بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[تفسير الراغب الأصفهاني]ـ
المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: ٥٠٢هـ)
_________
جزء ١: المقدمة وتفسير الفاتحة والبقرة
تحقيق ودراسة: د. محمد عبد العزيز بسيوني
الناشر: كلية الآداب - جامعة طنطا
الطبعة الأولى: ١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
عدد الأجزاء: ١
جزء ٢، ٣: من أول سورة آل عمران - وحتى الآية ١١٣ من سورة النساء
تحقيق ودراسة: د. عادل بن علي الشِّدِي
دار النشر: دار الوطن - الرياض
الطبعة الأولى: ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
عدد الأجزاء: ٢
جزء ٤، ٥: (من الآية ١١٤ من سورة النساء - وحتى آخر سورة المائدة)
تحقيق ودراسة: د. هند بنت محمد بن زاهد سردار
الناشر: كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
الطبعة الأولى: ١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة تفسير الراغب الأصفهاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على آلائه، وصلى الله على النبي محمد وأوليائه، ونسأله أن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن أسبل عليه نور عصمة الأنبياء، وحصن قلوبهم بطهارة النقاء، إنه لطيف لما يشاء، قال الشيخ أبو القاسم الراغب رحمه الله تعالى: القصد في هذا الإملاء إن نفَّسَ الله في العُمْر، ووقانا من نُوَبِ الدَّهْرِ، وهو مرجوٌّ أن يُسٌعِفنا بالأمرين أن نبين من تفسير القرآن وتأويله نكتًا بارعًا تنطوي علتى تفصيل ما أشار إليه أعيان الصحابة والتابعين ومنْ دُونَهُمْ من السلف المتقدمين ﵏ إشارة مجملة، نبين من ذلك ما ينكشفُ عنه السر ويُتلّجُ به الصدر، وفقنا الله لمرضاته برحمته وجعل سعينا مسعودًا وفعلنا في الدارين محمودًا، فمنه يُستحلاب مبداُ التوفيق ومنتهاهُ. (فُصُولٌُ لاَبُدً مِنْ بَيَانِهَا فِيِ مبُتْدَاِ الكْتِاَبِ) " فصل " في بيان ما وقع فيه الاشتباه من الكلام المفرد والمركب " الكلام ضربان: مفردُ ومركبُ، فالمفرد المسمى بالاسم والفعل والحرف وذلك بالوصع الاصطلاحي سُمي بذلك، فأما بالوضع الأول، فكله يسمى اسمًا، ويحق إن صار ثلاثة أقسام، فإن الكلام إما أن يكون مُخْبّرًا عنه وهو الملقب بالاسم، وإما خبرًا وهو الملقب بالفعل، وإما رابطًا بينهما وهو الملقب بالحرف، والقسمة لا تقتضي غير ذلك، وما كان من الخبر نحو " فَاعل " و" مفُعَلٌ " والبصريون يسمونه إسمًا اعتبارًا بأحكامٍ لفظية، لأنه يدخله ما يدخل الأسماء من التنوين والجر وحروفه الألف والام، ويُخبِرُ عنه، والكوفيون يسمونه الفعل الدائم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة تفسير الراغب الأصفهاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على آلائه، وصلى الله على النبي محمد وأوليائه، ونسأله أن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن أسبل عليه نور عصمة الأنبياء، وحصن قلوبهم بطهارة النقاء، إنه لطيف لما يشاء، قال الشيخ أبو القاسم الراغب رحمه الله تعالى: القصد في هذا الإملاء إن نفَّسَ الله في العُمْر، ووقانا من نُوَبِ الدَّهْرِ، وهو مرجوٌّ أن يُسٌعِفنا بالأمرين أن نبين من تفسير القرآن وتأويله نكتًا بارعًا تنطوي علتى تفصيل ما أشار إليه أعيان الصحابة والتابعين ومنْ دُونَهُمْ من السلف المتقدمين ﵏ إشارة مجملة، نبين من ذلك ما ينكشفُ عنه السر ويُتلّجُ به الصدر، وفقنا الله لمرضاته برحمته وجعل سعينا مسعودًا وفعلنا في الدارين محمودًا، فمنه يُستحلاب مبداُ التوفيق ومنتهاهُ. (فُصُولٌُ لاَبُدً مِنْ بَيَانِهَا فِيِ مبُتْدَاِ الكْتِاَبِ) " فصل " في بيان ما وقع فيه الاشتباه من الكلام المفرد والمركب " الكلام ضربان: مفردُ ومركبُ، فالمفرد المسمى بالاسم والفعل والحرف وذلك بالوصع الاصطلاحي سُمي بذلك، فأما بالوضع الأول، فكله يسمى اسمًا، ويحق إن صار ثلاثة أقسام، فإن الكلام إما أن يكون مُخْبّرًا عنه وهو الملقب بالاسم، وإما خبرًا وهو الملقب بالفعل، وإما رابطًا بينهما وهو الملقب بالحرف، والقسمة لا تقتضي غير ذلك، وما كان من الخبر نحو " فَاعل " و" مفُعَلٌ " والبصريون يسمونه إسمًا اعتبارًا بأحكامٍ لفظية، لأنه يدخله ما يدخل الأسماء من التنوين والجر وحروفه الألف والام، ويُخبِرُ عنه، والكوفيون يسمونه الفعل الدائم.
