423

ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إن الله } المتجلي على أهل الإيمان بالتجليات الحبية الجمالية { يدخل الذين آمنوا } بتوحيد الله مخلصين { وعملوا الصالحات } المقبولة عنده المقربة إليه { جنات } وحدائق ذات بهجة ترويحا لهم وتفريحا، وانشراحا لصدورهم، وتفريحا لغمومهم حيث { تجري من تحتها الأنهار } المذهبة للهموم الفارجة للكروب { يحلون فيها } تذهيبا وتزيننا لظواهرهم من عكوس بواطنهم { من أساور } متخذة { من ذهب ولؤلؤا } بها يرصع أساورهم { ولباسهم } دائما { فيها حرير } [الحج: 23] تليينا لبشرتهم وتكميلا لترفههم وتنعمهم.

{ و } لا يقتصر عليهم فيها على تزيين الظاهر وتفريح الباطن، بل { هدوا إلى الطيب من القول } ليتصفوا بالصدق والتصديق، ويداوموا على شكر الله بقولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وبقولهم: الحمد لله الذي هدانا لهذا، { و } بعدما تصفوا بالصدق والعدالة في الأقوال والأفعال { هدوا إلى صراط الحميد } [الحج: 24] الذي هو التوحيد المسقط للإضافات مطلقا، سمي به لاستحقاقه الحمد لذاته.

ثم قال سبحانه: { إن الذين كفروا } بتوحيد الله وأعرضوا عن شعائر دينه { و } مع ذلك هم { يصدون } ويصرفون الناس أيضا { عن سبيل الله } ومعالم الهدى واليقين لا في وقت دون وقت بل دائما مستمرا { و } خصوصا عن { المسجد الحرام } الذي منه الصد والمنع مطلقا؛ لأنه { الذي جعلناه } قبله { للناس } كافة، وفرضنا عليهم الطواف حولها من استطاع منهم إليها سبيلا، ولهذا ما صارت مكة ومن حولها ملكا لأحد، بل صار الكل فيها { سوآء العاكف } المقيم { فيه والباد } المسافر الوارد عليه { ومن يرد } ويقصد سواءا بالنسبة إليه من صدود وغيره مع أنه مقيم { فيه } وصدر ذلك عنه { بإلحاد } وميل مقرون { بظلم } أي: عن قصد وعمد لا عن خطأ وسهو ونسيان { نذقه } بمجرد قصده الذي لم ينته إلى الفعل والصدور { من عذاب أليم } [الحج: 25] مؤلم فجيع.

[22.26-30]

{ و } كيف لا نذيقه من عذابنا الأليم، إذ بناء بيتنا هذا على الطهارة الكاملة من جميع الآثام، اذكر يا أكمل الرسل { إذ بوأنا } أي: بينا وعينا { لإبراهيم } حين شرفناه بأمرنا المتعلق بيناء بيتنا هذا { مكان البيت } أي: الكعبة بعدما اندرست وسقطت بالطوفان، وصارت سوى لا علامة لها أصلا، فأعلمنا له بريح أرسلناها مع إبراهيم فكنست الريح حولها فبناه على بنائه الذي بناه آدم عليه السلام، وأوصينا { أن لا تشرك بي شيئا } من مظاهري وأظلالي في الوجود معي { و } بعدما نزهت ذاتي عن الشريك والنظير { طهر بيتي } هذا الممثل من بيتي الذي في صدرك عن جميع المعاصي والآثام والمؤذيات والقاذورات، وأنواع الخبائث والمكروهات، إذ جعلناه قبلة ومقصدا { للطآئفين } القاصدين بطوافهم حول البيت التحقق عند كعبة الذات والوقوف على عرفات الأسماء والصفات { والقآئمين } المواظبين بالتوجه الدائمي، والميل الشوقي الحقيقي الحبي بجميع الأركان والجوارح نحو الذات الأحدية، المنقطعين عن جميع العلائق والإضافات { والركع } الراكعين الذين قصمت ظهور هوياتهم عن حمل أعباء العبودية { السجود } الحج: 26] أي: الساجدين المتذللين الخاضعين الواضعين جباه أنانيتهم على تراب المذلة والانكسار لدى الملك الجبار القهار لسمت السوى والأغيار.

