والأمر الثاني هو أن القارئ قد يجد في هذا العرض الذي قدمناه للفكر العلمي اليوناني - برغم اكتفائه بالإطار العام دون التفاصيل - شيئا من الإطالة، ولكن هذا أمر متعمد؛ إذ إن من مزايا المرحلة اليونانية أنها تركت طابعها - إيجابا أو سلبا - على كثير من المراحل التالية؛ ومن ثم فإن الاهتمام بتجربة الفكر العلمي عند اليونانيين يفيد في إلقاء الضوء على ما ورثته العصور اللاحقة عنهم من عناصر إيجابية، وما اضطرت إلى مكافحته من عناصر سلبية، فضلا عن أنه يعفينا من إعادة عرض تلك العناصر كلما عادت إلى الظهور في مرحلة تالية؛ فاليونانيون كانوا نقطة انطلاق عظيمة الأهمية، وهم الذين وضعوا جزءا كبيرا من الأساس، ولم يكن في وسع أي عصر تال أن يتجاهلهم، بل كان لا بد أن يذكرهم إما بالمدح وإما بالنقد، ومن هنا كان من الضروري أن تأتي معالجتنا لهذه المرحلة الأساسية مسهبة نسبيا إذا قسناها بغيرها من المراحل. (2) العصور الوسطى
لا بد لنا - عند معالجة معنى العلم في العصور الوسطى - من أن نفرق بين العصور الوسطى في أوروبا والعصور الوسطى في العالم الإسلامي؛ ففي تلك الفترة الزمنية الواحدة كان هناك تفاوت هائل في مستوى العلم بين هاتين المنطقتين من العالم، وعلى حين أن العلم الأوروبي هبط إلى الحضيض في هذه الفترة، فإن العلم الإسلامي وصل إلى قمته خلالها، وكان هو مركز الإشعاع في العالم كله. وكما نعلم جميعا فإن لفظ «العصور الوسطى» يرتبط في ذهن الأوروبيين بالتخلف والرجعية والتعصب والركود الفكري، على حين أنه يرتبط في أذهاننا بالمجد الغابر الذي نتغنى به ونحاول - دون جدوى في معظم الأحيان - أن نستعيد قدرا منه. ومن هنا فسوف نتحدث عن كل من هاتين الحضارتين الأوروبية والإسلامية على حدة.
كانت مرحلة العصور الوسطى في أوروبا طويلة الإشعاع حد غير عادي، وإذا كان المؤرخون يختلفون في تحديد نقطة نهايتها، فإن الرأي المرجح بينهم هو أنها تمتد من القرن الثالث الميلادي حتى القرن الرابع عشر، وطوال الألف ومائتي سنة التي دامتها هذه المرحلة لم يحرز العلم تقدما حاسما في أي مجال، ولم يظهر تغيير جديد في مفهوم العلم، بل لقد احتفظت هذه العصور بأسوأ عناصر المفهوم اليوناني للعلم، وعملت على تجميدها وتحويلها الإشعاع ما يشبه العقيدة التي لا تناقش.
ففي مجال المنهج العلمي كان أسلوب «الخضوع للسلطة»
3
هو الشائع في طريقة التفكير في هذه العصور؛ فقد ساد الاعتقاد بأن العلم بلغ قمته العليا عند أرسطو، وبأن ما قاله هو الكلمة الأخيرة في أي ميدان من ميادين العلم، وحدث تحالف وثيق بين معتقدات الكنيسة المسيحية وتعاليم أرسطو الفلسفية، بالرغم من أن هذه التعاليم الأخيرة قد ظهرت في إطار وثني، فكان من نتيجة هذا التحالف أن اكتسبت آراء أرسطو ما يشبه القداسة الدينية، وأصبح الاعتراض عليها نوعا من التجديف والضلال، ولم يكن العلم في صميمه إلا ترديدا لهذه الآراء، أما النقد والتجديد فكان يعرض صاحبه لأشد الأخطار.