1 / 1
أما الفعل: فاعتبارًا بالمعنى، وهو إن قائمًا فيه معنى يقوم، وأما الدائم فلأنه يصلح للأزمنة الثلاثة وإن كان الحال أولى به في أكثر المواضع والأصل في الألفاظ: أن تكون مختلفة بحسب اختلاف المعاني، لكن ذلك لم يكن في الإمكان، إذ كانت المعلني بلا نهاية والألفاظ مع اختلاف تراكيبها ذات نهاية، وغير المتناهي لا يحويه المتناهي، فلم يكن بُّد من وقوع اشتراك في الألفاظ.
ويجب أن يُعلم أن للفظ مع المعنى خمس أحوال، الأول: أن يتفقا في اللفظ والمعنى، فيسمى " اللفظ المتواطئ "، نحو " الإنسان " إذا استُعمل في " زيد " و" عمرو ".
الثاني: أن يختلفا في اللفظ والمعنى، ويسمى المتباين نحو " رَجُلُ " و" فَرَسٌ "، والثالث: أن يتفقا في المعنى من دون اللفظ ويسمى: " المترادف "، نحو " الحُسَامِ " و" الصَّمْصَامِ ".
الرابع: أن يتفقا في اللفظ ويختلفا في المعنى، ويسمى: " المشترك " والمتفق، نحو " العيَْنِ " المستعملة في " الجارجة " و" مَنْبَع الماء " و" الدَّيْدَبَان " وغير ذلك ..
والخامس أن يتفقا في بعض الألفاظ وبعض المعنى، ويسمى " المشتق "، نحو " ضارب " و" ضرب "، والذي يقع فيه الاشتباه من هذه الخمسة: " الألفاظ المشتركة "، و" الألفاظ المتواطئة ": هل هي عامةٌ أو خاصةٌ، و" المشتقة " مما اشتق! كقولهم: " النبي "، و" البرية " منهم من قال: من " أنبأ، و" بَرَأ "، فترك الهمزة، ومنهم من قال: من النبوة، وهي الرَّبْوة، ومن " البْرَىَ " وهو: الترابُ ..
(فصل في أوصاف اللفظ المشترك)
اللفظ إنما يحصل فيه التشارك بأن يستوي اللفظان في ترتيب الحروف وعددها وحركاتها، ويختلفا في المعنى نحو: عينٌ و" كلبٌ " إذا اختلف ترتيب الحروف نحو " حِلم " و" حمَل " أو
1 / 2
العدد نحو العناء " والعنّاء، و" قَدَرُ " و" قَدَّر "، أو الحركة نحو: " قَدِمَ "، و" قَدُم "، أو لم يختلفا في المعنى نحو: " الإنسان " إذا استُعمل في " زيد " و" عمرو " فليس شيءٌ من ذلك الأسماء المشتركة، فإن الذي اختلف في العدد ربما كان من المشترك نحو: " ضاربٌ " و" ضرَبُ "، وربما كان من المتباينة نحو " القنا "، و" القْنَاَبلِ "، وربما كانت الكلمة صورتها صورة المترك في اللفظ، وتكون من المشتقة لختلاف تقديرهما، نحو " المحتار ": إذا كان فاعلًا، فإن تقديره: " مُفْتَعِلٌ "، وإذا كان مفعولًا فإن تقديره " مفتعل "، وكذا فلانٌ منحَلُّ، وأمر منُحَلُّ فيه، و" الفُلْلك " إذا كان واحدًا " كَقُفْل "، وإذا كان جمعًا فإنه كَوَثنِ، وناقةٍ " هجان " وامرأة " صنِاك " فإنها كحمار، ونوق " هجان " كقوم كرام، وعلى ذلك: هم " يغزون " نحو: " يخرجون "، وهن " يَغْزُوَنْ " نحو " يَخْرُجْن " وأنت " تعْصين " نحو " تشتمين "، وأنتن " تَعْصَيِنَ " نحو، " تَشتْمُن "، ونحو " دَبْر " مصدر دَبَرَ وجمع " الدَّابِرْ " نحو " ركْب "، وكثيرًا ما يلتقي فرعان بوضعنا للفظين متفقين في الصيغة، وهما مختلفان في المعنى، نحو " المصباح " لما يُشْرَبُ منه الصبوح، ولما يُشتق من " صَبَحَت " أي أسْرَجَتَ، واشتكى لإظهار الشكوى، ولاتخاذ شِكْوة اللبن.
