعجائبه وفوائده، وكيفية حدوثه من الأدخنة والأبخرة المحتبسة في الجبال، والمعادن، مدة مديدة بإذن الله تعالى بتوسط الكبريت والنفط والقير وغيرها، مما يتوسط في القوام بين رقة الأدخنة ولطافتها، وغلظ الحديد وكثافته، واطاعته للإنسان في قبول الذوبان واللين بالحرارة النارية، وقبول الاستطراق تحت المطارق، وبقاء لينه عند الطرق حتى تتخذ منه الآلات الصناعية على أي وجه أريد، ثم رجوعه إلى جموده الأصلي عند التبرد لتبقى التشكلات المقصودة منه في كل صنعة.
فانظر إلى رحمة الله كيف هدى الناس إلى تحصيله من الجبال، ثم إلى كيفية تليينه بالنار، واتخاذ آلات الصنائع منها لجلب المنفعة ودفع المضرة، الحاصلتين عند استعمالها بداعية العمال الشهوية والغضبية، المنبعثتين عند استعمال النفس المدبرة إياها بإشارة العقل المكمل الهادي إليها بإلهام الحق له، وهو تعالى الأول في البداية، والآخر في النهاية، ومنه الإفاضة والجود في المبدأ والغاية.
[57.26]
عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر المرسلين مجملا، بذكر نوح وإبراهيم - على نبينا وعليه السلام - مفصلا، وإنما خصهما بالذكر، وذكر قصتهما، لفضلهما وكونهما أبوي الأنبياء، كما يدل عليه قوله تعالى: { وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } ، فإن الأنبياء كلهم من نسلهما وذريتهما - عن ابن عباس -.
الكتاب: الخط بالقلم. يقال: كتب كتابا وكتابة.
ثم أخبر تعالى عن حال الذرية بحسب النشأة الأخروية، فقال: فمنهم - أي فمن الذرية، أو من المرسل إليهم -، لدلالة ذكر الإرسال عليه - مهتد - إلى طريق الحق، - ومنهم فاسق - عن أمر ربه، والغلبة للفساق.
مكاشفة
إعلم أن لوجود كل من الصنفين مصلحة وخيرا تخصه وتليق به، لئلا يلزم أن يكون الخير قليلا والشر كثيرا في أشرف أنواع الكائنات.
فليس لأحد أن يقول: أكثر أفراد الإنسان يغلب عليهم الشر على ما دلت عليه الآية، ولأن مناط تحصيل السعادة والشقاوة للنفس الآدمية إنما هو استعمال قواها الثلاثة: - الإدراكية، والشهوية، والغضبية - إذ هي مبادئ الأفاعيل والانفعالات، ومن تكرر الأفاعيل والانفعالات تحصل أخلاق وملكات هي المنتجة للسعادة أو الشقاوة في العاجل والآجل، والغالب على أكثر الناس - على ما نراه - أضداد الأخلاق الحسنة، من الجهل، وغلبة الشهوة، واستيلاء حب الدنيا، وميل الرياسة، والبخل، والحسد، والكبر، والرياء، وأشباهها. وما يترتب عليها وينبعث عنها من الفسوق والمعاصي، فيلزم كونهم من الأشرار المردودين عن رحمة الله، على أن رحمته وسعت كل شيء، فما معنى كونه تعالى محض الرحمة التي لا جهة شرية فيها؟ وما معنى قول الربانيين من الحكماء: " إن الخير مرضي والشر مقضي "؟
لانا نقول: لا بد أن يعلم أن الخلق الذي لا نجاة معه في الآخرة، هو صفة واحدة للنفس من حيث جزؤها العلمي، وهي ضرب من الجهل، وهو ما يكون مركبا مع الاعتقاد الراسخ المضاد للحق، وأما من حيث جزؤها العملي، فليس كل رذيلة توجب الحرمان عن الغفران، بل الرذائل التي رانت على القلوب وصيرتها فاسدة الجوهر، كجرم المرآة التي أحاطت بها النداوة ظاهرا وباطنا، وغاصت فيها وأفسدتها سطحا وعمقا، وكون أكثر الناس فساقا ذوي صفات ذميمة لا يستلزم كونهم مطرودين من رحمة ربهم، بل كما أن الجهل المركب الراسخ المضاد لليقين، الذي يوجب الشقاوة الأبدية، نادر كوجود اليقين الذي يوجب خيرا كثيرا وقسطا وافرا من السعادة، والجهل البسيط الذي لا يضر في المعاد عام فاش في هذا النوع، فكذلك حال القوتين الأخريين.
فالبالغ في فضيلة العقل والخلق - وان كان نادرا -، كالشديد النزول فيهما، لكن المتوسطين على مراتبهم أغلب وأوفر، وإذا ضم إليهم الطرف الأعلى، كانت لأهل النجاة غلبة عظيمة.
وما أشبه حال الأرواح في انقسامها إلى هذه الأقسام بحسب السعادة والشقاوة الأخرويتين، بحال الأبدان في انقسامها بحسب السعادة والشقاوة الدنيويتين إلى العالي في الجمال والصحة، والمتوسط فيهما - وهو الأكثر -، والقبيح السقيم - وهو أقل من عدد المتوسط فضلا عن مجموع القسمين.
فإذن قد ثبت أن السعيد أكثر من الشقي، فالحكم بأن رحمة الله تعالى لا تنال إلا قليلا من عباده غير صحيح، وقد قال تعالى:
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون
[الأعراف:156].
وأما خلود أهل الكفر في النار، ففيه سر لا ينكشف لأحد إلا من يشاء من خلص عباده وهو العليم الحكيم.
[57.27]
قرأ الحسن " الأنجيل " - بفتح الهمزة -، والأمر فيه هين لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب ، بخلاف أمر " البرطيل " " والسكين " فيمن رواهما بالفتح.
وقرأ " رآفة " على وزن فعالة.
و " التقفية ": جعل شيء إثر شيء على نهج الاستمرار، ولهذا قيل لقواطع الشعر " قوافي " إذا كانت تتبع البيت على أثر بيت مستمرا في غيره على منهاجه.
و " الرهبانية " أصلها من الرهبة والخوف، يوصف بها النصارى لترهبهم بعد موت عيسى (عليه السلام) في الجبال فرارا من الفتنة في الدين، لظهور الجبابرة على مؤمني ذلك الزمان، واخلاصا لأنفسهم في عبادة الرب عند التفرد عن الخلق، فهي " الفعلة " المنسوبة إلى الرهبان - بالفتح -، وهو الخائف، " فعلان " من " رهب " ، كخشيان من خشي، وقرئ: " ورهبانية " بالضم منسوبة إلى " الرهبان وهو جمع " راهب " ، كركبان جمع راكب، وهي عبادة مخصوصة بالنصارى، لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا رهبانية في الإسلام "
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" رهبانية امتي الحج والجهاد ".
وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر، أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، ويجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها، والجملة بعدها صفة لها في محل النصب، والمعنى: ثم اتبعنا بالإرسال على آثار المذكورين كنوح وإبراهيم ومن أرسلنا إليهم أو من عاصرهم من الرسل برسل آخرين، أي: اتبعنا رسولا بعد رسول، وقفينا سابقا بلا حق حتى انتهى الأمر إلى عيسى بن مريم بعدهم، فارسلناه رسولا وأعطيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه من الحواريين وأتباعهم للتراحم والتعاطف بينهم رأفة ورحمة، بأن أمرهم الله بهما ورغبهم فيهما، أو خلق في قلوبهم الرأفة والرحمة.
وإنما مدحهم على ذلك - وان كان من فعله - لأنهم تعرضوا لهما وابتدعوا رهبانية لم يكتبها عليهم، وهي خصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة، إما في كنيسة (شعشعة - شعثة - ن)، أو توحش عن الخلق، أو تفرد عن الجماعة، أو غير ذلك من الأمور التي تعلق بنسك صاحبه.
وقيل: إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء واتخاذ الصوامع - عن قتادة -. وعلى تقدير عطفها على ما قبلها يكون المعنى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم. بمعنى: وفقناهم للتراحم بينهم، ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، والاستثناء منقطع، أي ما فرضناها تعبدناهم بها " ، حتى يكون مشتملا على نفي الإيجاب والندب المستلزمين لمطلق الراجحية والتقرب، وهذا وان كان مخالفا لقوله: { ابتدعوها } ، لكن يوجه بأن يقال: معناه: ولكنهم ابتدعوها ثم ندبوا إليها.
وابتدعوها: بمعنى: استحدثوها من قبل أنفسهم ووافوا بها، فما رعوها حق رعايتها، أي: الذين بعدهم ما رعوا جميعا للرهبانية، أو للمذكورات من الرأفة، والرحمة، والرهبانية - حق رعايتها، ولكن بعضهم رعاها، وبعضهم ضم إليها التثليث، والقول بالإلحاد، وقصد السمعة والرياء والكفر بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحو هذه الأشياء، كما ان المنسوبين إلى التصوف في هذه الأزمنة والدورة الإسلامية بعضهم مما رعوا حقه - من تصفية الباطن، والتزهد في الدنيا، والانقطاع عن أهلها وذويها طلبا لمرضاة الله -، وأكثرهم لم يراعوا حقه، بل ضموا إليه السمعة والرياء، والتغني والسماع، والاشتغال بالملاهي وصحبة الأباطيل، والمعطلين عن الفكر والسير في الملكوت وعن ذكر الله إلا بمجرد اللسان عند مجمع الخلائق.
فآتينا المؤمنين المراعين منهم لهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون - وهم الذين لم يراعوها ولم يوفوا بها.
قال الزجاج: إن تقدير { ما كتبناها عليهم }: ما كتبنا إلا ابتغاء رضوان الله وهو اتباع ما أمر به - فهذا وجه -.
قال: وفيها وجه آخر في التفسير، وهو أنهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه، فاتخذوا أسرابا وصوامع وابتدعوا ذلك، فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع ودخلوا عليه، لزمهم تمامه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتم.
قال: وقوله: { فما رعوها حق رعايتها } على ضربين: أحدهما: أن يكونوا قصروا فيما ألزموا به أنفسهم، والآخر - وهو الأجود -: أن يكونوا حين بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يؤمنوا به، وكانوا تاركين لطاعة الله، فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها، ودليل ذلك قوله: { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } ، يعني الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). { وكثير منهم فاسقون } أي كافرون - انتهى كلام الزجاج -.
ويؤيده ما روي عن ابن مسعود قال:
" دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا ابن مسعود، اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منهم اثنتان وهلك سايرهن، فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى (عليه السلام) فقتلوهم، وفرقة لم يكن لهم طاقة لموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله تعالى، ودين عيسى (عليه السلام)، فساحوا في البلاد، وترهبوا، وهم الذين قال الله لهم: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ".
ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ".
مكاشفة
في هذه الآية حجة على عدم خلو الزمان عمن تقوم به حجة الله على خلقه، إذ علم أنه بهذا جرت سنة الله من لدن آدم ونوح وآل إبراهيم، إلى وقت نبينا - صلوات الله عليهم أجمعين -، ولن تجد لسنة الله تبديلا، لكن النبوة قد ختمت برسولنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، والولاية التي هي باطن النبوة باقية إلى يوم القيامة، فلا بد في كل زمان - بعد زمان الرسالة - من وجود ولي يعبد الله على الشهود الكشفي من غير تعلم، ويكون عنده مأخذ علوم العلماء والمجتهدين، وله الرئاسة العامة في أمر الدين والدنيا، وهو الداعي للخلق بحسب الفطرة من قبل الله، سواء أطاعته الرعية أو لا، والناس أجابوه أو أنكروه، وسواء كان ظاهرا مشهورا، أو مستترا مغمورا، كأكثر الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين -.
وكما ان النبوة والشريعة قد ختمت برسولنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالولاية التي هي باطنها تختم بآخر أولاده المعصومين، وهو الذي يواطي اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعناه معناه، وبجوده أقيمت البلاد، ورزقت العباد، وبظهوره يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.
وفي حديث كميل بن زياد النخعي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ما يدل على هذا المطلب، وهو قوله - بعد كلام سابق -:
" يا كميل، مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، آه آه، إن هاهنا - وأشار بيده الشريفة إلى صدره المقدس - لعلما جما، لو أصبت له حملة، بلى أصيب له لقنا غير مأمون، يستعمل آلة الدين في الدنيا، ويستظهر بحجج الله على خلقه، وبنعمه على عباده، أو منقادا للحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض شبهة. ألا - لا ذا ولا ذاك - أو منهوما باللذات سلس القيادة للشهوات، أو مغرما بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيء شبها بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه.
اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهرا مشهورا، واما خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عددا، والأعظمون عند الله قدرا، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استعوره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقا إلى رؤيتهم.
وفيه إشعار بأمور:
الأول: إن العالم الحقيقي، له الولاية على الدين والرئاسة فيه.
الثاني: إن سلسلة العرفاء بالله والولاية المطلقة لا تنقطع أبدا.
الثالث: إن عمارة العالم الأرضي، ووجود أفراد الإنسان وسائر الحيوانات وغيرها من الكائنات، إنما يكون بوجود العالم الرباني، وقد يقام عليه البرهان في الحكمة المتعالية، فيلزم منه الاعتراف بوجود إمام حافظ للدين في كل زمان.
الرابع: ان هذا القائم بحجة الله، لا يجب أن يكون ظاهرا مشهورا كمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام تمكنه من الخلافة الظاهرة، بل ربما يكون خاملا مستورا - كهو (عليه السلام) قبل ذلك الوقت، وكأولاده الأحد عشر بعده، سيما القائم المنتظر امامنا المهدي - سلام الله عليه وآله وآبائه الطاهرين - المشار إليهم في قوله تعالى:
ذرية بعضها من بعض
[آل عمران:34].
وفيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا تزال أمتي بخير ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ".
الخامس: ان من خواص أولياء الله وحججه، أن تكون علومهم ومعارفهم حاصلة بحدس تام وإلهام من الله من غير تعمل وتكسب، كما دل عليه قوله (عليه السلام): " هجم بهم العلم على حقائق الأمور، وباشروا روح اليقين " أي أطلعهم الله على حقائق الموجودات، وقذف في قلوبهم نورا من لدنه، يريهم الأشياء كما هي، وهذه هي الحكمة الحقيقية التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا.
السادس: انه قد علم شرف الحكمة الإلهية ومنزلة حامليها، حيث اشتاقت نفسه الشريفة (عليه السلام) إلى لقائهم مع كونه قدوة الربانيين ومقدم السائرين إلى الله بقوة الحكمة والعرفان، وبه تنتهي سلسلة السالكين وأصحاب الطريقة والصوفيين ومن يحذو حذوهم في التأله والمعرفة - لا في مجرد الرياضة البدنية وجلوس الصوامع ولبس الخرقة، إذ لا كمال فيه يعتد به -.
وذلك لأن الجنسية علة الضم، والجنس يحن إلى جنسه، ولأن فنون التقرب إلى الله تعالى متعددة، وأذواق الكاملين مختلفة، مع اشتراكهم في غلبة جانب التوحيد والعلم والفناء والبقاء، فلا يبعد أن يكون الاشتراك في جهة الكمال المطلق، ومظهرية الذات الأحدية يوجب أصل المحبة، والاختلاف في ظهور بعض المظاهر الاسمائية والصفاتية، وخفاء بعضها، يوجب التشوق بجهة خفاء اسم أو صفة إلى جهة ظهور اسم أو صفة، فإن تجليات الحق بحسب الأسماء والصفات غير متناهية عددا، فكذلك تختلف المظاهر والمجالي اختلافا غير متناه شخصيا.
ومما يدل على وجود الإمام المطاع في الأحكام في جميع الأزمنة، ما اتفقت روايته بين الخاص والعام في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية ".
وقد اتفقت الأمامية على أن الإمام في زماننا هذا هو المهدي (عليه السلام)، الموعود ظهوره في آخر الزمان، واستبعاد أهل السنة وجوده وبقاءه إلى الآن في غاية السقوط، إذ الأدلة الطبية والنجومية على امتناع بقاء الإنسان بعد المأة والعشرين غير تامة، ومع ذلك منقوض بوجود الأعمار الطويلة للسابقين، كما هو المشهور من آدم ونوح (عليه السلام)، وغيرهما، وببقاء الدجال اللعين من اللاحقين مدة طويلة هي من زمن الرسول - عليه وآله السلام - إلى وقت خروج المهدي (عليه السلام).
وأسقط من ذلك تشنيعهم على الفرقة الإمامية بأن أي ثمرة في وجود امام لا يمكن التوصل إليه وأخذ المسائل الدينية منه؟ فإن مجرد المعرفة بإمامته ورئاسته، والتصديق بوجوده وأنه خليفة الله في أرضه، ثمرة ينتفع بها، وليست الفائدة منحصرة في مشاهدته، أولا ترى أن من كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصدق بوجوده وبرسالته، كان مؤمنا حقا وان لم يره مشاهدة كأويس القرني - رضي الله عنه - فكذا ها هنا.
و
" روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري: " ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر المهدي فقال: ذلك الذي يفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت فيها إلا من امتحن الله قلبه للإيمان.
قال جابر: فقلت: يا رسول الله - هل لشيعته انتفاع به في غيبته.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أي والذي بعثني بالحق، أنهم يستضيئون بنوره، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها السحاب " ".
والعجب أنهم حملوا الإمام في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل الشوكة الظاهرة من ملوك الدنيا - كائنا من كان، عالما أو جاهلا، عادلا أو فاسقا - فتشنيعهم على الإمامية مقلوب عليهم بأشد وجه بأن يقال: أي ثمرة تترتب على معرفة الجاهل الفاسق ليكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية؟
وأما رجوعهم عن هذا الحمل لغاية سخافته، إلى أن المراد بالإمام في ذلك الحديث هو " الكتاب " ، فدفعته الإمامية بما نقله بعض الأعلام منهم بقوله: إن إضافته إلى زمان ذلك الشخص يشعر بتبدل الأئمة في الأزمنة، والقرآن لا تبدل له - بحمد الله - على مر الأزمان، ولأن المراد بمعرفة الكتاب، إن أريد بها معرفة ألفاظه أو الاطلاع على معانيه، أشكل الأمر على كثير من الناس، حيث يكون موتهم ميتة جاهلية، وإن أريد مجرد التصديق بوجوده، فلا وجه للتشنيع علينا إذا قلنا بمثله.
اعلم أنه ذكر الشيخ محي الدين الأعرابي في الباب الثلاثمائة والست والستين من كتاب الفتوحات المكية كلاما بهذه العبارة يدل على أنه كان معتقدا وجود المهدي (عليه السلام)، وقد نقل بعض الأعلام من الكرام تمام هذا الكلام في كتاب الأربعين من أراد الاطلاع عليه فلينظر فيه، ونورد فيه نبذة منه هي:
" وان لله خليفة يخرج من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ولد فاطمة (عليها السلام) يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، جده الحسين بن علي (عليهما السلام)، يبايع بين الركن والمقام ".
- وعد بعض نعوته وأوصافه الشريفة إلى أن قال: - " يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف إلهي، له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه، لولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يظهره بالسيف والكرم فيخافون ويقبلون حكمه من غير إيمان، ويضمرون خلافه، ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ضلال في ذلك ". - انتهى -.
واعلم أن كل عالم رباني ذي مكاشفة تامة يعرف طريق التبتل إلى الله تعالى، وكيفية التخلص عن ورطة التعلق بالمهلكات الدنيوية والمؤذيات النفسانية، فإن اتباعه وتعلم السلوك منه واجب عقلا، كما أن اتباع الرسول والأئمة (عليهم السلام) واجب عقلا وسمعا، فكما أن المريض ومن به داء مهلك، عند التساهل عنه، إذا وجد طبيبا حاذقا يعرف معالجة ذلك المرض المهلك يجب عليه اتباعه وقبول ما أمر به، بحسب ما جبل عليه من التحفظ على الحياة البدنية، فكذلك من به مرض الجهل وداء الخلق الردي النفساني الذي به تفوت الحياة السرمدية، يجب عليه بالضرورة أن يتبع العارف الواقف بكيفية إزالة الجهل وسائر الأخلاق الذميمة، ويتعلم منه طريق الاستكمال، ويتأسى به، ويسلك بسلوكه، ويقبل منه النصائح في كيفية التقرب إلى المبدأ الفعال.
وكما ان من تيسر له خدمة عالم متأله، ثم تساهل في ملازمته وتحمل المعارف منه - خوفا من سقوط منزلته عند الناس، وتحفظا على جاهه الحقير لدى العوام الناقصين -، فيوشك أنه إذا خرج الإمام المهدي (عليه السلام) - الذي وجبت إطاعته عقلا - تمرد على حكمه وتحاشى إطاعته، إذا انحطت عند ذلك مرتبته عند الناس وسقط به جاهه الخسيس، اللهم إلا خوفا أو طمعا، لا تقربا إلى الله تعالى، وإلا لأطاع كل من له قدم راسخ في العلم بالله وملكوته، وذلك لمرض نفسه، وخبث جوهره، وقصور ذاته بحسب نفس الأمر، وسقوط منزلته عند الله حيث تصده المنزلة عند الخلق عن تحصيل المنزلة عنده، ويرجح عنده رضاء الخلق على رضاء الخالق، وقد قال سبحانه:
ورضوان من الله أكبر
[التوبة:72].
[57.28]
الكفل: النصيب.
يا أيها الذين آمنوا - أي: اعتقدوا توحيده وعلمه وقدرته وصدقوا بأنبيائه (عليهم السلام)، - اتقوا الله - فيما نهاكم عنه من قبائح الأفعال ورذائل الصفات - وآمنوا برسوله -: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أو: يا أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا ظاهرا، آمنوا باطنا، يعطكم نصيبين من رحمته، نصيبا لإيمانكم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونصيبا لإيمانكم بمن قبله من الأنبياء (عليهم السلام)، إن كان خطابا لمؤمني أهل الكتاب، ولا يبعد أن يثابوا بما عملوا في دينهم السابق وإن كان منسوخا.
هكذا قيل، وفيه تفصيل: فإنهم إن لم يكونوا معاندين، بل كانوا منقادين للحق إذا ظهر عليهم، فكل ما عملوا سابقا طلبا لمرضاة الله، كانوا مثابين به إلى أن وصل إليهم صيت الإسلام، فإذا اجتهدوا في تحقيق الأمر حتى ظهر لهم، فلا شبهة في أن لهم كفلين من رحمة الله، وان لم يكونوا كذلك، بل كانوا متعصبين لدينهم، متصامين عن استماع الحق، فلا اعتداد بالأعمال التي فعلها الإنسان تعصبا وتجاهلا من غير طلب البصيرة.
وقيل: الخطاب للنصارى، الذين كانوا في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم).
وان كان خطابا لغير أهل الكتاب فالمعنى: اتقوا الله وأثبتوا على إيمانكم برسوله يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب من الكفلين في قوله:
أولئك يؤتون أجرهم مرتين
[القصص:54]. ولا ننقصكم من مثل أجرهم لإنكم مثلهم في أنكم لا تفرقون بين أحد من رسله.
ويجعل لكم يوم القيامة نورا تمشون به - اي: هدى يهتدون به.
وعن ابن عباس: " النور ": القرآن، لما فيه من الأدلة النيرة على كل حق، والهداية إلى كل خير، وبه الاستحقاق لحصول الضياء في القلب الذي يمشي به يوم القيامة.
ويغفر لكم - أي: يستر عليكم ذنوبكم التي أسلفتم من الكفر والمعاصي.
روى سعيد بن جبير: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه ودعاه، فاستجاب له وآمن به، فقال أناس ممن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلا: " إئذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم ".
فأذن لهم. فقدموا مع جعفر، وقد تهيأ (صلى الله عليه وآله وسلم) لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة، استأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجعوا وقدموا لهم بأموال لهم، فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله فيهم:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون
[القصص:52] الى قوله:
ومما رزقناهم ينفقون
[القصص:54].
فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا
[القصص:54] فخروا على المسلمين فقالوا: " أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فضلكم علينا "؟
فنزلت الآية، فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة.
وروي ان مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم، فنزلت.
مكاشفة
يا أيها المعدودون من أهل الإيمان، اتقوا الله بتكثير الحسنات وتنقيص السيآت، وآمنوا برسوله أي: حصلوا لأنفسكم ملكة المعرفة بالله، وكيفية إرسال الرسول، وإنزال الكتب عليه، وإفاضة الحقائق العلمية على قلبه بواسطة الملك الموحى إليه بإذن الله، والتصديق برسالته واطلاعه على المغيبات وحقيته في كل ما أتى به.
والأول: رعاية للجزء العملي من النفس الإنسانية، ومحافظة على حصول ثمرته التي هي تصفية وجود (وجه) النفس بتقوى الله، والزهد الحقيقي عن كدورات الشهوات الدنيوية من المعاصي والقبائح.
والثاني: رعاية للجزء النظري منها، وايصاله بكماله الذي هو المقصود من وجود الإنسان، وهو اكتساب المعارف الحقة الباقية معه أبدا مخلدا.
وحيث كان كمال الإنسان ومنزلته عند الله، وحصوله المثوبة الأخروية له، منوطا بثمرة استكمال كل من هاتين القوتين، فلا بد لكل من آمن بالله واليوم الآخر، أن لا يتوانى عن اكتساب الأحوال والأعمال، واقتناء العلوم والملكات المؤدية إلى هاتين الثمرتين.
أما ثمرة الأعمال الصالحة، فالتخلص من ذمائم الأخلاق ورداءة الأوصاف والتعلقات الدنيوية المانعة عن قبول الرحمة والهداية، وإلا فالجود مبذول والرحمة واسعة عند عدم المانع.
وأما ثمرة العقائد الحقة، فمشاهدة الأعيان الشريفة النورية، ومنادمة الملائكة القدسية، وأهل الصفوة، وعباد الله المقربين، وقبول التجليات الإلهية.
أما صاحب رتبة العمل دون العلم، فهمته متوجهة نحو لذات الجنان، والمشتهيات من الحور والغلمان، وكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين بقوة التخيل وتصل همتها إليه - وان كان نازلا عما يهمه ويقصده المقربون من العرفاء، كالسدر المخضود والطلح المنضود.
واما صاحب المعرفة، فهمته متوجهة نحو عالم القدس والوحدة، ومشاهدة الجمال والجلال، فله المثوبة الكبرى والدرجة الكبرى والدرجة العظمى، والمشرب الكافوري - وما هو دون ذلك إن أراد كالمشرب الزنجبيلي -
فلما أمر سبحانه أهل الإيمان بالتقوى والمعرفة، وكل منهما ينتج ثمرة خاصة ونصيبا مخصوصا من فيضه ورحمته، وقعت الإشارة إلى حصول النصيبين لهم من الرحمة، نصيبا لأجل العلم، ونصيبا لأجل العمل.
ولما كانت ثمرة العلم أجل رتبة وأفضل قدرا من ثمرة العمل - فضيلة الإدراك على الحركة، وشرافة العين على القدم -، أشار أولا إلى ذكر ثمرة العلم وتعيين ماهيتها بقوله: { ويجعل لكم نورا تمشون به } [الحديد:28]، فإن هذا النور بعينه هو النور المذكور في قوله:
نورهم يسعى
[التحريم:8].
ثم أشار إلى ثمرة العمل بقوله: { ويغفر لكم } ، ثم أشار إلى كون ذاته تعالى منشأ جميع الخيرات ومبدأ فنون المبرات بقوله: { والله غفور } ، نظرا إلى إمداد لطفه في اجتناب الإنسان عن الرذائل، وقبول توبته { رحيم } ، نظرا إلى إفاضة جوده في تلبس الإنسان للفضائل.
[57.29]
" لا " في " لئلا يعلم " زائدة. و " أن " في " أن لا يقدرون " مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف وهو الشأن، أو ضمير راجع إلى أهل الكتاب أي: لأن يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة، ولا يتمكنون من نيل شيء منه، لأن جميعه مشروط بالاعتقاد الصحيح في حق الله ورسوله، وهم لم يؤمنوا برسول الله، فلا ينفعهم إيمانهم بغيره من الأنبياء بعدما فرقوا بين رسل الله، وليعلموا أن الفضل بيد الله وقدرته، ويؤتيه من يشاء بمشيته السابقة، وارادته الأزلية المنبعثة عن علمه باختلاف القوابل وتفنن الماهيات - والله ذو الفضل العظيم -، بإفاضة نور الوجود على هياكل الممكنات.
وقيل: إن المراد بفضل الله ها هنا النبوة، أي: لا يقدرون على نبوة الأنبياء، ولا على صرفها عمن يشاء الله أن يخصه بها، فيصرفوها عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى من يحبونه، بل النبوة كسائر الفضائل الموهبية بيد الله، لا مدخل لتعمل الناس في استجلابها، يعطيها من يشاء ممن هو أهلها ومستحقها.
وقيل: " لا " ها هنا في حكم الثبات، والمعنى: لأن لا يعتقد أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين به لا يقدرون على شيء من فضل الله ولا ينالونه، فعلى هذا يكون الضمير في " يقدرون " للنبي والمؤمنين، ويكون " أن الفضل " عطفا على " أن لا يعلم ". أو لأن لا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون أن يؤمنوا، ويكون المراد: لكي يعلموا أنهم يقدرون على الإيمان وطلب الفضل والثواب.
وقرأ الحسن: " ليلا يعلم " - بفتح اللام وسكون الياء -، وروي بكسر اللام أيضا - وتوجيهه على ما قيل، بأن حذفت الهمزة من " لان " لثقلها حتى صار " لن " ، ثم أدغمت " النون " في " اللام " للمجانسة بينهما، فصار " للا " - بالكسر - ثم أبدلت اللام الثانية المدغمة في الثالثة " ياء " ، كإبدالهم الواو المدغمة وغير المدغمة ياء في " ديوان " و " قيراط " ، فإن الانتقال من المضاعف إلى المعتل متعارف عند أهل اللسان.
وأما الفتح - كما في قراءة الحسن: فعلى أن أصل لام الجر هو الفتح، وقرئ: " لكي يعلم " ، و " لكيلا يعلم " ، و " ليعلم " ، و " لأن يعلم " - بادغام النون في الياء، " ولين يعلم " بقلب الهمزة ياء، وإدغام النون في الياء ، كما ذكر في الكشاف.
مكاشفة
إنما يستشعر من الآية الكريمة، أن لأهل الإيمان اقتدارا على استجلاب فضل الله وتمكنا من استدرار رحمته، ومفهوم الخلاف وان لم يكن معتبرا عند الأكثر، سيما في مثل هذا المقام حيث عقب بقوله: { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء } [الحديد:29]، إلا أنه مما يمكن تصحيحه ها هنا بوجه عقلي، فإن الفضل وان كان كله من عند الله بحسب مشيئته بلا تأثير لغيره في الإجارة، وتوسيط لما سواه في الإفاضة، لكن لا بد من تعلق المشية بواحد دون واحد من مخصص، لامتناع الترجيح من غير مرجح، - كما هو المذهب المنصور -.
فللعبد اختيار في اكتساب المرجح بتحصيل المعارف الإيمانية والعقائد الحقة - أولا -، ثم العمل بمقتضاها - ثانيا -، ثم الانتظار لهبوب رحمة الله وفضله - ثالثا -.
فإن من حصل المعرفة بالله ورسوله واليوم الآخر، والاعتقاد والثواب للمحسن، والعقاب للمسيء - وان كان على وجه التقليد والظن -، حصل لنفسه تشوق إلى تكميل جوهره بتحصيل اليقين والوصول إلى ثواب الله والتقرب إليه، فيبعثه ذلك على قمع الشهوات الظاهرة عن النفس - أولا -، ثم على قلع الصفات الذميمة الباطنة عن القلب - ثانيا -، ثم يختار العزلة والخلوة عما يشوش ذكره ويوسوس طبعه، فيجلس للمراقبة والذكر والفكر، ثم يؤدي به ذلك إلى أن يجعل همومه ومقاصده وأغراضه واحدا - هو التشوق إلى طلب الحق -.
وإذا غلب ذلك على قلبه، فهو بعد ناقص محروم، ما لم يكن من المتفكرين وأهل العلم، فإن كان له مجال في التفكر، وحركة معنوية في الباطن، شغله ذلك عند التجرد عن محاربة الشيطان ووساوس الوهم، بإبداء الشبهات والشكوك في قلبه، حتى يضله ذلك عن الطريق، وان لم يكن له سير في الباطن، وحركة معنوية في الملكوت، فلا تنجيه الأوراد المتواصلة والصلوات المتعاقبة، بل يحتاج معها إلى تكليف الحضور لقلبه بالأفكار المعنوية، فإن التفكر في الباطن هو الذي يستغرق القلب ويسخر النفس دون الأوراد الظاهرة.
وربما لم يسلم مع ذلك من الآفات الشاغلة له في بعض الأوقات من الفكر والذكر ضرورية كانت أو غير ضرورية، كمرض وخوف، أو إيذاء من مخاصم، أو طغيان من مخالط لضرورة المعيشة أو اشتغال بمطعم أو ملبس مما يحوجه إلى شغل تولاه بنفسه، فإن تيسر له قطع هذه العلائق لتسلم له أكثر الأوقات، فيصفو قلبه، وينشر فكره في عالم الملكوت، وينكشف له من أسرار الله ما لا يقدر على شيء قليل منه جملة الأذكياء المشتغلين بقلوبهم بالدنيا وعلائقها.
وهذا أقصى المقامات التي لاختيار العبد مدخلية في أن تنالها بالاكتساب والجهد، فأما مقادير ما ينكشف له من فضل الله، ومبالغ ما يرد عليه من رحمته، فهو خارج عن اختياره واقتداره، فإنه يجري مجرى الصيد، وهو بحسب الرزق والطالع الأسمائي، الذي طالع طالعه السمائي، فقد يقل الجهد ويحل الصيد، وقد يطول الجهد ويقصر الحظ، فالمعول بعد ذلك على جذبة من جذبات الحق التي توازي عمل الثقلين، وليس ذلك باختيار العبد، وان كان له اختيار في أن يتعرض لتلك اجذبة بالاكتساب من الرياضات الفكرية والعملية (العلمية).
وإليه الإشارة بقوله: إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها.
وذلك بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا، فإن المجذوب إلى أسفل السافلين كيف ينجذب إلى أعلى عليين، وذلك لأن تلك النفحات والجذبات أرزاق معنوية بمنزلة الرزق الصوري، فلها أسباب سماوية رحمانية، كما أن للرزق الصوري أسبابا سماوية جسمانية، إذ قال:
وفي السمآء رزقكم وما توعدون
[الذاريات:22]. فإن هذه السماء الجسمانية مثال وظل لمبدء رحمانيته تعالى المنبعث عنها الأرزاق الصورية والمعنوية كلها، ولهذا وقعت الإشارة بقوله:
الرحمن على العرش استوى
[طه:5].
وهذا الذي كلامنا فيه، من أجل مراتب الرزق المعنوي، فهو أيضا من أسباب سماوية قدسية، والأمور السماوية غائبة عنا فلا يدرى متى يسر الله أسباب الرزق، فما علينا إلا تفريغ محل القلب والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أجله، - كالذي يصلح أرض الزراعة وينقيها من الحشيش ويبث فيها البذر -، بأن يصفي المريد القلب عن ذمائم الصفات، ويبث فيه بذر المعارف الإلهية - وكل ذلك لا ينفعه إلا بنزول المطر - ولا يدري متى يقدر الله أسباب المطر ، إلا أنه يثق بفضل الله وسنته في أن لا يخلي الأرض سنة عن مطر، فكذلك قل ما يخلو قلب المريد الصافي في شهر أو يوم عن جذبة من جذبات الحق.
وبالجملة - فقد علم أن تطهير القلب عن حشيش الشهوات، والبذر فيه ببذر الإيمان بالله ورسله وملكوته، وجعله لمهاب فضل الله مما لاختيار العبد مدخل فيه، إلا أن يكون في غاية الجمود والقساوة لسبق الكفر المتمادي، أو الفسوق المتراكم كالجاحدين من أهل الكتاب.
وأما نزول أمطار الفضل، وهبوب رياح الرحمة، فلا اختيار للعبد فيه، بل كله بيد الله يؤتيه من يشاء.
فقوله: ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله، نعي عليهم وإبعاد وويل لهم، حيث لا يمكنهم تطهير الباطن وتصفيته عن الرذائل لاستدرار رحمة الله وفضله، وذلك لجمود قرائحهم الجاسية، وفساد قلوبهم القاسية.
كما قال:
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله
[الزمر:22].
خاتمة
هذه السورة مدنية، وهي تسع وعشرون آية، وقيل: ثمان وعشرون والاختلاف في قوله:
من قبله العذاب
[الحديد:13] و
وآتيناه الإنجيل
[الحديد:27].
وعدد كلماتها خمسمأة وثلاث وسبعون.
وحروفها ألفان وأربعمأة وتسعون.
وانتظام ختم الواقعة بافتتاحها أنهما في التسبيح.
وانتظام السورتين أن تلك السورة في ذكر السابقين وأصحاب اليمين والمكذبين الضالين، وهذه السورة في كيفية الارتقاء إلى درجة السابقين وأصحاب اليمين بالمعارف الحقة والأعمال الصالحة، وفي حث الفائزين بالوصول إلى درجة المقربين والسعداء بسبب الإيمان، على تقويته وتوسيع دائرته وتكثير فوائده، ودفع المطفين لأنواره، والجاهدين لآثاره، من الكفرة الفجرة، وترغيب المؤمنين في مجاهدة الكافرين والإنفاق على المجاهدين.
فافتتحت السورة بتقديس الله عن النقائص وصفات الممكنات، وسمات الحادثات، بلسان كل من في سموات عالم الملكوت، وما في أرض عالم الملك، وبذكر أن جميع ما وقع عليه اسم الوجود ملكه، وتحت تسخيره، جار عليه سلطانه، نافذ فيه حكمه، سار فيه أمره، يصرفه كيف يشاء بالإحياء والإماتة.
ثم ذكر أن منشئ مملكة السموات والأرض وبانيها - مع تمادي أزمنة بقائها، واتساع أمكنة أرضها وسمائها -، مما لا يغيب عنده زمان عن زمان، ولا يفوت لديه مكان عن مكان، بل جميع الأزمنة والزمانيات - لإحاطته القيومية - في حكم آن واحد في الحضور لديه، وكافة الأمكنة والكائنات بتمامية الإلهية في حكم نقطة واحدة في المثول بين يديه، من غير تطرق تجدد وتغير في ذاته، أو احتمال تجز وتكثر (تجبر وتكسر - ن) في صفاته، وذلك لأنه هو الأول في عين آخريته، وهو الظاهر في عين باطنيته، ولما كان هذا مستلزما لشمول علمه بجميع الموجودات، وإحاطة شهوده بجملة الكائنات ذكر عقيبه:
وهو بكل شيء عليم
[الحديد:3] و [الأنعام:101].
ثم أشير إلى أن عمله بكل شيء بنحو العلم بأسباب ذلك الشيء وعلله، - الذي هو أجل مراتب العلم وأوثقها وأتقنها -، ليعلم أن عالميته بالأشياء بأي نحو من ضروب العالمية وليعلم أنه ليس باحساس ولا بانفعال، وإلا يلزم استكمال الكامل بالناقص، وانفعال العالي عن السافل، فذكر أنه مبدع الأشياء وخالق الأرض والسماء في أقل من عدد كامل - هو السبعة - أعني الستة.
ثم لما كان أسباب وجود الكائنات وشرائط حفظها وبقائها: من الأرزاق والآجال، ينزل من عنده بواسطة السموات وقواها المحركة لها شوقا إلى طاعة بارئها فنون الحركات، وصنوف اختلاف الأوضاع والنسب التي تنشأ منها الكائنات، وينبعث منها الحيوان والنبات على ما جرت عليه سنة الله التي لا تبديل لها، وجملة المتحركات السماوية والأكر الكوكبية في فلك واحد عظيم مشتمل على الجميع اشتمال الشخص الإنساني على أعضائه وجوارحه وأركانه، هو المحدد بجسميته للجهات والأبعاد، وبمقدار حركته للأزمنة والحركات، فهو بنفسه وعقله يدبر الكل، ويسوس الجميع بإذن مبدعه ومحركه ومدوره وموجد نفسها ومحركها، تحريكا شوقيا بالحركات النفسانية، والأوراد والأذكار القدسية، والانتقالات العلمية، والطاعات الملكية، كل ذلك تشوقا إلى جنابه، وتقربا إلى طاعته، وامتثالا لأمره، وتضرعا وابتهالا نحوه وتشفعا لديه لإنجاح مقاصد الملهوفين، واستغاثة عنده لإغاثة المحتاجين، واصلاح أحوال الهابطين إلى معدن الظلمات، وإعلاء مرتبة النازلين في مهوى عالم الجهالات من أهل الاستعداد، وإصعادهم عن رتبة السافلين إلى أوج العليين بالهامهم معرفة المبدأ والمعاد، وتوسطا لجبر كسير وخلاص أسير، فاريد التنبيه على أن هذه الوسائط، مما لا مدخلية لها في الإيجاد والإعطاء، بل هي مظهر الرحمة ومستوى الرحمن، وهو الذي استوى على العرش لانتظام ما في الكون، وتسبيب الأسباب، وتهييج الأشواق، وانشاء الدواعي، وتوسيط القوى الفعالة، ووضع القوابل المنفعلة، كل ذلك على سبيل العناية بالسافلات، وترشيح الخير الدائم على المنفعلات الكائنات بوساطة عالم الحركات العاليات، الصادرات بأمره تعالى عن الملائكة المدبرات، وعباده الساجدات الراكعات، كما أشير إليهم بقوله تعالى:
غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6].
ثم عاد إلى بيان علمه بالجزئيات، بزيادة استيضاح على هذا الوجه المذكور من سبيل أخرى، فأشار إلى أن من هو شأنه هكذا، لا بد وأن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل يعلم الوالج في الأرض من أسباب قابلية الوجود للكائنات - كالبذور والنطف وغيرها من المقادير والكيفيات الاستعدادية -، والخارج منها -، كاجساد المواليد الثلاثة وأبدانها، من الجماد والنبات والحيوان -، والنازل من السماء، - كقواها وصورها ونفوسها وما يتحصل ويتقوى به أعضاؤها وأحجامها كالأمطار والثلوج وغيرهما -، والعارج فيها من العقول الصافية الإنسانية التي صارت طيورا سماوية طائرة إليها من أقفاص الأبدان بجناحي العلم والعمل، بخلاف النفوس المتعلقة المقيدة بشهوات هذا العالم، التي تكون أبدانهم بالقياس إلى نفوسهم البهيمية اسطبل الدواب لا أقفاص الطيور، فليس لهم قوة الارتقاء إلى ملكوت السماء، ولا لهم سبيل إلى عالم التقديس وعالم المعنى.
ثم لما تقدم أنه سبحانه مما لا يتجدد عليه شيء بالغيبة والحضور، والوجود والدثور، ولا يفوته شيء من الأشياء، بل الماضي والمستقبل بالنسبة إليه كالآن في الحضور لديه، ومع ذلك هو القائم على كل نفس بما كسبت بيديه، لاستوائه برحمانيته على عرش وجود الحوادث والكائنات، واستقلاله بالإفاضة والإيجاد على الموجودات من غير تأثير لغيره إلا في الإعداد. فظهر أن لا واسطة بينه وبين كل موجود، ولا تفاوت فيها عنده، ولا تعاقب لوجود على وجود لديه، بل هو بوحدته مقوم ذات الجميع، وبفردانيته مقرر ماهية الكل، أثبت معيته لنا أينما كنا ومتى كنا ، عالين أو سافلين، سابقين أو لاحقين، فإذا كان كذلك، كان علمه حضوريا شهوديا، إشراقيا نوريا، فعبر عن ذلك بأنه
بما تعملون بصير
[الحديد:4].
ولما علم مما ذكر سابقا كونه مبدأ فاعليا للجميع، أراد التنبيه على أنه المبدأ الغائي أيضا للكل، وحيث كان الأول كاشفا عن الثاني مستلزما له، ذكر رجوع الأمور إليه بعدما أعاد ذكر نسبة ملك السموات والأرض إليه، ليعلم أنه الغاية القصوى للكل، كما أنه المبدأ الأعلى للجميع بتوسط (بتوسيط - ن) المنافع والغايات الجزئية، وتسبيب (تسبب - ن) الأسباب المتوسطة لوجود الأشياء على الوجه الذي أراد وشاء.
ثم لما مرت الإشارة إلى الأسباب القابلية الأرضية والفاعلية السماوية لخلق المركبات العنصرية، أراد أن يشير إلى أن تأثير الأسباب العالية في القوابل السافلة متوقف على الحركة المتجددة، ليقرب المعلول إلى علته - فإن الأمور مرهونة بأوقاتها الحاصلة من حركات أسبابها وتغيراتها، فاختلاف الحركات والأوقات سبب لاختلاف الحوادث والكائنات، كما يشاهد تبدل الفصول الموجب لتخالف الليالي والأيام، المستلزم لاختلاف أحوال الخلائق والأنام -، عبر عن تفاوت الليل والنهار على الوجه المشاهد المستلزم لاعتدال الكائنات بولوج كل منهما في صاحبه، موميا إلى المنافع والغايات المترتبة على تفاوتهما في المقدار واختلافهما في الآثار، وبين أن الجاعل لهما على هذا الوجه المقرر، والمولج لكل منهما في الآخر: - هو سبحانه -، لتدبير الكائنات ومصلحة الموجودات. فإنه سبحانه لو لم يجعل الأنوار الكوكبية ذات حركة سريعة مشتركة، واخرى بطيئة مختصة، ولم يجعل دوائر الحركات البطيئة مائلة عن دائرة الحركة السريعة، لما مالت إلى النواحي شمالا وجنوبا، فلم تنتشر منافعها على بقاع الأرض.
ولولا أن حركة الشمس - خصوصا - على هذا المنوال، من تخالف سمتها لسمت الحركة السريعة، لما حصلت الفصول الأربعة التي يتم بها الكون والفساد، وتنصلح بها أمزجة البقاع والبلاد، ولما كان القمر نائبا للشمس خليفة لها في النضج والتحليل، والإصلاح والتعديل، وإذا كان قوي النور جعل مجراه يخالف مجراها، فالشمس تكون في الشتاء جنوبية والقمر شماليا لئلا ينعقد السببان، وفي الصيف بعكس ذلك لئلا يجتمع المسخنان، ولما كانت الشمس في أيام الصيف الطوال شمالية الحركة، وفي أيام الشتاء القصار جنوبيتها، ولها أوج وحضيض متقابلان بينهما نصف دور، جعل الله تعالى بحكمته البالغة أوجها في الشمال وحضيضها في الجنوب، لينجبر قرب الميل عن سمت الرأس ببعد المسافة لئلا يشتد التسخين بالتنوير، وينكسر بعده بقربها لئلا تضعف القوة المسخنة عن التأثير، كل ذلك لحكمة العليم القدير، الحاصلة من تخالف الليل والنهار وتفاوتهما في المقدار.
ولما كان بيده وجود الأسباب المؤدية إلى خلقة الإنسان بدنا ونفسا، صورة ومعنى، كان عالما بصفاته الظاهرة البدنية وملكاته الباطنة النفسانية، فذكر أنه عليم بذات الصدور، ليعلم أنه ناقد بصير لا يخفى عليه قليل ولا كثير، فيجازي على كل عمل قلبي، كما يجازي على كل حركة بدنية.
ولما بين أنه سبحانه متصف بغاية العظمة والجلال، منعوت بكونه مبدأ أعلى وغاية قصوى للكل، يتضح لذوي البصيرة أن الكل محتاجون إليه في الوجود، وخصوصا المعلول الذي تضاعفت فيه وجوه الحاجة، وكثرت عنده جهات الإمكانات الذاتية والاستعدادية، ولا شبهة في أن من هو موصوف بغاية الفقر والفاقة، من شأنه التشبث بمن هو منعوت بالكرم والإفضال، ومن دأبه التضرع والابتهال وطلب التخلص عن القصور والوبال، ممن هو على غاية التمام والكمال، واستدعاء الاستمداد والاستكمال ممن هو في نهاية العظمة والجلال، متبرئ الذات عن النقص والعدم والزوال، كائنا بذاته الفردانية الأحدية، منبع كل صورة وكمال، ومنشأ كل خير وجمال.
ثم لا يخفى إن كل ناقص يسوغ له الانتقال من حدود النقص إلى ذروة الكمال، فله طريق خاص ومنهج معين في الترقي إلى أوج الترفع والإقبال، فللأجسام - بما هي أجسام - الحصول في مطلق الحيز والفضاء وللعناصر في الحركة نحو المكان الأسفل والأعلى، وللنبات في الاغتذاء والنماء، وللعجم من الحيوان في حياته الدنيوية بأنفاسه وحركته بإرادته وإحساسه، وما من دابة فما دونها إلا ومن شأنه البلوغ إلى أقصى ما لها في ذاتها ما لم يعقها عائق، ولنوع الإنسان كمال يخصه هو الإيمان بالله وأفعاله القريبة بحسب جزئه العلمي، والتجرد عن الدنيا واللذات البهيمية بحسب جزئه العملي، ولهذا وقع له الأمر بالإيمان بالله ورسوله والإنفاق مما زاد على ضرورات بقائه الكوني.
ثم بين سبحانه عظم أجر الإنسان الذي سلك مسلك المعرفة والتجرد بقوله:
لهم أجر كبير
[الحديد:7]، لأنه بهذين الأمرين يقرب من الملكوت ويتخلص عن الناسوت.
ثم أظهر سبحانه الاستنكار والتعجب ممن لم يتفطن بالمعرفة بالله عند تحقق الرسول - المعلم للبشر الداعي إلى طريق الحق -، مع قابلية الذوات ومناسبتها لمعرفة الحق بحسب الفطرة الأصلية المعبر عنها " بأخذ الميثاق ".
ثم بين عظم رتبة هذا المعلم البشري وكيفية ارتقائه إلى مرتبة الرسالة ودرجة التبليغ، وهو إنما يكون بتنزيل الله سبحانه على عبده المستجمع للفضائل والملكات البشرية الآيات البينة والمعارف الحقة، لتتنور ذاته بالأنوار القيومية، ويستشرق عقله المنفعل بالأضواء الأحدية، وتستضيء نفسه التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار بالإشراقات الصمدية، ويصير عندما مسته نار الأنوار والشعلات الجبروتية نورا على نور، ليتنور بنور ذاته المستضيئة بأنوار الله المنتكسين في دياجير الجهل والظلمات، الهابطين إلى مهوى الغفلة والشهوات، المتزحزحين لضعف الأحداق عن عالم الإشراق، ويخرجهم من ظلمات الأجسام إلى نور عالم الأرواح ومرجع نفوس السعداء والكرام.
ولما كان إرسال الرسول وانزال الوحي وتنزيل الآيات إلى قلبه منه تعالى على وجه لطيف، حيث صار موجبا لنظم أمور الدنيا، وتعيش الإنسان على أبلغ نظام مع تحصيل الأهبة في سفر الآخرة له، وأخذه الزاد وربح التجارة في المعاد، والفوز بأرفع مقام ومراد - فقد كان فيه نفع العاجل مشفوعا بسعادة الآجل -، أشار إلى هذا التلطف في الهداية والتكميل والإخبار عن تعلق صفتي الرأفة والرحمة بالعباد لترتبهم في الوجود والبقاء من جهتي المعاش والمعاد.
ولما أمر أولا بالإيمان والإنفاق اللذين هما خلاصتا الكمال العلمي والعملي. ثم أخذ يسأل شبه المتعجب المستفهم عن التاركين للإيمان في تركهم إياه مع دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ الميثاق - أي وجود المعلم وقابلية المتعلم -، وتأييده سبحانه هذا المعلم بصنوف أسباب الهداية والتعليم، فعاد ثانيا شبه المتعجب المستفهم عن التاركين للإنفاق في تركهم إياه، محتجا عليهم في استقباح هذا البخل والإمساك منهم بأن ما في تملكهم ليس باقيا لهم، بل في معرض الزوال، هو عنهم وهم عنه، وأن الجميع بالحقيقة ملكه يعود إليه، وله ميراث كل شيء، سواء في ذلك المال وذو المال.
ثم ذكر تفاضل المنفقين والمجاهدين قبل الفتح وبعده، وتفاوتهم في درجة الجزاء والثواب، فإن أفضل الأعمال أحمزها، مع أنه وعد الجميع بالحسنى لاشتراكهم في أصل الفعل الحسن، وذكر أنه خبير بمراتب الإخلاص في العمل وحسن النيات، كما أنه خبير بظواهر الأعمال وبواعث الأفعال.
ثم وعد الأجر الكبير مع المضاعفة في مقدار الثواب لمن يقرض الله قرضا حسنا.
ثم بين الموضع الذي تتحقق فيه المجازاة على الأعمال، وتتبين فيه الدرجات والأحوال، ويتميز فيه السعداء عن الأشقياء، فذكر شيئا من أحوال المؤمنين، وشيئا من أحوال المنافقين في ذلك اليوم، وذكر تخلف المنافقين عن المؤمنين في سلوكهم طريق النجاة بنور المعرفة والسداد، وتمنيهم الاقتباس من نور معرفة المؤمنين مع استحالة ذلك ببطلان استعدادهم الفطري، وزوال قابليتهم الجبلية. وذكر رد المؤمنين ملتمسهم ومقترحهم بالتنبيه على فقدان القبول لهذا الاقتباس، والإشعار بما يوجب لهم الخذلان واليأس.
ثم ذكر أنه وقع عند ذلك حاجز ذو باب باطنه يلي عالم القدس والرحمة والنعمة، وظاهره يلي عالم الظلمة والغضب والنقمة.
ثم أشار إلى نداء أهل الجحيم لأهل النعيم، وسؤالهم إياهم بسبب علو مرتبتهم وانحطاط مرتبة مرتبتهم مع الاتفاق بينهم في ظواهر الأعمال البدنية، والتساوي في مزاولة العلوم الدينية، وبطلان ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، فحكى الجواب لهذه الشبهة الواهية التي هي أوهن من بيت العنكبوت من قبل البارعين في العلم من أفاضل المؤمنين: إن ملاك التقرب إلى الله تعالى، والصعود إلى معارج القدس، إنما هو بالإخلاص في النيات، والسير المعنوي في الملكوت، والتفكر في بدائع الفطرة مع صدق الطويات، وأنتم سلكتم مسالك الأماني والشهوات، والاغترار بالدنيا واللذات، بتسلط الغار المغوي عليكم، وإراءة الشيطان لكم الباطل في صورة الحق، حتى ترسخت فيكم ذمائم الصفات، وتراكمت في قلوبكم ريون المعاصي والشهوات .
فلن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم، ولا يسمع منكم معذرة، ولا يؤخذ منكم فدية ولا من الكفار، النار مأواكم، والجحيم مولاكم، إذ كل شيء يصير إلى أصله، وكل مريض يداوى بعقاقير بلده، ومأواكم بئس المأوى (وموليكم بئس المولى - ن)، ومصيركم بئس المصير.
ثم لما ذكر حسن أحوال المخلصين، ووخامة عاقبة المنافقين لأجل اغترارهم بالدنيا، عاتب المؤمنين المشتغلين باكتساب الدنيا وقلة التشوق إلى دار الآخرة، حيث تطرقت فيهم قساوة القلوب لتطاول الأمد، كما في بني إسرائيل، ونهاهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلب.
ثم تداركهم باللطف بعد هذا التوبيخ بأن قلوبكم وان قست وقصرت عما كان في سابق الإسلام، وماتت بنسيان المعرفة وقلة تلاوة الآيات والذكر الحكيم، لكن الله يحييها بنور المعرفة والتلاوة والذكر، لبقاء قابليتها بثبوت أصل الإيمان فيها، كما يحيى الأرض بعد يبسها، لبقاء جوهرها، وان عدمت عنها الطراوة التي هي بمنزلة تذكر الآيات في الإنسان.
والقلوب التي لم يبق فيها أصل الاعتقاد، بمنزلة الأرض التي فسدت ذاتها وأرضيتها، وانقلبت سبخة أو رمادا أو ملحا، لا يمكن إحياؤها بأنوار المعارف الحقة، ومياه الأعمال الصالحة، كما لا تنصلح المملحة للعشب بأضواء الشمس ومياه المطر.
ثم رجع إلى الترغيب والحث للإنسان على اكتساب العلم والعمل، بحكاية حال العاملين والعالمين، بذكر الوعد للذين تصدقوا واقرضوا الله قرضا حسنا، - بتضعيف جزائهم وكرامة أجرهم -، وبذكر الفضيلة للمؤمنين بالله ورسله إيمانا حقيقيا، بأنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، والوعد لهم بأجر ونور مخصوصين بهم لمزيد شرفهم ومنزلتهم عند الله، لمكان المعرفة اليقينية والعمل المنبعث عن محض المعرفة، والإخلاص الذي لا يوجد مثله في غيرهم، أما الأجر ففي مقابلة أعمالهم الخالصة، وأما النور فمن لوازم معرفتهم المحضة بلا شوب غرض ورياء في الأول، ولا تطرق شبهة وريب في الثاني.
ثم ذكر لتوضيح هذه المنزلة في الاعتقاد والعمل وشرافته، بذكر ضدها فيهما، وهو الكفر الذي هو أفسد مراتب الجهل - بازاء فضيلة المعرفة بالله -، والتكذيب بآيات الله الذي هو أقبح القبائح العملية - بازاء فضيلة العمل الصالح -، وذلك لأن الأشياء تعرف بأضدادها.
وأخبر بأنهم أصحاب الجحيم بحسب غريزتهم الأصلية، كما أنهم من أهل هذه الدنيا بحسب طبيعتهم الفطرية، إذ الجحيم من سنخ هذه الدار الفانية الهالكة الباطلة، ولهذا وقع الاشتراك بينهما في الخصائص والأحوال.
أما ترى أن شأن كل منهما الإحالة والتحليل، ودأبهما الإماتة والتبديل، أشخاصهما أبدا في الذوبان والانتقال، وأجسامهما دائما في الحركة والارتحال، حال الساكنين في الدينا نظير ما حكى الله عن حال سكان الجحيم بقوله:
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
[النساء:56]. فاشتركوا في الاستحالة والذوبان، وكذا حال أهل الدنيا في تضاد عناصرهم في الكيفيات المحسوسة، وتباغض نفوسهم في الأغراض الخسيسة النفسانية، والدواعي القبيحة الدنية، وتخالف مذاهبهم الناشئة عن المخاصمة والعناد، والمناقشة في الحسد واللداد، كحال أصحاب الجحيم فيما ذكره سبحانه بقوله:
كلما دخلت أمة لعنت أختها
[الأعراف:38]. وبقوله:
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار
[ص:64]. إلى غير ذلك من الخصائص الجامعة للدنيا والجحيم، والصفات المشتركة بينهما، التي تدل على أن الدنيا بعينها صورة الجحيم، والجحيم بعينها حقيقة الدنيا.
وعلى هذا الرأي شواهد عقلية، ومؤيدات نقلية، وإشارات قرآنية، ورموزات نبوية، ونصوص الهامية، وبراهين حدسية، يستيقنها من يعرفها، ويستنكرها من ينكرها.
وإذ قد ثبتت جهة الاتحاد بين الجحيم والدنيا، وان أصحاب الجحيم هم بأعيانهم من أصحاب الدنيا أشار سبحانه إلى بيان ماهية الدنيا ليعلم كيفية استتباعها للنار، واستلزام التلذذ بشهواتها للتعذب بعقوبات الجحيم، فأمر بمعرفة ماهيتها وخصائصها، وحقيقة زهراتها ولذاتها، بكونها لعب ولهو، وما ينبعث منها كالتفاخر في الأمور الخسيسة والتكاثر فيها، وهي أمور باطلة وهمية لا حقيقة لها، كما لا حقيقة للنار إلا كونها قطاعة نزاعة مفرقة للاتصال، معدمة للكون والحياة، وجميع ما ذكرناه أمور عدمية لا حقيقة لها.
وهذأ الإشراق والنورية، والتلون الذي يتراءى من هذه النار الدنيوية ليست داخلة في حقيقة ناريتها، لأنها ليست نارا صرفة، بل نار مخلوطة بنور، ولها مرتبة في الكون والتحصل، وأما النار الصرفة الأخروية فهي ليست إلا إهلاكا وإيلاما، ولذلك قيل: " هذه النار الدنيوية غسلت بسبعين ماء عند مراتب تنزلها إلى هذه الدنيا " ، ليمكن الانتفاع بها رحمة من الله تعالى، والنار الأخروية مخلوقة من عين غضبه تعالى على من يستحقه.
ثم ذكر مثالا مناسبا لدثورها وزوالها، ثم أشار إلى أن المتوغلين فيها، المطمئنين إليها مآلهم إلى الجحيم، حيث عقب ذكر التمثيل في فنائها وفسادها واعجاب الكفار بزينتها بقوله:
وفي الآخرة عذاب شديد
[الحديد:20]، ولما كان من عادة القرآن أن لا يتجرد ذكر الغضب والعذاب فيه عن ذكر الرحمة والمغفرة، عطف عليه قوله:
ومغفرة من الله ورضوان
[الحديد:20].
ثم رجع إلى تأكيد ذم الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور.
ثم أكد في بيان الاجتناب عن الدنيا بأن أمر بالمسارعة في التباعد عنها للوصول إلى المغفرة والجنة، كمسارعة السابقين في المضمار، وذكر تشويقا للعباد في هذه المسارعة بوصف عظمة الجنة وسعة ملكها بما يتصور من البسطة والسعة، وأنها معدة للعارفين بالله ورسله، وأنها من مراتب فضل الله ودرجات تجليه على الأفعال والآثار وتطوره بالأطوار، وذكر أنه ذو الفضل العظيم، فإن جميع العوالم والنشآت من فضائل ذاته المتعالية عن الشبه والنظير، ومن رشحات فيضه المتعالي عن القصور والتقتير، وهذه الفضائل الأفعالية زائدة على شؤونات ذاته وتجليات وجهه في غيب غيوبه التي لا يحيط بها العد والإحصاء، ولا يمكن لها النعت والثناء.
ولهذا ذكر عقيبه بأن كل ما يوجد في هذا العالم، سواء كانت أمورا خارجية أو ذهنية، آفاقية أو أنفسية، فهي مما كانت قبل خلقها في كتاب من علمه تعالى الذي هو من مراتب شؤونه الصفاتية تفصيلا، أو الذاتية إجمالا.
وذكر أن من نتائج هذ المعرفة عدم الأسى على الفائت ونفي الفرح عن الآتي.
ومن نتائج الجهل بها الخيلاء والفخر المبغوضان له تعالى المنهيات بنهيه.
وينبعث عنهما كثير من الصفات الذميمة والأخلاق الردية، كالبخل وحمل الناس عليه، وجميع ذلك مما يورث البعد عن الحق، والتولي عنه إلى الأمور الباطلة، ويضر في معاد الشخص من غير نقصان في سلطانه تعالى وملكه، ولذلك عقب ذلك بقوله: ومن يتول فإن الله غني - في ذاته - حميد - في صفاته.
