ولقد كان هذا الاتجاه الذي يجمع بين النظرية والتطبيق أمرا طبيعيا في حضارة قامت على أساس الجمع بين الدنيا والدين، وارتكزت على شعار: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.» وبالفعل كان العلم الإسلامي ينطوي على جانبي الدنيوية والأزلية في آن واحد، ويستهدف خدمة الحياة الإنسانية في هذا العالم الأرضي في إطار ترتكز أصوله على النظر في عالم السماء والأرض واستخلاص العبرة من نظامه المحكم وقوانينه الأزلية. وهكذا كان العلماء يقومون ببحوثهم مؤمنين بأن العلم ركن أساسي من أركان العقيدة، ولم تكن فكرة التعارض بين العلم والإيمان الديني تخطر ببال أحد منهم، بل إن كل من أثاروا هذه الفكرة لم يكونوا من العلماء، ولم تكن لديهم أدنى فكرة عن الطبيعة الحقيقية للبحث العلمي وعن أهدافه الإنسانية الرفيعة.
ومن المعترف به أن العلم الإسلامي قد احتفظ ببعض العناصر السلبية التي ترجع إلى اليونانيين؛ ففكرة «الأمزجة» التي أكدتها كتابات الأطباء اليونانيين ظلت قائمة في الطب الإسلامي، وسلم بها ابن سينا في كتابه المشهور «القانون». كذلك كانت فكرة «العناصر الأربعة» (الماء والهواء والنار والتراب) - الموروثة عن الفلاسفة اليونانيين الأوائل - تتردد كثيرا في كتابات العلماء الإسلاميين، وترتب على ذلك ضياع وقت وجهد غير قليلين في أبحاث علمية تعد عقيمة بمقاييسنا الحديثة؛ كالتنجيم وقراءة الطالع، وكالبحث عن «حجر الفلاسفة» وتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. ولكن ينبغي أن نعلم أن الحكم بإدانة هذا النوع من الأبحاث هو حكم صادر من وجهة نظر حديثة؛ فنحن نصف هذه الأبحاث الآن بأنها غير علمية لأن التطور التالي للعلم - في عصرنا الحديث - قد تجاوزها، أما من وجهة نظر العصر نفسه فلم يكن هناك حد فاصل بين هذه الأبحاث العقيمة والأبحاث العلمية الأخرى ذات النتائج الإيجابية؛ ولذلك فمن الصعب أن نعد هذا خطأ ندين من أجله العلم الإسلامي، وحسبنا أن نذكر أن العلم الأوروبي ظل حتى القرن السابع عشر - وربما حتى القرن الثامن عشر في بعض الحالات - يحتفظ بآثار من هذه الأخطاء القديمة ، وأن كبار علماء العصر الحديث - وعلى رأسهم كبلر - كانوا يمارسون التنجيم، ولم يكونوا يجدون أي تعارض بين أبحاثهم الفلكية الأصلية وقراءتهم طالع الملوك والأمراء من رصد النجوم. أما فكرة العناصر الأربعة فقد ظلت معترفا بها في أوروبا حتى القرن الثامن عشر، ولم تهدم إلا على يد الكيميائي الفرنسي المشهور «لافوازييه».
تلك إذن أخطاء ينبغي ألا تحسب على العلم الإسلامي، وفي مقابل ذلك فقد كانت لهذا العلم إنجازات تعلمت أوروبا منها الشيء الكثير؛ فقد وضحت على يد العلماء الإسلاميين أصول المنهج التجريبي بما يقتضيه من ملاحظات دقيقة دائبة، ومن تسجيل منظم لهذه الملاحظات، ثم وضع الفروض لتفسيرها وإجراء التجارب للتحقق من صحة هذه الفروض، وكان الطب الإسلامي نموذجا اقتدى به الأطباء الأوروبيون في دقة الملاحظة ووصف الأعراض وتشخيصها وعلاجها بالعقاقير أو بالجراحة أو بممارسة العلاج الطبيعي، كما كان أول أمثلة المستشفيات - بمعناها الحديث - هو «البيمارستان» الإسلامي، بل بدأ لديهم الاهتمام بالطب النفسي والعلاقة المتبادلة بين الجسم والنفس في بعض الأمراض. وما الطب إلا مثل واحد من أمثلة هذه العقلية المتقدمة التي أزالت الحد الفاصل بين النظرية والتطبيق، وجمعت في مركب واحد بين التأمل العقلي والفعل العملي، وأعطت بذلك للإنسانية عامة وللحضارة الأوروبية الحديثة بوجه خاص درسا رائعا في منهج البحث العلمي الأصيل.