(فصل: الاشتراك في اللفظ يقع لأحد وجوه)
إما أن يكون في لغتين نحو " الصقر " للبن إذا بلغ الحموضة في لغة أكثر العرب و" الصقر " للدبس في لغة أكثر أهل المدينة، وإما أن يكون أحدهما منقولًا عن الآخر أو مستعارًا، والفرق بينهما: أن المنقول هو الذي ينقله أهل صناعة ما عن المعنى المصطلح عليه أولًا إلى معنى آخر قد تفردوا بمعرفته، فيبقى من بعد مشتركًا بين المعنيين وعلى ذلك الألفاظ الشرعية نحو الصلاة
1 / 3
والزكاة، والألفاظ التي يستعملها الفقهاء والمتكلمون والنحويون، وأما المستعار: فالأسم الموضوع لمعنى فتستعيره لمعنى آخر له اسم وضعي غيره، فتستعمله فيه لمةاصلة توجد بين المعنيين كتسميتها الشجاع بالأسد، والبليد بالحمار.
والفرق بين حكم المنقول والمستعار أن المنقول شرطه أن يتبع فيه أهل تلك الصناعة والمستعار لكل أحد أن يستعير فيستعمله إذا قصد معنى صحيحًا، فيكون متضمنًا لمعنى التشبيه نحو أن تقول: ركبت " برقًا "، فتعني به فرسًا كالبرق سرعة، ورأيت بحرًا، أي سخيًا كالبحر، وأما المشتق: فشرطه أن يشارك المشتق منه في حروفه الأصلية ويوجد فيه ببعض معناه، ويخالفه إما في الحركات نحو " ضَرَبَ " و" ضُرِبَ " أو في الزوائد من الحروف نحو " ضَرَبَ " وضارب و" استضرب " أو في التقدير نحو " المختار " إذا كان فاعلًا أو مفعولًا وسائر ما تقدم.
فقد بان بهذه الجملة أنواع مفردات الألفاظ وما يقع فيه الاشتباه، وأما المركب من اللفظ: فما ركب من هذه الثلاثة، والتركيب على ضربين: تركيب يحصل به جملة مفيدة، وذلك: إما " من " اسمين أو " من " اسم وفعل، أو تقدير ذلك.
وتركيب لا يحصل به ذلك، ويكون إما من اسمين يجعلان اسمًا واحدًا، نحو خمسة عشر، وبعلبك، أو اسم مضاف إلى اسم نحو عبد الملك، أو اسم وفعل نحو: تأبط شرًا، أو اسم وحرف نحو " سيبويه "، أو فعل وحرف نحو " هلم " أو حرفين نحو " إنما " أو من جمل الكلام، وذلك لا يكون إلا بحذف بعضها نحو " بسملة "، و" حيعلة "، و" حوقلة " في قولهم: بسم الله، وحي على الصلاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله - وجميع ما يقع فيه الشبهة من الكلام المركب لا يخلو: إما أن يكون لشيء يرجع إلى مفردات الكلام وذلك على
1 / 4
التفصيل المتقدم، وأما لشيء لا يرجع إلى ذلك، وذلك لا يخلو إما أن يكون من جهة المعنى، أو من جهة اللفظ، فأما ما كان من جهة المعنى: فلا سبيل إلى إزالته بتغيير العبارات وذاك أن المعاني ضربان، جلي وغامض، فالجليُّ: ما يمكن إدراكه بأدنى تأمل، كقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ إلى قوله: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وأما الغامض: فعلى ثلاثة أضرب، الأول: أن يكون المعنى في نفسه خفيًا، نحو الكلام في صفات الباري - سبحانه - ونفى التشبيه عنه، والثاني: أن يكون الكلام أصلًا يشتمل على فروع تتشعب منه كالآيات الدالة على الأحكام، والثالث: أن يكون مثلًا وإيماء، كقولهم: " الصَّيفُ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ "، وذلك لأن ظاهرة ينبئ عن شيء والمقصود غيره، وذلك في القرآن كقصة موسى مع الخضر في كسر السفينة، وقتل النفي الزكية بغير نفس، وإقامة جدار من غير نفع ظاهر، وكقصة الخصمين " إذ دخلو على داود ففزع منهم "، وكقوله: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾، واللفظ أيضًا ضربان: لفظُ جليَّ، وهو أن يقع كيفيات الله للفظ وكمياته على حسب ما يجب نحو " قوله تعالى ": ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ولفظ غامض، وذلك من ثلاثة أوجةٍ، إما من جهة الكيفية، وذلك بتقديم ما يقدر تأخيره.
1 / 5
أو تأخير ما يقدر تقديمه نحو قول الشاعر:
وَمَا مِثُلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكًا ...
أَبُو أُمَّهِ حَيُّ أًبُوُه يُقَارِبُهْ
وعب ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
وأما من جهة الكمية، وذلك إما من جهة البسط في الكلام، أو من جهة الحذف والإيجاز، فما كان من جهة البسط فكقوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ الآية، وكقوله: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾.
