وصف بعيره بصلابة أخفافه بحيث تؤثر مناسمها في الأماكن الصلبة إذا لاقتها. فتطير منها أحجارا قادحة للنار، وأخرى مكسورة من شدة الوطء وصلابة ما يباشر الأرض من الأخفاف.
أديم مطال الجوع حتى اميته ... واضرب عنه الذكر صفحا فأذهل.
المطال: كالمطل: تأخير الحق. يقال: مطله وما طله بحقه: لواه، أي أخره. والصفح: مصدر صفح، يصفح-بفتح الفاء فيهما-أعرض وأذهل-بالفتح-مضارع ذهلت عن الشيء، بالفتح، ذهلا، أو أذهلت عنه بالكسر ذهولا: نسيته، والذكر: التذكر. وضربه من الجوع صفحا: الإعراض عما يقتضيه من الأكل إعراضا، وهذا عين مطاله الذي يديمه حتى يميت الجوع وأي يكسر سورته، ويقتل كلبه بدوام مصابرته بأن يرتاض به فلا يتأثر به بعد. وغاية ذلك أن يذهل عن وجوده، وألا يحس بحر وقوده.
وأستف ترب الأرض كي لا يرى به ... علي من الطول امرؤ متطول.
استفاف الترب كسفه، والسويق: أخذه غير متلوت. والطول-بفتح الطاء المهملة-الفضل و"من" زائدة للتوكيد. والمتطول: المتفضل.
يريد أنه إذا دار أمره بين أن يستف التراب، أو أن يتحمل منة من ذي من، فإنه يختار استفاف التراب.
وتقدير البيت: وأستف تراب الأرض لأجل ألا يرى بسبب ذلك على امرؤ متفضل فضلا.
بمعنى أن هذه عادتي، فسف التراب عند خوف المنة متحقق في حقه ماض بالنسبة لزمان تكلمه، فالتعبير بالمضارع لحكاية حالة سفه التراب الماضية، فهو يستحضر به صورة السف لفظاعتها.
أو يقال: إن المعتاد مستقبل العودة كما هو ماضي البدء، فالتعبير بالمضارع عما يعود منه يعود منه حقيقة، وعما مضى منه مجازا.
ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي وما كل.
يعني أن اجتنابة الذم المحقق بحسب دعواه بشهادة "لولا" فإنها تقتضي وجود شرطها، وامتناع جوابها لوجوده، والشرط هنا اجتناب الذم، فهو الذي أرقى همته، وقمع نهمته، ومنع من وجدان المشارب والمآكل التي يعاش بها عنده، ولولا ذلك-أي لو قدر عدم اجتناب الذم بعدم المبالاة به-لم يوجد شيء مما ذكر إلا عنده.
ولكن نفسًا حرة لا تقيم بي ... على الذم إلا ريثما أتحول.
النفس الحرة: هي الكريمة التي تأنف من الدنايا، وتستهل من جنبها المنايا. والريث هنا: القدر، و"لكن" هنا للاستدراك المحقق لوجود اجتناب الذم المانع من ارتكاب ما تضمنه الجواب الذي امتنع لوجوده، فيتحقق امتناع مضمون الجواب، وذلك مفهوم من "لولا" في البيت الأول فيكون هذا تأكيدا لذلك.
وبالجملة: إن هذا من الاستدراك المشتمل على الإثبات للذي لم يتوهم نفيه لمجرد التأكيد. وقد يكون بالنفي لما يتوهم ثبوته كذلك. ومن قول أبي سلمى بن ربيعة:
فلو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر.
فإن "لو" أفادت امتناع طيران ذي الحافر، فارتفع توهمه فاستدراكه بعد يكون للتأكيد.
وتقدير البيت: ولكن نفسا كريمة لا تستمر بي على ما أذم به إلا ما انتقل عنه.
والمعنى أنه لا يقيم لحظة، فاستثناء مقدار التحول من مقدار الإقامة استثناء من غير الجنس، أفاد ذلك مبالغة في عدم الإقامة على الذم. فالإقامة والتحول - أي قدره - متغايران، وقد حصر ما أثبته من الإقامة في التحول الذي هو ضدها بلا تأول، وذلك محال لا يخطر ببال، فتكون الإقامة على الذم من المحال، وهذا هو المسمى بعلم البديع بتأكيد المدح بما يشبه الذم، ومن شواهده قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
فاستثناء فلول السيف من العيب، كاستثناء التحول من الإقامة في بيت الشنفرى، ففلول السيف مدح أفرغ في قالب الذم، أكد المدح بنفي العيب لتحقيقه أنه لم يوجد من إفراد العيب شيء، وكذلك القول عن الذم مدح عظيم مفرغ في قالب الذم، حيث استثني من نفي الإقامة على الذم والاستثناء من النفي إثبات، فيقتضي إثبات الإقامة على الذم، وكونها تحولا عنه مؤكد لنفيها وبرهان على استغراق النفي بجميع إفراد الإقامة على الذم.
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت ... خيوطه ماري تغار وتفتل
الحوايا: الأمعاء التي تحوت، أي استدارت، واحدها حوية - بوزن غنية- وحاوية وحاوياء.
1 / 6