ذلك لأن الإنسان يحتاج بالفعل إلى نوعي المعرفة هذين، كل في مجاله الخاص، ولكي ندلل على ذلك: يكفينا أن نتخيل ماذا كان يمكن أن تكون عليه حياة الإنسان لو أنه كان يقتصر - منذ فجر تاريخه - على ذلك النوع المحبب إلى نفوس أنصار الحدس. فلو كان الشكل الوحيد لعلاقة الإنسان بالإنسان أو لعلاقته بالطبيعة هو الصلة المباشرة الوثيقة التي تتعمق فيما هو فردي وتترك جانبا ما هو عام في الأشياء؛ لكان الإنسان قد مر بتجارب شخصية عميقة بغير شك، ولكان حسه الفني قد أصبح أشد إرهافا مما هو عليه الآن، ولكان أكثر رقة وشاعرية ... هذا كله محتمل، ولكن الإنسان كان سيقف عندئذ عاجزا عن «فهم» الظواهر التي تحدث حوله، وعن «السيطرة» عليها، وكانت حياته الذهنية والروحية - فضلا عن حياته المادية بالطبع - ستصبح عندئذ هزيلة خاوية، يملؤها فراغ الجهل وقصور العقل.
ولا شك أن لهذه الحجة وجها آخر ينبغي ألا نغفله هو الوجه العكسي ... فلو كانت حياة الإنسان قد خلت تماما من عنصر التجارب الشخصية واقتصرت على عنصر المعرفة العقلية العلمية؛ لفقد الإنسان تلك المتعة التي تبعثها المعرفة الشخصية والعلاقة الباطنة الحميمة، ولافتقرت الحياة إلى بعد من أبعادها الهامة التي تبعث فيها الدفء وتشيع فيها الحرارة.
ولكن الذي حدث فعلا هو أن الإنسان قد سار في الطريقين معا. واختيار الإنسان لهذا المسار المزدوج يعكس حكمة عميقة؛ إذ يدل على أنه قد وجد الجانبين ضروريين، ولم يحاول أن يستغني عن أحدهما لحساب الآخر. ومعنى ذلك أن اتهام العقل بالعجز عن أداء الوظيفة التي يؤديها الحدس - في مجال العلاقات الشخصية - هو اتهام لا مبرر له، وهو خلط بين ميدان وميدان؛ فالعلم المرتكز على العقل شكل ضروري من أشكال المعرفة، وكان لا بد أن يتخذ طابعه هذا حتى ينمو ويتطور، ومهاجمته باسم تلك التجربة «الفريدة التي لا يمكن التعبير عنها» هي خلق بين ما يصلح على مستوى العلاقات الشخصية، وما يصلح على مستوى المعرفة العامة. فالإنسان محتاج إلى أن يكون العاطفة والعقل، والخطأ لا يكون في تأكيد أي من هذين الجانبين، بل هو يبدأ منذ اللحظة التي نحاول فيها أن نطبق مبادئ أحد الجانبين على الآخر، أو ننقد أحد الجانبين باسم الآخر. (4) التعصب
التعصب هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقرون إليها؛ ومن ثم فهم دائما مخطئون أو خاطئون. ومن هنا فإن التعصب - الذي يتخذ شكل تحمس زائد للرأي الذي يقول به الشخص نفسه أو للعقيدة التي يعتنقها - يتضمن في واقع الأمر بعدا آخر؛ فهو يمثل في الوقت نفسه موقفا معينا من الآخرين، فحين أكون متعصبا لا أكتفي بأن أنطوي على ذاتي وأنسب إليها كل الفضائل، بل ينبغي أيضا أن أستبعد فضائل الآخرين وأنكرها وأهاجمها، بل إنني في حالة التعصب لا أهتدي إلى ذاتي، ولا أكتشف مزاياي إلا من خلال إنكار مزايا الآخرين. وهذا هو الفرق بين التعصب وبين الاعتداد بالنفس الذي هو شعور مشروع؛ إذ إن المعتد بنفسه لا يبني تمجيده لنفسه حتما على أنقاض الآخرين، بل قد يعترف لهم بالفضل مع تأكيده لفضله هو أيضا، أما المتعصب فلا يؤكد ذاته إلا من خلال هدم الغير، ولا فارق عنده بين هذه العملية وتلك؛ لأنه يهدم غيره وليس في ذهنه إلا تأكيد ذاته، كما أنه لا يؤكد ذاته إلا مستهدفا الحط من الآخرين.
ولكن إذا قلنا: إن المتعصب يؤكد «ذاته» من خلال هدم آراء الآخرين، فما الذي نعنيه بكلمة «ذاته» هذه؟ هل هي «ذاته» من حيث هو فرد؟ هل يريد المتعصب أن يؤكد آراءه أو مواقفه الشخصية على حساب الآخرين؟ الواقع أن جوهر التعصب لا يكمن في اتخاذ مثل هذه المواقف الشخصية، بل يكمن في توحيد الفرد لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها، وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أية جماعة أخرى. فالمتعصب - في واقع الأمر - يمحو شخصيته وفرديته، ويذيب عقله أو وجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها، بحيث لا يحس بنفسه إلا من حيث هو جزء من هذه الجماعة، ولو كان يؤكد نفسه بوصفه فردا له شخصيته المميزة لما أصبح متعصبا.