وحيث يمكن أن يختلج لأحد في قلبه أن صفة الغناء المطلق تنافي طلب الصدقات والطاعات وسائر حقوق الله على العباد بألسنة الرسل والكتب، أشار إلى دفع هذا التوهم، بأن الغاية في ارسال الرسل بالمعجزات وإنزال الكتب، وقانون العدالة في الأفعال والصفات، ليس إلا استقامة الناس واصلاح نفوسهم بملكة العدالة، وحصول المعاملة بينهم بالقسط والإنصاف، من غير تعد وجور، وتفريط ونقص لتدوم معيشتهم الدنيوية وصولا إلى سعادتهم الأخروية.
وكما انه ليس المقصود في خلق أسباب الهداية من الرسل والكتب والقوانين إلا تبقية الناس بحسب الدارين، لا منفعة تعود إلى ذاته - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - كذلك في خلق الأسباب الجسمانية من أدوات الحروب وغيرها ليس المقصود منه إلا منفعة العباد لا غيرها، ولذلك عقب ذكر المقصود من الأولى بذكر المقصود من إنزال ما هو من قبيل الثانية، وذكر أن في إنزال الحديد وخلق آلات الحروب وآلات الصنائع، ليس الداعي فيه إلا ما يرجع إلى الخلائق، إذ الفائدة فيه بأس شديد ومنافع للناس، ولأن في استعمال الأسلحة المتخذة منه تبين رتبة حال المجاهدين في سبيل الله، والناصرين له ولرسله حين الغيبة عنهم، لا لحاجته - تعالى عن ذلك - إلى الناصر له في إهلاك أعدائه، لأن الله إذا أراد إهلاكهم، قوي على ذلك، عزيز لا نقص في قدرته ولا قصور في عزته.
وللإشعار بأن المقصود من إيجاد الممكنات وهدايتهم طريق الحق بارسال الرسل ونصب الأدلة والآيات، ليس غرضا يعود إلى ذاته، بل إنما هو مجرد عناية بالقياس إليهم، وفيض رحمة عليهم على سبيل الرشح، ونظم للأمور وترتيب للأسباب وصولا إلى المسببات، مترتبة عليها الغايات الجزئية، ومصالح للعباد، من غير التفات من جنابه العالي إلى السافل، أخبر سبحانه أنه قد خلق الأنبياء وأرسلهم وذريتهم إلى الخلق، مع تأييده إياهم بجنود لم تروها من الملائكة، وتنويره قلوبهم بالوحي والكتاب، والحال أنهم مع ذلك لم يقع الاهتداء بهم إلا من بعض الناس دون بعض، وكثير منهم فاسقون.
ولو كان له تعالى ارادة جزافية، وأغراض جزئية، ومقاصد سفلية - كما يتصوره العامة -، لم يتصور ذلك، ولما كان أولياء الله وأحباؤه ممتحنين بيد الأعادي، مقهورين بقهر الكفرة الفجرة، ممنوعين عن ارشاد الخلق معوقين عن هدايتهم مدة مديدة بسبب كيد المنافقين وافساد الظلمة.
ثم أكد هذا المعنى بالإخبار عن اتصال سلسلة الرسل والمصطفين الأخيار على ما هو مقتضى حكمته البالغة، من عدم تخلية العالم عمن يوحده، ويمجده ويعظمه، ويعرفه، ويصفه بصفات العظمة والجمال، ويثني عليه بنعوت الكبرياء والجلال من الأنبياء والأولياء والعرفاء، ثم الأمثل فالأمثل، إلى أن بلغت نوبة الإجادة والإفضال إلى الأداني والأرذال، من غير تعلق قصد بوجود هذا القسم إلا على سبيل الاستجرار والاستتباع، كما ان الصانع الحاذق والنجار المحدق إذا تمت صنعته في موضوع معين لها كالخشب مثلا للسرير أو الباب، وبقي من الموضوع شيء، لا يضيع حق قابلية هذه الفضالة، بل يصنع منه ما هو أدون منزلة من الأول، وهكذا، كالوتد والخلال، إلى أن يبقى شيء من الموضوع الجسماني، فهكذا الباري تعالى - وهو أشرف الصانعين -، يقع من صنعة وجوده الأشرف فالأشرف إلى الأخس فالأخس، حتى ينتهي إلى وجود الأشرار والفسقة والكفرة، فكان الغرض المقدم في إيجاد المكونات (الممكنات - ن) خلقه أشراف نوع الإنسان، فخلق من فضالته سائر الأكوان، لئلا يفوت كل ذي حق حقه، ولا يضيع عن القابل مستحقه، كل ذلك على سبيل الحكمة والعناية الخاليتين عن النقص والشين.
وذكر أنه عقب الرسل بالرسل، وقفى بعضهم على أثر بعض، مؤيدا بالآيات من لدن نوح وابراهيم إلى عيسى بن مريم (عليه السلام)، وكان في كل أمة الغلبة للفساق والنجاة للمهتدين - وهم الأقلون عددا من المتوسطين والهالكين -، وكذا في أمة عيسى (عليه السلام) كان بعضهم ممن آمنوا به واتبعوه، وكان في قلوبهم رأفة ورحمة فأتوا أجرهم، وكثير منهم فاسقون.
ولما أخبر تعالى عن ارسال الأنبياء متصلين إلى عيسى، وذكر حال قومهم وقومه الغابرين، شرع في ذكر نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وحال قوته الظاهر الحاضر، مخاطبا إياهم، آمرا لهم بالتقوى والإيمان، واعدا لهم كفلين من رحمته ونصيبين من فضله وجوده، لشرافتهم وفضيلتهم على سائر الأمم، لقوله:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران:110]. جاعلا لهم نورا يمشون به يوم القيامة - وهو نور المعرفة - جزاء إيمانهم بالرسول، وجزاء تقواهم المغفرة لذنوبهم السابقة، لأن العلم شرف وتحلية، والعمل نجاة وتخلية.
وهذه المراتب السنية لهم فوق سائر الأمم، لأجل استحقاقهم الذاتي، وصفاء قرائحهم الفطرية، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، بعضهم أصفى وبعضهم أكدر، ولهذا أشار سبحانه تنبيها على تفاوت طبقات الخلق في الكمال بحسب الجواهر والاستعدادات بقوله: { لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء } ، لخسة جوهرهم ونقصان قابليتهم، والفاعل الفياض وان كان متشابها في فيضه وجوده، كما أشار بقوله: { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم } ، لكن تختلف آثاره باختلاف القابليات:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
[البقرة:26].
أما ترى أن الماء حقيقة واحدة متشابهة لكن تختلف آثاره حسب اختلاف الأراضي كما في قوله تعالى:
هو الذي أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
[النحل:10 - 11].
والشمس ذات واحدة وفعلها الخاص بها الإضاءة والإشراق، ومع ذلك يكون لفعلها الوحداني أثران متضادان كتبييض ثوب القصار وتسويد وجهه.
فهذا ما خطر ببالي المنكسر، وحضر في ذهني الفاتر والقاصر، من النكات المتعلقة بهذه الكريمة، مع تضيق المجال وتعسر الحال وفشو داء الجهل والوبال في الأطراف والأكناف، وترفع حال الجهلة والأرذال، وتصدرهم على الأخيار والأشراف، وخلو البقاع والبلاد عمن يعرف قدر المعارف والأسرار، الفائضة على قلوب العباد من خبايا علوم المبدأ والمعاد، والى الله المشتكى من زمان شاع فيه الجهل والعناد (والفساد)، وكثر فيه الحسد واللداد، وانسد طريق المعرفة والسداد، واستكبر الناس عن تعلم الحق بحسب ما حصلوه بالوسواس، وسموه علم المذهب لتوصلهم به إلى مراجعة الخلائق إليهم والاستيناس.
وله الشكر فيما أخرجنا الله به عن مضائق ظلمات الأبحاث الجدلية والكلامية، إلى أفضية الأنوار الإلهية القرآنية، ولرسوله الهادي إلى طريق التوحيد بأسرار كلماته ورموز آياته - محمد وآله - الصلاة والدعاء، كفى ارشادهم للخلق وافضالهم، وجزاء هدايتهم للناس وإكمالهم أولا وآخرا.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1]
جر هذه النعوت لأنها تابعة للاسم المجرور. وفي الكشاف: قرئت صفات الله تعالى بالرفع على المدح، كأنه قيل: " هو الملك القدوس " ، ولو قرئت منصوبة لكان وجها، كما قيل: " الحمد لله أهل الحمد ".
أي: يقدس الله وينزهه ويمجده كل ما في العلو والسفل والملكوت الأعلى والأسفل. وإنما قال مرة: { سبح لله } بصيغة الماضي، ومرة: { يسبح لله } بصيغة المضارع ليكون تنبيها للناظر الخبير والأديب الأريب على دوام وقوع تنزيهه عن صفات الموجودات المتغيرات، وعن سمات الممكنات الثابتات فيما سبق وفيما لحق، أي: سبح له سوابق الممكنات، ويسبح له لواحق الكائنات مما في الأرض والسموات من جهة أسبابها وعللها السابقة، وعوارضها ونتايجها اللاحقة.
إشراق
الأسماء الحسنى في الآية الشريفة
قد مر تفسير لفظ الجلالة في تفسيرنا لآية الكرسي.
والملك الحق: ما له وجود كل شيء ويفتقر إليه كل شيء. فإن من لا يكون موجدا الكل ما سواه لم يكن له التصرف في شيء واحد من الأشياء حيث شاء ومتى شاء وبأي وجه شاء، فلم يكن ملكا حقا لشيء، بل مع شركة من الغير وافتقار له إلى الغير، فكل ملك حق يجب أن يكون موجد الكل وإله الجميع.
و " القدوس ": هو المجرد المستغني في وجوده وحقيقته عن التعلق والارتباط بغيره سواء كان ذلك الغير فاعلا له، أو غاية، أو مادة، أو صورة أو موضوعا أو عرضا، أو جزء مطلقا، وسواء كان التعلق في الخارج، أو في العقل، كتعلق وجود الشيء ذي الماهية بماهيته، وكتعلق النور بجنسه أو فصله، أو تعلق أحدهما بالآخر، فالله سبحانه مقدس عن التعلق بشيء من المبادئ المقومة بسبب من الأسباب المحصلة، لا سبب به يحصل، ولا سبب له يوجد، ولا منه ولا عنه ولا فيه ولا معه، لأن كلا من هذه الأمور تسقط أوليته وتصادم تقدمه وإلهيته، وهو مبدأ للأشياء ومنتهاها، وأولها وآخرها وظاهرها وباطنها.
و " العزيز ": بالحقيقة هو المتبرئ عن كل نقص وآفة، والمتمجد عن كل قصور وشين، والممتنع عن أن تصل إلى نيل جلاله أفهام العاقلين فضلا عن الغافلين، أو أن تدرك كنه جماله أنظار الموحدين فضلا عن أوهام الملحدين والمعطلين.
و " الحكيم ": العالم الذي يعلم نظام الخير في الأشياء ويضع الأشياء على وجه يودي إلى غاياتها الذاتية وتترتب عليها وجوه المنافع وتتخلى عن الشرور والآفات بقدر الإمكان، وبالجملة، على وجه يؤدي المجموع إلى الخير المحض والاجمال المطلق والكمال الأتم والجلال الأرفع.
فالحكمة مفهومها متحصل من علم تام وقدرة بالغة. إذ القدرة صفة تؤثر وفق العلم والإرادة، وهي فينا من الكيفيات النفسانية مصححة للفعل وتركه، وقوة على الشيء وضده، وتعلقها بالطرفين على السوية، فلا تكون تامة لأنها فينا إمكان صرف وقوة محضة لأن مبادي أفاعلينا الاختيارية واردة علينا من خارج - كالعلم بالفائدة أو ما في حكمه -، ثم الشوق، ثم الإجماع المسمى بالإرادة والكراهة.
وفيه تعالى هي الفعل مطلقا إذ لا جهة إمكانية فيه سبحانه، وليست قدرته مندرجة تحت إحدى المقولات، بل هي نفس وجود ذاته وكونه بحيث تصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير الذي هو عين ذاته، فإذا نسبت إليه الممكنات من حيث إنها صادرة عن علمه، كان علمه بهذا الاعتبار قدرة، وإذا نسبت إليه من حيث أن علمه كاف في صدورها، كان علمه بهذا الاعتبار إرادة، وإذا كانت الأشياء الصادرة عن علمه على غاية الإحكام والاتقان وخيرية النظام، كان علمه بهذا الاعتبار حكمة.
حكمة إشراقية عرشية
سريان التسبيح
إن في القرآن نصوصا قاطعة على سريان تسبيح الحق كسريان نور الوجود والشهود في جميع المجودات، حتى الجماد والنبات، وعليه دلائل وشواهد عقلية وكشفية، وأمارات وإشارات نقلية وسمعية.
فمن الطريق الأول مسلكان:
الأول: أن كل موجود من الموجودات العالمية دال - لمن نظر وتأمل فيه - على وجود صانعه ووحدانيته وعلمه وإرادته وقدرته وحكمته، دلالة عقلية واضحة، فهي كلها مسبحة مهللة محمدة مكبرة، إذ حقيقة التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، هي الشهادة على وحدانية الصانع وتنزيهه عن النقائص، وإظهار عظمته وكبريائه، والدلالة على إلهيته وقدرته، سواء كانت بالألفاظ أو بالذوات أو بالصفات، وسواء كانت الدلالة بوضع واضع وجعل جاعل، أو يكون وجود الدال عين كونه دالا بلا تخلل وضع واضع وجعل جاعل، فكل موجود بمنزلة كلام ناطق دال على تنزيهه تعالى وتقديسه، إذ يفهم منه وحدانيته تعالى، واتصافه بصفات الكمال، وتقدسه عن سمات النقص والزوال، وأعلى المراتب في الشهادة والدلالة؛ دلالة ذاته لذاته، وشهادة صفاته على ذاته وصفاته وأفعاله، ثم دلالة أفعاله عليها، وهم الملائكة المقربون، ثم النفوس الصالحون المقدسون، ثم سائر المكونات، كما قال تعالى:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط
[آل عمران:18]. قوله:
ويسبح الرعد بحمده
[الرعد:13].
المسلك الثاني: أن للحق تعالى معية ثابتة مع جميع الموجودات، وظهورا خاصا منه في كل الهويات، ليس كمعية جوهر مع جوهر، أو جوهر مع عرض، أو عرض مع أحدهما، بل أشد من جميع المعيات حتى معية الوجود مع الماهية، فلا يكون ممازجا ولا مواصلا ولا مغايرا ولا مفاصلا ولا متحدا كاتحاد موجود بموجود، ولا كاتحاد ماهية متحصلة بماهية متحصلة، بل كما قال إمام الموحدين ومقتدى العارفين أمير المؤمنين (ع): " مع كل شيء لا ببمازجة، وغير كل شيء لا بمزايلة ".
فكل موجود من الموجودات كقطرة في بحر وجوده، وذرة متواصلة في إشراق ظهوره وشعاع نوره، فإذا كان الحق بجميع صفاته الكمالية ونعوته الجمالية والجلالية متجليا على جميع الأشياء، فلكل من الموجودات عين شاهدة لأوصاف جماله، ولسان ملكوتي مسبح مقدس لنعوت كماله، فكل ما في السموات وما في الأرض يسبحه ويهلله ويمجده ويكبره بجميع ألسنة ذاتها وقواها ومشاعرها وضمائرها وأسرارها وظواهرها وأطوارها قولا وفعلا وضميرا واعتقادا.
إشارة حكمية
قد تقرر في أنظارنا الحكمية، وأسفارنا الإلهية، أن جميع الموجودات متوجهة نحو الحق تعالى طبعا وإرادة وعقلا، وهذا المعنى مشاهد في أكثر المحسوسات الجوهرية، مثل بذر النبات في حركاته نحو الكمال، ونطفة الحيوان في تطوراته من حال إلى حال، وخلقة الإنسان في شؤوناته من لدن كونه عقلا هولانيا مهيأ للاستكمال شيئا فشيئا إلى أن يبلغ مراتب الرجال الواصلين إلى درجة العقل المستفاد - بل الفعال -، ثم يترقى في طور الولاية والقرب إلى أن يصل إلى الله العزيز المتعال.
وإذا ثبت هذا وتقرر، ظهر أن كل موجود على حسب وجوده عارف بربه المتصف بصفات الجمال، المنزه عن نقائص الإمكان والزوال، ومن عرف الله فلا محالة يسبحه ويقدسه وينزهه بلسان الحال أو المقال أو الفعال، فكل موجود يسبح بحمده إلا من غلب عليه الوهم المغير لخلق الله.
هذا من سوانح هذا المقام فافهم واغتنم.
وأما الطريق الثاني:
وهو طريق الذين لا يصدقون بالأشياء إلا بمباشرة الحواس، لا ببرهان وقياس، فالمنقول من الآيات والأحاديث الدالة على تسبيح الموجودات - حتى الجمادات - كثيرة غير محصورة، فمنها ما أفصح الله عنه بقوله:
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب
[الحج:18].
ومنها قوله:
أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون
[النحل:48]. فقد بين سبحانه أن ذلك التفيؤ يمينا وشمالا سجود لله وعبودية وخضوع وصغار وذلة لجلاله وجماله.
ومنها قوله تعالى متمما لهذا المعنى:
ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون
[النحل:49 - 50] أي ممن يدب عليها ثم قال: { وهم } يعني أهل السموات والملائكة، يعني التي ليست في سماء ولا في أرض { لا يستكبرون } عن عبادة ربهم، ثم وصفهم بالخوف ليعلمنا أنهم عالمون بمن سجدوا له، ثم وصف المأمورين منهم أنهم { ويفعلون ما يؤمرون }.
ثم قال في حق الذين هم عند ربهم:
يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون
[فصلت:38] أي لا يملون ولا يفترون، كل ذلك للدلالة على أن العالم كله في مقام الشهود والعبادة والعلم والشهادة، إلا كل مخلوق له قوة التفكر، وليس إلا النفوس الوهمانية الشيطانية والحيوانية خاصة من أعيان نفوسهم لا من حيث هياكلهم وظلالهم فإن هياكلهم وظلالهم كساير أعيان نفوسهم لا من حيث هياكلهم وظلالهم فإن هياكلهم وظلالهم كساير أعيان العالم في التسبيح والتقديس والسجود، فأعضاء البدن كلها مسبحة ألا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والألسن والسمع والبصر وجميع القوى، فالحكم لله العلي الكبير.
وأما النفوس الوهمية فهي مؤتمرة للشيطان، مغيرة خلق الله عما فطر عليه، مبتكة آذان الأنعام.
ومنها: ما في الأدعية النبوية - على الداعي وآله أفضل الصوات ولهم أجزل الدعوات -: " إلهي أنت الذي سجد لك السماء والأرض وسجد لك سواد الليل ونور النهار. وضوء القمر وشعاع الشمس، وحفيف الشجر ودوي الماء ".
وإنما ذكر هذه الأمور الضعيفة الوجود استظهارا لتحقق السجود والعبودية والشهادة والشهود لمباديها الجوهرية الصورية ومقوماتها النوعية النورية - فافهم واغتنم -.
إشراق عرشي
حقيقة التسبيح ومراتبها
حقيقة التسبيح وروحه تجريد الذات الإلهية عن علائق الأكوان وشوائب الحدثان والإمكان، وهذا لا يتحصل إلا ممن كان له نحو من التجرد والطهارة، فكل من كان أشد تجردا وأقوى براءة عن المواد الكونية، وأتم تخلصا عن الغواشي الدنيوية، فهو أتم تسبيحا للحق، لأن كل أحد لا يعتقد شيئا إلا بما في جوهره وذاته.
وهذه الحقيقة لها مراتب:
إحداها: مرتبة الذات الأحدية الإلهية، سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
وثانيها: تسبيح الملائكة المقربين والعقول المهيمين، ولكل واحد منهم تسبيح واحد مشتمل على أعداد تسبيحات التي دونه.
وثالثها: تسبيح الملائكة السماوية، ولكل منهم تسبيحات متعددة حسب أعداد الدورات الأكرية الفلكية الكوكبية وأعداد الارتباطات والقرانات والأنظار والاتصالات، وبالجملة حسب تكرر الحوادث الماضية والآتية التي وقعت لكل كرة من الكرات، منسلكة كالسبحة في مسلك امتداد الأزمنة والأوقات.
ورابعها: تسبيح الملائكة الأرضية والنفوس النطقية مع طبائعها وقواها الطبيعية السفلية.
وخامسها: ذكر الأبدان والأبعاد مع أعضائها وأجزائها، وكل واحد منها مسبح وذاكر لربه بلسان يخصه، بل كل واحد لسان لذكر الحق وتسبيحه بوجه، كما ذكره صاحب فصوص الحكم بقوله: " فالكل ألسنة الحق ناطقة بالثناء عليه، بل إن شئت قلت: كل واحد تسبيح وذكر لربه ".
والعالم كله أيضا من جهة الوحدة الطبيعية له كما أثبتها المحققون، تسبيح واحد وذكر مفرد لوصف جماله تعالى وجلاله، وسبحة واحدة بوجه آخر يوصف بها كماله تعالى وربوبيته، وشخص مسبح بوجه آخر، ولسان ذاكر له بوجه آخر.
هذا باعتبار وحدته وإجماله، وأما باعتبار كثرته وتفصيله، فألسنة متعددة وتسبيحات كثيرة أو مثنيات ومسبحات حسب تعدد الموجودات وتكثر الممكنات، فإن كل طبيعة نوعية لها أفراد غير متناهية، فله مثال عقلي هو رب أصنافها الشخصية، ونور ظلال أفرادها المادية، وهو الملك الهادي الملهم لها طريق الخير والكمال، الصارف عنها الآفة والشر والوبال، وذلك الملك المدبر المربي لها يسبح الحق بألسنة تلك الأفراد كلها، كما أشير إليه في الإشارات النبوية والرموز الولوية.
وبهذا يتضح ويستكشف تسبيح الجمادات والنباتات بلا مرية، حيث لكل نوع منها وجه إلى الحق لأول، وهو طباعة التام وحقيقته الأصلية، وهو المقوم لأفراده المتمم لآحاده، بحيث يكون فعلها فعله، وذاتها ذاته لأن نسبة أفراد كل نوع طبيعي متكثر الأجسام متخالف الأصنام إلى ما يدبر أجسامها ويربي أصنامها، نسبة البدن بما فيه من الأجزاء والقوى إلى النفس الناطقة، إلا أنه لا ينفعل ولا يتأثر بها كما تنفعل نفوسنا عن أبداننا وقواها ما دمنا في هذا العالم.
فكما أن وجود البدن وقواه متحد مع وجود النفس وأفعاله، مستهلك في أفعالها، فكذلك الحكم فيما أشرنا إليه.
وهذا الوجه في تسبيح هذه الموجودات قريب المأخذ مما ذكره بعض العارفين في تأويل هذه الآية وهو قوله: " المسبح ": هو الروح المنبث في سائر الأرواح، والقائم بالصور والأشباح، وهو وجه الوجوه إلى الحق، وسر الذوات المتنوعة بتنوعات الخلق، قال الله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص:88]. ف " الهاء " في " وجهه " عائدة إلى الشيء الهالك الذي لا يفنى حقيقة بفناء قالبه الحسي وصورته الحسية، والروح هي المسبحة الطائعة والمشاهدة السامعة مستمرة الحكم بذلك في الوجود، منها التسبيح والسجود حين الصعق اللاحق بها في الآخرة، حين يقول الله سبحانه:
لمن الملك اليوم
[غافر:16]، فلا يجيبه أحد لخمودها بالصعق الأخروي، فيجيب نفسه بنفسه:
لله الواحد القهار
[غافر:16].
[62.2]
وفيه إشراقات شمسية وأنوار قمرية:
الأول: في اللغة:
بعث في الأمين يعني أرسله في العرب لأنهم كانوا أمة لا تكتب ولا تقرأ، ولم يبعث إليهم نبي - عن مجاهد وقتادة -.
وقيل: يعني أهل مكة، لأن مكة - شرفها الله - تسمى أم القرى.
وعن بعض المحققين من أهل الكشف: إن الرسول يسمى بالأمي لأنه منسوب إلى أم الكتاب، أي اللوح المحفوظ، وبهذا الإعتبار تكون أمته أميين، فهو رسول مبعوث من الله في الأميين مع كونه من جنس الآدميين متعلقا بقالب البشرية المركب من الماء والطين، ليمكن الوصول إليه والاجتماع بحضرته والاقتداء به والاستفادة من ذاته بجهة الحصة البشرية، والاستضاءة من أشعة عقله المنور بوسيلة المشاركة الحسية من ثقب إصطرلابات الحواس والعقول، والاستماع لتلاوة آيات الله القرآنية منه في عالم المخاطبة الكلامية والمقارعة الهوائية.
نور قمري
خصائص النبي
بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كونه مأمورا بإصلاح هذا النوع الآدمي بواسطة استجماعه لشرائط الرسالة الإلهية، وخصاص السعادة الربانية من أوصاف شريفة كثيرة، ونعوت كريمة غفيرة، تشملها خصائص ثلاث متعلقة بروحه ونفسه وحسه:
أما الأولى: - وهي أشرف الجميع - فكونه مطلعا على العلوم الإلهية عالما بحقائق الأشياء كما هي، من المبدأ الأعلى وملكوته العلوي والسفلي، وحقيقة النفس بكلا جزئيها العلمي والعملي، وكلتا نشأتيها الآخرة والأولى، وأحوال الخلائق في تلك الدار، ورجوع الكل إلى الواحد القهار، علما مستفادا من الهام الله بطريق الشكف الروحي والإلقاء السبوحي، لا بوسيلة التعلم البشري والتعمل الفكري.
وأما الثانية: فكونه ذا قوة باطنية بها تتمثل له الحقائق بكسوة الأشباح المثالية في العالم المتوسط بين العالمين، بل تسري قوته إلى الحس الظاهر، فهي تتشبح له في هذا العالم، فيشاهد الملك الملقي عيانا، ويسمع كلام الله منه شفاها، بعبارات أنيقة وألفاظ فصيحة دقيقة المعاني، في غاية الفصاحة والسلامة والنفاسة، ويطلع بتعليمه والقائه على المغيبات الجزئية ويخبر عن الحوادث الماضية والآتية.
وأما الثالثة: فكونه ذا قوة قوية وبسطة شديدة، بها يقهر المعاندين والمنكرين ويتسلط على أعداء الله وأولياء الشياطين، وذا مصابرة على الشدائد والامتحانات، واقتدار وتمكن على تجهيز الجيوش وتثبت في الحروب والمبارزات.
فمجموع هذه الثلاث من خاصية الرسالة، فأما آحاد هذه الخواص، فقد يوجد في غير الأنبياء بوجه، فإن الأولى مما تتحقق في الأولياء والحكماء، وضرب من الخاصية الثانية توجد في أهل الكهانة والرهبانيين، والثالثة قد تكون في الملوك الشديدي البأس والهمة.
إشراق شمسي
جامعية النبي للنشآت الثلاث
جوهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه مجتمع من ثلاثة أشخاص عظيمة كل منهم رئيس مطاع في نوعه، فبروحه وعقله يكون ملكا من المقربين، وبمرآة نفسه ولوح ذهنه يكون فلكا مرفوعا عن أدناس العنصريين ولوحا محفوظا من مس الشياطين
لا يمسه إلا المطهرون
[الواقعة:79]. وبحسه يكون ملكا من عظماء الملوك والسلاطين.
وتحقيق ذلك: أن النشآت ثلاث: نشأة الحس، ونشأة النفس، ونشأة العقل. والعوالم ثلاثة بحسبها: عالم الدنيا، وعالم الآخرة، وعالم الربوبية. والإنسان بحسب غلبة كل نشأة داخل في عالم من العوالم الثلاثة، فمن جهة حسه ونفسه وروحه داخل في هذه العوالم إما بالقوة أو بالفعل، فبحسه من جملة الدنيا وتحت جنس الحيوانات، وبنفسه من جملة الملكوت الأسفل، وبروحه من جملة الملكوت الأعلى، لكن الغالب على أكثر الناس نشأة الحس وموطن الدنيا
وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى
[الكهف:88].
وأما جوهر النبوة فله جامعية النشآت الثلاث، لكونه كامل القوى الثلاث الحسية والمثالية والعقلية، فله السيادة العظمى والرئاسة الكبرى والخلافة الإلهية في العوالم كلها، فهو شارع ورسول ونبي، يحكم بالأول كالملك، ويخبر بالثاني كالفلك، ويعلم بالثالث كالملك. فافهم واغتنم.
إشراق آخر
الاستكمال العلمي النبوي
إمتنانه تعلى على الأمة بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم كما يدل عليه قوله: رسولا منهم -، وقوله تعالى:
لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز
[التوبة:128]. وقوله تعالى:
ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا
[الأنعام:130]. للإشعار بأن هذه المرتبة الشريفة النبوية من المراتب التي قد بلغت إليه النفس الإنسانية عند استكمال قوتيها بالعلم والطاعة، وهي مما حصلت للنفس المحمدية - عليه وآله الصلاة والتحية - بالأصالة، ولخواص أمته وأولياء الله بالوارثة والتبعية، لقوله تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران:31] وقوله:
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
[النساء:69].
وفي الحديث:
" العلماء ورثة الأنبياء ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن في هذه الأمة محدثون متكلمون ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا:
" ان لله عبادا ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا:
" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ".
وفي الرواية:
" قلب المؤمن عزلي ".
فأنت أيها العالم - ما لم تكن علومك مقتبسة من مشكاة النبوة فلست بعالم بالحقيقة، بل بالتسمية المجازية، لدلالة قوله: { ويعلمهم الكتاب والحكمة } ، بحسب مفهوم العكس على ذلك فافهم.
ومن لم يكن هاشميا بأن تكون ولادته المعنوية - المعبر عنه عند الصوفية - ب " الفتح " من جهة نسبته (صلى الله عليه وآله وسلم) لها، باعطاء صور المعارف الإيمانية لمادة عقله، فليس مؤمنا حقيقيا، لأن المؤمن الحقيقي من تكون روحه وليد القدس، ويكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أبوه المقدس، بأن تحصل في مادة عقله الهيولاني التي بمنزلة التراب صورة إعتقادية إيمانية بمنزلة صورة النطفة الآدمية قابلة للتربية والتنمية بأغذية المقاصد العلمية والمطالب القرآنية، وأشربة الأعمال والأفعال الشرعية، ونحن قد بينا شرح هذه الولادة في مقامه، فالمؤمن الحقيقي من يكون من أهل بيت الرسالة الإلهية، متشبها في أخلاقه بأخلاق أبيه المقدس، وقوله تعالى:
ملة أبيكم إبراهيم
[الحج:78] وقوله في حق نوح (ع):
إنه ليس من أهلك
[هود:46] ينور ما قررناه، وقوله (ع): " واشوقاه إلى لقاء الأشباه " يعطى ما ذكرناه.
إشراق آخر
فائدة البعثة
فائدة البعثة جسيمة، ونتيجة الرسالة التي قد من الله بها على المؤمنين في هذه الآية وغيرها منة عظيمة، كقوله:
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا
[آل عمران:164]. هي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويبين لهم أحوال الآخرة ويحل لهم الطيبات ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، لأجل جهالة الهيودية وبلاهة النصرانية، اللتين كانتا مركوزتين في النفوس بحسب إفراطها وتفريطها في الصفات والأعمال، وخروجها في التشبيه والتنزيه عن جادة الإعتدال الذي يكون لهذه الملة البيضاء والشيعة الغراء - على الصادع بها وآله أفضل تسليمات الله تعالى - كما دل عليه قوله تعالى: { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } وقوله في سورة يس:
لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم فهم غافلون
[يس:6].
وكأن قوله: { ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } عطف تفسيري لقوله: { يتلو عليهم آياته } ، وشرح له، وبيان حاصل الأثر في تلاوة الآيات على سبيل الإجمال، فإن الغرض الأصلي من بعثة الرسول، وتلاوة الآيات على العقول، سياقتهم إلى رضوان ربهم وهدايتهم إلى جواره الأطهر وملكوته الأنور.
وهي إنما تناط بشيئين:
أحدهما: إصلاح الجزء العملي من الإنسان بالتصفية والتهذيب.
وثانيهما: تكميل جزئه العلمي بالتصوير والتقريب.
فالقرآن المنزل على سر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا، وعلى قلوب أمته ثانيا يجب أن يكون مشتملا على أمور ثلاثة:
الأول: في الحكمة العملية المبينة للأفعال والأعمال، الشارحة للأخلاق والآداب المفيدة للعبد قطع تعلقه عن الأسباب، وترك التفاته إلى الدنيا وما فيها، والمعالم الأدبية تثبت في القرآن على أبلغ وجه وآكده، كما أشار إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله:
" أدبني ربي فأحسن تأديبي ".
الثاني: في الحكمة العلمية والمعارف التي تبلغ إليه عقول العلماء والحكماء بقوتهم الفكرية، بتعليم الأنبياء والأولياء (ع) إياهم.
وهذان القسمان من العلوم والمعارف، التي يقع فيها الإشتراك لساير الكتب السماوية مع القرآن، لكن يكون ما في القرآن أوثقها برهانا، وأجلها شأنا، وأرفعها رتبة، وأعلاها مأخذا، وأقومها غاية، وإليه الإشارة بقوله:
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
[الإسراء:9]. وبقوله:
ويهديكم سنن الذين من قبلكم
[النساء:26]. وقوله:
مصدقا لما بين يديه من التوراة
[المائدة:46].
الثالث: في الحكمة التي لا يبلغ إلى طورها إلا الخلص من أحباء الله وأوليائه الصالحين، وهي المشار إليها في قوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53]. وهذه الحكمة من خواص المحبوبين لله، كما أن الحكمتين الأوليين من خواص المحبين لله، وإليهم الإشارة في قوله تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة:54].
وفي الحديث القدسي:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.... ".
تأييد عرفاني
مراتب الإيمان
إن مراتب الإيمان ثلاث: مرتبة العوام، ومرتبة الخواص وهم المحبون، ومرتبة الأخصين وهم المحبوبون. ولكل من هذه المراتب الثلاث علم وعمل.
فمرتبة العوام: أما من جهة العلم، فهي أن يؤمن بكل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل التسليم والطمأنينة القلبية إيمانا بالغيب. وأما من جهة العمل، فبأن يفعل الحسنات ويترك المعاصي والسيئات طلبا لجزيل الثواب وتخلصا عن أليم العقاب.
وأما مرتبة الخواص: من حيث العلم، فهي أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأوليائه وبالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار، وبالقدر خيره وشره - كما ورد في الحديث ويعرف هذه المعارف الإيمانية والاعتقادات الأركانية كلها بالبراهين النيرة القدسية والمبادئ الإلهية. وأما مرتبتهم من حيث العمل: فهي أن الله تعالى إذا تجلى لعبد بصفة من صفاته، خضع له جميع أجزاء وجوده وتبعه قواه ومشاعره، وآمنت بالكلية بعد ما كان قلبه يؤمن بالغيب، ونفسه تكفر بما آمن به قلبه، إذا كانت النفس عن تنسيم روائح الغيب بمعزل، كما أشير إليه في الكتاب:
فلما تجلى ربه للجبل
[الأعراف:143] أي: جبل القلب -
جعله دكا وخر موسى
[الأعراف:143] أي: موسى النفس -
صعقا فلمآ أفاق
[الأعراف:143] - بعد رفع الحجب قال: -
تبت إليك وأنا أول المؤمنين
[الأعراف:143]. وفي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أسلم شيطاني على يدي "
، تنبيه على هذا - فانتبه يا مسكين وانزعج من مرقد النائمين.
وأما مرتبة الأخصين: فهي من حيث العلم والعمل إنما تكون بعد رفع حجب الأنانية بتجلي الحق بالصفات التمجيدية والنعوت التقديسية، فإذا أفناه عنه بصفة الجلال، يبقيه بصفة الجمال، ويعيد إليه عقله وسمعه وبصره، فلم يبق له الأين والبين، وبقي في العين، فيشاهد بنور الحق جميع الحقائق العينية، وينفذ نور بصره في أعيان الملك والملكوت والخلق والأمر، وفي هذه المرتبة يكون العلم والعمل شيئا واحدا.
والإيمان في المرتبة الأولى غيبي، وفي الثانية عيني، وفي الثالثة عياني، وهذا كما كان حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج، فلما بلغ السدرة كان بعد في حيز الأين، فلما جذبته العناية من الأين إلى العين فأوحى إلى عبده ما أوحى، وهو المشار إليه بقوله تعالى:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه
[البقرة:285]. أي: من صفات ربه وأفعاله، فآمنت ذاته بذاته، وصفاته بصفاته، وأفعاله بأفعاله، فصار كل وجوده مؤمنا بالله إيمانا عيانيا.
وفي هذا المقام أسرار عظيمة لا تحتملها العقول المجردة فضلا عن العقول الملابسة المغشاة بغشاوة الوهم والخيال، وتشمئز عنها طبائع أهل التقليد والجدال - اللهم لا تجعل هذه الكلمات مضلة الجهال والأرذال، واجعلها سببا لزيادة بصيرة أهل الكمال، وموجبة لانارة قلوب الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله العزيز المتعال -.
إشراق
ما يختص بالقرآن من بيان مراتب الإيمان
إنك إذا علمت ما ذكرناه، من اشتمال القرآن على هذه المراتب الثلاث من الإيمان، وعلمت اشتراك سائر الكتب السماوية معه في المرتبتين الأوليين، واختصاصه بالمرتبة الأخيرة، فقد أحطت علما بأن أنزال القرآن - بما فيه - إكمال للدين وإتمام لنعمة الله على المؤمنين، وتحققت بمعنى قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
[المائدة:3]. - الآية - أي: جعلت الكمالية في الدين من الأزل نصيبا لكم من بين جميع أهل الملل والأديان، وأتممت عليكم نعمة الإيمان العياني باظهار دينكم على الآديان كلها في الظاهر والحقيقة جميعا، ورضيت لكم الإسلام دينا به تجازون وتثابون، وبه تتعاملون وتناكحون، فإن الإسلام في هذه الأمة دين طريق به يوصل إلى الإيمان الحقيقي، وهو بمنزلة الإيمان من سائر الأمم مع زيادة كمالية لم تكن حاصلة من قبل لقوله تعالى:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران:85].
وذلك لأن حقيقة الدين، هي سلوك سبيل الله عز وجل بعدم الخروج عن هذا الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي، والإنسان مخصوص به من بين ساير الموجودات، ولهذه الأمة اختصاص بالكمالية في السلوك من بين ساير الأمم.
فالدين من عهد آدم صفي الله، كان في التكامل بسلوك الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - سبيل الحق إلى عهد نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع المسالك التي سلكها الأنبياء (ع) الماضون بأسرهم، فلم يتحقق له الخروج أيضا بقدم السلوك في الحركات الباطنية من الوجود المجازي بالكلية، حتى تداركته العناية الأزلية لاختصاصه بالمحبوبية من بينهم، فبلغ من القرب إلى الكمالية في الدين - وهو سر " أو أدنى " -، فاستعد لسعادة الوصول إلى الوجود الحقيقي بالإيمان العياني بعد الإيمان العيني والغيبي جميعا - وهو سر " فأوحى إلى عبده ما أوحى " - في الحقيقة قيل له في هذه الحالة: أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي.
ولكن في حجة الوداع عند وقوفه بالجحفة، أظهر على الأمة عند أظهاره على الأديان كلها، وظهور كمالية الدين بنزول الفرائض والأحكام بالتمام، وتعيين الخلافة ونصب الإمامة لعلي (ع) والتنصيص عليه بإمامة المسلمين وإمرة المؤمنين.
ومما يدل على ذلك، مشاهدة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنبياء (ع) في مقامات ملكوت السماء بحسب درجات قربهم إلى الله تعالى، وصعوده (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جميع مقاماتهم إلى سدرة المنتهى، ثم إلى الغاية القصوى.
وكذا ما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:
" مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين "
فجعل الناس يتعجبون. يصحح ما ذكرناه، وينور ما قررناه من مقامات الأنبياء، وتكامل بنيان الدين بهم، وكماليته بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخروجه عن هذا الوجود المجازي بالكلية، وتبعية خواص أمته الذين هم خير أمة أخرجت للناس، لانهم أخص خواص هذا النوع.
ويدل على هذا المعنى أيضا:
" إن الأنبياء كلهم يوم القيامة يقولون نفسي نفسي، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أمتي أمتي "
، لفناء الوجود وبقائه بالحق الودود. فافهم جدا.
نور قمري
الحكمة وتقسيمها
المراد من الحكمة في هذه الآية إما العلم الصحيح، وإما الفعل الصواب، كما أن إطلاق الإنسان إما على الروح أو على البدن.
والروح أيضا ذو وجهين: وجه إلى القدس وعالم الآخرة، ووجه إلى البدن وعالم الدنيا. والعلم لتكميل الوجه الأول، والعمل لتكميل الثاني على وجه يؤدي نفعه إلى تكميل الأول، ونفس العمل لنفس البدن.
ويروى عن مقاتل انه قال: تفسير الحكمة في القرآن يقع على أربعة وجوه:
أحدها: مواعظ القرآن: ففي النساء:
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة
[النساء:113] ومثلها في آل عمران.
وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، قوله:
وآتيناه الحكم صبيا
[مريم:12]
ولقد آتينا لقمان الحكمة
[لقمان:12]. يعني الفهم والعلم، وفي الأنعام:
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم
[الأنعام:89].
وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة، وفي ص:
وآتيناه الحكمة
[ص:20] يعني النبوة، وفي البقرة:
وآتاه الله الملك والحكمة
[البقرة:251].
واربعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، وفي النحل:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
[النحل:125]
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269].
وأنت - يا حبيبي - إذا تأملت في جميع هذه الوجوه الأربعة وجدت مرجعها جميعا إلى العلم، بل لو نظرت في جميع موارد استعمالات لفظة الحكمة لم تجده خارجا عن العلم بحقائق الأشياء، والعمل بموجبها - وهو التجرد عن الدنيا وما فيها -، ولهذا قيل في حدها: " إنه التخلق بأخلاق الله " ، أي: في الإحاطة بصور المجردات والتقدس عن الماديات.
وإليها الإشارة في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله:
" تخلقوا بأخلاق الله "
أي: تشبهوا به في هذين الأمرين.
ثم اعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها من هذين المعنيين، وذلك لأنها كمال الإنسانية بلا شبهة، وكمال الإنسان منحصر في شيئين:
أحدهما: أن يعرف الخير لذاته.
والثاني: أن يعرف الخير لأجل العمل به.
فالمرجع بالأول إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني إلى الفعل العدل.
وكمال هذين الأمرين في نوع الإنسان مرتبة النبوة والولاية، وقد حكى الله عن إبراهيم الخليل وهو شيخ الأنبياء (ع) أنه قال:
رب هب لي حكما
[الشعراء:83] - وهو الحكمة النظرية -
وألحقني بالصالحين
[الشعراء:83] - وهو الحكمة العملية.
ونادى موسى ربه فقال:
إنني أنا الله لا إله إلا أنا
[طه:14] وهو الحكمة النطرية، ثم إنه قال:
فاعبدني
[طه:14] وهو الحكمة العملية.
وقال عيسى (ع) كما حكى الله عنه:
إني عبد الله آتاني الكتاب
[مريم:30] - الآية - كل ذلك الحكمة النظرية، ثم قال:
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا
[مريم:31] وهو الحكمة العملية.
وقال الله سبحانه آمرا لرسوله الخاتم وحبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم): فاعلم أنه لا إله إلا الله - وهو الحكمة النظرية، ثم قال:
واستغفر لذنبك
[محمد:19].
وهو الحكمة العملية. لأن علم التوحيد لا يحصل بكماله إلا بعد الإطلاع على جميع أبواب الحكمة النظرية، والعمل الخالص من شوب أغراض النفس، لا يتيسر إلا بأن يكون الإنسان حكيما عارفا بأن ما عند الله خير للأبرار.
وقال في حق جميع الأنبياء:
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا
[النحل:2] وهو الحكمة النظرية، ثم قال:
فاتقون
[النحل:2]. وهو الحكمة العملية، والقرآن مملوء من الآيات الدالة على أن كمال الإنسان ليس إلا في تكميل هذين الجزءين من النفس بهاتين الحكمتين.
وقال أبو مسلم: الحكمة " فعلة " من " الحكم " كالنحلة من النحل، ورجل حكيم: إذا كان ذا حجى ولب وغصابة رأي، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل. ويقال: أمر حكيم، أي: محكم. وهو " فعيل " بمعنى مفعول، كما قال الله تعالى:
فيها يفرق كل أمر حكيم
[الدخان:4].
وهذا الذي ذكره أبو مسلم من اشتقاق اللغة، يناسب ما ذكرناه من معناه الحقيقي.
إشراق
معلم الحكمة ومفيضها
إعلم أن معلم الحكمة غير مفيضها وموجدها في النفس، ومخرجها من القوة إلى الفعل، وذلك لأن القواطع البرهانية دالة على أن فياض المعارف على النفوس هو الله سبحانه، باستخدام بعض ملائكته العلوية البرئية من كل وجه عن القوة والاستعداد، وملابسة الأجسام والمواد، كما أن الباري جل مجده مبرء من جميع الوجوه عن الإمكان وملابسة الماهيات لأنه محض وجوب بلا إمكان، ووجود بلا ماهية، فالمنذر والمعلم هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والله الهادي لمن يشاء، الفياض على قلوب عباده بصورة الأشياء كما يدل عليه قوله:
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشآء
[البقرة:272].
وتوضيح ذلك: ان الحكمة ان فسرناها بالعلم، لم تكن من العلوم الضرورية لأنها حاصلة للبهائم وعامة الناس والمجانين والأطفال، وهي لا توصف بأنها حكماء، فهي لا محالة مفسرة إما بالعلوم النظرية مطلقا، أو بصفة تكون مبدأ الأفعال الحسنة نظرا إلى قسميها، فإن الغاية في أحد قسميها نفس تلك العلوم، وفي الآخرة تحصيل الخلق الجيد، والملكة الملكية، وعلى أي التقديرين، فيلزم أن تكون صورة العلوم النظرية ومنشأ الأفعال الحسنة حادثة في نفس الإنسان واردة عليه من خارج، فيكون حصولها في نفسه بتأثير مؤثر خارج عن ذاته، إذ الشيء لا يتأثر عن نفسه، وأيضا: لا يكون الشيء أشرف من ذاته وأعلم منها.
فذلك المؤثر الخارجي يجب أن يكون عليما حكيما عاقلا بالفعل لا بالقوة، وإلا لافتقر أيضا إلى ما يخرجه من القوة إلى الفعل، ومن النقص إلى الكمال، وهكذا حتى يلزم وجود العقل الفعال المبدأ للاستكمال دفعا للدور والتسلسل، والمبدأ الفعال للكل هو الذات الإلهية البريئة عن شوب الإمكان والزوال بالكلية، فقد ثبت أن الحكمة نور فائض من الحق الأول على قلب من يشاء من عباده، وإليه الإشارة بقوله:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم
[الحديد:21].، يشير إلى أن ما يفيضه ويؤتيه لخواص عباده، رشحة من رشحات بحار علمه، ولمعة من لمعات أنوار حكمته اللامتناهية.
تنبيه
تأمل - أيها العارف - إن الله تعالى ما أعطى لعباده إلا القليل من العلم، لقوله:
ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء:85]. وسمى الدنيا بحذافيرها قليلا:
قل متاع الدنيا قليل
[النساء:77].
ثم قال في العلم الموهوب لعباده:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[الجمعة:4] وقال أيضا:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269].
فانظر كم هو مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك العظيم الكثير.
والبرهان العقلي أيضا يطابقه، لأن الدنيا بأسرها متناهية المقدار، ومتناهية العدد، ومتناهية المدة، والعلم لا نهاية لمراتبه وعدده ومدة بقائه، والسعادات الحاصلة منه، وذلك دال على فضيلة الحكمة.
وهم وإزاحة
لا تدل الآية على مذهب الجبر
استدل صاحب التفسير الكبير بمثل هذه الآية وبمثل قوله تعالى:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة:269]. على أن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.
وذلك الاستدلال فاسد، فإن الحكمة نور من أنوار الله، وهي ليست من فعل العبد أصلا، وإن كان حصولها وفيضانها من الله مما يتوقف على تصفية بيت القلب بمكناس الرياضة، وتطهيره بإزالة الأوهام الباطلة وإزاحة العقائد الفاسدة بالتأملات والتفكرات الموافقة لصورة الحق، وهي من جملة الحركات الاختيارية النفسية، والأعمال البشرية القلبية المعدة لورود أشعة نور الله تعالى، ولا اختيار للعبد إلا في مثل ما ذكر، وأما في وقوع نور الحكمة في قلبه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا اختيار لأحد فيه، إلا أن الغالب عدم تخلف ذلك النور عن قلب العبد المجاهد الصبور مع شرائط الحضور. اللهم إلا أن تفسر الحكمة بنفس الأفعال الحسنة وهو ليس بصحيح، وإلا لكان كل فعل حسن حكمة، وكل فاعل يفعل فعلا حسنا حكيما - وإن كان من المجانين والسفهاء - بل المراد من الحكمة - كما وقعت إليه الإشارة - إما نفس العلوم الحقيقية، أو الخلق الذي هو منشؤها، أو الملكة الصادرة عنها الأفعال على وجه الصواب، وعلى أي وجه من هذه لم تكن الحكمة من الأفعال البشرية، بل تكون إما من الكيفية النفسانية، أو الجوهر المفارق.
- تأمل -.
فتلك الآية وأمثالها ما دلت إلا على أن الحالة النفسانية مخلوقة للحق، ولا نزاع لأحد من أهل الكلام فيها، ولا دلالة فيها على أن أفعال البشرية مخلوقة له تعالى من غير اختيار للعبد فيها.
وتحقيق هذه المسألة العظيمة التي فيها مزلة الأفهام ومزلقة الأقدام، مما يحتاج إلى بسط في الكلام لا يليق بهذا المقام، وظني أن لا ثلمة في الإسلام أكثر مما وقع من جهة الإفارط والتفريط في هذا المرام فكم من مقصر وغال فيه، وما أشد سخافة ما ذهب إليه أصحاب أبي الحسن من الاعتقاد بخلق الأفعال في العباد على الوجه الذي صوروه وتصوروه واعتقدوه، إذ بها تنسد أبواب المعرفة والحكم وتنفسخ الإعتقادات البرهانية وتطبل الغايات والنتائج العقلية المبتنية كلها على إثبات الترتيب والعلية والمعلولية بين الموجودات، ووجود سلسلة الأسباب المؤدية إلى الغايات.
وأما ما تنورت به قلوب المهتدين بأنوار حكمة الأنبياء، وذهب إليه المحققون من أكابر الحكماء، من كون الوجود على الإطلاق فائضا من الحق على كل موجود لا بالإتفاق، بل بترتيب لازم واستحقاق ثابت، فما تقدم متقدم ولا تأخر متأخر إلا بقضاء سابق وقدر لاحق، فهو الحق الذي لا محيد عنه، وهو معنى التوحيد في الأفعال مع إثبات الحكمة والمصلحة والنظام من غير اختلال، وتحقيق هذا فوق ما تصل إليه أذهان الأشاعرة وأهل الاعتزال - فسبحان من تنزه عن الفحشاء، وسبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء -.
وبحث وتحصيل
المقصود من الحكمة ليس القرآن أو النبوة
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة المستعملة في عدة مواضع من القرآن، إما النبوة، أو القرآن، أو قوة الفهم، أو الخشية - على ما هو قول الربيع بن أنس -؟
قلنا: الدليل المذكور يدفع هذه الاحتمالات، لأنه ثبت بالنقل المتواتر، أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء، فتكون الحكمة مغايرة للنبوة، والقرآن، ولو كانت بمعنى قوة الفهم، لكان كل قوي الفهم حكيما، وكذا لو كانت بمعنى الخشية لكان كل خاش حكيما، وليس كذلك.
وأما الخشية الكاملة التي لا تتحقق إلا في الحكماء، كما يدل عليه قوله:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28]. فهي أيضا من لوازم الحكمة وليست نفسها، لأنها معللة بالعلم والحكمة كما يدل عليه تعليق الحكم بالوصف، ثم إن الخشية الموجودة فيهم ليست خشية العقاب، بل خشية القرب، فكيف تتحقق إلا بعد المعرفة التامة والحكمة الكاملة ، فمن فسر الحكمة بالخشية، فكأنه أراد به تفسيرها باللازم والأعم أو المساوي - فافهم -.
[62.3]
وفيه ظلال فرشية وإشراقيات عرشية.
ظل فرشي
في الإعراب
قوله: { وآخرين } صفة لمجرور معطوف على الأميين، يعني إنه بعث في الأميين، وفي من يجيء بعدهم إلى يوم الدين. وفي الكشاف: يجوز أن ينتصب عطفا على المنصوب في " يعلمهم " ، أي: يعلمهم ويعلم آخرين، ووجه ذلك بأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه.
واعلم أن هذا الوجه الذي ذكره في كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معلما لكل من يجيء إلى يوم القيامة - وإن كان موجها على طريقة أهل الحجاب وأرباب العقول النظرية وحملة الكتاب، كقول أصحاب الحكمة الرسمية في أرسطو: إنه معلم أول لمن يجيء بعده من أتباع المشائين من الفلاسفة -، إلا أن أصحاب العيون المكحلة بأنوار الإهتداء، العارفين بحقيقة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، يرون ببصيرتهم السليمة عن غشاوة الامتراء، أن إمداد روحه وسره نافذ في تقويم أرواح من لحقه من الأولياء والعلماء، إلى قيام المهدي (ع)، بل في أرواح من سبقه زمانا من الأنبياء والحكماء من وقت آدم من جهة السبب الباطني الفاعلي والغائي جميعا. وقد بين هذا في موضعه.
إشراق
المراد من الآخرين قيل: هم الذين لم يلحقوا بالأميين بعد وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة من التابعين.
وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة، فإن الله سبحانه بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم، وشريعته تلزمهم وإن لم يلحقوا بزمان الصحابة - عن مجاهد وابن زيد -.
وقيل: هم الأعاجم ومن لا يتكلم بلغة العرب، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوث إلى من شاهده، والى كل من بعدهم من العرب والعجم - عن ابن عمر وسعيد بن جبير وهو المروي عن أبي جعفر (ع) -.
وقيل:
" لما نزلت هذه الآية، قيل: من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال: لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء ".
وعلى هذين الوجهين فإنما قال: " منهم " لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، كما قال: " المسلمون كلهم يد واحدة على من سواهم وأمة واحدة وإن اختلفت أنواعهم " وكما قال سبحانه:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض
[التوبة:71]. ومن لم يؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فانهم ليسوا ممن عناهم الله بقوله: { وآخرين منهم } - وإن كان مبعوثا إلى كافة الخلق بالدعوة، وبقوله:
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
[آل عمران:164] - فإن من لم يؤمن لم يكن ممن زكاه الله تعالى وعلمه القرآن والحكمة.
وقيل: إن قوله لما يلحقوا بهم - يعني في الفضل والسابقة، فإن التابعين لا يدركون سيادة السابقين من الصحابة وخيار المؤمنين - تأمل -.
إشراق عرشي
تحقيق الكلام وتلخيص المرام في هذا السبق واللحوق: أن الناس في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والكتب والأئمة والدنيا والآخرة وعالم البرزخ - وغير ذلك - على ثلاث طبقات:
لأنهم إما أن ينالوا ذلك بإلهام الله ووحيه من غير تعليم بشري أصلا، أم لا. فالأول مرتبة الأنبياء - صلوات الله عليهم -. واما الثاني فلا يخلو، إما أن يصلوا إلى مقام الاستفاضة من الله بحسب التابعية بلا تعمل فكري أم لا. فالأول مرتبة الأولياء ذوي الاستبصار والثالث مرتبة الحكماء والعلماء النظار.
وأما أهل التقليد: فهم بمعزل عن البلوغ إلى حقيقي الإيمان، بل إنما يصلون إلى شبح منه، فينالون في الآخرة ضربا من رحمة الله وتفضله بحسب ما تصوروه من هذه المعارف على سبيل التمثيل وبحكم: " من تشبه بقوم فهو منهم ". يحشرون في القيامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، فحياتهم الأخروية بالعرض كحياة الشعر والظفر من الإنسان، فإن الحياة القائمة بنفس الإنسان وروحه تسري في أعضائه الحساسة قصدا وفي غيرها تبعا.
إذا تقرر هذا فنقول: السابقية في الإيمان هي مواضع من القرآن - كقوله:
والسابقون السابقون * أولئك المقربون
[الواقعة:10 - 11] إشارة إلى مرتبة أولياء هذه الملة في الإيمان واللاحقية فيه إشارة إلى مرتبة علمائها قبل وصولهم إلى مرتبة الكشف والعيان، وهم المشار إليهم بأصحاب اليمين، وأما مجرد السابقية واللاحقية بين المؤمنين في الزمان، فليس فيه كثير تفاضل بحسب نفس الأمر، وقد تعاظم وتقدس كتاب الله عن أن يعتبر فيه تقادم الأزمنة والآجال بين الناس في تفاضل أحوال الرجال، بل يجب أن يكون ملاك الأمر في ذلك تفاوت القرب والبعد من الحق المتعال، ودرجات شدة انقطاع النفس عن هذه الدنيا الفانية منزلة الجهال والأرذال.
[62.4]
ظل قمري
في الكشاف: ذلك الفضل الذي أعطاه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر هو فضل الله يؤتيه من يشاء إعطاءه وتقتضيه حكمته.
وفي مجمع البيان: عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم يرفعه، قال:
" جاء الفقراء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله - إن للأغنياء ما يتصدقون وليس لنا ما نتصدق. ولهم ما يحجون وليس لنا ما نحج ولهم ما يعتقون وليس لنا ما نعتق.
فقال: من كبر الله مائة مرة كان أفضل من عتق رقبة، ومن سبح الله مائة مرة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها ويلجمها للجهاد ومن هلل الله مائة مرة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلا من زاد
. فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه، فرجع الفقراء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله، قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ".
نور عرشي
المراد بالفضل
ما يتراءى من مواضع استعمالات هذه اللفظ في القرآن وغيره مع ضرب من إلهام الله تعالى وتأييده، هو أن الفضل عبارة عما به يفضل الإنسان على جميع ما في هذا العالم من الجواهر والأعراض، ويستحق بذلك مسجودية الملائكة والجان، وهو عبارة عن الإيمان بالله، والعلم بحقائق الأشياء كما هي، والتجرد عن العالم الحسي، وهو إنما حصل عيانا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإصالة، ولأولياء الله من أهل بيت نبوته وولايته تبعا، وحصل علما برهانيا لحكماء أمته، وسماعا تقليديا لعوام أهل الإيمان، كل ذلك بواسطة إشراق نور النبوة على أراضي قابلية قلوبهم، إلا أن في الأول وقوع النور، وفي الثاني انعكاسه، وفي الثالث ظله،
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
فقوله تعالى: " ذلك " إشارة إلى ما تضمنه قوله:
ويعلمهم الكتاب والحكمة
أي: العلم بهما. فكل من كان أو يكون من العلماء الربانيين، والحكماء الإلهيين أو سيجيء في هذا العالم، فهو من الذين يزكيهم الرسول ويعلمهم الكتاب والحكمة، فهم من الذين شاء الله أن يؤتيهم هذا الفضل، ومأخذ هذا التعليم هو ما يدل عليه قوله:
آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما
[الكهف:65].
بل لا يقتبس نور العلم والحكمة إلا من مشكاة النبوة، ولهذا من يؤتاها فقد أوتي خيرا كثيرا، ويشهد بذلك قوله:
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء:113].
فالتخلق بأخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يوجب للعبد استعدادا لقبول المعارف الإلهية الفايضة على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل الانعكاس منه على قلب هذا العبد المطيع لله ولرسوله، لقوله:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80].
وأما من لم يكن متأدبا بآدابه، متخلقا بأخلاقه، ولا مهتديا بهداه ضميرا واعتقادا، سواء تكلف في ذلك ظاهرا كأكثر المنتحلين لمذهبه من غير بصيرة باطنية ولا انقياد سري، أو كان من المنكرين الجاهدين رأسا، فحالهم ما كشف عنه تعالى بقوله:
سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[البقرة:6] فالتزكية والتعليم لا ينجع معهم لأن نفعه مختص بالمؤمنين، وإن كان نور الهداية والرحمة ينتشر منه على العالمين لقوله تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء:107].
والدعوة أيضا شاملة للمكلفين كافة إلا أن نصيب النفوس الكدرة والأوهام العسوفة منها ليس إلا الوحشة والعمى والظلمة والضلال والخسران والوبال، وعليه جرى القلم، ونفذ فيه فحكم القضاء الحتم والقدر المبرم. ولذلك خلقهم
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم
[الأنعام:115]. لأن نظام العالم لا يتمشى إلا بنفوس غلاظ شداد ، ولا تنصلح العمارة في الدنيا إلا بطبائع جسمانية يعملون أعمالا حسية بحسب ما يحملون عليه من الدواعي الشهوية والصوارف الغضبية والأغراض البهيمية والسبعية.
ثم العجب أن نفس التزكية والتعليم كما يوجب الفضل الجسيم للقلوب الصافية والضمائر النقية، كذلك يوجب العذاب الأليم على سبيل التبع والعرض للنفوس المريضة بداء الجهالة والغلظة والمعلومة بعلة الجحود والاستنكار. وذلك كرائحة المسك بالقياس إلى خيشوم المزكوم ونور الشمس بالنسبة إلى عين الأخفش.
تبصرة كشفية
الكتاب والنبي هاديان ومضلان
وهنا هنا يتحقق وينكشف عند البصير المحدق والخبير المحقق انه إذا تجلت شمس عظمة القرآن، ووقعت أشعة أنواره على صفائح هياكل الأرواح الإنسية، وسطوح قوابل العقول الهيولانية، فكما يظهر منه بالإرادة الإلهية والمشية الربانية جوهر النور المحمدي، وإكسير الخلاص السرمدي، ومعدن السعادة الأبدية، ومولد النشأة الثانية الدائمية، فكذلك ينشأ منه جوهر النار الإبلسية، وبذر الشجرة الخبيثة الشيطانية.
وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بعثت داعيا وليس إلي من الهداية شيء وخلق إبليس مضلا وليس إليه من الإضلال شيء ".
فكما ينشأ من التعليم المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم) في النفوس السقيمة زيادة في مرض الجهل والضلال لقوله تعالى:
فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم
[البقرة:10] وقوله:
ما زادهم إلا نفورا
[فاطر:42]. فربما ينشأ من الإغواء الإبليسي في القلوب السليمة الخالصة المخلصة زيادة في العصمة والهداية لهم من الله، كما قال تعالى في حق يوسف الصديق - على نبينا وعليه السلام -:
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين
[يوسف:24]. فالله الهادي والمضل.
