إن العلوم الطبية - التي ترتبط ارتباطا أساسيا بعلم الحياة - قد أحرزت - كما هو معروف - تقدما هائلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأدى هذا التقدم إلى زيادة كبيرة في متوسط عمر الإنسان على مستوى العالم كله، وفي الدول المتقدمة بوجه خاص، كما أدى إلى انخفاض هائل في نسبة الوفيات بين المواليد. وهكذا ازدادت فرص الحياة أمام الإنسان على طرفي العمر؛ أي في أوله وفي آخره. ومن المؤكد أن هذا التقدم قد واجه الإنسان بمشكلات كبرى؛ إذ إن زيادة متوسط العمر قد أبرزت - بصورة حادة - مشكلة الشيخوخة وموقف المجتمع منها؛ حيث يعجز هذا المجتمع حتى الآن عن إيجاد حل حاسم لهذه المشكلة ولا سيما في الدول المتقدمة؛ ففي هذه الدول يزداد بصورة مطردة عدد المسنين الذين يظلون طويلا على قيد الحياة، وفيها أيضا يعجز نظام الأسرة عن استيعاب هؤلاء المسنين؛ إذ إن الأبناء - الذين يعيشون في مجتمع تسوده الاعتبارات العلمية ويبحث كل فرد فيه عن مصلحته الخاصة - يضيقون ذرعا بوالديهم، ولا يجد هؤلاء مفرا من الالتجاء إلى حلول لم يثبت نجاحها حتى الآن كبيوت الكبار مثلا. كذلك فإن الانخفاض الكبير في نسبة الوفيات بين المواليد قد أدى إلى تضاعف نسبة الزيادة السكانية في العالم، وخاصة في الدول الفقيرة التي كان ارتفاع نسبة الوفيات فيها من قبل يحدث توازنا مع زيادة النسل. ولكن بالرغم عن هذه المشكلات فمن المؤكد أن التقدم في العلوم الطبية كان من أعظم الإنجازات الإنسانية التي حققها العلم الحديث خلال القرن الماضي.
ومن ناحية أخرى فقد كانت العلوم البيولوجية أحد الأسس الهامة التي بني عليها اختراع العقول الإلكترونية؛ فالسيبرنطيقا - كما ذكرنا من قبل - كانت منذ بدايتها تطبيقا للمبادئ البيولوجية وللأسس التي يعمل بها الجهاز العصبي على الآلات، ولما كانت الثورة الإلكترونية هي إحدى الدعامات الرئيسية التي يرتكز عليها عصرنا الحاضر، ففي وسعنا أن نجد في هذا مثالا لإنجاز آخر ضخم حققته العلوم البيولوجية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولكن بالرغم من أهمية كل هذه الإنجازات، فليست هي ما قصدناه حين قلنا: إن الانقلاب الذي حدث في علم الحياة يعد - في نظر الكثيرين - أهم من أي حدث علمي آخر عرفه الإنسان في هذا القرن، وأنه يحمل في طياته بذور تغيرات مذهلة بالنسبة إلى المستقبل، وإنما الذي نعنيه هو تلك الكشوف التي تمت في السنوات الأخيرة في ميدان الوراثة البشرية، والمحاولات التي لا يكف علماء البيولوجيا عن بذلها من أجل الكشف عن أسرار المخ البشري.
فمنذ عدد قليل من السنوات، توصل علماء البيولوجيا إلى كشف خصائص الخلايا الوراثية «الجينات» ومعرفة تركيبها الكيميائي، واهتدوا إلى أول الخيط الذي يؤدي إلى كشف شفرة الوراثة. وعلى الرغم من أن هذا الكشف لم يعرف خارج نطاق الدوائر العلمية المتخصصة إلا في نطاق ضيق في بداية الأمر، فقد كان من السهل إدراك النتائج الهائلة التي يمكن أن يسفر عنها، مما جعل الكثيرين يعدونه نقطة بداية لعصر جديد قد لا تتضح معالمه كلها في الوقت الراهن، ولكن من المؤكد أنها ستظهر في وقت ليس بالبعيد.
ذلك لأن معنى هذا الكشف هو أن العلم بدأ يسير في الطريق المؤدي إلى معرفة العوامل الوراثية بدقة؛ ومن ثم معرفة سر من أهم أسرار الحياة، ولو سار العلم في هذا الطريق شوطا بعيدا؛ لاستطاع أن يتحكم بطريقة إرادية في الوراثة البشرية، بحيث يغير من خصائص الجينات تغييرا متعمدا، فتكون النتيجة تغيير صفات المواليد الجدد، وعلى حين أن الإنسان قد ظل حتى الآن يقبل خصائص الأجيال الجديدة من ذريته على ما هي عليه، فإن التطور البيولوجي الذي نتحدث عنه قد وضع العلم في أول الطريق المؤدي إلى توسيع نطاق سيطرة الإنسان؛ بحيث تمتد إلى إدخال تغييرات أساسية على مواليده الجدد. وكما أن الصناعة قد مدت سلطان الإنسان على إنتاجه الاقتصادي بحيث لم يعد مقتصرا على ما تجود به الأرض في الزراعة، بل أصبح الاقتصادي يحور مواد الطبيعة ويشكلها وفقا لإرادته. كذلك يبدو أن العلم قد أمسك الآن بأول الخيط المؤدي إلى إحداث تغير مماثل في الكائنات البشرية التي تتألف منها أجياله الجديدة، بحيث تصبح علاقة العصور التي سيتحقق فيها هذا الإنجاز الضخم بالعصور السابقة أشبه بعلاقة العصر الصناعي بعصور الزراعة والرعي والالتقاط.
