الفصل الثالث
المعالم الكبرى في طريق العلم
لست أود أن أقدم في هذا الفصل تاريخا للعلم؛ إذ إن هذا التاريخ من الاتساع ومن الشمول بحيث يتعين على من يتصدى له أن يعرض لتاريخ الحضارة البشرية كلها، ولتاريخ العقل الإنساني بأكمله، وتلك مهمة يستحيل إنجازها - بأدنى حد من الكفاءة - في مجلد واحد، فما بالك بفصل واحد في كتاب؟!
بل إن ما أود أن أقوم به ها هنا هو تقديم عرض موجز للمراحل الرئيسية في طريق العلم؛ أعني لنقاط التحول الكبرى خلال تاريخ العلم دون أي خوض في تفاصيل هذه المراحل، ومن شأن هذا العرض أن يقدم إلينا في الوقت ذاته لمحة عامة عن التطور الذي طرأ على معنى «العلم»؛ ذلك لأن العلم ظاهرة قديمة وظاهرة حديثة في آن واحد: إنه قديم إذا نظرت إليه بأوسع وأشمل معانيه؛ أي على أنه كل محاولة يبذلها العقل البشري لفهم نفسه والعالم المحيط به، ولكن هذا المعنى الواسع الشامل أخذ يزداد دقة على مر العصور، وأخذ نطاق العلم وأسلوب ممارسته يتحدد على نحو أدق من مرحلة إلى أخرى، حتى وصل في النهاية إلى وضعه الراهن. وهكذا سوف تكون مهمتنا في هذا الفصل مزدوجة؛ فهي من وجهة عرض موجز لأهم المعالم في تاريخ العلم، وفي الوقت ذاته فإن هذا العرض سيتيح لنا أن نرى كيف تشكل معنى العلم بالتدريج وعلى مر العصور، وكيف تخلص العلم بعناء وبطء شديد من المفاهيم غير الدقيقة التي كانت عائقا في وجه تقدمه، وكيف تبلورت مناهج وأساليب ممارسته حتى أصبحت - في عصرنا الحديث - أفضل نموذج للدقة والانضباط في استخدام العقل البشري. (1) العالم القديم
من الصعب أن يحدد المرء نقطة بداية لذلك النوع من النشاط الذي نطلق عليه اسم العلم؛ إذ إن كل سلوك كان يقوم به الإنسان - منذ عهوده البدائية السحيقة - قد أسهم - بغير شك - في تهذيب تفكيره وصقله على نحو يساعد على ظهور العلم في مرحلة لاحقة، ومثل هذه الظواهر البشرية لا تنطوي على مفاجآت أو على انبثاق مباغت بلا تمهيد، بل إن كل شيء فيها يتدرج ببطء شديد في البداية، ثم تتسارع خطاه حين يتم الاهتداء إلى الطريق الصحيح.
وهكذا فإن مما لا شك فيه أن التجارب الشديدة البطء - التي مرت بها الإنسانية في عصورها البدائية - قد أكسبتها خبرات أدى تراكمها في المدى الطويل إلى ظهور البوادر الأولى للتفكير العلمي، ولكن لما كانت هذه العصور البدائية تمثل مرحلة «ما قبل التاريخ»، فلن نستطيع - في مثل هذا العرض الموجز - أن نتخذ نقطة بدايتنا منها، وإنما سنبدأ من «المراحل التاريخية»؛ أعني من تلك الحضارات القديمة التي تركت لنا وثائق تعيننا على معرفة تاريخها، سواء اتخذت هذه الوثائق شكل كتابات مدونة أو آثار مادية تتيح للمرء أن يستنتج منها نوع الحياة ونوع الفكر السائدين لديها.
وكما نعلم فإن أقدم الحضارات الإنسانية قد ظهرت في الشرق؛ ففي هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها الآن، ظهرت منذ عدة آلاف من السنين حضارات مزدهرة في أودية الأنهار الكبرى كالنيل والفرات، وإلى الشرق منها في أنهار الهند والصين، وتدل الآثار التي خلفتها هذه الحضارات المجيدة على أنها كانت حضارات ناضجة كل النضج بالقياس إلى عصرها؛ ومن ثم فقد كان من الضروري أن ترتكز في نهضتها على أساس من العلم .
وإذا كانت هذه الحضارات الشرقية القديمة تبعد عنا في الزمان بما يتراوح بين سبعة وخمسة آلاف سنة؛ فقد ظهرت في العصر القديم أيضا - ولكن في وقت أقرب إلينا بكثير من ذلك العصر - حضارة أخرى عظيمة هي الحضارة اليونانية القديمة، التي يرجع تاريخها إلى ما يقرب من ألفين وخمسمائة عام، وهي بدورها حضارة كان من مظاهر ازدهارها وجود علم ناضج.
وهنا نجد أنفسنا إزاء السؤال الذي تثيره هذه المرحلة القديمة في تاريخ العلم، وأعني به: إذا كان من المحتم علينا أن نبدأ هذا التاريخ بمرحلة الحضارات القديمة، التي بقيت لدينا منها وثائق تعيننا على فهمها، فهل نتخذ نقطة بدايتنا من الحضارات الشرقية أم من الحضارة اليونانية الأحدث منها عهدا؟ وهل ظهرت الأصول الأولى للعلم في الشرق أم أن ما ظهر هناك كان بوادر أولى لا تستحق أن تعد بداية حقيقية للعلم الذي لم تظهر معالمه الحقيقية إلا فيما بعد عند قدماء الإغريق؟
هذا السؤال هو - في واقع الأمر - المحور الذي ينبغي أن تدور حوله مناقشتنا لتلك المرحلة الأولى في طريق العلم، وسوف نبدأ كلامنا بالإجابة التقليدية عن هذا السؤال، أعني تلك التي نجدها في معظم مراجع تاريخ العلم، وخاصة ما كان منها أقدم عهدا.
نامعلوم صفحہ