وهاهنا أسرار لا تحتملها الأفهام تركناها مخافة شنعة اللئام.
تذكرة تنبيهية
القهر واللطف ومظاهرهما
قوله: { يؤتيه من يشآء } -، فيه إشارة إلى أن مشيته الأزلية متعلقة بأمور متكثرة متخالفة بحسب صفات وأسماء متعددة متقابلة، فإن لله تعالى صفتي لطف وقهر، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك - وخصوصا ملك الملوك - كذلك، إذ كل منها من أوصاف الكمال كما لا يخفى، ولا بد لكل من الوصفين من مظهر، فالملائكة ونفوس المقربين والأخيار ومن ضاهاهم مظاهر اللطف، والشياطين والأشرار ومن والاهم مظاهر القهر، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستعقبة لها، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها.
ثم اعلم - يا مسكين - أن لكل نور ظلمة في عالم الإمكان ولكل كمال نقصا، وأن كل ممكن زوج تركيبي كما أشار إليه الحكماء، وبهذا جرت المشية الأزلية والسنة الإلهية.
وعلى هذا، يكون مقتضى السلطنة الربانية بحسب ازدواج صفتي القهر والمحبة والغضب والرحمة، ومنهما تنشأ الهداية والضلال والتوفيق والخذلان، والسعادة والشقاوة، والجنة والنار، والآخرة والدنيا، والأرواح والأجرام بحسب غلبة أحد الطرفين، وإن كان لكل جمال أيضا جلال كالهيمان الحاصل من الجلال الإلهي، فإنه عبارة عن انقهار العقل منه وتحيره فيه، ولكل جلال جمال وهو اللطف المستور في القهر الإلهي، كما قال تعالى:
ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب
[البقرة:179].
وقال أمير المؤمنين (ع) في بعض خطبه: سبحان من اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته، واشتدت نقمته لأعدائه في سعة نعمته.
ومن هنا يعلم سر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.
فهو الله الباري المصور الغفار لقوم، وهو الله الواحد العزيز القهار المتكبر لقوم آخرين، ولا اعتراض عليه في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به، فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله.
إشراق شمسي
السعادة والشقاوة والإنسان المختار
ثم اعلم أن كل ما في عالم الملك والملكوت له طبع خاص تصدر عنه آثار وأفعال مخوصة، وكل طبع مسخر لفعل خاص، كالنار للتسخين، والماء للتبريد، وله حد محدود لا يتجاوزه، ومقام معلوم لا يتعداه من أعلى شواهق عالم الأمر إلى أدنى منازل عالم الخلق، إلا الإنسان، فإنه مسخر للاختيار، فالاختيار له بمنزلة الفعل الطبيعي لغيره، لأن ذاته ليست مما يقف على حد ومقام في جوهرها وهويتها، بل تنقلب من طور إلى طور، ومن نشأة إلى نشأة، وسعة هذه التقلبات في الإنسان الكامل أكثر، وتخالف أطواره أشد، وقوسه الصعودية أعظم، وارتقاؤه إلى عالم الملكوت أعلى وأتم، فلذلك قيل: إن الإنسان مضطر في صورة مختار .
فالمختارية مطبوعة فيه اضطرارية له، وهو مجبول عليه كما جبل طبع الماء والنار والخبز واللحم على التبريد والتسخين والتغذية، فهو من لدن أول تكونه النطفي، إلى تمام بلوغه الحسي واستعداده النطقي، لم يكن لاختياره في الترقيات والتقلبات مدخل، حتى بلغ إلى مرتبة حيوان تام الحيوانية منتصب القامة عريض الأظفار بادي البشرة، ثم من عند كونه عاقلا مكلفا ينتقل باختياره الذي هو عين اضطراره، ويتطور بأطواره في مراتب افتقاره، فهو إما أن يرتقي إلى أعلى عليين، أو يتردى إلى أسفل سافلين، أو يقع في أحد أوساط المتوسطين حسب ما شاء الله وكتب في كتابه المبين:
فمنهم شقي وسعيد * فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق
[هود:105 - 106] - الآية -
وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها
[هود:108] - الآية - أما السعيد فلا يختار إلا عمل أهل السعادة، وأما الشقي فلا يختار إلا عمل أهل الشقاوة:
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها
[السجدة:19 - 20].
ومع ذلك فلا اعتذار لأحد في الشريعة، بل الجميع خوطبوا بخطاب واحد " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
ومن هنا نشأت لك شبهة قديمة غير منحلة - إلا لمن أيده الله بكشف الحقائق -، وهي أن الكل إذا كان بمشية الله، فما الفائدة في بعثه الرسول وتزكيته والتهذيب وإنذاره والتأديب؟
فيقال لك: إنزال الكتب وإرسال الرسل، كما هو سبب من أسباب سعادة السعداء كذلك هو بعينه سبب من أسباب شقاوة الأشقياء، وبهذا السبب كما يرتقي السعيد إلى منازل الملكوت، يهوي الشقي إلى مهاوي الطاغوت - كما أشير إليه -.
واعلم أن شهوات الدنيا مقرونة بالآفات العظيمة، وحلاواتها ممزوجة بالسموم المهلكة القتالة، وفائدة البعثة والإنزال إعلام الخلائق وإنذارها عن تناولها والتشاغل بها، فمن كان ذا فطرة صحيحة صدق الرسول وسمع القرآن بقلبه فانتهى عن تناولها، ومن لم يصدق الرسول ويصم عن سماع الكتاب ويعمى عن رؤية الآيات، وكان مريض النفس عليل القلب، أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فوقع في الهلاك ويئس من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
فكما أن الملك والقرآن والنبي رسل الله إلى هؤلاء، فالهوى والنفس والشيطان رسل الله إلى هؤلاء العميان، فاقرأ قوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257] - الآية -، وقوله:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم
[البقرة:268]
يختص برحمته من يشآء
[البقرة:105]. وقوله - في الحديث القدسي -:
" خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي ".
فالمؤمن الحقيقي من يقبل دعوة الله ويرد دعوة الشيطان، ولا يقع في حبائل غروره وشرك مكره، ويسمع بسمع التيقظ قول المبلغ: رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا.
والرسول قد حذره بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
" الدنيا حية فقاتلوها ".
والقرآن علمه بالبيان والبرهان:
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال
[الحديد:20].
والمنافق يرد دعوة الرحمن ويقبل دعوة الشيطان:
لا تفتح لهم أبواب السمآء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين * لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين
[الأعراف:40 - 41].
قال بعض أصحاب القلوب: إن الله يعامل العباد في الأبد على ما عاملهم في الأزل.
وقال بعضهم: ليس الخوف من سوء العاقبة، إنما الخوف من سوء السابقة.
فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله
[الروم:30].
فالسعيد سعيد في الأزل، والشقي لم يزل. واتل قوله:
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
[آل عمران:152]. وقوله:
ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين
[آل عمران:145].
[62.5]
وفيه إشراقات:
الأول
في الغرض المسوق إليه هذا التمثيل
إن الله تعالى قد مثل الذين حملوا الكتب السماوية وكلفوا القيام بها والعمل بموجبها، وهم لم يحملوها حق حملها من أداء حقها، ولم يتدبروا فيها ولم ينظروا بعين الاستبصار والاعتبار، بل حفظوها بالتكرار لفظا، ودونوها في الأسفار لأغراض عاجلة لهم في هذه الدار، ثم لم يعملوا بما فيها، بالحمار الذي يحمل أسفارا، لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره، لا يشعر بما فيها، فمثل من يحفظ الكتاب ولا يدرك أسراره ومعانيه فلا يعمل بمؤداه ومقتضاه، كمثل دابة تحمل على ظهرها الكتب - لا تعلم بما فيها -.
قال ابن عباس: فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به.
وعلى هذا، فمن تلا القرآن ولم يفهم معناه، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، فكان حريا بهذا المثل، وكذا من تدبر في إعراب إلفاظه ودقائق عربيته ونكاته البديعية، وهو بمعزل عن أسرار حكمته ومقاصده الأصلية من المعارف الإلهية، والعلوم الربانية، وأسرار المبدأ والمعاد وعلم الروحانيين والملائكة والشياطين، وكيفية الوحي والتنزيل، وعلم النفس ومعرفة الروح، وورودها إلى هذا العالم، وردها إلى أسفل سافلين، ثم عودها ورجوعها إلى باريها ومبقيها إما راضية مرضية إن آمنت وعملت الصالحات، أو ناكسة منكوسة منحوسة محجوبة مظلمة إذا جحدت وعملت السيئات، وكيفية نشو الآخرة من الدنيا، وأحوال القبر والبعث والحشر والنشر، إلى غير ذلك من المعارف التي هي الغرض الأصلي من إنزال الكتاب والوحي والإلهام والخطاب.
فلمن لم يطلع من القرآن إلا على تفسير الألفاظ وتبين اللغات ودقائق العربية والفنون الأدبية، وعلم الفصاحة والبيان وعلم بدائع اللسان، وهو عند نفسه انه من علم التفسير في شيء، وان القرآن انما انزل لتحصيل هذه المعارف الجزئية، فهو أحرى بهذا التمثيل ممن لا خبر له أصلا، لا من إعراب الألفاظ ولا من حقائق المعاني، مع اعترافه بعجزه وقصوره.
وممن أنشد في هذا الباب شعرا أبو سعيد الضرير حيث قال:
زوامل للأسفار لا علم عندهم
بجيدها، إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري المطي إذا غدا
بأسفاره إذ راح ما في الغرائر
وفي قوله: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله -، تنبيه بليغ على كلية هذه القضية، وحقية هذا المثل، من غير اختصاصها بشأن اليهود الذين كذبوا بالآيات الدالة على إعجاز القرآن، وجلالة قدر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كل من جحد ما وراء فهمه، وأنكر ما سوى ما أخذه من معلميه وأشياخه على غير بصيرة، أو وصل إليه من ظواهر النقول والروايات، فهو حقيق بهذا التمثيل، بالقياس إلى ما جحده وأنكره عند التحقيق.
الإشراق الثاني
المقصود من المثل
إن قوله: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله -، معناه: بئس القوم قوم مثلهم هذا، لأن اليهود إنما صاروا مذمومين مطرودين عن باب الله، لإنكارهم حقية الرسول، وإعراضهم عن مطالعة آيات الله، وجحودهم لما سمعوا من الحقائق الإيمانية والمعارف الربانية التي لم تبلغ أفهامهم إليها من قبل، ولم تسمع من شيوخهم الماضين ومعلميهم وآبائهم السابقين كما حكى الله عنهم بقوله:
ما سمعنا بهذا في آبآئنا الأولين
[المؤمنون:24] - الآية -.
وكل من هذا صفته بالنسبة إلى أهل الحق وأصحاب الحكمة القرآنية في وراء معلومه وفوق مفهومه، من الإعراض والإنكار اغترارا بظواهر الآثار وما سمعه وتلقفه من أشياخه ومعلميه، أو إعجابا بما حصله بالبحث والتكرار من غير استكشاف واستبصار، فهو داخل في هذا الحكم، ومكذب لأيات الله بالحقيقة، لأن مقاصد أهل الله هي بعينها معارف الكتاب والسنة، وهو حري بهذا التمثيل، لأنه - وإن لم يكن يهودي النحلة - لكنه يهودي الخصلة.
فكما أن القدرية مجوس هذه الأمة، فالظاهرية والمشبهة يهود هذه الأمة، والباطنية نصرانيو هذه الأمة، فإن جميع المذاهب القديمة توجد في أمة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بواحد يزيد عليها - وهي الفرقة الناجية - والباقون في النار، كما دل عليه الحديث المشهور. وهذه الفرقة الناجية في غاية الخمول والخفاء والندرة والإنزواء.
الإشراق الثالث
المؤمن الحقيقي هو العارف الرباني
إن المؤمن الحقيقي من يكون من الحكماء الإلهيين والأولياء الربانيين، وإن غيرهم إما من أهل الإغرار وحملة الأسفار، ومتحملة الأوزار، المنسلخين عن الفطرة الأصلية كالحمار، المقيدين بسلاسل تعلقات هذه الدار، لا يهديهم الله لظلمهم وفسادهم سبيلا للارتقاء إلى دار القرار، ولا يوفقهم للنجاة من منازل الأشرار ومهاوي الفجار إلى عالم الأسرار ومعدن الأبرار.
وإما من أهل السلامة والتسليم، والطاعة والانقياد من غير جحود ولا إنكار ولا استنكار، لبقائهم على فطرتهم الأصلية، ونقاء صحائف خواطرهم وأذهانهم عن نقوش الأقاويل المظلمة المضلة، فهم من أهل الرحمة والنجاة، الذين ينالهم ضرب من الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء.
والدليل على ما ادعيناه، من كون المؤمن الحقيقي هو العارف الرباني والحكيم الإلهي، مما يستفاد من هذه الآيات على أتم وجه وأوضحه، فإن ما ذكره تعالى في علة البعثة وغاية الرسالة من قوله:
يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
[الجمعة:2] - يدل دلالة واضحة على أن نتيجة البعثة دعوة الخق إلى العلم والحكمة، وأن الإيمان بالله والرسول عبارة عن تعلم الكتاب والحكمة بالحقيقة لا بالمجاز، وإلا لكان الإيمان إيمانا بالمجاز، فيكون المؤمن المجازي مسلوبا عنه الإيمان الحقيقي، كما هو قاعدة إطلاق اللفظ على سبيل المجاز.
فثبت أن الإيمان الذي كون فائدة البعثة وثمرة إنزال القرآن، عبارة عن صيروة كون العبد المسلم حكيما عارفا بحقائق ما في الكتاب، - لا بمجرد حفظ الألفاظ وتكرارها، ولا بمجرد تفسير العربية ونكاتها البديعية - فإن معرفة ألفاظ العرب ودقائق علم البيان، ليس من مقصود علم القرآن من شيء، بل المقصود سياقة الخلق إلى جوار الله بالعلم بحقائق الأشياء، والتجرد عن علائق الدنيا، وهو لا يحصل بمجرد الاطلاع على علم العربية والكلام، والقرآن إنما نزل بلغة العرب ليكون أوضح دلالة وأفصح بيانا، إذ لا يكون في دقة الألفاظ وغرابة أبنية الكلام فائدة يعتد بها كما دلت عليه آيات كثيرة مثل قوله تعالى:
إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون
[يوسف:2] وقوله:
وهذا لسان عربي مبين
[النحل:103].
الإشراق الرابع
طهارة القلب واستكماله بفضل الله
ثم لما بين فائدة البعثة وثمرة الرسالة - وهو تزكية الأمة بإصلاح الجزء العملي من نفوسهم ليكونوا صلحاء حلماء، وتعليمهم الكتاب والحكمة بتكميل الجزء العملي منها ليكونوا علماء حكماء -، أشار إلى أن طهارة القلب عن رذائل الصفات، واستكماله بمعارف الآيات الإلهيات، من فضل الله يؤتيه من يشاء، أي لا بد فيه من سابقة عناية أزلية، وهداية إلهية، وجذبة ربانية لا يوازيها عمل وكسب، وهي من الحكمة التي من يؤتها فقد أوتي خيرا كثيرا، يعني أن ذلك مزية نوارنية ونعمة روحانية لا تناط بكثرة التكرار آناء الليل وأطراف النهار، ولا بحمل الكتب والأسفار، لا بطول المراجعة إلى أهل الاشتهار والتبسط في البلاد والديار طلبا لحطام هذه الدار، كما هو عادة المشتغلين بكسب الشيخوخة ورياسة المذهب، وشيمة طلاب الافتخار قصدا للجمع والإكثار، مع اشتباه واغترار بأن ما فهمه من علم الدين وأسرار اليقين.
ومنشأ هذه الغلظة وبذر هذا النفاق، هو حب الجاه الذي يعمي القلب عن رؤية الحقائق، ويصم السمع عن الشعور بغير ما يتوسل به إلى تحصيل المنزلة عند الناس، فإن من غلب على قلبه حب الجاه وميل الثروة، صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، ولا يزال في أقواله وأفعاله، وتحصيله ظواهر العلوم واتيانه بصور العبادات والخيرات، متلفتا إلى ما يعظم منزلته عندهم، وربما يهم ويشتهي أن يجمع الدنيا مع الدين، ويراعي الخلق مع الحق بظنه الفاسد وطمعه الكاسد، ان ذلك أمر ممكن.
ولا يدري الجاهل المسكين أن ذلك بذر النفاق، ومادة الفساد، وسبب الجحود والعناد في العلوم، ومنشأ المراءاة في النسك والعبادات للتوسل بها إلى اقتناص القلوب وجلب خواطر الخلق. ثم لا يدري السفيه أن من أراد أن يجمع بين الدين والدنيا صار في آخر الأمر بحيث لا دين له ولا دنيا.
على أن الدنيا لا حقيقة لها عند العقلاء، بل هي من قبيل الأوهام والأحلام وصورة المرايا والظلال.
وقد شبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حب الجاه والشرف وافسادهما للدين بذئبين ضاريين - كما هو المروي عنه في كتب العامة والخاصة -.
وهذا الحديث روي عن بعض ساداتنا المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين - في مدح صفوان بن يحيى حيث قال: ما ذئبان ضاريان قد وقعا في غنم غاب عنها رعاؤها بأضر في دين المسلم من حب الرياسة لكن صفوان لا يحب الرياسة.
وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه قال:
" حب الجاه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ".
فعلم أن حب الجاه والشهرة من المهلكات التي لا يمكن النجاة لأحد منها، وإهلاكه وإفساده للمغترين بظواهر العلوم أشد وأكثر من إهلاكه للمتغرين بظواهر الأعمال، بقدر التفاوت بين قبح الكفر الذي هو ضرب من فساد العلم، وبين الفسق الذي هو ضرب من فساد العمل، ومن الأمور الواضحة المستبينة عند أرباب الإطلاع على كيفية تحصيل المعارف اليقينية، أن حب الجاه وحب التكبر يحجب القلوب عن مطالعة الآيات ومشاهدة الحقائق، كما قال الله تعالى:
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق
[الأعراف:146].
ثم انظر أنه تعالى كيف أشار إلى أن المؤمنين هم أولياء الله والحكماء والإلهيون، وأن المتغرين بظوهر الآثار من الفجار والمنافقين حيث أثبت أولا أغراض الرسالة وفائدة البعثة، وأنهما تصفية القلوب من الجهل والرذائل، وتكميلها بعلم الكتاب والحكمة التي هو رئيس الفضائل.
ثم ضرب الله مثلا لليهود ومن يجري مجراهم الحمار في حملهم الكتب والأسفار، وتركهم التدبر والإعتبار، وإنكار ما ورد من آيات الله على ألواح أنبيائه، وجحود ما قذف من أنوار الله في قلوب أوليائه وأحبائه.
ثم أشار بعد لك إلى بطلان زعمهم وفساد ادعائهم انهم من أولياء الله وأحبائه، أنهم لو كانوا كذلك لوجب أن يعرضوا عن الدنيا وطيباتها ويحبوا الموت، لكونه وسيلة إلى لقاء الله، ولا يكونوا أحرص الناس على حياة هذه النشأة الجسمانية، وحيث إنهم كانوا على أضداد صفات أولياء الله والحكماء، فقد علم أنهم من أعداء الله تعالى، المنكرين للدار الآخرة وعالم الغيب وعالم الأرواح، الكارهين لقاء الله، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. كلا إنهم يومئذ عن ربهم لمحجوبون.
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين:14].
الإشراق الخامس
فهم القرآن
كل من اكتفى بظاهر العربية، وبادر إلى تفسير القرآن بمجرد نقل الكتب وحمل الأسفار، من دون الارتقاء إلى عالم الأنوار وفقه الأسرار، ونقاء السريرة من أغراض هذه الدار، وخلاص القلب عن غشاوة هذه الآثار، فهو حري بهذا التمثيل، فإن الاطلاع على ظاهر العربية وحفظ النقل عن أئمة التفسير في ترجمة الألفاظ، لا يكفي في فهم حقائق المعاني، ومن أراد أن ينكشف له أن هذه المرتبة ليست من مرتبة إدراك المعاني القرآنية، والاطلاع على حقائقها، فليتأمل في مسألة واحدة منها، وعجز المفسرين عن دركها، ليقيس عليها غيرها، وهو أن الله تعالى قال:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17].
وظاهر تفسيره واضح جلي، وحقيقة معناه في غاية الغموض، فإنه إثبات للرمي ونفي له، وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم أنه رمى من وجه ولم يرم من وجه، ومن الوجه الذي لم يرم رماه الله تعالى، ثم يفهم انه ما جهة الوحدة والهوهوية، وما جهة الغيرية والكثرة.
وكذلك قال تعالى:
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة:14]. فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله هو المعذب، وإن كان الله هو المعذب بتحريكهم فما معنى أمرهم بالقتال؟
فالتحقيق في مثل هذا المقام يحتاج إلى العلوم المتعالية عن علوم المعاملات، ولا تغني عنه علوم العربية وتفسير الألفاظ، ولعل العمر لو أنفق في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدماته ولواحقه، لانقطع العمر قبل الوصول إلى الإحاطة بجميع لواحقه، والقرآن مشحون بأمثاله، بل ما من كلمة من القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك، وإنما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره وأنواره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب، ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة منه، فأما الاستيفاء التام فلا مطمع لأحد فيه، ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلاما والخلائق كتابا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله، فأسرار كلماته وأنوار آياته مما لا نهاية لها ولا بداية، فمن هذا الوجه يتفاضل الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير.
فقس على هذا المثال جميع ما ورد في الكتاب والسنة، ولا تغتر بما سمعته وتلقفته من معلميك في أوان الجاهلية وزمان الاحتجاب، فإنها كلها تماثيل وأشباح للحقائق - إن لم تكن أغلاطا فاسدة -، وإنها قوالب وصور بلا معنى إن لم تكن أوهاما باطلة، وظواهر أعمال بلا فائدة تبقى، وخيال أشخاص من غير صورة بها تحيى، ومثال أشجار بلا ثمرة تجنى، وحبال وعصي يخيل من سحرهم انها حية تسعى -
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف:103 - 104].
ومن الأمثلة أيضا في فهم الأسرار والأنوار المودعة في ألفاظ القرآن والحديث، ما ذكره بعض أصحاب القلوب في معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سجوده:
" أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
وهو انه لما قيل له:
واسجد واقترب
[العلق:19]. فوجد القرب في سجوده، فنظر إلى الأفعال فاستعاذ من بعضها ببعض، ثم زاد في قربه فنظر إلى الصفات فاستعاذ من بعضها ببعض، فإن الرضا والسخط صفتان، ثم زاد في قربه واندرج القرب الأول فيه فترقى إلى الذات وقال: أعوذ بك منك.
ثم زاد قربه واستحيى عن الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله: لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور فقال: أنت كما أثنيت على نفسك.
فهذه وأمثالها خواطر تفتح لأرباب المعاني وأصحاب القلوب، ثم لها أغوار وأسرار وراء هذا المعنى وهو معنى فهم القرب واختصاصه بالسجود، ومعنى الاستعاذة من فعل إلى فعل، ومن صفة إلى صفة، ومنه به.
وأسرار ذلك كثيرة، ولا يدل ظاهر تفسير اللفظ عليها، ومع ذلك فليس مناقضا لظاهر التفسير، بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن قشره، فإن للقرآن حقيقة كالإنسان، وله قشران ولبان كالجوز، ولكل منها مراتب كثيرة حسب تعدد النشآت، وكما أن الإنسان الحسي صنم لسائر مراتبه، واقع في أول درجات الإنسانية ومراتبها ومعارجها، وأعلى منه الإنسان المثالي، ثم الإنسان النفسي، ثم العقلي كالحكماء، ثم الإلهي كالمتألهين من العرفاء والأولياء فهكذا يجب أن يعلم مراتب فهم القرآن فكل أحد لا يفهم إلا بما يتحقق فيه.
والقرآن بحسب حقيقته الأصلية خلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل ما فهمه المفسرون، ويصل إليه إدراكهم ظل من ظلاله القريبة والبعيدة، وشبح من أشباحه العالية والدانية - فافهم هذا واغتنم -.
[62.6-7]
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
في اللغة
هاد يهود: إذا تهود، أي: انتحل مذهبهم ورأيهم في ذات الله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر. أما في الذات: فكذهابهم إلى أنه تعالى ذو ولد وصاحبة. وأما في صفاته: فبإلحادهم فيها وتشبيههم. وأما في الأفعال: فبإنكارهم النسخ والتغيير، وقولهم يد الله مغلولة. وأما في الكتب والرسل: فبإنكارهم حقيقة القرآن وحقيقة الرسول المنذر به. وأما في اليوم الآخر: فلما قالوا:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة:80].
و " الزعم ": قول عن ظن وتخمين.
والأولياء: جمع ولي، وهو الحقيق بالنصرة التي يوليها عند الحاجة، والله ولي المؤمنين لأنه يوليهم النصرة عند حاجتهم، والمؤمن ولي الله لهذه العلة لأنه ينصر دينه، ويجوز أن يكون لأنه يولي المطيع له وينصره وعند حاجته.
و " التمني ": قول القائل لما كان: ليته لم يكن. ولما لم يكن: ليته كان، فهو يتعلق بالماضي والمستقبل، وهو من جنس الكلام عند الجبائي والقاضي، وقال أبو هاشم: هو معنى في النفس يوافق هذا القول. وهو ليس بشيء، إذ جميع أقسام الكلام - خيرا كان أو انشاء - من هذا القبيل، حيث أن لها معاني في النفس وضعت بازاء ألفاظ تطابقها وتوازيها.
وقرأ: فتمنوا الموت - بكسر الواو - تشبيها بلو استطعنا.
و " لا " ك " لن " لنفي المستقبل، ولا فرق بينهما إلا أن في " لن " زيادة تأكيد أو تأييد ليس في " لا ". فأتى مرة مؤكدا: ولن يتمنوه. ومرة بدونه: " ولا يتمنونه ".
الإشراق الثاني
في النظم
لما تقدم ذكر اليهود في إنكارهم لما في التوارة من المعاني التي تستنبط منها أو تتضح فيها بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتحريفهم الكلم عن مواضعه كما هو عادة المتشبثين بذيل الدنيا وشهواتها وأغراضها من صرفهم الكتاب إلى معان توافق طباعهم الخبيثة وتناسب مقاصدهم الخسيسة، وادعاؤهم مع ذلك أنهم من أولياء الله وأنصاره دينه، أمر سبحانه نبيه أن يخاطبهم بما يفحمهم فقال: قل - يا محمد - { قل يأيها الذين هادوا } - أي انتحلوا دين اليهود واتصفوا بأوصافهم - { إن زعمتم أنكم أوليآء لله } - أي إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار الله وأن الله ينصركم - { من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } - في دعواكم أنكم أولياء الله وأحباؤه، فإن الموت من أسباب الوصلة إليه تعالى.
ثم أخبر عن حالهم وكذب مقالهم وفساد زعمهم وقبح سيرتهم ودغل سريرتهم وسوء شكيمتهم واضطراب رأيهم وتزلزل دعواهم ووخامة عاقبتهم وآخرتهم وأنهم غير واقفين بما يقولون إذ ليس بناؤه على أصل صحيح عاقبتهم متين.
بل على مجرد ظن فاسد واغترار بما يستحسنه أهل الظاهر، فقال: { ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم } من الكفر والمعاصي، معناه: ولا يتمنون الموت لما اكتسبت نفوسهم من ملكة محبة الدنيا ولذاتها وشهواتها وملكة الانجذاب إلى دواعيها وأغراضها، فصارت نفوسهم مقيدة بها، محبوسة فيها، لتكرر الأفاعيل البدنية الشهوية والغضبية، وتكثر الأعمال الحيوانية البهيمية والسبعية الموجبة للركون إلى نعيم الدنيا وزهرتها، والإخلاد إلى أرض الشهوات والاستغراق في بحر اللذات.
ومنشأ هذه الأعمال والأفعال كلها، هو الفساد في الاعتقاد، والشك في بقاء النفس في المعاد، ورجوعها إلى الواحد القهار، فصارت هذه الأخلاق الردية، والملكات الدنية الحاصلة من تكرر الالتفاتات إلى عالم الخلق، وتكثر الاعراض، والاستيحاش عن عالم الحق وملكوته الأعلى، وإنكار وجود المفارقات، ونفي ثبوت الملائكة العقليات، مسامير مؤكدة وأوتادا مستحكمة في النفس، بحيث لا فرق عندهم بين ترك البدن ونزع الروح عن الدنيا وبين ترك اللذات للذات، ونزع الروح عن الروح، لأن نفوسهم صارت كأنها عين البدن.
ولهذا لا يمكنهم تصور بقاء النفس من دون استعمالها للحواس واشتغالها بالمحسوسات، فلو فرضوا أن أحدا يقوم بنفسه من غير مباشرة الأكل والشرب والوقاع، ولا مصادقة الأقرباء والعشاير والديار والعقار والضياع والمواشي وغيرها، بل يكتفي بذكر الله وعالم ملكوته، لاستحالوا ذلك، أو عدوا حاله من أسوء الحالات، وشبهوه بحالة الأموات والجمادات جهلا بأن غاية ما سموه لذة وغبطة بالنسبة إلى ما يجده أولياء الله من ملاحظة حضرة الربوبية ومشاهدة العاكفين لجنابه أشبه بأن يسمى عذابا وانما حق ان يسمى لذة وراحة. كيف ولو كان ما زعموه حقا لكان البغال والحمير أوفر سعادة وأجل سرورا وغبطة من ملائكة الله الذين طعامهم الذكر والتحميد، وشرابهم التنزيه والتقديس؟!
الإشراق الثالث
الفطرة التوحيدية في الإنسان بالقوة
إن في الآية إشعارا بأن طبيعة أكثر الناس متنفرة عن حقيقة الدين، معرضة عن لقاء الحق، لكونهم غير متمنين للموت بل مستكرهين له، فهم ليسوا من أولياء الله بحسب قاعدة عكس النقيض، بل من أولياء الطاغوت، فلذلك طبائعهم مجبولة على حب الدنيا وزينتها ورياستها، والجوهر الروحاني الذي جبل على فطرة الله، وفطر على قبول دعوة الإسلام ودين التوحيد، هو مودع في الإنسان بالقوة كالجوهر في المعدن، لا يستخرج إلى الفعل إلا بجهد جهيد، وكد شديد، وسعي تام، وتنقية للقلب، وتصفية للباطن عن أغراض النفس، وأعمال وعبادات على قانون الشريعة الحقة، ومتابعة تامة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوامره وزواجره، وأحكامه ورموزه وإشاراته. وبعده لورثة علمه وخزان كتابه، وهم الأئمة المعصومون من أهل بيت نبوته وولايته، والعلماء الربانيون الراسخون في العلوم الإلهية، المتأدبون بالآداب السبحانية خلفا بعد خلف وخليفة بعد خليفة، إلى آخر الدور والقرون، ومنتهى العصر والزمان.
وفي زمان كل واحد منهم جمهور الناس - بل أكثر علمائهم وفقهائهم - مع دعوى إيمانهم علانية ينكرون أطوار الأئمة وسيرهم ضميرا وسرا ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة والانقطاع عن الخلق - وهو بعينه تمنى الموت - وينكرون التبتيل إلى الله بالكلية بالموت الإرادي طلبا للحياة المعنوية الأبدية إلا من كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وهو نتيجة الصدق في الطلب وحسن الإرادة الحاصلين من بذر " يحبهم ويحبونه ".
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - وإلا فمن خصوصية الإنسان بحسب ما ذكر فيه من الطبيعة الظلمانية التي لأصحاب الشيطان أن يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وان كانوا يصلون ويصومون ويزعمون أنهم متدينون ولكن بالتقليد - لا بالتحقيق -، اللهم إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله
[الزمر:22].
تنبيه:
لا يخفى عليك أن في الإخبار بعدم تمنيهم الموت - ولو بحسب القول واللسان - معجزة من معجزات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما روي أنه قال لهم:
" والذي نفسي بيده، لا يقولها أحد منكم إلا غص الله بريقه "
فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمنوا ذلك، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى.
الإشراق الرابع
تمني الموت دليل كون صاحبه أهل السعادة
قد نبه الله في هذه الآية على كذب اليهود في دعواهم ولاية الله وقربه. ونبه في موضع آخر على كذبهم في دعواهم أن الآخرة خير لهم من الأولى. وأن الدار الآخرة خالصة لهم، وكشف عن ذلك أيضا بهذا الطريق فقال مخاطبا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
[البقرة:94] فأخبر بأنهم لن يتمنوا الموت أبدا بما قدمت أيديهم من سوء الأفعال وقبح الأعمال وفساد الأنظار والأطوار، المؤدية إلى الاحتراق بالنار. كما قال طبق هذا المقال:
ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين
[البقرة:95] تنبيها على أنهم ليسوا من أهل سلامة الآخرة وسعادة تلك الدار، إذ ليسوا من أهل المحبة الإلهية، والمودة والروحانية، فإن لمحبة الله وولايته التي للأولياء المقربين علامات مرجعها إلى ترك الالتفات إلى غير الله، وقطع النظر عما سواه، وتنقية القلب عن سائر المحبوبات.
والمتضمن لهذه التروك كلها هو الموت، فمن أحب لقاء الله اشتاق إلى الموت، إذ بالموت يتخلص عن صحبة الأغيار بالكلية ويرجع إلى لقاء الله العزيز القهار.
ومن جملة الأغيار المحبوبة بالمحبة المجازية هي النفس والأهل والولد، والمال والجاه والشهرة، وكل محبة لمحبوب مجازي يمنعه عن نحو من العبودية التامة والمحبة الحقيقية لله تعالى، فمن غلبت عليه محبة المال منعته عن الزكاة، ومحبة الوطن تمنعه عن الحج، ومحبة البدن بالأكل والشرب تمنعه عن الصوم، ومحبة النفس تمنعه عن الجهاد، ومحبة الجاه والشهرة تمنعه عن تعلم العلوم الحقيقية عن الغير، والاعتراف بقصوره وجهله والإقرار بفضيلة من هو أعلم منه كثيرا.
فترك كل منها علامة من علامات محبة الله من جهة امتثال أمره بما يكرهه ونهيه عما هو يحبه، فمهما ترك جميع محبوباته فحصلت له علامة الاستعداد للقاء الله فيهون عند ذلك عليه الموت، لأن محبة كل شيء سوى الله فرع محبة النفس، فمهما ترك بمحبة الله محبة النفس زالت عنه محبة كل شيء سوى الله، فصار وليا من أولياء الله عارفا به، مشتاقا إليه وإلى عالم ملكوته فيتمنى الموت.
فتمني الموت لهذا الوجه يكون من علامة ولاية الله وعرفانه، ولذا قال: { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } -، ومن كان حاله على مضادة هذا الحال، حيث يحب النفس والولد والأهل والمال والعشيرة والجاه، يكون من أعداء الله، كما قال سبحانه:
قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره
[التوبة:24].
الإشراق الخامس
الإنسان لماذا لا يتمنى الموت
قد نفى الله تعالى عن اليهود ومن يحذو حذوهم من أولي الطبائع الغليظة والقلوب القاسية، عن قبول نور المعرفة والحكمة، تارة درجة الولاية والقرب - كما في هذه الآية -، وأخرى درجة السعادة الأخروية - كما في الآية المنقولة -.
والسبب في ذلك، أن أهل الآخرة إن كانوا من الكاملين في المعرفة واليقين فهم من أولياء الله المقربين، وإن كانوا من الكاملين في العمل فهم من أصحاب اليقين. وجزاء المقربين مجاورة الحق الأول، ومشاهدة لقاءه ولقاء العاكفين في حضيرة قدسه وساحة ملكوته، وجزاء أصحاب اليمين السيحان في روضات الجنان، ومنادمة الحور والغلمان، والابتهاج باللؤلؤ والمرجان، وهاتان المرتبتان كلتاهما مسلوبتان عنهم رأسا، لفساد اعتقادهم لعنادهم وجحودهم للعلوم الحقة الحقيقية، واعتمادهم على أوهام وظنون تقليدية تلقفوها من غير دارية، وبطلان أعمالهم لغلبة دواعيهم الحيوانية، وانكبابهم على طلب هذه الدنيا الدنية، فينفى عنهم ما يؤدي إلى الكمال العلمي والعملي بالكلية فيمتنع عليهم تمنى الموت.
وإنما يتمناه من كان حكيما عارفا الله ، حارسا لآخرته، عاملا عمل أهل الآخرة من الزهد في الدنيا وترك مرغوباتها ومستلذاتها ورياساتها، حتى يكون الموت موصلا إياه إلى محبوبه الأصلي، ومطلقا له عن أسر الطبيعة وحبس الظلمات، وصحبة الأضداد والمؤذيات، وقاطعا عنه كلفة العبادات وشدة الرياضات والمحن والأمراض.
الإشراق السادس
تمني الموت عن علامات أهل النجاة
إن في كل واحدة من هذه الآية ونظيراتها إشارة إلى أن أصحاب العلوم الظاهرة، المنكرين على أرباب المعارف الحقيقية، يزعمون أنهم من أهل النجاة وأهل الدرجات دون هؤلاء المحققين المعرضين عن الصيت والاشتهار وطلب الافتخار، والتقلب في البلاد والديار، والتعرض للشيخوخة والقضاء وتولية الأوقاف.
فجعل الله تعالى علامة أهل النجاة السآمة من حياة هذه الدنيا وتمني الموت. وأشار إلى أن هذا حال السالك والمحب الصادق، والمحقق العاشق، كما قال بعضهم:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
فإن العبد المطيع يحب الرجوع إلى مولاه، والعبد العاصي الآبق يكره الرجوع إلى مولاه. وفي الحديث:
" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه "
أي: محبة العبد للقاء الله نتيجة محبة الله للقاء العبد بحسب الجذبة الإلهية التي لا يوازيها عمل الثقلين. ولذا قال:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54] بتقديم الأول على الثاني دون العكس.
وبالمقايسة إلى حال السالك العارف، يعرف حال الواقف الجاهل، والمبتدع المضل المداهن الحريص على الدنيا، لأن حال العدو بخلاف حال الولي، وحال الساكن الواقف في النشأة الأولى، بخلاف حال المسافر الساير إلى النشأة الأخرى:
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62].
ولذا قال سبحانه في وصفهم:
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا
[البقرة:96] لأن المشركين وإن كانوا حريصين على الحياة، ولكن لم يكن لهم خوف العذاب لانكارهم البعث، وأما المغرور الممكور، فيكن له حرص الحياة وخوف العقاب، فيكون أحرص الناس على الحياة من المشرك.
وبالجملة، حب الدنيا نتيجة الغفلة من الله، فأشدهم منه غفلة أحبهم للدنيا، وحال المؤمن على ضد هؤلاء كما عرفت.
الإشراق السابع
حكمة خلق العصاة وذوي القلوب القاسية
قوله تعالى: { والله عليم بالظالمين } - إشارة إلى أن إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين أمور مرتبة بالعلم الأزلي والقضاء الأولي، بحسب اقتضاء الأسماء الإلهية الموجبة لأن يكون وجود هذا العالم السفلي والمحل الهيولي ممتزجا بالأنوار والظلمات، مركبا من الشرور والخيرات، لأن نظامه حاصل من تركيب الأضداد وطبائع متخالفة المواد والأجساد، ولا ينصلح تعميرها إلا بنفوس فظاظ غلاظ شداد وقلوب قاسية كالحجارة متلطخة بالظلمة والسواد، لا يلينها إلا النار الآخرة التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، ولا يؤثر فيها الوعظ والنصيحة والإنذار، ولا ينجع لها تلاوة الكتاب والسنة بالدرس والتكرار، لعدم اهتدائهم بعالم آخر إليه رجعى نفوس الأخيار معدن العلوم والأنوار.
وعن بعضهم: إن الله قد أبطل قول اليهود وأظهر لهم كذبهم في هذه السورة في ثلاثة أمور: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله: { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا. وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله، فشرع الله لهم الجمعة - والله ولي الهداية والتوفيق.
[62.8]
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
في القراءة
قرأ زيد بن علي (ع): " إنه ملاقيكم " بدون الفاء، وفي قراءة ابن مسعود: " تفرون منه ملاقيكم " وهي ظاهرة. وأما التي بالفاء فلتضمن الذي معنى الشرط. وقيل: إن التقدير: قل إن الموت هو الذي تفرون منه، فجعل الذي في موضع الخبر، لا صفة للموت، ويكون " فإنه " مستأنفا، وكذلك في قراءة زيد قد جعل: إن الموت الذي تفرون منه، كلاما برأسه، أي إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه، ثم استؤنف: إنه ملاقيكم.
الإشراق الثاني
لا ينفع الفرار من الموت
قل - يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - إن الموت الذي تفرون منه - لاعتباركم بصحبة أهل الدنيا وأبنائها وشهواتها ونسائها ومالها وأسبابها وبنائها - فأنه ملاقيكم - أي إنكم وإن فررتم من الموت أو القتل بتقوية المزاج، وأكل الأغذية الجيدة والمشروبات المقوية، والتداوي بالأدوية والترياقات لدفع السموم والآفات، وتحصيل الوقايات من الأسلحة الدافعة والدروع الواقية، واتخاذ الأبنية والحصن الرفيعة والقلاع العالية الحصينة والبروج المشيدة الحارسة عن العدو - إلى غير ذلك من التدابير البشرية والحيل الآدمية لمدافعة الموت -، فإنه لا ينفعكم عند حلول الأجل المعلوم عند الله، ولا بد أن ينزل بكم الموت ويلاقيكم ويدرككم، ولا ينفعكم الهرب منه
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة
[النساء:78].
وإنما قال بالفاء وحرف التأكيد والجملة الاسمية مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، فسواء فروا منه أو لم يفروا فإنه ملاقيهم، بل ربما كان نفس الفرار من أسباب الموت، كما يشاهد في بعض مواضع الاحترازات والعلاجات الطبية والنجومية حيث يصير بعينه سببا من أسباب الوقوع فيما وقع الفرار منه. فإذا كان الفرار كالسبب في ملاقاة ما يفر منه فلا معنى للتعرض للفرار لأنه لا يباعدهم على أي وجه.
وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (ع): كل امرئ لاق ما يفر منه والأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته.
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
ولو نال أسباب السماء بسلم
ولا شك أنها تناله هابها أو لم يهبها، ولكنها ذا كانت بمنزلة السبب للمنية فالهيبة لا معنى لها.
الإشراق الثالث
في حكمة الموت
إعلم أنه قد تقرر في العلوم الكلية بيان حكمة الموت، وحكمة نفرة النفس عنه، أما حكمة الموت، فلأن كون النفس في هذه الدنيا حال نقص دون التمام، وكونها في الآخرة حال تمام، فالبقاء على حال التمام أفضل وأكمل وألذ وأشرف، كما ان حال الأبدان في الأرحام حال نقص عن التمام والكمال، وحالها بعد الولادة حال تمام وكمال كما لا يخفى على أحد، ولا يجوز في العناية الربانية إهمال شيء من الكمالات والخيرات، وعدم الإجادة به على مستحقه، فيجب بمقتضى جوده ورحمته إكمال كل ناقص بكماله اللائق بحاله.
وكما أنه لا يمكن الوصول إلى تمام الخلقة البدية في الدنيا إلا بعد تقدم حال النقص في الرحم، والجواز عليه، والخروج عنه، فهكذا حال الأرواح في تمام تكونها الأخروي ونشأتها الثانوية، فإنها لا يصل إليها إلا بعد تقدم حال النقص في رحم الدنيا والورود فيها والجواز عليها والخروج عنها ، فحال الأرواح بعد الموت على موازنة حال الأبدان بعد مفارقتها الأرحام، لأن الموت ليس معناه سوى مفارقة الروح الجسد والدنيا كما أن الولادة ليست سوى مفارقة الجسد المشيمة والرحم، فالدنيا كالرحم، والبدن كمالمشيمة، والروح كالجنين. وألم النزع كألم الولادة، وملك الموت كالقابلة، والقبر كالمهد، وفضاء الآخرة وأنوارها الإلهية والجبروتية والملكوتية بالنسبة إلى ضيق الدنيا وظلماتها الثلاث التي بعضها فوق بعض، ظلمة الهيولى وظلمة الطبيعة وظلمة النفس بدواعيها الشهوية والغضبية والوهمية، كفضاء الدنيا وأنوارها الشمسية والقمرية والسراجية بالنسبة إلى ضيق الجوف وظلماته الثلاث ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، أو ظلمات الجمادية والنباتية والحيوانية.
وأما حكمة كراهة الموت للأرواح: فإن الله - جل ثناؤه - جعل بواجب حكمته في طبع النفوس محبة الوجود والبقاء أبدا سرمدا، وجعل في جبلتها كراهة الفناء والعدم، لأن الوجود خير محض مؤثر عند الكل، فيحبه كل أحد ويبغض زواله، والموت يزيل هذا الوجود الدنيوي، فيكون مكروها. هذا هو السبب الفاعلي، وأما السبب الغائي وحكمته، فلتحرص النفوس بطباعها وغرايزها على حفظ البقاء وتهرب عن الأضداد والمفسدات قبل بلوغها إلى درجة الكمال.
وهاهنا وجهان آخران:
أحدهما: أن الباري جل مجده لما كانت ذاته بذاته علة الموجودات ومقوم الحقائق ومقيم الكائنات وممسك السموات والأرض، وهو باق أبدا، صارت الموجودات كلها تحب البقاء وتشتاق إليه لأنه صفة موجدها وعلتها والمعلول يحب علته وصفاتها ويشتاق إليها، فمحبة البقاء وكراهة الفناء من فروع محبة الباري جل ذكره، فمن أجل هذا قال الحكماء الأقدمون والعرفاء المحققون: إن الباري جل ثناؤه هو المعشوق الأول، تشتاقه ساير الخلايق جبلة وفطرة، ويدور عليه الكل طبعا وإرادة.
وثانيهما: أن أكثر النفوس لا تدري بأن لها وجودا خلوا عن الأجسام، فتتوهم أن الموت فناء الذات بالكلية.
قيل: لم لا يلهم الله النفوس بأن لها وجودا مستقلا ولا حاجة فيه إلى هذا البدن؟
قلنا: لأنه لا يصلح لها العلم بهذه المعاني، إذ لو علمت لفارقت أجسادها قبل أن تتم وتكمل، أو تهاونت في تدبيرها كما ينبغي فأدت الأجساد إلى الفساد قبل استعداها للمعاد، وهذا مما يبطل حكمة الإيجاد.
وأيضا: إذا فارقت النفوس الأجساد قبل ذلك، بقيت فارغة معطلة بلا شغل وعمل، ولا معطل في الوجود، والحكمة تقتضي أن لا يكون شيء من الموجودات مهملا معطلا، كما أن الباري - جل ذكره - لم يخل أبدا من تدبير وصنعة حتى يكون فارغا بلا تدبير وإفاضة، بل كل يوم هو في شأن.
فظهر أن الموت لا بد وان يلاقيه الإنسان من جهة القضية الربانية مع كونه مكروها تفر وتنفر منه النفوس بحسب ما هو مركوز في غرايزها من جهة التدبير الإلهي، ولذلك سلط عليها دواعي هي أسباب دوامها الدنيوي، وهي بعينها أسباب عطبها وهلاك هياكلها وشقاوة نفوسها، وهذا من عجائب حكمة الله في هذا العالم، حيث يكون سبب البقاء بعينه سبب الهلاك والشقاوة، وتلك الأسباب والدواعي المسلطة هي مثل الجوع والعطش والشهوات المختلفة والأشواق واللذات الزايلة.
أما قصد الباري في تكوين الجوع والعطش وتسليطهما على النفوس، ليدعوها إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموسات الصالحة بدلا عما يتحلل منها ساعة فساعة، ليبقى بها الشخص والنوع، إذ كانت أجسامها دائما في التحلل والذوبان والسيلان.
وأما الشهوات المستولية، فلأن يدعوها إلى الأغذية الجيدة والمأكولات المختلفة الموافقة لامزجة أبدانها، وما تحتاج إليه طباعها مدة الكون.
وأما اللذة: فلأن يكون ما يأكل ويشرب بقدر الحاجة ولا يزيد ولا ينقص، وأما الذي يعرض لها من الآلام والأوجاع عند الأمراض والعاهات العارضة لأجسادها فلأن تحرص النفوس على حفظ أجسادها من الآفات لتبقى إلى وقت معلوم ولا تفسد قبل بلوغ النفس إلى كمالها اللائق بحالها، فإن استكمالها بالعلم والعمل، وبلوغها إلى درجة العقل والمعقول بالفعل، إنما يحصل بآلات البدن واستعمال حواسه الظاهرة والباطنة مدة مديدة، ولذا قيل: " من فقد حسا فقد علما ".
الإشراق الرابع
لمية لحوق الموت الطبيعي
إعلم أنا بينا في بعض فصول أسفارنا علة لحوق الموت الطبيعي لكل نفس منفوسة بوجه تحقيقي غير ما اشتهر في الكتب الطبيعية والطبية، واستنبطنا ذلك من بعض الآيات القرآنية حسبما ألهمني الله، وأثبتناه بالبيان البرهاني على نهج الحكماء الإلهيين، لا بالبيانات التي هي مسلك الأطباء والطبيعيين.
وحكاية القول فيه: أن في جبلة النفوس بل المكونات العنصرية كلها الترقي من حال إلى حال، والتدرج إلى كمال بعد كمال، والتوجه والسير الحثيث إلى المبدأ الفعال والقيوم المتعال، وهذا أمر مشاهد في النبات والحيوان فضلا عن الإنسان، وقد أقيم في مواضعه عليه البرهان.
أو لا ترى أن النفس الإنسانية منذ أول تكونها النطفي قبل حين تكونها النطقي، كانت لها قوة قابلة هيولانية شبيهة بالعدم، كما قال تعالى:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا
[الإنسان:1]. ثم دخلت في دائرة النبات، ثم في دائرة الحيوان، ثم ظهرت منها آثار البشرية حتى بلغ غاية النمو وكمال الخلقة حين أشدها الصوري، فصارت قوية القوى الشهوية والغضبية.
ثم إذا جاوزت عن وقت بلغ غاية النمو فشرعت في الذبول الخلقي والفتور البدني، ولم يكن منشأ ذلك آفة خارجية وردت عليها، أو قصور عرض لها في حين حركتها نحو الكمال.
وقد علمت أن الفائض من المبدأ الحق ليس إلا خيرا وكمالا، لا عدما وشرا، واستدعاء القابل منه ليس إلا البقاء والدوام لا الذبول والفساد، بل منشؤه توجه الطبيعة النفسانية نحو نشأة ثانية، وسلوكها مسلكا آخر إلى عالم آخر، كما سننبه عليه تنبيها يليق بهذا الموضع.
وأما حديث تناهي القوى الجسمانية في فعلها وانفعالها، وكلال الآلات عن تمادي الحركات والتغيرات إلى ما لا نهاية، فهو إنما يصدق فيما تكون الأفعال والانفعالات صادرة عنها على الاستقلال، وأما على سبيل الاستمداد عما هو أرفع منها فيحتمل اللانهاية كما حركات الأفلاك على رأيهم.
وأما حديث قصور مزاج الغذاء الذي يصير بدلا عما يتحلل بحسب الكيفية عن مزاج أصل البدن من جهة نقصان مراتب الهضم والتعديل فيه عن مراتبهما في مادة البدن بمرتبة واحدة، وذلك لأن النطفة مما وردت عليه خمسة هضوم وتعديلات: أحدها في المعدة. والثاني في الكبد، والثالث في العروق. والرابع عند الأعضاء، والخامس في أوعية المني مثل الأنثيين والرحم. بخلاف الغذاء، فإنه يقصر عن المني في تلك المراتب بمرتبة واحدة أخيرة، وهي التي يصير المني بها تام الاستعداد لقبول الصورة الحيوانية، فلا يكاد فيما يزيد منها على البدن لما ينقص من الأعضاء عنه، فلهذا يعرض الفناء، فهو أيضا أمر تخميني مبناه على الظنون والترجيحات الخيالية - لا على المقدمات الاضطرارية البرهانية - والبرهان هو المتبع.
قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
[البقرة:111والنمل:64].
وأما حكاية النجوم وأحكامها في باب مقادير الأعمار: فأكثرها مجازفات وتخمينات.
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا
[يونس:36].
بل الحق الحقيق بالتصديق: أن الطبيعة بحسب ما أودعه الله في جبلتها إذا جاوزت النوع الأخس - وقد بقيت بعد - فلا بد وأن تتخطى النوع الأشرف، وإلا لكانت معطلة لا معطل في الوجود. وقد تقرر أيضا في العلوم الإلهية أن الطبيعة العنصرية ما لم يوف النوع الأخس لم يتجاوز منه إلى النوع الذي فوقه.
ثم لا شبهة في أن الإنسان بحسب كمال خلقته البدنية أشرف الأنواع الحيوانية، لكونه تام الحواس مع قوتين آخريين يخصان به، وهما نظرية وعملية، فمعلوم أن طبيعته قد تجاوزت عن جميع الحدود المترتبة التي في سائر الحيوانات، بعدما تجاوزت عن سائر الدرجات النباتية المتجاوزة عن الجمادية والجسمية والجوهرية المطلقة والشيئية العامة، وهي بعد في الحركة المعنوية، ولم يبق من الصور والأنواع الممكنة في عالم الطبيعة والنشأة الدنيوية إلا وتجاوزت عنه متوجهة نحو غيره، فلا بد من توجهها ورجوعها إلى عالم الآخرة عند الله، سواء كانت سعيدة مسرورة أو شقية مخذولة معذبة منكوسة، لأن هذه الحركة من النفس ليست اختيارية بل اضطرارية جبلية.
فالموت الطبيعي عبارة عن تجاوز الطبيعة الإنسانية عن مراتب الاستكمالات الحيوانية المناسبة لها في هذه الدار، وهي عالم الشهادة، إلى أول نشأة تكون لها في الدار الآخرة وعالم الغيب.
فهذا هو السبب البرهاني اللمي لعروض الموت، كما أن ما ذكرناه أولا هو السبب الغائي له. فافهم واغتنم، فانه مع كمال وثاقته وقوته ووضوحه وجلائه ربما خفي على الأذهان القاصرة الغير المناسبة لمطالعة المبادئ الإشراقية وأخذ النتائج المطلوبة منها، لاعتيادها بالتلقف والاكتساب عن المبادئ التقليدية الحسية - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم -.
تذكرة تمثيلية
يجب الاستغناء عن البدن قبل خرابه
إن معنى الموت في الحقيقة يرجع إلى ترك النفس اسعمال الجسد، لأن البدن للنفس بمنزلة الدكان للصانع، والأعضاء بمنزلة الآلات، فإذا كلت آلات الصانع أو انكسرت أو خرب الدكان وانهدم بناؤه فإن الصانع لا يقدر على عمل شيء من الصنعة إلا أن يجدد دكانا آخر وأدوات متجددة أخرى.
فكل صانع حكيم، إذا فكر في أمره، ونظر في عواقب عمره، علم بأنه لا بد وأن يخرب يوما دكانه، وتكل أدواته، وتضعف قوة بدنه، وتذهب أيام شبابه، فمن بادر واجتهد قبل خراب الدكان وكسر الآلات وذهاب القوة، واكتسب مالا يغنيه عن الدكان واستغنى عن السعي، فإنه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكان آخر وأدوات أخرى مجددة، بل يستريح من العمل ويتسقل بالتمتع والالتذاذ بما كسب وادخر، فهكذا تكون حال النفوس الفاضلة بعد خراب أبدانها وعطب أجسامها.
فتفكر - يا مسكين - وبادر واجتهد وتزود قبل خراب هذا الدكان وفساد الآلات، فإن خير الزاد التقوى.
شك وتحقيق
حكمة بقاء النفوس الكاملة في الدنيا
إن قيل: ما العلة في بقاء النفوس الكاملة المجردة بذاتها المتسغنية عن البدن وقواه مدة في هذه الدار، مع ما يعتري اصحابها من المحن والآلام، وما يحلقهم من الأوجاع والشدائد وعداوة الجهال وفتنة الأشرار؟
يقال: الحكمة في ذلك كون تلك النفوس مشغولة بتدبير النفوس الناقصة المتجسدة كيلا تتم هذه وتتخلص من النفس، وتكمل تلك وتصير فوق التمام وبالغة إلى كمال بعد الكمال، والى حال أشرف وأعلى من ذلك الحال
وأن إلى ربك المنتهى
[النجم:42].
والمثال في ذلك: الأب الشفيق والأستاذ الرفيق في تعليم التلامذة والأولاد وإخرجه إياهم من الظلمات والجهالات إلى فسحة العلوم والمعارف ليتمون هؤلاء ويكمل أولئك الآباء والأساتذة ويخرجوا ما في قوة نفسهم من العلوم والصنايع والحكم إلى الفعل والظهور اقتداء بالباري سبحانه، وتشبها بالحكيم الأول في حكمته وجوده، إذ هو السبب في إخراج الموجودات من القوة والبطون إلى الفعل والظهور، فكل نفس هي أكثر علوما وأحكم صنعة وأجود عملا، وعلى غيرها أكثر إفاضة وجودا وإفادة، فهي أقرب إلى الله نسبة وأشد تشبها.
وهذه أولا هي مرتبة الملائكة الذين
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6]
يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب
[الإسراء:57].
ولهذا قال أئمة الحكمة القديمة في تعريفها: إنها هي التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية.
وفي الحكمة المحمدية - على الصادع وآله أفضل التقديسات والتسليمات -: تخلوا بأخلاق الله. يعني من تكون علومه حقيقية وصنائعه محكمة وأعماله صالحة صافية من الغش والدغل، وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة وفيضه على من دونه متصلا فهو من أولياء الله المؤمنين المقربين منه وأحبائه المزدلفين لديه.
الإشراق الخامس
التوحيد الأفعالي
في قوله تعالى: { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة }.
إعلم أنه قد وقعت نسبة قبض الأرواح وجذب النفوس وردها إلى عالم الآخرة تارة إلى الله تعالى كما في قوله:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42]. وتارة إلى بعض ملائكة الله المقربين كما في قوله تعالى:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة:11] وتارة إلى رسل الله كما في قوله تعالى:
توفته رسلنا وهم لا يفرطون
[الأنعام:61]. وتارة إلى النفس ذاتها كما في قوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر:27 - 28]. وتارة لم ينسب إلى فاعل معين وقابض معلوم كما في هذه الآية، ونحن قد ذكرنا في تفسير سورة يس ما يستفاد منه وجه في تعدد هذه النسبة وتكثر المبادئ في هذا الفعل، فليرجع إليه من أراد ذلك، ولكن لا نسكت هنا عن ذكر شيء يسير من المقال يشير إلى لمية الحال.
فنقول: إن بين الذات الأحدية الإلهية وبين كل موجود طبيعي أمور متوسطة هي أسباب تحققه ووسائط تكوينه، ومنها ما هو أسباب جذب الأرواح والنفوس من أسفل سافلين، كما أنها بعينها أسباب وجودها وورودها من أعلى عليين.
فأولها اسم الله القابض في العالم الإلهي، ثم الملك المقرب الذي يجذب الأرواح في عالم القدس، ثم نفوس رسل الله وهم الدعاة إلى الله، ثم النفوس المطمئنة الراجعة إلى ربها راضية مرضية في عالم النفوس، ثم الطبيعة الإنطباعية في عالم الطبائع، وإن كان لكل إنسان قوة محركة جاذبة للجسم الغذائي الترابي إلى درجة الطبيعة النباتية، وله قوة أخرى حيوانية فاعلة للحس والحركة الإرادية بجذب لطائف الأخلاط إلى أفق الأرواح البخارية، وله قوة نطقية فوق القوة الحيوانية تجذبها إلى مرتبة النفس النطقية، وفوقها قوة نبوية تدعو النفس النطقية جاذبة إلى عالم الملكوت الغيبية، وفوقها قوة جبرئيلية ترافقها وتصعد بها إلى عالم الربوبية، والله سبحانه بقوته التي تمسك السموات والأرض أن تزولا فوق الكل،
وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة
[الأنعام:61] ويقبض الكل باسمه " القابض "
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة
[الزمر:67].
فللإشارة إلى هذه المراتب المقتضية لقبض الأرواح وجذب النفوس إلى الله تعالى، وقعت نسبة الترقي تارة إلى الله تعالى، وتارة إلى الملك الروحاني، والى ملائكة هي دونه في الرتبة، وتارة إلى رسل الله، وتارة إلى النفس، وتارة إلى الطبيعة المسخرة - كما في هذه الآية -، تنبيها على اختلاف هذه النشآت، وتعدد العوالم، وتفاوت الدرجات للإنسان.
لكن يجب على الناظر المتأمل أن يعلم مما أكثرنا ذكره وكررنا إثباته في توضيح أسرار بعض الآيات، أن كل فعل إذا نسب إلى الباري القيوم يكون بالحقيقة لا بالمجاز، وإن نسب إلى ما سواه يكون بالمجاز، وذلك لأن الأسباب مستهلكة الذوات والمهيات عند مسببها، فإذا سمعت مثل قوله تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر:42]، فاحمله على الحقيقة في التوفي، وإذا سمعت مثل قوله:
قل يتوفاكم ملك الموت
[السجدة:11] فاحمله على المجاز.
فالكامل في العرفان من كان في حدقة عرفانه نوران: نور التوحيد، ونور الحكمة. ولا يطفئ أحدهما نور الآخر، فبأحد النورين ينظر إلى توحيده تعالى، وبالنور الآخر ينظر إلى حكمته في ترتيب الأسباب للمسببات، ويرى كثرة صور الأعيان التي هي مظاهر الأسماء في وحدة وجوده وفيض جوده.
وأكثر الناس ممن يشغلهم شأن عن شأن، فمنهم من راعى جانب التوحيد في الأفعال فأهمل رعاية الحكمة والترتيب، كالأشاعرة المنكرين للقول بالعلة والمعلول وترتيب الأسباب، أو لم يتدبروا في خلق السموات والأرض وما بينهما من عجائب الحكمة وبدائع الفطرة، وقد قال سبحانه:
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين
[الدخان:38]. وقال تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون * من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون
[الأعراف:185 - 186].
فهذه الآية ناصة على وجوب النظر في المسائل الحكمية على من وفق له، ومنهم من راعى جانب الحكمة في إثبات والوسائط، لكن أهمل جانب التوحيد الأفعالي، وصارت رؤية الأسباب القريبة حجابا له عن رؤية مسبب الأسباب، وهذا كالمعتزلة المثبتين للعبد قوة مستقلة.
