وإذا كان العلم يتصف بالعمومية، ويبحث في قوانين الأشياء لا في حالاتها الفردية، فإنه بطبيعته يتسم ب «التجريد» وهي سمة أخرى تفوق فيها اليونانيون إلى أقصى حد، وتمكنوا من جعلها جزءا لا يتجزأ من خصائص العلم منذ ذلك الحين. والحق أن اليونانيين كانوا من أقدر شعوب الأرض على التعمق في المجردات والبحث فيها بلا كلل، ولن نستطيع أن ندرك فضلهم في هذا الصدد إلا إذا تذكرنا أن الجانب الأكبر من البشر ما زالوا حتى اليوم يجدون عناء كبيرا في التفكير في الأمور المجردة مدة طويلة؛ فمعظم الناس يشعرون بالعناء إذا قضوا ساعة في قراءة كتاب فلسفي يتسم بشيء من العمق؛ لأنه يتعامل مع أفكار مجردة، ولا يتعامل مع أشياء ملموسة أو أشخاص محسوسين كما هي الحال في الروايات الأوروبية والمسرحيات الفنية. كذلك يجد الكثيرون حتى اليوم صعوبة في التعامل مع الأرقام، بل إن عددا كبيرا من الناس يأبون قراءة الكتاب إذا تصفحوه فوجدوا فيه أرقاما كثيرة، وما زالت دروس الرياضة تكون عقدة في نفوس الكثيرين ممن يعتقدون - عن خطأ في الغالب - أن عقولهم لم تخلق لهذا النوع من العلوم؛ فالتفكير المجرد يحتاج إلى جهد وعناء يصعب على كثير من الناس بذله حتى في عصرنا الحاضر، ولكن اليونانيين كانت لديهم - منذ ألفين وخمسمائة عام - قدرة خارقة على التعامل مع المجردات بلا كلل.
لذلك كانت أعظم الإنجازات العقلية التي توصل إليها اليونانيون هي تلك التي تمت في ميدان الفلسفة والرياضيات. والواقع أن الحد الفاصل بين الفكر الفلسفي والعلم الرياضي قد أزيل عند معظم الفلاسفة اليونانيين، بحيث كانوا ينظرون إلى الرياضة على أنها مرحلة من مراحل التفلسف، أو على أنها تدريب أو «ترويض» للذهن يهيئه للتعمق في الفلسفة.
بل إن مفهوم العلم ومفهوم الفلسفة كانا متداخلين ومتشابكين عندهم إلى أبعد حد، فلم يكن هناك نشاط واع مستقل اسمه «العلم»، وإنما كان هناك سعي عقلي واحد يتجه نحو ميادين متعددة، وينتج ما نسميه نحن فلسفة أو علما، تبعا لنوع الميدان الذي يتجه إليه، ولكنه كان عند اليونانيين «معرفة» أو «حبا للحكمة» فحسب.
ولما كان هدف هذه المعرفة أو الحكمة اليونانية هو معرفة ما هو عام، والوصول إلى القوانين المجردة للأشياء، فقد كان من الطبيعي أن يكون العلم اليوناني علما «نظريا» قبل كل شيء، وتلك في الحق هي الميزة الكبرى التي ينسبها مؤرخو الفكر الغربيون إلى الحضارة اليونانية، ويرون فيها الحد الفاصل بين الفكر اليوناني وكل تفكير سابق له؛ فعلى حين يفترض أن الاعتبارات العملية وحدها هي التي كانت تحرك الحضارات السابقة إلى جمع المعلومات العلمية، فإن اليونانيين بحثوا عن العلم من أجل العلم فحسب، ولإرضاء نزوع العقل إلى المعرفة، دون أن يكون لهم من وراء ذلك هدف عملي، ولقد كان تفوقهم في المعارف العقلية الخالصة - كالفلسفة والرياضيات - أكبر شاهد على ذلك، وكانت قدرتهم الفائقة على التجريد هي التي أتاحت لهم أن يستكشفوا أبعد الآفاق في هذين الميدانين.