هذا العلم الإسلامي - الذي ارتكز على دعائم قوية من المنهج التجريبي ومن الحقائق الرياضية الدقيقة - كان واحدا من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور النهضة الأوروبية الحديثة؛ فمنذ القرن الثاني عشر الميلادي أخذت المؤلفات العربية الكبرى تترجم على نطاق واسع إلى اللغة اللاتينية، لغة العلم في أوروبا خلال العصر الوسيط، ولم يكن من المصادفات أن ينظر عدد غير قليل من الباحثين الأوروبيين إلى هذا القرن بالذات على أنه نقطة البداية الحقيقية في النهضة الأوروبية، أو نقطة التحول من العصور الوسطى المظلمة إلى المرحلة الممهدة لظهور العصر الحديث. ولم يكن من المصادفات أيضا أن تكون الجامعات ومعاهد العلم الأوروبية القريبة جغرافيا من مراكز الثقافة العربية - في جنوب إيطاليا وصقلية وفرنسا - هي مراكز الإشعاع الأولى لهذه النهضة، وكما ذكرنا من قبل فقد شاع في وقت ما بين الكتاب الغربيين حكم جائر مؤداه أن المرحلة الإسلامية في العلم إنما كانت همزة وصل بين الحضارة اليونانية والحضارة الأوروبية الحديثة، وأن فضل العلماء المسلمين ينحصر في المحافظة على التراث العلمي القديم ونقله بأمانة إلى أوروبا لتبدأ به نهضتها الحديثة، على أن هذا الحكم لا يلقى في أيامنا هذه تأييدا حتى من الكتاب الأوروبيين أنفسهم، ولعله كان أثرا من آثار نعرة العنصرية الأوروبية المتعالية في القرن التاسع عشر؛ ذلك لأن إسهام العلم الإسلامي كان جديدا من نواح كثيرة، وكان أهم ما فيه هو ذلك التجديد الرائع في مناهج البحث العلمي وأساليبه. وذلك الفهم واسع الأفق للعلم على أنه معرفة نظرية تستهدف أغراضا عملية تطبيقية، وهي أمور لم تكن واضحة في العلم اليوناني القديم إلا خلال فترة قصيرة من عمره هي تلك الفترة التي انتقل فيها ذلك العلم إلى الإسكندرية، ولكن تأثير هذه الفترة كان ضئيلا؛ لأن التقدم العلمي فيها كان مصحوبا بتدهور عام في الحضارة اليونانية بأسرها. وهكذا كان للعصر الإسلامي دوره الذي لا ينكر في إضافة معان جديدة إلى مفهوم العلم ذاته.
ولا شك أن القارئ العربي والإسلامي المعاصر حين يذكر هذه الحقائق، يشعر بالأسى إذ يجد تلك النهضة العلمية التي قام بها أجداده قد توقفت منذ قرون عديدة، مع أنها لو كانت قد استكملت لكانت هذه المنطقة من العالم رائدة في ميدان العلم الحديث، وقد يعلل المرء ذلك بالانحلال الداخلي الاجتماعي والسياسي، الذي طرأ على العالم الإسلامي بعد عصره الذهبي في العلم والحضارة، وقد يعلله بأسباب خارجية، كالغزو التركي ثم الأطماع الأوروبية في هذه المنطقة الحيوية. وأيا كان السبب في التدهور اللاحق، فإن من أبرز مظاهر هذا التدهور أن العالم العربي قد أغلق على نفسه الأبواب في عصور انحلاله وتصور أنه يستطيع الاكتفاء بذكرى أمجاده الماضية، ونسي ذلك الدرس العظيم الذي قدمته له الحضارة الإسلامية وهي في أوج عظمتها، وأعني به أن التفاعل بين الثقافات هو الدافع الأول إلى تقدم العقل البشري، فلم يخجل المسلمون في عصرهم الذهبي من استيعاب علوم الثقافات الأخرى الأقدم منهم عهدا، بل كان في ذلك نقطة انطلاق لهم إلى فهم العالم، ولم يخجل الأوروبيون من ترجمة أمهات الكتب الإسلامية وتدريسها - بوصفها كتبا مقررة - في أعظم جامعاتهم خلال مطلع العصر الحديث. والأهم من ذلك أن نفس العقول المتزمتة التي تدعونا إلى الابتعاد عن الثقافات «الدخيلة» في عصرنا الحاضر لا تجد في مسلك الأوروبي إزاء العلم الإسلامي ما يعيبهم، ولا تعير الغرب بأنه قد تنكر لتراثه أو لأصوله، وانسلخ عن هويته الأصلية عندما اغترف بكلتا يديه من علوم المسلمين، فهي إذن تعترف بقيمة تفاعل الثقافات عندما نكون نحن الذين نعطي، وتنكرها حين نكون نحن الآخذين، مع أن هذا التفاعل واحد في كلتا الحالتين، وهو مصدر نفع للبشرية أينما حدث. (3) العصر الحديث