وأما الذي تزين به محققو الإسلام وحكماء شريعة سيد الأنام - عليه وآله السلام - وهم الراسخون في علم القرآن، والعالمون بتأويل الأحاديث، فهو الجمع بين التوحيد والشريعة الحكمية، ولأجل هذا الجمع والتوفيق نسب الله الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة أو العباد، ومرة إلى نفسه، فقال في القبض تارة
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة:11] وتارة: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [الزمر:42] وتارة:
ارجعي إلى ربك
[الفجر:28] وقال في باب الحراثة:
أفرأيتم ما تحرثون
[الواقعة:63]. ثم قال:
أنا صببنا المآء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا
[عبس:25 - 28]. وقال في باب نفخ الأرواح في الأجساد مرة:
فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا
[مريم:17]. ومرة:
فنفخنا فيه من روحنا
[التحريم:12] ومرة:
فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله
[آل عمران:49].
وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصف ملك الأرحام:
" إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده، ثم يصورها جسدا فيقول: يا رب أذكر أم انثى أسوي أم معوج؟ فيقول الله ما شاء، ويخلق الملك ".
وفي لفظ آخر: يصور الملك فيها الروح بالسعادة والشقاوة. وقال بعض السلف: إن الملك الذي يقال له الروح، هو الذي يولج الأرواح في الأجسام، وإنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحا يلج في جسم، ولذلك سمي روحا.
وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته فهو حق يشاهده أصحاب القلوب ببصائرهم، وهذا بعينه كحال المتكلم بالكلام الحكمي، حيث إن كل نفس من أنفاسه يفيد معنى عقليا يلج في تشكل كلامه، وكذلك ذكر الله في القرآن الآيات الدالات على وجوده ووحدانيته، مثل قوله تعالى:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب
[آل عمران:190].
ومثل قوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53]. فنسب الدلالة على وجود ذاته، والشهادة على وحدانيته إلى الموجودات الآفاقية والأنفسية، ثم قال:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53].
وقال أيضا:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران:18]. فبين أنه الدليل على نفسه.
وليس ذلك بمتناقض، بل طرق المعرفة مختلفة، بعضها من جهة الحكمة والترتيب في النظام، وبعضها من جهة التوحيد وأحدية الجمع، فكم من سالك عرف ذاته بوسيلة النظر إلى الموجودات، وكم من طالب عرف بالنظر إليه كل الموجودات، فقال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي، وهذا بعينه مسلك الصديقين، والأول مسلك ذوي الأنظار.
وأيضا قد وصف الله نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوض الموت والحياة إلى ملكين. ففي الخبر:
" إن ملك الموت وملك الحياة تناظرا فقال ملك الموت: أنا أميت. وقال ملك الحياة: أنا أحيي الأموات. فأوحى الله إليهما: كونا على عملكما وما سخرتما له من الصنع، فأنا المحيي والمميت، ولا محيي ولا مميت سواي ".
فالمحقق العارف هو الذي ينشكف له بنور معرفته أن لا قوام للأشياء عنده بأنفسها، وإنما قوامها بغيرها، فهي باعتبار أنفسها باطلات الذوات هالكات الهويات والإنيات، وإنما حقيتها بغيرها لا بأنفسها من حيث هي هي، فإذا لا حق عند المحقق المحق إلا الحق القيوم الذي ليس كمثله شيء، فهو القائم بذاته، وكل ما سواه قائم بقدرته، فهو الحق وما سواه باطل.
ولما جرى هذا المعنى لسان بعض الأعراب قصدا واتفاقا صدقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أصدق بيت قال الشاعر قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
فكل شيء هالك إلا وجهه
الإشراق السادس
المحيي هو المميت
لما علمت أن للإنسان مراتب مختلفة في الوجود، لتحصيل كل مرتبة أسباب وعلل أوجدها الله تعالى، فاعلم أن محصل كل مرتبة عالية للإنسان بالذات، مستتبع لزوال مرتبة دانية له بالعرض والتبعية، فمحيي الإنسان في كل نشأة هو مميته في النشأة المتقدمة عليها، ولذا قيل لقابض الروح أنه ملك الموت نظرا إلى هاتين الجهتين، ويسمى بأبي يحيى على الرسم، لا من باب تسمية الشيء باسم ضده كما هو عادة العرب، وأما نسبة الإحياء إلى ملك آخر غير ملك الموت كما سبق، فذلك التعدد بالقياس إلى وجود مرتبة ونشأة وعدم مرتبة ونشأة أخرى.
الإشراق السابع
في لمية توجه الروح الإنساني إلى الله سبحانه
إن من الحكمة البالغة والنعمة السابغة، أن الله قد جمع في سنخ حقيقة الإنسان ما أفرد به الملائكة المقربين والحيوانات المبعدين، فضلا عما خص به غير هذين الجنسين من العالمين أجمعين.
فمن ذلك أنه تعالى أفرد الملك بنور روحاني علوي باق أبدي، لأنه نور من أنوار الله وسر من أسرار الله، وأفرد الحيوانات بروح سفلي فان ظلماني، فأفرد الإنسان بالتركيب بين الروحين فيه: فان حيواني وباق ملكي، فالحكمة في ذلك أن الروح الملكي غير متغذ ولا نام، وإنما بقاؤه بالتسبيح والتقديس، وهما بمثابة النفس للحيوان، ولهذا ليس للملك الترقي من مقامه لقوله:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات:164].
والروح الحيواني قابل للترقي لأنه متغذ، فجعل الإنسان مركبا من الروحين لتنطبع روحه الملكي بطبع روحه الحيواني في التغذي وقبول الفناء الذي يعبر عنه بالموت، ليصير مترقيا كالحيوان، قابلا لأن ينتقل من هذه الدار إلى دار البقاء، مترقيا إلى العالم الأعلى، وينطبع روحه الحيواني بطبع روحه الملكي ليصير مسبحا ومقدسا كالملك، باقيا بعد المفارقة، عارفا بالله - بخلاف الحيوانات -.
ولكن من اختصاص الروح الحيواني بالتغذي، أن يجعل الغذاء من جنس المتغذي ولونه وصفته. ومن اختصاص الروح الإنساني أن يكون متلونا بلون الغذاء ومتصفا بصفته، وذلك لأن غذاء الروح الحيواني الطعام والشراب، وهما من الجماد والنبات، والحيوان المذبوح المطبوخ، وفيها الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة مركوزة بالطبع، والروح الحيواني غالب عليهما ومتصرف فيهما يجعلهما من جنس المتغذي، وغذاء الروح الإنسان ذكر الله وطاعته والشوق إلى جنابه، والمحبة إلى لقائه، كما قال الله تعالى في أواخر هذه السورة:
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون
وقوله:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد:28].
وأمثال ذلك وفيه النور والجذبة الإلهية، وهما غالبان عليه، فالروح يتجوهر بجوهرهما وفي تجوهره بتجوهر الروح الرباني نوع من الفناء عن وجوده والبقاء بنوريته، فهو بمثابة ميت ذاق الموت ثم أحيي بنور ربه، كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام:122].
وقد انشكف هذا المعنى لبعض الحكماء السابقين كفرفوريوس مقدم المشائين - وهو أعظم تلامذة أرسطاطاليس الحكيم - حيث ذهب إلى أن النفس الإنسانية ستصير بعد إحكام نور المعرفة عين النور العقلي الذي هو بذاته عقل بالفعل وفاعل للمعقولات التفصيلية.
وظاهر أن النفس ما لم تفن عن نشأتها النفسانية لم تتحد بالعقل الفعال المنور لما في الدار الآخرة من الصور والماهيات، فهذا الفضاء الذي استحق به الروح الإنساني الإحياء الأخروي بنور الله، إنما استفاده بسبب النفس الحيوانية التي هي ذائقة الموت وقابلة الفناء، فافهم واغتنم فإنه عزيز الجدوى.
الإشراق الثامن
ظهور صور الأعمال والملكات في الآخرة
إن قوله تعالى: { فينبئكم بما كنتم تعملون } إشارة إلى ظهور صور الأعمال والأخلاق يوم القيامة، فإن الناس يحشرون يوم القيامة على صور نياتهم، وهيئات ضمائرهم، وأشكال أخلاقهم وصفاتهم الحاصلة من تكرر الأفاعيل، والمعاملات المؤثرة في القلوب إنارة وإظلاما فإن الأعمال هنا بمنزلة الحراثة والزراعة وطرح البذور في أراضي القلوب، والنيات والاعتقادات المستورة فيها بمنزلة البذور، ومدة الكون في الدنيا كمدة الشتاء التي تحتجب الأرض فيها عن الشمس عن سمت رؤوس أهلها ، فإذا ارتفع النهار واشتدت حرارة الشمس وقت الربيع يظهر ما كمن في باطن الأرض من البذور وتحصل الأزهار والأثمار، وانكشف ما ستر في بواطن الأشجار من الأنواع المختلفة والألوان المتضادة، فتكون كل ثمره مناسبا لحبه وبذره ويكون بعضها حلوا وبعضها مرا وبعضها حامضا، وبعضها ترياقا نافعا وبعضها سما ناقعا.
فهكذا يكون الحال يوم قيام الساعة وطلوع شمس الحقيقة من مغربها، وعند ذلك يكون حشر الحقائق:
وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا
[الكهف:47]. وبروزها للحق تعالى:
وبرزوا لله الواحد القهار
[إبراهيم:48]. وظهور بواطنها وسرائرها:
يوم تبلى السرآئر
[الطارق:9]. ويكون الحشر لهم على أنحاء مختلفة فلقوم على سبيل الوفد:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85]. ولقوم على سبيل الوهن والعذاب:
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا
[مريم:86]
ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار
[فصلت:19]. وقوم يساقون على وجوههم كالحيوانات المؤذية.
وبالجملة، كل أحد يحشر إلى ما يعمل لأجله ويحبه، كما يدل عليه مثل قوله تعالى:
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء:84]. وقوله:
فوربك لنحشرنهم والشياطين
[مريم:68]. حتى أنه لو أحب أحدكم حجرا لحشر معه - كما ورد في الحديث -، ولا شك أن المحشور مع الحجر كان من جنس الحجر. وفيه سر غامض.
وبالجملة إن أفاعيل الأشقياء المدبرين المتوقفين بحسب هممهم القاصرة عن الإرتقاء إلى عالم الملكوت في البرازخ الحيوانية وما دونها بأعمال يناسبها، فلا جرم تكون تصوراتهم مقصورة على أغراض شهوية أو غضبية، أو محبة أجساد جمادية كالذهب والفضة والياقوت فيحشرون على صور تلك الحيوانات، وما هو أنزل منها في الدار الآخرة كما دل عليه قوله تعالى:
وإذا الوحوش حشرت
[التكوير:5] وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير ".
وربما يتصور بعضهم في هذه الدار بصورهم الحقيقية الأخروية لأهل الكشف والشهود وذلك لغلبة سلطان الآخرة على بواطنهم.
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
[الروم:24]
[62.9]
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
في اللغة والقراءة
قال الشيخ أبو علي الطبرسي (ره): " الجمعة " و " الجمعة " لغتان وجمعهما " جمع " و " جمعات " ، قال الفراء: وفيه لغة ثالثة: " جمعة " - بفتح الميم - كضحكة وهمزة.
وفي الكشاف: يوم الجمعة يوم الفوج المجموع كقولهم: " ضحكة " للمضحوك منه. ويوم الجمعة - بفتح الميم - يوم الوقت الجامع كقولهم " ضحكة " و " لعنة " و " لعبة " ، ويوم الجمعة تثقيل للجمعة كما قيل: عسرة في عسرة، وقرئ بالوجود الثلاثة.
و " من " بيانية مفسرة ل " إذا ".
و " النداء " الأذان. وقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤذن واحد، وكان إذا جلس على المنبر أذن المؤذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، وكان ذلك مستمرا إلى زمان عثمان، فكثر الناس، وتباعدت المنازل، فأحدث الأذان الثاني، فزاد مؤذنا آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام الصلاة.
وإنما سميت جمعة لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء، فاجتمعت فيه المخلوقات. وفيه سر سنشير إليه.
وقيل: لأنه تجتمع فيه الجماعات.
وقيل: إن أول من سماها جمعة كعب بن لؤي، وهو أول من قال: " أما بعد ". وكان يقال لها " العروبة " - عن أبي سلمة -.
وقيل: أول من سماها جمعة الأنصار، وذكر ابن سيرين: جمع أهل المدينة قبل قدوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول هذه السورة، فقالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلي. فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة.
فاجتمعوا إلى سعد بن زارة فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل آية الجمعة، فهي أول جمعة كانت في الإسلام.
وأما أول جمعة جمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أنه لما قدم المدينة مهاجرا، نزل قبا على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، فخطب وصلى الجمعة.
الإشراق الثاني
في فضل يوم الجمعة
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
" أتاني جبرئيل وفي كفه مرآة بيضاء، وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولامتك من بعدك. وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن لله في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار ".
وفي الحديث:
" إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب، يكتبون الأول فالأول على مراتبهم ".
قيل: كانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج.
وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة.
وعن أبي جعفر (ع) يقول: ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة.
وروى سهل بن زياد عن أبي بصير، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ان يوم الجمعة سيد الأيام يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه الدرجات ويستجيب فيه الدعوات وتكشف فيه الكربات، وتقضي فهي الحوائج العظام وهو يوم المزيد لله فيه عتقاء وطلقاء من النار ما دعا الله فيه أحد من الناس وعرف حقه وحرمته إلا كان حقا على الله أن يجعله من عتقائه وطلقائه من النار، فإن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا وبعث آمنا، وما استخف أحد بحرمته وضيع حقه إلا كان حقا على الله عز وجل أن يصليه نار جهنم إلا أن يتوب ".
وفي فضله أحاديث كثيرة، وفيما نقلناه كفاية للمستبصر.
الإشراق الثالث
في الحكمة المتعلقة بالنداء - أي الأذان -
إعلم أنه لما كان كل واحد من الأوضاع الشرعية مشتملا على سر إلهي نوري كاشتمال الإنسان المكلف به على لطيفة ربانية نورية، ليكون له قربة إلى جناب الحق، ووصلة إلى رضوانه، ومناجاة له، ومن جملة تلك الأوضاع: الأذان، فشرع قبل الصلاة ليتنبه ويعرض عن غير الله، ويتوجه بشراشر قلبه وسره إلى جناب القدس ليتأهل لمناجاة الحق، لأن الإنسان متغير عما هو عليه حالا بعد حال، متعرض للانتقال والزوال، ليس له قوة الثبات على أمر، ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جلالة قدره وعلو سره، يؤمر بالثبات والاستقامة، ويسأل الثبات على الدين والطاعة، فكأن شرع الأذان موجبا لانتباه النفوس الراقدة، معدا لأن تتأهل النفس لذكر الله، لأنه معراج المؤمن، وذكر العبد لله مستلزم لذكر الله العبد، كما قال تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152].
وفي الحديث القدسي:
" من ذكرني في خلاء ذكرته في خلاء ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ".
ومعلوم أن من ذكر الحق فقد جالسه، لقوله تعالى: أنا جليس من ذكرني.
ومن جالس من ذكره وهو ذو بصيرة رأى جلسيه وشاهده، ومن شاهده فقد أدركه، وهذا غاية مطلب الصديقين، ومآل حال أهل الله
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد:28].
ثم الأذان مجمع صفات الجلال والإكرام، وأول أجزائه: الله أكبر، وهو إيذان بأن الله أكبر من جميع الأشياء، بل هو أكبر من أن تنسب إليه هذه النسبة، فإن الكبرياء رداؤه، والعظمة إزاره، ووظيفة السامع من استماع هذه الكلمة الرجوع إلى الله تعالى، ورفض ما سواه الذي هو ظله، لأن الوجود كله لله من حيث ذاته ومن حيث أسمائه الحسنى ومن حيث أفعاله لا وجود لما سواه.
ولما كانت النوبة الأولى لم تثبت النفوس المشتغلة المادية غالبا، شرع التكرار لاثبات معنى الألوهية الجامعة لجملة الأسماء والصفات في مرآة النفس الناطقة.
ثم كلمة الشهادة، التي هي كالعنوان لما حصل في النفس من معنى الجزء الأول من التصديق الذي هو عمل القلب، والجزء الأول يشير إلى اثبات الواحد الحق، والثاني يشير إلى نفي شريكه، وقد علمت مما سبق إليك في التعاليم، أن الإيمان بالله يجعل للنفس استعداد لقبول الفيض الإلهي الموجب للقربة والزلفى، وينقي النفس عن المضار الدنيوية والأخروية - على ما بين فيما سبق من تفسير آية النور -، أن كلمة التوحيد بمنزلة المصقلة في إزالة ظلمة الرين والطبع عن مرآة القلب.
ثم عقب بالكلمة الثالثة المشيرة إلى الاعتراف برسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحصل لهم بذلك التزام أوامره ونواهيه، وقد علمت الاحتياج إلى وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مرت إليه الإشارة من أن الناس صنفان: صنف يستوي عندهم المعقول والمحسوس - وهم الأنبياء -، وصنف لا يتعدى نظرهم عن عالم المحسوس - وهم أكثر الخلق - فلا بد لهم من مرشد يرشدهم إلى ما لا يهتدى إليه بالحس بل بالعقل، فإن للنبوة طورا وراء طور لا يدرك إلا بالكشف الشهودي، وليس لكل عبد أن ينال درجة النبوة، بل رتبة الولاية، فإن جناب الحق جل عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحدا بعد واحد.
على أن النبوة قد ختمت بنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه في أعلى مرتبة العلم والحكمة، وله الدرجة العليا والزلفى، وقد طلب إبراهيم الخليل (ع) في دعائه عن الله تعالى بعثة منه في ذريته، حيث قال تعالى حكاية عن دعائه:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم
[البقرة:129].
ثم ذكر بعد كلمتي الشهادة دعوة الخلق إلى مناجاة الحق، وطلب الوقوف بين يدي الرب سبحانه للدعاء والصلاة الموجبة للفلاح - وهو إدراك المنية والبغية، إما في الدنيا، كالسعادة التي يطلب بها حياتهم في دنياهم، وإما في العقبى، وهو بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل -
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت:64].
ثم إنه ختم بما بدأ منه، إشارة إلى استغنائه عن الجميع - فإن الله غني عن العالمين -، والأمر كله منه ابتداؤه، وإليه انتهاؤه، وإليه يرجع الأمر كله، وهو المقصود الأول والمرتجى وإليه الرجعى - كما قيل:
محرك الكل أنت القصد والغرض
وغاية مالها مرمى ولا غرض
من كان في قلبه مثقال خردلة
سوى جلالك فاعلم أنه مرض
واعلم أن سر الإقامة قد علم مما سبق ، ونذكر فيها نكتتين:
الأولى: الإفراد ليكون أسرع إلى المراد هو الصلاة وفيه إشارة إلى طلب زيادة الإخلاص والخشوع والتواضع لقربه من الوقوف بين يدي الله.
والثانية: زيادة لفظ " قد قامت الصلاة " للدلالة على أن ذكر الله قائم على باطن كل نفس، فيجب أن يكون الظاهر موافقا للباطن والعلانية حاكية عن السر.
الإشراق الرابع
في الحكمة المتعلقة بوجوب الصلاة يوم الجمعة
اعلم أنه لما اقتضت الأسماء الحسنى الإلهية ظهور آثارها جميعا في المظاهر الكونية، لئلا يتعطل طرف من الألوهية، ظهرت من نوع الإنسان الذي أوجده لأجل العبادة، كما أشار إليه بقوله:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56]. وطبائع أكثر الناس مجبولة على العدول عن منهج الحق، والانحراف عن سنن العدل، كما أشار إليه بقوله:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ:13] وقوله:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103] وقوله:
وأكثرهم للحق كارهون
[المؤمنون:70]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وقد تقرر هذا البيان بنيانه في كثير من الأحاديث القدسية مثل قوله تعالى:
" كلكم ضال إلا من هديته فاسألوني الهدى اهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من غفرته فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي ".
فلو أن الناس أهملوا وطبائعهم، وتركوا سدى، وخلي بينهم وبين طبائعهم لتوغلوا في الدنيا وانهمكوا في اللذات الجسمانية، وطلبوا دواعي القوى الظلمانية لضرواتهم بها واعتيادهم من الطفولية والصبا، حتى زالت استعداداتهم، وانحطوا عن رتبة الإنسانية فمسخوا ومثلوا بالبهائم والسباع كما قال تعالى:
وجعل منهم القردة والخنازير
[المائدة:60].
وإن حوفظوا ودعوا بالسياسات الشرعية والعقلية والحكم والآداب والمواعظ الوعدية الوعيدية، ترقوا من حد البهيمة، وتنورت بواطنهم بنور الملكية، كما قال الشاعر:
هي النفس إن تهمل تلازم خساسة
وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج
فلهذا وضعت العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة لتزول عنهم بها درن الطبائع المتراكمة في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتخاذ اللذات، وارتكاب الشهوات، فتتنور بواطنهم بنور الحضور، وتتنقش قلوبهم بالتوجه إلى الحق عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتستريح بروح الروح وحب الوحدة عن وحشة الهوى وتفرق الكثرة.
كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما من الصغائر ما اجتنبت الكبائر ".
ألا ترى كيف أمرهم عند الحدث الأكبر، ومباشرة الشهوة، بتطهير البدن بالغسل، وعند الحدث الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيوية في ساعات اليوم والليلة بالصلوات الخمس المزيلة لكدورات مدركات الحواس الخمس، الحاصلة في النفس منها كل بما يناسبه.
ولذلك وضعوا بإزاء وحشة تفرقة الأسبوع، وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب والملابس البدنية والملاذ الجسمانية اجتماع قوم على العبادة، والتوجه، لتزول وحشة التفرقة بأنس الاجتماع والحضور، ويحصل بينهم نور المحبة الإيمانية، والمؤالفة القلبية، وتزول عنهم ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية، والإعراض عن الحق من جهة الأغراض المختصة الشخصية، فوضع لليهود في قديم الزمان أول الأسابيع لكونهم أهل المبدأ والحس الظاهر، وللنصارى ما بعده آخرها لكونهم أهل المعاد الروحاني، وأهل الباطن المتأخرين عبد المبدأ والظاهر، وللمسلمين آخرها الذي هو يوم الجمعة لكونهم في آخر الزمان، وهم أهل النبوة الختمية وأهل الوحدة الجمعية للكل. وإن جعل السبت آخر الأسبوع - على ما نقل أنه السبع فالبنسبة إلى الحق تعالى لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود، وهو آخر العوالم بالنسبة إليه، وأول العوالم عالم العقل الذي إليه دعوة النصارى، والجمعة هي يوم الجمع والختم - هذا على ما ذكر بعض أهل القرآن. رحمه الله.
اشتشهاد قرآني
علة تعيين الجمعة للمسلمين
ومما يناسب ما ذكر ويؤكده، ما استفيد من كلام بعض المحققين وهو أن موسى (ع) لما كان باعتبار قومه من أهل المبدأ وصاحب التنزيل، كان من جانب الغرب، وهو موضع أفول النور، كما أشير إليه بقوله تعالى:
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينآ إلى موسى الأمر
[القصص:44].
وإن عيسى (ع) لما كان من أهل المعاد وصاحب التأويل، كان مكانه في الشرق - وهو موضع النور وطلوعه -،
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا
[مريم:16].
وإن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) لما كان جامع المنزلتين - المبدأ والمعاد - والبرزخ المتوسط بين الجانبين - المشرق والمغرب - بوجه، والمبرأ عن العالمين - الدنيا والآخرة بوجه -، كان مكانه متوسطا بين الشرق والغرب.
أما كونه جامعا للمبدأ والمعاد، فلأن له منزلة في المبدأ " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " - ولكل شيء جوهر وجوهر الخلق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وله (صلى الله عليه وآله وسلم) منزلة في المعاد، إذ هو شفيع يوم المحشر لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "
وأما كونه متوسطا فلأن قبلة موسى (ع) إلى الغرب من وسط العالم، وقبلة عيسى (ع) منه إلى المشرق، وقبلة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما بين المشرق والمغرب قبلتي ".
وأما كونه مبرءا عنهما فلقوله تعالى:
لا شرقية ولا غربية
[النور:35] وهما حرامان على أهل الله.
الإشراق الخامس
في لمية وجوب الصلاة مطلقا
لما علم الشارع أن جميع أفراد الإنسان لا يرتقون في مدارج العقل إلى درجة العرفان، فلا جرم سوى لهم رياضة بدنية، وسياسة تكليفية تخالف أهواءهم الطبيعية وحفظ لهم الصورة الإنسانية، وراعى فيهم حكاية النسك العقلية، فمهد لهم قاعدة في الأذكار والأوراد، وألزمهم ترك النسيان بتكرير الأعداد، وهي أعم وفي الحس أعظم لترتبط بظواهر الإنسان وتمنعهم عن التشبه بسائر أفراد الحيوان، وأقر بهذا الهيكل الظاهر على كل بالغ عاقل فقال:
" صلوا كما رأيتموني أصلي "
ولو قال: " صلوا كصلاتي " فمن الذي صلى مثل صلاته؟ لأنه كان يصلي وبصدره أزير كأزير المرجل من البكاء، وكان في صلاته يرى من خلفه.
فقد ظهر أن في صلاة القالب مصلحة كثيرة لا تخفى على اللبيب العاقل، ولا يقر به لسان الجاهل العادل، وهذا المعنى من الصلاة قد كانت واجبة على الأمم السابقة على أعداد أكثر من أعداد صلاتنا لعموم جدواها، وكانوا مكلفين بأعمال جسمانية كثيرة المشقة لغلبة الجسمانية عليهم وقلة آثار الملكوتيين فيهم، وشريعتنا المحمدية - على الصادع بها وآله أفضل الصلاة والتحية - أقل تكلفا وأكثر فائدة، لصفاء القوابل ولطافة القلوب ورقة الحجاب في أمته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بعثت بالشريعة السهلة السمحاء ".
الإشراق السادس
في لمية وجوب الصلاتين الجسمانية والروحانية
إن الله تعالى قد بعث النبيين معلمين بالكتاب والحكمة، واضعين الشريعة والملة، مقيميمن للعدل والقسط لقوله تعالى:
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
[الحديد:25] فوضعوا للناس النواميس الإلهية ليخرجوهم عن حضيض البرزخ الظلماني، ويبلغوهم إلى أوج العالم النوراني، لينخرطوا في سلك الملائكة المقربين، ويتنعموا في جوار القدس مع النبيين والصديقين، رحمة من الله وفضلا ونعمة منه وإحسانا، فشرع كل منهم بإذن الله لأمته حسب ما أعطته العناية الإلهية، واقتضته الرحمة الأزلية في ذلك الوقت والزمان، من الأعمال القلبية والبدنية، ما تكمل به قوتاهم العلمية والعملية بحسب طاقتهم.
ولما كانت الحكمة المحمدية - على مقيمها وآله أفضل المحامد العلية - حكمة فريدة، لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، بل هو أكمل الممكنات علويها وسفليها، روحانيها وجسمانيها، وكان تأثيره قوة نبوته في تكميل نوع الإنسان أبلغ وأتم، وكماله أقوم، وحكمته أحكم، وكتابه وشريعته أبلغ وأعم، كانت أمته خير الأمم وأعدلها، وأشرف الفرق وأكملها، كما قال تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران:110].
وإليه أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله:
" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ".
فخص المحمديون بوجوب حقيقة الصلاة والذكر القلبي، والمعرفة الإلهية التي هي روح الصلاة، كما وجب عليهم صورة الصلوات الخمس المكتوبة، وأمروا بالمواظبة عليها والمحافظة لها، وتكريرها في كل يوم بهيئة مخصوصة مشتملة على سر إلهي في أوقات معينة، وهي ذكر له تعالى وقربة إلى جناب الحق ومناجاة معه، وروح الصلاة أشد وجوبا على بواطن العقلاء الكاملين من وصورتها على ظواهر سائر الناس، وقد قال سبحانه:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
[طه:124].
الاشراق السابع
في تحقيق القول من سبيل آخر
قد بان لك أن في الإنسان شيئا من العالم الأسفل، وشيئا من العالم الأعلى، وأعني بالعالم الأسفل: الدنيا وما فيها، وأعني بالعالم الأعلى: الآخرة ما فيها، كذلك في كل عمل من الأعمال الدينية قشر ظاهر ولب باطن، فالقشر متعلق بالدنيا، واللب متعلق بالآخرة، فكما أن مقصود الشارع من طهارة الثوب - وهما القشر الخارج -، ثم من طهارة البدن - وهو القشر القريب -، إنما هو طهارة القلب وهو اللب الباطن، وطهارة القلب عن نجاسات الأخلاق الذميمة؛ كالكفر والحسد والبخل والإسراف وغيرها، فكذلك مقصود الشارع من صورة كل عبادة هو الأثر الحاصل منها في القلب.
ولا يبعد أن يكون لأعمال الجوارح آثار في تنوير القلب وإصلاحه، كما لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضا تأثير في إشراق نورها على القلب، فإنك إذا أسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك، صادفت في القلب انشراحا وصفاء لا تصادفه قبله، كيف، وإدراك النظافة يوجب حصول صورتها في القلب، وهذا ضرب من الوجود فعل الطهارة اوجب حصوله في القلب - ولو بوجه ضعيف -.
وذلك لسر العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وعالم الملكوت، فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وعالم الغيب بأصل فطرته، وإنما يكون هبوطه إلى هذا القالب كالغريب عن موطنه الأصلي، ونزوله إلى أرض عالم الشهادة عن الجنة التي هي موطنه وموطن أبيه المقدس، لجناية صدرت أولا عن أبيه، وكما تنحدر عن معارف القلب آثار إلى البدن، فكذلك ترتفع من أحوال الجوارح أنوار إلى القلب، ولذلك أمر بالصلاة مع أنها حركات للجوارح وهي من عالم الشهادة.
وبهذا الوجه جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدنيا فقال:
" أحببت من دنياكم ثلاثا - الحديث - وعد الصلاة من جملتها ".
ومن هنا قد شممت شيئا يسيرا من روائح أسرار الطهارة أيضا، فإن كنت بحيث لا تصادف بعد الطهارة وإسباغ الوضوء شيئا من الصفاء الذي وصفناه، فاعلم أن الخدر الذي عرض على قلبك من كدورة شهوات الدنيا وشواغلها، اقتضى كلال حس قلبك، فصار لا يحس باللطائف والأشياء الخفية اللطيفة كأكثر الناس، فاشتغل بجلاء قلبك فذلك واجب عليك من كل ما أنت فيه.
فإذا تقرر هذا عندك، وعلمت بمثل هذا التقسيم فيها وفي جميع العبادات، واتضح أيضا لك وتأكد عندك حسبما قدمناه إليك، أن الصلاة منقسمة إلى رياضي جسماني وإلى حقيقي روحاني، فاعلم أن نفوس الإنسان متفاوتة بحسب آثار القوى والأرواح الدواعي المركبة فيها، فمن غلب عليه الروح الطبيعي والحيواني فإنه عاشق البدن، يحب نظامه وتزيينه وأكله وشربه ولبسه، وطالب لجذب منفعته ودفع مضرته، وهذا الطالب من عداد الحيوانات وفي زمرة البهائم، فأيامه مستغرقة باهتمام بدنه، وأوقات عمره موقوفة على مصالح جثته وشخصيته، فهو غافل عن الحق، جاهل بأمره، فلا يجوز له التهاون بهذا الأمر الشرعي اللازم الواجب، وإن قعد عنه فبالسياسات والزواجر يكره عليه ويجبر حتى لا يفوت عنه بالكلية حق التضرع والاشتياق إلى الله تعالى، ليفيض عليه بجوده وينجيه من عذاب وجوده، ويخلصه من آمال بدنه، ويوصله إلى منتهى أمله، فإنه لو انقطع عنه قليل خير لتسارع إليه كثير شر، ولكان أدنى درجة من البهائم، وأضل سبيلا من الأنعام.
ومن غلبت عليه قواه الروحانية، وتسلطت على هواه قوته الناطقة، وتجردت عن محبة الدنيا وعلائق العالم الأدنى، فهذا الأمر الحقيقي والتعبد الروحاني، وذكر الله بالقلب، ومناجاته وقربانه واجب عليه أشد وجوبا وأقوى إلزاما كما قيل: " الحكمة أشد تحكما على باطن العاقل من السيف على ظاهر الأحمق ". لأنه استعد بطهارة نفسه وشرافة عقله ليفيض عليه ربه، فلو أقبل عليه بمشقة، واجتهد في تعبده، لتسارعت إليه جميع الخيرات العلوية والسعادات الأخروية، حتى إذا انفصل عن جسمه، وفارق الدنيا تدخل عليه الملائكة من كل باب، ويشاهد مفيضه وموجده ومكلمه رب الأرباب، ويجاور حضرته، ويلتذ بمنادمته حينئذ ومجاوريه، وهم سكان ملك الملكوت وقطان عالم الجبروت..
الإشراق الثامن
في سر الصلاة وروحها وفي تمثيل الصلاة الكاملة بالإنسان الكامل من جهة اشتمالها على ظاهر جسماني وباطن روحاني
إعلم أن الصلاة عبارة عن تشبه ما للنفس الإنسانية بالأشخاص الفلكية، فما أشد شباهة حال الإنسان حين الاشتغال بالصلاة الكاملة بتلك الأجرام الكريمة، بأرواحها الملكية في تعبدها الدائم، وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، طلبا للثواب السرمدي، وتقربا إلى المعبود الصمدي.
ولذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الصلاة معراج المؤمن ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم)
" الصلاة عماد الدين ".
وأصل الدين تصفية الروح عن الكدورات الشيطانية والهواجس النفسانية، والصلاة هي التعبد للعلة الأولى والمعبود الأعظم والخير الأعلى، والتعبد في الحقيقة عرفان الحق جل مجده، والعلم به وبآياته، بالسر الصافي، والقلب النقي، والنفس الفارغة، فسر الصلاة التي هي عماد الدين، هو العلم بوحدانية الله تعالى، ووجوب وجوده، وتنزه ذاته، وتقدس صفاته، وإحكام آياته، ومعرفة أمره وخلقه، وقضائه وقدره، وعنايته وحكمته، وإرادته وقدرته ويده، وقلمه ولوحه ورقمه، وملائكته وكرام الكاتبين، وكتبه ورسله، واليوم الآخر لمعاد عباده إليه، ورجوع الخلائق لديه، ومثول الأرواح والنفوس بين يديه، مع الإخلاص له في العبودية.
وأعني بالإخلاص؛ أن يعبد الله بلا مشاركة أحد، وأن يعلم ذاته وصفاته بوجه لا يبقى للكثرة فيه مشرعا وللإضافة مترعا، ومن فعل هذا فقد أخلص وصلى، وما ضل وما غوى، ومن لم يفعل هكذا فقد افترى وعصى، والله تعالى أجل من ذلك وأعلى.
ثم إنك لما قرع سمعك مرارا أن موجودات العالم الطبيعي والنشأة الدنيوية مثنوية، وحقيقة الإنسان من جملتها لها ظاهر جلي وباطن خفي، ولها صورة مشهورة وحقيقة مستورة، فهو منقسم إلى ظاهر متغير، وباطن ثابت هو قلبه وسره، فالصلاة التي هي أشرف أعماله، منقسمة إلى ظاهر خلقي - وهو الرياضي المتعلق بالظاهر -، وباطن أمري - وهو الحقيقي الملتزم به الباطن -.
والأول يجري مجرى السياسات للأبدان والرياضات للقوى والأدوات الصورية، به يناط نظام الجمعية التمدنية، وقوام الشعرية المصلحية لاصلاح الخلق بحسب حالهم، على وجه يؤدي إلى كمالهم وإصلاح بالهم لسلامة مآلهم، وكلتاهما واجبتان عقلا وشرعا، فالأولى كلف بها الشارع بالغا عاقلا ليتشبه بدنه بما يختص به روحه من التضرع والخشوع إلى الجنبة العالية، ليفارق البهائم بهذه الهيئة الشرعية، فإن البهائم متروكة عن الخطاب، مسلمة عن العذاب، فأما الإنسان فإنه مخاطب ومحاسب مثاب ومعاقب، إذ يجب عليه امتثال الأوامر الشرعية والعقلية، والاجتناب عن المناهي الشرعية والعقلية، فلما رأى الشارع الحكيم أن العقل المنور بنور معرفة الله أكرم عند الله، ألزم النفس بالصلاة الحقيقية المجردة، وهي عرفان الله وملكوته، وكلف البدن بالصلاة الجسمانية اثرا على تلك الصلاة وعنوانا لها لتكون قواه العملية مشايعة لقواه الإدراكية لئلا تزاحمها.
وهذا الذي ذكرنا نظير مطالعة البصر الأرقام الهندسية عند مطالعة العقل براهينها الكلية، وكذا المحاكاة الخيالية والبدنية عن التعمق في العلوم الدقيقة وأشباهها، وذلك لعلاقة شديدة بين النفس والبدن، فإذا كانت حركات القالب محاكية لما يتصوره القلب، تكون أعمال القلب آكد وأصفى عن المزاحمة، فلذلك اوجب الشارع صورة الصلاة على الإنسان تتميما لصلاته الحقيقية ما دام في الدنيا، كما أثبت الله له الوجود الجسدي ما دام الدنيا، وقاية لروحه وحفظا وإمساكا له عن الخلل والفساد إلى حين بلوغه العقلي، ووصوله إلى عالم المعاد، فركب أعداد هذا التعبد الجسماني، ونظم أركانه على أبلغ نظام في أحسن صورة وأتم هيئة، لتتابع الأجسام الأرواح في التعبد - وإن لم تطابقه في المرتبة والتوحد -، وتتابعه في التكرار، وإن لم توافقه في الدوام والإتصال -.
الإشراق التاسع
في منشأ وجوب هذا التعبد الروحاني
هذه الصلاة قد وجبت على سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة قد صعد إلى العالم العلوي، وتجرد من بدنه، وتنزه من أمله، ولم يبق معه من آثار الحيوانية شهوة ولا من لوازم الطبيعة قوة، ولا من الدواعي النفسانية بقية، فناجى ربه بقلبه وروحه، فقال كما روي عنه:
" وجدت لذة غريبة في ليلتي هذه فاعطني هدى ويسر علي طريقا توصلني كل وقت إلى لذتي ".
فأمره الله بالصلاة فقال: " يا محمد - المصلي مناج ربه ".
ولا يخفى على المتأمل العاقل أن مناجاة الله لا تكون بالأعضاء الجسمانية، ولا بالألسن الحسية، لأن هذه المكالمة لا تصلح إلا لمن يحويه مكان وتعتريه حركة وزمان، أما الواحد المقدس الذي لا يحيط به مكان، ولا يحويه زمان، ولا يدركه حس أحد، ولا يشار إليه بجهة من الجهات، ولا يختلف حكمه في صفة من الصفات، ولا يتغير في وقت من الأوقات، فكيف يعاينه الإنسان المشكل المجسم المحدود بجسمه وقوله وفعله وحسه، وكيف يناجي في هذ العالم المركب الخروب من لا يعرف حدود جهاته ولا يرى جناب صفاته، فإن الموجود المطلق عن عالم المثل والمحسوسات، بل المرتفع عن العقول القادسات غائب عن الحواس غير مشار إليه بالأخماس، ولا يدرك بالإلماس، ومن عادة الجسم والجسمي أن لا يناجي ولا يجالس إلا مع من يراه بالبصر ويحس بالحس، ويدركه بإحدى الخمس، وإذا لم ينظر إليه يعده غائبا، ويكون بفقده عن المشاعر خائبا، فمن كان خارجا عن هذا الباب مقدسا عن طرفي هذا النفي والإثبات جميعا، وعن المداخلة والمزايلة رفيعا، فمناجاته بإحدى الظواهر والآلات أمحل المحالات، وأفحش الخرافات والموهومات.
فإذا قوله: " المصلي مناج ربه " محمول على عرفان النفوس العرافة العلامة المجردة عن جهات الجسم والمكان، وحوادث الحركة والزمان، فهم يشاهدون الحق مشاهدة عقلية، ويبصرون الإله ببصيرة نورية ويسمعون كلامه سماعا روحانيا.
تفريع
درجات الانتفاع من الصلاة
فتبين أن الصلاة الحقيقية التي تنهى عن فحشاء القوة الشهوية البهيمية، ومنكر القوة الغضبية السبعية، وبغي القوة الوهمية الإبليسية، هي المعارفة الربانية والمشاهدة الإلهية والمكالمة العقلية، وهي التضرع بالنفس الناطقة نحو الإله الحق والموجود المطلق.
ولأصحاب العلوم الظاهرة من هذه حظ ناقص، وإن ارتقوا من منزل البهائم قليلا وارتفعوا من درجة العوام والأنعام يسيرا، وللمحققين قسم وافر ونصيب كامل من هذا البحر الزاخر، ولهم قرة عين في الصلاة، ومن كان حظه أكمل فثوابه أجزل، فالعاقل يتأمل سلوك طريق التعبد والمداومة على الصلاة ويلتذ بمناجاة ربه لا بشخصه، وينطقه لا بقوله، ويبصره لا ببصره، ويحسه لا بحسه.
وأما الجاهل المغرور فيطلب ربه بشخصه وجسمه، ويطمع في رؤيته بعينه، وكذا العالم الممكور المشغوف بما عنده من القشور، الطالب في مناجاته للذات عال الزور، المتوجه إلى تحصيل المنزلة والجاه عند أصحاب القبور، ومن آثر الهوى واتبع الشيطان، انحرف عن الحق والهدى، وحرم الله عليه لذيذ مناجاته، كما ورد في أخبار داود - على نبينا وعليه السلام - " إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرم عليه لذيذ مناجاتي.
وقال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب: " إن الله عز وجل يقول: إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج مناجاتي في قلبه ". -
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
الإشراق العاشر
في سر الأسبوع ولمية وضع أيامها
اعلم - أن كل وضع من الأوضاع إذا لم تطلع على سره العقول البشرية، فلا بد في إدراك لميته وسببه من طور آخر وراء طور العقل المشوب بالوهم، وذلك لامتناع التخصيص من غير مخصص، كحروف التهجي، وأيام الأسبوع، فما ثبت للعقول الكشفية من أصحاب الذوق والعرفان أنها وضعت بإزاء الأيام الإلهية التي هي مدة عمر الدنيا - وهي سبعة آلاف - كما هو المشهور بين الجمهور - على عدد أدوار الكواكب السبعة السيارة التي مدة دورة كل منها الخاصة ألف سنة.
وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال:
" عمر الدنيا سبعة إلاف سنة، بقيت في آخرها ألف ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا نبي بعدي على هذه الأمة إلى يوم القيامة ".
وهو يوم العرض الأكبر، ويوم العرض الثاني، كما أن يوم الميثاق يوم العرض الأول، كما أشار إليه تعالى بقوله:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
[الأعراف:172].
وبين اليومين مدة سبعة أيام، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
فكما أن الدنيا كمدينة جامعة ومصر جامع، فيها من كل الخلائق والرجال والنسوان والمشايخ والصبيان، فمنهم أخيار وأشرار، وصلحاء وفجار، وعلماء وجهال، وهم مختلفو الطبائع والأحوال والأخلاق والآراء والأعمال، فهكذا في العالم الكبير، نفوس كثيرة بسيطة، ونفوس جزئية مختلفة الحالات، فمنها نفوس علامة خبيرة فاضلة، ومنها نفوس دراكة شريرة وهمية، ومنها نفوس جاهلة شريرة، ومنها جاهلة غير شريرة.
فالأول جنس الملائكة، وصالحو المؤمنين والعلماء الربانيون، والثانية مردة الشياطين، وسحرة الجن والإنس، والفراعنة والدجالون، والثالثة أنفس السباع الضارية، والجهال الأشرار من السباع، والرابعة أنفس الحيوانات السليمة كالغنم والحمام وغيرها، والنفوس الساذجة من الإنسان.
وكما أن المدنية الجامعة فيها مساجد وبيع وصلوات، ولأهل الدين فيها مجالس وجماعات، وأعياد وجمعات، وعبادات وأذكار، فهكذا في فضاء الملكوت وأرض القيامة وفسحة الجنان وسعة العرش والسموات، جموع من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والعلماء، ولهم تسبيحات ودعوات مستجابات، كما ذكر الله تعالى بقوله:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء:20] وقال:
وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم
[الزمر:75] - الآية -.
وكما أن لأهل المدينة فيها حبوس ومطامير عليها شرط وأعوان، فهكذا في العالم الكبير، للنفوس الشريرة جهنم وسجين ونيران وهاوية، عليها زبانية وملاك وغضبان.
وكما أن تلك المدينة فيها لأهلها صنائع وأعمال، وللصناع والعمال أجرة وأرزاق، وفيها بائعون وتجار يتعاملون بموازين ومكائيل، ولهم مظالم وخصومات ودعاوى، ولهم فيها قضاة وعدول، ولهم فقه وأحكام وفصول، وأن من سنة القضاة والحكام البروز والجلوس لفصل القضاء في كل سبعة أيام يوم واحد، فهكذا يجري حكم الله وحكم النفوس الكلية يوم القيامة ويوم العرض الأكبر، ففي كل سبعة أيام يوم واحد وضع لعرض النفوس الجزئية لدى النفوس الكلية لفصل القضاء بينهم، لقوله تعالى:
وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهدآء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون
[الزمر:69 - 70].
وقوله:
فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين
[الأنبياء:47].
الإشراق الحادي عشر
في سر يوم الجمعة
اعلم أن اليوم السابع من الأيام الربانية الأسبوعية، هو الذي وقع فيه ظهور النور التوحيدي في المظهر الجمعي المحمدي، وإكمال الدين وارتقاء النفوس إلى المبدأ الذي هبطت منه، وقطع القوس العروجية إلى غايتها الأصلية، هو يوم الجمعة، وهو آخر يوم من آيام الدنيا بوجه، وأول يوم من أيام الآخرة بوجه، لقيام الساعة فيه، والظهور التام للحق، ووقوع القيامة الكبرى، وعند ذلك يظهر فناء الخلق والبعث والنشور والحساب، وفيه يتميز عند عرفاء أمته أهل الجنة وأهل النار، وفيه يرى عرش الله بارزا كما حكينا في حديث حارثة الأنصاري (ره) عن شهوده.
وقد مر في تفسير سورة الحديد عند قوله تعالى:
خلق السماوات والأرض في ستة أيام
[الحديد:4]. أن الأيام الستة الماضية هي مدة احتجاب الحق بالخلق، لأن الخلق حجاب على وجه الحق، فمتى خلقهم اختفى بهم، وقد بينا هناك بوجه حكمي؛ أن بقاء الدنيا وعالم الطبيعة عين حدوثها وتغييرها، ووجودها عين عدمها وزوالها، واليوم السابع هو يوم الجمعة، وزمان استواء الرحمن على العرش بالظهور في جميع الصفات، وابتداء يوم القيامة الذي طلع فجره ببعثه نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالمحمديون أهل الجمعة، ومحمد صاحبها وخاتم النبيين، وبه اكمال الدين لقوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة:3] - الآية -.
تتمة:
اتفق أهل الملل كلها من اليهود وغيرهم على أن الله قد فرغ من خلق السموات والأرض في اليوم السابع، إلا أن اليهود قالوا: " إنه السبت وابتداء الخلق من يوم الأحد " ، وعلى التأويل الذي ذكرنا يكون هو يوم الجمعة.
وكون الأحد ابتداء الخلق، يأول بأن أحدية الذات منشأ الكثرة، وإن جعلنا الأحد أول الأيام ووقت ابتداء الخلق، كان جميع دور النبوة دور الخفاء، وفي السادس ابتدأ وازداد في الخواص، كما ذكر انه يوم خلق آدم الحقيقي، ويوم الساعة، ويوم المزيد، ويوم دخول الجنة، وسيد الأيام - كما مر ذكره في الأحاديث المروية في فضل يوم الجمعة -، حتى ينتهي إلى تمام الظهور، وارتفاع الخفاء في آخره عند خروج المهدي (ع) ويعم الظهور في السابع الذي هو السبت.
إكمال:
لما كان هذا اليوم - أي الجمعة - موضوعا بأزاء المعنى المذكور ندب الناس فيه إلى الفراغ من الأشغال الدنيوية التي هي حجب كلها، وإلى الحضور والاجتماع في الصلاة وأوجب السعي إلى ذكر الله وترك البيع والسعي في الدنيا لكي تتظاهر النفوس بهيئة الاجتماع في صلاة الحضور المعد للوصول إلى حضرة الجمع بالصلاة الحقيقية، والتعبد الروحاني، عسى أن يتذكر أحدهم بالفراغ عن الأشغال الدنيوية التجرد عن الحجب الخلقية، وبالسعي إلى ذكر الله السلوك في طريق الوصول إليه ، وبالصلاة مع الاجتماع الوصول إلى حضرة الجمع فيفلح - { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } - أي سر ذلك وحقيقته.
الإشراق الثاني عشر
في ما قيل في قوله تعالى: { إلى ذكر الله }
قال المفسرون: أي إلى الخطبة والصلاة، ولتسمية الله الخطبة ذكرا له، ذهب أبو حنيفة وأتباعه إلى أنه ان اقتصر الخطيب على مقدار ما يسمى ذكر الله - كقوله: الحمد لله. سبحان الله - لكفى.
وقيل إن عثمان صعد المنبر فقال: " الحمد لله " وأرتج عليه، قال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب. ثم نزل وكان ذلك بحضور الصحابة فلم يعب عليه.
وعند الشافعي وصاحبيه؛ لا بد من كلام يسمى خطبة، وعند فقهائنا الإماميين - رضوان الله عليهم أجمعين - تجب الخطبتان، ويجب في كل منهما: الحمد لله بما هو أهله، والصلاة على النبي وآله، والموعظة وقراءة سورة خفيفة.
وقيل: يجزئ ولو آية واحدة مما تتم به فائدتها.
وفي رواية سماعة: يحمد الله ويثني عليه، ثم يوصي بتقوى الله، ويقرأ سورة خفيفة من القرآن، ثم يجلس، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي وآله وعلى أئمة المسلمين، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
فإن سئل: كيف يفسر ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثناء عليه وعلى أئمة المسلمين، وأهل بيته، وأتقياء المؤمنين، والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان، نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام.
الإشراق الثالث عشر
في قوله تعالى: { وذروا البيع }
أي: دعوا المبايعة. قال الحسن: كل بيع تفوت منه الصلاة يوم الجمعة فإنه بيع حرام لا يجوز، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر الآية، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه مطلقا، عبادة كان أو غيرها.
وأكثر فقهائنا الإماميين - رضوان الله عليهم - على أن البيع حرام إلا أنه غير فاسد بل منعقد، لأن النهي في العبادات وإن كان مستلزما للفساد لاستحالة الجمع بين المأمور به في الجملة والمنهي عنه، ولكن في غيرها غير مستلزم له.
وقيل: إن النهي فيها أيضا غير مستلزم للفساد إلا أن يكون المنهي منافيا لها أو لبعض أركانها، كالصلاة في الدار المغصوبة، لأن خروج المكلف عنا مأمور به، والقيام منهي عنه وهو ركن في الصلاة، والحركة والسكون متنافيان فلا يكونان مأمورا بهما معا، وكيف يكونان مأمورا بهما حتى يلزم أن يكون قيام واحد مأمورا به ومنهيا عنه، وهو محال، لأن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده العام بل الخاص - على رأي -، وتنقيح هذه المسألة موكول إلى علم أصول الفقه، فليطلب من هناك.
الإشراق الرابع عشر
في قوله تعالى: { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون }
أي: ما أمرتم به من حضور الجمعة واستماع الذكر وأداء الفريضة وترك البيع، أنفع لكم عاقبة إن كنتم عالمين بمنافع الأمور ومضارها، ومصالح أنفسكم وأرواحكم ومفاسدها.
وفيه دليل على أن ملاك الأمر في العبادات على العلم الصحيح والنيات الخالصة.
وقيل: معناه: اعملوا ذلك. عن الجبائي.
وفي هذه الآية دلالة على وجوب الجمعة وتحريم جميع التصرفات عند سماع أذان الجمعة، والبيع إنما خص بالنهي عنه لكونه أعم التصرفات في أسباب المعايش.
وفي الكشاف: لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس من قراهم وبواديهم وينصبون إلى المصر من كل اوب ووقت لسقوطهم واجتماعهم واختصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى إلى الضحى، ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تجرى التجارة ويتكاثر البيع والشراء وقيل لهم: بادرو تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه مقارب، ومما يدل على تحريم شواغل الدنيا عن حضور الجمعة عند النداء، أن الله سماه خيرا، وترك الخير الكثير من العالم به لأجل النفع الحقير - وإن كان الحقير عاجلا والكثير آجلا - حرام عقلا، فكيون حراما شرعا، كما هو عند أصحابنا القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين.
تفريع:
في هذه الآية دلالة على أمور:
الأول: أن الخطاب للأحرار لأن العبيد لا يملكون البيع.
الثاني: اختصاص الجمعة بمكان معين. ولذلك اوجب السعي إليه.
الثالث: اختصاص وجوبها على من يقدر على الحركة والسعي، فخرج من المكلفين أصحاب الأعذار من السفر والمرض والعمى والعرج، أو أن يكون امرأة أو شيخا هما لا حراك به، أو عبدا أو يكون على رأس أكثر من فرسخين من الجامع.
وعند حضور هذه الشروط ونفي الأعذار لا يجب إلا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه للصلاة. والعدد يتكامل عند أكثر فقهاء أهل البيت - عليهم السلام - بخمسة لصحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (ع) قال: يجمع القوم يوم الجمعة إذا كان خمسة فما زاد، وإن كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم. وغير ذلك من الروايات.
وقيل: بسبعة لما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ولا تجب على أقل منهم: الإمام وقاضيه، والمدعي حقا، والذي عليه الحق، والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام.
وعند أبي حنيفة والثوري يتكامل العدد بثلاثة سوى الإمام.
وعند الشافعي ينعقد بأربعين رجلا أحرارا بالغين مقيمين.
وعند أبي يوسف ينعقد بإثنين سوى الإمام.
وعند الحسن وداود ينعقد بواحد غير الإمام كسائر الجماعات.
وقال صاحب الكشاف: " عند أبي حنيفة لا ينعقد إلا في مصر جامع لما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا جمعة ولا تشريق ولا فطرة ولا أضحى إلا في مصر جامع "
- والمصر الجامع ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام -.
ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه، لوقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فمن تركها وله إمام عادل - الحديث - ". وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أربع إلى الولاة - الفيء والصدقات والحدودات والجماعات "
" فإن أم رجل بغير إذن الأمام أو من ولاه من قاضي أو صاحب شرطة لم يجز، فإن لم يمكن الاستيذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم جاز، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام " - انتهى -
والاختلاف بين الفقهاء في مسائل الجمعة كثير موضع بيانه كتب الفقه.
[62.10]
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
في الإشارة إلى ما قيل فيه
قيل: إن الانتشار في الأرض ليس لطلب دنيا، ولكن مثل عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله.
وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول: المراد من الابتغاء من فضل الله: طلب العلم.
وروري عن أبي عبد الله (ع) انه قال: الصلاة يوم الجمعة. والانتشار يوم السبت.
وروى عمر بن زيد عن أبي عبد الله (ع) انه قال: إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله تعالى، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال، أما تسمع قولا لله عز وجل: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } ، أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطين عليه بابه ثم قال: " رزقي ينزل علي " أكان يكون هذا؟ أما إنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم.
قال: - قلت -: من هؤلاء الثلاثة؟
قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده، لو شاء ان يخلي سبيلها يخلي سبيلها، والرجل يكون له الحق على الرجل ولا يشهد عليه فيجحده حقه، فيدعو عليه فلا يستاب له، لأنه ترك ما أمره به، والرجل لا يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله، ثم يدعو فلا يستجاب له.
وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظرا لهذه الآية.
الإشراق الثاني
في الإشارة إلى لب المعنى
إن الأمر بالانتشار في الأرض وابتغاء الفضل بعد قضاء الصلاة إشارة إلى الرجوع والمعاشرة مع الخلق بالإرشاد والتعليم، والانتشار في أرض الحقائق، ونشر الفضائل في أراضي قلوب المستعدين، وإفاضة الصور الكمالية على قوة قابلياتهم بعد العزلة عنهم والإنزعاج والتوحش عن حصبتهم، والاختلاء مع الله والوقوف بين يديه بالصلاة الحقيقية.
فإن السالك في أوائل سلوكه وانزعاجه عن الخلق إلى الحق لا يحتمل الهمس من الحفيف، وأما بعد الوصول فإما له استغراق في الحق واشتغال به عن كل شيء وسير فيه ووقوف مع الجمع، فيكون أيضا محجوبا بالحق عن الخلق، بل بالذات عن الصفات، وإما سعة للجانبين وانشراح صدر للطرفين، فالانتشار في الأرض هو السياحة في أرض الحقائق وإيفاء حقوق الخلائق بالمحبة الأفعالية الناشية من محبة الذات ومحبة الصفات والأسماء، فيرى ذاته تعالى في مرائي الصفات، وصفاته في مظاهر الأسماء، فيقول بلسان حاله ومقاله - ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه أو معه -، فيحب الخلائق بمحبة خلاقهم، ويبتغي من فضل الله بطلب حظوظ التجليات الصفاتية والأسمائية، ويرجع من سماء القدس إلى أرض النفس، لتوفية حظوظها بالحق، ويهبط من جنة المعارف الإلهية إلى عالم البدن، لتوفية حظوظ النفس التي هي بمنزلة زوجة العقل في جنة الصفات
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها
[الأعراف:189] كما أن حواء زوجة آدم في جنة الأفعال
ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة
[البقرة:35].
وكذلك الرجال البالغون، لهم أن يتصرفوا في الدنيا وزينتها، والشهوات النفسانية ولذتها عند بلوغهم بنور المعرفة والتقوى إلى مرتبة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله بقوة ربانية وبصيرة روحانية، لا بشهوة حيوانية ولذة نفسانية، فقد علم كل أناس مشربهم، ويكون لهم ذلك ممدا في العبودية ومجدا في سلوك طريق الربوبية، كما قال تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق
[الأعراف:32].
المطلع العاشر
في قوله سبحانه: { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
إنما أمر الله عباده ووصاهم بإكثار الذكر حتى لا يلهيهم شيء من تجارة ولا بيع ولا أكل ولا شرب ولا غيرها عن معرفة الله وعبوديته، ولا تكون هممهم مصروفة عن الترقي إلى عالم الربوبية، ونفوسهم منغمرة في طلب الأغراض الحيوانية، لأن فلاحهم في الخلاص عن النشأة السافلة الدنيوية وفوزهم منوط بالارتقاء منه إلى النشأة العالية الأخروية، ولذلك قيل معناه: أذكروا الله في تجارتكم وأسواقكم.
كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه، كتب الله له ألف حسنة، ويغفر له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر ".
واعلم أن المداومة على تذكر شيء ومعاودة اسمه، توجب وصاله، ولهذا قيل: العبادة باعثة للمحبة، والمحبة باعثة للرؤية.
وعن أبي عبد الله (ع): إن العبد يرفع رغبته إلى مخلوق، فلو أخلص نيته لله لأتاه الذي يريد في أسرع من ذلك.
ومن علامة المحبة ذكر المحبوب: من أحب شيئا أكثر ذكره.
وقيل: المراد بالذكر هنا الفكر، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" تفكر ساعة خير من عبادة سنة "
وروي: سبعين سنة - أيضا -.
وذلك يشبه أن يكون حقا، فإن الفكر بالحقيقة هو الذكر الحقيقي القلبي، لأن حقيقة الإنسان وروحه هو باطنه وسره، لا بدنه وهيكله المحسوس، فالذكر الحقيقي منه ما يقع من لسان قلبه وإحضاره وإخطاره صورة المذكور في باله، ولهذا ورد في الحديث القدسي:
" أنا جليس من ذكرني "
والله سبحانه أجل وأرفع من أن يكون جليس البدن حاضرا عنده، ولكن مع تجرده وتقدسه مما يحضر في قلب العارف ويقع عليه نوره.
واعلم أني لا أظن أحدا من الناس أوفى بعهد الله وعمل بمقتضى هذه التوصية منه في باب إكثار ذكر الله والمداومة عليه بالحقيقة إلا الحكماء العارفين بالله، لأنهم هم الذاكرون الله كثيرا، وهم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، وهم كالمشغوفين بهذا الأمر، والذين آمنوا أشد حبا لله.
وذلك لأن كل أحد سواهم له دوام شغل بغير الله وآياته وأفعاله من صنايعهم العلمية والعملية.
مثلا: النحوي أكثر اهتمامه بحفظ قوانين النحو، لأنه الغالب على طبعه، وكذا اللغوي، والشاعر وما يجري مجراهم، وهمة المنجم طول عمره مصروفة في ضبط حركات الأفلاك وتقاويم الكواكب واستنباط الأحكام من حركاتها وأوضاعها وانتقالاتها وارتباطاتها، وإلا لم يكن منجما بارعا فائقا على الأقران، وكذا الطبيب لو لم يكن مشغوفا بعلمه، مستفرغا جهده في طلبه، ثم في حفظه وضبطه قوانين العلاج ومعرفة الأدوية المفردة والمركبة على أبلغ وجه وآكده، لم يكن من البارعين في فنه، وكذا الفقيه الحاوي لفروع الفقه، المستحضر لمسائله، المدقق في وجوه الاستنباطات الدقيقة وتفريع الاحتمالات البعيدة مع جلوسه في مسند الفتوى والحكومات، لا بد له من استغراق القلب وصرف العمر واستيعاب الخاطر وبذل الوسع والطاقة فيه، حتى يكون فائقا على الأقران، مشارا إليه بالأنملة والبنان، وكذا المحدث في استعمال أوقاته في علم الرواية أعني في سماعة الحديث، وجمع الطرق الكثيرة، وطلب الأسانيد العالية الغربية، فهمته أبدا مصروفة في أن يحصل عنده ما لم يحصل عند كثير من الناس، ولهذا يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول: " أنا أروي عن فلان " ، " ولقد لقيت فلانا " " ومعي من الأسانيد العالية ما ليس مع غيري ".
وكذلك سائر العلوم والصناعات، إلا الحكيم الإلهي والعالم الرباني، فإن موضوع علمه ومادة صناعته هو الموجود المطلق والإله الحق - جل مجده - فتمام عمره مشغول بالحق، وجميع همه مصروف بالكشف عن توحيده وتقديس صفاته، وأحكام أفعاله، ومعرفة نعوته وأسمائه وآياته، فلا شغل له إلا ذكر الله وذكر آلائه، وله علمان شريفان نوريان: علم المبدأ وعلم المعاد، وله في الأول بابان شريفان، أحدهما أشرف وأنور من الآخر، وهو العلم بوجوده ووحدانيته وتقدس صفاته وأسمائه، وسكان جبروته من المفارقات والربوبيات، والآخر، العلم بأفعاله من السماوات والأرضين والبسائط والمركبات.
وإلى الأول أشير بقوله تعالى:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
[آل عمران:191].
وإلى الثاني بقوله تعالى:
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
[آل عمران:191]
وإلى علم المعاد أشير بقوله:
سبحانك فقنا عذاب النار
[آل عمران:191].