ولكي يقتنع العقل - على المستوى النظري - فلا بد له من الوصول إلى «الأدلة» و«البراهين» القاطعة. ولقد كان هذا البحث عن «البرهان» مطلبا أساسيا في الفكر اليوناني، فلم يكن هذا الفكر يقبل أية قضية ما لم يقتنع بها عن طريق دليل يفرض نفسه على العقل فرضا، ولم يكن يكتفي بالنتائج النافعة أو السلوك العملي الناجح، بل كان يبحث دائما عن «الأسباب». ولكي ندرك الفارق بين وجهتي النظر هاتين، نقارن بين الفلاح المدرب وعالم الزراعة؛ فالفلاح الخبير يتبع أساليب معينة، معظمها مجرب أو موروث، تؤدي به إلى أن يجني محصولا ناجحا، ولكنه لا يحاول أن يتساءل: «لماذا» يؤدي اتباع هذه الأساليب إلى زيادة المحصول؟ بل ربما رأى ذلك سؤالا عقيما، ما دامت النتيجة المطلوبة - وهي المحصول الوفير - قد تحققت، أما العالم الزراعي فإن هدفه الأول هو البحث عن «السبب»، والنتيجة الناجحة ليست في نظره كافية، بل ليست هي الهدف المطلوب، وإنما الهدف الحقيقي هو «معرفة الأسباب»، ومن أجل سعيه إلى هذا الهدف كان عالما.
ولو تأملنا مراحل حياة الفرد لوجدنا أن مرحلة الوعي الفكري عنده مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذا البحث عن الأسباب؛ فالسؤال «لماذا» هو الخطوة الأساسية في طريق اكتساب المعرفة خلال حياة كل إنسان. وإنا لنجد الطفل في السنوات الأولى لحياته يستجيب لدوافعه وحاجاته المباشرة دون محاولة للبحث عن سبب أي شيء، ولكنه في المرحلة التي يبدأ فيها وعيه في التفتح، والتي يود فيها أن «يعرف» نفسه والعالم المحيط به، يظل يردد السؤال «لماذا» بلا انقطاع، وقد يصل في ترديده إلى حد الإملال، كما أنه قد يسأل عن أسباب أشياء لا تحتاج إلى تعليل، ولكن المهم أن مرحلة الوعي عند الطفل مرتبطة بالسؤال عن الأسباب. ومثل هذا يقال عن الإنسانية كلها؛ فعندما تتخطى مرحلة الفعل ورد الفعل المباشر، ومرحلة الاستجابة للحاجات الأولية، وتبدأ مرحلة الوعي بالعالم ومحاولة تفسيره عقليا؛ تكون علامة نضجها هي أنها لا تأخذ الظواهر على ما هي عليه، ولا تكتفي باستخدامها لتحقيق أهدافها العملية، وإنما تبحث - قبل كل شيء - عن أسبابها؛ ولهذا السبب بعينه كانت الحضارة اليونانية تعد - في نظر كثير من المؤرخين - نقطة البداية الحقيقية للعلم.
ولنعد - في هذا الصدد - إلى ذلك المثل المشهور الذي ضربناه من قبل، والذي يرد ذكره في معظم الكتب التي تعالج هذا الموضوع، وهو مثل المثلث القائم الزاوية؛ فقد تمكن القدماء - كما قلنا - من الاستفادة من خصائص هذا المثلث في أغراض عملية، ولكن اليونانيين لم يقنعهم مثل هذا الاستخدام العملي، بل كان سعيهم يتجه إلى «البرهنة» (أي تقديم الأسباب في صورة متسلسلة منطقيا ومقنعة للذهن) على الخصائص المعروفة لهذا المثلث، وهي أن مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين، وكان هذا السعي إلى إيجاد «البرهان» والتوصل إلى «الأسباب» العقلية هو الذي جعل الهندسة عند اليونانيين تصبح علما، على حين أنها كانت قبل ذلك فنا يكتسب بالخبرة والممارسة فحسب.
