{ لو يجدون ملجئا } منيعا من الحصون والقلاع { أو مغارات } في شعاب الجبال { أو مدخلا } جحرا يمكنه الإنجحار والاستتار فيه { لولوا } وانصرفوا ألبتة { إليه وهم يجمحون } [التوبة: 57] يسرعون، كالفرس الجموح { ومنهم من يلمزك } يعينك وينصرك { في الصدقات } أي: قسمة الغنائم، ويتردد حولك حين القسمة طامعا { فإن أعطوا منها } بينهما أو شيئا يعتد به { رضوا } منك، وأثنوا عليك شكرا لإعطائك { وإن لم يعطوا منها } لعدم استحقاقهم؛ وبسبب تخلفهم ونفاقهم { إذا هم يسخطون } [التوبة: 58] يفاجئون بالغيظ والسخط إظهارا لما في قلوبهم من الأكنة.
{ ولو أنهم } كانوا مؤمنين كما ادعوا { رضوا } في تقاسيم الغنائم وغيرها على { مآ آتاهم الله } وأعطاهم من فضله؛ إذ هو الحكيم في قسمة أرزاق عباده على تفاوت درجاتهم { ورسوله } المستخلف له، الملهم من عنده { وقالوا } من كمال إخلاصهم وتفويضهم كسائر المؤمنين: { حسبنا الله } المدبر الكافي لأمورنا يكفينا علمه بنا { سيؤتينا الله } المكفل لأرزاقنا { من فضله } وسعة لطفه وجوده ما يكيفنا { و } سيعطينا { ورسوله } النائب عنه بإذنه من الغنائم والصدقات ما يشبعنا ويغنينا { إنآ } بعدما آمنا بالله، وتحققنا بتوحيده بإرشاد رسله { إلى الله } الباقي بالبقاء الأزلي السرمدي لا إلى غيره من الأظلال والأموال والمزخرفات الفانية { راغبون } [التوبة: 59] ليرزقنا من فوائد رزقه المعنوي، وفوائد توحيده الذاتي؛ أي: هم لو رضوا كما رضي المؤمنون الموقنون، واعترفوا كما اعترفوا لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وتقريرا في قلوبهم.
[9.60-61]
ثم بين سبحانه مصارف الصدقات فقال: { إنما الصدقات } أي: الزكوات يصرف { للفقرآء } وهم الذين لا مال لهم ولا مكسب لهم من الحرث وغيره، كأنه يكسر فقار ظهرهم الفاقة والاحتياج { والمساكين } الذين لهم مكسب وصنعة، لكن لا تفي لعيالهم كأن الاحتياج أسكنهم في زاوية المسكنة والهوان { والعاملين عليها } أي: الساعين لجمعها وإيصالها إلى مصارفها { والمؤلفة قلوبهم } وهم الذين قرب عهد إسلامهم، يجب على المسلمين مؤانستهم ومواساتهم؛ ليقروا على الإيمان { و } يصرف منها أيضا { في الرقاب } أي: فكها من الرق وتحريرها، وهو من أهم مهمات الإسلام { والغارمين } الذين استغرق أموالهم في ديونهم ولم تف لأدائها، يصرف إليهم منها؛ ليؤديها.
{ و } يصرف منها سهم { في سبيل الله } لتجهيز جيوش أهل الجهاد وتهيئة أسبابهم وعددهم؛ إذ هو من أهم مهمات هذا الدين { وابن السبيل } الذي انقطع عن الأهل والمال لمصلحة شرعية، إنماجرى هذه القسمة لهؤلاء المستحقين { فريضة } صادرة { من الله } مقدرة من عنده؛ ليحافظ المؤمنون عليها { والله } المدبر لأمور عباده { عليم } بمصارف الصدقات { حكيم } [التوبة: 60] في صرفها إياهم تقوية لهم وإمدادا.
{ ومنهم الذين يؤذون النبي } ويسيئون الأدب معه { ويقولون } في حقه افتراء واستهانة: { هو أذن } أي: سمع كله ليس له دربة ودراية وتعمق في المعارف الحقائق، بل يسمع منا ويجري على ما سمع بلا تفتيش وتدبر { قل } لهم يا أكمل الرسل: إنما أذن لكم لا أذن شر وفتنة، بل { أذن خير لكم } إن صدر عنكم ما يتعلق بأمور دينكم، موافقا لما أمر الله به يقبله منكم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم { يؤمن بالله } أي: يقر ويصدق بوحدانيته { ويؤمن } أيضا { للمؤمنين } المخلصين فيما أتوا به من الأعمال والأقوال الصادرة عن الإخلاص { و } كيف لا يكون الرسول أذن خير؛ إذ هو كله { رحمة } أي: شفقة وعطف { للذين آمنوا منكم } وأخلصوا في إيمانهم؟! { و } بالجملة: { الذين يؤذون رسول الله } بأي وجه كان { لهم عذاب أليم } [التوبة: 61] في النشاة الأخرى؛ جزاء لما أتوا به من إيذاء رسوله.
[9.62-66]
ومن جملة نفاق المنافقين وشقاقهم: إنهم { يحلفون بالله لكم } لتسليتكم وتلبيسكم أيها المؤمنون على ما صدر عنهم من التخلف والتقول على سبيل العذر { ليرضوكم } أي: لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم { والله } المطلع لضمائرهم { ورسوله } الملهم من عنده بمخايلهم وأباطيلهم { أحق } وأليق { أن يرضوه } أي: رسوله أحق بالإرضاء والمراضاة، وحد الضمير؛ لأن إرضاء الرسول مستلزم لإرضاء الله، بل هو عين إرضائه سبحانه عند من ارتفع سبيل التعدد عن عينه، وغشاوة الكشرة عن بصره { إن كانوا مؤمنين } [التوبة: 62] بالله وبحقية رسوله.
{ ألم يعلموا } ويفهموا أولئك المتخلفون، المؤذون لله ورسوله { أنه } أي: الشأن { من يحادد } ويشاقق { الله ورسوله } ويتعد حدود الله ويخالف أمر رسوله { فأن له نار جهنم } جزاء لما اقترف من المعاداة، فيكون { خالدا فيها } لا ينجو منها أصلا { ذلك } أي: الخلود في جهنم الحرمان { الخزي العظيم } [التوبة: 63] والهلاك الدائم.
ومن شدة نفاقهم وشقاقهم { يحذر المنافقون } المصرون على الكفر الكامن في قلوبهم، المظهرون للإيمان استهزاء ومداهنة { أن تنزل عليهم } أي: على المؤمنين { سورة } طائفة من الكلام { تنبئهم } وتخبرهم { بما في قلوبهم } من الكفر والنفاق فحينئذ فعلوا ما فعلوا بالمشركين المجاهدين { قل } لهم تهديدا وتقريرا: { استهزءوا } بالمؤمنين، وامضوا على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق { إن الله } المنتقم منكم { مخرج } مظهر { ما } كنتم { تحذرون } [التوبة: 64] منه، وهو إنزال السورة؛ لإفشاء حالكم.
نامعلوم صفحہ