وكذا أشير إلى أحد المنهجين في معرفة المبدأ بقوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53] وإلى الآخر بقوله:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53].
قال بعض الفضلاء في تفسيره الكبير: القرآن مشحون بذكر هذه العلوم الثلاثة، فإن للإنسان أياما ثلاثة - الأمس؛ والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ، واليوم الحاضر؛ والبحث عنه يسمى بالعلم الأوسط، واليوم الآخر؛ والبحث عنه يسمى علم المعاد.
وقد وقعت في آخر سورة البقرة إشارة إلى العلوم الثلاثة، فقوله تعالى:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
[البقرة:285]. إشارة إلى علم المبدأ. وقوله:
وقالوا سمعنا وأطعنا
[البقرة:285]، إشارة إلى علم الوسط، وقوله:
غفرانك ربنا وإليك المصير
[البقرة:285] أشارة إلى علم المعاد.
وكذا قوله تعالى:
ربنا
[البقرة:286] - إشارة إلى الأول، وقوله:
لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا
[البقرة:286] إلى قوله تعالى:
ما لا طاقة لنا
[البقرة:286]. إشارة إلى الأوسط، وقوله:
واعف عنا واغفر لنا
[البقرة:286]. - الخ - إشارة إلى علم المعاد.
وقال في آخر سورة هود إشارة إلى هذه المعارف الثلاثة:
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر
[هود:123]. إشارة إلى أولها.
وأما علم الوسط، وهو علم يجب اليوم أن يشتغل به، فله أيضا مرتبتان، البداية والنهاية. أما البداية، فعلم النفس والاشتغال بالعبودية، وأما النهاية، فقطع النظر عن المواد والأسباب والتجرد التام، والاتصال بالمبدأ الفعال، وتفويض الأمور إلى مبدأ المبادئ ومسبب الأسباب، وذلك هو التوكل، فذكر هذين المقامين فقال:
فاعبده وتوكل عليه
[هود:123].
وأما علم المعاد فهو مشار إليه بقوله:
وما ربك بغافل عما تعملون
[هود:123] أي: إن ليومك غدا ستصل إليك فيه نتائج أعمالك وثمرات أفعالك.
وفي كلام أمير المؤمنين ويعسوب الدين - عليه أزكى تسليمات المصلين - إشراة إلى هذه العلوم الثلاثة للإنسان لإصلاح الأيام الثلاثة له حيث قال: " رحم الله امرئ أعد لنفسه واستعد لرمسه، وعلم من أين وفي أين وإلى أين ".
فقد اشتملت هذه الآية على العلوم الثلاثة، ونظيرها أيضا قوله تعالى:
سبحان ربك رب العزة عما يصفون
[الصافات:180] إشارة إلى علم المبدأ، وقوله:
وسلام على المرسلين
[الصافات:181] إشارة إلى علم الوسط، وقوله:
والحمد لله رب العالمين
[الصافات:182] إشارة إلى علم المعاد، ولهذا قال في صفة أهل المعاد:
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
[يونس:10].
وهذه العلوم الثلاثة مع أجزائها وأبوابها وفصولها، من علم الكليات وأحكام الماهيات، والعلم بالعلل الأربع، والأسباب القصوى لوجود الأشياء الكائنة، فاعلها وغايتها ومادتها وصورتها، والعلم بمبادئ الحركات الكلية وغاياتها، وعلم المفارقات، وعلم النبوات، وعلم السماء والعالم ، وعلم الروحانيات، وعلم النفس وأحوالها بعد الموت، وعلم انبعاث الرسل وكيفية الوحي والتنزيل، والكتاب والتأويل، وعلم النبوة والرسالة، وعلم الإمامة والسياسة، كلها ذكر الله وذكر صفاته وأسمائه وآلائه ونعمائه.
فالحكماء الأفاضل سيما الأنبياء والأولياء منهم - سلام الله عليهم - كلهم مشتغلون بذكره، مشغوفون بمناجاته ومخاطباته، فهم الذاكرون الله كثيرا دون غيرهم، إذ ليس عشق المبدأ الأعلى ومعرفة ذاته داخلا في موضوعات علوم غيرهم وصنايعهم، ولا مقوما لمطلوباتهم - من حيث هي مطلوباتهم ومسائلهم -، ولا غاية لأنظارهم وأفكارهم، وثمرة لأفعالهم وأعمالهم القلبية إلا بوجه من التكلف والتجوز البعيد، والتمحل الشديد، فأولئك تحروا رشدا دون غيرهم.
فهم أحقاء بأن يكونوا عباد الله الصالحين، واولياء الله المتقين، وأن الحق جليسهم ورفيقهم حسبما ورد من قوله:
" أنا جليس من ذكرني "
وبأن يكون الحق حاضرا عندهم مشاهدا لهم بمقتضى قوله: " أنا عند المنكسرة قلوبهم، أنا عند المندرسة قبورهم ". إذ لهم قلوب منكسرة وأبدان كقبور مندرسة، لتوحشهم عن الناس، وتفردهم عن الخلق بالموت الإرادي، وتضررهم بها للمنافاة والتضاد بين سلوكهم وسلوك غيرهم، فإن الرجل بقدر إمعانه في العلوم الباطنية، يتوحش عن الخلق، ويتأذى عن صحبة أهل الظاهر، وعلى مبلغ عرفانه بالحق يتناكر عن الناس.
ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أعرف العرفاء بالحق:
" ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ".
وأما غير العالم الرباني، فليس له هذا التوحش عن أهل الدنيا والخوف والخشية والموت الإرادي عن مرغوباتها، والرياضة البدنية بالأعمال والعبادات، والنفسية بالأفكار والتأملات، لاشتغال هؤلاء بما يوجب تقوية القوى، ومماشاة الهوى، والركون إلى أهل الدنيا، والإخلاد إلى الأرض السفلى، والإنسراح إلى مراتع الحظوظ النفسانية بالحكومة والفتوى، والاغترار بظواهر الرخص الشرعية حيث لم يقفوا على كنه الأمر، ولا لهم الخوض والإمعان في غرض الشارع منها بحسب الغاية القصوى.
فأكثر الخلق كما أخبر الله عن حالهم بقوله:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما
[الجمعة:11] -
يليتني اتخذت مع الرسول سبيلا
[الفرقان:27] فلم يبق منهم مع خطيب الأنبياء إلا قليلا، وأهل الله في غاية الندرة والقلة . وهم العارفون بأن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ومن الدنيا ومستلذاتها ومن الجنة ومشتهياتها، وهم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة، لعلمهم بأن ما عند الله خير لأولي الألباب.
الإشراق الثاني
مراتب الذكر والذاكر
قال الله تعالى لنبيه:
واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل:8]. وقال نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذلك - يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -؟ قال: ذكر الله عز وجل ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا:
" سبق المفردون، سبق المفردون.
قيل: ومن هم - يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: المستهترون بذكر الله تعالى، وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافا ".
واعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر المتسنيرة بنور المعرفة، أن ذكر الله أفضل الأعمال الروحية والقلبية والنفسية والبدنية، ولكن له مراتب بعضها قشور وبعضها لباب، وللذاكر أيضا مراتب بحسبه، ولكل ذكر نتيجة أيضا، فإن نتجية ذكر العبد لله ذكر الله له، كما قال تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152].
وقيل: في هذه العبارة تقديم وتأخير، لأن الله أمرهم بالذكر مع فاء التعقيب، كقوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54]. وقوله تعالى:
رضي الله عنهم ورضوا عنه
[المائدة:119]. وذلك لأن ذكر العبد لله نتيجة ذكر الله له، كما أن محبتهم له ورضاهم عنه تعالى نتيجة محبته إياهم ورضوانه عنهم.
والحق، أن لكل من القولين وجها وجيها، لأن التقدم في الأول على سبيل الإعداد والتهيئة، وفي الثاني على سبيل العلية واللزوم، لأن جميع حالات العبد تابعة لما في علم الله وقضائه الإجمالي، ثم التفصيلي، فذكرنا له تعالى مسبب عما في اللوح المحفوظ والذكر الحكيم، فافهم هذا.
وأيضا -، فإن ذكر العبد لله ومحبته له ورضاه عنه، وسائر صفاته الحسنة وأعماله الصالحة، مؤدية له إلى أمثال هذه النتائج على وجه أكمل وأعلى، فإن لكل شيء حادث، كما له مبدأ، كذلك قد يكون له غاية، والمبادئ للأشياء ذوات الغايات هي نفس الغايات بالذات، وغيرها بالاعتبار - كما حقق في مظانه -، أو لا ترى أن تصور كل فاعل مختار لنتيجة فعله وكماله عمله متقدم علما على ثبوت تلك الغاية، وهي متأخرة عنه عينا.
فإذا كان هذا هكذا، فنقول: لما كان الله سبحانه مبدأ كل شيء وغايته، وأول كل فكر وذكر ونهايته، وظاهر كل موجود وباطنه، فالأول فيه عين الآخر، والباطن عين الظاهر، والعلم هناك عين العين، فقد صح كل من الوجهين في الذكر له، وهذا أيضا من العلوم المختصة بأحباء الله ومشتاقيه المجذوبين إليه - هذا.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من بيان مراتب الذكر والذاكر، ونتيجة كل مرتبة، فنقول:
أما مراتب الذكر والذاكر: فذكر اللسان، وذكر الجوارح والأركان، وذكر النفس، وذكر القلب، وذكر الروح، وذكر السر.
وأما تعيينها وتعيين نتائجها:
فذكر اللسان: الإقرار ونتيجته احتقان الدم والمال بالأمان، فاذكروني بالايمان أذكركم بالأمان.
وذكر الأركان: باستعمال الطاعات والعبادات للوصول إلى المثوبات، فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمثوبات.
وذكر النفس: بالاستسلام للأوامر والنواهي للفوز بنور الإسلام، فاذكروني بالإستسلام أذكركم بنور الإسلام.
وذكر القلب: تبديل الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الكريمة، للتشبه بالحق، والإنخراط في سلك أحبائه والاتصال بجنابه، فاذكروني بالأخلاق أذكركم بالاستغراق.
وذكر الروح: بالتفريد والمحبة لحصول المعرفة والحكمة، فاذكروني بالتفريد والمحبة، أذكركم بالتوحيد والقربة.
وذكر السر: ببذل الوجود لوجدان المعبود، فاذكروني ببذل الوجود والفناء، أذكركم بنيل الشهود والبقاء.
وهذا حقيقة قوله في الحديث القدسي:
" وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي "
وهذا هو لب الألباب، وهو الذكر الحقيقي والغاية الأخيرة لما في الخطاب، وهو يجعل الذاكر مذكورا، والمذكور ذاكرا، بل الذكر والمذكور والذاكر واحدا، كما قال سبحانه:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر:16].
كما قال قائلهم:
رق الزجاج ورقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنه خمر ولا قدح
وكأنها قدح ولا خمر
فافهمه واعلم قدره.
فإذا تقرر ذلك فقوله: " واذكروا الله كثيرا " يحتمل الجميع، وكذا قياس ما هو نتيجة له بحسب الأقسام من قوله: " لعلكم تفلحون " فلكل ذكر من أقسام الأذكار فلاح يناسبه معناه، فاذكروا الله باللسان لعلكم تفلحون بالاطمئنان والأمان، وبعمل الأركان لعلكم تفلحون بالوصول إلى مثوبات الجنان، وبالنفس بالاستسلام لعلكم تفلحون بنور الإسلام، وبمحبة القلب لعلكم تفلحون بمعرفته وحكمته، وبالسر من جهة الفناء فيه لعلكم تفلحون بنيل شهوده وجماله، والبقاء به بعد الفناء فيه.
هداية عرفانية
المراتب المختصة بهذه الأمة من الذكر
اعلم أن مراتب الذكر كمراتب الحكمة، إما متعلقة بذات الله أو صافته أو أفعاله. فنقول: ذكر الذات فضيلة مختصة بفضلاء هذه الأمة دون غيرهم، وكذا جزاء الذكر بالذكر المستفاد من قوله:
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152] فضيلة مختصة بهم دون سائر الأمم، والدليل عليه قوله تعالى:
يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم
[البقرة:122] فقد أمر هذه الأمة بذكر الذات، كما أمر الله موسى (ع) بذكر النعماء.
وذلك لأن معارج الفكر والذكر والشهود لم تتجاوز في الأمم السابقة من طبقات الأفلاك وما فيها، ومثوبات اقتصرت على نيل درجات الجنان، وأما فضلاء هذه الأمة - رضوان الله عليهم - فلهم أن يتخذوا مع الرسول سبيلا، ويتجاوزوا بمتابعته عن عالم الخلق، بل الأمر، ليكون هاديا لهم ودليلا.
بهمراهى خواجه انس وجان
توان برشدن تابأقصى الجنان
فافهم وتدبر.
الاشراق الثالث
أعلى مراتب الذكر
لما قرع سمعك مراتب الذكر ودرجات الذاكر، ونتيجة كل مرتبة، وأن بعضها فوق بعض فوقية الشرف والذات، إلى حيث يصير الذكر والذاكر والمذكور شيئا واحدا، فاعلم أن ذلك إنما يتصور بأن يتمكن المذكور في القلب تمكنا شديدا، وحصولا مشرقا نوريا، بحيث ينمحي الذكر أو يخفى، ولا يلتفت القلب إلى الذكر أصلا، ولا إلى الذاكر - أي القلب نفسه - بل تستغرق جملته في المذكور، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر يكون ذلك حجابا عن المقصود وهويته بالنسبة إلى الغاية الأصلية، وذلك بأن يغيب عن نفسه حتى لا يحس بشيء من ظواهر جوارحه ولا من العوارض الباطنة فيه، بل يفنى عن جميع ذلك، ويغيب عنه جميع ذلك ذاهبا إلى ربه أولا، كما قال الخليل - على نبينا وعليه السلام - فيما حكى الله تعالى عنه:
إني ذاهب إلى ربي
[الصافات:99] - ثم ذاهبا فيه كما يومئ إليه قوله:
سيهدين
[الصافات:99] فإن خطر له في أثناء ذلك أنه ذهب إلى ربه وفني عن نفسه، وغاب عن ذاته، فذلك سكون عن الذهاب في الجملة ووقوف مع النفس، فهو شوب وكدورة، بل الكمال في أن يفنى عن نفسه، ويفنى عن الفناء أيضا، فالفناء عن الفناء غاية الفناء ونتيجته البقاء.
والغيبة عن الغيبة كمال الغيبة وفائدته الحضور.
وهذا يظنه الفقيه الرسمي أنه مجرد ألفاظ بلا طائل، أو طامات غير معقولة - وليس كذلك - بل هذه الحالة للعرفاء الكاملين - بالإضافة إلى مقصودهم - كحالته بالقياس إلى أكثر مطالبه مما يحبه كثيرا من جاه أو مال، أو تقرب من سلطان، أو تفوق في البحث على مشارك أو غير ذلك، فإنه قد يصير مصروف الهم مستغرقا لشدة الغضب بالفكر في عدو أو منازع له في علمه أوجاهه عند الناس، أو مسغرقا لشدة الشهوة بالفكر فيما هو معشوقه، حتى لا يكون فيه متسع لإدراك آخر، فعند ذلك الحال ربما يخاطب ولا يفهم، ويجتاز بين يديه غيره فلا يراه وعيناه مفتوحتان، ويتكلم عنده ولا يسمع وما باذنه صمم وهو في هذا الاستغراق غافل عن كل شيء، وعن الاستغراق أيضا، فإن الملتفت إلى الاستغراق غافل عن المستغرق فيه.
وإنما سموا هذه الحالة فناء - وإن كان الشخص والظل باقيا - لأن الأشخاص والأظلال بل سائر المحسوسات ليس لها حقيقة الوجود، بل وجودها كحكايات المرائي والظلال، وإنما الوجود الحقيقي لعالم الأمر والملكوت، والقلب من عالم الأمر، قال الله تعالى:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء:85]. والقوالب من عالم الخلق، وليس هذا إشارة إلى قدم الروح وحدوث القالب، بل هما جميعا حادثان، وإنما أعني بعالم الخلق ما يقع فيه التقدير والمساحة وهي الأجسام وصفاتها، وبعالم الأمر ما لا يتطرق إليه التقدير والمساحة.
ونحن خاصة قد بينا ذلك وبرهنا على أن المقدار الاتصالي - جوهرا كان أو عرضا - غير موجود في نفسه، وعلى أنه مناط الجهالة والنسيان، كما أنه مناط العدم والفقدان، لزوال كل جزء، وغيبة كل بعض عن كل بعض، وعن الكل أيضا، فالعالم الجسماني ليس وجوده إلا كوجود الظل، فهو من العالم العقلي كالظل من الشخص، فكما ليس لظل الشخص حقيقة الشخص، فليس للشخص - أي الجسم - حقيقة الوجود، بل هو ظل حقيقة الوجود، والكل من صنع الله
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
[الرعد:15] وسجود عالم الأمر لله طوع، وسجود الظلال كره، وتحت هذا سر بل أسرار يحرك أوائلها سلسلة المجانين والحمقى فضلا عن أواخرها.
الإشراق الرابع
أحوال الذكر ومراتب سلوكه
إذا فهمت معنى مراتب الذكر والذاكر، وفناء الذاكر بحسب المرتبة الأخيرة في المذكور، فإياك والاستنكار والتكذيب بما لم يحط به علمك، ولم تحط بعلمه، كما قال سبحانه:
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه
[يونس:39]. وقال أيضا:
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذآ إفك قديم
[الأحقاف:11].
واعلم: أول الأمر هو الذهاب إلى الله، وإنما الهدى بعده كما مر ذكره في قوله تعالى حكاية عن الخليل (ع):
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات:99]، فأول الأمر ذهاب إلى الله، ثم ذهاب في الله تعالى، وذلك هو الفناء والاستغراق به، ولكن هذا أولا يكون كالبرق الخاطف قلما يدوم ويثبت، فإن دام وصارت ملكة راسخة وهيئة ثابتة عرج به إلى العالم الأعلى، وطالع الوجود الحقيقي للمولى، وانطبع فيه نقش الملكوت، وتجلى لذاته قدس اللاهوت.
وأول ما يتمثل له من ذلك العالم جواهر الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء (ع) في صور جميلة يفيض بواسطتها عليه بعض الحقائق، وذلك في البداية إلى أن تعلو درجته عن المثال، فيكافح بصريح الحق في كل شيء، فاذا رد إلى العالم المجازي وجواهره التي هي كالظلال، ينظر إلى الخلق نظر مترحم عليهم لحرمانهم عن مطالعة جمال حضرة القدس، ويعجب من أصحاب الفهوم الفكرية وأرباب العلوم والعقائد الجزئية وقناعتهم بالظلال، وانخداعهم بعالم الغرور والخيال، مع ما كان لهم أولا من الاستعداد لطلب الكمال والارتقاء إلى عالم الحق المتعال، فأفسدوه بانكبابهم على أغراض هذا الأدنى، وإعراضهم عن الطريق المثلى، وانحرافهم عن مطالعة آيات الله الكبرى، ومع ذلك فيعاشرهم ويخالطهم بالظاهر، ويكون البعد بينه وبينهم بحسب الباطن كما بين المشرق والمغرب، فيكون معهم حاضرا بشخصه غائبا بقلبه، تعجب هو من حضوره ويتعجبون من غيبته لو تفطنوا.
فهذه ثمرة لباب الذكر، وإنما مبدؤها ذكر اللسان، ثم ذكر النفس تكلفا ثم ذكر القلب طبعا، ثم استيلاء المذكور على الروح، ثم انمحاء الذكر عن السر حقيقة. وهذا سر قوله: { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }.
وسر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ".
بل سر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضل الذكر الخفي على الذكر الذي يسمعه الحفظة سبعين ضعفا.
فإن كل ذلك يشعر به قلبك فيسمعه الحفظة، وذلك لأن شعورهم يقارن شعورك كما يعلمه الراسخون في الحكمة، حتى إذا غاب ذكرك من شعورك بسبب ذهابك في المذكور بالكلية، فيغيب ذكرك عن شعور الحفظة، وما دام القلب يشعر بالذكر ويلتفت إليه، فهو معرض عن الله، وغير منفك عن شرك خفي حتى يصير مستغرقا الواحد الحق، فذلك هو التوحيد، كذلك المعرفة إذ هما واحد كما علمت.
قال بعض العارفين في مقاماته: من آثر العرفان للعرفان فقد قال الثاني، ومن وجد العرفان كأنه ما وجده، بل وجد المعروف به فقد خاض لجة الوصول، أي هو الذي استمكن من حقيقة الوصال، وحل بحبوحة القدس.
فهذه أمور نبهت عليها لتكون متشوقا إلى أن تصير من أهل الذوق والمحبة بها، فإن لم تكن، فمن أهل العلم بها، فإن لم تكن، فمن أهل الإيمان بها إيمانا بالغيب:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات
[المجادلة:11].
وإياك وأن تكون من المنكرين لها فتلقى العذاب الشديد إذا كوشفت بالحق عند ملاقاة سكرات الموت الذي كنت منه تحيد، وقيل: لك:
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق:22].
[62.11]
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
فيما قيل في معنى الآية
قالوا: أخبر الله عن جماعة عادلين قابلوا أكرم الكرم بألوم اللوم، وباعوا أنفس النفيس بأخس الخسيس، فقال: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا } - أي إذا عاينوا ذلك، أو علموا بعلامة وهي الطبل - عن مجاهد، - أو المزامير - عن جابر -.
{ انفضوا إليها } - أي تفرقوا عنك خارجين إليها. وعن الفراء: مالوا إليها. والضمير للتجارة، وإنما خصت بإرجاع الضمير إليها لأنها كانت أهم إليهم وهم بها أسر وأفرح من الطبل، لأن الطبل إنما دل على التجارة.
وقيل: عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاء به، وكأنه على حذف، والمعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوا انفضوا إليه، فحذف " إليه " لأن " إليها " دال عليه.
وروي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلا يسير، قيل: ثمانية - عن الكلبي -، وقيل: أحد عشر - عن ابن كيسان -، وقيل: إثنا عشر -
" عن جابر بن عبد الله، قال: أقبلت عير ونحن نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجمعة، فانفض الناس إليها، فما بقي غير إثنا عشر رجلا أنا فيهم. وقيل: أربعون، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده، لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا ".
وكانوا إذا أقلبت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، فهو المراد باللهو، فعلى هذا تعين إرجاع الضمير إلى التجارة لأنها كانت مقصودهم الأصلي، وكان الطبل طريق اطلاعهم عليها.
وعن قتادة ومقاتل: فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل يوم لعير تقدم من الشام، وكل ذلك وافق يوم الجمعة.
" وقال المقاتلان: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي، ثم أحد بني الخزرج، ثم أحد بين زيد بن مناة بتجارة من الشام، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة إلا آتيه، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره، فينزل عند أحجار الزيت - وهو مكان في سوق المدينة -، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر يخطب، فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء، وأنزل الله هذه الآية ".
وروي عن أبي عبد الله (ع) إنه قال: انصرفوا إليها وتركوه قائما يخطب على المنبر.
وقال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب إلا وهو قائم فمن حدثك أنه خطب وهو جالس، فكذبه.
وسئل عبد الله بن مسعود: أكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب قائما؟ فقال: أما تقرأ وتركوك قائما؟ وقيل: أراد قائما في الصلاة.
الإشراق الثاني
إيمان الأكثرين عادة وتقليد
اعلم أن الغالب على الخلق حب التلذذ بالدنيا، والتمتع بطيباتها التي هي خبائث العالم الأعلى، لأن التجسم غالب على طباع الناس إلا الأقلين، كما أشار إليه قوله تعالى:
إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[العصر:2 - 3].
وقل من الإنسان من آمن بوجود المبدأ والمعاد إيمانا حقيقيا، وصدق بالله واليوم الآخر إذعانا يقينيا، وأكثر الذين يدعون الإيمان لهذه الأركان إذا فتشت عن إيمانه يكون مرجعه إما القول باللسان فقط، وإما هو مع التقليد المحض للمشايخ والآباء من غير برهان ولا حجة إقناعية، كالعميان، واما التعصب لمذهب نشأ فيه مع الأصحاب والرفقاء والخلان، وإلف وعاده حصلا له بسبب المعاشرة مع المسلمين، أو التشبه بأهل العلم واليقين بصور أعمالهم وألفاظهم الدائرة على ألستنهم، من القول بوجود الإله الملك، والنبي والإمام، والكتاب والوحي والقبر والبعث، والحشر والنشر للصحائف، والتطاير للكتب، أو مجرد الظن والتخيل لهذه المسموعات على سبيل التجويز العقلي، من غير وصول إلى حقيقة الأمر، أو حصول طمأنينة قلبية توجد للنفوس السليمة عن الأمراض الباطنية، كما للسعداء من أصحاب اليمين.
وشيء من تلك الأمور لا يؤثر في قلب الإنسان اثرا يوجب انتزاع نفسه عن الدنيا، وحسم مادة الميل إلى شهواتها، بحيث ينزجر بلا زاجر خارجي، ويرتدع من غير رادع يجبره بحكومة عرفية أو شرعية، فمتى وقعت مسامحة أو توهمت من طرفهما، أو انبعث داع مجدد يحرك سلسلة الحرص والهوى، فيرجع مسرعا إلى ما اقتضته طبيعته وآدميته، وينقلب إلى ما يميل إليه ذوقه وهواه، كالحجر المستكن في الهواء قسرا إذا خلي وطبعه يميل إلى أسفل السافلين، وأما المؤمن الحقيقي العارف بالحق، المصدق لما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشاهدة لليوم الآخر كشفا، والموقن بأن الآخرة خير له من الأولى، فهو في غاية الندور، وقد وقع التصريح به في كثير من الآيات القرآنية بأن أكثر المتسمين بالمؤمنين كافرون ضميرا وقلبا، منافقون بالله ورسوله، مثل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله
[السناء:136] وقوله تعالى:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف:106]. وقوله تعالى:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103] وقوله:
يحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون
[يس:30] وقوله تعالى:
يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون
[النحل:83]. وقوله تعالى:
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105].
الإشراق الثالث
النور الفائض على القلب
اعلم أن كلام الرسول الخارجي لا يسمعه من لم يكن له في الباطن رسول قلبي بوارد من واردات الحق سحبانه، ويكون القلب به حيا كما قال تعالى:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل:80] وقال:
لينذر من كان حيا
[يس:70]. فالقلب الحي بنور وارد الحق، يسمع بذلك النور كلام الرسول الخارجي ويفهمه ويقبله، فسر القلب الذي هو قابل لفيض نور وارد الحق يكون الرسول بين الحق والعبد، فيأخذ الأسرار والمعاني والحكم والمواعظ من نور وارد الحق، ويبلغها إلى قواه الداخلة والخارجة، وسائر الأمة المسلمة من الأوصاف والأخلاق الحسنة.
كما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" واعظ في قلب كل مؤمن ".
وقال بعضهم : حدثني قلبي عن ربي.
وتحقيق ذلك: أن كل إنسان يلاقي الأمور الغيبية والشهادية بما في نفسه وطبعه، بل كل قوة تدرك وتنال شيئا إنما تدركه وتناله بما في ذاتها، فالبصر مثلا إنما يدرك الأضواء والألوان لأنه من جنسها، لكونه شفافا نورانيا، والسمع يدرك كيفية تموج الهواء الحاصل من المقروع والمقلوع، لأن من شأنه أن ينقرع وينقلع حامله بتموج ما يجاوره من الهواء الراكد، وكذا القوة الشمية القائمة بعصب اللسان، تنفعل بالمذيقات بسبب تكيف آلتها التي هي رطوبة لعابية بكيفية المطعومات، ونسبة تلك الرطوبة إلى كيفية الطعوم كنسبة الجرم الشفاف إلى كيفية الضوء واللون، وهكذا قياس سائر الحواس الظاهرة والباطنة.
فالوهم يدرك الموهومات، والعقل الذي هو جوهر مفارق يدرك الحقائق المجردة عن الغواشي الماديات، فالإنسان بكل قوة وبكل نشأة يكون له وفيه حصة منها يدرك ما في تلك النشأة من الأمور الغريبة.
ولهذا قال بعض الحكماء: العقل نور الله، ولا يهتدي إلى النور إلا النور، ولا تظهر صورة فرادنية إلا في مرآة فردانية، والنفس مرآة العقل، ومرآة العقل لا تشبه مرآة الأجسام، ومرآة الله لا تشبه مرآة غير الله - انتهى.
وإليه الإشارة بقوله تعالى:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
فإذا علمت ما ذكرناه -، فاعلم أن من جملة القوى المودعة من أمر الله العالم الإنساني، هو نور فائض من الله على قلب المؤمن المجاهد في سبيل الله، وهو إنما يجيء إليه من عالم الملكوت، ويقذف في قلبه بعد استكماله بمراتب الحس والخيال والوهم والعقل بالعلوم الرسمية والآداب الشرعية، وطور ذلك النور فوق أطوار سائر المدارك والمشاعر والعقول الجمهورية، وهو من أنوار النبوة والولاية.
فبذلك النور يقبل الأحكام النبوية، ويفهم الأسرار الإلهية، وينال الحظ الوافر من العلوم الربانية، فيتبع الرسول الخارجي والمبلغ العيني بالرسول الداخلي والمبلغ الغيبي، فالبرسل يدرك الرسول، وبالنور ينال النور، كما أن بالعقل يعقل العقل والمعقول، وبالحس يحس الحس والمحسوس، فمن لا يكون له وارد من الحق، ولا نصيب من نوره، لا يفهم لسان النبي الوارد من الحق إلى الخلق، ولا يدرك النور الذي معه، والكتاب الذي أنزل إليه،
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور:40].
وهكذا حال أكثر الناس
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا
[يونس:36]. ولذلك لم يبق مع الرسول من العدد الكثير لأصحابه في ألطف وقت من أوقات صحبته، وأنور ساعة من ساعات خدمته معدة لمرافقتهم إياه، وصحبتهم. له (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعروجهم معه إلى العالم الأعلى، وهو وقت ذكر الله، والصلاة التي هي معراج المؤمن، وعمود الدين، ومناجاة العبد للرب، فخلوه وتركوه قائما إيثارا لهذا الخسيس الدني على الشريف العلي.
نظير ذلك ما وقع لهم في ترك النجوى مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أوجبت عليهم الآية صدقة يسيرة - حبة أو شعيرة -، ففوتوا ذلك الأمر العظيم بإمساك هذا التراب الرميم، لما روي أنهم أكثروا مناجاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يريدون، حتى آلموه وأبرموه، فنزلت:
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات
[المجادلة:13]. وأمروا بأن من أراد أن يناجيه قدم قبل مناجاته صدقة.
" وعن أمير المؤمنين (ع): لما نزلت، دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: كم؟
قالت: حبة أو شعيرة. قال: إنك لزهيد. فلما رأوا ذلك اشتد عليهم فارتدعوا وكفوا عن النجوى حتى نسخت ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي. كان لي دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم ".
فانظر في هذه الحكاية بنظر التأمل، حتى تعلم أن أهل المودة الأخروية في غاية القلة والندرة بالنسبة إلى أهل المودة الدنيوية، وأن عدد طالبي الحق بالنسبة إلى طالبي الهوى كعدد الشعرة البيضاء في جلد البقرة السوداء.
في قوله سبحانه:
{ قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين }
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
إجمال معنى الآية
{ قل } - يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - لهذه النفوس المحجوبة عن عالم الربوبية وما يليه من سكان عالم الجبروت والملكوت، وهي مبادي الصور الفائضة على مواد هذا العالم بعد نزولها ومرورها على المراتب، وينابيع اللذات والخيرات النازلة منها على قوابل الأجساد وطبائع الأجرام، بعد تكدرها بالشوائب، ومفاتيح خزائن النعمة والرحمة والايمان، وأبواب الوصول إلى الجنة والرضوان: إن ما عند الله أحمد عاقبة وثوابا، وأجل مرجعا ومآبا من اللهو والتجارة، وهما هوسان زائلان، والله خير الرازقين يرزقكم من حيث لا تحتسبون، وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة - وما من دابة إلا على الله رزفها -، فمن ابتغى زاد الآخرة كان له نعمة الدنيا والآخرة، ومن ابتغى تحصيل الدنيا حرم عن الآخرة.
قال الله تعالى:
من كان يريد ثواب الدنيا
[النساء:134] -الآية -.
أي: من كان دني الهمة قصير النظر خسيس الطلب حتى يطلب من الله الدنيا الدنية، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، فللإنسان أن يطلب منه ما هو أعظم من الدنيا، فإن الله من سعة كرمه وبسطة جوده، وفيض وجوده الذي هو ينبوع ينابيع الخير والرحمة، ومفتاح مفاتيح الجود والنعمة، يحب أن يسأل العبد منه عوالي الأمور، ومعالى الأشياء، ويبغض أن يطلب منه دنياتها وسفسافها، فلا يرضى أن يقتنع منه بالدنيا لأنها دنية، بل لا شيء لأن وجودها وجود تبعي ظلي، وعند الله ثواب الدنيا والآخرة، لأن إحداهما من أشعة ذاته وأضواء جماله وجلاله، والأخرى من ظلال أنوار كماله، فمن تكون منزلته عند الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فقد وجد الله ووجد ما عنده من الدنيا والآخرة، وكان الله عطوفا رحيما على عباده، سميعا لحاجات طالبيه ومناجاة مشتاقيه، بصيرا بمصالح دينهم ودنياهم، فلكمال رأفته ورحمته، أمرهم بالرجوع إليه في الأمور، ونهاهم عن الانكباب إلى عالم الدثور، والانخراط في سلك أصحاب القبور.
الاشراق الثاني
أقسام الرزق ومستحقيه
إعلم أن للإنسان أرزاقا مختلفة سوى رزق المعدة، وهي رزق القلب ورزق الروح، ورزق السر، وكل إنسان في هذا العالم يستحق بجسميته رزق القالب، لأن هذا أدنى درجات الحيوان - بما هو حيوان -، والإنسان بحصة حيوانيته يكون من أهل استحقق الجحيم، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها
[مريم:71]. لأن معدة الإنسان تنور، وجاءت حرارته من فوح نار جهنم التي قيل لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد. وهي التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين المجرمين.
ولبعض الناس رزق القلب -
ومن رزقناه منا رزقا حسنا
[النحل:75] والى هذين الرزقين أشير بقوله:
يرزقكم من السمآء والأرض
[النمل:64]. ولقوله:
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة:66].
وأما رزق الروح فلقوله تعالى:
ورزق ربك خير وأبقى
[طه:131].
وأما رزق السر فكقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ".
فقوله تعالى: { والله خير الرازقين } -، يحتمل الجميع، فإن الرزاق الحقيقي في كل رزق إنما هو ذاته، وأما في القسم الأخير فدرك معناه يحتاج إلى لطف قريحة - فافهم -.
الإشراق الثالث
الرزق المخصوص بالإنسان
إعلم أن الرزق والنعمة وما يجري مجراهما وقد يعبر بها عن كل مطلوب ومستلذ، والمطالب والمستلذات للإنسان على ثلاثة أجناس، لأنها إما عقلية، وإما نفسية وإما بدنية والأول: كلذة العلم والحكمة، والثاني: كلذة الجاه والسلطان، والثالث كلذة الأكل والمجامعة.
وفي الأخيرين يقع الإشتراك بينه وبين سائر الحيوانات.
وأما المطالب العقلية، فهي أقلها وجودا وأشرفها رتبة، أما قلتها فلأن المعرفة لا يتسلذها إلا العلماء، والحكمة لا ينالها إلا الحكماء، وما أقل أصحاب العلم والحكمة، وما أكثر المتسمين بإسمهم والمترسمين برسمهم، وأما شرفها، فلأنها لذة لا تزول أبدا - لا في الدنيا ولا في الآخرة -، ودائمة لا تمل، والطعام والشراب يشبع منه، وشهوة الوقاع تفرغ وتستثقل، ومن قدر على الشريف الباقى أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني أقرب الآماد، فهو سفيه في عقله، محروم بشقاوته وإدباره.
ثم العلم لذيذ ونافع وجميل في كل حال، والمال والأولاد تارة تجذب إلى الهلاك، وتارة تجذب إلى النجاة، ولهذا قال تعالى:
إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة
[التغابن:15].
وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم، فإما لعدم الوجدان والذوق، فمن لم يعرف لم يذق، ومن لم يذق لم يشتق، إذ الشوق تابع للذوق. وإما لفساد فطرتهم الأصلية، ومرض قلوبهم بسبب اتباع الشهوات، كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مرا، وإما لقصور فطرتهم، إذ لم يخلق بعد لهم الغريزة التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة الطعوم اللذيذة إلا اللبن.
فالقاصر عن لذة المعرفة والحكمة ثلاثة: إما من لم يحي باطنه، كالجنين بل كالمني، وإما من مات بعد الحياة باتباع الشهوات، وإما من مرض بسبب الصفات المكتسبة مثل العصبية والعناد واللجاج والعجب وسوء الظن والتكبر وحب الرياسة.
وقوله تعالى:
في قلوبهم مرض
[البقرة:10]. إشارة إلى مرض القلب ولذا قال:
فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم
[البقرة:10]، لأن مرض القلب مما يشتد يما فيوما، ويرسخ حتى يؤدي إلى الهلاك السرمدي والعذاب الأبدي، وقوله تعالى:
لينذر من كان حيا
[يس:70] إشارة إلى من لم تمت حياته الباطنية، وكل حي بالبدن ميت القلب فهو عند الله من الموتى، وإن كان عند أهل الحجاب من الأحياء، وكذا كل ميت بالبدن حي بالقلب فهو من الأحياء، لأن العبرة في عالم الحقيقة بالقلب لا بالقالب، ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون بالأرزاق المعنوية، فرحين بما آتيهم الله من فضله - وهي اللذات العقلية - وإن كانوا موتى بالأبدان.
وأما اللذة التي يشارك الإنسان بها بعض الحيوانات، فهي كلذة الغلبة والاستيلاء والرياسة، أو كلها، فهي كلذة البطن والفرج، فإن الأولى موجودة في الأسد والنمر وأشباهها، والثانية موجودة في سائر الحيوانات، فهذه أكثرها وجودا وأخسها رتبة، ولذلك اشترك فيها كل ما دب على الأرض ودرج حتى الديدان والحشرات.
ومن جاوز هذه الرتبة تستثبت فيه لذة الغلبة وهي أشدها التصاقا بالمتعاقلين.
فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالث، فصارت أغلب اللذات عليه لذة العلم والحكمة، ولا سيما معرفة الحق الأول، ومعرفة صفاته وأفعاله من الجواهر الملكية والفلكية، والنفوس الأرضية وما بعدها، من جهة مباديها وغاياتها وهذه رتبة الصديقين، وهي المسماة عند الحكماء والعرفاء بالخير الحقيقي، وباقي الخيرات خيرات بالاضافة.
وإلى الخير الحقيقي أشار بقوله تعالى:
وما عند الله خير للأبرار
[آل عمران:198] وإلى الخير الإضافي أشار بقوله تعالى: { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } ، لما بينا ان عند الله يوجد كل نعمة ورزق دنيوي وأخروي، لأن الجميع ظلال أنواره ورشحات بحاره.
الاشراق الرابع
معرفة الله أجل اللذات
إعلم أن دعوى كون ما عند الله خيرا من اللهو الذي هو لذة القوة الحسية وشهوة النفس البهيمية، ومن التجارة التي هي لذة القوة الخيالية والنفس السبعية، إذ بها يحصل الجاه والحشمة مما يشكل إثباته على أكثر الناس لغلبة التجسم عليهم، وكثافة الحجاب فيهم، فإن كون معرفة الله وصفاته، ومعرفة ملكوت سماواته وأسرار ملكه، أعظم من لذة الرياسة وسائر المرغوبات، مما يختص دركه بمن نال رتبة المعرفة وذاق مشرب الحكمة، ولا يمكن إثباته على من لا قلب له، لأن القلب معدن هذه القوة، كما لا يمكن إثبات لذة الرياسة ورجحانها على لذة الوقاع عند الأداني والسفهاء ولا إثبات لذة الوقاع على لذة اللعب بالكرة والصولجان عند الصبيان، ولا إثبات لذة الروائح عند فاقد الشامة، كالجعل، أو مريضها، كالمزكوم، لفقدهم القوة التي بها تدرك هذه اللذة أو سلامتها.
ولكن من كان ذا ذائقة، وسلمت ذائقته عن الأمراض والآفات، فيدرك - لا محالة - ما يناسبه من اللذات، وعند هذا ينبغي أن يقال لفاقد تلك الغريزة الباطنية: " إن من ذاق عرف ".
ومما ينبهك أن معرفة الله ألذ الأشياء، أن طلاب العلوم - وإن لم يشتغلوا بطلب المعارف الإلهية واللطائف الربوبية -، قد استنشقوا رائحة من روائح هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلب العلوم التي يطلبونها فإنها أيضا معارف وعلوم، وإن كانت معلوماتها غير شريفة، لأن كل علم هو حضور صورة مجردة عن مادتها عند الذهن، والصورة المجردة أصفى وألذ من الصورة المادية.
فإذا كانت هذه هكذا، فما ظنك بلذة من طال فكره في الملكوت حتى انتهى إلى معرفة الله، وقد انشكف له شيء من أسرار ملك الله وملكوته؟ أو لم يصادف في قلبه عند حصول ذلك طربا عقليا وفرحا قدسيا ما يكاد يترك به عالم الأجسام كلها ويطير إلى عالم القدس، نعم، يوجد من يصادف ذلك في كثير من أوقاته، ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة طربه وسروره، وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق، والحكاية قليلة الجدوى فيه.
الإشراق الخامس
حب التفرد عن الخلق
لذة معرفة الله والنظر إلى وجهه الكريم، والمطالعة لجمال الحضرة الربوبية، والشهود لأسرار الأمور الإلهية، ألذ اللذات الباطنية من الرياسة والحكومة، وأعلى الشهوات الغالبة على أنفس الناس وخير الأرزاق الصورية والمعنوية يرزق بها من يشاء من عباده المقربين وأوليائه الصالحين.
ولهذا ترى العارف الرباني يؤثر التفرد عن الخلق، والخلوة مع الحق، بالتبتل والفكر والذكر على الدوام، ويترك الرياسة، ويستحقر الخلق، ويستهزئ بهم كما هم يستهزؤون به، لعلمه بفناء شهوتهم وانقطاع رياستهم وانفساخ أرزاقهم الصورية الحسية والخيالية، وكونها مشوبة بالكدورات، منغضة بالمزاحمات، مقطوعة بالموت الذي يهدم اللذات ويقطع الرياسات، ولا بد منه مهما
أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا
[يونس:24] - الآية - فتشغله - بالإضافة إلى هذه اللذات المحقرات - لذة الحكمة والمعرفة بالله، والمطالعة لصفاته وملكوت أفعاله، ونظام مملكته الآخذة من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فإنها خالية عن المزاحمات والمكدرات، متسعة للمتواردين لا تضيق عليهم بكثرتها، وإنما عرضها من حيث التقدير عرض السموات والأرضين، لأنه إذا خرج النظر عن عالم المساحة والخلق والتقدير، فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السماوات والأرض، يرتع في رياضها، ويقتطف من ثمارها وهو آمن من انقطاعها إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى، لأن محله الروح الذي هو أمر نوارني سماوي وإنم يغير الموت أحوالها، ويقطع أفعالها الدنيوية وشواغلها وعوائقها ويخليها وعالمها.
فأما أن يعدم ذاتها وصفاتها وكمالاتها الذاتية فلا، لقوله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بمآ آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم
[آل عمران:169 - 170]. ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة، فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد.
وفي الخبر:
" إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهداء "
، وإن الشهداء يتمنون أن يكونوا من العلماء، لما يرونه من علو درجة العلماء.
وفي الحديث أيضا: إذا كان يوم القيامة توضع الموازين فيوزن مداد العلماء مع دماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء.
فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان الحكيم العارف، يتبوء منها حيث يشاء، من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجمسه وشخصه، فهو من ملاحظة جمال الملكوت في جنة عرضها كعرض السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها من غير مزاحمة بينهم، إلا أنهم يتفاوتون في سعة متنزهاتهم بقدر سعة معارفهم - وهم درجات عند الله - وهكذا حالهم في الدنيا وفي الآخرة قبل الموت وبعده، إلا أن الموت يزيدهم انكشافا وظهورا وجلاء ووضوحا لمعارفهم ومقاصدهم - فافهم واغتنم -.
الإشراق السادس
في تأكد ما عند الله خير الخيرات وأبهج اللذات وأن كل لذة وبهجة تنظوي في إدراك ذاته وشهود صفاته
فإذا علمت أن لذة العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألذ اللذات عند العارف الرباني، فلا تتعجب من إيثاره هذه اللذة على سائر اللذات، واستيحاشه عن صحبة الخلق ومستلذاتهم إلى حيث يصير، طرده الناس واستحقروه خصوصا المشغوفين بالعقول الناقصة الدنيوية، والعلوم الجزئية المعروفة عند الناس، التي توجب مراجعة الخلق لهم.
ولهذا قال بعضهم: إذا بلغ الرجل إلى غاية يستغرق في العلم بالله رماه الناس بالحجارة. أي يخرج كلامه عن حد عقولهم فيرون ما يقوله جنونا.
وقصد العارفين كلهم ملاحظة لقائه ومشاهدة ملكوته فقط، فهي قرة أعينهم التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، فصارت الهموم كلها فيهم هما واحدا، بل من عرف الله عرف أن اللذات المغرقة بالشهوات المختلفة ، كلها تنطوي تحت هذه اللذة، كما قال بعضهم:
كانت لقلبي أهواء مفرقة
فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده
وصرت مولى الورى إذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم
شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي
وقال بعضهم:
وهجره أعظم من ناره
ووصله أطيب من جنته
فمن عرف الله انمحقت عنه الهموم والدواعي، سواء كانت من باب الدرهم والدينار، أو من باب الجنة والنار، أو من باب البحث والتكرار والصيت والاشتهار، واضمحلت عنه الشهوة والغضب وقهر تشويشهما، فغلبة المعرفة بالله مبدأ كل حب وطلب، فلا داعي له سوى الله جلب منفعة أو دفع مضرة، فلو ألقي في النار لم يحس بها، ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليها، فكيف إلى هذه اللذات المخدجة.
ولهذا قال أمير المؤمينن (ع): ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.
وقال بعض العرفاء: إن أدخلني الله الجنة بمرادي فويل لي، وإن أدخلني النار بمراده فنعم الحبس.
وقال أبو سليمان الداراني: إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف النار ورجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟
وقال بعض إخوان معروف الكرخي له: أخبر أي شيء أهاجك إلى العبادة والتفرد عن الخلق؟ فسكت.
فقال له: ذكر الموت؟
فقال: ذكر الموت؟ فقال له: وأي شيء الموت؟
فقال: ذكر القبر والبرزخ؟ فقال: أي شيء من هذا؟
فقال: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شيء من هذا -؟ فقال: إن ملكا بيده هذه كلها أن أحببته أنساك جميع ذلك. وان كانت بينه وبينك معرفة كفاك جميع هذا.
خاتمة
في ذكر نبذ من مواعظ حكمية ونصائح قرآنية ينتفع بها من له قلب سليم، مأخوذة بعضها من كلام الله تعالى وأحاديث نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعضها من أقوال العرفاء ونصائح الحكماء في هذا الباب، طمعا في أن يصير سببا لتنبيه القلوب الراقدة في مراقد الغفلات، وباعثا على إيقاظ النفوس النائمة في مضاجع الجهالات وإن كان معلوما أن أهل هذا العصر ممن قال في حقهم الشاعر:
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
إلا أن أرض الله لا تخلو عن مؤمن تقي وصالح نقي، وبلاد الله لا تكون ذات حبوب وثمار وأشجار لأجل الدواب والأنعام كالفرس والحمار، بل لا بد لوجود ذوي الألباب ليكون معاني صور هذا الكتاب.
قال الله تعالى ناصحا لرسوله وحبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، هاديا له طريق الفلاح لتهتدي أمته بهداه، ويتنور باطنهم بنور ورعه وتقواه:
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى
[طه:131]. فنهى سبحانه رسوله عن النظر إلى متاع الدنيا وزهرة حياتها الفانية، كيلا تتلوث طهارة ذاته المجردة وعينه المقدسة بكثافة مستلذاتها وخبائث مشتهياتها.
وأمثال هذه الآية من الآيات والنصوص الدالة على ذم الدنيا وتهجين أهلها، ومدح الآخرة وتحصين أهلها، أكثر من أن تحصى، مثل قوله:
فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم
[النجم:29 - 30].
وكقوله:
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
[الكهف:28]. إلى غير ذلك.
قال المولوي في المثنوي:
كفتن حق بارها به ييغمبر
كه بدنيا وأهل أو منكر
وفي كتاب الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا ".
ثم قال: حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا.
وعنه (ع) إنه قال:
" من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا داءها وأخرجه من الدنيا سالما إلى دار السلام ".
وعنه (ع):
" جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا ".
وعنه (ع) قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو محزون، فأتاه ملك ومعه مفاتيح خزائن الأرض، فقال: يا محمد، هذه مفاتيح خزائن الأرض، يقول لك ربك: افتح وخذ منها ما شئت ، من غير أن تنقص شيئا عندي.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له ".
فقال الملك: والذي بعثك بالحق نبيا لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السماء الرابعة حين أعطيت المفاتيح.
وروى الشيخ الجليل عماد الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في هذا الكتاب مسندا إلى جابر - رضي الله عنه - عن أبي جعفر (ع) حديثا طويلا في باب ذم الدنيا والزهد فيها ذكر فيه:
- يا جابر - الآخرة دار قرار، والدنيا دار فناء وزوال، ولكن أهل الدنيا أهل غفلة، وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمهم عن ذكر الله - جل اسمه - ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم.
- وفيه إشعار بأن الفقه ليس معناه - في عرف الأئمة ولسان السابقين الأولين - هذه الصناعة المشهورة، بل العلم الذي يوجب الاستغراق في أمر الآخرة وأحوال الباطن، والإعراض عن الدنيا بالكلية.
ثم قال فيه: - واعلم يا جابر أن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة وأكثرهم لك معونة تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك قوالون بأمر الله قوامون على أمر الله، قطعوا محبتهم بمحبة ربهم، ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم، ونظروا إلى الله - عزو جل - وإلى محبته بقلوبهم.
- ثم قال (ع): - فانزل الدنيا كمنزل نزلته ثم ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، إني إنما ضربت لك هذا مثلا لأنها عند أهل اللب والعلم بالله كفيء الظلال.
وعن أمير المؤمنين (ع) في بعض خطبه: من عظمت الدنيا في عينه، وكبر موقعها في قلبه، آثرها على الله تعالى، فانقطع إليها، وصار عبدا لها، ولقد كان في رسوله الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها إذ قبضت عنه أطراقها ووطئت لغيره أكنافها وفطم عن رضاعها وزوي عن زخارفها.
وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله (ع ) إذ يقول:
رب إني لمآ أنزلت إلي من خير فقير
[القصص:24] والله ما سأله إلا خبزا يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه.
وإن شئت ثلثت بداود (ع) صاحب المزاميز وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: " أيكم يكفيني بيعها " ويأكل قرص الشعير من ثمنها.
وإن شئت قلت في عيسى (ع) [فلقد كان] يتوسد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم يكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، ودابته رجلاه، وخادمه يداه.
فتأس بنبيك الأطيب الأطهر - صلوات الله عليه - فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى.
... قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله.
ولقد كان - صلوات الله عليه - يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته، فيكون فيه التصاوير فيقول لإحدى أزواجه: " يا فلانة غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها " فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا ولا يرجو فيه مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده.
ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يدلك على مساوي الدنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته.
فلينظر ناظر بعقله : أكرم الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك أم أهانه؟!
فإن قال: " أهانه " فقد كذب والله العظيم، وأتى بالإفك القديم. وإن قال " أكرمه " فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا، وزواها عن أقرب الناس منه فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره وولج مولجه وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه، فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه وقائدا نطأ عقبه.
والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت: أغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى. انتهى كلامه عليه من الله سلامه وإكرامه.
وفي كلام بعض الحكماء على طريق الرمز ما قال: لكل قهوة سكارى، ولكل بحر مغرقون، كم بين حاير في الظلمات زحزح عن نور الشمس، وبين حاير أغرقه ضوؤها في قربها الأقرب.
وقال أيضا: بباب الحق قوم لا تشغلهم صدمات الأسباب، ولا يجزعون من البلاء، فإن البلاء صراط الله به عبرت قوافل الرجال، ولو سلكته لوجدت عليه آثارهم ولعرفت فيه أخبارهم، فكل أرض لم يصبها صيب من المصائب أبت أن تنبت نبت النجاح.
وقال: إن تعبد الله حبا خير لك من أن تعبده خوفا، فإن التعبد بالتخويف دين اللئام.
وقال: نقش نفسك يا إنسان بأفضل ما يمكن، ونزهها عن خبيثات الأمور، فإن قيم المواد بصورها.
وقال: أسلك سبيل الله أيها الفكور بقلب يقظان، وقف موقف التعظيم، واطلب بارئ الكل في القرب وإن كان في العلو الأعلى قهرا وشرفا فقال أمر الله لا يتعطل بما توانيت أيها المتخلف، ولكنك تبقى عريا عن الفضائل، مد عينك مدا، وابسطها بسطا، واترك الشاغلات من نبات الظلمة لترى القيوم قائما بالقهر على رأس الوجود كله بالمرصاد.
وقال: لا يترك أهل السيف الجاهلين أن يدنوا، ولا المرأة الشهوية الملقية بالجسد في الطريق أن تشبث بذيلك، وطوائف من النيران التي قل ضوؤها وكثر دخانها طفقت تنطفي بهبوب ريح زعزع كأن عبدة البطن والفرج في الدارين لعنوا لعنا يقطع أدبارهم، ويردهم إلى سواء البرزخ المشحون بالعذاب.
وقال يحيى بن معاذ: مثقال ذرة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.
قال أبو القاسم القشيري: الشوق نار الله أشعلها في قلوب أوليائه، ويحرق ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات.
ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم، فقال: ما فعل أبو نصر التمار وعبد الرحمن الوراق؟ قال: تركتهما الساعة بين يدي الله يأكلان ويشربان. قلت: فأنت؟ قال: علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه.
وعن علي بن موفق أنه قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فرأيت رجلا قاعدا على مائدة، وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل، ورأيت رجلا قائما على باب الجنة يتصفح وجوه قوم، فيدخل بعضهم ويرد بعضا، - قال: - ثم جاوزتهما إلى حظيرة القدس، فرأيت في سرادق العرش رجلا قد شخص ببصره ينظر إلى الله لا يطرق، فقلت لرضوان: من هذا؟ فقال: معروف الكرخي، عبد الله لا خوفا من ناره ولا شوقا إلى جنته، بل حبا له فأباحه الله النظر إليه إلى يوم القيامة.
وقال: أبو سليمان: من كان اليوم مشغولا بربه يكون غدا ناظرا إليه.
وقال الثوري لرابعة: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفا لناره ولا حبا لجنته، فأ:ون كالأجير السوء، بل عبدته حبا وشوقا إليه.
وقالت في معنى المحبة نظما:
أحبك حبين: حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاك
قال بعض أكابر العلماء في معنى نظمها: لعلها أرادت " بحب الهوى " حب الله، لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظها العاجلة، وبحبه لانه أهل له حبه من حيث جماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبين وأقواهما، ولذة مطالعة جمال الربوبية التي عبر عنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال حكاية عن الله:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا إذن سمعت "
- الحديث -.
واعلم أن عبادا قد يعجل لهم بعض هذه اللذات العلي - وهم بعد في حياتهم الدنيا - لأنه قد انتهى صفاء قلوبهم ولطافة أذهانهم إلى الغاية، ولذا قال بعضهم: إني لأقول " يا رب يا الله " ، فأجد ذلك أثقل على قلبي من الجبال، لأن النداء يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه؟
وحكي أن رجلا جاء إلى أبي يزيد فقال: " بأي شيء أستعين على عبادة ربي "؟، فقال: " بالله إن كنت تعرفه، لأن أدنى منازل العارف علمه بأنه ليس به شيء من الحول والقوة، فإذا علم بذلك، صارت الأشياء كلها له؟ ".
وقال فضيل: من عرف الله حق معرفته صارت جميع حركاته طاعة، وجميع أنفاسه ذكرا، وجميع أحواله أنسا، وجميع إرادته هوية.
وسئل بعض أصحاب القلوب عن حقيقة المعرفة فقال: طيران القلب في عليين، وجولانه في حجب القدرة التي لا يعرفها إلا من أصم أذنيه عن سماع الباطلات، وأعمى عينيه عن النظر إلى الشهوات، وأخرس لسانه عن التكلم بالفضولات. وهو ما قيل في حقيقة المعرفة: والعارفون صم بكم عمي. وقيل: من عرف الله كل لسانه ودهش عقله ودام تحيره.
وقال بعضهم: إن للعارف نارا ونورا، نار الخشية ونور المعرفة، فالدنيا تبكي عليه بعين الفناء، والآخرة تضحك إليه بعين البقاء، فكيف يقدر الشيطان أن يدنو من ظاهره وباطنه إلا كالبرق الخاطف والريح العاصف، فيستعيذ بالله من الشيطان بعينه بلسان العبرة، وبنفسه بلسان الخدمة، وبعقله بلسان الفكرة، وبقلبه بلسان المحبة، وبسره بلسان المؤانسة، فإن أتاه من قبل العين أحرقه نور العبرة، وإن أتاه من قبل النفس أحرقه نور الخدمة، وإن أتاه من قبل العقل أحرقه نور الفكرة، وإن أتاه من قبل القلب أحرقه نور المحبة، وإن أتاه من قبل السر أحرقة نور المؤانسة. وهو إشارة إلى قوله تعالى:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الحجر:42].
قال رويم للجنيد: " كم تنادي على الله بين يدي العامة "؟ فقال: " أنا أنادي على العامة بين يدي الله ".
قال عباس بن يوسف: إذا رأيت رجلا مشتغلا بالله فلا تسأل عن إيمانه، وإذا رأيته مشتغلا بالدنيا فلا تسأل عن نفاقه.
وقال رويم: قوم أفنوا أسرارهم بالحظوظ، وأفنوا أبصارهم باللحوظ، أنى لهم إلى ذكر الحق سبيل.
قال حسين بن منصور: " بسم الله " منك، بمنزلة " كن " منه، فإذا أحسنت أن تقول: " بسم الله " ، تحققت الأشياء بقولك: " بسم الله " ، كما تحقق بقوله: " كن ".
[86 - سورة الطارق]
[86.1]
لما فيها من الشواهد الجلية والخفية على معرفة ذاته وصفاته، ولهذا عظم الله أمر السماء والنجوم في كتابه المجيد، فأقسم بهما في كثير من الآيات كقوله:
والسمآء ذات البروج
[البروج:1] وقوله:
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها
[الشمس:1 - 2] وقوله:
فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس
[التكوير:15 - 16] وقوله:
والنجم إذا هوى
[النجم:1] وقوله:
فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
[الواقعة:75 - 76] كل ذلك تنبيها على أنها صومعة القدوسين، ومعبد الروحانيين، ودلائل صنع خالق السموات والأرضين، وآيات عظمة أول الأولين، هو الذي نورها وصورها، ودورها ورقصها في دوام إشراقاته عليها، وشوقها إلى مزيد إفاضاته ورسالاته إليها، وحركها بالتسبيح والتهليل، وهداها التوسل إلى الرب الجليل.
فما من شخص من أشخاص السماء إلا وله نفس وعقل يحركانه شوقا وطربا إلى حضرة الباري رب الملأ الأعلى، وما من جرم كري نوراني إلا وفيه شواهد وآيات عظيمة دالة على عظمة مبدعها ومنشئها، ولهذا كرر الله ذكرها، وأشار إلى شواهدها وآياتها الدالة عليه سبحانه في مثل قوله:
إن في خلق السماوات والأرض
[البقرة:164] - الآية -، وقد مدح الناظرين فيها، وأثنى على المتفكرين في خلقها بقوله:
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض
[آل عمران:191].
وقال رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح به سبلته "
أي تجاوزها عن غير فكر وذكر.
وذم المعرضين عن التدبر فيها فقال:
وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون
[الأنبياء:32].
وقال:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات
[الأعراف:185].
ولا يتوهمن أحد أن معنى النظر إلى عالم ملكوت السماء بأن يمتد البصر إليه فيرى زرقة السماء وضوء الكواكب وصور البروج، فإن البهائم تشارك الإنسان في هذا النظر، فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله به إبراهيم - على نبينا وأله وعليه السلام - في قوله:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات
[الأنعام:75]. بل المقصود منه التفطن لما فيها من الدلائل والآيات العجيبة الشأن، والشواهد العظيمة البرهان المنبئة عن أزلية الحق الأول، ووجوب وجوده، وكمال قدرته وإرادته، وتمام حكمته وجوده.
فصل
وجوه دلالات وجود السماء على وجود الباري جل مجده
أما دلالتها على وجود الباري جل اسمه، فمن وجوه: من حيث الوجود، والإمكان، والجسمية، وطلوع الكواكب وأفولها - إلى غير ذلك - وككونها مركبات الوجود من مادة وصورة، وككونها ذوات نفوس لها إرادة وعلم وصلاة وتسبيح.
أما الأول: فلأن وجودها الممكن هو المحوج إلى السبب، إذ الإمكان - لكون معناه سلب ضرورة طرفي الوجود والعدم بالنظر إلى الذات المتصفة به - هو علة الحاجة إلى المؤثر، لأنها لما استوى طرفاها امتنع وجودها إلا لمرجح - وهو الله تعالى -.
أما أن الممكن ما يستوي طرفاه، فلاستحالة أن يكون طرفيه أولى به لذاته، لأنه حينئذ إن أمكن طريان الطرف الآخر، فهو إما بسبب، أو لا بسبب، فإن كان الأول، فتفتقر الأولية إلى عدم ذلك السبب، وإن كان الثاني، فيلزم إمكان ترجيح المرجوح من غير مرجح - وهو باطل -.
وإن لم يمكن طريان الطرف الآخر، كان ذلك الطرف ممتنعا، وهذا الطرف واجبا، فيقدح في إمكانه - وهو خلق الفرض -.
وإذ قد علم استواء طرفي الممكن، فلا بد من مرجح يرجح وجوده على عدمه، وهو الله سبحانه، دفعا للدور والتسلسل.
