فمن المؤكد مثلا أن تطوير الساعة بحيث تصبح جهازا ميكانيكيا (بدلا من الساعة الرملية أو الشمسية أو المائية) يدل على الوقت بدقة، كان له دور كبير في علوم كثيرة يستحيل إجراء ملاحظاتها أو تجاربها إلا باستخدام توقيت دقيق، كذلك فإن طواحين الهواء والماء - التي أحرزت تقدما ملحوظا في العصور الوسطى - قد ساعدت على ظهور علم الميكانيكا الذي كان أهم العلوم وأدقها في المرحلة الأولى من تاريخ العلم الحديث. أما كشف العدسات فقد كان تأثيره العلمي حاسما؛ إذ إن التلسكوب الذي استخدمه جاليليو كان أداة عظيمة الأهمية في أبحاثه العلمية النظرية في ميدان الفلك والطبيعة، وبالمثل فإن ظهور الميكروسكوب الذي تم على أيدي صناع بارعين في صقل العدسات - لم تكن لديهم خبرة علمية كافية - قد ساعد علماء آخرين على كشف عالم الأحياء الصغيرة الدقيقة، بحيث يمكن القول دون مبالغة إن ظهور علم الأحياء بوصفه دراسة ذات منهج علمي راسخ يرجع إلى هذا الكشف التكنولوجي قبل كل شيء.
وإذن فطوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية لم تكن التكنولوجيا تدين للعلم بشيء، بل كان العلم هو المدين لها بالكثير، حتى في تلك الفترات التي كان يتصور فيها أنه علم نظري خالص منبثق عن العقل وحده. ويمكن القول: إن هذا الوضع قد استمر حتى عصر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، بل ظل قائما في مجالات معينة طوال جزء كبير من القرن التاسع عشر.
ولكن شيئا جديدا كان قد بدأ يظهر في هذا المجال منذ بداية العصر الحديث في العلم الأوروبي، أعني منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر، ولم يأت هذا الشيء الجديد بنتائج واضحة في البداية، ولكنه كان نقطة البدء في تطور أصبح له في عصرنا الحاضر أهمية عظمى في حياة الإنسان، هذا الشيء الجديد هو التفكير في استخدام العلم للأغراض التكنولوجية، بحيث لا تترك الكشوف التكنولوجية لبراعة الشخصية أو تدريبه الفعال، وإنما تعتمد على نظرية علمية مؤكدة. ولقد ذكرنا من قبل أن الفيلسوف الإنجليزي «فرانسيس بيكون» كان رائدا في هذا الميدان، دعا إلى نوع جديد من العلم، لا يكون هدفه إرضاء الطموح النظري للعقل البشري، بل يكون هدفه تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخير قواها لخدمته وإسعاد حياته. وصحيح أن دعوة بيكون هذه - التي ظهرت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر - لم تؤت ثمارها كاملة إلا بعد قرنين أو أكثر من وفاته، ولكنها نقطة الانطلاق نحو عصر جديد، ونحو فهم جديد لوظيفة العلم وعلاقته بالتكنولوجيا.
ولقد كانت دعوة بيكون هذه هي التي حفزت الإنجليز على إنشاء الجمعية الملكية للعلوم على النحو الذي أوضحناه من قبل، ومما يثبت أن تأثير بيكون كان حاسما في هذا المجال أن الأهداف التي وضعتها هذه الجمعية لنفسها تكاد تكون صورة طبق الأصل مما سبق أن دعا إليه بيكون في كتاباته. وكان الجانب العلمي أو التطبيقي يحتل مكانة بارزة وسط الأبحاث التي قام بها أعضاء هذه الجمعية منذ مراحلها الأولى؛ فقد لاحظ بعض الباحثين أن الجمعية قد أجرت خلال سنواتها الأربع الأولى بحوثا تستهدف حل حوالي ثلاثمائة مشكلة، ومن بين هذه المشكلات مائتان لها تطبيقات عملية في صناعة التعدين والملاحة البحرية،
3
وهما صناعتان أساسيتان في الحياة الاقتصادية لذلك العصر؛ إذ إن التعدين هو أساس الصناعة، والملاحة البحرية هي وسيلة التجارة وتصريف المنتجات.