كذلك تؤدي الأبحاث التي تجرى في ميدان دراسة المخ البشري إلى نتائج مماثلة؛ ذلك لأن هذا العضو شديد التعقيد ظل غامضا حتى عهد قريب، ولم تكن معلوماتنا عنه تمثل إلا قدرا ضئيلا جدا مما ينبغي على الاقتصادي معرفته عن أهم أجزاء جسمه جميعا، ولكن المعرفة العلمية في هذا المجال تضاعفت إلى حد هائل في السنوات الأخيرة، وبدأ العلماء يقتربون من اليوم الذي يستطيعون فيه أن يعرفوا آلية العمليات التي تتم في المخ، ونوع التغيرات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث فيه عندما يؤدي وظائفه المختلفة، وطبيعة مراكز القدرات الذهنية المختلفة وكيفية التحكم فيها، إلى آخر هذه الأسرار التي ظلت مستغلقة على البشر حتى وقت قريب. ومن المؤكد أن التقدم في علم السيبرنطيقا والخلايا الإلكترونية كان له دور كبير في هذا الصدد؛ أي إن العلم مثلما استعان بمعلوماته المتوافرة عن الجهاز العصبي البشري - وضمنه المخ - في استحداث علم السيبرنطيقا، قد استعان بهذا العلم بدوره - بعد تطويره - لكي يلقي مزيدا من الضوء على طبيعة العمليات التي تحدث عندما يؤدي المخ البشري وظائفه العصبية والنفسية والعقلية، ونتيجة هذه الكشوف ستكون فائقة الأهمية؛ إذ إنها ستتيح للعلم - يوما ما - أن يتحكم في تركيب المخ البشري، ويزيد أو ينقص قدرات معينة فيه إلى حد لم تعرفه البشرية من قبل.
على المرء بقدر ما يغتبط لقدرة العلم على الامتداد بسيطرة الاقتصادي، بحيث تسري حتى على طبيعته الداخلية الخاصة بعد أن قطع شوطا بعيدا في السيطرة على الطبيعة الخارجية، لا يملك إلا أن يشعر بالجزع من جراء الاحتمالات المخيفة التي تثيرها هذه الكشوف، وخاصة إذا تصورنا أن هذه الاحتمالات قد تحققت في إطار التنظيمات الحالية للمجتمعات البشرية، ففي يد من سيترك هذا التحكم في حياة الاقتصادي وفي خصائصه الوراثية؟ وما إنتاجه الأهداف التي ينبغي أن تراعى في إدخال هذه التعديلات الخطيرة؟ ومن الذي سيحدد هذه الأهداف؟ بل إن السؤال الذي يسبق هذه الأسئلة هو: هل يجوز التفكير أصلا في تعديل قدرات الاقتصادي؟ وإلى أي مدى يعد مثل هذا التدخل أمرا مشروعا؟ وهل يكون من حقنا أن نتخذ من الإنسان - وهو أرفع الكائنات مكانة - موضوعا للتجارب وللتشكيل المتعمد في المختبرات؟
إن الخيال العلمي كان - منذ وقت بعيد - يجزع أشد الجزع لمثل هذا التلاعب في الطبيعة البشرية، ويصوره بصورة شديدة التشاؤم في قصة مثل قصة «فرانكشتين» ذلك الكائن المخيف الناتج عن تلاعب العلم في المخ البشري. ومن النادر أن نجد - منذ ذلك الحين - قصة تصور نتيجة تدخل العلم في قدرات الإنسان الطبيعية بصورة تبعث على التفاؤل والأمل. والواقع أن هذا التشاؤم له ما يبرره؛ إذ إننا لو تخيلنا أن العلم قد اكتسب قدرات كهذه في ظل الأوضاع الاجتماعية والسياسية الحالية، فإن الاحتمالات تكون مخيفة حقا.
فمن الممكن أن تستغل الدول ذات الأنظمة العدوانية كشفا علميا كهذا لكي تزيد من قسوة مواطنيها أو من قدراتهم على سحق خصومهم بلا رحمة. ومن المؤكد أن مثل هذا الكشف لو ترك لسياسيين من النوع الذي اتخذ قرار استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما؛ لاستغلوه أبشع استغلال. كذلك لو تخيلنا أن هذه القدرة الفائقة للعلم على تشكيل صفات البشر قد وضعت في يد مجتمع يحكمه أصحاب الأطماع الاقتصادية والمصالح التجارية؛ لكان من الجائز أن يستغلوها في تكوين أجيال بشرية تحمل بلا شكوى وبلا كلل في مصانعهم أو تستهلك منتجاتهم طائعة، وربما تعمدوا أن تكون هذه الأجيال في معظمها نمطية لا تنوع فيها.
وهكذا فإن هذه القدرة الهائلة على التحكم في طبيعة الإنسان ينبغي أن تقترن بها قدرة مماثلة على التحكم في التنظيمات الاجتماعية البشرية. ومن المؤكد أننا في حاجة إلى نوع جديد من السلطة، ومفهوم جديد للعلاقات بين البشر، حتى يمكننا أن نأمن عدم استغلال هذه الكشوف ضد مصلحة الإنسان. وإذا كنا حتى الآن نعد هذه الاحتمالات بعيدة، فإن العلماء يقولون غير ذلك؛ إذ إن العلم قد اجتاز بالفعل بداية الطريق الذي سيؤدي به - عاجلا أو آجلا - إلى جعل هذه الاحتمالات حقيقة واقعة.
نامعلوم صفحہ