وما كان من جهة الإيجاز والحذف، كقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ وأما من جهة الإضافة، وذلك بحسب اعتبار حال المخاطب نحو قولك: أفعل في الطلب والشفاعة والأمر ...
(فصل في الآفات المانعة من فهم المخاطب مراد المخاطب)
الآفات المانعة من ذلك ثلاثة: الأولى: راجعة إلى الخطاب، إما من جهة اللفظ، أو من جهة المعنى، وقد تقدم ذلك، والثانية: راجعة إلى المخاطب، وذلك لضعف تصوره لما قصد الانباء عنه، أو قصور عبارته عن تصوير ما قُصدِ الإنبتء عنه، وخطاب الله ﷿ منزه عنها.
والثالثة: راجعة إلى المخاطب، وذلك إما لبلاده فهمه عن تصور أمثال ذلك من المخاطبة، وإما لشغل خاطره بغيره، وذلك غن كان موجودًا في بعض المخاطبين بالقرآن، فغير جائزٍ أن يشمل كافة المخاطبين، إذ من المستبعد أن يكون الناس قاطبة لا يفهمونه.
1 / 6
(فصل في عامة ما يوقع الاختلاف ويكثر الشبه)
وذلك ثلاثة أشياء حق العالم أن يعني بتهذيبها وسد الثُّلم المنبثقة عنها ..
أحدها: وقوع الشبه من الألفاظ المشركة وقد تقدم.
والثاني: اختلاف النظرين من جهة الناظرين، وذلك كنظر فرقتى - أهل الجبر والقدر، حيث أعتبر أهل الجبر السبب الأول فقالوا: الأفعال كلها من جهة الباري - سبحانه " وتعالى " - إذ لولاه لم يوجد شيء منها، وقال أهل القدر: إن الممكنات من جهتنا، حيث اعتبرو السبب الأخير، وهو المباشر للفعل دون السبب الأول، والثالث: اختلاف نظر الناظرين من اللفظ إلى المعنى، أو من المعنى إلى اللفظ، وذلك كنظر الخطابي إلى اللفظ في إثبات ذوات الأشياء، ونظر الحكماء من ذوات الأشياء إلى الألفاظ.
وذلك نحو الكلام في صفات الباري ﷿ فإن الناظر من اللفظ وقع عليه الشبهة العظيمة في نحو قوله تعالى:
﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، وقوله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾، وما يجري مجراه.
وأهل الحقائق لما بينوا بالبراهن أن الله تعالى واحدُ منَّزُهُ عن التكثر، فكيف عن الجوارح؟ بنوا الألفاظ على لذك، وحملوها على مجاز اللغة ومشاع الألفاظ، فصينوا عما وقع فيه الفرقة الأولى ...
1 / 7
(فصل في أقسام ما ينطوي عليه القرآن من أنواع الكلام)
وقد تقرر أن أنواع الكلام المركب الخبر، والاستخبار، والأمر، والنهي والطلب والشافعة، والوارد في كلام الله تعالى من ذلك: الخبر والأمر والنهي، وذاك أن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاستخبار وكل ما ورد من ألفاظ الاستخبار فعلى الحكاية أو على الانكار والتوبيخ، والمولى لا يطلب من عبده ولا يتشفع إليه.
فإذن هذه الثلاثة ساقطة من القرآن، والخبر: ما ينطلق عليه الصدق والكذب، وخاصيته أن يتعلق بالأزمان الثلاث.
والأمر والنهي لا ينطلق عليهما ذلك، ولا يتعلقان إلا بالمستقبل، وفائدة الخبر ضربان: أحدهما: إلقاء ما ليس عند المخاطب إليه ليتصوره نحو أمور الآخرة من الثواب والعقاب.
والثاني: إلقاء ما قد تصوره ليتأكد عنده.
وعلى ذلك جميع ما ورد في القرآن مما قد علم بالعقل مثل " الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ".
وفائدة الأمر والنهي شيئان: أحدهما: حث المخاطب على اكتساب محمود واجتناب مذموم، والثاني: حثه على الوجه الذي به يكتسب المحمود ويجتنب المذموم المقررين عند المخاطب، والغرض الأقصى من الخطاب الخبري: إيصال المخاطب إلى تالفرق بين الحق والباطل ليعتقد الحق دون الباطل.
ومن الأمر والنهي ان يفرق بين الجميل والقبيح، ليتحرى الجميل، ويجتنب القبيح، فكل خبر: فإما أن يكون معربًا عما يلزم اعتقاده، فيسمى " الخبر الاعتقادي " وذلك نحو ما ينطوي عليه قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وإما أن يكون مبينًا عما يقتضي الاعتبار به، فيسمى " الخبر الاعتباري "، كأخبار الأنبياء وأممهم والقرون الماضية، والأخبار عن خلق السماوات والأرض.