ولكن الأمر الذي ينبغي تأكيده هو أن المسألة لم تكن مجرد عبقرية شخصية من بيكون - وإن كان لهذا العنصر أهميته التي لا تنكر - بل إن بيكون كان يعيش في جو جديد استطاع أن يكتشف فيه اتجاهات المستقبل قبل أن تظهر معالمها بوضوح، وأن يتخذ من الدعوة إليها رسالة لحياته الفكرية. وكان هذا الجو هو انهيار الإقطاع في أوروبا، وظهور مجتمع تجاري ثم رأسمالي له احتياجات تكنولوجية هائلة تعجز عن الوفاء بها أساليب الصناع القديمة مهما كانت براعتهم، وهكذا كان من الضروري أن يدعو بيكون إلى إعطاء التقدم التكنولوجي دفعة قوية إلى الأمام عن طريق ربطه بالبحث العلمي، ولم يكن من الممكن أن تظهر ثمار هذه الدعوة دفعة واحدة، بل كانت في حاجة إلى فترة تمهيدية تتراكم فيها المعرفة العلمية، وتقترب فيها من مجال التطبيق التكنولوجي بالتدريج، ولكن المرء حين يتأمل جيدا دلالة دعوة بيكون هذه - الذي أطلق عليه البعض عن حق لقب «فيلسوف الثورة الصناعية» قبل ظهور هذه الثورة بمائتي عام - وكذلك اتجاه الأبحاث التي كانت تتولاها الجمعية الملكية في لندن؛ سيقتنع بأن ظهور الثورة الصناعية في إنجلترا بالذات وريادتها للعالم في الميدان الصناعي حتى أواسط القرن التاسع عشر لم يكن على الإطلاق من قبيل المصادفات.
وكما قلنا: فقد كان لا بد من مضي فترة انتقالية منذ دعوة بيكون حتى الوقت الذي تحقق فيه التلاحم الوثيق بين العلم والتكنولوجيا، وخلال هذه الفترة ظهر نوع جديد من التخصص يحتل موقعا وسطا بين العالم والصانع، هو مهنة «المهندس
Engineer » التي لم تكن معروفة من قبل؛ فالمهندس لم يظهر إلا في العصر الحديث، وهو يجمع في مهنته بين المعرفة النظرية وبين فهم التطبيقات العملية والقدرة على تنفيذها. وربما كانت مهمة المهندس تطويرا لعمل الصناع المهرة، بعد أن اتضح أن البراعة الشخصية والخبرات المتوارثة لم تعد تكفي لمواجهة المتطلبات العملية للعصر الجديد، وأن من الضروري إدخال المعارف العلمية في الميدان التكنولوجي. وكان في وسع المهندس أن يسدي إلى البحث العلمي خدمات جليلة؛ إذ كان لديه من الفهم العلمي ما يتيح له أن يحول الخطة العقلية التي يرسمها العالم في ذهنه إلى تجربة تجرى في مختبر، وبذلك ساعد على تقدم العلم التجريبي مساعدة فعالة.
وعلى يد هؤلاء المهندسين حدثت في عصر الثورة الصناعية تلك التحولات الكبرى التي غيرت وجه العالم الحديث؛ فحلت الطاقة البخارية محل الطاقة المائية أو طاقة الحيوانات (الخيل مثلا)، واستخدم الفحم وقودا للمصانع على نطاق واسع، وأصبحت عمليات الغزل والنسيج تتم في مصانع ضخمة لا في ورش فردية صغيرة، وبدأت الإنسانية تجني ثمار الجمع بين العلم والخبرة العملية التطبيقية.
نامعلوم صفحہ