أما أسلوب التفكير فكان هو الجدل اللفظي المقيم، وكان ذلك أمرا طبيعيا في عصر تستمد فيه عناصر المعرفة من الكتب القديمة لا من الطبيعة ذاتها، فقد برع مفكرو ذلك العصر في إقامة الحجج والبراهين اللفظية الخالصة، وتلاعبوا بالاستدلالات الشكلية والمغالطات التي تتخذ في ظاهرها صبغة منطقية، ولكنهم لم يتوصلوا إلى أي منهج في البحث يعين على معرفة مباشرة؛ فالألفاظ كانت عندهم حاجزا يحجب الواقع، والاستدلال الوحيد المعروف عندهم وهو قياس الجديد على القديم، أي على ما هو معروف من قبل، ومن هنا فإن كتبهم كانت كلها دعما لمعارف قديمة. أما الكشف الجديد فلم يكن من المتوقع أن يسعى إليه عصر يؤمن بأن المعرفة كلها قد اكتملت في عصر من العصور الماضية.
ولعل هذا الاهتمام المفرط بالحجج اللفظية الخالصة، والاعتقاد بأنك إذا استطعت أن تثبت «بالكلام البحت» شيئا، فلا بد أن يكون هذا الشيء متحققا. أقول: لعل هذا أن يكون سمة من السمات المميزة لمنهج الفكر في كل عصر متدهور، وكلنا نعلم أن الإغراق في الجدل اللفظي الأجوف، والاستعاضة عن الإنجاز الفعلي بالبلاغة اللفظية الرنانة، والاعتقاد بأن التعبير الكلامي عن أمنياتنا، وتصويرها كما لو كانت قد تحققت بالفعل، يغني عن بذل الجهد والكفاح من أجل تحقيق هذه الأمنيات في عالم الواقع. كلنا نعلم أن هذه صفات ملازمة لفكرنا العربي في مرحلة انحطاطه، وما زالت آثارها في طريقة تفكيرنا حتى اليوم، ومن المؤكد أن استمرار هذه الصفة فينا معناه أننا لم نتمكن بعد من أن نتجاوز - إلى غير رجعة - مرحلة العصور الوسطى - بالمعنى السيئ لهذا التعبير - في تفكيرنا.
أما من حيث مضمون الفكر العلمي في العصور الوسطى الأوروبية، فيلاحظ عليه - بوجه عام - أنه لم يكن معنيا بتلك العلوم التي تركز اهتمامها على فهم العالم من أجل تغييره والسيطرة عليه. ولقد كان هذا أمرا طبيعيا في عصر كان ينظر فيه إلى الحياة الدنيا بأسرها على أنها مرحلة عارضة زائلة، ولم تكن هذه النظرة تخلو من النفاق، إذ كان من المعروف أن أقطاب الكنيسة الأوروبية كانوا يستمتعون بحياتهم إلى أقصى حد، في الوقت الذي كانوا فيه يدعون عامة الناس إلى الزهد والعزوف عن متع الحياة. وعلى أية حال فإن سيادة هذه العقلية الزاهدة من شأنه أن يقلل من أهمية العلوم الباحثة في الطبيعة، وربما ترك قدرا من الاهتمام بالدراسات الأدبية واللغوية الخالصة، ولكن أعظم جهوده كانت موجهة إلى علم اللاهوت.
وهكذا كانت كتابات أرسطو كافية - في نظرهم - لتقديم تفسير كامل للطبيعة والعالم المحسوس بأسره، وكان العالم كله يفهم من خلال معان كيفية ذات أصل فلسفي بحت؛ كأن يقال مثلا: إن هذا الشيء موجود بالفعل أو بالقوة، أو أنه مادة أو صورة، وهذه المادة حارة أو باردة، ثقيلة أو خفيفة، دون أية محاولة لتطبيق الرياضيات - التي كانت قد أحرزت في العصر اليوناني تقدما كبيرا - على طريقة فهمنا للظواهر الطبيعية من أجل فهم قوانينها الكامنة.
نامعلوم صفحہ