وأما الوجه الثاني: فلأن الممكن ما لم يتعين وجوده عن وجود مؤثر لم يوجد وهو الوجوب السابق، وإذا وجد، فحال وجوده لا يمكن عدمه، وهو الوجوب اللاحق، وكل ممكن محفوف لا محالة بالوجوبين السباق واللاحق، وهما صفتان عرضيتان له - لا من ذاته بل من غيره -، وهو الصانع جل اسمه ، ولأن الممكن يستصحب الاحتياج إلى المؤثر حال البقاء لبقاء الإمكان المقتضي للحاجة إلى المؤثر، فلا بد له من علة مبقية تحفظه ولا يؤودها حفظه وادامته وهو الحق تعالى، فظهر أن إمكان السماء يدل على وجود الحق تعالى، ولولا إرادة الاختصار لأطنبنا الكلام فيه.
وأما الدليل على إمكانها، فجسميتها الباعثة للتركيب عن مادة وصورة، أو عن جسمية مطلقة وأمر يخصه ولعدم خلوها عن الإنفعال والحركات.
وأما الوجه الثالث: وهو من حيث جسميتها، فلأنه قد دل البرهان عندنا على أن الأجسام من حيث جسميتها حادثة، أي واقعة في هويتها الشخصية تحت جنس الحركة والزمان، لأن الزمان من جملة مشخصاتها، وهو - أي الزمان - اتصال التجدد والتقضي، وعدد التغيرات بأجزائه المنفصلة عند الوهم كالأيام، والشهور والسنين والسماء بهويتها الشخصية الواقعة تحت الحركة والحدوث تحتاج إلى محدث غير حادث ولا متجدد يحدثها، وإلا ننقل الكلام إلى علة حدوث ذلك المحدث وتجدده، ويفضي إما إلى التسلسل أو الدور - وهما باطلان -، وإما إلى علة قديمة لا تكون متغيرة أصلا - وهو الواجب جل ذكره -.
فالله سبحانه هو قيوم السماوات والأرض، وإليه تنتهي سلسلة الأسباب والمسببات، وليس لغيره رتبة الإفاضة والايجاد، بل التهييئة والإعداد.
لا يقال: الأفلاك والكواكب أحياء ناطقون بأدلة القرآن والعقل، وهي مؤثرة في أحوال العنصريات بدليل ارتباط الحوادث العنصرية بالحركات السماوية والاتصالات الكوكبية.
لأنا نقول: هذا تمسك بالدوران، وهو لا يفيد الظن فكيف البرهان - وان الظن لا يغني من الحق شيئا -، والمتبع هو البرهان النير الوارد من الحق في القلب، على أن لنا دلائل قطعية على أن لا مؤثر في الوجود إلا الله، وما زعمتم فذلك مبني على علم الهيئة والنجوم، وهو لا يدل على الربط العقلي بين الأشياء بل على الارتباطات الوضعية، والتأثير أمر عقلي لا يستنبط إلا بالبرهان
قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
[البقرة:111].
فإن قيل: إسناد الحوادث إليها كفر أم لا؟
قلت: نعم، كفر، لكن لو قيل: إن المؤثر هو الله سبحانه، وهو قد أجرى حكمته على هذا النظم والترتيب، وربط هذه الآثار بهذه الأسباب، فلا بأس إذ نسبة الآثار إليها كنسبة القطع إلى السكين، والكتابة إلى القلم، لأنها بمنزلة الصحائف المكتوبة فيها آجال الخلق وأرزاقهم، وعقولها ونفوسها المحركة إياها بمنزلة أقلام الحق الأول، والقدرة بمنزلة يد الرحمن، والكاتب هو الله. ومن انكشف له أمر العالم كما هو، علم أن الأفلاك والكواكب لا تتحرك ما لم تحرك، وكذلك محركها، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه، فهي كلها مسخرات بيده كتسخير القلم والقرطاس بيد الكاتب.
فالتفات العبد في النجاة إلى السماء والكواكب، يضاهي التفات من أخذ للحبس أو القتل فكتب الملك توقيعا بالعفو عنه، فيرى نجاته من القلم والقرطاس. لا من محرك القلم عليه، فأخذ يشتغل بالحمد والشكر لهما، وهذا غاية الجهل، ومن علم أن القلم - بما هو قلم - لا حكم له في نفسه، وإنما هو مسخر في يد الكاتب، لم يلتفت إليه، ولم يشكر إلا الكاتب، فالشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر كلها مسخرات في قبضة القدرة كتسخير القلم والقرطاس في يد الكاتب، والمفتاح في يد مفتح الأبواب، كما في الأدعية السجادية في الصحيفة الكاملة حيث قال الداعي بها (ع) في مخاطباته للقمر وقت الهلال: " جعلك مفتاح شهر حادث لأمر حادث ".
وإذا انكشف لك أن جميع ما في السموات والأرض مسخر له تعالى كما أشار إليه بقوله:
ولله يسجد من في السماوات والأرض
[الرعد:15] - الآية - انصرف عنك الشيطان خائبا، وأيس عن مزج توحيده الأفعالي بهذا الشرك المستكن في طبع المنجم والطبيب، فيأتيك لكي يوقعك في المهلكة الأخرى - وهو الشرك في الوجود والبقاء لغير الله -، فتحتاج إلى سلوك طريق الموحدين لتنجو منها، ولنا بفضل الله وملكوته طريقة خاصة لوحنا إليها في مواضع تليق به.
وأما الوجه الرابع: وهو من حيث طلوعها وأفولها - فلأن التغير والحركة من خواص الأجسام ولواحقها، مما يستدعي مؤثرا غير الجسمية المشتركة يخص بعض الأجسام بها دون بعض، إذ لو كانت الحركة مثلا من مقتضيات الجسمية بما هي جسمية، لم يوجد جسم إلا متحركا، وكذلك نخصصها بوجوه مخصوصة وأنحاء مختلفة من السرعة والبطؤ والتشرق والتغرب وغيرها تحتاج إلى صانع يخصها بها.
لا يقال: لكل واحد منها طبيعة خاصة تحركها على الوجه المخصوص. لأنا نقول: الطبيعة المختصة غير كافية في إفادة الحركة وتعيينها على هذا الوجه كما سنشير إليه، بل تحتاج إلى مؤثر غير متناهي القوة والتأثير - وهو الله سبحانه -.
كيف وكل من أنصف من نفسه، يعلم أن التغير والحركة - ولو باعتبار المادة والمحل والمتعلق به بوجه، يناديان عليه بالإمكان والحدوث والحاجة إلى مؤثر مقدس عن التغير والتجدد.
ولهذا أعرض إبراهيم على نبينا وعليه السلام عن الأجسام النيرة وطبايعها المختصة لما ظن فيها الربوبية وقال فيها:
لا أحب الآفلين
[الأنعام:76] بصيغة الجمع بالياء والنون الدالة على كونها من ذوي العقول، فإنه (ع) مع علمه بأن لكل منها باطنا ملكوتيا له قوة نفسانية، وأخرى عقلية - نفى عنهم الإلهية، وحكم بأن درجتهم لكونهم واقعين في هوى الحدوث وأفول الإمكان منحطة عن استحقاق نسبة الإلهية إليهم، فتوجه بوجه قلبه إلى فاطر السموات والأرض حنيفا مسلما من غير إشراك كما حكى الله عنه بقوله:
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام:79].
وأما الوجه الخامس: فهو أن الهيولى لا فعل لها، وإلا لزمها في ذاتها جهتا قبول وفعل، ثم ننقل الكلام - على تقدير عدم بساطتها - إلى هيولى الهيولى، وهكذا إلى، لا نهاية - هذا محال -، والصورة دون الهيولى لا تفعل، بل تختص آثارها بمالها معه علاقة وضعية، فلا بد من توسط الهيولى في فعلها، بل في تعينها، ومع ذلك لكل منهما حاجة إلى الأخرى من غير استقلال كما علمت. أما الهيولى ففي وجودها وبقائها، وأما الصورة ففي تشخصها وتشكلها، فهما متلازمان في الوجود معان في التحقق، فلا بد لهما من مقيم يقيم كلا منهما بالأخرى، وهو غير جسم ولا جسماني، فيكون هو الواجب الوجوذ، أم ملكا مقربا عقلانيا يديم كلا منهما بالأخرى بإذن الله تعالى، دفعا للدور والتسلسل.
وأما الوجه السادس: فهو أن لكل من السماويات محركا نفسانيا له قوة عقلية، وذلك لأن حركة السماء والكواكب ليست طبيعية لوجوه ثلاثة:
أحدها: أن الحركة الطبيعية تصدر عنها عند حالة غير طبيعية، فهي مؤدية إلى حالة طبيعية هي سكونها، وذلك عند ارتفاع الحالة الغير الطبيعية، والأفلاك وما فيها دائمة الحركات ما دام وجودها بإذن الله.
وثانيها: أن الحركة الطبيعية تطلب أمرا تسكن عنده طلبا على أقرب الطرق، فهي إذن مستقيمة وحركاتها مستديرات - كما يشاهد -، ولأن المستقيمة لا تصلح لأن يحفظ بها وجود الزمان المتصل الذي يستحيل أن تنفصل أجزاؤه في الوجود، اللهم إلا في الوهم - كما قرر في موضعه -.
وثالثها: إن الطبيعة لا تقتضي مهروبا عنه مطلوبا، ولا تهرب عن مطلوبها، والمستدير بخلاف ذلك.
فهي إذن غير طبيعية ولا قسرية - إذ القسر خلاف مقتضى الطبع - فهي نفسانية حيوانية، وليست مجرد الحيوانية المطلقة منشؤها، إذ مطلوب الحيوان - بما هو حيوان - في حركته الإرادية إما جلب منفعة - وهو الشهوة - أو دفع مضرة - وهو الغضب - وهما مختصان بالأبدان القابلة للنمو والذبول، وجسمية الأفلاك لم تحصل من استكملات الأجسام الناقصة الخلقة العنصرية الفطرة كالمني والبذور ونحوهما، بل هي كظلام الأنوار العالية الحاصلة من بعض الجهات للمبادي الفاعلية - كالإمكان ونحوه -، على طريق الإقتضاء لا الاستعداد، ولهذا موضع تأمل يغفل عنه الأكثرون.
لأنها لو كانت حسية من باب الشهوة أو الغضب، فلا محالة تسكن عنده، وإذ ليس فليس.
فهي إذن ليست إرادية حسية، فلا يخلو إما أن يكون غرضها شيئا واقعا فيما طلبته بالحركة، أو مطلوبا دفعي الحصول فسكنت إن نالت، أو قنطت إن لم تنله في مدد متطاولة، فلها مطلب كلي، فيلزمها إرادة كلية موجبة لعلم كلي دال على نفس ناطقة محركة لها، مبطلة لجحود الجاحدين المنكرين لإرادتها وعلمها.
فالنفس الناطقة علة دورانها، وحافظة زمانها من زيادتها ونقصانها، وممسكة عنانها في جادة الحق ومجرية سفينتها باسم الله في بحر الحقيقية.
ثم ليس غرضها أمرا مظنونا من الثناء والمدح، فإن الحركات الكلية الدائمة لا بد وأن تكون لأمر مقطوع به واجب الدوام - وليس المظنون كذا -، فمبدأ حركاتها ليس أمرا وهميا.
ثم هذا العالم الذي هو موطن الأوهام وما ينبعث عنها، أحقر بالنسبة إلى تلك الأجرام الشريفة النورية من أن تتحرك لأجلها، وصاحب الحدس الصحيح يحكم بهذا قبل الرجوع إلى البرهان.
فحركتها المعشوق، إما لينال ذاته، أو لتشبه بصفة رفيعة أو لتشبه تجددي، والأولان يوجبان ما سبق من الوقفة، فتعين الثالث، وليس المتشبه به جرما فلكيا وإلا لكانت الحركات متفقة، ولا نفسها وإلا لتشابهت التحريكات، ولا شيئا واحدا وإلا لاتفقت، بل المتشبه به إما الواجب سبحانه بواسطة أمور عقلية صادرة عنه مكثرة لجهات التحريكات والتشبيهات كما قال تعالى:
وأوحى في كل سمآء أمرها
[فصلت:12] وإما تلك الأمور العقلية، ولا بد من انتهائها إلى الله تعالى - كما علمت -، ولأنها لما اشتركت في دورية الحركات فلها معشوق واحد هو مبدأ الكل وغاية الكل، وهو الموجود المطلق والوجود الحق.
وإذا اختلفت في الجهات والسرعة والبطؤ، فلكل منها ذات عقلية هي بالفعل من جميع الوجوه تتشبه بها، وبواسطتها تتشبه بالحق الأول، فعدد حركاتها بعدد محركاتها العقلية، ثم النفسية، لأن في الحركة لا بد من إدراكات جزئية بقوة نفسانية تتخيل الحدود المسافية، لأن نسبة المراد العقلي إلى جميع الحدود والمرادات الجزئية نسبة واحدة، فلا يقتضي تقديم بعضها على بعض، فلكل سماء وكوكب، محرك مزاول متشوق منفعل هو نفسه، ومحرك غير متحرك بل مفارق ومعشوق غير منفعل بل فاعل، هو عقله، وللكل محرك واحد ومعشوق واحد هو إله الكل ومبدأ الكل وغاية الكل.
فثبت أن الأفلاك وما فيها متقربات إلى الله تعالى بوسيلة الحركات، إذ بها تحصل الاستكمالات اللائقة بها، والكمال مما يوجب قرب المستكمل به من الكامل بالفعل في جميع الوجوه.
فإن قلت: لم صارت الحركات منشأ استكمالاتها دون شيء غير الحركة؟
قلت: لأن الفلكيات في جواهرها وصورها وكيفياتها وكمياتها اللائقة بها، وسائر الأمور الممكنة في حقها بالامكان العام، كانت بالفعل بحسب أول فطرتها ولم يبق فيها شيء بالقوة إلا أمر ضعيف الوجود، سهل الحصول من باب النسب والاضافات وهي أوضاعها، فيقصر وجودها عن الجمع بينها، فلو دامت على واحد لدامت الباقيات على القوة العدمية، والقاصر عن استبقاء الذات بالعدد يسعى في استبقائها النوعي، فأخرجت أشخاصها إلى الفعل بما أمكنها من التبادل التعاقبي الجالب لإضافة الأنوار من العوالي، الراشح للخير الدائم على السوافل، قصدا إلى تحصيل هذا الكمال الموجب لضرب من التقرب إلى المبدأ الفعال، والتشبه به مهما تيسر من الأحوال والأفعال، لا قصدا إلى نفع السوافل إلا على نحو التبع والاستجرار، وإلا لزم كون المعلول علة لكمال الفاعل.
ومن ظن أن المتشبه به واحد ولكن الأفلاك جمعت بين غرضها ونفع السوافل عند استواء الجهات، كرجل خير اختار سلوك أحد الطريقين المتساويين له لنفع محتاج، فما درى أنه لو صح هذا في اختيار الجهة، لصح في اختيار أصل الحركة على السكون، فيقال تساويا عندها، فاختارت الحركة لنفع السافل، فلما لم يجز ذلك في أصل الحركة لتعاليها عليه، لم يجز لتعيين الجهة، وليس علينا أن نعلم كنه ذلك التشبه إلا بقدر ما نرى من أنفسنا عند اهتزازنا وابتهاجنا بأمور روحانية عند سماع آيات قرآنية قراءتها مشيرة إلى أحوال العاكفين حول جناب الحق، كيف يستتبع ذلك تغيرا واحمرارا في وجوهنا، وقياما في شعورنا، وقشعريرة في جلودنا، كما قال تعالى:
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله
[الزمر:23]. فهي أيضا في حركاتها كالمناجي مع ربه بأمور عقلية يتحرك شيء من أعضائه بحسب ما يتفكر فيه، فحركاتها إذن عبادة ما فلكية، وصلاة ما ملكية، لاستجلاب شوارق النور بوارق الحضور.
لمعة إشراقية
المراد من السماء
يمكن أن يراد بقوله: " والسماء والطارق " ، سماء العالم الصغير، أو سماء العالم الكبير، لصحة إطلاقهما عليها بحسب المفهوم - وهو الفوقية والإحاطة -، فإن كان الأول، فيكون إشارة إلى رأس الإنسان بما فيه من أنوار القوى الظاهرة، والطارق، إشارة إلى النفس الناطقة.
أو تكون السماء إشارة إلى النفس الناطقة، لأنها محل الواردات الغيبية الإلهية، كما أن السماء محل عجائب صنع الله في سير الكواكب وحركاتها المختلفة سرعة وبطؤا، ورجوعا واقامة واستقامة، ونسبة بعضها إلى بعض بالمقارنة والمقابلة والتثليث والتربيع والتسديس والخسف والكسف، وساير أوضاعها وحالاتها، على شبه أحوال الصور الإدراكية للنفس، والأحكام العلمية لها، كاقتران بعضها مع بعض، ومقابلة بعضها البعض، والتعاكس بينهما، والتباعد والتقارب في المقدمات القياسية، وانتقاض بعضها ببعض واحتجابه بذلك، فيكون " الطارق " إشارة إلى ما يرد عليها من العالم الإلهي والفيض القدسي من السوانح الملكوتية والمواهب الربانية.
وإن كان الثاني، فيكون المراد من السماء مجموع الأفلاك بما فيها، ومن " الطارق " إما جنس الكواكب، وإما المفارقات النورية المتعلقة بها تصريفا وتدبيرا، أو تشويقا وإفاضة وتنويرا.
[86.2-3]
كما أن حقيقة الإنسان هي روح معناه، ونفسه الناطقة، وعقله المدبر له، كذلك حقيقة كل ذي روح عقلي، كما يصح إطلاق اسم الإنسان على كل من النفس والبدن - وعلى المجموع أيضا كل باعتبار كما حقق في موضعه - كذلك القياس في اطلاق اللفظ في كل ما له روح وجسد، فحقيقة كل كوكب هي نفسه المدبرة له، وعقله الفياض عليه.
فإذا كان الطارق إشارة إلى جنس المفارقات العقلية، ينبغي أن يراد بالنجم الثاقب، عقله الذي يثقب ظلام عالم الإمكان بتنويره وإشراقه على مادة الكواكب، ويطرد العدم عن مهيته بإفاضة وجوده عليها، كما أن جسمية الكواكب بصورتها النوعية وطبيعتها النورية الحسية تثقب ظلام عالم الأجسام بضوئها فينفذ فيه.
ولذلك أيضا يقال للكوكب: " دري " لأنه يدرء الظلمة، أي: يدفعها.
وأما وصفه: " بالطارق " فلأنه يبدو بالليل في عالم الحس عند احتجاب الشمس عن الأبصار، كما أن الحقيقة العقلية تبدو على العقل في ظلمة ليل الإمكان وجهة التعيين الإمكاني قبل إشراق شمس الحقيقة على البصائر، الماحية لأنوار التعينات الإمكانية الظاهرة على آثار الوجودات الأعيانية، ولذلك يقال في اللغة للآتي ليلا: " طارق ".
وقيل: لأنه يطرق الجني، أي: يصكه.
وبالجملة، المراد بحسب عالم الحس، جنس النجوم، أو جنس الشهب التي تطرد بها الظلام أو ترجم بها الشياطين، كما ترجم شياطين النفوس الوهمانية عن بلوغ سماء عالم الحكمة بأنوارها العقلية.
وفي الكشاف: فإن قلت: ما يشبه قوله: { ومآ أدراك ما الطارق النجم الثاقب } إلا ترجمة كلمة بأخرى، فبين لي: أي فائدة تحته؟
قلت: أراد الله - عز من قائل - أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة، وأن ينبه على ذلك، فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره وهو: الطارق. ثم قال: { ومآ أدراك ما الطارق } ، ثم فسره بقوله: { النجم الثاقب } كل هذا إظهار لفخامة شأنه كما قال:
فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
[الواقعة:75 - 76].
[86.4]
هذا جواب القسم، سواء كانت " إن " نافية، وذلك في قراءة " لما " مشددة، بمعنى " إلا " ، أو كانت مخففة من الثقلية - وذلك في قراءتها مخففة - على أن " ما " صلة، إذ على أي التقديرين، وأية القراءتين هي مما يتلقى به القسم، أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ مهيمن عليها رقيب، أو أن كل نفس لعليها قائم مقيت.
وإنما أدخل سور الموجبة الكلية في الشق الأول على النفس، ليعم جميع النفوس من المفارقات والفلكيات والعنصريات، والحافظ الرقيب لها على وجه العموم، هو الله سبحانه لقوله تعالى:
وكان الله على كل شيء رقيبا
[الأحزاب:52].
وكان الله على كل شيء مقيتا
[النساء:85].
ولكل نفس رقيب خاص، وهو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشر.
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ".
وللنفوس الإنسانية رقيب واحد عقلي يسمى ب " روح القدس " عند أهل الشرع، وب " العقل الفعال " عند الحكماء، وب " روان بخش " عند الحكماء الفارسيين - وسيأتي إيضاحه.
فإن قيل: إذا حملت " إن " على إن المخففة، كان ذلك صحيحا، وأما إن حملت على النافية فيكون المعنى: " ليس كل نفس " فيكون السور سور السلب الجزئي، فلا يعم. فما وجه التوفيق بين القراءتين؟
قلنا: نجيب عنه من وجهين:
الأول: إن السور وأمثاله من المصطلحات المحدثة، ولا يجب تطبيق كلام الله عليه، واللفظ في جوهره يفيد العموم لأنه نكرة وقعت في سياق النفي - على ما هو مبين في كتب الأصول والعربية -.
والثاني: أنه لما تبين بالدلالة العقلية أن لكل نفس حافظا، وقد عبرت عنه القراءة الأولى. فالقراءة الثانية وإن دلت على السلب الجزئي، فالأولى أن يحمل على العموم مجازا، ولصدق السلب الجزئي على السلب الكلي صدق العام على الخاص، وذلك إذا أخذ لا بشرط شيء - كما تقرر في علم الميزان - ليحصل التوافق بين القراءتين والجمع بين الدلالتين.
هداية عقلية
أدلة تجرد النفس
من تأمل في حال النفوس الإنسانية، لعلم يقينا أن لها حافظا عقليا هو ملك من الملاكئة المقربين، وله جنود وأعوان من جنس الملائكة الذين مرتبتهم دون مرتبة المقربين، كما دل عليه الحديث المنقول آنفا، وذلك لأن النفس جوهر مجرد، أما جوهريتها فلكونها محل الصفات المتعاقبة عليها مع بقائها، وهو من خواص الجواهر، وأما تجردها عن المواد فبأدلة كثيرة:
منها: أنها تدرك المعقولات، وهي معان مجردة عما سواها، وكل إدراك فهو بحصول صورة المدرك أو حضور ذاته عند المدرك، وكلما يحصل في جسم فإنه يؤثر فيه ما يلزم الجسم في وجوده الإنفعالي، وتشخصه المادي، - مثل الشكل والمقدار والوضع وغيرها -، فلو حصل معقول في جسم لكان يحصل له مقدار وشكل ووضع، فكان يخرج عن أن يكون معقولا، بل يكون محسوسا تنفعل عنه الحواس عند المصادفة.
ومنها: أنها تشعر بذاتها، ولو كانت موجودة في جسم أو آلة لم تشعر بذاتها لعدم حضورها لذاتها، بل لمادة ذاتها.
ولذلك أشار مقدم الفلاسفة أرسطاطاليس الحكيم: كل راجع إلى نفسه فهو روحاني، إذ لو كانت في آلة لا تدرك ذاتها إلا عند إدراك آلتها، فكانت بينها وبين آلتها آلة ويتسلسل، أو لا ترى أن البصر لا يدرك إلا ذاته، ولا يدرك آلة ذاته إلا بآلة أخرى متوسطة بينها وبين آلته، والنفس تدرك بذاتها، وتدرك آلاتها أيضا بذاتها - لا بالآلات - بحضورها بذواتها حضورا إشراقيا عند النفس من غير حاجة إلى صورة أخرى.
وبالجملة : فكل موجود في آلة فذاته لغيره، وكل ما ينال ذاته فذاته له لا لغيره، فيكون مجردا عن الأغيار.
ومنها: أنها تدرك الأضداد معا، بحيث يمتنع ان يوجد على ذلك الوجه في المادة.
ومنها: أن البدن في التحلل والذوبان دائما، لاتيلاء الحرارات الغريزية والغريبة الداخلة والمطبقة عليه، والنفس ذاتها غير متبدلة، لأنك أنت الذي كنت صبيا وشابا بعينك، فتعاليت عن الانطباع وأن تكون نفس المزاج.
ومنها: أنك تذهل عن كل عضو من أعضائك أحيانا - من قلب أو دماغ أو غيرهما - وعن البدن مجموعا، وخصوصا وقت النوم أو السكر، ولا تذهل عن ذاتك، فأنت وراء ذلك كله، فأنت أنت لا ببدنك، ولا بجزء بدنك، فاعرفها ولا تكونن من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
ولهذا المطلب وجوه كثيرة من البراهين والاقناعيات لا نطول الكلام بذكرها، وفيما ذكرناه كفاية لما نحن بصدده إن شاء الله تعالى.
مراتب النفس:
وإذا ثبت أنها جوهر غير جرمي، وهي قابلة لادراك العقليات بالقوة أولا، ثم بالفعل أخيرا، فلها مراتب، أولها الاستعداد المحض سميت به العقل الهيولاني.
ثم استعداد آخر قريب عند حصول أوائل العلوم المهيئة لإدراك الثواني، إما بالفكر أو الحدس، سميت به العقل بالملكة.
ثم يحصل لها بعد ذلك قوة وكمال، أما القوة فهي أن يكون لها حالة عقيب الأنظار وتكرار المشاهدات، بها تحضر المعقولات متى شاءت من غير طلب وتعمل، وهذا هو أقرب الاستعدادات، وسميت به العقل بالفعل
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار
[النور:53].
وأما الكمال، فهو أن تكون المعقولات لها حاصلة بالفعل، مشاهدة سميت به العقل المستفاد، وعند ذلك شبهت بالمبادي العالية، صائرة عالما عقليا يضاهي العالم العيني في الصورة لا في المواد.
مخرج النفس من القوة إلى الفعل وحافظها:
فإذا علمت هذا، فاعلم أن مخرج النفس من القوة إلى الفعل في كمالها العقلي ليس ذاتها، إذ الشيء لا يخرج ذاته من النقص إلى الكمال، وإلا لكان الشيء أشرف واكمل من ذاته، ضرورة أن المعطي للكمال لا يقصر عنه، ولأن جهة الفعل غير جهة الإنفعال، وهي ليست جسما مركبا من مادة وصورة - حتى تفعل باحداهما وتنفعل بالأخرى - ولا الجسم أيضا هو مكمل النفس، لأن مرتبته دون مرتبتها، ولا نفس أخرى من نوعها إذ لا أولوية لبعض أفراد طبيعة واحدة بحسب ذاته النوعية، ولأن النفس - بما هي نفس - لا تؤثر إلا بمشاركة الجسم ووساطة الوضع، وإلا لكانت عقلا محضا، وكم من نفس شريفة رامت إخراج نفس من القوة إلى الفعل فسمعت من الحق:
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص:56].
فمخرجها إلى الكمال ملك كريم روحاني، عنده صور الأشياء بالفعل، وهو فعال المعقولات ومفيضها على قلب من يشاء بإذن الله تعالى.
وأيضا: إن النفس إذا غابت عنها صورة عقلية كانت أدركتها، ولها الرجوع إليها متى شاءت دون كسب، فلا بد لها من خزانة عقلية تحفظ لها المعقولات عند ذهولها، وليست الخزانة فيها أو في جسمها.
أما الأول: فلعدم تجزيها بجزءين، بأحدهما تدرك وتتصرف، وبالآخر تحفظ وتخزن.
وأما الثاني: فلما علمت من أن المعقولات تحل الجسم المنقسم بالمقادير الوضعية، فإذن لها مكمل وهو ملك مقرب عقلي لم تكن فيه جهة القوة والاستعداد أصلا وإلا لكانت نفسا محتاجة إلى مخرج آخر ومكمل لها، فيتسلسل أو يدور - وكلاهما محال -، أو ينتهي إلى أمر عقلي بالفعل، وهو مطلوبنا، فكل نفس لها حافظ من جواهر الملائكة المقربين، يحفظ لها وعليها كمالاتها، إذا اتصلنا به أيدنا بالأنوار وكتب في قلوبنا الإيمان لأنه قلم الحق الأول، وإذا أعرضنا عنه بالتوجه إلى المحسوسات، انمحت الكتابة، ونفوسنا كمرآة إذا أقبلت إليه عند نقائها عن الكدورات والمعاصي قبلت، وإذا أعرضت أو احتجبت تخلت، ونسبته إلى نفوسنا كنسبة الشمس إلى الأبصار.
وليست المقدمات بذاتها موجدة للنتيجة لأنها أعراض، والعرض لا يوجد شيئا، بل المقدمات وغيرها معدات، والواهب غيرها.
فان قلت: ما الحاجة إلى اثبات هذا المبدأ العقلي بعد اثبات الحق الأول؟
قلت: النفوس كثيرة لا بد لها من مبدأ ذي جهات كثيرة في الفاعلية، والجهات الكثيرة مرتبتها منحطة عن مرتبة الذات الأحدية الصرفة بمراحل كثيرة، فلا بد من وسائط بيننا وبينه لغاية مجده وعلوه، ونهاية عجزنا وقصورنا، فلا نصل إلى جناية إلا بعد طي مراتب حجابه.
وفي الحديث:
" إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها أحرقت سبحات وجهه كل ما انتهى إليه نظره ".
فإذا تحقق ذلك، فاعلم أن الله سبحانه خلق للإنسان جنودا وحفظة غائبة عن عالم الحواس، تخدمه وتحفظه من الآفات، وكتب عليه أعماله وتضبط له آجاله، فبعض هذه الجنود مبادي الإدراكات والإنفعالات، وبعضها مبادي التحريكات، وبعضها كتبة الأعمال، وبعضها حفظة الأقوال، ولكل صنف منها رؤساء ومرؤوسين وخدام ومخدومين.
فمخدوم المبادىء الإدراكية مبدأ نظري شهيد عليها، ثم بعده مخاديم عشرة مرتبتها دون مرتبته، هو ينظر إليها ويستخدمها كما تستخدم هي غيرها من صور أشياء تكون من نوعها وجنسها، ولبعضها جنود وأعوان لا يمكن إحصاؤها كثرة، انبثت في مملكة البدن، ليس فيه موضع قدم يخلو منها.
ومخدوم المبادي التحريكية - أيضا - مبدأ شوقي مخدوم لها، وله جندان خادمان له، أحدهما يخدمه لجلب ما يشتهيه من الأشياء الكثيرة الملائكة لطبعه، والآخر يخدمه لدفع ما يكرهه من المضار والمنافيات لطبعه، ولهما جنود غير محصورة تخدمهما، سبعة منها بمنزلة الدعائم والرؤساء للبواقي، لكل منها اسم خاص عند الله، وصفة خاصة، وفعل خاص، ولكل منها محل خاص هو موضع سلطانها، ومحل عام هو مواضع تصرفاتها، وقد مكن الله جميها على التصرف في مواد الأجسام الحيوانية والنباتية وغيرها مما في الأرض بالجذب والدفع، والقبض والبسط، والحبس والإمساك، والإحالة والتبديل، والنضج والإلصاق، والتصوير والتشكيل.
كما أشار إليه بقوله:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة:29].
كما قد مكن الله جميع الصنف الأول على التصرف في صور تلك المواد وغيرها بنزعها وإدخالها وإحضارها في صقع النفس وعالمها، وتقديمها وتأخيرها وتأليف بعضها ببعض، وانتاجها - الى غير ذلك من أنحاء التصرفات كالحفظ والاسترجاع -، كل ذلك بأمر الله المطاع وعنايته بتعمير هذه النشأة الإنسانية في هذا العالم، كما دل عليه الحديث المنقول آنفا.
فإن معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لو وكل العبد إلى نفسه لاختطفته الشياطين "
أنه لولا إفادة الله له هذه الجنود الباطنية الطبيعية والنفسانية، حتى يقيمه ويديمه مدة في هذه الدنيا ليتزود للآخرة بالأعمال الصالحة، ويكتسب المعارف الحقيقية بتأييد الملك المفارق المكمل له، لاختطفته شياطين هذا العالم، من الجواهر الطبيعية النفسانية المستولية على الأجسام بالإفساد والقطع والتحليل والقتل والإهلاك، فإن بدن الإنسان في معرض الآفات، ومعدن البليات، كالحرق بالنار، والغرق في الماء، والتسخين والتبريد المفرطين من الهواء، والخسف والزلازل من الأرض، وشرب السموم والأدوية الضارة الجمادية والنباتية، ومصادفة العدو الحيواني كالسبع الضاري، والكلب العقور، والأفاعي، ومواجهة الخصماء من الإنس وغير ذلك.
فكل هذه من توابع الشياطين بصدد اختطاف العبد في هذا العالم إن وكل إلى نفسه، ولم يحفظه الحفظة بأمر الله.
ولولا إفادة الله أيضا لعباده المخلصين جنودا أخرى يحفظونه ويذبون عنه في طريق الآخرة عن اختطاف ضرب آخر من مردة الشياطين، وهم الذي يريدون أن يسمعوا إلى الملأ الأعلى، فيقذفون من كل جانب، دحورا ولهم عذاب واصب، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ويقول سفيههم على الله شططا من إثبات الصاحبة والولد له سبحانه، ويحكم على غير المحسوس، وإلا على الخير وإراءتهم الباطل على صورة الحق، والحق على صورة الباطل - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
[86.5]
لما قرر سبحانه أن على كل نفس حافظا ومبقيا لوجوده، وهو علته الفاعلية، أراد أن يهديه سبيل معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله، إذ بها تتم حياته الكاملة في النشأة الدائمة، وبدونها موت الجهالة وهلاك السرمد وعذاب الأبد، وهي متوقفة على معرفة النفس، لأن النفس سلم المعارف كلها والمرقاة إلى الحضرة الإلهية، فمعرفتها منشأ معرفة الحق ذاتا وصفة وفعلا، والشيء من ذوي الأسباب لا يمكن العلم به إلا من جهة العلم بأسبابه.
والأسباب أربعة من المركب: فاعل، وغاية، ومادة، وصورة، وفي الأمر الصوري - كالنفس - ثلاثة: لأن صورته ذاته، بخلاف المركب فإن صورته ليست ذاته بل جزؤه وعلة جزئه الآخر بمعنى آخر، كما أن المادة جزؤه الآخر - وهي أيضا - علة الصورة لا بهذا المعنى، بل بمعنى آخر.
فالإنسان صورته نفسه الناطقة، ومادته حاصلة من الطين اللازب، ثم من المني المركب من العناصر الحاصل منه الأخلاط الأربعة، ومن لطافتها ودخانيتها الأرواح البخارية، ومن كثافتها ورماديتها الأعضاء، وتتوسط بينهما الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين والعضلات، ومجموعها البدن، وهو المادة القريبة للإنسان المأخوذ منها جنسه وفصله مأخوذ من النفس التي صورته وفاعله الملك المتصرف فيه بأمر الله، بإمداد ملائكة أخرى موكلة على السموات والأرضين كما أشار إليه بقوله: عليها حافظ.
وغايته عبادة الله وطاعته، كما أشار إليه بقوله:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56].
فلذلك أمره ووصاه بالنظر في أسباب مهيته ووجوده في نشأته الأولى، ليعلم ويستدل بها على قدرته تعالى على النشأة الثانية، كما نبه عليه قوله تعالى:
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة:62] أي: حال نشأتكم الثانية والنظر في ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، فمادته خلقة الإنسان، وصورته من حيث هي صورته من هذه النشأة، وأما فاعله وغايته فلهما النشأة الأخرى.
والمادة أقدم في الزمان، فقدمت معرفتها وسبيل النظر إليها والاستدلال بها على غيرها، فقال: { فلينظر الإنسان مم خلق } أتى ب (ما) الاستفهامية المستعملة لطلب تمام حقيقة الشيء، أو شرح مهيته ومرتبتها بأول الوجهين، بعد " هل " البسيطة الطالبة للتصديق بوجوده وبالثاني قبلها، إذ ما نعلم شرح اسم الشيء لا نطلب معرفة وجوده، فأجاب: بقوله جل اسمه:
[86.6-7]
و " الدفق ": صب فيه دفع. ومعنى الدافق: إما المدفوق، كعيشة راضية - بمعنى مرضية -، والغرض فيه الانتساب إلى الدفق الذي هو مصدر؛ لا قيام المصدر به كالحداد والمشمس. وإما الإسناد المجازي، لأن الدفق للمني كالقطع لصاحب السكين، قال الفراء: وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم، نحو: سر كاتم، و: هم ناصب. و: ليل نائم.
وإنما قيل: " من ماء " ولم يقل: من ماءين، مع أن أصل المولود منهما جميعا، لامتزاجهما واتصالهما ماء واحدا في الرحم حين ابتداء الخلقة.
وأما قول بعض الأطباء، إن ماء المرأة هو الأصل كاللبن، وماء الرجل للانعقاد كالأنفحة، فهو قول مرجوح لا يصار إليه، على أن الدفق لا يلائمه، بل الحمل على مني الرجل أولى، لأنه كالصورة للمركب، ومني المرأة كالمادة له، والشيء بالصورة هو بالفعل، وبالمادة هو بالقوة، أولا ترى أن نسبة المولود إلى الأب أوكد من نسبته إلى الأم.
يخرج - من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي عظام الصدر، و " الصلب " فيه لغات أربع: بفتحتين، وبضمتين، وبالضم والسكون، وبصيغة الفاعل.
وفي الكشاف: قيل: العظم والعصب من الرجل، واللحم والدم من المرأة.
وهذا أيضا مؤكدا لما مر من كون مني الرجل هو الأصل، إذ قد ثبت أن مثل العظم والعصب من الأعضاء الأصلية متكونة من المني، والزائدة كاللحم وغيره متكونة من الغذاء.
فإن قلت: إن النطفة متكونة من فضلة الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد أن تتولد منها تلك الأعضاء، فلم قال: { يخرج من بين الصلب والترآئب } التي هي عظام الصدر؟
قلت: اختلف الحكماء والأطباء في انفصال المني عن جميع الأعضاء أو عن الأنثيين فقط، وفي كون المني متشابه الأجزاء أو مختلف الأجزاء، فأرسطو وشيعته ذهبوا إلى تشابه الأجزاء لانفصاله من الأنثيين، وذهب أبقراط وشيعته إلى أنه ليس متشابه الأجزاء، لأنه يخرج من كل البدن، فيخرج من اللحم شبيه به، ومن العظم شبيه به، وهكذا في جميع الأجزاء، فأجزاؤه غير متشابهة الحقيقة، بل حقائقها متخالفة حسب اختلاف حقائق ما ينفصل عنها، فهو غير متشابه الأمشاج، بل متاشبه الامتزاج متصل عند الحس.
ولكل من الطرفين حجج كثيرة مسطورة في كتب الطب.
أما ما تمسك به أبقراط في تصحيح مذهبه.
فمنها: عموم اللذة لجميع البدن.
ومنها: المشاكلة الكلية، فلولا أن كل عضو يرسل قسطا لكانت المشاكلة بحسب عضو واحد.
ومنها: مشاكلة عضو الولد لعضو ناقص من والديه، أو عضو ذي شامة أو زيادة.
وقدح أرسطو في هذا المذهب وأبطله بوجوه:
أحدها: أن المشابهة تقع في الظفر والشعر وليس يخرج منهما شيء.
ثانيها: أن المني لا ترسله الأعضاء الآلية مع أن المشابهة تقع فيها.
وثالثها: لزوم كون المولود في الرحم إنسانين.
ورابعها: جواز تكون الولد من مني المرأة وحدها لانفصاله من جميع أعضائها.
وخامسها: أن الحيوان قد يسفد سفادا واحدا فيتولد منه أكثر من واحد، فلو لم يكن منية متشابه الأجزاء لم يتولد منه إلا واحد.
وسادسها: مشابهة الولد لجد بعيد، لا لوالديه. وقد حكى أبو علي في حيوان الشفاء، ان واحدة ولدت من حبشي بنتا بيضاء، ثم هي ولدت بنتا سوداء.
وسابعها: كثير من الحيوانات يلد من غير جنسه.
وثامنها: لزوم كون المني حيوانا صغيرا.
فهذه حجج الفريقين، وفي الكل نظر، ذكره يؤدي إلى التطويل، وعلى أي المذهبين يتأتى الجواب عما قلت.
أما على مذهب أرسطو وتابعيه، فلقرب الموضعين من أوعية المني، خصا بالذكر.
وأما على مذهب الأخيرين، فلورود هذه الفضلة من الأعضاء إلى الأنثيين بعد ورودها على هذه العظام صلب الرجل وترائب المرأة، ولذلك ورد استحباب وضع اليد على ثدي المرأة عند إرادة المجامعة معها قبل الدخول لتشتد رغبتها بسبب تهيج مادة الشهوة وتحريكها من ذلك الموضع.
وفي الكشاف: " الترائب " هي عظام الصدر حيث تكون القلادة، وقيل الترائب: اليدان والرجلان والعينان - عن الضحاك -، وسئل عكرمة عن الترائب فقال: هذه - ووضع يده على صدره بين ثدييه -، وقيل: ما بين المنكبين والصدر - عن مجاهد -، وقيل: المشهور من كلام العرب أنها عظام الصدر والنحر.
شك وتحقيق
كيف تتولد الأعضاء المختلفة من المني
قيل: إن المني متشابه الأجزاء، والقوة المولدة لا شك أنها قوة عديمة الشعور والإدراك، وعلى تقدير شعورها وإدراكها، فسبيلها سبيل البسائط المؤثرة على نهج واحد وسنة متشابهة، والتي هذا شأنها إذا فعلت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن تفعل فيها فعلا واحدا متشابها، فكان يلزم أن يكون المولد من المني كرة واحدة لها طبع واحد، والمشاهد خلافه، وهذا هو الحجة في إثبات كروية البسائط.
وهذا الشك مدفوع - لا بما ذكره صاحب التفسر الكبير - من أن اللازم المذكور - وهو كون المتولد كرة - لازم على تقدير كون المني مختلف الأجزاء أيضا، لأنا إذا فرضنا مركبا فلا بد وأن تكون الأجزاء البسيطة حاصلة فيه بالفعل، ولكل منها قوة بسيطة تفعل في مادة بسيطة، فيجب أن تكون كل واحد منها كرة، والمتولد من المني كرات مضمومة بعضها ببعض، فإنه أيضا فاسد لأنه جدلي - كما لا يخفى -.
بل (لأنه) لا يلزم من اقتضاء القوة البسيطة استدارة الجسم المتشابه الأجزاء المقدارية التي لم تتألف من أجسام مختلفة الصور كالبسائط العنصرية والفلكية، اقتضاؤها لاستدارة الجسم المتشابه الأجزاء المقدارية التي تألفت من أجسام مختلفة الصور، لظهور الفرق القادح، فإن القوة البسيطة يمتنع اختلاف تأثيرها في الأول دون الثاني لاختلاف المادة المتصرف فيها بتهيئة المغيرة لكل غضو مادة تليق به، ثم بإفادة المصورة ما يحسن لها من التصوير والتشكيل.
تذكرة:
ولبعض الحكماء كلام في هذا الباب ليس ببعيد عن الصواب، لا بأس بذكره، وهو أن المادة المنوية تستعد لأمر واحد وهو النفس، ولكن النفس لها آلات ولوازم وقوى متخالفة تتحد نوعا من الاتحاد، فيجب أن يكون في المادة استعدادات بالقوة مختلفة متحدة على ضرب من وجوه الوحدة، وهي كيفية المزاج، كاتحاد أشياء بالانتساب إلى مبدأ واحد، لأن اختلاف الاستعدادات في المادة أمور بالفعل فكان أشياء فيها تركيب، ثم كل قوة يجب أن تكون قد تركبت فيها هيآت هي لوازم لتلك القوى بها تصير فعالة، فبسبب هذه الآلات ينقسم عضو واحد إلى أعضاء كثيرة، وبسبب اختلاف ترتيبات القوى تختلف أوضاع هذه الأعضاء، كما أن بالعلوم والمعقولات التي وجدت للأول والعقول وجد ما بعده، وكما تنتقش في العقول تلك الصور على سبيل اللزوم من دون شركة المادة واستعداداتها، فكذلك تنتقش في القوة المصورة من النفس هيآت تنبعث منها صورة شكل الإنسان بشركة المادة لوجود هذه القوة في المادة.
تتمة
القلب رئيس أعضاء الحيوان
يجب للمتفكر أن يعلم أن النفس إذا تعلقت بأول عضو كالقلب، صار البدن نفسانيا، فالنفس تحيي الحيوان بالقلب، وإن فرض مجردا عن باقي الأعضاء ما دام صلوحه للتعلق، وهو كونه ذا بخار لطيف في تجويفه، ولكن إنما يتم مزاج الروح الذي يصلح لحمل قوى الحس والحركة في الدماغ لحصول الاعتدال هناك على وجه الكمال، كما أن قوى التغذية يتم فعلها بالكبد وينشأ حاملها من القلب، فجميع هذه القوى أولا تنفذ من القلب إلى غيره، كما أن عند مخالف هذا القول يكون مبدأ الحس في الدماغ، لكن أفعال الحس لا تتم به بل بأعضاء أخرى.
وإنما وقع هؤلاء فيما وقعوا لغفلتهم عن أن القلب هو بالحقيقة العضو الرئيس الذي به يصير الجسم حيوانا ذا نفس، وما سواه خدام له.
والكلام في تفصيل الآلات والقوى النفسانية وكيفية ظهورها، وكيفية تكون الجنين، خروج عن ظهور هذا المقام - والله ولي الإنعام -.
[86.8]
بين الحق سبحانه في الأول حال المبدأ، وأمر الإنسان بأن ينظر بدو أمره ومادة وجوده.
وأشار ثانيا إلى أن يعلم من أصل خلقته ومادة طينته ما يتسبب به أمر معاشه ومعاده، وليكتسب الحكمة الخلقية والمنزلية والمدنية، ويعلم أن محله العجز والافتقار، ومقامه النقص والاضطرار، ليس له على شيء يد، ولا له على نفسه سلطان، ويستفيد من ذلك العلم بقدرة الحق وسلطانه، وباهر حكمته ببرهانه، وتفرده بوجوب الوجود، واستغنائه عن كل موجود.
وأشار ثالثا إلى معاده، وأنه ممكن مقدور عليه، ولا تتقاصر عنه القدرة الإلهية والمكنة الجبروتية.
ولما كان العلم بالموت من اليقينيات التي لا شبهة فيها، أعرض عن ذكره صفحا، وذكر المعاد الذي هو من مزال الأقدام ومداحض العقول والأفهام، وتعرض لبيانه على وجه التعريض والتلويح - ورب تعريض أبلغ من التصريح - فقال: إنه -، الضمير للخالق، لدلالة " خلق " عليه - لقادر - ليبين أن القدرة لا يتأبى عنها شيء من المقدورات ولا يعجز، يعني أن الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة هي أمر بالقوة في غاية الوهن والسخافة، وقبول الآفة والفساد، فهو قادر على إعادته.
والتنكير في قوله: " لقادر " للتفخيم، أي لقادر وأي قادر، ونظيره: " انني لفقير ".
ومعنى " الرجع " رد الشيء إلى أول حاله، فعن الحسن والجبائي وقتادة: إن الذي خلقه ابتداء من هذا الماء يقدر على أن يرجعه حيا بعد الموت.
وعن عكرمة ومجاهد: إنه لقادر على رد الماء في الصلب.
وعن الضحاك: إنه على رد الإنسان ماء كما كان قادر.
وقال مقاتل بن حيان: كأنه يقول: " إنه قادر على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومنه إلى الصبى، ومنه إلى النطفة، ومنه إلى الإحليل، ومنه إلى الصلب، فكيف لا يقدر على إحيائه بعد الموت.
والأصح القول الأول، لأن قوله جل اسمه:
[86.9]
منصوب ب " رجعه " ، اللهم إلا أن نصب من جعل الضمير في " رجعه " للماء، وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب، أو الإحليل، أو للإنسان، وفسره برده ماء، أو بما فسره مقاتل بمضمر الإبتلاء والاختبار.
و " السرائر ": جمع " السريرة " ، وهي ما أسر في القلوب من العقائد والنيات، أو في النفوس من الأخلاق والصفات.
و " بلاؤها ": تعرفها، والتميز بين حقها وباطلها، وحسنها وقبحها، وطيبها وخبيثها. قال الشاعر:
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا
سريرة ود يوم تبلى السرائر
وعن الحسن: إنه سمع رجلا ينشد هذا البيت، فقال: ما أغفله عما في:
والسمآء والطارق
[الطارق:1].
تبصرة
العوالم الثلاثة وسير الإنسان فيها
إعلم أن الله خلق الوجود ثلاث عوالم: دنيا وبرزخا وأخرى. ويعبر عن كل منها بيوم، فكل يوم من أيام الدنيا مدة دورة الفلك الأعظم، وربما يطلق على زمان دورة القمر، بل على زمان دورة الشمس أيضا، ومجموعها سبعة آلاف سنة، وكل يوم من أيام البرزخ ألف سنة مما تعدون، أو سبعة آلاف سنة مما تعدون، وكل يوم من أيام الآخرة - وهي أيام الله - يكون خمسين ألف سنة لقوله تعالى:
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج:4].
فخلق الله الجسم عن الدنيا، والنفس عن البرزخ، والروح عن الآخرة، وجعل الوسائط الحاكمة الناقلة لتنوعات عوالم الإنسان ثلاثة: ملك الموت، ونفخة الفزع، ونفخة الصعق.
فالموت للأجسام، والفزع للنفوس، والصعق للأرواح، فإذا كان الإنسان في هذا الدار، كان الحكم فيها ظاهرا للجسم، وهو المشهود بمشاهد الحس، والمباشر للأحكام والأفعال التي تناسبه وتليق به، والنفس وأحوالها والروح وأسرارها مندرجتان في وجوده، مختفيتان تحت حجابه وحجب صفاته وآثاره، والإمدادات متصلة بهما بواسطته.
فإذا شاء الحق تعالى نقل النفس والروح إلى دار البرزخ، أمات الجسم بواسطة ملك الموت وأعوانه، ثم تنشأ النفس في البرزخ النشأة النفسانية الثانوية وتكون في عالمها البرزخي، وكانت هي المشهود بحواسها ومشاعرها، فإن للنفس في ذاتها سمعا وبصرا وذوقا وشما، وهذه الحواس الدنيوية ظلال تلك الحواس وحجاباتها، أولا ترى أنها تنفتح وتعمل فعلها عند رقود هذه الحواس، كما في المنام - والنوم أخ الموت -.
وهي أيضا هناك مباشرة للأحكام وقادرة على الأفعال بنفس تلك الحواس، لأن مبادي الحواس ومبادي الأفاعيل هناك متحدة، والإمدادات يومئذ متصلة بالجسم والروح بواسطتها، وصورتها في البرزخ على صورة ما غلب عليها من الأعمال والأخلاق والنيات.
فقوله تعالى:
إنه على رجعه لقادر
[الطارق:8] - أي: على رجع النفس، والتذكير بتأويل أنها عين الإنسان المذكور صريحا، أو المخلوق المذكور ضمنا.
و " اليوم " ، في قوله: { يوم تبلى السرآئر } ، يوم البرزخ، وهو القيامة الوسطى، إذ فيه تختبر سرائر النفس، لأنه يوم علنت الضمائر النفسية وخفيت الظواهر الجسمية، وفيه يحشر الناس على صور نياتهم - كما ورد في الحديث -. وورد أيضا: " يحشر بعض الناس على الصورة تحسن عندها القردة والخنازير ".
وذلك لاستيلاء الصفات الشهوية والغضبية على نفوسهم أكثر مما تستولي على نفوس تلك الحيوانات، وفيه يتميز الخبيث من الطيب المشار إليه في قوله تعالى:
حتى يميز الخبيث من الطيب
[آل عمران:179] - الآية - وفيه امتياز المجرمين عن المؤمنين، كما في قوله تعالى
وامتازوا اليوم أيها المجرمون
[يس:59].
فالبرزخ عالم مستقل بين عالمي الدنيا والآخرة المحضة، كالشفق والفجر بين الليل والنهار، وهو مستقر الأنفس والأرواح المنتقلة عن هذه الدار من بدو الزمان إلى حين انقضائه لقيام الساعة الكبرى، والقيامة العظمى، وله آيات تشير إليه:
قال الله تعالى:
ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون
[المؤمنون:100]
ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا
[مريم:62]. وقال:
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا
[غافر:46] يعني دار البرزخ.
ونبه عن الدار الآخرة بقوله:
ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
[غافر:46]، لأن فرعون وآله كانوا من أهل الشقاوة العقلية، والحجاب السرمدي عن رؤية ربهم، كما أشير إليه في قوله:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين:15].
وذلك لمكنة استعداداتهم، وعلو فطرتهم بسبب مزاولتهم العلوم الجدلية والمحاجات السفسطية.
ومما يدل على عالم البرزخ أيضا قوله:
فأما الذين شقوا ففي النار
[هود:106] - الآيتان - يعني - والله أعلم -: جنة البرزخ وجحيمه، لأن مدة الخلود فيهما مقدر بدوام السموات والأرض، فإذا انقضى حكمهما جسما ونفسا بالتبديل الأخروي إلى عالم العقل والجبروت وموطن الأرواح العقلية، انقضت مدة الخلود فيهما، فخلودهما لأمد وجوده بشرط غيره.
وليس كذلك دوام أهل الآخرة الكبرى، إذ لا أمد لها، ولا وجودها مقدر بوجود غيرها.
ومما يدل على البرزخ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ".
وما وري أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن أرواح المؤمنين في حواصل طير بيض، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر، ترتع في الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ".
وهذه حالة الروح في جنة البرزخ، حين تصور النفس بالصور الإنسانية البرزخية، فهي في هذه الحالة في عالم بين العالمين: عالم الأجسام وعالم الأرواح. فإذا أراد الله تعالى نقل الأنفس من دار البرزخ حين كمل اليوم الدنيوي، نقلت الأنفس من البرزخ بنفخة الفزع، وتعاد إليها الأجساد الدنيوية كما قال الله تعالى:
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شآء الله
[النمل:87].
ثم بين أن نفخة الفزع مختصة بنقل الأنفس من دار البرزخ بقوله تعالى:
وكل أتوه داخرين
[النمل:87].
وقال أيضا مخبرا عن النشأة الأخروية الروحانية بقوله:
ثم الله ينشىء النشأة الآخرة
[العنكبوت:20] وهذه نشأة تكون بعد صعق الأرواح حين يقول سبحانه:
لمن الملك اليوم
[غافر:16] فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه فيقول: -
لله الواحد القهار
[غافر:16] وذلك لأن المجيب قبل ذلك هو الروح السامعة المجيبة المقرة الطائعة، فلما اجريت عليها هذه الوفاة المميزة لها بصفة الحدوث، المنزهة لبارئها بصفة القدم، لم تجب. وهذا الصعق هو نهاية الأجل المسمى عنده، المعبر عنه بخمسين ألف سنة.
ثم يحي من هذا الصعق بالنفخة الثانية بمزيد اختصاص التجلي الأكمل في المظهر الأعظم المظهر للأسماء الباطنية التي نبه عليها بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما روي عنه:
" فأحمده بمحامد لا أعرفها الآن ".
ففي هذه النشأة الأخروية الروحانية، كانت الروح هي المشهودة المباشرة للأحكام الأخروية، والنفس والجسم مندمجان فيها مختفيان تحتها.
وفي قوله تعالى:
الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون
[الروم:11] إشارة إلى هذه النشآت الثلاث، والله أعلم بسرائر الأمور.
[86.10]
" القوة ": كالسمع والبصر والنامية والغاذية. و " الناصر ": كالأهل والولد والخيل والبغال، وكلاهما مسلوبان في النشأة الثانية عن الإنسان، وذلك لأن وجودهما بإمداد الأسباب العرضية، والعلل الخارجية الإتفاقية التي يختص وجودها بهذا العالم، وهو عالم المواد والاستعدادات الناشية عن الجهات القابلة والحركات.
وأما النشأة الآخرة، فالمبادي هناك ذاتية لا اتفاقية، والجهات منحصرة في الجهات الفاعلية الآخذة من المبدأ الأعلى، فيكون الحق متفردا في ذلك اليوم بالحكم والاقتدار، وبه التمكن والإقدار، والنصرة والإنتصار، فلا قوة ولا منعة للإنسان في ذلك اليوم يمتنع بها، ولا ناصر ولا دافع يمنع ويذب عنه، لارتفاع النسب الوضعية والأنساب العنصرية البشرية، فالأمر يؤمئذ لله، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ليس لأحد غيره ملك ولا سلطان، ولا قدرة ولا قوة على شيء، بل الكل يكونون يومئذ مشغولين بأنفسهم
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
[عبس:34 - 37].
فإن قيل: هل فيه دليل على نفي الشفاعة؟
يقال: لا، لأن الضمير في " له " راجع إلى الإنسان، وهو كالمهملة في قوة الجزئية - هذا ما قيل -، ويخدشه قوله تعالى:
لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
[عبس:37] لأنه يدل على العموم.
والحق أن الشفاعة لا تثبت إلا بعد تحقق المناسبة الذاتية بين الشافع وما يشفع له، وكون الشافع من الوسائط العقلية لا الوضعية، فعلى هذا لا تنافي ثبوتها كلية الحكم المذكور، إذ السلب من جهة والإيجاب من جهة أخرى كما علمت.
[86.11-12]
هذا قسم آخر منه سبحانه تأكيدا لأمر القيامة.
و " الرجع ": المطر. سمي رجعا كما سمي " أوبا " لأنه يرجع ويؤوب كل حين - من باب إطلاق المصدر وإرادة المشتق، أو من باب حمل معناه عليه مبالغة، أو لإرادة التفاؤل - فسموه رجعا وأوبا ليرجع ويؤوب، ولا يبعد أن يقال: سمي بالرجع، لأن الريح ترفع الأبخرة والأدخنة من البحر والأرض وتسير بهما إلى الجو وتنعقد سحابا ماطرا فتمطر، والمطر يرجع إلى حيث رفع منه، لأن السيول والأودية تجريان وتنصبان إلى البحر أخيرا.
وقيل: رجع السماء: إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال على مرور الأزمان، فترجع بالغيث وأرزاق العباد.
ولأحد أن يقول: السماء ذات الرجع، لاستدارة حركتها، فهي كل آن ترجع إلى موضع فارقته. أو أنها ذات الرجع، لكونها ذات كواكب راجعة في سيرها، وسمي الكوكب " رجعا " بأحد الوجهين المذكورين، وهي الخمسة المتحيرة التي يكون كل منها في فلك غير شامل للأرض يسمى بالتدوير، يحمله فلك شامل لها يسمى: بالحامل، نسبة حركة أحدهما وهو " التدوير " إلى حركة الآخر سرعة، أعظم من نصف قطر الآخر إلى نصف قطره، ونسبة حركة الآخر إلى الأول بطؤا، بالعكس - كما برهن عليه في علم الهيئة بمقدمات هندسية -.
وهذا يوافق ما نقل عن ابن زيد في مجمع البيان أن المعني بالرجع شمسها وقمرها ونجومها لأنها تغيب ثم تطلع.
وهنا وجه آخر؛ وهو أن الإنسان لما كان عالما صغيرا فيه جميع ما في هذا العالم، فلا يبعد أن يراد بقوله: { والسمآء ذات الرجع } - الدماغ وما فيه من القوى المدركة والمتصرفة، وما يحصل له من الأحوال المذكرة، والإلهامات والعلوم الراجعة المتكررة، وإن شئت خصصت الرجوع بالقوة المذكرة ويقال لها: " المسترجعة " ، ومحلها التجويف المؤخر من الدماغ، فأعرفها فإنها دقيقة نفيسة. وعند تأويل السماء بالدماغ، ينبغي أن تأول الأرض بمثل المعدة أو الكبد، حيث يتصدع عما ينبعث منه من الأغذية والأبخرة.
و " الصدع ": اسم ما يتصدع عنه الأرض من النبات، أو تنشق من الأشجار والعيون وغيرها.
ولا يبعد أن يراد من الأرض والنبات قلب الإنسان، أعني نفسه الناطقة، ومراتب استعداداتها الناشية منها بامداد الفعال الذي هو كالسماء، فان النبات له أزواج متفاوتة وأصناف مختلفة، فيكون بعضها إشارة إلى المرتبة الأولى للاستعداد وهو العقل الهيولاني الذي هو أول مراتب النفس القابلة للمعاني الكلية.
وبعضها يكون تلويحا إلى ثاني مراتبها المسمى بالعقل بالملكة الحاصل باستعمال الحواس وحصول الأوليات، وهو مناط التكليف.
وبعضها يكون إيماء إلى المرتبة الثالثة، ويسمى حينئذ عقلا بالفعل عند تحصيل النظريات لها، بمعنى أنها متى شاءت والتفتت إليها حصلتها بلا كسب وتعمل.
وبعضها يكون إشارة إلى المرتبة الرابعة، وهي حصول العلوم الكلية والحقائق العقلية لها مشاهدة، ويسمى العقل المستفاد المضيء في دار المعاد.
وعند هذا التأويل، يكون معنى " السماء ذات الرجع " العقل الفعال، لأنه يسترجع النفوس من هذا العالم إلى ما هبطت منه من المحل الأعلى كما قال بعض الحكماء:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
وما أشبه حال هذه المراتب الحاصلة من أرض النفس الناطقة بتأثير سماء عالم العقل، بحال المواليد الحاصلة من الأرض، فإن الجماد بإزاء العقل الهيولاني، لما فيه من قابلية كونه غذاء للإنسان، والنبات بإزاء العقل بالملكة، وفيه استعداد تغذيته بالحيوان وخصوصا الحصة من الجنس التي تكون في الإنسان بإزاء العقل بالفعل، لأنه قريب التهيؤ لأن يصير إنسانا، والإنسان الحسي بإزاء العقل المستفاد الذي هو الإنسان العقلي - فاعلمه فإنه كثير الجدوى -.
[86.13-14]
هذا جواب القسم، والضمير للقرآن، يعني أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما، ولذلك يقال له: " الفرقان " وهذا هو المروي عن الصادق (ع).
فإن قلت: لم يسبق ذكر القرآن ليصح إرجاع الضمير إليه.
قلت: الأمن من الالتباس مسوغ هذا الإضمار، لأن وصف كونه فصلا ليس بهزل، مشعر بأن المراد هو الكتاب العزيز الذي لا يتأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقيل: معناه إن الوعد بالبعث والاحياء بعد الموت قول فصل، أي مقطوع به لا خلاف ولا ريب فيه.
ولا يبعد أن يراد بالقول ما هو بمعنى التكوين - على إرادة المفعول -، ويكون إشارة إلى تحقق البعث، وفيه يتميز المحق من المبطل، ولهذا يكون يوم القيامة " يوم الفصل " لأن الآخرة دار الفصل والتميز والافتراق تتفرق فيه المختلفات معنى، وتتميز فيها المتشابهات صورة -
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون
[الروم:14] والدنيا دار اشتباه ومغالطة يتشابك فيها الحق والباطل، ويتعانق فيها الخير والشر، والنور والظلمة.