وكل أمر ونهي: فإما أن يكون أمرًا بما يقتضي العقل حسنه، ونهيًا عما يقتضي العقل قبحه، فيسمى " الأوامر والنواهي العقلية "، أو أمرًا بما تقصر عقولنا عن معرفة حسنه، ونهيًا عما تقصر
1 / 8
عقولنا عن معرفة قبحه، فيسمى: الأوامر والنواهي الشرعية والفرق بين العقلي منها والشرعي: أن العقلي لا يتغير على مرور الأيام ولا ينسخ في شيء من الأزمان.
والشرعي: ما يتسلط عليه النسخ والتبديل، بحسب ما يتعلق به من المنافع.
(فصل في كيفية بيان القرآن)
اعترض " بعض " الناص فقال: كيف وصُفَ القرآن بالبيان، فقال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾، وقال: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ وقال: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، وقال ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾، وقد علُم ما فيه من الإشكال والمتشابه وما يجري مجرى الرموز، نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ وقد وصفه تعالى بالمتشابه وبأنه لا يعلم تأويله إلا هو؟ فالجواب أن البيان المشترط فيه إنما هو بالإضافة إلى " أعيان " أرباب أهل الكتاب لا إلى كل من يسمعه ممن دب زدرج، فقد علمنا أن ذلك ليس ببيان لمن ليس من أهل العربية، ثم أحوال أهل العربية مختلفة في معرفته.
ولو كان البيان لا يكون بيانًا حتى يعرفه العامه لأدى إلى أن يكون البيان في الكلام السوقي العامي أو إلى أن لا يكون بيانًا بوجه، إذ كل كلام بالإضافة إلى قوم بيان، وبالإضافة إلى آخرين ليس ببيان، وقد عُلمّ أن قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
1 / 9
خَلْفَهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ من أشرف كلام، ولاَحَظَّ في معرفته لمن لم يتوفر نصيبه من البلاغة، وكذلك قول الشاعر:
فَاقْطَعْ لُبَانةَ مَنْ تَعرَّضَّ وَصْلُ ...
وقول الآخر:
وَمَا اْلَمرْءُ ماَدَامَتْ حشُاَشَةُ نَفْسه ...
بُمْدِركِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ ولاَ أَلِ
من أفصح كلام ولا يعرفه جميع الأنام، ثم إن القرآن وإن كان في الحقيقة هداية للبرية، فإنهم لن يتساووا في معرفته، وإنما يحيطون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم.
فالبلغاء تعرف من فصاحته، والفقهاء من أحكامه، والمتكلمون من براهينه العقلية، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المختص بفنه، وقد علم ان الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته في العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه، وعلى ذلك أخبار النبي ﷺ، ولهذا قال ﵇:
" نَضَّرَ الله أمُرءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا كَمَا سمَعِهَا حَتَّى يُؤدِيِها إلى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ مُبَلُغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ " ..
(فصل في الفرق بين التفسير والتأويل)
الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عنه البول تفسيره، وتسمى بها قارورة الماء.
وجُعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار، فيقل: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح، وسفرت البيت إذا كنسته ..
، والتأويل من آل يؤول:
1 / 10
إذا رجع، والتفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل: في المعاني كتأويل الرؤيا، والتأويل: يُستعمل أكثره في الكتب الإلهية، والتفسير يُستعمل فيها وفي غيرها، والتفسير: أكثر يُستعمل في مفردات الألفاظ، والتأويل أكثره " يُستعمل " في الجمل، فالتفسير: إما أن يُستعمل في غريب الألفاظ نحو " البحيرة " والسائبة " والوصيلة "، أو في " وجيز يبُبّنٌ ويُشرح " كقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.
وإما في كلام مُضمنٍ بقصة لا يمكن تصوره " إلا " بمعرفتها نحو قوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾، وقوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ الآية ...
وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عامًا ومرة خاصًا، نحو " الكفر " المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة، و" الإيمان " المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفو نحو لفظة " وجد " المستعملة في الجدة والوجد والوجود.
والتأويل نوعان: مستكره ومنقاد: فالمستكره: ما يستبشع إذا سبُرّ بالحُجَّة، ويستقبح بالتدليسات المزخرفة الكزوجة " وذلك على أربعة أضرب:
الأول: أن يكون لفظ عام فيخصص في بعض ما يدخل تحته، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حمله بعض الناس على علي بن أبي طالب ﵁ فقط.
والثاني: أن يلفق بين اثنين نحو قول من زعم أن الجيوانات كلها مكلفة محتجًا بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾، فدل بقوله " أمم أمثالكم " أنهم مكلفون كما نحن مكلفون،
1 / 11
الثالث ما استعين فيه بخبر مزور أو كالمزور كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾، قال بعضهم: عنى به الجارحة مستدلًا بحديثٍ موضوع، والرابع: ما يستعان فيه باستعاراتٍ واشتقاقاتٍ بعسدة، كما قاله بعض الناس في البقر: إنه " إنسان " يبقرُ عن أسرار العلوم، وفي الهدهد: إنه إنسان " موصوف " بجودة البحث والتنقير.
