{ يومئذ } أي: يوم إذ جئنا بك شهيدا على المؤمنين { يود } يحب ويتمنى { الذين كفروا } بالله { وعصوا الرسول } الأمي المبعوث إلى كافة الأنام بدين الإسلام أن { لو تسوى } تغطى { بهم الأرض } في تلك الساعة، وصاروا نسيا منسيا لكان خيرا لهم من المذلة التي عرضت لهم في تلك الحالة { ولا يكتمون الله حديثا } [النساء: 42] أي: لا يمكن كتمان حديث نفوسهم بهذا من الله في تلك الحالة، فكيف كتمان أعمالهم الصادرة عنهم؟!
ثم لما حضر بعض لمؤمنين المسجد لأداء الصلاة سكارى حين إباحة الخمر، وغفلوا عن أداء بعض أركاناها وتعديلها، وغلطوا في القراءة وحفظ الترتيب، نبه سبحانه عليهم ونهاهم ألا تبادروا إلى المساجد قبل أن تفيقوا، فقال مناديا ليقبلوا: { يا أيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم حفظ الأدب، سيما عند التوجه نحو الحق فعليكم أن { لا تقربوا } ولا تتوجهوا { الصلوة } أي: لأداء الصلاة، هي عبارةعن التوجه نحو الذات الإلهية بجميع الأعضاء والجوارج، المقارن بالخضوع والخشوع، المنبئ عن الاعتراف بالعبودية والإذلال، المشعر عن المعجز والتقصير، فلا بد لأدائها من فراغ الهم وخلاء الخاطر عن أدناس الطبيعة مطلقا { و } خصوصا { أنتم } في أدائها { سكرى } لا تعلمون ما تفعلون وما تقرأون بل اصبروا { حتى } تفيقوا { تعلموا ما تقولون } وما تفعلون في أدائها من محافظة الأركان والأبعاض والأركان والهيئات وغير ذلك.
{ و } عليكم أيضا أن { لا } تقربوا الصلاة { جنبا } حالة كونكم مجنبين بأي طريق كان؛ إذ استفراغ المني إنما هو من استيلاء القوة الشهوية التي هي أقوى القوى الحيوانية وأبعدها عن مرتبة الإيمان والتوحيد، وحين استيلائها تسري خباثتها إلى جميع الأعضاء الحاملة للقوى الدراكة وتعطلها عن مقتضياتها بالمرة، فحينئذ تتحير الأمزجة وتضطرب لانحرافها عن اعتدال الفطرة الأصلية بعروض الخباثة السارية، فتكون الخباثة أيضا كالسكر من مخللات العقل، فعليكم ألا تقربوها معه { إلا } إذا كنتم { عابري سبيل } أي: على متن سفر ليس لكم قدرة استعمال الماء؛ لفقده أو لوجود المانع، فعليكم أن تتيمووا وتصلوا جنبا { حتى تغتسلوا } وتتمكنوا من استعماله.
{ و } كذا { إن كنتم } مقيمين { مرضى } تخافون من شدة المرض في استعماله { أو } راكبين { على } متن { سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط } أي: من الخلاء محدثين { أو لمستم النسآء } أي: جامعتم معهن أو لعبتم بهن بالملامسة والمساس { فلم تجدوا } في هذه الصورة { مآء } لإزالة ما عرض عليكم من الجنابة { فتيمموا صعيدا طيبا } أي: فعليكم أن تقصدوا عند عروض هذه الحالات بالتراب الطيب من صعيد الأرض بأن تضربوا أيديكم عليها، وبعدها ضربتم { فامسحوا } باليدين المغبرتين { بوجوهكم } مقدار ما يغسل { وأيديكم } أيضا كذلك؛ جبرا لما فوتم من الغسل بالماء؛ إذ التراب من المطهرات خصوصا من الصعيد المرتفع { إن الله } المصلح لأحوالكم { كان عفوا } لكم مجاوزا عن أمثاله { غفورا } [النساء: 43] يستر عنكم ولا يؤاخذكم عليها إن كنتم مضطرين فيها، بل يجازيكم خيرا تفضلا وامتنانا.
[4.44-46]
ثم قال سبحانه مستفهما مخاطبا لمن يتأتى منه الرؤية عن حرمان بعض المعاندين عن هداية القرآن: { ألم تر } أيها الرائي { إلى } قبح صنيع القوم { الذين أوتوا نصيبا } حظا { من الكتب } الجامع لجميع الكتب، الهادي للكل لكونهم موجودين عند نزوله، سامعين الدعوة، فممن أنزل إليه صلى الله عليه وسلم كيف يحرمون أنفسهمم عن الهادية إلى حيث { يشترون } يختارون لأنفسهم { الضللة } بدل هدايته { و } مع ذلك لا يقتصرون عليه بل { يريدون أن تضلوا } ترتدوا ويظلموا عليكم أيها المؤمنون { السبيل } [النساء: 44] الواضح الموصل إلى زلال الهداية بإلقاء الشبه الزائفة في قلوب ضعفائكم، وإظهار التكذيب وادعاء المخالفة بينك وبين الكتب المتقدمة.
ولا تغتروا أيها المؤمنون بودادتهم وتلمقهم ولا تتخذوهم أولياء؛ إذ هم أعداء لكم { والله } الرقيب عليكم { أعلم } منكم { بأعدائكم } فعليكم أن تفوضوا أموركم كلها إليه، والتجئوا نحوه واستنصروا منه ليدفع بلطفه مؤونة شرورهم { وكفى بالله وليا } أي: كفى الله وليا للأولياء { وكفى بالله نصيرا } [النساء: 45] لهم ينصرهم علكى الأعداء بأن يغلبهم عليهم وينتقم منهم خصوصا.
{ من الذين هادوا } نسبوا إلى اليهودية وسموا به، وهم من غاية بغضهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدعون مخالفة القرآن بجميع الكتب السالفة، لذلك { يحرفون } ويغيرون { الكلم } المنزلة في التوراة في شأن القرآن وشأن بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { عن مواضعه } التي وضعها الحق سبحانه، بل يستبدلونها لفظا ومعنى مراء ومجادلة { ويقولون } حين دعاهم الرسول إلى الإيمان: { سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { واسمع } منا في أمرن الدين كلاما { غير مسمع } لك من أحد { ورعنا } لتستفيد منا، وإنما يقصدون بأمثال هذه المزخرفات الباطلة { ليا } إعراضا وصرفا للمؤمنين { بألسنتهم } عما توجهوا نحوه من التوحيد الإيمان إلى ما تشتهيه نفوسهم.
{ و } يريدون أن توقعوا بها { طعنا في الدين } القويم والشرع المستقيم { ولو أنهم } من أهل الهداية ولهم نصيب منها { قالوا } حين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام: { سمعنا } قولك { وأطعنا } أمرك { واسمع } من ربك من الأحكمام، واسمع إيانا { وانظرنا } بنظر الشفقة والمرحمة حتى نسترشد منك ونستهدي { لكان خيرا لهم } في أولاهم وأخراهم { وأقوم } أي: أعدل سبيلا إلى التوحيد والإيمان { ولكن لعنهم الله } أي: طردهم عن عز حضوره في سابق علمه { بكفرهم } المركوز في جبلتهم { فلا يؤمنون } منهم { إلا قليلا } [النساء: 46] استثناهم الله سبحانه في سابق علمه.
[4.47-50]
نامعلوم صفحہ