وإن صدق على الآخرة أنها يوم الجمع، لأن هذه الأزمنة والأمكنة الدنيوية سببان لاحتجاب الكائنات بعضها عن بعض، فإذا ارتفعا في القيامة، ارتفعت الحجب بين الخلائق فيجتمع الخلائق كلهم، الأولون والآخرون
قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم
[الواقعة:49 - 50] فهي يوم الجمع، ويوم الفصل، ولا منافاة بين هذا الجمع وذلك الفصل، بل هذا يوجب ذاك كما قال سبحانه:
هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين
[المرسلات:38].
وما هو - أي القرآن - بالهزل - بل هو جد كله. أو القول بوقوع الساعة ليس مجازفة، بل أمر يقيني، وعلى هذا التأويل الذي ذكرناه، يكون معناه أن تكوين القيامة ليس عبثا، بل لغرض المجازاة وإصابة كل أحد بما قدمت يداه، نحو قوله تعالى
وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما لاعبين
[الأنبياء:16] وذلك لأن الهزل والجزاف والعبث ينبئ عن نقصان قابله أو قصور فاعله، وأنه سبحانه هو الكامل المطلق والقيوم بالحق والعزيز العليم، الذي لا يحام حول سرادقات عزته وجلاله نقصان.
كيف وليست إرادته ومشيته ناشيتين عن داع زائد على ذاته يقهره وغرض يجبره، لأن كبرياءه أرفع من أن يتطرق إليه تمثال أحد، وجنابه أشمخ من أن يتخاطاه قدم ممكن، فقد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو أن يطلع عليه ألا واحدا بعد واحد.
مناجاة:
فانتهي - يا نفس - عن الهزل واللدد، وتخلقي بأخلاق الله الواحد الأحد، واستيقظي عن نوم الغافلين، وانتبهي من رقدة الجاهلين الذين لا يهممهم إلا هواهم، ولا يحركهم إلا مناهم ومشتهاهم
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق
[الحديد:16] يا نفس دعي الهوى واسلكي سبل ربك بالهدى، ألم يأن لك وقد شبت وما انتبهت، وبلغت سنك إلى خمسين وما خرجت عن باب عتبتك قدما إلى منازل القديسين.
اللهم أتمم لنا نورنا، واغفر لنا ذنوبنا، إنك على كل شيء قدير وبإعانة الملهوفين جدير.
[86.15-16]
الضمير راجع إلى مشركي مكة، لأن السورة مكية، أي: يعملون المكايد والحيل في إبطال القرآن، وإطفاء نور الله - ويأبى الله إلا أن يتم نوره -، فيكايدهم ويقابلهم بكيده، أي: يدبر ما ينقض تدابيرهم ويهدم مكائدهم. وسمي ذلك كيدا من حيث خفائه عليهم أولا، وظهوره أخيرا على نحو الاستدراج ونحوه.
ولا يبعد أن يراد بالكائدين القوى النفسانية وخصوصا الوهمية المكارة المنازعة للقوى القدسية في طريق الحق، فإنها وإن كانت منازعة إياها، إلا أن الله بإفاضته نور الهدى على قلب عبده المؤمن، وإعطائه له البرهان النير القدسي، والتأييد التام الحدسي، يغلبها على قواها كلها، ويظهرها عليها، ويخلصها من كيد القوى سيما الوهم الذي هو خليفة الشيطان في عالم الإنسان، ويجذبها إلى عالم القدس بإبطال كيد جنود الشيطان، وجعلها مسخرة خادمة للقوة القدسية، مطيعة مناقادة مشايعة معها إلى جناب الحق مسلمة مسالمة، بعدما كانت أنفة منازعة متأبية عن طاعة الحق كافرة جاحدة.
كشف
معنى إسناد الكيد إليه تعالى
إسناد الكيد إليه سبحانه من باب المجاز - كما هو الظاهر -، فتكون العلاقة هي المزاوجة، كقوله تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى:40]. وإطلاق اسم الضد على الضد أو ترتب الغاية، فإن أوصافه تعالى الفعلية في أكثر المواضع إنما توجد باعتبار الغايات لا باعتبار المبادئ كالرحيم والمنتقم وغيرهما - مما لا تنفك مباديها عن انفعال وتأثير في الموصوف بها، فكيده تعالى عبارة عن إنزال المكروه بالمكيد من حيث لا يشعر، استعارة من فعل الكايد بمن يكيده.
فالمعنى: إنه تعالى يجازي الذين شمروا لإبطال القرآن أو إطفاء نور الرسول الذي هو هدى للناس ورحمة، أو إبطال نور القوة القدسية التي هي نور يهتدى به في ظلمات بر المحسوسات، وبحر المعقولات، بكيد منه.
فيظهر الكتاب على سائر الكتب السماوية، ويظهر الدين الذي صدع به على الدين كله ولو كره المشركون، ويقهر النور القدسي على ظلمات سائر القوى الوهمية والخيالية والحسية التي بعضها فوق بعض.
ثم أن تقييد الفعلين بالمصدر المؤكد وتنكيره، إشعار بأن الأمر ذو شأن عظيم وخطب جليل. " الحق أبلج والباطل لجلج ".
وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء:81].
[86.17]
أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمهلهم، ولا يتصدى للانتقام منهم ولا يشتغل بمكايدتهم ومماراتهم، ولا يقدم على مجادتلهم ومباراتهم، وأن يستظهر بكيد الله عنه ومناضلته دونه، ومن ثم جاء بفاء السببية ليدل على أنه إذا علم أن الله يكيد له ويذب عنه لزمه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمهالهم والوثوق بصنع الله.
ويعلم من قوله: " رويدا " أن النصرة تأتيه عما قريب، فإنه اسم للإمهال اليسير. فإن كان المراد عذاب يوم بدر، فالمعنى " لا تعجل علي في طلب هلاكهم، بل اصبر عليهم قليلا، فإن الله يجزيهم لا محالة بالقتل والذل في الدنيا " ، وإن كان المراد عذاب يوم القيامة ونكال الآخرة، فالمعنى " قلل الإمهال ولا تعاجلهم بعذاب الله وانتظر بهم، وارض بتدبير الله فيهم وقضائه عليهم، لأن ما هو كان آت لا محالة فهو قليل ".
والنكتة في تكرير أصل اللفظ مع تغيير الهيئة، إفادة زيادة التسكين منه والتصبير عليه.
وقال ابن جني: قوله { فمهل الكافرين أمهلهم } غير اللفظ لأنه آثر التوكيد وكره التكرير، فلما تجشم إعادة اللفظ انحرف عنه بعض الإنحراف بتغيير المثال، فانتقل عن لفظ " فعل " إلى لفظ " أفعل " فقال: أمهلهم، فلما تجشم التثليث جاء بالمعنى وترك اللفظ قطعا فقال: " رويدا ".
لمعات رحمانية عن أنوار قرآنية:
إن في الآية تنبيهات على علو منصب الرسالة وكمال عناية الله في شأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أحدها: أنه لم يأمره بمكايدتهم ومماكرتهم إيذانا بأنهم ليسوا بمراتب معارضته، بل هم أقل وأخس وأحقر وأذل من أن يتصدى (صلى الله عليه وآله وسلم) لمدافعتهم وممانعتهم.
وثانيها: أنه قابل كيدهم بكيده تعالى إشعارا بأنه تعالى للرسول بمنزلة المحب الموافق للحبيب، أو الأب الشفيق للولد، حتى تكون مخاصمتهم له مخاصمتهم لله تعالى.
وثالثها: الإشارة إلى أن كل من خالف أمره ونهيه أذن بحرب من الله كما إليه الإشارة بقوله:
" من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب "
وفي رواية:
" من بارز لي وليا فقد بارزني ".
فكيف بإيذاء من هو سيد الأنبياء وأكمل الأولياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبارزته؟
ورابعها: أنه تعالى أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يمهلهم ويهملهم ولا يشغل سره بدفعهم ومنعهم، فلا يشوش ضميره المنير، ولا يكدره، ولا يوزع خاطره الشريف بالتفكر في خصومتهم، بل يلتجي في استدفاع مضرتهم واستكفاء مؤنتهم إلى جناب الحق، ليجازيهم على مكائدهم وساير أفعالهم السيئة أسوأ الجزاء، من غير أن يسعى هو في ذلك، تعظيما لشأنه وإجلالا لمكانه، واسترفاها لباله، وتصفية لضميره الذي هو محل الواردات القدسية ومورد السكينات الإلهية.
وخامسها: الدلالة بطريق المفهوم على تسلية خاطره (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه تعالى يبيد أعداءه، فإن المعنى: أمهلهم أنت ولا تكايدهم، فإني أكفيك كيدهم، وأدفع شرهم، فاكتف بكفايتنا، واستظهر بعنايتنا، فإنا نعصمك من الناس ونكفيك الناس، ونعيذك من شر الوسواس الخناس، كل ذلك طمأنينة له وتسكينا لقلبه المقدس.
وفيه إيماء إلى أنه ينبغي أن يرفق بالدعوة، ويدرج في التكميل، ويمهل المدعوين ريثما ينظروا ويتفكروا، فعسى أن يهتدي فيهم من قدرت هدايته.
وبلفظ الهداية نختم الكلام، رجاء أن يجعلنا من المهتدين، حامدين لله على نعمه وسوابغ منحه، ومصلين على ملائكته وأنبيائه واوليائه، خصوصا على حبيبه محمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل بيته وعترته الطاهرين، جعلنا الله من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بفضله وكرمه ومنه وجوده ونعمه.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-3]
ليس المراد من صيغة الأمر في مثل " سبح " و " أحمد " " واشكر " و " اذكر " بحسب الوضع العرفي، مجرد التلفظ بما يدل على وقوع معناه الحدثي، بل المراد إيقاع معانيها وإدخالها في الوجود بوجه يتأتى من المخاطب المأمور، وكذلك ليس المطلوب في لفظ " سبح " هنا مجرد قولك " سبحان ربي الأعلى " ، ولا في آخر الواقعة مجرد قولك " سبحان ربي العظيم " فقط، نظرا إلى ظاهر ما روي في الحديث : انه
" لما نزلت: { فسبح باسم ربك العظيم } [الواقعة:74] قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: { سبح اسم ربك الأعلى } - قال: اجعلوها في سجودكم "
وكانوا يقولون في الركوع " اللهم لك ركعت " وفي السجود: " اللهم لك سجدت ". بل المقصود الأصلي منه تحصيل العلم والمعرفة بتنزيهه تعالى عما لا يصح فيه من النقائص الإمكانية، وتقديسه عما لا يجوز له من المثالب الجسمانية، وكل ما يوجب ثلما لوحدانيته الحقة، ويلزم نقصا على وجوب وجوده من التكثر والتغير والتجسم والتصرم وساير مذاهب الجاهلية في ذاته أو في صفاته، والإلحاد في عظمة اسمائه وحيثياته، كالجبر والتشبيه والسفه والتعطيل الناشية من قصور أو خلل أو فساد في البصيرة الباطنية كحول الفلاسفة، وعور المعتزلة، وعمه الأشاعرة، وكمه الحنابلة، ونحو ذلك، مثل أن يفسر " الأعلى " في هذه الآية بمعنى الارتفاع عن درجة الإمكان، والعلو عما تصل إليه العقول والأذهان بقوة الدليل والبرهان، لا بمعنى العلو في المكان، والإستواء على العرش حقيقة.
وهاهنا سر آخر، وهو أن المراد بالتسبيح في عرف المتألهين، كون المسبح ذاتا مجردة عن المواد وعوارضها، والأجسام وصورها، لأن مبدأ كل صفة على وجه الكمال، يجب أن يكون في مرتبة ذاته متحققا بها على وجه آكد وأقوى.
فمعنى قوله: { سبح اسم ربك } أي: جرد ذاتك عن الدنيا وغواشيها، حتى تعرف تقدس اسم الله عن النقائص الإمكانية، واجل مرآة قلبك عن مطالعة الكائنات، حتى يمكنك ملاحظة ذاته وصفاته وأفعاله من غير شوب تشبيه في ذاته وتعطيل في صفاته، وتغيير وتبديل في سنن أفعاله.
ويحتمل أن يكون المراد من { اسم ربك الأعلى } المعلول الأول، وهو الملك المقدس الروحاني، فإن اسم الحق - جل شأنه - ليس من جنس الأصوات، وعلامة ذاته لا تكون كعلامة سائر الذوات من الهيآت والتشكيلات العارضة للهواء، الخارج من المخارج، بل علامة ذاته واسمه المقدس ما يناسب ويليق لحقيقته الحقة الأحدية.
والعبارة أيضا لا تساعد على غير هذا إذ الأمر بتسبيح الاسم - بمعنى الصوت - غير مناسب، لأنه يسبح به، لا يسبح له.
بل المأمور به هو الاعتقاد بأن الفعل الرباني والاسم الإلهي موجود روحاني مقدس عن الأجسام والجسمانيات، مجرد عن الأحياز والمكانيات.
وذلك لأن الصادر الأول عن الحق سبحانه، يجب أن يكون أمرا واحدا بالفعل، مستقلا في الوجود والتأثير. وغير الجوهر العقلي لا يكون كذلك لانتفاء الوحدة من الجسم، والفعلية من الهيولى، واستقلال الوجود عن الصورة والعرض والتأثير من النفس.
ويؤيده ما ذكرناه قوله سبحانه:
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
[الرحمن:78] لأن وصف الشيء بذلك يدل على أنه عاقل لذاته.
واعلم أن " اليمين " و " اليد " و " الأمر " و " القلم " في قوله تعالى:
والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67] وقوله:
يد الله فوق أيديهم
[الفتح:10] وقوله:
والسمآء بنيناها بأييد
[الذاريات:47] وقوله:
ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر
[القمر:50] وقوله:
اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم
[العلق:3 - 4] كلها عبارات عن هذا الملك المقدس الروحاني، الذي هو يمين الله، وواسطة فيضه، وقلم كتابته الحقائق على ألواح النفوس، وحجاب ذاته وسرادق غيبه، الذي ينتهي إليه سير السالكين إلى الله تعالى، فلهذا أمر سيدهم وقائدهم بتسبيحه وتمجيده الدالين علو الحق ومجده.
فمن جملة الطرق الموصلة إلى معرفة علوه ورفعته في كونه تعالى رفيعا في وجوده عن درجة الأجسام، الاستدلال عليه بخلق الحيوان الذي هو أشرف ما في العناصر والأركان، بنوعين من البيان، حسب تركب حقيقته من النفس والبدن.
أما الاستدلال على علو ذاته وسمو صفاته عن درجة الأجرام بخلقة الحيوان، فهو الذي أشار تعالى إليه بقوله تعالى: { الذي خلق فسوى }.
وذلك: أن بدن كل مقدر بمقدار معين وكمية خاصة تتعين له وتختص به، لأجل صدور أفعاله المختصة، وحركاته وانفعالاته الناشية عن قوته التحريكية والإحساسية، فلا جرم قدر الباري بعنايته المحكمة لكل حيوان مقدارا من التجسم الصالح لصدور أفعاله وآثاره الحيوانية، وهذا التقدير هو الخلق، لأن الخلق في اللغة هو التقدير.
وأيضا كل بدن حيواني مركب من عناصر وأجزاء بعضها حار خفيف، وبعضها بارد ثقيل، وبعضها رطب لقبول الهيئة والتشكل، وبعضها يابس لحفظ ما أفيد من التقويم والتعديل ، ويجب أن يكون لكل منها قدر معين، ليقع بينها التصالح والتقاوم حتى يتولد عن كيفياتها المتعادلة المتفاوتة، المزاج المخصوص، ولو زادت تلك الأجزاء أو نقصت، كان الحادث غير مزاجه الخاص به، وهذا هو التسوية.
فعلم من إيجاده قدرا معينا من أقدار الجسم لائقا بخلقة نوع من الحيوان، وقدرا معينا آخر منها لائقا بخلقة نوع آخر منه، تساوي نسبته إلى جميع الأجسام، وكل ما يكون كذلك لا يكون جسما ولا جسمانيا.
أما الأول: فلظهور أنه لو كان جسما لكان فردا خاصا منه، له مقدار معين - إذ العام لا وجود له في الخارج -، وقد ثبت تساوي نسبته إلى سائر الأجسام، فيلزم الترجيح من غير مرجح.
ولأنه لو كان جسما، لامتنع كونه موجدا لجسم، لامتناع تقدم بعض أفراد طبيعة واحدة على بعض، وأولويته منه - حسبما تقرر في مقامه -.
وأما الثاني: فلأنه لو كان أحدهما لزم إما اختصاصه بفرد من الجسم، أو افتقاره إليه، وقد نفيناه عنه.
وقد علم أيضا من التسوية، تصرفه في الأجسام كيف يشاء في التركيب والتفصيل، والنضج والتحليل، فلا يكون جسما ولا جمسانيا.
وأما الاستدلال على ذلك بنفس الحيوان، فهو قوله: { والذي قدر فهدى } -، لأن معناه: أنه سبحانه قدر لكل واحد من أعضاء الحيوان وأجزائه المخصوصة قوة مختصة بذلك العضو، مصدرا لأفاعيله، ومبدأ لآثاره ومنافعه ومصالحه، مثل القوة الباصرة للعين، والسامعة للأذن، والهاضمة للمعدة، والنفسانية للدماغ، والحيوانية للقلب، والطبيعية للكبد، فقدر لكل مزاج حيواني نوعا من القوى، وجعل كل مركب مزاجي آلة لقوة نفسانية أو طبيعية، وهداها إلى خصائص أفاعيلها وخصوصيات ما ينفعل منها، وألهمها إلى ما ينتفع منها.
فانظر إلى النحل كيف أوحى الله تعالى إليه في وضع بيوتها على هيئة المسدسات وإلى العنكبوت كيف هداها إلى وضع المشبكات لاقتناص ما يتقوت به من الذباب والبعوض، ومما يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت وقد ألهمها الله إن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج - لا تخطئها - فتحك بها عينيها وترجع باصرتها بإذن الله تعالى.
وهدايات الحق وإلهاماته للحيوانات - نواطقها وعجمها وطيورها وبهائمها، وهوامها - إلى ما لا يحد من مصالحها، ولا يعد من حوايجها في أغذيتها وأدويتها، وفي باب أولاها وأخراها ودنياها باب واسع من معرفة الله تعالى، لا تحيط به العقول والأوهام، بل إن لكل جسم طبيعي أو فلكي مبدأ فاعليا وجوهرا نفسانيا وصورة محركة طالبة لفعل خاص يكون بصدوره منها على كمالها الخاص بها محصلة به، وكونها على أشرف حالها مبتدية به إلى ما يقربها إلى باريها وجاعلها، ومتشبهة في إفاضة الخير والمنفعة على الغير بغايتها وفاعلها، - جلت عظمته وعظمت إلهيته -، فإيجاده بعلمه وحكمته لكل جسم من الأجسام أمرا ملكوتيا وقوة باطنية تكون مقوم نوعه وحافظ كماله، خدمة لبارئها وطاعة لربها، وعبادة لمعبودها، دليل واضح على علو ذاته عن الملك والملكوت، وسمو درجته عن الخلق والأمر، وبعد سمكه عن عالم السموات والأرضين وارتفاع حضرته عن جملة الأجسام والجسمانيين.
فسبحان ربي الأعلى من العليين، وأعظم من عوالي القديسين والكروبين.
[87.4-5]
" الغثاء " - بالضم - الدرن اليبس الذي يحمله السيل.
و " الأحوى ": الأسود. فأحوى صفة لغثاء، أي: أخرج المرعى وأنبت العشب فجعله بعد طراوته وخضرته هشيما درينا أسود، ويحتمل أن يكون " أحوى " حالا من " المرعى " ، أي: أنبته أسود، لشدة الخضرة والرعي فجعله غثاء بعد حوية.
ووجه الاستدلال به نوعان:
الأول: هو أن النبات جسم مؤلف من عناصر متضادة متداعية إلى الإنفكاك والإفتراق إلى أمكنتها الطبيعية، فلا بد في اجتماعها في مكان واحد من قاهر مختار يجبرها على الإلتيام وحفظها عن الافتراق، وليس هو نفسها النباتية، لأن حدوثها مسبوق بحدوث المزاج المسبوق بحدوث الاستحالات النباتية في كيفياتها المتضادة، والحركات لا تقع إلا في زمن مسبوق بحالة اجتماعها، فلو كان الجابر لها على الالتيام، والحافظ لها عن الافتراق هو النفس النباتي، لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب، ولا نفس حيوانية لتقدم النبات على الحيوان طبعا، فلو كان نفسه سببا لاجتماعها لزم الدور - وهو محال -.
فثبت أن الموجد لأجزاء النبات، والمتصرف فيها بالجمع والحفظ عن الافتراق والإنبتات، موجود مقدس عن التركيب والامتزاج، مرتفع عن عالم الأجسام والأحياز وعن التخصص بالأمكنة والجهات.
النوع الثاني: في الاستدلال باختلاف أحوال النبات من ريعانه وطراوته أولا، ويبسه وفنائه أخيرا، فإن المحيل له من حال إلى حال، والمتصرف فيه من جهة الحدوث والزوال، موجود باق متعال عن التجدد والانتقال، إذ لو جاز فيه التحول والتغير - وكل متحول لا بد فيه من محول يحوله وهكذا، ننقل الكلام من حاله إلى حال، فلو لم تنته السلسلة إلى محول غير متحول، وإلى مغير غير متغير يلزم الدور أو التسلسل - وكلاهما مستحيلان.
فثبت وجود موجود مقدس عن التغير والزمان، ومتعال عن التجسم والمكان، إذ الزمان والمكان متلازمان.
فإن قال قائل: لم لا يجوز أن يكون المؤثر في خلق الحيوان وتوليد النبات شيء من طبائع الأفلاك والكواكب بحسب الأوضاع والأنوار، لا الفاعل المختار؟
قلنا: هذا مستحيل عند العقل، لأن المني الذي يتولد من الحيوان، والبذر الذي يتكون منه النبات، جسم متشابه في نفسه، وبحسب وضعه عند الفلك، وقبوله لنور الكواكب، لكونه مع سائر أجزاء الأرض والمركبات التي فيها وعليها، كنقطة واحدة بالقياس إلى الجرم الأثيري البسيط المتشابه طبعا وتأثيرا، فالجسم البسيط المتشابه إذا أثر في جسم متشابه الذات متشابه النسبة الوضعية والاستعدادية تأثيرا متشابها، فيستحيل أن تتولد وتتكون منه أحوال مختلفة وأعضاء متباينة في الصورة والكيفية.
ألا ترى إذا وضع أحد شمعا مضيئا، وكان ما يستضاء منه خمسة أذرع من جانب، وجب أن يضيء بهذا المقدار من سائر الجوانب؟ وأما أن يضيء من أحد الجوانب خمسة أذرع ولا يضيء من الجانب الآخر إلا نصف ذراع - من غير حاجز ولا مانع ولا اختلاف في الجسم الذي حوله بالشفيف وعدمه، واللطافة والكثافة - فهو غير معقول.
فثبت أن مؤثرات الطبائع الجسمانية يجب أن يكون تأثيراتها متشابهة، فلما رأينا كيف تولدت من بعض أجزاء النطفة العظام، ومن بعض أجزائها أعصاب وعضلات وعروق ورباطات، ورأينا كيف تكونت من بعض أجزاء البذر والأوراق، ومن بعضها الأغصان والعيدان والقشور والثمار، علمنا وتيقنا أن التأثير فيها ليس تأثير مؤثر يفعل بالطبع والإيجاب والإجبار، بل تأثير مؤثر قادر يفعل بالعلم والاختيار، وحكيم يؤثر بالجهات والحيثيات حسبما اقتضاه علمه بوجوه المنافع والخيرات، وأفادت حكمته الداعية إلى إخراج ما في عنايته وقضائه من المكونات إلى القدر بحسب مصالح الممكنات في المواد والأوقات، فسبحان العليم القدير، الذي حكمته أفادت هذه المكونات، وقدرته أوجدت هذه المركبات، ليعلم المتوقد الذكي أنه مقدس عن عالم الأجسام والجسمانيات، متعالي المنزلة عن الأمكنة والمكانيات.
[87.6-9]
إعلم أن هذا المطلوب يتوقف على معرفة مقاصد ثلاثة:
الأول: صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذاته وصفاته وجوهره.
والثاني: كيفية تكميل الناقصين منه.
والثالث: اختلاف الناس في قبول هذا الكمال منه.
أما الأول: فاعلم أن النبي - من حيث هو نبي - إنما تتحقق نبوته بكمال وشرف يتعلق بنفسه وروحه، لا بقوة وحشمة تتعلق ببدنه وجسمه، وكمال النفس يكون بوجهين:
أحدهما: توجهه إلى الحق وهو الذي يعبر عنه بالقوة النظرية، وهو ما يكون كمالا لها بحسب هويتها وذاتها، وعند رجوعها إلى باريها وعودها إلى عالمها ونشأتها.
والثاني: توجهه إلى الخلق الذي يعبر عنه بالقوة العملية، وهو ما يكون كمالا لها بحسب نسبتها إلى أمور خارجة عنها، بتأثيرها فيها وعدم انفعالها عما دونها، وبتكميلها وإمداداها ونفعها فيما سواها، وعدم قبول النقص والآفة والشر من أضدادها وأعدائها، فنفس النبي - لكونه متوسطا بين الحق والخلق - لا بد وأن تكون كاملة في هاتين القوتين جميعا، وإن كان الكمال الحقيقي والقرب من الحق يمكن أن يتحقق بمجرد استكمال القوة العقلية مع التوسط في العملية كبعض أولياء الله المقربين.
وأما الكاملين في العمل - دون العلم -، فهم ليسوا من الكاملين في الحقيقة، بل لهم نوع نجاة وصلاح حال في الآخرة، وليس لهم رتبة النبوة والخلافة عندنا - خلافا لجماعة من المتكلمين - حيث لم يشترطوا إلا العلم بما يتعلق بالأحكام والسياسة الجمعية، والحكومات الفصلية في الخصومات، وسائر ما يتعلق بحفظ الحياة الدنيوية، وذلك لذهولهم عن أن الغرض الأصلي من بعثة الأنبياء، وإنزال الكتب السماوية والصحف الملكوتية، سياقة الخلق إلى جوار رحمة الله وجوده، بتعليمهم طريق المعرفة لتتنور ذواتهم، وتصير مناسبة للعالم الآخر، والغرض من تعيش الإنسان مدة أمهله الله تعالى فيها، هو تحصيله زادا للآخرة بالعلم بحقائق الأمور، بشرط قطع علائقه وعوائقه عن عالم الغرور بالتقوى.
فالبتقوى يحصل الخلاص والنجاة، وبالعلم يحصل القرب والمنزلة عند الله، والمتوسط بينه وبيننا لا بد وأن يكون كاملا في العلوم الحقيقية، بإلهام الحق تعالى بوساطة بعض الملائكة العقلية لا بالتعلم، وإلا لم يكن متوسطا بين الحق والخلق، بل بين الخلق والخلق، فلم يكن ما فرضناه نبيا نبيا - هذا خلف -.
ولا بد أن يكون كاملا فيما يتعلق بالأحكام والسياسات الدينية مؤيدا بالمعجزات الظاهرة لتكون دعوته للخلق مسموعة لهم خوفا من سطوته وسياسته، وإلا فالجحود والإنكار والاستنكار عن سماع الحق، والاشتغال بطلب الشهوات غالب على أكثر الخلق، فلا يمكن إيصال المعاني اللطيفة إلى قلوبهم إلا بعد أن تلين قلوبهم ويسكن انكارهم ويزول استكبارهم.
فثبت أن النبي لا بد وأن يكون كاملا في القوتين: العقل والعمل، قويا في النشأتين: الأخذ من الحق والتبليغ إلى الخلق.
ولما ثبت بالبرهان أن القوة العاقلة وكمالها أشرف من القوة العاملة وكمالها، لا جرم وجب تقديم العاقلة من جهة شرفها في الذكر على العاملة، وإليه وقعت الإشارة بقوله: { سنقرئك فلا تنسى } - والمعنى أنه سبحانه بشره بإعطاء قوة ملكوتية ونور عقلاني يتقوى بهما جوهر روحه ويكمل بحيث يصير نفسا قدسية ونورا شعشعانيا مشرقا بالعلوم الحقيقية والمعارف الإلهية، ويصير بحيث إذا عرف شيئا لا ينساه، ويكاد زيت نفسه الناطقة يضيء بنور عقله المستفاد من الجوهر المفارق العقلاني الذي هو نار معنوية من نور الله، ولو لم تمسسه نار التعليم البشري.
وهذا هو الذي فهمناه من قوله تعالى: { سنقرئك فلا تنسى } - لما روي أن (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبرئيل (ع)، فقيل له: لا تعجل، فإن جبرئيل مأمور بأن يقرأ عليك قراءة مكررة، إلى أن تحفظه ثم لا تنساه.
وقوله تعالى: { إلا ما شآء الله } - قيل: الغرض منه نفي النسيان رأسا كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء. وهو من استعمال القلة مكان النفي.
وقيل: قوله: فلا تنسى - على النهي، والألف مزيدة للفاصلة، يعني فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه بنسخه، من رفع حكمه وتلاوته. وعلى هذا فالإنساء نوع من النسخ.
وقيل: إن جوهر النفس الإنسانية ما دامت في هذه النشأة الظلمانية الهيولانية لا تصير عقلا صرفا لا يكون فيه ما بالقوة، فلا جرم قد يلحقها فتور في قدرتها وضعف في حفظها وإمساكها للمعقولات.
وأقول: يمكن أن يقال: إن المعقولات التي هي بمنزلة الدعائم والأصول في المعارف الإلهية، كانت بحيث لا يتطرق إليها الغفلة والنسيان عنها في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي التي لم يجز النسخ في حكمها، ولا الخلاف بين ملل الأنبياء (ع) بحسبها، وأما ما لم تكن بهذه المثابة، فهي المعقولات التي بمنزلة الفروع والفضول، فيجوز فيها الإهمال والنسيان والاختلاف في ثبتها ونسخها بحسب اختلاف الأزمنة وأحوال الأمم.
وأما قوله تعالى: { إنه يعلم الجهر وما يخفى } فهو إشارة إلى إثبات العلم له تعالى والتخلص من ذميمة الجهل والنقص.
وبيانه: أنه لما وعد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجعل جوهر نفسه الشريف عالما بحقائق المعلومات، متصفا بالعلوم الحقة المطابقة لما هي عليها في الواقع، محيطا بها، وقد حقق في الصنايع الكلية والمقامات العقلية، ان المؤثر في كل كمال وجمال للموجود - بما هو موجود - لا بد وأن يكون كماله وجماله أقوى وأجل مما في الأثر، والعلم لا شبهة في كونه كمالا للموجود من غير أن يلزم فيه تجسم أو تركب، فإذا وجد وتحقق في الخلق، فلا بد وأن يتحقق في الخالق بوجه أعلى وأشرف.
فلولا كون الباري سبحانه عالما بالمعلومات كلها، لما قدر على جعل روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبرأ عن السهو والنسيان، مقدسا عن الجهل والنقصان.
وقد ثبت في العلوم الحقيقية، أن كل من كمل في العلم الحقيقي لا بد وأن يكون كاملا في جميع الصفات الكمالية للموجود بما هو موجود، مبرأ عن جميع النقائص التي بأزائها، فيعلم من هذا أن الباري منزه عن جميع النقائص - فسبحان من تقدست كبرياؤه وتعظمت الاؤه -.
وفي الكشاف: يعني أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبرئيل (ع) مخافة التفلت، والله يعلم جهرك معه، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، فلا تغفل فأنا أكفيك ما تخافه، أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وما بطن من أحوالكم، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة، فينسي من الوحي ما يشاء، ويترك محفوظا ما يشاء.
وأقول: كلا الوجهين لا يخلو عن بعد، والأولى المصير إلى ما ذكرناه.
وأما الإشارة إلى تكميل نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القوة العملية، وبحسب نسبته إلى الخلق، فهو المراد في قوله: { ونيسرك لليسرى } - لان معناه ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، ووجه ذلك: أن الناس كلهم مشتركون في أصل القدرة على الفعل الحسن والفعل القبيح، والعفة والفجور، والورع والفسوق، إلا أن من الإنسان من يكون وجه تحصيل الملكات الفاضلة عليه أسهل، وطبعه عن الصفات الرذيلة أميل، ونفسه على سلوك طريق الخير والسعادة أقدر، والاجتناب عن طريق الشر والشقاوة عليه أيسر، لكونه شريف النفس نجيب الطبع.
وهذه السهولة في الطبع عبارة عن الصفة المسماة بالخلق، فمن كان سعيدا لطيف الذات شريف النفس طاهرا زكيا نقيا، كانت نفسه سهلة القبول للسعادات، يسيرة التفهم لوجوه الخير في الأعمال والأفعال، سريعة الانقياد لطاعة الحق، شديدة الانفعال عن المبدأ الفعال، قوية الاتصال بالواهب الفياض المتعال، فلا محالة يكون بما استفاض وتعلم من الجنبة العالية من الخيرات والعلوم والكمالات، مفيضا على بني نوعه، ومعلما لقومه، وهاديا ومرشدا لمن دونه من أمته، فقوله تعالى: { ونيسرك لليسرى } - إشارة إلى هذه الدرجة، كما أن قوله تعالى:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم:4] إشعار باستحقاق نبينا بحسب خاصية ذاته، وقوة نفسه، وصفاء فطرته، وتنور عقله، مرتبة النبوة والرسالة.
فقد وقعت الإشارة إلى اتصاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمجموع الكمالين اللذين لا بد للنبي - من حيث هو نبي - أن يجتمعا فيه، وأشير أولا إلى كمال القوة النظرية التي بحسب حاق جوهر نفسه، ثم إلى كمال القوة العملية بحسب نسبته إلى غيره وتدبيره لما دونه، فقوله: { ونيسرك لليسرى } - معطوف على قوله: { سنقرئك } - وقوله: { إنه يعلم الجهر وما يخفى } - اعتراض.
وقيل: المراد من اليسرى: الشريعة السمحة التي هي أيسر الشرايع وأسهلها مأخذا.
وقيل: نوفقك لعمل الجنة. وهذين الوجهين مرجعهما إلى ما ذكرنا - فتأمل فيه -.
وأما المقصد الثاني من النبوة، فهو الاشتغال بدعوة الخلق إلى طريق الحق. وسياقهم إلى جوار الله وعالم الملكوت.
وقد أشرنا إلى أن من كان كاملا في مجموع القوة النظرية والقوة العملية في الغاية، بحيث يقدر على تكميل غيره فهو النبي، وإن لم يكن كاملا في المجموع بل في النظرية فقط، مستغرقا في شهود جمال الحق وجلاله، بحيث لا يسعه الاشتغال عنه إلى ذاته المستنيرة بنور الله - فضلا عما هو خارج عنه وعن مولاه - فهو الولي الكامل والفاني المضمحل.
ومقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلى من مقام الولي المحض مجردا عن الرسالة، لأن الكمال الملطق إنما يتحقق بأن يكون الشيء تاما وفوق التمام، وضيق الصدر عن أحد الجانبين - وهو جانب الخلق - مع سعته لجانب الحق، نوع قصور، والكامل المطلق من كان جالسا في الحد المشترك بين عالم الأمر وعالم الخلق، واسعا صدره الخلق والحق، ويكون تارة مع الله بالعبودية والحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة عليهم، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار كواحد منهم كأنه لا يعرف الحق، وإذا خلا بربه مشتغلا بذكره وخدمته، فكأنه لا يعرف الخلق، فهذا سبيل المرسلين والصديقين.
فلما حصل تمام نفس النبي بحسب كمال الجانبين وتمام القوتين: - العملية والعلمية -، وجب أن يصير فوق التمام بإفاضة الكمالات على الناقصين، وإشراق الأنوار على وجوه المستعدين، وذلك هو دعوة العباد إلى طاعة المبدأ والمعاد، وسياقتهم إلى سبيل النجاة من آفة النقص، والوصول إلى منبع الحياة - وهي المسماة بالرسالة -، وملاكها التذكير والتعليم المشار إليه بقوله: " فذكر " - وهو أمر، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور من الله تعالى بفعل الرسالة، أي تكميل الناقصين على قدر استعدادهم، وتعليمهم على قدر قوتهم وطاقتهم لدرك العلوم الحقيقية.
وأكثر الخلق لا يدرك الحقائق الكلية وأصول الموجودات إلا على سبيل التمثيل والتشبيه، والأنبياء مأمورون بدعوة الخلق والتكلم معهم على مبلغ عقولهم، لقوله:
" نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم ".
وعقول أكثر الناس بمنزلة الخيال والوهم، ولذلك كان تعليمهم الحقائق الإيمانية، على رتبة التمثيلات التي تناسب طبائعهم الغليظة، خصوصا الأعراب والبدويين -، وربما بلغ بعضهم في الغباوة والبلادة حيث لا ينجع معهم نصح ولا ينفع فيهم وعظ، وخوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأجلهم بقوله تعالى:
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص:56] وبقوله:
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء
[النمل:80].
فقوله سبحانه: { إن نفعت الذكرى } - وإن كان بحسب الظاهر شرطا للتذكير، لكن ليس الغرض منه أن تذكيره (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم مشترط بالنفع، بل الرسول مأمور بالوعظ والتذكير مطلقا - سواء نفع أو لم ينفع -، كما أن الشمس من شأنها الإضاءة والتنوير، سواء قبلت الأجسام التي تحاذيها أم لم تقبل، فنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إفاضة الأنوار العلمية على النفوس بمنزلة الشمس في إفاضتها الأنوار الحسية على الأجسام المختلفة الاستعداد لقبول النور، ونفوس الناس بعضها بمنزلة القمر، وبعضها بمنزلة الأجسام المستنيرة كالمرايا الصقلية، وبعضها بمنزلة الأجسام المظلمة الكدرة، بل الغرض منه الإشعار بغباوة بعض النفوس وتعصيهم عن إدراك الحقائق، والإخبار عن غلظة طبائعهم وجمود قرايحهم، والاستبعاد لتأثير الذكرى فيهم، والتسجيل على قلوبهم بالطبع والرين، كما تقول للواعظ: " عظ فلانا إن سمع منك الوعظ وقبل النصيحة ". قاصدا بهذا الشرط مجرد الاستبعاد لذلك، وأنه لن يتحقق، لا غيره.
فظهر من هذه المباحث، أن الله تعالى، كما يعلم الكليات والعقليات، يعلم الجزئيات والحسيات، وكما يعلم الجهريات النورية العقلية، يعلم الخفيات الظلمانية الحسية. وكما أنه واقف بأسرار القلوب ومطلع على ضمائر العقول، كذلك هو بصر بأعمال العباد. سميع بأقوال خلقه في البلاد.
فسبحان الذي لا يجري شيء في ملكه وملكوته إلا بقضائه وقدره، وسبحان من تقدست ذاته عن أن يغفل عن ما يفعل عباده من خيره وشره ونفعه وضره.
[87.10-13]
وبيان ذلك: أن الخلق في كيفية قبول دعوة النبوة وتبليغ الرسالة، وإخراجهم بتعليم الهداية عن ورطة الضلالة، ينقسمون إلى قسمين:
منهم من ينتفع بتعليم الأنبياء، ويتذكر بتذكير المرسلين، لأجل رقة قلبه، ولين طبعه، وخوفه وخشيته من سوء العاقبة.
ومنهم من لا ينتفع ولا يتذكر. وذلك لغلظة قلبه وجمود طبعه، وغفلته عن عواقب الأمور، ونسيانه أمر الآخرة وأمر النفس، وكيفية عوده إلى النشأة الثانية.
فالقسم الأول: هو المشار إليه بقوله: { سيذكر من يخشى } - فإن الخشية والتذكر متلازمان، كل منهما يوجب الآخرة فإن من سمع دعوة الأنبياء ثم خطر بباله أن هذه الدنيا واهية فانية، داثرة فاسدة على كل حال، فلو لم يشتغل بعمارة النشأة الآخرة، فربما وقع في الهلاك السرمدي، فقد حصل له الخوف، فإذا حصلت له هذه الخشية، تحمله على النظر في دعوة الأنبياء، والتأمل في أمور الآخرة، ومراتب سعادة النفس وشقاوتها، وما به نجاتها أو هلاكها، وهذا التذكر وهذا التذكير يبعثه على الاجتناب عن المعاصي والرذائل، والاكتساب للطاعات والفضائل، خوفا من الهلاك والعذاب، وطمعا للنجاة والراحة، فهو الذي ينتفع بدعوة الأنبياء.
وأما القسم الثاني: الذين لا ينتفعون بدعوتهم، ولا تحملهم الخشية على تحصيل الدرجات، وطلب التخلص عن العقوبات، فإليهم الإشارة بقوله تعالى: { ويتجنبها الأشقى * الذى يصلى النار الكبرى }. وذلك لأن من أعرض عن ذكر الآخرة لأجل تسلط الشهوات الدنيوية على قلبه، واستيلاء الحرص في طلب المآرب الحيوانية من المال والجاه والنساء والبنين وغيرها على طبعه، لا يكون بصدد استكمال النفس بالعلم والعمل، ولا يشتغل بفعل الطاعات وترك المعاصي والشهوات، فيتوغل في الدنيا الدنية، ويخلد إلى الأرض ، وتستحكم علاقته مع البدن والشهوات، وتقوى محبته لها، وكل من اشتدت محبته وعلاقته لشيء، فإن زال اشتدت محنته ومصيبته عند مفارقته ومزايلته عنه، فإذا مات الإنسان الذي تأكدت علاقته الشوقية مع الدنيا ولذاتها، فقد فارق ما كان محبوبا، وذهب إلى موضع ليس له به معرفة ولا له بأهل الآخرة انس ومعارفة، فالبضرورة، كان له أذى عظيم أعظم من احتراق هذه النار الدنيوية التي هي النار الصغرى كل ذلك لأجل إعراضه عن الذكر في أمر آخرته عند رجوعه إلى بارئه، كما في قوله تعالى:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا
[طه:124] وقد ظهر بالمشاهدة الروحانية للأنبياء ومن تبعهم حق المتابعة، ظهورا أوضح من المعاينة الحسية، أن أصناف الآلام الأخروية المتعاقبة على روح من آثر الحياة الدنيا، ثلاثة كلها روحانية واقعة قبل مقاساة عذاب النار الجسمانية، التي تكون في آخر الأمر، وهي حرقة المشتهيات، وخزي خجلة المفضحات، وحسرة فوت المحبوبات.
وبيان كل منها يحتاج إلى بسط في الكلام لا يسعه هذا المقام.
- وبالجملة -، العذاب والألم ليس منحصرا في الإحراق بالنار، والتجميد بالزمهرير اللذين مرجع التألم فيهما إلى تفرق الاتصال في جوهر مباين لجوهر الروح التي لها نوع تعلق جسمي، وارتباط شوقي به وبأحواله، بسبب ذلك، يتألم بفقد حالة من حالاته، وبالحقيقة، منشأ هذا التألم الحاصل من النار الجسمانية، الذي يكون أشد مراتب آلام الحسية، هو المحبة والإلف بالبدن وهو جسم، والأجسام خارجة عن حقيقة الروح.
فإذا كان هذا حال الروح لأجل فقد الاتصال أو الامتزاج بين أجزاء هذا المحبوب المباين عن ذات الروح، فكيف يكون حالها عند وجدان الخلل والقصور والافتراق في جوهر ذاتها عند فقد آلات الوصول إلى مشتهياتها ومحبوباتها كلها، كما في قوله تعالى:
وحيل بينهم وبين ما يشتهون
[سبأ54].
فهذه هي نار الله المعنوية
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة:6 - 7]، التي نسبة إيلامها إلى إيلام هذه النار الجسمانية نسبة الروح إلى البدن في الوجود والإدراك، وسائر الأشياء التي تتصف بها الروح بالأصالة، والذات والبدن بالتبعية والعرض، فقوله سبحانه: { يصلى النار الكبرى } -، يمكن أن يكون إشارة إلى النار المعنوية، التي ملاكها عدم الإيمان مع الجحود والجهل المضاد للعلم بالمعارف الحقة الإلهية التي بها قوام الروح الإنسانية ووجودها الإستقلالي - كما برهن عليه في مقامه -، مع اكتساب الرذائل في إيثار الدنيا على الآخرة، وهي غير النار الجسمانية الصغرى التي ينضم إيلامها إلى إيلام الكبرى، فإن ألم الكبرى يتعلق بالروح لأجل ترك التذكر لمعرفة الله بالجهل المركب والرذائل النفسانية، وألم الصغرى يتعلق بالجسم لأجل المعاصي البدنية والمظالم الحسية التي تشهد بها الجوارح والأعضاء.
ويؤيد ذلك ما قيل: الكبرى نار الآخرة، والصغرى نار الدنيا.
وقوله تعالى: { ثم لا يموت فيها ولا يحيا } - يرجح ما ذكرناه وأشرنا إليه، وبيانه بوجه إجمالي؛ أن الحياة الأخروية وما به قوام الروح في النشأة الآخرة، إنما يكون بالمعرفة بأحوال المبدأ والمعاد، وكيفية إنزال الكتب وإرسال الرسل، والاعتقاد بحقيقة ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تدل عليه النصوص الشرعية والأحكام العقلية، وقد بسطنا القول فيه في بعض كتبنا الحكمية الإلهية.
وهذه الحياة الحاصلة للروح لأجل المعارف، حياة روحانية، وما به تزول هذه الحياة عنها - وهي الجهل المضاد لها -، هي نار معنوية لا محالة، فأقل مراتب الحية المستقرة للروح الإنسانية عند الآخرة، إنما يحصل بتحصيل هذه المعارف الإيمانية على وجه يطمئن به القلب، وإن لم يبلغ إلى درجة البرهان القطعي، ولم يتجاوز عن الظن الغالب - كما في أكثر عوام أهل الإسلام -، بشرط السلامة عن الهيآت الخبيثة الشديدة، والرذائل الراسخة في القلوب، وذلك أقل مراتب النجاة.
ثم كلما ازداد يقينا وانكشافا، ازدادت حياته قوة واستقرارا، حتى يلتذ بلذات النعيم الأخروي على وجه الكمال، كإنسان تام الأعضاء، صحيح المزاج، قوي القوى الإدراكية.
وأما فاقد أصل الإيمان أو العمل رأسا، فهو بمنزلة إنسان مقطوع الأعضاء والأطراف، الذي لا استقرار لحياته الجسمانية، فكما أن من هذا حاله في الدنيا يقال: " إنه متوسط بين الحياة والموت في الدنيا " ، فكذلك حال الروح التي ليس لها معرفة حقيقية ولا اعتقاد حق، حالها في الآخرة أنها: { ثم لا يموت فيها ولا يحيا }.
فقد ظهر أن الله تعالى - لسابق قضائه الأزلي - نظم ترتيب العالم الأخروي على وفق نظام العالم الدنيوي، فكما أن بعض الناس بحسب الحالة الدنيوية سعيد وبعضهم شقي، فهكذا في الآخرة، بعضهم سعداء أخيار، وبعضهم أشقياء أشرار، كل ذلك يدل على علمه بوجه النظام الأوفق. وقدرته على إيجاد كل مرتبة من الوجود واعطائه لكل شخص ما هو له أليق.
وكما أن السعادة قسمان: دنيوية وأخروية. والدنيوية قسمان: داخلية - كالصحة والسلامة -، وخارجية - كترتب أسباب المعاش، وحصول ما يحتاج إليه من المال والجاه -.
والأخروية أيضا قسمان: علمية - كالمعارف والحقائق -، وعملية - كالطاعات والخيرات -، فكذلك تتعدد أقسام الشقاوة بإزائها، لكن السعادة والشقاوة بحسب العلم والجهل ذاتيتان أزلا وأبدا، مخلدتان دائما وسرمدا. وأما بحسب الأعمال الحسنة والسيئة فتترتب عليها المجازاة والمكافاة، وتتقدر بحسبها المثوبات والعقوبات، كقوله تعالى:
جزآء بما كانوا يكسبون
[التوبة:82] فلا يكون أصحاب هذه الشقاوة مخلدين إلا ما شاء الله ويتركب بعضها مع بعض ويتفرد، إلا أن أكثر السيئات وأكبرها يتبع الجهل المركب، وأغلب الحسنات وأعظمها يتبع العلم.
ولهذا قد وقعت أولا الإشارة إلى قسمة الخلق بالسعادة والشقاوة اللتين بحسب العلم والجهل - المعبر عنهما بالتذكر والتجنب - إلى من يخشى بسبب تذكره الأمور الآخرة، والى من لا يخشى بجهله وغفتله عنها، وبينت وخامة عاقبة الموصوف بشقاوة الجهل بأشد وجه، حيث عبر عنه بصيغة التفضيل، المشعر بأن شقاوة الجهل أعظم من شقاوة المعاصي البدنية، وأوعد عليه بصلي النار الكبرى المعنوية التي إيلامها أشد مراتب الإيلام.
ثم أخبر بأنه لا رتبة له في الوجود، لكونه كسائر الأشياء الضعيفة القوام والوجود - كالهيولى والزمان والحركة التي لا قوام لها في أنفسها إلا بأمر خارج عن ذاتها كالمحل وغيره -، وذلك لأن قوام الدار الآخرة بالمعارف، فمن لا معرفة له لا حياة له ولا موت أيضا، لأن الروح الإنسانية الناطقة لا تفسد بالكلية - كما برهن عليه -، فلها عند قصورها عن درجة التمام حالة متوسطة بين الحياة المستقرة والوجود الاستقلالي، وبين الموت والعدم المحض.
وأهمل بيان عاقبة الموصوف بسعادة العلم، لعدم إمكان تفهم الناس كيفية ما وعد للعرفان الإلهيين - وأعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -، فبعد ذلك وقعت الإشارة منه إلى قسمة الناس بالسعادة والشقاوة بحسب العمل، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
[87.14-16]
تزكى، أي: تطهر من الشرك والمعاصي، والمراد تنقية القلب والباطن عن الرذائل، استعدادا للصلاة العقلية، واستفاضة المعارف الحقيقية بالتكلم الحقيقي مع الله، فإن الصلاة معراج المؤمن، والمصلي مناج ربه، أو تطهر للصلاة، وهذا بحسب تنظيف الثوب وتهذيب البدن عن الأخباث والأحداث استعدادا للصلاة الجسمانية التي هي رياضة جسدية للمؤمن بحسب حياته الحيوانية.
ونسبة الصلاة المعنوية إلى هذه الصلاة الظاهرية نسبة الروح إلى البدن، حيث يحتاج كل منهما إلى الآخرة ما دامت الحياة الدنيا باقية، وأما عند الآخرة، فلا تنقطع عن المعارف تلك الصلاة الروحانية أبدا.
وقيل: معنى: تزكى - تكثر في التقوى، لأنه من الزكاء وهو النماء، أو " تفعل " من الزكاة، كتصدق من الصدقة.
فصلى - أي: فصلى الصلوات الخمس وغيرها، كمثل قوله:
وأقام الصلاة وآتى الزكاة
[البقرة:177].
وعن أمير المؤمنين (ع): أي: أعطى زكاة الفطر فتوجه إلى المصلى فصلى صلاة العيد. وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الافتتاح.
وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها مغايرة للصلاة لأنها معطوفة عليها، وعلى أن الافتتاح جايز بكل اسم من أسماء الله تعالى.
وعن ابن عباس: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له.
والوجه العرفاني في هذه الآية: أن الصلاة الجسمانية وإن كانت عبدة بدنية، لكن صحتها موقوفة على معرفة المعبود، وتذكره بأسمائه وصفاته التي تليق به، بل الأعمال كلها لا تتم شرعيتها وصحتها إلا بنية التقرب اليه، والطاعة لأمره ونهيه، وخصوصا الصلاة من جملتها، لأنها عماد الدين، وبها تمتاز هيئة الإنسانية في ظاهر الأمر عن هيئة الحيوانات التي لا خضوع لها، فذكر " الذكر " هنا من باب المقدمة لما ذكرنا أن سوق الآية لبيان قسمة حال الإنسان إلى السعادة العملية والشقاوة التي بإزائها فيما تقدم. والوجه في اختصاص الصلاة والزكاة من بين الأعمال الصالحة هو أن الغرض من الأعمال الرياضة البدنية لتحصل للروح هيئة التنزه عن الأعراض الحسية والتجرد عن الأمور الكثيفة المادية الظلمانية، وصفة الاستعلاء لها على القوى الإدراكية والتحريكية لتجرها بالتعويد من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن معدن الجور والزور والثبور إلى منبع الحياة والرحمة والنور، حيث لا تزاحمها في مطالبها بل تشايعها في مآربها وتهتدي بهداها وتطيعها وتسلم لها في أوامرها وزواجرها حتى تنخرط معها في سلك طاعة الله وعبوديته.
ثم لا شبهة في أن بناء تمرد القوى وعصيانها عن طاعة الله إنما يكون بأحد أمرين: أولهما: ميلها إلى الشهوات والمرغوبات الحسية المضادة للأمور الروحانية والأغراض العقلية. وثانيهما: الكسل والتبطي عن طاعة العقل وإزالة كل منهما لا يكون إلا بقطع سببه وحسم مادته أو بورود ضده عليه، وعمدة أسباب الوصول إلى الشهوات هو المال، لأن بالمال يتمكن الإنسان من تناول كل لذيذ، ومباشرة كل شهي فبترك المال يقطع جميع أسباب الشهوات الدنيوية، وهو المراد بقوله: { قد أفلح من تزكى }.
ومنشأ الكسالة في الطبع، هو إنما يكون لأجل استيلاء السكون والضعف، وعدم النشاط والانبعاث في القوى المحركة، فيعالج هذا المرض والآفة فيما بفعل ضده، وهو التحريكات البدنية كالصلاة والصوم والحج، فالصلاة عمدة الجميع، فاكتفى بذكرها، إذ مع كونها متضمنة للأذكار والأوراد، مشتملة على الحركات البدنية من القيام والقراءة والركوع والسجود، حتى قيل إن بدن الإنسان - لأجل قواه النفسانية - بمنزلة خشبة جامدة يراد انعطافها ولينها، فعرضت على النار فلانت، فلذلك يجعل البدن منحنيا بالركوع، ثم يترك ليستقيم مرة أخرى، ثم يجعل أشد انحناء بالسجود مرتين، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه بالرفق لا تبغض طاعة الله على نفسك.
وقيل أيضا: إذا وقعت السجدة الثانية فقد حصل ثلاثة أنواع من الطاعة: ركوع واحد وسجدتان. فالبركوع ينجو من عقبة الشهوات، وبالسجود الأول من عقبة الغضب - الذي هو رئيس بالموذيات -، وبالسجود الثاني من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات، فاذا تجاوزت نفس الإنسان عن هذه الدركات، وتخلصت عن هذه المهلكات، وصلت إلى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات.
وأما الحج؛ فلاشتماله على الحركات الشديدة في البراري، والرياضات البدنية وغيرها لا يحتاج إلى البيان لظهوره.
وأما الصوم؛ - فإنه وإن كان في ظاهر الأمر من باب السكون - إلا أنه يحرك الباطن تحريكا شديدا، ويشوقه إلى طلب المعارف والسلوك إلى الجنبة العالية كما يحكم به الوجدان.
فالحاصل، أن فعل الصلاة وإيتاء الزكاة عمدتا الأعمال الصالحة البدنية، وهما مستلزمان لسائر الخيرات والطاعات العملية التي بها تحصل للانسان السعادة الأخروية.
وأما الشقاوة التي تكون بإزائها فهي إنما تحصل للإنسان لأجل فعل المعاصي وترك الطاعات، ومنشأ ذلك انقياد القوة العقلية وطاعتها للنفس الأمارة وهواها الشيطاني وقواها الشهوية والغضبية. والعقل الإنساني في طاعته وخدمته لهذه القوى الثلاثة - أي الهوى والشهوة والغضب - بعينه بمنزلة إنسان يخدم شيطانا مريدا وكلبا عقورا وخنزيرا نجسا ويتردد في تحصيل مطالبها، ويصرف عمره في تيسير ملاذها ومرغوباتها.
ومثل هذا الإنسان، لو بقي هكذا مدة عمره، ولم يرجع إلى طاعة الله بالتوبة والإنابة والتدارك فيما فرط في جنب الله تعالى، ولم يسع في تلافي ما وقع منه، فمنزلته أخس من منزلة الحيوانات الهالكة لقوله تعالى:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف:179]. لأن خادم الشيء ووسيلته أدون منزلة من المخدوم والغاية.
فسبحان من أفاد الخير والسعادة برضائه ومنته، وأحدث الشر والشقاوة بقضائه وحكمته، جل جنابه عن النقص والقصور في الصفات والأفعال، وتقدست ذاته عن تخيل الأشباه والأمثال، وتمجد جنابه عن تصوير الأضداد والأنداد - وغير ذلك مما يتوهمه الفكر والخيال من المحال، تعالى عما يصفه العقلاء فضلا عن الجهال.
باك از آنها كه عاقلان كفتند
باكتر زانكه غافلان كفتند
[87.17]
فهذه الآية إشارة إلى مطلبين:
المطلب الأول
أن سبب إعراض أكثر الخلق عن اكتساب المعارف الإلهية، واقتناص الحقائق العقلية، إيثارها الحياة الدنيوية وشهواتها على الآخرة وخيراتها، وذلك لاستيلاء الدواعي الجسمانية - من القوى الوهمية والشهوية والغضبية - على القوة العاقلة، فبحسب تسلط القوة الجسمانية على القوة العقلية، تكون قوة الرغبة إلى الدنيا وشدة النفرة من الآخرة.
ولا يخفى عليك، أن دنياك ليست إلا حالتك قبل الموت، من جهة استعمال آلة الحس والحركة في جلب المنافع البدنية، ودفع المضار الجسمانية بقوتي الشهوة والغضب، وآخرتك ليست إلا حالتك بعد الموت، وقطع علاقتك عن هذا البدن المظلم، من جهة استعمال المشاعر الأخروية - من السمع والبصر وغيرهما - حسبما يناسب أعمالك وأفعالك - وشرح ذلك مما يطول -.
- وبالجملة - كل من غلب عليه الميل إلى المزخرفات الدنيوية، لا بد وأن يكون أعمى القلب عن إدراك الأمور الأخروية، بعيدا عن تذكر الآيات الإلهية، ولذا لا ينفع التذكير والنصح لهم - كما أشير اليه سابقا -.
المطلب الثاني
في أن نيل السعادة الأخروية، ودرك اللذات الآجلة التي تنال بمشاعر ذلك العالم، أجل وأدوم
والدليل على هذا المطلب أمور:
أولها: أن كل واحد من اللذات العاجلة - كالفوز بالشهوات البهيمية، والرياسات الحيوانية - لا تخلو من نقائص جمة، كشوب مكروه، ووصمة انقطاع، وتقضي وتعقب إملال إما في ذواتها، أو في الخصائص الحاصلة منها.
الأول: كما في تقضي الشهوة وداعية الغضب فإنهما سيزولان سريعا.
والثاني: كالملك، فإن الملك وإن لم يمل بذاته، لكن لا ينفك عن الإملال في المقاصد التي يطلب لأجلها الملك - وذلك ظاهر -.
واللذة الأخروية بالخلاف في جميع ما ذكر لبراءتها وخلوصها عن شوب مكروه أو وصمة نفاد، أو تعقب إملال، لا في ذاتها ولا فيما يصحبها.
وثانيها: أن كل مرتبة نيلت من لذات الدنيا لن يقنع المطمئن إلى زخارفها دون البدار إلى الإحاطة بما فوقها، والتشوق إلى الوصول إلى ما وراءها، مع استحالة الوصول إلى لذة لا تكون وراءها لذة فوقها، وهذه بخلاف لذة الآخرة، إذ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ولكل واحد من أهل الآخرة ما تبلغ إليه همته ويصل اليه قصده وشهوته.
وثالثها: أن اللذة الدنيوية مشتركة فيما بين الناس والبهائم والديدان والخنافس، واللذات الأخروية مشتركة فيما بين أفاضل من الناس من الأنبياء والأولياء والسعداء وأفاضل الملائكة.
ورابعها: أن هذه اللذات الدنيوية، لو كانت خيرات حقيقية وسعادات، لكانت كلما كانت أكثر، كان الفائز بها أكمل وسعادته أكثر، ومعلوم أنه ليس كذلك، لأنا لو فرضنا رجلا من العقلاء لا هم له إلا الأكل والشرب والوقاع، وكان مدة عمره مقصورا على تحصيل هذه المهمات، لكان عند العقلاء منسوبا إلى الخسة والدناءة، والى أنه كالبهيمة.
وأما من كان إعراضه عن هذه الأحوال أشد وبعده عنها أكثر، كان إلى الكمال والشرف أقرب، والى الروحانيات وأهل الله أنسب وبهم أشبه.
فعلم من ذلك، أن اللذات الأخروية وما عند الله خير عند أولي الألباب وذوي الآراء الصحيحة من اللذات الدنيوية، ولهذا السبب كان الإنسان لا يقدم على الجماع عند حضور الناس، فلو كانت تلك اللذات من باب الكمال، لكان إظهاره أولى من إخفائه لا محالة، وكذا لا يفتخر العاقل بكثرة الأكل والشرب، ويفتخر بالعلم - ولو في شيء خسيس - ويفرح به، ويغتم بالجهل - ولو في شيء حقير -، وحتى أن الإنسان لا يكاد يتجاوز عن التحدي بالعلم والافتخار به في الأشياء الحقيرة، والعالم بالشطرنج - على خسته - لا يطيق السكوت عن التعليم وإظهار المعرفة فيه، كل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعر من كونه كمالا حقيقيا، فإن العلم من أخص صفات الربوبية - وهو منتهى الكمال -، أما ترى أن الإنسان كيف يرتاح إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم، لأنه يستشعر عند ذلك جمال ذاته وحسن نفسه حسنا لازما أبديا، فيعجب بنفسه ويلتذ بها.
ثم ليست لذة العلم بالمتغيرات والعلوم الجزئية والصنايع كالنحو والصرف والعروض، وصنعة الحراثة والخياطة، كلذة العلم بالله وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض، لأن لذة العلم بقدر شرفه، وشرفه بقدر شرف المعلوم، وليت شعري هل في الوجود شيء أجل وأشرف وأعظم من الحق المعبود وصفاته وملائكته وملكوت سماواته وأرضه وكتبه ورسله.
وبهذا يتبين أن العلم لذيذ، وأن العلوم العلم بالله وصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته، ولهذا اعتنى بتحصيله الأنبياء والحكماء والعرفاء، وهو الذي به يتحقق شرفهم وكمالهم وفضيلتهم على سائر الخلق، لا بنفس الأعمال الجزئية والأفعال البدنية، والعلوم التي تتعلق باصلاح تلك الأعمال والأفعال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا.