{ و } بعدما أوصيناه بما أوصيناه قلنا آمرا إياه: { أذن } وأعلم إعلاما عاما { في } حق عموم { الناس } وبشرهم { بالحج } أي: أعلم الداني والقاصي منهم بوجوب الحج عليهم، لزمهم أن { يأتوك } ويزوروا بيتك ويطوفوا حولها آتين { رجالا } مشاة إن كانوا من الأداني { و } ركبانا { على كل ضامر } بعير مهزول أهزله وأتعبه بعد المسافة؛ إذ { يأتين من كل فج } طريق { عميق } [الحج: 27] غائر بعيد إن كانوا من الأقاضي، وإنما أمرناهم بالحج وفرضناه عليهم { ليشهدوا منافع لهم } أي: أمكنة ينفعهم الحضور فيها والوقوف بها منافع النشأة الأخرى، ونسهل عليهم سلوك طريق التوحيد بالفناء والإفناء، والانقطاع عن حطام الدنيا، والتعري عن لباس البأس والعناء، التخلص عن مقتضيات القوى، والتجلي بلباس التقوى، والتشمر نحو جناب المولى، والتجرد عن موانع الوصول إلى دار البقاء من الأموال والأبناء { ويذكروا } فيها { اسم الله } المشتمل لجميع الأوصاف والأسماء، المحيط بجميع الأشياء إحاطة الشمس على جميع الأظلال والأضواء بلا تركيب وانقسام إلى أبعاض وأجزاء سيما { في أيام معلومات } عينها الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء للتوجه والدعاء، وهي عشر ذي الحجة، وقيل: أيام النحر { على } ذبح { ما رزقهم } الله وأباحهم { من بهيمة الأنعام } مما ملكت أيمانهم، متقربين بها إلى الله هدية أو أضحية { فكلوا } مما ذبحتم { منها وأطعموا البآئس الفقير } [الحج: 28] الذين شملهم بؤس الفقر وإحاطته شدة الفاقة.

{ ثم } بعد ذبح الهدايا والضحايا { ليقضوا } وليزلوا { تفثهم } أي: أوساخهم العارضة لهم من رين الإمكان، وطغيان الهويات، ومقتضى الأنانيات { و } بعد تطهير أوساخ الإمكان { ليوفوا نذورهم } التي نذروها في قطع بوادي تعيناتهم، ومهاوي هوياتهم من ذبح بقرة أمارتهم المضلة عن سواء السبيل { و } بعدما طهروا من الأوساخ ووافوا بالنذور { ليطوفوا } منخلعين عن خلع ناسوتهم، متجردين عن ثياب بشريتهم { بالبيت العتيق } [الحج: 29] والركن الوثيق الأزلي الأبدي، الذي لا يحلقه انصرام، ولا يعرضه انقراض وانخرام، فالأمر ذلك لمن أراد سلوك طريق الفناء، والحج الحقيقي، والطواف المعنوي.

{ ذلك ومن يعظم حرمات الله } أي: ومن يحافظ على حرمة ما حرمه الله في أوقات الحج ولم يهتك حرمتها ليجبرها بدم { فهو } أي: الحفظ بلا هتك حرمة { خير له } مقبول { عند ربه } من هتكها وجبرها بدم { و } اعلموا أيها المؤمنون { أحلت لكم } في دينكم { الأنعام } كلها بأنواعها وأصنافها، وشرب ألبانها، والانتفاع بأشعارها وأوبارها والتقرب بها إلى الله في أوقات الحج { إلا ما يتلى عليكم } في كتابكم تحريمه بقوله تعالى:

حرمت عليكم الميتة

[المائدة: 3] ومتى عرفتم ما أحل الله لكم { فاجتنبوا } أيها الموحدون { الرجس } والقذر الذي هو { من الأوثان } أي: من قبلها، إذ هي شرك مناف للتوحيد والشرك من أخبت الخبائث { واجتنبوا } أيضا { قول الزور } [الحج: 30] والبهتان، إذ هو ظلم والظلم مقرون باكفر، والشرك معدود من عداده مسقط للمروءة والعدالة اللازمة لأهل الإيمان والتوحيد.

نامعلوم صفحہ