هذه النظرية الهندسية الخاصة بالمثلث القائم الزاوية تنسب إلى الرياضي والفيلسوف اليوناني المشهور فيثاغورس، على أن قيمة فيثاغورس هذا - الذي يمكن اتخاذه نموذجا لما وصلت إليه الروح العلمية عند اليونانيين - لا تقتصر على هذه النظرية المعروفة، بل لقد انتقل في مجال آخر من حقيقة مشاهدة بسيطة إلى تقديم نظرية كاملة عن العالم، كان لها تأثيرها الأكبر في العصور اللاحقة، وإن كان هذا الجانب من تفكيره أقل شهرة من نظريته الهندسية المعروفة؛ فقد أدرك فيثاغورس وجود علاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر الذي تصدر عنه النغمة عندما يتذبذب، وهذا هو المبدأ الذي يسير عليه الموسيقيون عندما تسير أصابع يدهم اليسرى جيئة وذهابا على الأوتار في الآلات الوترية لكي تجعل للوتر - تبعا لموضع الإصبع - طولا معينا، هو الذي يحدد النغمة التي تصدر عنه.
هذه الحقيقة البسيطة لم تكن كافية لاستخلاص نتائج ذات أهمية كبيرة، بل إن الأهم منها هو أن هذه العلاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر يمكن التعبير عنها بنسب رياضية معينة؛ فإذا قصرت الوتر إلى نصفه تصدر نغمة «الجواب» (أي الصوت الثامن في السلم الموسيقي)، وإذا قسمت الوتر بنسبة 2 / 3 كانت النغمة هي الصوت الرابع. ومعنى ذلك أن الأصوات الرئيسية في السلم الموسيقي يعبر عنها بنسب رياضية ثابتة، أو بعبارة أخرى: إن التآلف والتناغم هو حقيقة رياضية؛ ومن ثم فإن ما نجده في الكون بأكمله من انسجام إيقاعي أشبه باللحن الموسيقي، ومن انضباط ودقة تعبر عنها القوانين الطبيعية الثابتة، يرتد آخر الأمر إلى الصيغ الرياضية المجردة، وكانت حصيلة هذا كله هي عبارة فيثاغورس المشهورة: «العالم عدد وتوافق أو نغم.»
في هذا الاتجاه الذي سار فيه فيثاغورس نهتدي إلى بذرة النظرة العلمية إلى العالم؛ إذ إنه أرجع الاختلاف في الكيفيات (أي في الأصوات) إلى مجرد اختلاف في الكم (أي في طول الأوتار)، وعمم هذه الحقيقة على الكون بأكمله حين جعل العالم كله «عددا وتوافقا»، أي مقادير كمية ونسبا أو علاقات بينها، كذلك فإنه في هذه العبارة يعبر عن سمة هامة من سمات التفكير العلمي، هي محاولة الكشف عما يوجد وراء المظهر السطحي للأشياء؛ فالأصوات - كما تدركها آذاننا - تثير فينا أحاسيس متباينة، ولكن من وراء هذا العالم «الظاهر» كله توجد حقيقة أساسية واحدة، هي النسب العددية التي يمكن بواسطتها التعبير عن أي اختلاف صوتي، وهنا نجد تلك التفرقة الحاسمة بين «مظهر الأشياء وحقيقتها»، وهي تفرقة كان لها دور كبير في الفكر اليوناني، ولولاها لأصبح التفكير العلمي مستحيلا؛ إذ إن جوهر هذا التفكير هو ألا ننبهر بالشكل الظاهر للأشياء ولا ننساق وراءه، وإنما نحاول البحث عما يكمن وراءه من حقائق أساسية.
نامعلوم صفحہ