4
فلنتأمل مثلا صارخا من أمثلة التعصب - تابعه العرب جميعا بكل جوارحهم خلال ما يقرب من عامين - هو ما حدث في لبنان من بداية عام 1975 حتى نهاية عام 1976، فهل كان واحد من أولئك الذين يقتلون أفراد الطائفة الأخرى «على الهوية» يفكر في نفسه بوصفه فردا، أو يفكر في ضحيته من حيث هو شخص له كيانه الخاص؟ الحقيقة أنه لم يكن ينظر إلى نفسه إلا من حيث هو ينتمي إلى «طائفة»، وكذلك كانت نظرته للضحية. وقد يكون كل منهما - على المستوى الشخصي - صديقا للآخر أو زميلا يتعامل معه منذ سنوات، ولكن هذا كله ينسى عندما يسيطر التعصب، وتصبح أهم صفاتي وأهم صفات الآخر هي نوع الجماعة التي أنتمي وينتمي إليها. والحق أن تعبير «القتل على الهوية» كان تعبيرا يعبر ببلاغة عن حالة التعصب بأسرها؛ فهو لا يعني فقط القتل تبعا لنوع «البطاقة» التي يحملها المرء والتي يتحدد فيها انتماؤه الطائفي، بل تعني أيضا قتل الآخر لأنه وضع نفسه «في هوية» مع الطائفة الأخرى، أي في انتماء إليها. فكل متعصب يعلو بنفسه بسبب «هويته» مع جماعته، ويقتل الآخر - بالجسد أو بالفكر - بسبب «هويته» مع جماعة أخرى.
ويترتب على ذلك أن المتعصب لا يفكر فيما يتعصب له، بل يقبله على ما هو عليه فحسب، وهنا تتمثل خطورة التعصب من حيث هو عقبة في وجه التفكير العلمي؛ فالتعصب يلغي التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد، ويشجع قيم الخضوع والطاعة والاندماج، وهي قيم قد تصلح في أي مجال ما عدا مجال الفكر، وهذا يؤدي بنا إلى صفة أخرى أساسية في التعصب، هي أنه ليس موقفا تختاره بنفسك، بل موقف «تجد نفسك فيه»، ولو شاء المرء الدقة لقال: إن التعصب هو الذي يفرض نفسه على الإنسان، وهو أشبه بالجو الخانق الذي لا نملك مع ذلك إلا أن نتنفسه. فالتعصب يكره الآخرين من خلالي أو يقتلهم بواسطتي، وما أنا (أو أي فرد) بالنسبة إلى التعصب سوى أداة يتخذها لتحقيق هدفه المشئوم؛ ذلك لأنني حين أقع تحت قبضته لا أصبح شيئا ولا أسعى من أجل شيء إلا لكي ألبي نداءه.
ولكن لماذا ينتشر التعصب إلى هذا الحد؟ ولماذا يطل برأسه البغيض ويذكرنا بطبيعته البشعة بطريقة دامية حتى في صميم القرن العشرين؟ ذلك لأن التعصب يمثل حاجة لدى الإنسان إلى رأي يحتمي به، ويعفي نفسه من التفكير في ظله، والواقع أن الحماية هنا متبادلة؛ فالرأي الذي نتعصب له يحمينا؛ لأنه يؤدي إلى نوع من الهدوء أو الاستقرار النفسي، ويضع حدا لتلك المعركة القلقة التي تنشب في نفوسنا حين نستخدم عقولنا بطريقة نقدية، ولكننا من جهة أخرى نضمن الحماية لهذا الرأي ذاته عن طريق رفض كل رأي مخالف ومهاجمته بعنف والسعي إلى «تصفيته» بالمعنى الحاسم لهذا اللفظ. وإذن فكل من المتعصب ورأيه أو عقيدته يحمي الآخر، ولكن الواقع أن هذه حماية خادعة مضللة؛ فهي من نفس نوع الحماية التي يكفلها لنا الخمر أو المخدر؛ لأنها ترتكز أساسا على تخدير التفكير وإبطاله، ولأنها تضع أمامنا صورة باطلة للواقع لا ترتكز على دليل أو منطق، بل تستمد قوتها كلها من تحيزنا لها بلا تفكير.
وهذا ينطبق على كل شكل من أشكال التعصب؛ فالتعصب العنصري والتعصب القومي المتطرف والتعصب الديني؛ كل هؤلاء يشاركون في سمات واحدة: الانحياز إلى موقف الجماعة التي ننتمي إليها دون اختيار ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين والاعتقاد أنهم «أحط»، وإغلاق أبواب عقلك ونوافذه إغلاقا محكما حتى لا تنفذ إليه نسمة من الحرية؛ لأن هذه النسمة - مهما كانت خفيفة - يمكن أن تهدد موقفك الذي تتعصب له، وتهددك أنت نفسك بقدر ما وحدت نفسك مع ما تتعصب له.
نامعلوم صفحہ