ولكي ندرك مدى الاختلاف بين هذه النظرة الأسطورية إلى العالم وبين النظرة العلمية الحديثة، ينبغي أن نشير إلى أن مطلب العلم - في الوقت الحاضر - هو المطلب المضاد؛ فعلى حين أن الأسطورة تفسر غير الحي عن طريق الحي؛ فإن العلم يسعى إلى تفسير الحي عن طريق غير الحي؛ أي إن العلم يحاول أن يجد لظواهر الحياة تفسيرا من خلال عمليات فيزيائية وكيميائية، وقد يتفاوت نصيبه في النجاح من مجال إلى آخر، ولكن ما يهمنا هو الهدف الذي يقف على النقيض من هدف التفسير الأسطوري للظواهر.
ولقد كان من الطبيعي أن يسود هذا النوع من التفسير الأسطوري في عصور طفولة البشرية؛ إذ إن أول ما يتوقع من الإنسان حين يحاول أن يفهم العالم المحيط به هو أن يفهمه في ضوء الحالات التي يمر بها هو ذاته؛ لأن المشاعر والانفعالات هي أمور نحس بها في أنفسنا مباشرة، ولا تحتاج إلى تعليم أو تدريب خاص، ومن هنا فقد كان طبيعيا أن يصبغ الإنسان - في أول عهده بالمعرفة - ظواهر الطبيعة بصبغة تلك الأحاسيس والخبرات التي يشعر بها في نفسه شعورا مباشرا، فيتصورها كما لو كانت تنفعل وتفرح وتغضب وتحب وتكره مثله. وهكذا علل البشر كسوف الشمس في إطار التفسير الأسطوري بأن الشمس غاضبة أو بأنها «مكسوفة» (كما تغطي المرأة وجهها حين «تنكسف»)، وما زال لأمثال هذه التفسيرات وجوده في مجتمعاتنا الشرقية حتى اليوم.
ومن الجدير بالذكر أن مبدأ «حيوية الطبيعة» - الذي قلنا إن الفكر الأسطوري كله يرتكز عليه - ظل عقبة في طريق العلم في أوروبا ذاتها حتى القرن الثامن عشر على الأقل إن لم يكن بعد ذلك؛ فقد كانت ظاهرة الكهرباء تعد دليلا على وجود مبدأ حيوي يتغلغل في الأجسام غير الحية، كذلك كانت المغناطيسية تعد مظهرا لوجود الحياة في الطبيعة،
1
بل إن بعض علماء أوروبا المشهورين ظلوا - حتى القرن الثامن عشر - يقولون بإمكان الاهتداء إلى ذكور وإناث في المعادن، وكان ذلك يبعث في نفوسهم أملا كبيرا في أن يأتي اليوم الذي يكتشف فيه الذهب المذكر والذهب المؤنث، حتى يمكن تحقيق «التكاثر» في هذا المعدن النفيس! بل إن كفاح العالم الفرنسي الكبير «باستير»
ضد مبدأ التولد التلقائي
generation spontanée
وهو المبدأ الذي كان يعتقد وفقا له أن الكائنات الحية الدقيقة - كالديدان وغيرها - تتولد في بعض الأجسام الطبيعية «تلقائيا» دون أن تكون قد تولدت عن كائنات حية مماثلة. أقول: إن هذا الكفاح المرير الذي خاضه «باستر» ضد أكبر علماء عصره يدل على أن بقايا مبدأ «حيوية الطبيعة» ظلت راسخة في أذهان العلماء الأوروبيين حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، ولا يعني ذلك أن العلم الأوروبي كان متخلفا أو متوقفا عند مرحلة بدائية، بل إن هناك كشوفا عظيمة كانت تتحقق منذ القرن السابع عشر، وكل ما تعنيه هو أن كشف الحقائق العلمية يتم - في كثير من الأحيان - في إطار تكتنفه كثير من عناصر الخطأ.
ولعل من أوضح الأدلة على أن الفكر الأسطوري ظل محتفظا بمكانته فترة أطول مما ينبغي: استمرار ذلك النوع من التعليل المسمى بالتعليل «الغائي»
Teleological
نامعلوم صفحہ