تضافرت عوامل متعددة أدت إلى الانتقال بأوروبا من أسلوب التفكير السائد في العصور الوسطى إلى أسلوب التفكير العلمي الحديث، وكان بعض هذه العوامل داخليا، يتعلق ببناء المجتمع الأوروبي ذاته، وبعضه الآخر خارجيا، كالتأثير الإيجابي الذي مارسته الحضارة الإسلامية على العقل الأوروبي، وليس من مهمتنا في هذا الكتاب أن نتحدث عن هذه العوامل إجمالا أو تفصيلا، بل إن ما يهمنا هو حصيلتها النهائية؛ وأعني بها التغيير الذي طرأ على مفهوم العلم ذاته، أعني العناصر التي أسقطها العصر الحديث من مفهوم العلم في العصور السابقة، وتلك التي أضافها إلى هذا المفهوم.
ومن الأمور التي تسترعي انتباه الباحث في هذه الفترة أن المفهوم الحديث للعلم لم يتشكل على أيدي العلماء وحدهم، بل لقد أسهم فيه الفلاسفة بدور عظيم الأهمية، ولعل القول بأن الفلسفة مرآة للعصر لا يصدق على أية فترة بقدر ما يصدق على هذا العصر الأول من عصور العلم الأوروبي الحديث؛ إذ كانت لفلاسفة ذلك العصر رؤية واضحة تمام الوضوح لمتطلبات العلم، وكانت بصيرتهم النفاذة تدرك ما يحتاج إليه العقل البشري من مناهج للبحث وطرق للتفكير حتى ينتقل إلى عصر جديد .
ومن الغريب حقا أنه في نفس الوقت الذي كان فيه فلاسفة ذلك العصر يدعون إلى قيام نوع جديد من العلم، كان العلم ذاته يخطو خطواته الحاسمة بعيدا عن الفلسفة، وقد تبدو في هذا مفارقة صارخة، إذ يخيل إلينا لأول وهلة أن تحمس الفلاسفة للعلم كان لا بد أن يؤدي إلى مزيد من التحالف والتداخل بين الفلسفة والعلم، ولكن حقيقة الأمر هي أن عملية انفصال العلم عن الفلسفة لم تكن في بدايتها عملية واعية؛ فقد ظهر نوع جديد من المعرفة، يستخدم أساليب فكرية مختلفة عن تلك التي دأبت الفلسفة على استخدامها حتى ذلك الحين، ولكن هذا النوع - برغم تميزه الواضح هذا - كان لا يزال يسمى «فلسفة»؛ إذ إن الكثير من علماء ذلك العصر - ومنهم نيوتن ذاته - أطلقوا اسم «الفلسفة التجريبية» أو «الفلسفة الطبيعية» على عناوين أبحاثهم الرئيسية، ولكن المهم في الأثر أن التميز بين طريقتي البحث الفلسفية والعلمية أصبح ظاهرا للعيان، وأن فئة «العلماء» - المستقلين عن الفلاسفة في تفكيرهم استقلالا تاما - أصبحت فئة معروفة، يزداد نفوذها يوما بعد يوم، ولم يكن الفلاسفة أنفسهم يقفون حائلا في وجه هذا الاستقلال، بل كانوا يشجعون عليه، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم دعاة مخلصون للعلم، وكان ذلك وضعا جديدا للعلاقة بين الفيلسوف والعالم لم تعرفه العصور السابقة؛ إذ أصبح الفيلسوف ينظر إلى نفسه، لا على أنه هو ذاته الذي يأخذ على عاتقه مهمة توسيع نطاق المعرفة البشرية في كافة المجالات ودفعها إلى الأمام، بل على أنه هو الذي يضع «الأساس» الفكري للعمل الذي يقوم به أشخاص آخرون مستقلون عنه؛ أي إنه ليس هو «خالق» المعرفة بل هو «منظرها» فحسب.
ولقد كان الفيلسوف الإنجليزي الكبير «فرانسيس بيكون»
Francis Bacon
نامعلوم صفحہ