{ و } الله { إذا رأى الذين أشركوا شركآءهم } حين يأسوا وقنطوا من شفاعتهم ومعاونتهم، وعاينوهم أنهم هكلى أمثالهم { قالوا } متضرعين إلى الله نادمين: { ربنا } يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم، فكفرنا نعمك و بك، وبأوامرك ونواهيك الجارية على ألسنة رسلك { هؤلآء } الهلكى الغاوون { شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك } عنادا ومكابرة، وبواسطة هؤلاء الضلال رددنا قول أنبيائك ورسلك وكتبك، ثم لما سمع شركاؤهم منهم قولهم هذا { فألقوا } وأجابوا { إليهم القول }: ما تدعون وما تعبدون إيها الضالون الظالمون إلا أهويتكم وأمانيكم { إنكم لكاذبون } [النحل: 86] مقصورون على الكذب والزور في دعوى إطاعتنا وعبادتنا.
{ و } حين اضطر أولئك المشركون الضالون { ألقوا إلى الله يومئذ السلم } أي: الاستسلام والانقياد بعدما تعنتوا واستكبروا في النشأة الأولى، وما ينفعهم حينئذ انقيادهم وتسليمهم { وضل عنهم } اي: خفي عليهم، وضاع عنهم { ما كانوا يفترون } [النحل: 87] على شركائهم من الشفاعة لدى الحاجة، حتى تبرأوا منهم و كذبوهم.
ثم قال سبحانه: { الذين كفروا } وأعرضوا عن الحق بأنفسهم { و } مع ذلك { صدوا } ومنعا ضعفاء الأنام { عن سبيل الله } الموصل إلى توحيده، وهو اشرع الشريف المصطفوي { زدناهم } في النشأة الأخرى بسبب ضلالهم وإضلالهم { عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } [النحل: 88] الغير عن متابعتك يا أكمل الرسل، ويفسدون في أنفسهم.
{ و } اذكر لهم { يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } وهو نبيهم ورسولهم { وجئنا بك } أي أكمل الرسل { شهيدا على هؤلآء } الغواة البغاة، المنهمكين في بحر الإعراض الإضلال { و } الحال: أنا قد { نزلنا عليك الكتاب } المشتمل لفوائد جميع الأديان والكتب، وجعلناه { تبيانا } موضحا مفصلا { لكل شيء } يحتاج إليه من أمور الدين من الشعائر والأحكام والأركان، والآداب والأخلاق، واملندوبات والمحظورات، والمواعظ والتذكيرات، والقصص التي عتبر منها المعتبرون المسترشدون بالنسبة إلى عوام المؤمنين { وهدى } إلى معارف وحقائق، يهديهم إلى طريق التوحيد المنجي عن غياهب التقليدات والتخمينات بالنسبة إلى خواصهم.
{ ورحمة } أي: كشفا وشهودا مترتبة على الجذبة الخطفة، والخطوة بالنسبة إلى خواص الخواص { و } بالجملة: ما هو إلا { بشرى للمسلمين } [النحل: 89] المنقادين لله بسرائرهم وظواهرهم، مفوضين أمورهم كلها إليه بلا تلعثهم وتذبذب.
وكيف لا يسلمون ويفوضون { إن الله } المدبر لمصالح عباده { يأمر } أولا عباده { بالعدل } أي: القسط والاعتدال في جميع الأفعال والأقوال، والشئون والأطوار { والإحسان } ثانيا؛ لأنهم ما لم يعتدلوا ولم يستقيموا لم يتأت لهم التخلق بأخلاق الله التي هي كمال الإحسان والعرفان { وإيتآء ذي القربى } ثالثا؛ أي: إيصال ما حصل لهم من الم عارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات إلى مستحقهم من ذوي القربى من جهة الدين، المتوجهين نحو الحق عن ظهر القلب، الراغبين إليه عن محض المحبة والوداد، المتعطشين إلى زلال توحيده؛ لأنهم ما لم يتمكنوا ويتقرروا في مرتبة الإحسان، لم يتأت منهم الاستكمال والاسترشاد.
وكما يرغب سبحانه عباده بموجبات الإيمان والتوحيد، ومعظمات أصوله وأركانه، ينفرهم أيضا عن غوائله ومهلكاتهم ومغوياتهم، فقال: { وينهى } أولا { عن الفحشاء } أي: إفراط القوة الشهوية الموجبة لرذالة النفس، وسقوطها عن المروءة والعدالة المقتضية للتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية، وخروجها عن الحدود الشرعية الموضوعة لحفظه حكمة الزواج والتناسل بمتابعة القوى البهيمية الناشئة عن طغيان الطبيعة الهيولانية الناسوتية، المناقية لصفاء القوى الروحانية اللاهوتية.
{ و } عن { المنكر } ثانيا؛ إذ كل من ركب على جموح القوة الغضبية، وأخذ سيق الهذيانات المثيرة لأنواع الفتن والبليات، وعمل بمقتضاها، ونبذ الحلم والرحمة وراء ظهره، فهو بمراحل عن مرتبة الإحسان، بل لا يرجى منه إلا الخذلان والخسران { و } عن { البغي } ثالثا؛ لأن من تمكن وتمادى على مقتضى كلتا القوتين الشهوية والغضبية فقط، سقط عن المروءة والعدالة اللتين هما من أقوى أسباب الكمال المستلزم للإرشاد والتكميل، ومتى سقطتا عنه فقد استكبر على خلق الله، وتجبر ويقى وظلم، ألا لعنة الله على الظلمين ، إنما { يعظكم } الله المصلح لأحوالكم بما يعظكم { لعلكم تذكرون } [النحل: 90] رجاء أن تتعظوا وتتمثلوا بما أمروا، وتجنبوا عما نهوا؛ كي تصلوا إلى صفاء توحيده المسقط للمنافرات رأسا.
{ و } من علامة اتعاظكم وتذكركم الوفاء بالعهود والمواثيق { أوفوا } أيها الطالبون لمرتبة العدالة { بعهد الله } وميثاقه الذي عهدتم مع الله بألسنة استعداداتكم في بدء فطرتكم، وكذا بجميع العهود والمواثيق { إذا عاهدتم } مع إخوانكم، وبني نوعكم { و } أيضا { لا تنقضوا الأيمان } سيما { بعد توكيدها } وتغليظها { و } كيف تنقضونها؛ إذ { قد جعلتم الله } الرقيب { عليكم كفيلا } وكيلا لتلك البيعة { إن الله } المطلع لضمائرهم ومخائلهم { يعلم } بعلمه الحضوري { ما تفعلون } [النحل: 91] من نقض الأيمان وأمراتها.
[16.92-97]
نامعلوم صفحہ