فالأول: أكثر ما يروج على المتفقة الذين لم يقووا في معرفة الخاص والعام.
والثاني على المتكلم الذي لم يقو في معرفة شرائط النظم، والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار، والرابع: على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات والمنقاد من التأويل: ما لا يعرض فيه البشاعة المتقدمة، وقد يقع الخلاف فيه بين الراسخين في العلم إحدى جهات ثلاث: إما لاشتراك في اللفظ: نحو قوله تعالى:
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ هل هو من بصر العين، أو من بصر القلب؟ أو لأمر راجع إلى النظم نحو قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ هل هذا الاستثناء مقصور على المعطوف، أو مردود إليه وإلى المعطوف عليه معًا؟ وإما لغموض المعنى ووجازة اللفظ، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ والوجوه التي يعتبر بها تحقيق أمثالها أن ينظر: فإن كان ما ورد فيه ذلك أمرًا أو نهيًا عقليًا فزع في كشفه إلى الأدلة العقلية، فقد حث تعالى على ذلك في قوله ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وإن كان أمرًا شرعيًا فزع في
1 / 12
كشفه إلى آية محكمة أو سنة مبينة، وإن كان من الأخبار الاعتقادية فزع إلى الحجج العقلية.
وإن كان من الأخبار الاعتبارية فزع فيه إلى الأخبار الصحيحة المشروحة في القصص.
(فصل في الوجوه التي بها يعبر عن المعنى وبها يبين)
لما كان المعنى الواحد يقرب من الأفهام بعبارات مختلفة لأغراض متفاوتة، وجب أن يبين الوجوه التي منها " تختلف " العبارات عن المعنى الواحد، فالمعنى الواحد قد يدل عليه بأشياء كثيرة: إما باسمه نحو " إنسان "، أو بنسبه نحو " آدمي " و" ولد حواء "، أو بإحدي خصائصه اللازمة له: نحو " المنتصب القامة " أو " الماشي برجليه " أو " العريض الأظفار "، وإما بفصله اللازم كقوله " الناطق "، " المائت "، وكما يبين الشيء بأوصاف كثيرة، كذلك قد يتبين باسماء كثيرة متضمنة لأوصاف مختلفة، كقولك في الجرم العلوي: " السماء " لما اعتبر ارتفاعها بالإضافة إلى الأرض، و" الجرباء ": لما " اعتبروا نجومها "، وأنها كجرب في الجلد و" الخلقاء " و" الملساء " لما اعتبر بحالها عند فقدان نجومها بالنهار، و" الرقيع " تشبيهًا بالثوب المرقوع لظهور نجومها ظهور الرقاع في المرقع " والخضراء " لما اعتبر لونها، وعلى ذلك قولهم " في المرأة ": " الزوج " لما اعتبرت بازدواجها بالرجل، و" الظعينة " لما اعتبر ظعنها معه، و" القعيدة " لما اعتبرت بقعودها في البيت أو بكونها مطية له
1 / 13
كالقعود من الجمال، والقعدة من الأفراس، ألا ترى أنها سميت " مَطِيَّة " في قول الشاعر:
مَطِيَّاتَّ السُّرورٍ فُوَيْقَ عَشْرٍ ...
إلى عِشْرِينَ ثُمَّ قِفٍ المطَاَيَا
و" حليلة " إذا أعتبر حلولها معه، أو حل الأزار له، وذلك يُفعل لأحد أمرين: إما لأن الشيء " في نفسه " لا يمكن إبرازه إلا بالعبارات الدالة على أوصافه كمعرفة الله ﷿ لما صعبت لم يكن لنا سبيل " إليها " إلا بصفاته، وكأن الله تعالى جعل لنا أن نصفه بهذه الأوصاف لتكون لنا ذريعة إلى معرفته، إذ لا سبيل لنا إليها إلا استدلالًا بأوصافه وأفعاله، ولذلك قال " موسى " ﵇ لما سأله فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟ قال: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، ولما قال له: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾؟ قال: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، فلم يجبه عن الماهية، لما كان الباري تعالى منزهًا عنها، وأحاله عن صفاته الكثيرة، وإما لأن الشيء له تركيبات " وأحوال "، فيجعل له بحسب كل واحد منها اسم كما تقدم في أسماء السماء، وبحسب ذلك قال النبي ﵇: " سُمَّيتُ محمدًا، وأحمد، وخاتمًا، وحاشرًا، وعاقبًا وماحيًا " لأنه محمود، وحامد، وخاتم الأنبياء، وحاشر، لأنه بعث مع الساعة نذيرًا لكم بين يدي عذاب شديد، وعاقب: لأنه عقب الأنبياء، وماحي: لأنه محى به سيئات من اتبعه.