-وبالجملة -، العلم مال الروح، والعمل كمال البدن، وكما أن جوهر الروح أشرف من جوهر البدن، كانت لذتها وكمالها أشرف وألذ من كمال البدن، فالابتهاج بمعرفة الله - وهي أصل المعارف - أشرف من الابتهاج بالمطعم الهني، والمنكح الشهي، والملبس البهي، والظفر بالاستيلاء على العدو الدني الحيواني، والمعرفة من الأمور الأخروية التي تظهر للنفس بقدر ظهور سلطان الآخرة عليها.
وكما أن الدار الآخرة موجودة الآن - كما عليه المحققون -، وظهورها يتوقف على رفع الحجاب بالموت، فكذلك المعرفة وإن كانت حاصلة للعرفاء، ولكن قدر اللذة بها فانية في الدنيا لأجل الحجاب، والحجاب بينك وبين الله هو الدنيا، ودنياك اشتغالك وتعلقك بعلايقك الداثرة الفانية - من مات فقد قامت قيامته -، أي القيامة الصغرى.
فعلم مما ذكرنا أن حصول أصل المعرفة بالله تعالى في الدنيا يوجب اللذة العظيمة الوافرة الدائمة عن رفع الحجاب - أي في الآخرة -.
بل التحقيق أن نفس المعرفة الحاصلة ها هنا بالبرهان اليقيني، هي التي تستكمل بعينها في الوضوح والجلاء عند زوال الغشاء وكشف الغطاء، وتنقلب بمشاهدة، ولا يكون بين المعلوم في الدنيا بالعلم البرهاني والمشاهد في الآخرة، إلا من حيث شدة الوضوح وضعفه، ولهذا قيل: " المعرفة بذر المشاهدة ".
وكما أن اختلاف البذر يوجب اختلاف الزروع والثمرات، حيث يحصل من البر البر، ومن الشعير الشعير، فكذلك الدنيا مزرعة الآخرة، ومعارف الناس في الدنيا مختلفة، فتكون مشاهداتهم في الآخرة مختلفة نوعا وعددا وقوة وضعفا، فمن لم يعرف الله في الدنيا، فكيف يراه في الآخرة بالشهود القلبي والبصيرة العقلية؟!
وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المنكوح والمطعوم، وترى من يؤثر لذة العلم لانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمأكول - جميعا -، فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنة، إذ يرجع نعيمها إلى المنكوح والمطعوم، وهؤلاء بأعيانهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفناه، من إيثار لذة العلم والمعرفة، والاطلاع على أسرار الربوبية، وقالوا: " الجار ثم الدار ". فلا التفات لهم إلى الجنة بل إلى رب الجنة، فكل من لم يعرف الله في الدنيا فلا ينظر إليه في الآخرة، ولا يتجلى الله له أصلا، إذ ليس يستأنف لأحد شيء في الآخرة ما لم يستصحبه في الدنيا، فلا يحصد إلا ما زرع
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء:72].
هركه امروز نبيند أثر قدرت دوست
غالب آنست كه فرداش نبيند ديدار
فقد علم من جميع ما ذكرناه وفصلناه في مواضع من كتبنا ورسائلنا، أن العيش عيش الآخرة، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، لأنها دار العلم ودار الحياة العقلية، وأن منشأ إيثار الحياة الدنيا على الآخرة إنما يكون الجهل بلذة المعارف، والعمى، والحرمان، وكثافة الطبع، وغلظة القلب، وتجسم النفس، حتى أن نفس بعض الآدميين بمنزلة بدن مقطوع الأعضاء الذي لا ثمرة له في الحياة ولا حصل له في الكون، وكل من انتهى حاله إلى إدراك المعرفة الإلهية، فلا بد أن يلتذ بالمعرفة، ويحب لقاء الله ومشاهدة ذاته بالبصيرة العقلية، فيحب الموت ولا يكرهه البتة، إلا من حيث ينتظر زيادة استكمال فيها، لأن بحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنه جلال الله وعظمته مما لا مطمع فيها.
وعلامة عدم العرفان عدم حب اللقاء، وعلامة عدم الحب كراهة الموت وإيثار الحياة الدنيا، مع كون الآخرة خير وأبقى في نفس الأمر وعند أولي الألباب.
قال الله تعالى:
قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
[الجمعة:6] فجعل سبحانه تمني الموت علامة صدق الولاية والمعرفة.
وقال سيد الموحدين وإمام العارفين علي بن أبي طالب (ع): والله لابن أبي طالب انس بالموت من الطفل بثدي أمه.
وقال (ع) عند وقوع الضربة عن ابن ملجم - لعنه الله - على رأسه الشريف: فزت ورب الكعبة. لعلمه اليقيني بأن الآخرة خير له، إذ بها يظفر بالمقصود ويشاهد جمال المعبود.
فسبحان من تجلى لقلوب أوليائه بنور الجمال، وكشف عن بصائر أحبائه حجب الجلال، فتاهت أرواحهم من الملكوت، وبقوا حيارى في كشف الجبروت، فخاضوا في بحر اليقين، وأصبحوا في جمال الذات هائمين، وبحق العبادة الذاتية قائمين، قائلين: اللهم الطف أسرارنا بإشراق المحبة في أرجائها، وشوق أرواحنا إلى شهود جمالك بفنائها حتى تحيرت في سبحات وجهك الكريم، وطاشت ودهشت عند تجليات حسنك وتلاشت، فحكم الشهود عليها بنفي الوجود وألزمها الاعتراف ب " لا إله إلا الله الواحد الأحد المعبود المشهود ".
[87.18-19]
يعني أن هذه المعارف المسطورة في هذه السورة والمشار إليها في طي هذه الآية الكريمة الإلهية، واردة من الله في الصحف الأولى للأنبياء، فائضة على صفحات ضمائر الأولياء، لأن سعادة الإنسان وكرامة نفسه لا تحصل إلا بالاشتغال بهذه المطالب، وخلاصه عن شقاوة الجهل منوط بالإعراض عن الدنيا وساير الرغائب.
وروى صاحب الكشاف مرفوعا
" عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كم أنزل الله من كتاب "؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): مائة وأربعة كتب. منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ - وهو إدريس - ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوارة، والزبور، والإنجيل، والفرقان ".
وجميعها مشتركة في طريق واحد ومسلك جامع، هو العلم بالله وأسمائه وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الخلوص عن غشاوة الدنيا بإصلاح الجزء العلمي من النفس، وهذه سبيل الموحدين جميعا من الأنبياء والأولياء والعرفاء.
وقال الله تعالى:
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
[الأنبياء:25].
وقال تعالى:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108].
وسلم هذه المعارف هو علم حقيقة النفس، وكيفية استكمالاتها وتطوراتها من لدن حدوثها وكونها عقلا هيولانيا، إلى غاية تمامها وكمالها عقلا فعالا متصلا بعالم القدس والحضرة الإلهية، والغرض الأصلي من بعثة جميع الأنبياء والمرسلين يرجع ألى أمرين: التجرد عن العلائق، والاستكمال بالحقائق.
قال بعض العرفاء: وكما أن الاسم الإلهي جامع لجميع الأسماء مشتمل عليها مع أحديته، كذلك طريق عرفانه ودعوته، جامع طرق جميع الأسماء كلها ودعوتها، وإن كان كل من تلك الطرق مختصا بالاسم الذي يريد صاحبه ومظهره، ويعبده للظهور من ذلك الوجه، ويسلك سبيله المستقيم الخاص بذلك الاسم.
وليس الجامع لها إلا ما سلك عليها المظهر المحمدي (ص) والنشأة الجامعة الأحمدية - صلوات الله وسلامه عليه وآله وأتباعه إلى يوم القيامة - وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء، ومنها تتفرق الطرق وتتشعب.
روي أن رسول الله (ص) لما أراد أن يبين ذلك للناس، خط خطا مستقيما، ثم خط عن جانبيه خطوطا خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل، الصراط المستقيم الجامع، والخطوط الخارجة منها سبل الشيطان. كما قال:
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام:153].
واعلم أن الحقائق والمعارف التي بها يستكمل الإنسان، ليس عند جمهور الناس شيء منها إلا الخيالات والأشباح، ولذلك لا يحصل لهم منها بعد تقليدهم من الأنبياء واعترافهم بها تسليما وانقيادا إلا شبح الكمال ومثاله، دون حقيقته، لأنها علوم وأسرار لطيفة لا تنكشف لأحد إلا بعد تلطف نفسه، وتنور روحه، وتقدس جوهره، وصفاء ذهنه، إما بحسب الفطرة كما للأنبياء والأولياء، أو بحسب الرياضة كما للحكماء والعلماء.
ولهذا قال بعض الحكماء: من أراد الحكمة الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى.
فالأنبياء، لغاية نقاء أذهانهم، وفرط ذكاء عقولهم، أخذوا هذا العلم عن الملائكة الفعالة وحيا وإلهاما بتأييد الله - عز وجل -، وأما الجمهور من الناس، فليس لهم طريق إلى هذه المعرفة إلا إيمانا وتسليما وتصديقا بما جاء به المخبرون الصادقون عن الله تعالى.
وأما الذين لا يرضون أن يأخذوا هذا العلم تسليما وتصديقا، بل يريدون طريق الكشف والبرهان، والوصول إلى الحقائق واستيضاحها بالبصائر العقلية التي نسبتها إلى العقليات الحقيقية المنورة بنور الحق، نسبة البصر إلى الحسيات المادية المستنيرة بنور الشمس، فهم يحتاجون إلى أن تكون لهم نفوس زكية، وقلوب صافية، وأذان واعية، وأخلاق ظاهرة، وأن يكونوا غير متعصبين لمذهب دون مذهب في هذه الآراء التي لا تختلف باختلاف الأديان والملل، كما نبه عليه قوله تعالى:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
[البقرة:285 - 286].
فهذه الآية إشارة إلى هذه المراتب الثلاثة للإنسان في الاعتقاد بالمعارف الإلهية.
فقوله:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه
[البقرة:285] -، إشارة إلى مرتبة الأنبياء، وهي الدرجة العليا في الإيمان والمعرفة، لأنها حاصلة من جهة نزول المعارف الإلهية، وفيضان الحقائق الربانية على عقولهم الزكية النورية، التي يكاد يضيء زيت نفوسهم الناطقة لفرط استعدادها نورا عقلانيا ولو لم تمسسه نار التعليم البشري، كالكبريت الذي ربما يشتعل بنفسه بأدنى وصول حرارة إليه، نارا محرقا تمامه من غير تخلف مادة رمادية، لا يقبل النارية والنور، كذلك حكم نفوس الأنبياء، حيث إن أبدانهم المكتسبة، لها خاصية الروح من جهة الإدراك والصعود إلى عالم الأفلاك، والولوج في عالم الجنان، ودار الحيوان مع الأبدان.
وقوله:
والمؤمنون كل آمن بالله
[البقرة:285] الى قوله: -
وإليك المصير
[البقرة:285] - إشارة إلى مرتبة الحكماء والعرفاء والعلماء الربانيين، حيث بلغوا إلى مراتب العلم والعرفان، ووصلوا إلى حقائق الإيمان من العلم بأحوال المبدأ وكيفية الصنع والابداع وكيفية خلقة الملائكة الروحانيين وإفاضة العلوم والمعارف الحقة على الألواح العقلية المحفوظة عن الفساد، ثم على الكتب السماوية المحروسة عن النسخ والآفات، ثم على قلوب أنبيائه الصالحين المعصومين عن الخطأ بحسب مصالح العباد على وجه كلي يؤدي إلى سعادتهم في المعاد، من غير اختلاف لأحد من الرسل وأصحاب الأديان في وصول الحقائق الحاصلة لهم من الله سبحانه بقوة ملكوتية، ولخواص أمتهم بقوة الذكاء والوجدان وتصفية الباطن بالرياضات العملية والعبادات القلبية، واتباعهم للأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - في طريق السلوك إليه تعالى، بتكميل ذواتهم بصفة الكمال الذي ينحصر في المعرفة بالله وصفاته وأفعاله، بعد إصلاح الجزء العلمي من نفوسهم بسماع الآيات والذكر الحكيم وطاعة الملكوت في تسخير القوى الشهوية والغضبية والوهمية واستخدامها في أوامر الله ونواهيه بحسب ما تقتضيه الشريعة الحقة ابتغاء لغفران الله ورضوانه عند المصير اليه والانقطاع عنها وعما تعلقت بها .
وقوله:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
[البقرة:286] إشارة إلى النفوس الساذجة التي ليس فيها ما يوجب التمرد والاستكبار عن قبول الحق من دواعي الشر والفساد، وطلب الرياسة والعناد واللداد كعوام أهل الإسلام، حيث أجابوا دعوة الحق انقيادا وتسليما، وقبلوا النصائح والمواعظ في فعل الطاعات البدنية والعبادات الجسمانية وترك المعاصي والإفراط في اللذات والشهوات لئلا يكونوا هائمين غافلين بالكلية عن الله واليوم الآخر، غير مقربين بالثواب والعقاب والجزاء في الأعمال والأفعال يوم الحساب.
فلا محالة لهم نصيب من الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، فإن الاستحقاق للرحمة المبذولة، إنما يتحقق بمجرد عدم المضادة للرحمة المنافي للمغفرة - أي الهيآت الردية والأخلاق الظلمانية الحاصلة للنفوس بسبب تكرر الأعمال القبيحة، والتمرد عن طاعة الحق، والاستكبار عن سماع الآيات والإعراض عن تكلم الكلمات -.
والداء العضال الذي لا نجاة معه يوم الآخرة، حب الرياسة وطلب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، فبقدر قوة ذلك، يكون الإنسان بعيدا عن درك الحق ونيل السعادة الأخروية.
أعاذنا الله تعالى - من الإنكباب إلى عالم الغرور والزور، ونجانا عن صحبة المؤذيات والظلمات في معدن الآفات والشرور، وصعد بنا - بمساعدة العلم والتقوى - إلى منبع النور ودار الرحمة والسرور - إنه ولي الجود وغاية الوجود.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1]
كلمة " إذا " يراد بها الوقت، ووقت الآخرة ليس كهذه الأوقات الدنيوية، كما أن يومها وساعتها ليس كأيام الدنيا وساعاتها المضبوطة بحركات هذا الفلك الأقصى، إذ نسبة يوم الآخرة إلى هذه الأيام، كنسبة الروح الأعظم إلى هذه الأرواح الجزئية، وذلك اليوم الحق الذي فيه يمترون.
ومن خواص ذلك اليوم، أن مقداره بالقياس إلى طائفة خمسون ألف سنة:
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج:4] وبالقياس إلى طائفة كلمحة واحدة:
ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل:77]
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا
[المعارج:6 - 7].
فهذا الوقت المدلول عليه بكلمة " إذا " هنا يستوعب سائر الأوقات والأزمنة والساعات، وهو بعينه قد وقع ظرفا لزلزلة الأرض، والأصل في الظروف الزمانية والمكانية أن تطابق مظروفاتها ولوازمها من الحركات والأجرام.
وقد بين في العلوم القرآنية والمعالم البرهانية، أن الأرض وما فيها دائمة الحركة، فقوله: إذا زلزلت -، من قبيل قوله:
يوم نطوي السمآء كطي السجل للكتب
[الأنبياء:104] فكما أن طي السماء لا يختص وقوعه بزمان الدنيا - بل بيوم القيامة، ولا يمكن لأحد مشاهدة ذلك إلا من كان من أهل النشأة الآخرة كما قال سبحانه:
والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67] فلذلك زلزلة الأرض هذه غير مختصة الوقوع بزمان معين من هذه الأزمنة، بل ظرف تحققها يوم الآخرة، وشاهد وجودها أهل الآخرة وأصحاب اليمين، فهي مطوية بيمين الحق بالقياس إلى أصحاب اليمين.
وأما من كان من أصحاب الشمال وأهل الجحيم والنكال، فليسوا مفتوحي العين ولا حديدي البصر حتى يقرؤوا الكتب السماوية وينظروا إلى سجل دوراتها وطومار أوقاتها دفعة، إلا حرفا بعد حرف، وكلمة غب كلمة، ولا يمكنهم أيضا مشاهدة آيات الأفلاك والأنفس بالحقيقة إلا كمشاهدة الدواب والأنعام خلف أغشية حجب العزة والجلال، وأغطية الظلمة والوبال، والبعد عن عالم النور والجمال، فتتوارد عليهم الأوضاع والتغيرات وتتحكم عليهم الأزمنة والاوقات.
وأما من قوي نظره وحد بصره - كما هو عند القيامة - فيطلع على جميع ما في هذا الكتاب الجامع للأكوان دفعة واحدة لا يغادر حرفا منه، مثل من يطوي عنده السجل الجامع للكلمات والحروف، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أوتيت جوامع الكلم ".
إنما قال:
والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67] لأن أصحاب الشمال وسكان دار الظلمات، لا نصيب لهم من طي السموات، لأنهم أهل الحجاب - كما مر - فهكذا حال هذا الزلزال للأرض ليس مما يدركه كل أحد، لأنه غير مختص الوقوع بوقت جزئي من أوقات الدنيا، فلا يشاهده الإنسان بمشاعر هذا الأدنى، لأن هذه الحواس التي يشترك فيها الدواب والأنعام مع الناس، تختص بمشاهدتها بما يحدث هنا من الحوادث الجزئية والأكوان الزمانية، والقيامة وأحوالها من عظام الأمور الكلية ليست من جزئياتها،
إن زلزلة الساعة شيء عظيم
[الحج:1].
فكما أن أرض القيامة غير هذه الأرض بوجه - لأنها يومئذ مبدلة مقبوضة - وسماؤها غيره هذه السماء بوجه - لأنها مطوية كما قال الله سبحانه:
يوم تبدل الأرض غير الأرض
[إبراهيم:48]. وقوله:
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67].
فكذلك زلزلة الأرض يوم القيامة غير هذه الزلازل الجزئية.
تنبيه:
إن أهل الحجاب وأصحاب الارتياب ذاهلون عن كون الأزمنة والحركات منطوية يوم القيامة منشورة ها هنا، ولا يمكن لهم أن يعرفوا بهما جميعا، والعجب أنهم كما لم يؤمنوا هنا بطي السموات وما فيها يوم القيامة، لاشتغال قلوبهم بأحوال الدنيا، فكذلك إذا بعثوا إلى الآخرة أنكروا زمان مكثهم في الدنيا ونشر الحركات فيها، إذ تشغلهم أهوال يوم القيامة عن ذلك، كما قال جل ذكره:
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون
[الروم:55 - 56].
حجة كلامية:
إن في قوله تعالى:
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها
[الحج:2] بعد قوله -
إن زلزلة الساعة شيء عظيم
[الحج:1] دليلا واضحا على ما ذكر، لدلالة الكلية على الشمول العمومي لجميع المرضعات وذوات الأحمال، متى كان وأين كان.
تنوير قرآني وتذكير برهاني:
إن نسبة البعث إليه تعالى كنسبة الخلق:
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة
[لقمان:28]
كما بدأكم تعودون
[الأعراف:29] فكما أن الله من جهة الخلق أوجد جميع الخلائق - على كثرتها واختلاف أزمنتها - بإيجاد واحد وإفاضة واحدة - وحدة غير زمانية -، وهي في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض، أمور متكثرة متجددة، ومختصة بأزمنتها وأوقاتها، وله تعالى أيضا شأن واحد في شؤون كثيرة، إذ كل يوم هو في شأن، ولا يشغله شأن عن شأن، فكذلك من جهة البعث، يبعث الخلق كلهم في ساعة واحدة على صعيد واحد كقوله تعالى:
فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة
[النازعات:13 - 14].
فهذه الساعة:
كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل:77]. من جهة. ومن جهة المخلوقات واختلاف قوابلها واستعداداتها:
كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج:4] وعليها يقاس حكم الحركات والأمكنة فإن لها هاتين الجهتين.
قال تعالى نظرا إلى الزمان من جهة القرب والوحدة:
اقتربت الساعة وانشق القمر
[القمر:1].
وأن الساعة آتية لا ريب فيها
[الحج:7]
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة
[يونس:45].
ومن جهة البعد بالقياس إلى أهل الحجاب والظلمة:
هيهات هيهات لما توعدون
[المؤمنون:36]
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
[يونس:48 - 49].
وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون
[الأنبياء:109].
أم يجعل له ربي أمدا
[الجن،:25].
وقال نظرا إلى المكان من جهة القرب:
وأخذوا من مكان قريب
[سبأ:51]
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
[العنكبوت:54].
وما هم عنها بغآئبين
[الانفظار:16].
إنآ أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه
[النبأ:40]. ومن جهة البعد:
وأنى لهم التناوش من مكان بعيد
[سبأ:52].
وقال نظرا إلى الوجهين:
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا
[المعارج:6 - 7]. فالأول: بالقياس إلى المحبوسين في سجن المكان، المقيدين بقيد الزمان، والثاني: بالقياس إلى المتخلصين عن رق الحدثان، الناظرين إلى حقائق الأشياء بعين العيان.
إشارة نورية:
إن إضافة الزلزال إلى الضمير العائد إلى الأرض، الدالة على الاختصاص، تشير إلى أن هذه نوع حركة معهودة من الأرض، مختصة بها، واقعة منها على حسب الجبلة والغريزة، وأنها مركوزة في طبيعتها، والأمور الغريزية للأشياء غير منسلخة عنها، ولا متراخية إلى حين - إذا خليت وطبايعها - فهكذا حكم هذا الزلزال.
وقد حقق في المعالم الإلهية بالبراهين النوارنية، أن الأرض والأرضي كالسماء والسماوي، في أن لها حركة ذاتية جوهرية لا تفتر عنها لحظة، وما من طبيعة أو ذي طبيعة إلا وهو أبدا في الحركة الاستكمالية الجوهرية، وبها يطلب الحق الأول، ويرجع إليه، كما في قوله سبحانه:
فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت:11] فالإتيان لله سبحانه: إما من السماء وما فيها، فكان في أول الأمر على جهة الطوع لكونها مفطورة على كمالها الأتم في أول النشأة، مطيعة لله تعالى بحسب فطرتها الأولى، وإما من الأرض ومن عليها فكان على جهة القسر أولا، لأنها ناقصة الفطرة الأولى، وإنما اكتسبت الكمال والتقرب إلى الله بحسب فطرة أخرى ونشأة ثانية. فالأرضيات بعد استكمالها بالنفوس الكاملة الإنسانية، صارت مطيعة لله تعالى بلا إكراه كالسماويات، فاتفقتا في سلوك طريق الحق والسير إلى الله، والإتيان إليه ولهذا قالتا: أتينا طائعين.
وفي الكشاف: معنى هذه الإضافة، زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة، وهو مشية الله، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده، ونحوه قولك: أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته. تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه.
وقد أجرى الله على لسانه من الحق ما يمكن أن يراد منه مجموع الانتقالات الأرضية الواقعية من جملة الأرض وما فيها من ساير المركبات التامة والناقصة، وبسائطها إذا أخذت دفعة واحدة، وشوهدت شهودا أخرويا، وما يختص بأهل الآخرة وبأهل المعرفة وإن لم يحشروا بعد بحسب قالبهم إلى الله، وذلك لأنهم قد حشروا إلى الله بحسب قلوبهم.
وهذه الحركة إذا أخذت هكذا، فهي حركة عقلية شوقية من الله مبدأها، وإلى الله منتهاها، وباسمه مجراها ومرساها، كما قال تعالى
يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاهآ
[النازعات:42 - 44].
وقد بين أيضا في المعالم الإلهية إثبات العقل والإرادة للأرض بالبرهان المنور بأنوار القرآن، مثل قوله:
أتينا طآئعين
[فصلت:11]
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر:69]. وقوله:
إن الذي أحياها لمحى الموتى
[فصلت:39]. ومن اكتحلت عين بصيرته بنور الحكمة الحقة، يعلم أن كل جرم - غليظا كان أو لطيفا - فله حياة ونفس وعقل، إذ ما من جسم إلا وله صورة طبيعية هي مبدأ حركته القريب، وكل جسم من شأنه التفرق والانقطاع والتكثر، وعند القطع والتكثير تنعدم ذاته ويزول اتصاله، وكل طبيعة من شأنها الاستحالة والسيلان دائما - كما حقق في مقامه - فالنفس الروحانية هي علة اتصال الأجرام ووحدانيته، فالوحدة والاتصال مستفادان في كل جرم من النفس، وكذا البقاء والاستمرار له لسيلان طبيعته واستحالتها - لما مر -.
والنفس لا يتم وجودها إلا بالعقل، لأنها أيضا من حيث الفعل والتدبير طبيعة، ومن حيث الذات والحقيقة عقل، فثبت أن الأرض ذات حياة نفسانية، ولها كلمة فعالة روحانية.
واستدل معلم أسلاف الحكماء، على أن الأرض ذات حياة بأنها تنمو وتنبت الجبال - فإنها نبات أرضي -، وفي داخل الجبال حيوانات كثيرة ومعادن، وإنما تتكون هذه منها لأجل الكلمة ذات النفس فإنها هي التي تصور في داخل الأرض هذه الصورة. وهذه الكلمة هي صورة الأرض الفاعلة فيها هذه الأفاعيل، ولا يمكن أن تكون ميتة وتفعل هذه الأفاعيل العجيبة العظيمة، فان كانت حية فانها ذات نفس لا محالة.
فإن كانت هذه الأرض الحسية حية - وهي صنم - فبالحري أن تكون الأرض العقلية حية - انتهت حكاية كلامه -.
وبناؤه على أن لكل طبيعة جسمانية صورة عقلية في عالم الأرواح العقلية - وهي المسماة بالمثل النورية والصور المفارقة عند شيخه أفلاطون، ومن تقدمه من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وعرجوا بنفوسهم الصافية وقلوبهم الطاهرة إلى عالم القدس، وشاهدوا هذه الصورة الإلهية مظاهر أسماء الله تعالى، فهم أهل بيت الحكمة، كما أن أئمتنا أهل بيت النبوة والولاية - سلام الله عليهم أجمعين -.
تذكرة:
هذه الحركة الأرضية، التي قد مرت الإشارة إلى أنها إرادية شوقيه عقلية، ليست واقعة في احدى المقولات الأربع العرضية، لما مر أنها غير محسوسة، ولا قابلة لأن تحس بإحدى هذه الحواس، بل هي حركة ذاتية واقعة في مقولة الجوهر. والمقتصرون على البحث البحت من النظار وذوي الأفكار، لم يجوزوا الحركة في مقولة الجوهر، ولم يمكنهم أن يتفطنوا بدقة أفكارهم وحدة أنظارهم لهذه الحركة الذاتية، لأن إدراكها يحتاج إلى تأييد إلهي وإلهام نوري رباني، يختص بأصحاب المكاشفات للقلوب المنورة بنور الإيمان ثم العرفان.
فهم قد رأوا بالمشاهدة العيانية، أن الأعيان الجوهرية دائمة التوجه إلى الله تعالى توجها معنويا وحركة ذاتية، وما من جوهر عيني له صورة وجودية إلا وله هذا السير الحثيث إلى الحضرة الإلهية، وهو أبدا في الانتقال من صورة إلى صورة، ومن طور إلى طور - حركة رجوعية وسيرا استكماليا - كما قال سبحانه:
وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء
[النمل:88].
فهكذا حكم الإنسان، فإنه أبدا بحسب غريزته، والتبدل والميلان من نشأة إلى نشأة، وطور إلى طور، ومن هوية إلى هوية، ومن تبدل هذه الهويات عليه، تستمر له هوية ثابتة يحكم بها عليه أن ذاته هي التي كانت موجودة أولا، فله هوية ثانية هي التي بعينها متبدلة، فانظر ماذا ترى.
وعلى هذه الحركة الانقلابية للإنسان شواهد كثيرة من القرآن، مثل قوله جل اسمه:
يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه
[الانشقاق:6] وقوله:
وينقلب إلى أهله مسرورا
[الانشقاق:9]. وقوله:
إنا لله وإنآ إليه راجعون
[البقرة:156]. وقوله:
كل إلينا راجعون
[الانبياء:93]. وقوله:
وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون
[فصلت:21].
وهذه الحركة الجبلية إليه تعالى وإلى الدار الآخرة، ولا تنافي الشقاوة والكفر، بل تعم السعيد والشقي، والمؤمن والكافر، كما بين، وكذا لا تنافى الذبول الطبيعي والموت الطبيعي، لأن توجه النفس إلى جهة الآخرة بعد تمام الاستكمال البدني، يوجب انصراف تدبيرها عن البدن شيئا فشيئا، حتى إذا تم التوجه إليها والانصراف عنه بالكلية عرض له الموت، فلهذا المعنى يكون الذبول طبيعيا والموت طبيعيا، لا كما اشتهر فيما بين الناس من أن سببهما نقصان القوة من الأول وفناؤها في الثاني. فإذن قد بزغ الحق، وانكشف الأمر في أن الأرض بما فيها دائمة التحول والحركة من جوهر محسوس أدنى إلى جوهر محسوس أعلى، ثم تتحرك بعد طي مراتب المحسوسات الجوهرية إلى الجواهر الغير المحسوسة، فيتحرك من الأخس منها وجودا والأقل آثارا إلى الأشرف منها وجودا والأكثر آثارا، وهكذا تتدرج في الاستكمال وتسير في الأطوار السلوكية والأحوال من صورة إلى صورة حتى تنتهي نوبة الانتقال والإرتحال من الجواهر النفسانية إلى الجواهر العقلانية، فإذا وصلت إلى الحضرة الإلهية وعالم الأسماء بعد عالم الأرض والسماء، فيحشر إلى اسم من أسمائه -
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار
[إبراهيم:48].
تذكرة:
هذه الحركة المعنوية للأرض، التي تعود بجملة ما فيها ومعها إلى الدار الآخرة، وترجع بها إلى الله تعالى، قد وقعت الإشارة إليها في آيات كثيرة من الكتاب الإلهي، مثل قوله:
يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة
[الحج:5] إلى قوله:
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور
[الحج:6 - 7].
وقوله:
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا
[الزمر:71] إلى قوله:
قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا
[الزمر:72 - 73] إلى قوله:
فادخلوها خالدين
[الزمر:73].
[99.2]
إذا فهمت ما مر من الكلام، عملت أن هذا موكد لما ذكرناه ومنور لما قررناه، إذ فيه إشارة إلى غاية هذه الحركة الأرضية، فإن الحركة لا بد لها من غاية، بل ليس معناها إلا التأدي إلى غاية، والطلب لكمال، والخروج من قوة إلى فعل، ولهذا حدت بأنها: " كمال أول لما بالقوة من حيث هو بالقوة ".
فغاية زلزلة الأرض ظهور أواخر ما في مكامن استعداداتها، وبروز نهايات كمالاتها الجوهرية يوم القيامة من أفراد طبايع النفوس الإنسانية السعيدة أو الشقية، وكذا أفراد نفوس الشياطين والجن المعبر عنهما جميعا بالأثقال - جمع الثقل، وهو متاع البيت ومتاع المسافر -.
شبه إخراج الطبيعة المحركة الأرضية ما في مكن قوتها ومخزن استعداداتها إلى الفعلية والبروز بشخص أخرج أمتعته من داخل البيت إلى عرصة التميز وموقف الأشهاد، ليظهر رايجها من كاسدها، وصحيحها من فاسدها، وتميز خبيثها من طيبها، وكذلك يوم عرض الخلائق في عرصة القيامة - ليميز الله الخبيث من الطيب -، فتعرف أعمالهم وأفعالهم وضمائرهم ونياتهم، ثم يجزون بما كانوا يعملون فيثابون أو يعاقبون.
هداية حكمية:
ليس لأحد أن ينكر صحة اجتماع الخلائق كلهم من الأولين والآخرين في وقت واحد على ساهرة واحدة، بعدما بليت أجسادهم، ورمت عظامهم، كما حكى الله سبحانه عن المنكرين الجاحدين لأمر المعاد، وأمر نبينه بالقول الهادي إلى طريق السداد وسبيل الرشاد فقال:
يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون * أو آبآؤنا الأولون * قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم
[الواقعة:47 - 50]. وذلك لأن القدرة واسعة، والعناية داعية، والحكمة مقتضية، والموانع ساقطة، إذ زمان الآخرة يسع الأزمنة كلها، وكذا مكانها يسع الأمكنة، والله سبحانه يمد الأرض ذلك اليوم بقدرته مد الأديم - كما ورد في الخبر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - وكما قال سبحانه:
وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت
[الانشقاق:3 - 5].
ومما يثبت ذلك عقلا، أن الزمان بكميته الإتصالية شخص واحد موجود في وعاء الدهر، وكذا الحركة القطعية بامتدادها الاتصالي لها هوية ومقدارية حاضرة عند الباري - جل ذكره -، وعباده المقربين المقيمين عنده - من الملائكة والنبيين والشهداء -، وكذا كل ما يقترن الزمان والحركة له حضور جمعي يوم الجمع - لا ريب فيه -، فسطح الأرض وإن كان في كل زمان بجملة ما عليه غير ما هو في زمان آخر - سابقا كان أو لاحقا - لعدم اجتماع أجزائه كلها، ولعدم حضور ما يقارنها ويوازيها من المتجددات والمتغيرات عند المحبوسين في سجن المكان المقيدين بقيود الزمان، بل في كل زمان يسع وجه الأرض عددا معينا محصورا من الخلائق، ثم يفرغ عنها ويسع خلقا جديدا غيرها، إلا أنه إذا انكشف الغطاء، واخذت جملة الزمان شخصا متصلا واحدا، كما هو عند المرتفعين عن قيود الزمان والمكان، كان يجب أن يتصور شكل وجه الأرض على هيئة سطح واحد متصل يتضمن جميع السطوح الأرضية الموجود كل منها في زمان معين من الأزمنة الكائنة من ابتداء وجود العالم إلى انتهائه، وتكون جميع هذه السطوح التي لا يمكن احصاؤها سطحا واحدا يسع الخلائق كلها يوم القيامة الموجودة في الآزال والآباد.
وإذا أخذ ذلك السطح على هذا الوجه، لم يكن من ذوات الأوضاع الحسية، إذ ليس حاصلا في جهة معينة من الجهات، ولا في زمان معين من الأزمنة، ولا محسوسا بإحدى هذه الحواس، بل إنما يدرك بالحواس الآخرة.
وهكذا مجموع الأمكنة إذا أخذت جملة واحدة، لم يكن موجودا حسيا له وحدة حسية، بل موجودا عقليا له وحدة عقلية، وهكذا مجموع عالم الأجسام - بما هو مجموع - ليس مما يناله الحس، بل يشعر به إما العقل بذاته، أو بآلة أخرى من مشاعر عالم الآخرة، إذ ليس لعالم الأجسام كله وضع خاص ولا إليه إشارة حسية، ولا له جهة، ولا فيه مكان، فإذا كان وجود سطح الأرض على هذا الوجه من مقدورات الله تعالى من غير شبهة ولا ريب، فإنه مما قاد إليه البرهان ويحكم به الوجدان، ولا تنازع فيه لأحد ممن له قدم راسخ في المعارف العقلية، وقد راض نفسه بالرياضات الحكمية، وحقق الأمر في نسبة المتغيرات والمتجددات إلى الثابتات والكلمات التامات، وعلم معنى الدهر والسرمد، ونحو وجود الحركة بهويته الإتصالية، والزمان بكميته الامتدادية التجددية، وما انطبقا عليه ووجدا معه وبه - بالذات أو بالعرض - فكيف تقصر قدرته - جلت كلمته - عن جمع الخلائق كلها دفعة واحدة في ساهرة واحدة، وكما قال:
فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة
[النازعات:13 - 14]. وكذا قوله:
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة
[الحاقة:13 - 14]. وقوله:
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون
[يس:53].
[99.3]
هذا القول منه، يحتمل أن يكون بلسان الحال طبق لسان المقال، بمعنى أن وجود الإنسان يكشف عما طرأ لها في الزلزال من الأحوال وشدايد الأهوال، وذلك عند النفخة الثانية، لما لفظت ما في بطنها، وأخرجت أمواتها أحياء، فيعلم أن الغرض الداعي لها في هذه الزلزلة، خروج الأموات من بطنها أحياء، كما يخرج الجنين من بطن الأم عند اضطرابها وانزجارها.
وقد روى محمد بن علي بن بابويه القمي - رحمه الله - في كتاب " من لا يحضره الفقيه " - بسنده المتصل إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا انقطع الرزق المقدر للولد من سرة أمه، زجره الملك زجرة فانقلب فزعا من الزجرة، وصار رأسه قبل المخرج، فإذا وقع إلى الأرض وقع إلى هول عظيم "
- في حديث طويل -.
فالمعنى - والله أعلم -، أن حضور الخلائق يوم القيامة، وحشر النفوس الإنسانية إلى الله بعد انقضاء تكونها التدريجي، وانقطاع حياتها الدنيوية المسبوقة بالتكوينيات المادية والاستحالات الأرضية والتطورات الاستكمالية، يكشف الغطاء عن لمية حركات الأرض وزلازلها ويفصح عنها، لأن هذا اليوم يوم كشف الغطاء، ويوم بروز الحقائق وظهور السرائر، فعلى هذا تكون " ما " موصولة، ويؤيد هذا:
قوله عز من قائل: { يومئذ تحدث أخبارها }.
[99.4]
هذا التحديث منها على سبيل الحقيقة، لأن حقيقة الكلام إبداء ما في الضمير، وإعلام المكنونات مع الإرادة، سواء كان بغير لسان مثل كلام الله وكلام الملائكة، أو بلسان.
فالأول: بأن ينكشف عنها يوم القيامة دقائق صنع الله فيها، وعجائب حكمته في خلقها، والغايات التي خلقت لأجلها، وسبقت إليها وبعثت لها.
وأما الثاني: فبعد صيرورتها جوهرا ناطقا، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، إذ ما من شيء إلا وهو ناطق - إما بالفعل أو بالقوة -، فيخرج من حد القوة إلى حد الفعل بالحركة الاستكمالية المعنوية التي مرت إليها الإشارة، كما قال جل ذكره:
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه:50].
فهذه الهداية الإلهية هي التي يخرج الله بها الخلائق إلى رحمته، ويسوق بها عباده إلى رضوانه، وذلك بعد إدخال كل من المكونات في باب الإنسانية، إذ هو باب الله الذي منه يؤتى، وصراطه المستقيم إليه، فيؤخذ كل شيء إليه بالنواصي والأقدام و
ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ إن ربي على صراط مستقيم
[هود:56]. والدابة كل ماش، وما من كائن في العالم إلا وهو ماش - كما مر - وله حياة وتسبيح خاص، ويذكر الله باسم خاص يمشي به إلى جانب الحق، وهكذا عند صاحب الكشف والشهود.
وكل ماش فهو على صراط الإنسانية، والحق آخذ بناصيته يتصرف فيه ويجره إليه بحسب أسماء يسلك بها إليه، والكل مهتد من هذا الوجه، والضلال من العوراض الطارية، كما أن الرحمة وسعت كل شيء، والغضب عارض، فالمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء.
وقد انساق الكلام هنا إلى مقام تدق عن دركه خواطر الأنام، بل تضيق عن تحقيقه حواصل أفهام الفضلاء الكرام - فضلا عن أصحاب اللقلقة والكلام.
وفي الكشاف: هو مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات، وأن هذا ما كان الأنبياء ينذرون به ويحذرون منه.
وقيل: ينطقها الله على الحقيقة ويخبر بما عمل علهيا من خير وشر.
وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
" تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها ".
وهذه الأحوال غير منافية لما ذكرنا، بل مؤكدة لما بينا.
وقوله سبحانه: " يومئذ " ، بدل من: " إذا " واقع في حيزه، فتكونان معمولي فعل واحد ينصبهما وهو " تحدث " ، ويجوز أن ينتصب الأول بعامل مضمر مثل " اذكر " أو ما يجري مجراه، والثاني بتحدث، ومفعوله الأول محذوف، والثاني: " أخبارها ".
وفي قراءة ابن مسعود: تنبئ أخبارها. وسعيد بن جبير: " تنبئ " - التخفيف -.
[99.5]
الباء للسببية، وهي متعلقة ب " تحدث " ، أي: تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك يا محمد لها، وأمره إياها بالتحديث بألسنة ناطقة بإذن الله، من مواضع النطق والإعلام، ومشاهدة الإظهار والإخبار، وذلك بحسب صور كمالاتها الأخروية، وغايات استكمالاتها المؤدية إلى النشأة الثانية، نشأة الأرواح والنفوس، وموطن المجازاة على الأعمال والحركات.
ومثل هذا التحديث من الأرض في ذلك اليوم، شهادة الأيدي والأرجل والجلود بما كانوا يعملون، فكما أن الأعمال البشرية والأفعال الصادرة من أفراد الإنسان مدة كونهم في هذه الدار، تتأدي بهم يوم الآخرة إلى صور هيآت تقتضيها الأخلاق والنيات الحاصلة من تكرر تلك الأعمال والأفعال، وبحسبها، يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء
[فصلت:21].
فكذلك حكم زلزلة الأرض. واندكاك الجبل، وانشقاق السماء، ينطق كل منها بلسان يخصه، بوحي يوحى إليه عن أحواله وأفعاله بنطق حسي أو عقلي، كما أوحاه الله إليه وأنطقه به.
وقوله: أوحى لها - بمعنى: أوحى إليها. وقيل: " الباء " للصلة، ويكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها، تحديث بأخبارها، كما تقول : " نصحتني بكل نصيحة بأن نصحتني في الدين ".
وقيل: يجوز أن يكون " بأن ربك " بدلا من " أخبارها " كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها. لأنك تقول: حدثته كذا، وحدثته بكذا.
[99.6]
صدور الناس: خروجهم من مكامن قبروهم وأجداث أجسادهم الأرضية إلى الله تعالى، كما في قوله:
فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون
[يس:51]. وقوله:
يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون
[المعارج:43]. وبروزهم من أغشيتهم المادية وأغطيتهم الهيولانية إلى عالم الآخرة كما في قوله:
وبرزوا لله جميعا
[إبراهيم:21]. أشتاتا متفرقين وأنواعا متكثرين.
فحشر الخلائق على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم وأفعالهم ونياتهم ومعتقداتهم، فلقوم على سبيل الوفد
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85]. ولقوم على نهج سياق الدواب:
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا
[مريم:86]. ولقوم:
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون
[غافر:71 - 72]. ولقوم:
ونحشر المجرمين يومئذ زرقا
[طه:102]. ولقوم:
ونحشره يوم القيامة أعمى
[طه:124]. وقوم مكبون على وجوههم:
أفمن يمشي مكبا على وجهه
[الملك:22].
وبالجملة يحشر كل أحد إلى غاية سعيه ونهاية عمله، وما كان يحبه في الدنيا ويعمل لأجله، حتى أنه لو أحب أحدكم حجرا لحشر معه.
فإن تكرر الأفاعيل يوجب حدوث الملكات، وكل ملكة وصفة نفسانية تغلب على باطن الإنسان تتصور في الآخرة بصورة تناسبها
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء:84] ولا شك أن أفاعيل الأشقياء المردودين المدبرين إنما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانية، وتصوراتهم مقصورة على أغراض بهيمية أو سبعية تغلب على نفوسهم، فلا جرم يحشرون على صور تلك الحيوانات المناسبة لأفعالهم وملكاتهم، كما في قوله تعالى:
وإذا الوحوش حشرت
[التكوير:5].
وفي الحديث:
" يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير ".
حكمة إلهية:
إن الإنسان من حيث بدنه الدنيوي، ونفسه المتعلقة بها، نوع واحد وله حد واحد، ولكن من جهة نشأته الثانية، والصورة الأخروية والفائضة على مواد النفوس بحسب هيآتها النفسانية، ستصير أنواعا كثيرة.
والسبب اللمي في ذلك أن النفس الإنسانية لها جهتان : جهة قوة وجهة فعل.
فهي من حيث فعليتها صورة فائضة على مادة البدن، وهي من هذه الحيثية أمر واحد هو مبدأ فصل الإنسان، يمتاز به عن سائر المركبات الحيوانية وغيرها.
وأما من جهة كونها بالقوة، فلها استعداد كل صفة من الصفات النفسانية، ولها قوة كل صورة من الصور الأخروية، فتخرج من القوة إلى الفعل في كل أمر يغلب عليها صفاته وهيآته.
وهاتان الجهتان لا تكثران ذاته، ولا توجبان تركبه من مادة وصورة، لأنهما بحسب نشأتين، فما هو صورة في هذه النشأة فهو بعينه مادة النشأة الثانية، فهي كأنها واسطة بين الطرفين، وبرزخ بين العالمين, وحاجز بين البحرين، وسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ولهذا المعنى سماها بعض المحققين طراز عالم الأمر، لأنها نهاية الجسمانيات وبداية الروحانيات.
فثبت بالحكمة الموضحة والبرهان النير، أن الإنسان - وإن كان بحسب النشأة الحسية نوعا متشابهة أفراده متماثلة أعداده -، إلا أنه عند خروج أعداد نفوسها من القوة الهيولانية إلى فعل الصور الباطنية، ستصير أنواعا متخالفة بحسب غلبة الصفات ورسوخ الملكات، كل نوع من جنس ما يغلب عليه من صفات البهائم أو السباع أو الشياطين أو الملائكة، إذ قد خمر في طينة الإنسان من جهة قوته العلمية المتشعبة إلى العاقلة المدركة للكليات بذاتها، والواهمة المدركة للجزئيات بآلاتها الخيالية الحسية والعملية الشوقية المتشعبة إلى قوة الشهوة لطلب الملائم، وقوة الغضب لدفع المنافر.
فهذه رؤساء القوى المركوزة في جبلة الآدمي، وبكل قوة منها يشارك جنسا من أجناس الملائكة والشياطين والبهائم والسباع، وليس في جواهر الممكنات شيء خارج عن هذه الأربع، فإذا صارت القوة فعلا، والاستعداد صورة، بورزت الإعتقادات والسرائر، وظهرت النيات والضمائر،
أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور
[العاديات:9 - 10]،
وبرزت الجحيم لمن يرى
[النازعات:36]
وأزلفت الجنة للمتقين
[الشعراء:91].
فكل إنسان يوم القيامة إما بهيمة من البهائم، إن كان الغالب عليه صفة الشهوة والحرص، وما يجري مجراهما من فروعات النفس الشهوية.
وإما سبعا من السباع، إن كان الغالب عليه صفة الغلبة وحب الرياسة وأمثالها من دواعي النفس الغضبية.
وإما شيطانا من الشياطين إن كان الغالب عليه صفة المكر والخديعة والغرور، وأشباههما من دواعي النفس الشيطانية.
وإما ملكا من الملائكة إن كان الغالب عليه إدراك المعقولات والتجرد عن الجسمانيات، والسلامة عن هذه الأمراض النفسانية.
فأفراد الإنسان وإن كانوا متماثلين في عالم الشهادة وبحسب الظاهر، إلا أنهم متخالفو الحقائق بحسب الباطن عند الشحر، فها هنا يصدق عليهم حد الإنسانية -، وهو الجوهر النامي الحساس المميز المتفكر - وما هو مبدأ فصله الأخير معنى واحد - وهو الجوهر النطقي والعقل المنفعل منه -، وهو بعينه يصير مادة صورته الأخروية، والمعنى الواحد وإن لم يجز أن يكون فصلا أو صورة لحقائق مختلفة، ولكنه يجوز أن يكون جنسا أو مادة لحقائق مختلفة، وذلك لاعتبار التعين والتحصل في الأول، والإبهان والنقص في الثاني، والنفس صورة تمامية لهذه الأجسام الحسية الدنيوية، ومادة منفعلة للصور الأخروية والنشآت الثانوية.
وهذا المعنى أمر ثابت محقق عند أئمة الكشف والشهود، والمعتضد بإشارات قرآنية، ورموز نبوية، دلت عليه آيات كثيرة وروايات غير يسيرة:
أما الآيات: فمثل قوله تعالى:
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون
[الروم:14].
وقوله:
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون
[النمل:83].
وقوله:
وامتازوا اليوم أيها المجرمون
[يس:59].
وقوله:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين
[القلم:35].
وقوله:
أم نجعل المتقين كالفجار
[ص:28].
وقوله:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
[الزمر:9].
وقوله:
سوآء محياهم ومماتهم
[الجاثية:21].
كله على سبيل الاستفهام الإنكاري - وهو أبلغ -.
ومما يدل على كون الإنسان متحد الماهية في النشأة الدنيا والفطرة الأولى، متخالف الحقائق في النشأة الأخرى والفطرة الثانية، من جهة سبق أعمال واعتقادات وملكات، قوله تعالى:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا
[يونس:19] وقوله:
ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشآء ويهدي من يشآء
[النحل:93]. وقوله:
يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا
[النبأ:18].
ومن هذا الباب الآيات الدالة على النسخ، فإن المراد منها نسخ البواطن، وقد أولها أهل التناسخ إلى انتقال النفوس إلى أبدان أخرى حيوانية في هذه النشأة، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وقد بينا فساد ما ذهبوا إليه في موضعه ببرهان خاص عرشي لا نطول الكلام بذكره، وهي مثل قوله:
وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء
[الأنعام:38].
وكقوله:
يوم يسحبون في النار على وجوههم
[القمر:48].
وقوله:
أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم
[الملك:22].
وقوله:
الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا
[الفرقان:34].
وقوله تعالى:
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا
[الإسراء:97].
وقوله:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون
[الأنفال:22].
وقوله:
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء:84].
وقوله:
إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل
[الفرقان:44].
وقوله في حق بلعم وأمثاله:
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث
[الأعراف:176] - الآية -.
وأما الحديث فكما مر، وكقوله:
" يحشر الناس يوم القيامة على صور نياتهم ".
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يحشر الناس على وجوه مختلفة ".
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صفة أقوام:
" إخوان العلانية أعداء السريرة، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الكباش من اللين، وقلوبهم كقلوب الذئاب ".
وقول أمر المؤمنين (ع): الناس أبناء ما يحسنون.
فهذه الأحاديث أيضا دالة على مسخ البواطن وانقلابها، وهذا كثير في هذه الأمة، فترى الصورة أناسي، وفي الباطن غير تلك الصورة من ملك أو شيطان أو كلب أو أسد أو ذئب أو قرد أو خنزير وغير ذلك، كما كثر المسخ في الصورة الظاهرة في بني إسرائيل، كما قال سبحانه:
وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت
[المائدة:60]. وقوله:
كونوا قردة خاسئين
[البقرة:65].
وقد بينا في الشواهد الربوبية منشأ الفرق بين مسخ الظواهر على هذا الوجه الجايز الذي كان في قوم موسى (ع)، وبين التناسخ على الوجه المستحيل الذي ذهبت إليه التناسخية، والعلة في جواز ذلك، وبطلان ما ذهبوا إليه، وهذا أيضا من العلوم الشريفة التي تختص بأهل القرآن، وهم أهل الله خاصة كما ورد في الحديث.
قوله عز من قائل:
{ ليروا أعمالهم }
قيل: أي جزاء أعمالهم - بحذف المضاف -، ولا حاجة إليه، لما تحقق عند أهل الحقيقة أن الصور الأخروية هي صور الأعمال القلبية والنيات الباطنية، وهذه الصور - سواء كانت مؤلمة كما للأشقياء، أو ملذة كما للسعداء - موجودة الآن في باطن كل إنسان، إلا أنها مستورة مختفية عن الأبصار غير مترقبة عليها الآثار لخفائها وضعفها، وإنما موطن ظهورها وإلذاذها وإيلامها هو الدار الآخرة.
فلا فرق بينها في الدنيا والآخرة إلا من جهة الخفاء والظهور، ولهذا قال: { ليروا أعمالهم }. وقال:
ووجدوا ما عملوا حاضرا
[الكهف:49].
وقراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " ليروا - بالفتح - وهذا أصرح في المعنى وأشد ملائمة لما بعده.
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي (ع) " يره " - بالضم،
وهو أنه قد مر أن أفراد الإنسان بحسب مزاولة الأعمال الحسنة والسيئة، يحشرون على وجوه مختلفة، وأنهم أبناء ما عملوا وثمرات ما فعلوا، فيصدق على المحشور من كل واحد أنه صورة عمله، كما قال سبحانه في حق ابن نوح النبي (ع):
إنه عمل غير صالح
[هود:46] وقال:
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا
[الإسراء:84].
وفي الخبر:
" خلق الله الكافر من ذنب المؤمن ".
تذكرة:
هذه اللام للغاية، أي يصدر الناس أشتاتا من مقابرهم وأجسادهم إلى عالم الآخرة، ويخرجون يوم القيامة أشتاتا متفرقين على صور مختلفة، وهيآت متباينة ليشاهدوا صور أعمالهم، وغاية سلوكهم وحركاتهم، ومنتهى قصودهم ونياتهم، وجزاء حسناتهم وسيئاتهم، فيثابون أو يعاقبون بحسبها.
[99.7-8]
الذرة: النملة الصغيرة، وقيل: الذرة: ما يرى شعاع الشمس من الهباء المنثور في الهواء.
أي: كل أحد إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، يرى ما عمله في الدنيا من خير أو شر محضرا، ويصادف دقيق ذلك أو جليله مسطرا في ميزان عمله، وكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما علموا حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا.
وذلك الكتاب، إما صحيفة ذاته، أو صحيفة أعلى منها، فكل إنسان يكون بعد كشف غطائه ورفع حجابه وحدة بصره مبصرا لنتائج أعماله، ومشاهدا لآثار أفعاله، قاريا لصفحة كتابه، مطلعا على حساب حسناته وسيئاته، قال الله سبحانه:
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء:13 - 14].
فمن جملة أحوال القيامة نشر الصحائف، وتطاير الكتب، لأن صحائف الأعمال وكتب القلوب وألواح النفوس وأقلام العقول كلها مكنونة ها هنا، مطوية مستورة عن الأبصار في الدنيا، وهي بارزة منشورة يوم القيامة، مكشوفة على الأبصار. كما أن منشورات هذا العالم تصير مطوية في الآخرة، لأن الأرواح منغمرة هنا في هذه الأجسام، وفي القيامة على عكس هذه الحال، فكلما يدركه الإنسان هنا بحواسه، ويعلمه بجوارحه وآلاته، يرتفع منه أثر إلى الروح، ويجتمع في صحيفة قلبه، ويختزن في خزانة معلوماته. كما قال سبحانه:
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
[الجاثية:29].
وهو كتاب منطو اليوم عن مشاهدة الأبصار والحواس، فإذا ارتفع الحجاب، وانكشف الغطاء، وزال غبار الطبيعة عن لوح النفس، وانجلى، يشاهد كل أحد في ذاته ما يغيب عن بصره في الحياة الدنيا مسطورا مكشوفا، فيطالع صحيفة ذاته، ويقرأ كتاب نفسه، وإذا حان وقت أن يقع بصره إلى وجه ذاته عند فراغه عن أشغال الحياة الدنيا، وما توردها الحواس والتفاته إلى صفحة باطنه ووجه قلبه، وهو المعبر عنه بقوله:
وإذا الصحف نشرت
[التكوير:10].
ومن كان في غفلة عن أحوال نفسه وروحه، يقول عند حضور ذاته لذاته، وكشف غطائه, وحدة بصره عند البعث، ومطالعة صفحة كتابه:
مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا
[الكهف:49].
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا
[آل عمران:30].
ومما يجب أن يعلم، أن الإنسان إن كان الغالب عليه التصورات العقلية والتأملات القدسية، وفعل الخيرات والطاعات، فيكون كتابه في عليين، وعليون ، هم الملائكة المقربون المرتفعون عن حضيض الأجرام:
كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * ومآ أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون
[المطففين:18 - 21].
وإن كان الغالب عليه فعل الخيرات والحسنات، وسلامة الصدر عن الأمراض النفسانية - مبادي السيئات - فهو من أصحاب اليمين، ويأتي كتابه من جانب اليمين
فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا
[الإنشقاق:7 - 9].
وإن كان من الفجار المنافقين، الذين قرؤوا كتابا لمكنة استعدادهم ودرسوه ثم لم يعملوا به لمرض قلوبهم، وأهملوه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا - فبئس ما يشترون -، فيأتي كتابه من وراء ظهره
وأما من أوتي كتابه ورآء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا
[الإنشقاق:10 - 12].
وإن كان من الجهال والمردودين إلى أسفل السافلين، المجرمين المنكوسين فهو من أصحاب الشمال، ويأتي كتابه من الجهة السافلة، وعالم النكال والوبال
وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه
[الحاقة:25 - 26].
فالطائفة الأولى: من أهل البرهان واليقين، وهم السابقون السابقون، أولئك المقربون، درجتهم في أعلى عليين، وكتابهم في صحف مكرمة مرفوعة عن النسخ والتغيير، لا يمسه المطهرون عن أدناس الطبيعة
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ
[البروج:21 - 22]. عن مس الشياطين المضلين.
وأما الثانية: فهم أهل السلامة
فسلام لك من أصحاب اليمين
[الواقعة:91] وحسن الظن بربهم
فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية
[الحاقة:19 - 22].
وأما الثالثة: فهم أهل الشك والجحود والعداوة لأهل الله، والنفاق، وهم الذين يكذبون بيوم الدين
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين:14 - 15]. ولا كتاب للمنافق يوم القيامة، إذ كتابه هو الذي نبذه وراء ظهره واشترى به ثمنا قليلا، وإنما قرينه الشيطان بتسويلاته وتخييلاته المضلة، وأغاليطه الكاذبة
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف:36].
فإذا كان يوم القيامة قيل له. خذ كتابك من وراء ظهرك، من الموضع الذي نبذته فيه في حياتك الدنيا
قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
[الحديد:13]. فإنه حين نبذه وراء ظهره
إنه ظن أن لن يحور
[الإنشقاق:14] أي جزم، كما قال الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
أي: أجزموا -.
وأما الرابعة: فهم أهل الجهل والظلمات، المحترقين بنار الشهوات، المختوم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم كما للمنافقين عذاب أليم، مرجعهم أسفل سافلين وكتابهم في سجين
إن كتاب الفجار لفي سجين * ومآ أدراك ما سجين * كتاب مرقوم
[المطففين:7 - 9]. بالكلمات الباطلة والنقوش المعطلة، صالح لللاحتراق بنار الجحيم، فإن أصل كل سعادة هو العلم واليقين، ومادة كل شقاوة هي الجهل بالله وبيوم الدين، والنفوس الساذجة بمنزلة قرطاس خالية عن ذكر الحسنات والسيئات، فإذا انتقشت بالعلوم والحكمة والأدب، صلحت لأن تكون خزانة أسرار الملك، وإذا انتقشت هي بعينها بالكلمات الواهية المعطلة المزخرفة، لم تصلح إلا للإحتراق بالنار والانمحاق.
حكمة قرآنية:
إعلم أن القول والفعل ما دامت حقيقتهما في أكوان الأصوات والحركات، فلا حظ لها من البقاء والثبات، فإذا تكونت بالوجود الكتبي، حصلت لها مرتبة من البقاء والثبات، وكذا كل من فعل فعلا وتكلم بكلام حصل منه أثر في نفسه وحال تبقى زمانا، وإذا تكررت الآثار في النفس فصارت الأحوال ملكات تصدر بسببها الأفعال بسهولة من غير روية وقصد وحاجة إلى تجشم اكتساب ومزيد اعتمال، فالحال والملكة في عالم النفس، بإزاء التكلم والكتابة في عالم البدن، ومن هذا النمط تستنبط الصنايع وتتعلم المكاسب العلمية والعملية.
ولو لم يكن للآثار الحاصلة في النفس من الأعمال والأقوال دوام وثبات وقوة واشتداد يوما فيوما، إلى حد تصير ملكة راسخة، لم يكن لأحد تعلم شيء من الصنايع والحرف، ولم ينجع فيه التأديب والتهذيب، ولم يكن في تأديب الأطفال وتمرينهم فائدة، ولا لهم تفاوت من أول الحداثة إلى آخر حد الكمال، وتكون التكاليف الشرعية عبثا لا فائدة فيها في العاقبة.
فعلم أن الآثار الحاصلة من الأحوال والأقوال في القلوب والأرواح، بمنزلة النقوش الكتابية في الألواح
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة:22].
وتلك الألواح النفسية يقال بها: " صحائف الأعمال " وتلك الصور والنقوش الكتابية تحتاج في حصولها إلى مصور وكاتب، لأنها ممكنة معلولة، والمعلول لاينفك عن علته القريبة، فالمصورون والكتاب - كتابة غائبة عن هذه الأبصار - هم الكرام الكاتبون المرتفعون عن الوقوع في نقائص هذا العالم، الغائبون عن إدراك حواس الناس إلا أهل الله، وهم ضرب من الملائكة المتعلقة بأعمال العباد وأقوالهم
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
[ق:18].
وإنهم طائفتان: إحداهما: ملائكة اليمين، وهم الذين يكتبون أعمال أصحاب اليمين، والأخرى: ملائكة الشمال، وهم الذين يكتبون أعمال أصحاب الشمال
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد
[ق:17].
وفي الحديث: " من قال:
" " سبحان الله العظيم " غرست له نخلة في الجنة ".
وفي الخبر:
" إن من عمل حسنة كذا، يخلق الله منه ملكا يثاب به، ومن عمل سيئة كذا، يخلق الله منها شيطانا يعذب به ".
قال الله تعالى:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة
[فصلت:30] إلى قوله:
نحن أوليآؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة
[فصلت:31].
وفي الطرف الآخر قوله:
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم
[الشعراء:221 - 222].
وكذلك قوله:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف:36].
واعلم أن هذا المبدأ الداعي للنفوس إلى الخير أو الشر، هو المسمى عند الحكماء باسم الملكة، وعلى لسان الشريعة باسم الملك والشيطان، أحدهما الملهم للخير، والآخر الملهم للشر. ولو لم يكن لتلك الملكات من البقاء والثبات ما يبقى أبد الآباد، لم يكن لخلود أهل الطاعات في النعيم وأهل المعاصي في الجحيم وجه- كما أشرنا إليه -، فإن منشأ الثواب أو العقاب على وجه الاستيجاب، لو كان نفس العمل والقول - وهما زائلان -، فكيف يتصور بقاء المعلول مع زوال السبب الموجب؟ وكيف يكون الفعل الجسماني الواقع في زمان معين قليل المقدار، باعثا للجزاء السرمدي؟ ومثل هذه المجازاة لا تليق بالحكيم وقد قال:
ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق:29]. وقال:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
[البقرة:225].
ولكن إنما يخلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالثبات والدوام الحصلين للأخلاق والملكات.
وفي كلام بعض أوائل الحكماء، أنه ستعارض لك في أقوالك وأفعالك وأفكارك، وسيظهر لك من من كل حركة قولية أو فعلية إلى آخره، ومنشأ ذلك، أن مواد الصور الأخروية هي التصورات الباطنة والتأويلات الفكرية والأفكار.
وفي الحديث:
" إن الجنة قاع صفصف، وإن غراسها " سبحان الله " ".
فالإنسان إذا انطقع وانكشف عنه الغطاء، وتجرد عن غشاوة الطبيعة، كان الغيب له شهادة، والعلم عينا، والخبر معاينة.
نامعلوم صفحہ