1 / 14
(فصل في الحقيقة والمجاز)
الحقيقة مشتقة من الحق، والحق يستعمل على وجهين: أحدهما: في الموجود الذي وجوده بحسب مقتضى الحكمة بنحو قولنا: الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، والثاني: للاعتقاد المطابق لوجود الشيء نفسه، أو في القول المطابق لمعنى الشيء الذي هو عليه نحو أن يقال: إن اعتقاد فلان في البعث حق، وقوله في الثواب والعقاب حق، ويضاد " الحق "، الباطل، وإذا فهم الحق فهم الباطل، لأن العلم بالمتضادين واحد.
وأما الحقيقة: فإنها تستعمل في المعنى تارة، وفي اللفظ تارة: فأما استعمالها في المعنى: فعبارة عما ينبئ عن الحق ويدل عليه، ولذلك قال ﵊ لحارثة: لما قال: " أصبحت مؤمنًا حقًا: " قال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ " أي: ما الذي ينبئ عن ذلك؟ ".
ويستعمل في العمل والاعتقاد والخبر، فيقال: هذا فعل وخبرٌ وقول له حقيقة.
ويستعمل ضدها المجاز، والتسمح، والتوسع، فيقال: هذا فعل واعتقاد وخبر فيها تجُّوز وتسمُّح وتوسُّع ولا فرق " بين " أن يكون مثل هذا الخبر بلفظ مجاز أو لفظ حقيقة في أنه يقال هو حقيقة إذا كان مطابقًا لما عليه الشيء في نفسه.
وإذا استعملت في اللفظ، فالمراد به: اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة من غير نقل ولا زيادة ولا نُقصان، والمجاز على العكس من ذلك، كلاهما ضربان: أحدهما في
1 / 15
مفردات الألفاظ، والثاني في الجمل: فالمجاز في المفردات: إما أن يكون بنقل، نحو فلانٌ عظيم الحافز، ويراد به القدم، أو زيادة نحو أنظور في " انظر "، وأرأريت لو كان على أبيك دين فقضيتيه " أي قضيته " أو بنقصان نحو:
دَرَسَ المنا بُمتَالِعٍ فَأَبانٍ -، أي: المنازل.
وربما يكون اللفظ الواحد من وجه حقيقة، ومن وجه مجازًا، نحو قولهم: " فلانٌ عظيم الإقدام "، فمن حيث استعمل القدم حقيقة، ومن حيث أتى بلفظ الجمع مجاز، وأما المجاز في الجمل، فمن حيث هي جملة لا يكون إلا بحذف أو زيادة، أما الحذف: فما كان المحذوف منه شيئًا مستغني عنه لدلالة عليها، فذلك من الإيجاز نحو حذف المخبر " عنه " تارةً، والخبر تارةًَ، والمضاف تارة، والمضاف إليه تارة، والمفعول تارة، والفاعل تارة، وأمثلتها مشهورة يُستَغْنَى عن ذكرها.
وأما الزيادة: فلا شبهة أن كل زيادة تقتضي زيادة معنى، أو بسط مختصر، أو شرح مبهم، فإنها مستحسنة متى حصل فيها شرائط البلاغة، نحو ذكر " جبريل " و" ميكائيل " بعد ذكر " الملائكة "، وذكر " النخل " و" الرمان " بعد ذكر " الفاكهة "، وكذلك ما كان من نحو زيادة اللازم في " شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَه "، وأما المستنكر المستكره عند أكثر المحصلين - فكل زيادة ادُّعى فيها أن وجودها وعدمها سواء كما زعم بعضهم أن ذلك " كالكاف " في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ و" الوجه " في قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ أي: الله وقوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، أي بالله، وقوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ أي: أن تسجد، وكل ذلك يجيئ الكلام عليه في مواضعه في أنها ليست بزائدة، وأن
1 / 16
لها معاني صحيحة، وبعض الناس تَحَرَّوْا في آيات ذكرها الله تعالى على سبيل المثل تَطَّلب الحقائق، ورأوا أن ذلك المعنى إذا لم يكن له وجود " على سبيل " الحقيقة كان كذبًا، وذلك في نحو قوله تعالى: ﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾، وقول إبراهيم ﵇: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ حتى إن بعضًا حمل قول النبي ﵇: " إِنَّ إِبْرَاهيِمّ لمْ يَكْذِبْ إلاَّ ثَلاَثَ كذباتٍ كلها يُمَاحِكُ بِهَا عَن دِيِنِه ".
قال: " إني سقيمٌ، وهذه أختي ويل فعله كبيرهم " على الحقيقة، وخفي عليه أن المذكور على وجه المثل إذا تُحرَّى به معنى صحيحُ لم يكن كذبًا، نحو قولنا لمن نحثه على عمل: " أِطَّري فِإنِك فِاعلَه " كما يقال لمن
1 / 17
تعاتبه في تضييع أمر وقع فيه " الصيف ضيعت اللبن " وأنكر بعضهم قول المفسرين: إن هذاكذا مضمر، وقال: الإضمار إنما يُسْتَعْمَلُ فيمن له قلب وخاطر والله تعالى منزةٌ عن ذلك، وليس يراد بالإضمار هذا المعنى، وإنما يعني أن بنية الكلام تؤدي معنى ذلك عن غير نطق به، نحو قولهم " أحشفًا وسوء كيلة " فإن هذا الكلام يقتضي أتجمع علىَّ، وبه مضمون الكلمة، وذلك معلوم للسامع ..
1 / 18
(فصل في العموم والخصوص من جهة المعنى)
وذلك ثلاثة أضرب: عام مطلق: وهو الجنس، نحو قولنا: " الحيوان أوالحبوب، خاص مطلق مثل ": زيد، وعمرو، وهذا الرجل، وعام من وجه خاص من وجه، نجو كالإنسان، فإنه بالإضافة إلى الحيوان خاص، وبالإضافة إلى زيد وعمرو عام، والعام: إذا حمل على الخاص صدق القول، نحو قولنا " زيد ": إنسان وحيوان، والإنسان حيوان.
والخاص: إذا حمل على العام كذب، نحو الحيوان: إنسان.
والإنسان: زيد، إلا إذا قُيد لفظًاَ وتقديرًا، فيقال: هذا الإنسان زيد، أو الإنسان زيد، ويجعل الألف واللام للعهد لا للجنس، أو يراد أن معنى الإنسانية كمال موجود في زيد.
فإذا ثبت ذلك فالمفسر إذا فسر العام بالخاص، فقصده أن يبين تخصيصه، " بالذكر " ويذكر مثاله، لأنه لم يرد أنه هو هو لا غير، وكثير ممن لم يتدرب بالقوانين البُرْهَانية إذا رأى عامًا مستعملًا في خاصين قدر أن ذلك حار مجرى الأسماء المشتركة، فيجعله من بابها، وعلى ذلك رأيت كثيرًا ممن صنفوا في نظائر القرآن، فقالوا: الإثم: ارتكاب الذنب، والإثم: الكذب، احتاجًا بقوله ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا﴾، والإثم عام في المقال والفعال، وإنما خُص في عذا الموضع لأن السماع ليس إلا في المقال على ذلك قال اللحياني: " الخوف ": القتال، بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ﴾، والقتل لقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، والعلم، لقوله: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ أي: علم، وذلك من ظهور سوء التصور بحيث لا يحتاج إلى تبين.
وأما الخاص: فتفسيره بالعام فجائز إذا قصد تبيين جنسه، نحو " الْحِرْبِاءُ دوُيَبْةَ.
وَالْحرِبْاَءُ حَيَوَانٌ.
1 / 19
(فصل في تبيين الوجوه التي يجعل لأجلها الاسم فاعلًا في اللفظ)
كل فعل من أفعال غير الله تعالى نحو: التجارة، والكتابة يحتاج في حصوله إلى أشياء إلى فاعل يصدر عنه الفعل كالنجار، وإلى عنصر يعمل فيه كالخشب، وإلى عمل كالنجر، وإلى مكان وزمان يعمل فيهما، وإلى آلة يعمل كالمنجر والمنحت، وإلى مثال يعمل عليه ويحتذي نحوه، وإلى غرض يعمل لأجله ما يعمل، ثم الفاعل قد يحتاج إلى من يسدده ويرشده.
والغرض قد يكون على نحوين: قريب وبعيد.
فالقريب: اتخاذ النجار الباب ليحصل به نفعًا، والبعيد: ليحصن " به " البيت، وكل ذلك قد يُنسب إليه الفعل، فيقال: أعطاني زيد إذا باشر العطاء، وأعطاني الله لما كان هو الميسر له.
وربما جمع بين السبب القريب والبعيد، فيقال: أعطاني الله وزيد.
قال الشاعر:
حَبَانَا بِهِ جَدُّنَا وَالْإَلهُ ...
وَضَرْبٌ لَناَ جَذْمُ صِائبِ
فنسب إلى المسبب الأول، وهو الله تعالى وإلى السبب الأخير، وهو الضرب، وإلى المتوسط وهو الجد، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، فأسند الفعل الأول إلى الآمر به، وفي الثاني إلى المباشر له، وقال الشاعر في صفة درع: " وألبَسنِيِه الْهَالكُّى " وقال آخر: " كَسَاهُمْ مُحْرقٌ "، (فنسب في الأول إلى عاملها، وفي الثاني إلى مستعملها)، " وقال " في صفة نِبَال: نِبالٌ كَسَتْهَا ريِشَهَا مَضْرحيَّةٌ، فنسب كسوتها إلى
1 / 20